العلويون بين الاسطورة والحقيقة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة0%

العلويون بين الاسطورة والحقيقة مؤلف:
تصنيف: أديان وفرق
الصفحات: 368

  • البداية
  • السابق
  • 368 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 100001 / تحميل: 10905
الحجم الحجم الحجم
العلويون بين الاسطورة والحقيقة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

العلويون بين الاسطورة والحقيقة

هاشم عثمان

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

٣

٤

بسم الله الرحمن الرحيم

بين يدي هذه الطبعة الجديدة

هذه الطبعة جديدة بكلّ معنى الكلمة، وهي تختلف عن الطبعة السابقة كثيراً ؛ ذلك أنّا أعَدْنا النظر في مجمل فصول الكتاب، فأضفنا فقرات وحذفنا فقرات، وتناولتْ يد التعديل - بصورة خاصّة - القسم الثاني من الكتاب الذي يبحث عن عقائد النصيرية.

فأعَدنا صياغة هذا القسم من جديد، وعَرَضنا كلّ ما قيل حول النصيرية في القديم والحديث، وقارنّا بين هذه الأقوال وناقشناها مناقشةً هادئةً من واقع التاريخ، وفي المقابل عَرَضنا عقائد العلويين من خلال آثارهم الشِعرية والنثرية، وقدّمنا للقارئ نماذج من آثارِهم التي تُلقي الضوء على حقيقة معتقداتهم، وقد أضفنا إلى هذه الطبعة فصلاً جديداً بعنوان(النصيرية بين الغنوصية والعلي الَّهية والبكتاشية) بيّنا فيه بالأدلّة أنّ النصيرية تبتعد عن الغنوصية والعليالَّهية والبكتاشية كثيراً، لكنّها تقترب بعض الشيء من البكتاشية.

وبشكل عام بقيَ جوهر الكتاب كما هو، لم يطرأ عليه أيّ تغيير، لكنّ التعديل طالَ بعض الفصول من حيث المـَبنى لا المعنى، بحيث يمكن القول: إنّ هذه الطبعة هي طبعة مَزيدة ومنقّحة.

ولَمّا كان مجال القول حول العلويين واسعاً، لا تحيط به دراسة واحدة، فقد تابَعنا الحديث في دراسةٍ ثانية بعنوان(هل العلويون

٥

شيعة؟) (1) ، حيث تعتبر جزءاً من هذه الدراسة لا ينفصل عنها، وسنعقّبها بدراسةٍ ثالثة عن(تاريخ الجبل العلوي) ، عسانا بذلك أن نكون قد بيّنا حقيقة هذه الطائفة، التي اختلفت فيها الأقوال، وكثُر من حولها الهمس والغمز.

والله وليُ التوفيق.

المؤلّف

____________________

(1) صدرَ الكتاب عن مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات في بيروت.

٦

المقدّمة

لا نَعدو الحقيقة إذا قلنا: قليلةٌ هي الطوائف الإسلامية التي اتُّهمت في عقيدتها، مثل: الطائفة العلويّة أو النصيرية، كما يحلو للبعض أن يسمّيها جهلاً وتعصّباً.

والعاقل الأريب ليحار في تعليل تلك الغايات، التي يهدف إليها أُولئك المختلقون في القديم والحديث.

فهذه الطائفة - ككلّ الطوائف الشيعية التي تأخذ بمدرسة أهل البيت - واجهت حرباً شعواء من قِبَل الطواغيت، وطلاّب المـُلك العقيم على مرّ التاريخ، حتى أضحى أتباع هذه المدرسة في فتراتٍ مُظلمةٍ من تاريخنا مجرمون، تنزل بحقّهم أقسا العقوبات وأشدّ أنواع المظالم.

قتلٌ في النفوس، وسلبٌ في الأموال، وحرمان في الحقوق، وتبرئةٌ في الدين، وما لَهُم إلاّ موالاتهم لآل طه ذنبٌ، وقولهم: إنّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام هو صاحب الحقّ الأوّل في زعامة المسلمين الدينية والزمنية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو الأحقّ بالخلافة مِن سواه، وأنّه وصيّ النبي ووزيره.

ولإعطاء فكرة عن المظالم التي حاقت بأتباع أهل البيت، أعرِضُ قصّة قنبر مولى الإمام عليعليه‌السلام مع الحجّاج بن يوسف الثفقي.

