تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني15%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131092 / تحميل: 11533
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

يقوم فيجدّد الوضوء، ثم يقوم، فلا يزال يصلّي حتى يطلع الفجر، فلست أدري متى يقول الغلام إنّ الفجر قد طلع؟ إذ قد وثب هو لصلاة الفجر فهذا دأبه منذ حُوّل لي ).

وهكذا كان الإمام سيّد المتقين، وإمام المنيبين قد طبع على قلبه حب الله تعالى، وهام بعبادته وطاعته.

ولمّا رأى عبد الله الفضل للإمام حذّره من أن يستجيب لهارون باغتياله قائلاً له: ( اتق الله، ولا تحدث في أمره حدثاً يكون منه زوال النعمة فقد تعلم أنّه لم يفعل أحد سوء إلاّ كانت نعمته زائلة ).

فانبرى الفضل يؤيّد ما قاله عبد الله.

( قد أرسلوا إليّ غير مرة يأمرونني بقتله فلم أجبهم إلى ذلك )(1) .

لقد خاف الفضل من نقمة الله وعذابه في الدنيا والآخرة إن اغتال الإمام، أو تعرّض له بمكروه.

نصّه على إمامة الرضا:

ونصب الإمام موسىعليه‌السلام ولده الإمام الرضاعليه‌السلام علماً لشيعته ومرجعاً لأمّته وقد خرجت من السجن عدّة ألواح كتب فيها ( عهدي إلى ولدي الأكبر )(2) .

وقد أهتم الإمام موسى بتعيين ولده إماماً من بعده، وعهد بذلك إلى جمهرة كبيرة من أعلام شيعته كان من بينهم ما يلي:

1 - محمد بن إسماعيل:

روى محمد بن إسماعيل الهاشمي قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر، وقد اشتكى شكاة شديدة فقلت له: ( أسأل الله أن لا يريناه - أي فقدك - فإلى مَن؟ ).

قالعليه‌السلام :

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 469 - 471.

(2) نفس المصدر.

٨١

( إلى ابني علي، فكتابه كتابي، وهو وصيي، وخليفتي من بعدي )(1) .

2 - علي بن يقطين:

روى علي بن يقطين، قال: كنت عند أبي الحسن موسى بن جعفرعليه‌السلام ، وعنده علي ابنه، فقال: يا علي هذا ابني سيد ولدي، وقد نحلته كنيتي، وكان في المجلس هشام بن سالم فضرب على جبهته، وقال: إنّا لله نعى والله إليك نفسه(2) .

3 - نعيم بن قابوس:

روى نعيم بن قابوس، قال: قال أبو الحسنعليه‌السلام : علي ابني أكبر ولدي، واسمعهم لقولي: وأطوعهم لأمري، ينظر في كتاب الجفر والجامعة، ولا ينظر فيهما إلاّ نبي أو وصي نبي(3) .

4 - داود بن كثير:

روى داود بن كثير الرقي، قال: قلت لموسى الكاظم: جُعلت فداك، إنّي قد كبرت، وكبر سنّي، فخذ بيدي، وأنقذني من النار، مَن صاحبنا بعدك؟

فأشارعليه‌السلام إلى ابنه أبي الحسن الرضا، وقال: هذا صاحبكم بعدي(4) .

5 - سليمان بن حفص:

روى سليمان بن حفص المروزي، قال: دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر وأنا أريد أن أسأله عن الحجّة على الناس بعده، فلمّا نظر إليّ ابتداني، وقال: يا سليمان إنّ عليّاً ابني ووصيي، والحجّة على الناس بعدي، وهو أفضل ولدي، فإن بقيت بعدي فاشهد له بذلك عند شيعتي وأهل ولايتي، المستخبرين عن خليفتي بعدي(5) .

____________________

(1) كشف الغمّة 3 / 88.

(2) كشف الغمّة 3 / 88.

(3) كشف الغمّة 3 / 88.

(4) الفصول المهمّة (ص 225).

(5) عيون أخبار الرضا 1 / 26.

٨٢

6 - عبد الله الهاشمي:

قال عبد الله الهاشمي: كنّا عند القبر - أي قبر النبي (ص) - نحو ستين رجلاً منا ومن موالينا، إذ أقبل أبو إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ويد علي ابنه في يده فقال: أتدرون من أنا!

قلنا: أنت سيدنا وكبيرنا، فقال: سمّوني وانسبوني، فقلنا: أنت موسى بن جعفر بن محمد، فقال: من هذا؟ - وأشار إلى ابنه - قلنا: هو علي بن موسى بن جعفر، قال: فاشهدوا أنّه وكيلي في حياتي، ووصيي بعد موتي(1).

7 - عبد الله بن مرحوم:

روى عبد الله بن مرحوم قال: خرجت من البصرة أريد المدينة، فلمّا صرت في بعض الطريق لقيت أبا إبراهيم، وهو يذهب به إلى البصرة، فأرسل إليّ فدخلت عليه فدفع إلي كتباً، وأمرني أن أوصلها إلى المدينة، فقلت: إلى مَن ادفعها جُعلت فداك؟ قال: إلى علي ابني، فإنّه وصيي، والقيّم بأمري، وخير بنيّ(2).

8 - عبد الله بن الحرث:

روى عبد الله بن الحرث، قال: بعث إلينا أبو إبراهيم فجمعنا ثم قال: أتدرون لم جمعتكم!

قلنا: لا، قال: اشهدوا أنّ عليّاً ابني هذا وصيي، والقيّم بأمري، وخليفتي من بعدي، مَن كان له عندي دين فليأخذه من ابني هذا، ومَن كانت له عندي عدّة فليستنجزها منه، ومَن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه(3)

9 - حيدر بن أيوب:

روى حيدر بن أيوب، قال: كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا فيه محمد بن زيد بن علي، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه فقلنا له: جعلنا الله فداك ما حبسك؟ - أي ما أخّرك عن المجيء - قال: دعانا أبو إبراهيم اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمةعليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته، وإنّ أمره جايز - أي نافذ - عليه، وله، ثم قال محمد: والله يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم، وليقولن الشيعة به من بعده، قلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 26 - 27.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا.

٨٣

بل يبقيه الله، وأي شيء هذا؟

يا حيدر إذا أوصى إليه فقد عقد له بالإمامة(1).

10 - الحسين بن بشير:

قال الحسين بن بشير: أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر ابنه عليّاً، كما أقام رسول الله (ص)، عليّاً يوم غدير خم، فقال: يا أهل المدينة أو قال: يا أهل المسجد هذا وصيي من بعدي(2) .

11 - جعفر بن خلف:

روى جعفر بن خلف قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر يقول: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفرعليهما‌السلام يقول: سعد امرؤ لم يمت حتى يرى منه خلف، وقد أراني الله من ابني هذا خلفا وأشار إليه - يعني الرضا -(3).

12 - نصر بن قابوس:

روى نصر بن قابوس قال: قلت لأبي إبراهيم موسى بن جعفرعليه‌السلام ، إنّي سألت أباك مَن الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنّك أنت هو، فلمّا توفّي أبو عبد الله ذهب الناس يميناً وشمالاً، وقلت: أنا وأصحابي بك، فأخبرني مَن الذي يكون بعدك؟ قال: ابني علي(4) .

13 - محمد بن سنان:

روى محمد بن سنان قال: دخلت على أبي الحسن قبل أن يحمل إلى العراق بسنة، وعلي ابنه بين يديه، فقال لي: يا محمد، فقلت: لبّيك، قال: إنّه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع منها، ثم أطرق، ونكت بيده في الأرض، ورفع رأسه إليّ وهو يقول: ويضل الله الظالمين، ويفعل الله ما يشاء، قلت: وما ذاك؟

قال: مَن ظلم ابني هذا حقّه، وجحد إمامته من بعدي، كان كمَن ظلم علي بن أبي طالبعليه‌السلام حقّه، وجحد إمامته من بعد محمد (صلي الله عليه وآله). فعلمت أنّه قد نعى إلى نفسه، ودلّ على ابنه، فقلت:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا.

(2) عيون أخبار الرضا.

(3) عيون أخبار الرضا 1 / 30.

(4) عيون أخبار الرضا 1 / 31.

٨٤

والله لئن مدّ الله في عمري لأسلمن إليه حقه، ولأقرن له بالإمامة، وأشهد أنّه من بعدك حجّة الله تعالى على خلقه، والداعي إلى دينه، فقال لي: يا محمد يمد الله في عمرك، وتدعو إلى إمامته، وإمامة مَن يقوم مقامه من بعده، فقلت: مَن ذاك جُعلت فداك؟ قال: محمد ابنه، قال: قلت: فالرضا والتسليم، قال: نعم كذلك وجدتك في شيعتنا أبين من البرق في الليلة الظلماء، ثم قال: يا محمد إنّ المفضل كان أنسي ومستراحي، وأنت أنسهما ومستراحهما(1) حرام على النار أن تمسّك أبداً(2) .

هذه بعض النصوص التي أُثرت عن الإمام موسىعليه‌السلام على إمامة ولده الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفلت باهتمام الإمام موسى في هذا الموضوع، ولعلّ السبب في ذلك يعود إلى تفنيد القائلين بالوقف على إمامته، وإبطال شبههم، وتحذير المسلمين منهم.

وصيّة الإمام:

وأقام الإمام موسىعليه‌السلام ولده الرضا وصيّاً من بعده، وقد أوصاه بوصيّتين، وهما يتضمّنان ولايته على صدقاته، ونيابته عنه في شؤونه الخاصة والعامة، وإلزام أبنائه باتباعه، والانصياع لأوامره، كما عهد إلى السيدات من بناته أن يكون زواجهن بيد الإمام الرضا؛ لأنّه اعرف بالكفؤ من غيره، فينبغي أن لا يتزوجن إلاّ بمؤمن تقي يعرف مكانتهن ومنزلتهن.

أمّا الوصية الثانية فقد ذكرناها في كتابنا حياة الإمام موسىعليه‌السلام فلا حاجة لذكرها فإنّي لا أحب أن أذكر شيئاً قد كتبته.

سجن السندي:

وأمر الرشيد بسجن الإمام في سجن السندي بن شاهك وهو شرّير لم تدخل الرحمة إلى قلبه، وقد تنكّر لجميع القيم، لا يؤمن بالآخرة ولا يرجو لله وقاراً، فقابل الإمام بكل قسوة وجفاء فضيق عليه في مأكله ومشربه، وكبّله بالقيود، ويقول الرواة إنّه قيّده بثلاثين رطلاً من الحديد.

____________________

(1) الضمير يرجع إلى الإمام الرضا وابنه محمد الجواد.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 32 - 33.

٨٥

وأقبل الإمام على عادته على العبادة فكان في أغلب أوقاته يصلّي لربّه، ويقرأ كتاب الله، ويمجّده ويحمده على أن فرّغه لعبادته.

كتابه إلى هارون:

وأرسل الإمام رسالة إلى هارون أعرب فيها عن نقمته عليه وهذا نصّها: ( إنّه لن ينقضي عنّي يوم من البلاء حتى ينقضي عنك يوم من الرخاء حتى نفنى جميعاً إلى يوم ليس فيه انقضاء، وهناك يخسر المبطلون )(1) .