قال الحجّاج ذات يوم: أُحبّ أنْ أُصيب رجلاً من أصحاب أبي تراب (علي بن أبي طالب)، فأتقرّب إلى اللهِ بدَمه! فقيل له: ما نعلم أحداً كان أطول صُحبة لأبي تراب من قنبر مولاه، فبعثَ في طلبه، فأُتي به.

٧

فقال له: أنت قنبر... قال: نعم، قال: أبو همدان... قال: نعم، قال: مولى علي بن أبي طالب، قال: الله مولاي، وأمير المؤمنين علي وليّ نعمتي، قال: اِبرَأ من دينه، قال: فإذا برئتُ من دينه تدلّني على دينٍ غيره أفضل منه،.. قال: إنّي قاتلكَ، فاختَر أيّ قتلة أحبّ إليك،.. قال: صيّرتُ ذلك إليك،.. قال: ولِمَ؟.. قال: لأنّك لا تقتلني قتلةً إلاّ قتلتكَ مثلها، وقد أخبَرني أمير المؤمنين أنّ منيّتي تكون ذَبحاً ظلماً بغير حقّ، فأُمرَ به، فذُبح.

هكذا كان يعامَل أشياع أهل البيت.

وكما تفنّن الحُكّام والولاة - من أمويين وعباسيين - في قَتل الشيعة، وغيرها من الفِرق الإسلامية، التي لا تأخذ بمذهب أهل السنّة الذي يدين به الحُكام، ويتعصّبون له، تفنّن المؤرّخون، وكتّاب الفِرق، وأرباب الأقلام، في تقسيم أُمّة الإسلام إلى فرقٍ كثيرة، وقسّموا الشيعة إلى فرقٍ كثيرةٍ جداً، زادَ عددها عند بعضهم على الثلاثمئة فرقة، وتفنّنوا أيضاً في إلصاق شتّى التّهم بتلك الفِرق، فنسبوا إليها جميعاً الزيغ والضلال، والكفر والزندقة، والمروق من الدين.

وفي الجهة المقابلة، كان جمهورُ المسلمين يتعرّض لمحاولات تعتيم شديدة على كلّ ما يجري حولَه، ويتعرّض لعمليات (غَسل دماغ) مستمرّة، يشترك فيها الحُكام والولاة والموالون لهم من الكتّاب،.. وقد نجحوا في ذلك نجاحاً باهراً، ومن أبلغ الأدلّة على ذلك القصّتين التاليتين:

الأُولى:

إنّه لَمّا حُمل السجّاد مع سائر سبايا أهل البيت إلى الشام، بعد مقتل سبط رسول الله الحسين، وأُوقفوا على مدرج جامع دمشق في محل عَرض السبايا، دَنا منه شيخ، وقال له: الحمد لله الذي قَتلكم وأهلككم، وأراحَ العباد من رجالكم، وأمكَن أمير المؤمنين منكم.

فقال له علي بن الحسين: (يا شيخ، هل قرأتَ القرآن؟).

٨

قال: نعم.

قال: أقرأتَ هذه الآية:( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاّ الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) ؟

قال الشيخ: قرأتها.

قال: وقرأتَ قوله تعالى:( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ ) ، وقوله تعالى:( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) ؟

قال الشيخ: نعم.

فقال: نحنُ والله القربى في هذه الآيات، وهل قرأت قوله تعالى:( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ البَيتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً ) ؟

قال: نعم.

قال: نحن أهل البيت الذي خصّنا بآية التطهير.

قال الشيخ: بالله عليكم، أنتم هُم...

قال: وحق جَدِّنا رسول الله إنّا لنحن هم.. من غير شكّ).

فبقيَ الشيخ ساكتاً نادماً على ما تكلّم به، ثمّ رفعَ رأسه إلى السماء، وقال: الّلهم إنّي أتوبُ إليك من بغض هؤلاء، وإنّي أبرأ إليك من عدوّ محمد وآل محمد من الجنّ والإنس(1) .

الثانية:

إنّه لَمّا ظهرت دعوة أبي مسلم الخراساني، أرسلَ نصر بن سيار إليه رجلاً من بني ليث، ورجلاً من باهلة، يسألانه عن حاله، ودَعوته وسبب خروجه، فبعث أبو مسلم إلى سليمان بن كثير ووجوه مَن معه، فلمّا حضروه، قال لهم: إنّ هذين أتياني برسالة نصر، فكرهتُ أن أسمع منهما، أو أُجيبهما بشيء، حتى تحضروا ذلك. وقد حضرهم وقت الصلاة، فأذّنَ

____________________

(1) مقتل الخوارزمي: الجزء 2، ص61، طبعة النجف.

٩

المؤذِّن، فقام أسلم بن أبي سلام، فقال له أبو مسلم: أين؟ قال: أتوضّأ وأعود، فقال لرسولَي نصر: ونحن نريد ذلك، فإن شئتما فأقيما حتى نفرغ من أمر صلاتنا، وإن كانت بِكُما حاجة إلى الوضوء فامضيا مع أسلم، حتى تقضيا حاجتكما ثمّ ننظر ما معه، ونتفرّغ فيما جئتما له.

فنهضا مع أسلم إلى منزله، فقال أحدهما: والله ما كنّا نحسبكم تصلّون! فقال أسلم: وَمن يُقيم الصلاة لحقّها غيرنا؟ ألستما تعرفاني قبل اليوم؟ قالا: بلى، قال: أفتَرياني كنتُ خارجاً عن الإيمان داخلاً في الكفر؟!

لا تغترّا بأقاويل مَن يشنّع علينا، فو الله إن أصبحَ الحقّ في شيء من المواطن يُدار به إلاّ في موضعنا هذا، الذي نحن فيه، فلا تَغبنا حظّكما منه.

فتوضّأ ودعا لهما بوضوء فتوضّيا وصلّيا، ثمّ دعَوا بهما إلى أبي مسلم، فدخلا عليه وهو يصلّي، فكبّرا وجلسا، ونظرَ أحدهما إلى سَنّور يتردّد في البيت، فكبّر.

فلمّا فرغَ أبو مسلم من صلاته، قال لهما: لِمَ كبّرتما؟ قال أحدهما:كان يقال لنا إنّكم لا تصلّون، وإنّكم تعبدون السنانير، فلمّا رأيناك تصلّي، ورأينا السنّور (مهيناً لديكم) عَلمنا أنّ ما يقال فيكم باطل (1) .

من هاتين القصّتين يتبيّن: أنّ جمهور المسلمين كان مُخدّراً تخديراً تامّاً، مأخوذاً بالدعايات المسمومة، التي كان الحُكام وولاتهم، والموالون لهم من الكتّاب ينفثونها، فكان ينظر إلى كلّ معارضٍ على أنّه كافرٌ ملحدٌ، لا يصلّي ولا يصوم، يرتكب الكبائر، ويبيح الحرمات،... وإنّ أمير المؤمنين (وحده) الذائد عن الدين، المتربّص (بالكَفَرة والزنادقة والمارقين).

وهكذا يتبيّن: أنّ دراسة أيّة فِرقة إسلامية بالاستناد إلى ما كتبه مؤرّخو تلك العهود، مسألة في غاية الصعوبة ؛ لضياع الحقيقة في ركام الدسّ والاختلاق التي تحفل به كتب هؤلاء المؤرّخين، بالإضافة إلى ما فيها من تناقضٍ وتضاربٍ في الأقوال والروايات.

وممّا يؤسف له: أنّ مفكّري الشيعة تأثّروا بدَوْرِهم بما كتَبه المؤرّخون

____________________

(1) أخبار الدولة العباسية: مؤلّف مجهول من القرن الثالث الهجري.

١٠

عن النصيرية، ووقَعوا بنفس تناقضاتهم وأخطائهم، ولو تحرّوا الدقّة في تلك الكتابات والأقوال، لَمَا فاتهم إدراك مراميها والقصد منها.

يقول ابن أبي الحديد في (شرح نهج البلاغة) (1) :

ثمّ تفاقَم أمر الغلاة بعد المغيرة، وأمعنوا في الغلو، فادّعوا حلولَ الذات الإلهية المقدّسة في قومٍ من سلالة أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وقالوا بالتناسخ، وجَحدوا البعث والنشور، وأسقطوا الثواب والعقاب، وقال قومٌ منهم: إنّ الثوابَ والعقاب إنّما هو ملاذُ هذه الدنيا ومشاقّها، وتولّدت من هذه المذاهب القديمة - التي قال بها سلفهم - مذاهب أفحش منها قال بها خَلفهم، حتى صاروا إلى المقالة المعروفة بالنصيرية، وهي التي أحدَثها محمد بن نصير النميري، وكان من أصحاب الحسن العسكريعليه‌السلام .