وحكت هذه الرسالة ما ألمّ بالإمام من الجزع والأسى من السجن وأنّه سيحاكم الطاغية أمام الله تعالى في يوم يخسر فيه المبطلون.

اغتيال الإمام:

وعهد الطاغية إلى السندي أو إلى غيره من رجال دولته باغتيال الإمام، فدسّ له سمّاً فاتكاً في رطب، وأجبره السندي على تناوله، فأكل منه رطبات يسيرة، فقال له السندي: ( زد على ذلك... )..

فرمقه الإمام بطرفه، وقال له: ( حسبك قد بلغت ما تحتاج إليه... ).(2) .

وتفاعل السم في بدن الإمام، وأخذ يعاني الآلام القاسية وقد حفّت به الشرطة القساة، ولازمه السندي، فكان يسمعه مرّ الكلام وأقساه، ومنع عنه جميع الإسعافات ليعجل له النهاية المحتومة.

لقد عانى الإمام في تلك الفترة الرهيبة أقسى ألوان المحن والخطوب، فقد تقطّعت أوصاله من السم، وكان أشق عليه ما يسمعه من انتهاك لحرمته وكرامته من السندي وجلاوزته.

إلى الرفيق الأعلى:

وسرى السمّ في جميع أجزاء بدن الإمامعليه‌السلام ، وأخذ يعاني أقسى ألوان الأوجاع والآلام، واستدعى الإمام السندي فلمّا مثل عنده أمره أن يحضر مولى

____________________

(1) البداية والنهاية 10 / 183.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 1 / 499 - 500.

٨٦

له ينزل عند دار العباس بن محمد في مشرعة القصب ليتولّى تجهيزه، وسأله السندي أن يأذن له في تجهيزه فأبى، وقال: إنّا أهل بيت مهور نسائنا، وحج صرورتنا، وأكفان موتانا من طاهر أموالنا، وعندي كفني(1) واحضر له السندي مولاه فعهد له بتجهيزه.

ولمّا ثقل حال الإمام، وأشرف على النهاية المحتومة استدعى المسيب بن زهرة، وقال له: ( إنّي على ما عرفتك من الرحيل إلى الله عزّ وجل فإذا دعوت بشربة من ماء فشربتها ورأيتني قد انتفخت، واصفرّ لوني واحمرّ، واخضرّ، وأتلوّن ألواناً، فأخبر الطاغية بوفاتي... ).

قال المسيب: فلم أزل أراقب وعده، حتى دعاعليه‌السلام بشربة فشربها، ثم استدعاني فقال: ( يا مسيب إنّ هذا الرجس السندي بن شاهك سيزعم أنّه يتولّى غسلي، ودفني، وهيهات، هيهات أن يكون ذلك أبداً فإذا حملت إلى المقبرة المعروفة بمقابر قريش فألحدوني بها، ولا ترفعوا قبري فوق أربعة أصابع مفرجات، ولا تأخذوا من تربتي شيئاً لتتبركوا به فإنّ كل تربة لنا محرّمة إلاّ تربة جدّي الحسين بن علي فإنّ الله عزّ وجل جعلها شفاء لشيعتنا وأوليائنا... ).

قال المسيب: ثم رأيت شخصاً أشبه الأشخاص به جالساً إلى جانبه، وكان عهدي بسيّدي الرضاعليه‌السلام وهو غلام فأردت أن أسأله، فصاح بي سيدي موسى وقال: أليس قد نهيتك، ثم إنّه غاب ذلك الشخص، وجئت إلى الإمام فإذا به جثّة هامدة قد فارق الحياة، فانتهيت بالخبر إلى الرشيد(2) .

لقد سمت روح الإمام إلى خالقها العظيم تحفّها ملائكة الرحمن بطاقات من زهور الجنّة، وتستقبلها أرواح الأنبياء والأوصياء والمصطفين الأخيار.

سيّدي أبا الرضا: لقد مضيت إلى دار الخلود بعد أن أدّيت رسالتك، ورفعت كلمة الله عالية في الأرض، ونافحت عن حقوق المظلومين، والمضطهدين، وقاومت الطغيان والاستبداد، فما أعظم عائدتك على الإسلام والمسلمين.

سيّدي أبا الرضا:

____________________

(1) مقاتل الطالبيين (ص 504).

(2) حياة الإمام موسى 2 / 514 - 515.

٨٧

لقد تجرّعت أنواع المحن والغصص والخطوب من طاغية زمانك فأودعك في سجونه، وضيّق عليك في كل شيء، وحال بينك وبين شيعتك وأبنائك وعائلتك؛ لأنّك لم تسايره ولم تبرّر منكره، فقد تزعّمت الجبهة المعارضة للظلم والطغيان، ورحت تندد بسياسته الهوجاء التي بنيت على سرقة أموال المسلمين، وإنفاقها في ملذّاته، ولياليه الحمراء، فسلام الله عليك غادية ورائحة، وسلام الله عليك يوم ولدت ويوم متّ ويوم تُبعث حيّاً.

تحقيق الشرطة في الحادث:

وقامت الشرطة بدورها في التحقيق في سبب وفاة الإمام، وقد بذلت قصارى جهودها في أنّ الإمام مات حتف أنفه؛ لتبرئ ساحة الطاغية هارون، وقد قام بذلك السندي ابن شاهك، وكان ذلك في مواضع منها ما رواه عمرو بن واقد، قال: أرسل إليّ السندي بن شاهك في بعض الليل وأنا ببغداد فخشيت أن يكون لسوء يريده لي، فأوصيت عيالي بما احتجت إليه، وقلت: إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

ثم ركبت إليه، فلمّا رآني مقبلاً قال: ( يا أبا حفص لعلّنا أرعبناك وأزعجناك؟... ).

( نعم )...

( ليس هنا إلاّ الخير... ).