وكان محمد بن نصير من أصحاب الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، فلمّا ماتَ ادّعى وكالة لابن الحسن، الذي تقول الإمامية بإمامته، ففضحهُ الله تعالى بما أظهره من الإلحاد والغلو والقول بتناسخ الأرواح، ثمّ ادّعى أنّه رسول الله، ونبيٌ من قِبَل الله تعالى، وأنّه أرسله علي بن محمد بن الرضا، وجَحد إمامة الحسن العسكري وإمامة ابنه، وادّعى بعد ذلك الربوبية، وقال بإباحة المحارم.

وقد أخذَ السيد هاشم معروف هذا الكلام، وردّده حرفياً في كتابه الموسوم(عقيدة الشيعة الإمامية)، ولا يخفى أنّ هذا القول يتناقض مع ما ذكره النوبختي في(فِرَق الشيعة) .

وعن النصيرية يقول صاحب العرفانالشيخ أحمد عارف الزين (2) :

أمّا النصيرية أو العَلوية، فهُم طائفة من الشيعة، غالَوا في الإمام عليعليه‌السلام ، حتى قالوا به ما قالَه النصارى في المسيح، وبقوا في جهلٍ مطبَقٍ

____________________

(1) الجزء 3 - ص12.

(2) مجلّة العرفان: العدد 5، المجلّد 20، رجب 1349، ك 1، 1930.

١١

عدّة قرون، عائشين في عزلةٍ عن الناس، نافرين من غيرهم أشدّ النفور.

أمّا اليوم، فأصبحَ فيهم فريق من العلماء والأدباء، وكثيرٌ منهم يعتقدون العقائد الجعفرية، ومنهم مَن يعملون بها، ومَن يطالع تاريخ العلويين لا يرى فَرقاً بينهم وبين الشيعة الإمامية.

وكَتب الشيخمحمد حسين الزين العاملي يقول(1) :

وفي أيّام الحسن العسكريعليه‌السلام ظهرت (النصيرية)، أتباع محمد بن نصير الفهري أو النميري، وكَثروا بعد وفاة الحسن، ثمّ قلّوا، ولم يزَالوا كذلك إلى اليوم، وجُلّهم في جبال اللاذقية، وقد تبرّأ الحسن العسكري من عقائد ابن نصير وأتباعه.

لكن إلى جانب هذه الأقوال، نَجد نفراً من مفكّري الشيعة، قد برّأ ساحة النصيرية من كل التّهم التي أُلصقت بها زوراً، وأعلنَ صراحةً أنْ:(لا عَلوي بين العلويين) ، أي ليس بين العلويين مَن يعبُد الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، كالشيخ محمد جواد مغنية في كتابه(الفقه على المذاهب الخمسة)، وآخرون غيره.

* * *

وممّا تجدر الإشارة إليه: أنّ الطعن نالَ من كبار الشخصيات الشيعية، كهشام بن الحَكم، كما نالَ من غيرهم.

فابن قتيبة في(المعارف) يَعتبر سفيان الثوري من غلاة الروافض.

ومن المؤرّخين المحدَثين، رأينا عبد السلام رستم يَعتبر آل البيت من الغلاة، يقول في كتابه(أبو جعفر المنصور) - ص 20 -:

وكانت الجمعية المتحالفة مكوّنة في بدء تأسيسها من أخوة ثلاثة، هُم:إبراهيم الإمام، والعباس، وأبو جعفر المنصور، وهُم أبناء محمد بن علي بن

____________________

(1) الطوائف المتشعّبة عن الشيعة وكيف تشعّبت: العرفان، ذو الحجة 1354، آذار 1936.

١٢

العباس، ومعهم عبد الله بن علي، وابنه محمد (ذو النفس الزكية)، وأخوه إبراهيم، وغيرهم من الغلاة.

لكلّ ذلك لم نأخذ أقوال المؤرّخين ودارِسي الفِرق والمِلل والمذاهب على علاتها، بل أخضعناها للمناقشة والتمحيص، وعَقَدنا المقارنات بين الأقوال ؛ لنستطيع أن نستخلص أقربها إلى الحقيقة.

ولئن كانت قد ظهرت دراساتٍ شتّى عن الفِرق الإسلامية: كالإسماعيلية، والأباضية، والقرامطة، والدروز، والخوارج، والمعتزلة وغيرهم ؛ فإنّ العلويين لم يصدر عنهم أيّ دراسة كاملة شاملة دقيقة، تُظهر هذه الِفرقة على حقيقتها.