( فرسول تبعثه إلى منزلي ليخبرهم خبري... ).

( نعم )... ولمّا هدأ روعه، وذهب عنه الخوف، قال له السندي: ( يا أبا حفص أتدري لم أرسلت إليك؟... )..

( لا ).

( أتعرف موسى بن جعفر؟... ).

( أي والله أعرفه وبيني وبينه صداقة منذ دهر... ).

هل ببغداد ممّن يقبل قوله تعرفه أنّه يعرفه؟... ).

( نعم ).

ثم إنّه سمّى له أشخاصاً ممّن يعرفون الإمام، فبعث خلفهم فقال لهم: هل تعرفون قوماً يعرفون موسى بن جعفر؟

فسمّوا له قوماً فأحضرهم، وقد استوعب الليل فعله حتى انبلج نور الصبح، ولمّا كمل عنده من الشهود نيّف وخمسون رجلاً،

٨٨

أمر بإحضار كاتبه، ويعرف اليوم بكاتب الضبط، فأخذ في تسجيل أسمائهم ومنازلهم وأعمالهم وصفاتهم وبعد انتهائه من الضبط أخبر السندي بذلك فخرج من محلّه، والتفت إلى عمرو فقال له: قم يا أبا حفص فاكشف الثوب عن وجه موسى بن جعفر، فكشف عمرو الثوب عن وجه الإمام، والتفت السندي إلى الجماعة، فقال لهم: انظروا إليه، فدنا واحد منهم بعد واحد، فنظروا إليه جميعاً، ثم قال لهم:

( تشهدون كلّكم أنّ هذا موسى بن جعفر؟... ).

( نعم ).

ثم أمر غلامه بتجريد الإمام من ملابسه، ففعل الغلام ذلك، ثم التفت إلى القوم فقال لهم: ( أترون به أثراً تنكرونه؟... ) فقالوا: ( لا ). ثم سجّل شهادتهم وانصرفوا(1) .

كما استدعى فقهاء بغداد ووجوهها، وفيهم الهيثم بن عدي فسجّل شهادتهم بإنّ الإمام مات حتف أنفه(2). وفعل هارون مثل ذلك من الإجراءات والسبب في ذلك تنزيهه من اقتراف الجريمة، ونفي المسؤولية عنه.

وضعه على الجسر:

ووضع جثمان الإمام سليل النبوّة على جسر الرصافة ينظر إليه القريب والبعيد، وتتفرّج عليه المارّة، وقد احتفت به الشرطة، وكشفت وجهه للناس، وقد حاول الطاغية بذلك إذلال الشيعة والاستهانة بمقدّساتها وكان هذا الإجراء من أقسى ألوان المحن التي عانتها الشيعة؛ فقد كوى بذلك قلوبهم وعواطفهم، يقول الشيخ محمد ملة:

مَن مبلغ الإسلام أنّ زعيمه

قد مات في سجن الرشيد سميما

فالغيّ بات بموته طرب الحشا

وغدا لمأتمه الرشاد مقيما

ملقىً على جسر الرصافة نعشه

فيه الملائك أحدقوا تعظيما

وقال الخطيب المفوّه الشيخ محمد علي اليعقوبي:

مثل موسى يرمى على الجسر ميتاً

لم يشيّعه للقبور موحّد

حملوه وللحديد برجليه هزيج

له الأهاضيب تنهد(3)

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 519.

(3) حياة الإمام موسى بن جعفر 2 / 521.

٨٩

النداء الفظيع:

يا لهول المصاب، يا لروعة الخطب، لقد انتهك السندي جميع حرمات الإسلام، فقد أمر الجلادين أن ينادوا على الجثمان المقدس بنداء مؤلم، فبدل أن ينادوا بالحضور لجنازة الطيب ابن الطيب أمرهم أن ينادوا بعكس ذلك، وانطلق العبيد والأنذال يجوبون في شوارع بغداد رافعين أصواتهم بذلك النداء القذر، وأمرهم ثانياً أن ينادوا بنداء آخر: ( هذا موسى بن جعفر الذي تزعم الرافضة أنّه لا يموت فانظروا إليه ميتاً... )(1) .

قيام سليمان بتجهيز الإمام:

وكان سليمان مطلاًّ على نهر دجلة في قصره، فرأى الشرطة وقطعات من الجيش تجوب في الشوارع، والناس مضطربة، فزعة، فهاله ذلك، فالتفت إلى ولده وغلمانه قائلاً: ( ما الخبر؟ ).

فقالوا له: ( هذا السندي بن شاهك ينادي على موسى بن جعفر... ).

وأخبروه بندائه الفظيع، فخاف سليمان من حدث الفتنة وانفجار الوضع بما لا تحمد عقباه، وصاح بولده:

( انزلوا مع غلمانكم فخذوه من أيديهم، فإن مانعوكم فاضربوهم وخرقوا ما عليهم من سواد - وهو لباس الشرطة والجيش - )(2) .

وانطلق أبناء سليمان مسرعين ومعهم غلمانهم وحرّاسهم إلى الشرطة، فأخذوا الجثمان المقدس من أيديهم، ولم تبد الشرطة أيّة مقاومة معهم، فسليمان عم الخليفة وأهم شخصية لامعة في الأسرة العباسية.

وحمل جثمان الإمام إلى سليمان فأمر أن ينادي في شوارع بغداد بنداء معاكس لنداء السندي، وانطلق المنادون رافعين أصواتهم بهذا النداء:

( ألا مَن أراد أن يحضر جنازة الطيب ابن الطيب موسى بن جعفر فليحضر ).

____________________

(1) حياة الإمام موسى بن جعفر.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر.