وسدّاً لهذا النقص قُمنا بهذه الدراسة، وهدفنا منها:الكشف عن (أسرار) هذه الفِرقة الإسلامية، التي حارَ بأمرِها المؤرّخون، وذهبت أقوالهم فيها كلّ مذهب.

والطريق التي سلكناها في البحث تتلخّص بما يلي:

أوّلاً: تحدّثنا عن الإيمان، وبيَّنا الاختلافات حول تحديد مفهوم الإيمان وتعريفه، وألمـَعنا إلى أنّ الإيمان والإسلام واحد، فلا يصحّ في الشرع أن يُحكم على أحدٍ أنّه مؤمنٌ وليس بمسلمٍ، أو مسلمٌ وليس بمؤمنٍ.

ثمّ تحدّثنا عن الفِرق الإسلامية، واختلافات أصحاب الفِرق في عددها، وفي أسمائها، وفي نسبتها، وفي مقالاتها.

إذ من الملاحَظ أنّ ثمّة خلافٍ كبيرٍ بين أصحاب الفِرق في عدد هذه الفِرق، فمنهم مَن هبطَ بالعدد إلى (11) فرقة كابن قتيبة في(المعارف) ، على حين جَعل البعض الآخر عدد فِرق الشيعة - فقط - أكثر من ثلاثمئة فِرقة.

ومن جهةٍ أُخرى، فإنّ أصحاب الفِرق لم يتّفقوا فيما بينهم على أسماء تلك الفِرق، فنَجد الواحد منهم يذكر فِرَقاً لم يذكرها الباقون.

وشمل الاختلاف أيضاً نسبة الفِرقة الواحدة، فكلّ واحد من أصحاب الفِرق ينسبها إلى شخصٍ يختلف اسمه من واحدٍ إلى آخَر.

١٣

وتحدّثنا بعدئذٍ عن الفِرق التي اختلفوا في مقالاتها، مُنوّهين بأنّ الاختلاف في مقالات الفِرق كان على نوعين:

الأوّل: اختلاف جزئي، يتمثّل في إضافاتٍ قليلةٍ ذَكرها الواحد دون الآخَر.

الثاني: اختلاف كلّي، بحيث يتضادّ قول الواحد مع أقوال الآخَرين.

وانتقلنا بعد ذلك إلى الحديث عن: أصلِ تسميةِ النصيرية، وتاريخ ظهور النصيرية، ومَواطن النصيرية، لننتقل من ثَمّ إلى الحديث عن عقائد النصيرية.

وتحت هذا العنوان تحدّثنا عمّا كَتبه الشهرستاني في(المِلل والنِحل) ، وابن الأثير في(الكامل) ، وأوردنا نصّ السؤال الذي وجّهه مجهول إلى ابن تيمية، وردّ هذا الأخير عليه، ثمّ ذكرنا ما ذكره القلقشندي في(صبح الأعشى).

مع مقارنة هذه الأقوال مع بعضها البعض، وتبيان ما فيها من اختلاف وتناقض.

ثمّ تحدّثنا عن النصيرية عند المؤرّخين المحدَثين، وحَصرنا كتابات هؤلاء في عدّة اتجاهات:

الاتجاه الأوّل: ترديد ما قاله الشهرستاني في الملل والنحل على الانقياد والتسليم.

الاتجاه الثاني: ترديد ما قاله القلقشندي في صبح الأعشى إمّا كلياً أو جزئياً.

الاتجاه الثالث: يخلط أصحابه في حديثهم عن النصيرية ما بينها وبين الإسماعيلية.

الاتجاه الرابع: أصحاب هذا الاتجاه نوّعوا مصادرهم، فلم يقفوا عند مصدرٍ واحد.

١٤

الاتجاه الخامس: عكس الآراء السابقة تماماً، وأصحابه يُبرّئون ساحة النصيرية، وينفون عنها التّهم التي أُلصقت بها.

ولمـّا كان المؤرّخون - القدماء منهم والمحدَثون - لم يستندوا فيما كَتبوا عن النصيرية إلى كتابات رجالات هذه الفرقة، فقد أفردنا فصلاً خاصّاً، تحدّثنا فيه عن العلويين من خلال آثارهم ؛ ذلك أنّ العلويين ككل شعبٍ من الشعوب، أنتجوا خلال تاريخهم أدباً، شِعراً كان أم نثراً، فتتبّعنا ما كتبوه، وأثبتنا الشواهد الشِعرية والنثرية التي تتضمّن تاريخهم ومعتقداتهم.