٩٠

وخرج الناس على اختلاف طبقاتهم لتشييع جثمان إمام المسلمين وسيد المتقين والعابدين، وخرجت الشيعة وهي تلطم الصدور وتذرف الدموع وخرجت السيدات من نسائهم، وهن يندبن الإمام، ويرفعن أصواتهن بالنياحة عليه. وسارت مواكب التشييع وهي تجوب شوارع بغداد، وتردد أهازيج اللوعة والحزن، وأمام النعش المقدس مجامير العطور، وانتهى به إلى موضع في سوق سُمّي بعد ذلك بسوق الرياحين، كما بني على الموضع الذي وضع فيه الجثمان المقدس لئلاّ تطأه الناس بأقدامهم تكريماً له(1) ، وانبرى شاعر ملهم فأبّن الإمام بهذه الأبيات الرائعة:

قد قلت للرجل المولّى غسله

هلاّ أطعت وكنت من نصائحه

جنبه ماءك ثم غسّله بما

أذرت عيون المجد عند بكائه

وأزل أفاويه الحنوط ونحّها

عنه وحنّطه بطيب ثنائه

ومر الملائكة الكرام بحمله

كرماً ألست تراهم بإزائه

لا توه أعناق الرجال بحمله

يكفي الذي حملوه من نعمائه(2)

وسارت المواكب متجهة إلى محلّة باب التبن، وقد ساد عليها الوجوم والحزن، حتى انتهت إلى مقابر قريش فحفر للجثمان العظيم قبر، وأنزله فيه سليمان بن أبي جعفر، وهو مذهول اللب، فواراه فيه، وارى فيه الحلم والكرم والعلم، والإباء.

وانصرف المشيعون، وهم يعددون فضائل الإمام، ويذكرون بمزيد من اللوعة الخسارة التي منّي بها المسلمون، فتحيّات من الله على تلك الروح العظيمة التي ملأت الدنيا بفضائلها وآثارها ومآثرها.

تقلّد الإمام الرضا للزعامة الكبرى:

وتقلّد الإمام الرضاعليه‌السلام بعد وفاة أبيه الزعامة الدينية الكبرى، والمرجعية العامة للمسلمين، وقد احتف به العلماء والفقهاء وهم يسجلون آراءه في ميادين الآداب والحكمة، وما يفتي به من المسائل الشرعية وغير ذلك من صنوف المعارف والعلم.

____________________

(1) الأنوار البهية (ص 99).

(2) الإتحاف بحب الأشراف (ص 57).

٩١

سفره إلى البصرة:

وبعد وفاة الإمام الكاظمعليه‌السلام سافر الإمام الرضاعليه‌السلام إلى البصرة للتدليل على إمامته، وإبطال شبه المنحرفين عن الحق، وقد نزل ضيفاً في دار الحسن بن محمد العلوي، وقد عقد في داره مؤتمراً عاماً ضمّ جمعاً من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب، وهو من المنحرفين عن آل البيتعليهم‌السلام والمعادين لهم، كما دعا فيه جاثليق النصارى، ورأس الجالوت، والتفت إليهم الإمام فقال لهم:

( إنّي إنّما جمعتكم لتسألوني عمّا شيءتم من آثار النبوة وعلامات الإمامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت، فهلموا أسألكم... ).

وبادر عمرو بن هداب فقال له: ( إنّ محمد بن الفضل الهاشمي أخبرنا عنك أنك تعرف كل ما أنزله الله، وانك تعرف كل لسان ولغة... ).

وانبرى الإمامعليه‌السلام فصدّق مقالة محمد بن الفضل في حقّه قائلاً: ( صدق محمد بن الفضل أنا أخبرته بذلك... ).

سارع عمرو قائلاً: ( إنّا نختبرك قبل كل شيء بالألسن، واللغات، هذا رومي، وهذا هندي، وهذا فارسي، وهذا تركي، قد أحضرناهم... ).

فقالعليه‌السلام : ( فليتكلّموا بما أحبوا، أجب كل واحد منهم بلسانه إن شاء الله... ).

وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجابعليه‌السلام عنها بلغته، وبهر القوم وعجبوا، والتفت الإمام إلى عمرو فقال له: ( إن أنا أخبرتك أنّك ستبتلي في هذه الأيام بدم ذي رحم لك هل كنت مصدقاً لي؟... ).

( لا، فإنّ الغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى... ).

وردّ الإمام عليه مقالته: ( أو ليس الله تعالى يقول:( عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رسُولٍ ) فرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله عند الله مرتضى، ونحن ورثة ذلك

٩٢

الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان، وما يكون إلى يوم القيامة. وإنّ الذي أخبرتك به يا بن هداب لكائن إلى خمسة أيام وإن لم يصح في هذه المدة فإنّي.. وإن صحّ فتعلم أنّك راد على الله ورسوله.

وأضاف الإمام قائلاً: ( أما إنّك ستصاب ببصرك، وتصير مكفوفاً، فلا تبصر سهلاً، ولا جبلاً وهذا كائن بعد أيام، ولك عندي دلالة أخرى، إنّك ستحلف يميناً كاذبة فتضرب بالبرص... ).

وأقسم محمد بن الفضل بالله بأنّ ما أخبر به الإمام قد تحقّق، وقيل لابن هداب: ( هل صدق الرضا بما أخبر به؟... ).

فقال: والله لقد علمت في الوقت الذي أخبرني به أنّه كائن، ولكنّي كنت أتجلّد.

والتفت الإمام إلى الجاثليق فقال له: ( هل دلّ الإنجيل عل نبوّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( لو دلّ الإنجيل على ذلك ما جحدناه... ).

ووجّه الإمام له السؤال التالي: ( اخبرني عن السكنة التي لكم في السفر الثالث؟... ). وأجاب الجاثليق: ( إنّها اسم من أسماء الله تعالى لا يجوز لنا أن نظهره... ).