ومن هذه الشواهد استخلصنا أهمّ عقائد العلويين.

وبذلك نكون قد قدّمنا للقارئ هذه الفرقة من خلال جميع الأقوال التي قيلت فيها، وبالاستناد إلى أقوال رجالاتها هي.

وعسانا نكون قد وفِّقنا في إظهار هذه الفرقة الإسلامية على حقيقتها.

والله وليّ التوفيق.

هاشم عثمان

١٥

١٦

الإيمانُ والإسلام

إنّ دراسة أيّة فرقةٍ من الفِرق الإسلامية الكثيرة - التي عرفتها أُمّة الإسلام - مرتبط من قريبٍ أو بعيد بموضوع الإيمان.

ومفهوم الإيمان أمرٌ عسير ؛ لأنّه يتعلّق بجوهر الديانة ذاتها، فلا غرابة أن يخوض في ذلك أصحاب الديانات بصفة عامّة من عهودٍ بعيدة إلى يوم الناس هذا(1) ، وقد اختلفَ الفقهاء قديماً وحديثاً في تحديد مفهوم الإيمان وفي تعريفه، فمن قائلٍ: إنّ الإيمان قولٌ باللسان وإن اعتقدَ الكفر بقلبه، فهو مؤمنٌ عند الله عزّ وجل من أهل الجنّة، وهذا قول محمد بن كرام السجستاني وأصحابه.

ومن قائلٍ: إنّ الإيمان عقدٌ بالقلب وإن أعلنَ الكفر بلسانه بلا تقية، وعَبَد الأوثان، أو لزِم اليهودية أو النصرانية في دار الإسلام، وعَبَد الصليب، وأعلن التثليث، وماتَ على ذلك، فهو مؤمنٌ كامل الإيمان عند الله عزّ وجل من أهل الجنّة، وهذا قول جهم بن صفوان والأشعري(2) .

____________________

(1) سعد غراب: مفهوم الإيمان عند الفِرق الإسلامية، مجلّة الفكر الإسلامي، ربيع الأوّل 1395هـ.

(2) ابن حزم: الفصل في المِلل والأهواء والنحل.

١٧

ومن قائلٍ: إنّ أُمّة الإسلام جامعة لكلّ مَن أقرّ بشهادَتي الإسلام لفظاً، فكل مَن قال: لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله، فهو مؤمنٌ حقّاً، وهو من أهل الإسلام، سواء كان مخلصاً فيه، أو منافقاً يضمر الكفر فيه والزندقة(1) .

وأشمل تعريف للإيمان: هو تعريف الإمام عليعليه‌السلام له.

قال الإمام عليعليه‌السلام :

(الإيمان على أربع دعائم: على الصبر، واليقين، والعدل، والجهاد. والصبرُ منها على أربع شُعب: على الشوق، والشَفق، والزهد، والترقّب.

فمَن اشتاقَ إلى الجنّة سلا عن الشهوات، ومَن أشفقَ من النار اجتنبَ المحرّمات، ومَن زهدَ في الدنيا استهانَ بالمصيبات، ومَن ارتقبَ الموت سارع إلى الخيرات.

واليقينُ منها على أربع شُعب: على تبصرة الفطنة، وتأوّل الحكمة، وموعظة العِبرة، وسُنّة الأوّلين. فمَن تبصّر في الفطنة تبيّنت له الحكمة، ومَن تبيّنت له الحكمة عرفَ العِبرة، ومَن عرفَ العِبرة فكأنّما كان في الأوّلين.

والعدلُ منها على أربع شُعب: على غائص الفَهم، وغور العلم، وزهرة الحكم، ورساخة الحلم. فمَن فَهم عَلِم غور العلم، ومَن عَلِم غور العلم صدرَ عن شرائع الحكم، ومَن حلم لم يفرط في أمره وعاشَ في الناس حميداً.

والجهاد منه على أربع شُعب: على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنآن الفاسقين. فمَن أمرَ بالمعروف شدّ ظهور المؤمنين، ومَن نهى عن المنكر أرغمَ أنوف المنافقين، ومَن صَدق في المـَواطن قضى ما عليه، ومَن شنأ الفاسقين وغضبَ لله أرضاه يوم القيامة.