وردّ عليه الإمام قائلاً: ( فان قربه ربّك أنّه اسم محمد، وأقر عيسى به، وأنّه بشر بني إسرائيل بمحمد لتقربه، ولا تنكره؟... ).

ولم يجد الجاثليق بُدّاً من الموافقة على ذلك قائلاً: ( إن فعلت أقررت، فإنّي لا أرد الإنجيل ولا أجحده... ).

وأخذ الإمام يقيم عليه الحجّة قائلاً: ( خذ على السفر الثالث الذي فيه ذكر محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله وبشارة عيسى

٩٣

بمحمد؟... ).

وسارع الجاثليق قائلا: ( هات ما قلته... ).

فأخذ الإمامعليه‌السلام يتلو عليه السفر من الإنجيل الذي فيه ذكر الرسول محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقال للجاثليق: ( من هذا الموصوف؟... ).

قال الجاثليق: ( صفه ).

وأخذ الإمامعليه‌السلام في وصفه قائلاً: ( لا أصفه إلاّ بما وصفه الله، وهو صاحب الناقة، والعصا، والكساء، النبي الأمي، الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم، والأغلال التي كانت عليهم، يهدي إلى الطريق الأقصد، والمنهاج الأعدل، والصراط الأقوم. سألتك يا جاثليق بحق عيسى روح الله، وكلمته، هل تجدون هذه الصفة في الإنجيل لهذا النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ).

وأطرق الجاثليق مليّاً برأسه إلى الأرض، وقد ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فقد سدّ عليه الإمام كل نافذة يسلك منها، ولم يسعه أن يجحد الإنجيل، فأجاب الإمام قائلاً: نعم هذه الصفة من الإنجيل، وقد ذكر عيسى في الإنجيل هذا النبي ولم يصح عند النصارى أنّه صاحبكم ).

وانبرى الإمام يقيم عليه الحجّة، ويبطل أوهامه قائلاً: ( أما إذا لم تكفر بجحود الإنجيل، وأقررت بما فيه من صفة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فخذ على السفر الثاني، فإنّه قد ذكره وذكر وصيّه، وذكر ابنته فاطمة وذكر الحسن والحسين... ).

وقد استبان للجاثليق ورأس الجالوت أنّ الإمامعليه‌السلام عالم بالتوراة والإنجيل، وأنّه واقف على جميع ما جاء فيهما، وفكّرا في التخلص من حجج الإمام فأبديا الشك في أن الذي بشر به موسى والسيد المسيح هو النبي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وطفقا قائلين:

٩٤

( لقد بشر به موسى وعيسى جميعاً، ولكن لم يتقرّر عندنا أنّه محمد هذا، فأمّا كون اسمه محمد، فلا يجوز أن نقر لكم بنبوته، ونحن شاكون أنّه محمّدكم أو غيره... ).

وانبرى الإمام ففنّد شبهتهم قائلاً: ( احتججتم بالشك، فهل بعث الله قبل أو بعد من ولد آدم إلى يومنا هذا نبيّاً اسمه محمد أو تجدونه في شيء من الكتب التي أنزلها الله على جميع الأنبياء غير محمد؟... ).

وأحجما عن الجواب، ولم يجدا شبهة يتمسكان بها، وأصرّا على العناد والجحود قائلين: ( لا يجوز لنا أن نقر لك بأنّ محمّداً هو محمّدكم، فإنّا إن أقررنا لك بمحمد ووصيّه وابنته وابنيها على ما ذكرتم أدخلتمونا في الإسلام كرهاً... ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أنت يا جاثليق آمن في ذمّة الله، وذمّة رسوله أنّه لا يبدؤك منّا شيء تكرهه... ).

وسارع الجاثليق قائلاً: ( إذ قد آمنتني، فان هذا النبي الذي اسمه محمد، وهذا الوصي الذي اسمه علي، وهذه البنت التي اسمها فاطمة، وهذان السبطان اللذان اسمهما الحسن والحسين في التوراة والإنجيل والزبور، وطفق الإمام قائلاً: ( هل هذا صدق وعدل؟... ).

( بل صدق وعدل... ).

وسكت الجاثليق، واعترف بالحق، والتفت الإمام إلى رأس الجالوت فقال له: ( اسمع يا رأس الجالوت السفر الفلاني من زبور داود... ).

قال رأس الجالوت: ( بارك الله فيك وفيمَن ولدك: هات ما عندك... ).

وأخذ الإمام يتلو عليه السفر الأول من الزبور حتى انتهى إلى ذكر محمد وعلي وفاطمة والحسن الحسين، ووجه الإمام له السؤال التالي: ( سألتك يا رأس الجالوت بحق الله هذا في زبور داود؟... ).

( نعم هذا بعينه في الزبور بأسمائهم... ).

٩٥

وانبرى الإمام قائلاً: ( بحق عشر الآيات التي أنزلها الله على موسى بن عمران في التوراة هل تجد صفة محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين في التوراة منسوبين إلى العدل والفضل؟ ).

ولم يسع رأس الجالوت إلاّ الإقرار والاعتراف بذلك، وأخذ الإمام يتلو في سفر آخر من التوراة، وقد بهر رأس الجالوت من اطلاع الإمام ومن فصاحته وبلاغته، وتفسيره ما جاء في النبي وعلي وفاطمة والحسنين، فقال رأس الجالوت: ( والله يا بن محمد لولا الرياسة التي حصلت لي على جميع اليهود لآمنت بأحمد، واتبعت أمرك، فو الله الذي أنزل التوراة على موسى، والزبور على داود، ما رأيت اقرأ للتوراة والإنجيل والزبور منك، ولا رأيت أحسن تفسيراً وفصاحة لهذه الكتب منك ).

وقد استغرقت مناظرة الإمام معهم وقتاً كثيراً حتى صار وقت صلاة الظهر فقامعليه‌السلام فصلّى بالناس صلاة الظهر، وانصرف إلى شؤونه الخاصة، وفي الغد عاد إلى مجلسه، وقد جاءوا بجارية رومية لامتحان الإمامعليه‌السلام ، فكلّمها الإمام بلغتها، والجاثليق حاضر، وكان عارفاً بلغتها، فقال الإمام للجارية: ( أيّما أحب إليك محمد أم عيسى؟... ).

فقالت الجارية: ( كان فيما مضى عيسى أحب إليّ؛ لأنّي لم أكن أعرف محمداً، وبعد أن عرفت محمداً فهو أحب إليّ من عيسى... ).

والتفت لها الجاثليق فقال لها: ( إذا كنت دخلت في دين محمد فهل تبغضين عيسى؟... ).

وأنكرت الجارية كلامه فقالت: ( معاذ الله بل أحب عيسى، وأومن به، ولكن محمداً أحب إلي... ).

والتفت الإمام إلى الجاثليق فطلب منه أن يترجم للجماعة كلام الجارية، فترجمه لهم، وطلب الجاثليق من الإمام أن يحاجج مسيحيّاً من السند له معرفة بالمسيحية، وصاحب جدل، فحاججه الإمام بلغته، فآمن السندي بالإسلام، وأقرّ للإمامعليه‌السلام بالإمامة، وطلبعليه‌السلام من محمد بن الفضل أن يأخذه إلى الحمام ليغتسل، ويطهر بدنه من درن الشرك، فأخذه محمد إلى الحمّام، وكساه بثياب نظيفة، وأمر الإمام بحمله إلى يثرب ليتلقى من علومه، ثم ودّع الإمام أصحابه

٩٦

ومضى إلى المدينة المنوّرة(1) .

سفره إلى الكوفة:

وغادر الإمامعليه‌السلام يثرب متوجّهاً إلى الكوفة، فلمّا انتهى إليها استقبل فيها استقبالاً حاشداً، وقد نزل ضيفاً في دار حفص بن عمير اليشكري، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل، وهو يجيبهم عنها، وقد عقد مؤتمراً عامّاً ضمّ بعض علماء النصارى واليهود، وجرت بينه وبينهم مناظرات أدت إلى انتصاره وعجزهم عن مجاراته، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى الحاضرين، فقال لهم: ( يا معاشر الناس، أليس أنصف الناس مَن حاجّ خصمه بملّته وبكتابه، وشريعته؟... ).

فقالوا جميعاً: ( نعم ).

فقالعليه‌السلام : ( اعلموا أنّه ليس بإمام بعد محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله إلاّ مَن قام بما قام به محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله حين يفضي له الأمر، ولا يصلح للإمامة إلاّ مَن حاج الأمم بالبراهين للإمامة... ).

وانبرى عالم يهودي فقال له: ( ما الدليل على الإمام؟... )

فقالعليه‌السلام :

( أن يكون عالماً بالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن الحكيم فيحاج أهل التوراة بتوراتهم، وأهل الإنجيل بإنجيلهم وأهل القرآن بقرآنهم، وأن يكون عالماً بجميع اللغات حتى لا يخفي عليه لسان واحد، فيحاج كل قوم بلغتهم، ثم يكون مع هذه الخصال تقياً، نقياً من كل دنس، طاهراً من كل عيب، عادلاً، منصفاً، حكيماً، رؤوفاً، رحيماً، غفوراً، عطوفاً، صادقاً، مشفقاً، بارّاً، أميناً، مأموناً... )(2) .

وجرت بينه وبين بعض الحاضرين مناظرات أدّت إلى تمسّك الشيعة بالإمام

____________________

(1) البحار 12 / 21 - 23، بتصرف نقلنا الخبر.

(2) البحار 12 / 23، نقلنا الحديث بتصرف.

٩٧

عليه‌السلام ، وزيادة إيمانهم بقدراته العلمية الهائلة كما أدّت إلى إفحام القوى المعارضة للإمام، وعجزهم عن مجاراته وبهذا نطوي الحديث عن دور الإمام في ظلال أبيه، وبعد وفاته.

٩٨

٩٩

مناظراته واحتجاجاته

واتسم عصر الإمام الرضاعليه‌السلام بشيوع المناظرات والاحتجاجات بين زعماء الأديان والمذاهب الإسلامية وغيرها، وقد احتدم الجدال بينهم في كثير من البحوث الكلامية خصوصاً فيما يتعلّق بأصول الدين، وقد حفلت الكتب الكلامية وغيرها بألوان من ذلك الصراع العقائدي مشفوعة بالأدلة التي أقامها المتكلمون على ما يذهبون إليه.

ومن بين المسائل التي عظم فيها النزاع، واحتدم فيها الجدال بين الشيعة والسنّة: ( الإمامة )، فالشيعة تصر على أنّ الإمامة كالنبوّة غير خاضعة لاختيار الأمّة وانتخابها، وإنّما أمرها بيد الله تعالى فهو الذي يختار لها مَن يشاء من صلحاء عباده ممّن امتحن قلوبهم للإيمان كما يشترطون في الإمام أن يكون معصوماً عن الخطأ، وأن يكون أعلم الأمّة، وأدراها لا في شؤون الشريعة الإسلامية فحسب وإنما في جميع علوم الحياة، وأنكر جمهور أهل السنّة ذلك جملةً وتفصيلاً، ومن الجدير بالذكر أنّ أروقة الملوك والوزراء في عصر الإمام قد عقدت فيها مجالس للمناظرة بين زعماء المذاهب الإسلامية فقد عقدت البرامكة مجالس ضمت المتكلمين من علماء السنة، فناظروا العالم الكبير هشام بن الحكم، وحاججوه في أمر الإمامة، فتغلّب عليهم ببالغ الحجّة، وقوّة البرهان، وممّا لا ريب فيه أنّ عقد البرامكة للخوض في هذه البحوث الحساسة لم تكن بواعثه علمية فقط، وإنّما كانت للاطلاع على ما تملكه الشيعة من الأدلة الحاسمة لإثبات معتقداتها في الإمامة.