____________________

(1) البغدادي: الفَرقُ بين الفِرق.

١٨

والكفر على أربع دعائم: على التعمّق، والتنازع، والزيغ، والشقاق. فمَن تعمّق لم ينب إلى الحق، ومَن أكثَر نزاعه بالجهل دام عَماه عن الحق، ومَن زاغَ ساءت عنده الحسنة وحسنت عنده السيّئة وسَكرَ سكر الضلالة، ومَن شاقَ وعَرت عليه طُرقه، وأعضلَ عليه أمره وضاقَ عليه مخرجه.

والشك على أربع شُعب: على التماري والجهل، والهول، والتردّد، والاستسلام. فمَن جعل المراء ديدَناً له لم يصبح لَيله، ومَن هالَه ما بين يديه نكص على عقبيه، ومَن تردّد في الريب وطَأَته سنابك الشياطين، ومَن استسلم لهلكة الدنيا والآخرة هلكَ فيهما).

والإيمان المجمل يتمّ بشهادةٍ واحدة عند أبي حنيفة، ثمّ يجب عليه الثبات والتقرير بأوصاف الإيمان، وعند الشافعي يتمّ بشهادتين، ثمّ يجب عليه سائر أوصاف الإيمان وشرائطه، ولم يثبت التقيّد من الشارع بلفظ أشهد أن لا إله إلاّ الله، بل يصحّ بكل لفظٍ دالٍّ على الإقرار والتصديق، ولو بغير العربية مع إحسانها، وكذا يصحّ بترك القول(1) .

وقد وضَع أبو حنيفة القاعدة:(أهلُ القبلة كلّهم مؤمنون، ولا يُخرجهم من الإيمان ترك شيء من الفرائض) .

والغزالي يزيد تحديداً، فيقول: (اعلَم أنّ شرح ما يكفر به ولا يكفر يستدعي تفصيلاً طويلاً، فاقتنِع الآن بوصية وقانون. أمّا الوصية، فأنْ تكفّ لسانك عن أهل القبلة ما أمكنك، ما داموا قائلين لا إله إلاّ الله محمد رسول الله، وأمّا القانون فهو أن تعلم أنّ النظريات قسمان: قسمٌ يتعلّق بأُصول القواعد، وقسمٌ يتعلّق بالفروع.

وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله، ورسوله، وباليوم الآخر، وما عداه فروع، واعلم أنّه لا تكفير في الفروع أصلاً، إلاّ في مسألةٍ واحدةٍ هي: أن ينكر أصلاً دينياً من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالتواتر، ولكن في بعضها تخطئة، كما في الفقهيات، وفي بعضها

____________________

(1) الكفوي: الكليات.

١٩

تبديع...)(1) .

والإيمان والإسلام واحد ؛ لأنّ الإسلام هو الخضوع والانقياد، بمعنى قبول الأحكام والإذعان، وذلك حقيقة التصديق على ما مرّ.. ويؤيّده قوله تعالى:( فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ) (الذاريات: 35 - 36).

وبالجملة: لا يصحّ في الشرع أن يحكم على أحدٍ أنّه مؤمن وليس بمسلم، أو مسلم وليس بمؤمن، فالإيمان لا ينفكّ عن الإسلام حُكماً، فلا يتغايران(2) .

خلاصة القول: يتبيّن ممّا تقدّم:

1 - إنّ الإيمان والإسلام واحد، فلا يصحّ في الشرع أن يحكم على أحدٍ أنّه مؤمنٌ وليس بمسلمٍ، أو مسلمٌ وليس بمؤمنٍ.

2 - إنّ الإيمان هو الإقرار باللسان، فمَن نطَق بالشهادتين وهما: أشهد أن لا إله إلاّ الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله صارَ مسلماً، أي مواطناً في دولة الإسلام، وتمتّع بجميع الحقوق التي يتمتّع بها المسلم(3) .

من هذا المفهوم للإيمان - وعلى أساسه - تكون دراسة أيّة فرقة من الفِرق الإسلامية الكثيرة وتقويمها.

____________________

(1) عبد الحليم الجندي: الشريعة الإسلامية.

(2) السعد التفتازاني: شرح العقائد النفسية.

(3) علي الطنطاوي: تعريف عام بدين الإسلام.

٢٠