ولمّا جعل المأمون ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام التي لم تكن عن إخلاص، ولا عن إيمان بأنّ الإمام أحق وأولى بالخلافة منه، وإنّما كانت لأسباب سياسية سوف نتحدث عنها في غضون هذا الكتاب، وقد أوعز إلى ولاته في جميع

١٠٠

أنحاء العالم الإسلامي بإحضار كبار العلماء من المتمرّسين في مختلف أنواع العلوم بالحضور إلى خراسان ليسألوا الإمام عن أعقد المسائل العلمية، ولمّا حضروا عنده عرض عليهم الأمر، ووعد بالثراء العريض كل مَن يسأل الإمامعليه‌السلام سؤالاً يعجز عن إجابته، والسبب في ذلك - فيما نحسب - يعود إلى ما يلي:

أوّلاً: إنّ المأمون أراد أن ينسف عقيدة الشيعة ويقضي على جميع معالمها فيما إذا عجز الإمام الرضاعليه‌السلام فإنّه يتخذ من ذلك وسيلة لنقض ما تذهب إليه الشيعة من أنّ الإمام أعلم أهل عصره، وأدراهم بجميع أنواع العلوم، ومن الطبيعي أنّ ذلك يؤدّي إلى زعزعة كيان التشيّع، وبطلان عقيدتهم في أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

ثانياً: إنّ الإمام لو عجز عن أجوبة المسائل التي يقدمها العلماء له فإنّ المأمون يكون في سعة من عزله عن ولاية العهد بعد أن استنفذت أغراضه السياسية منها، فقد أظهر للناس في بداية الأمر أنّه إنّما رشّح الإمام لهذا المنصب الخطير لأنّه أعلم الأمّة، ولكن لما ظهر له خلاف ذلك قام بعزله، وفي نفس الوقت تقوم وسائل إعلامه بإذاعة ذلك، والحط من شأن الإمام، وفي ذلك استجابة لعواطف الأسرة العباسية التي غاظها ترشيح المأمون للإمام لولاية العهد.

فعمدت إلى عزله، ومبايعة المغني إبراهيم - كما سنتحدث عن ذلك - وعلى إي حال فقد قام العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقاً في جميع أنواع العلوم، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرّس فيها، ويقول الرواة: إنّه سُئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مفرقة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي، وخرجت الوفود العلمية، وهي مليئة بالإعجاب والإكبار بمواهب الإمام وعبقرياته، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الإمام من طاقات هائلة من العلم والفضل كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته، ممّا اضطر المأمون إلى حجب الإمام عن العلماء خوفاً أن يفتتنوا له ولم يذكر الرواة إلا كوكبة يسيرة منها، نعرض لها ولبعض ما أثر عنه هذا الموضوع، وفيما يلي ذلك:

1 - أسئلة عمران الصابئ:

وكان عمران الصابئ من كبار فلاسفة عصر الإمامعليه‌السلام كما كان الزعيم الروحي لطائفة الصابئة، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام، فاختار له أعمق المسائل الفلسفية وأكثرها تعقيداً وغموضاً. وقد شرحها وعلّق عليها المحقّق الشيخ

١٠١

محمد تقي الجعفري، قال: وقد اشتمل هذا الاحتجاج على أهم المسائل الإلهية وأغمضها، وهي على إطلاقها عويصات في الحكمة المتعالية، قد أتعبت أفكار الباحثين الناظرين في ذلك الفن، ولم يأت هؤلاء الأساطين بأجوبة كافية لتلك المسائل بل تعقبها أسئلة أخرى ربّما تكون أغمض من نفس الأسئلة، وقد وقعت تلك الغوامض موارد لأسئلة عمران في هذه الرواية، وأجاب عنها الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ثامن حجج الله على عباده وأُمنائه في أرضه، وما بيّنه الإمام في هذا الاحتجاج مناهج واضحة لم يطمسها غبار الحجب المادية التي تثيرها العقول المحدودة في معقل المحسوسات المظلمة، هكذا ينكشف عند المتمسّكين بأذيال أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي حقائق ضل في سبيل الوصول إليها الأفكار الناقصة.

( ونعرض للنص الكامل من أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها حسبما ذكره الشيخ الصدوق في (عيون أخبار الرضا) مع مقتطفات من تعليقات الشيخ الجعفري عليها... لقد قدم الوفد الذي كان مع عمران جملة من المسائل، وبعدما أجاب الإمامعليه‌السلام عن أسئلة الوفد الذي هو من كبار علماء النصارى، واليهود والصابئة، قال لهم: ( يا قوم إن كان فيكم أحد يخالف الإسلام، وأراد أن يسأل، فليسأل غير محتشم... )

فانبرى إليه عمران الصابئ، وكان متطلّعاً بصيراً في علم الكلام فخاطب الإمام بأدب وإكبار قائلا: ( يا عالم الناس لولا أنّك دعوت إلى مسألتك، لم أقدم عليك بالمسائل، فلقد دخلت الكوفة والبصرة، والشام، والجزيرة ولقيت المتكلّمين، فلم أقع على أحد يثبت لي واحداً - يعني أنّ الله تعالى واحد لا ثاني له - ليس غيره قائماً بوحدانيته أفتأذن لي أن أسألك... )

عرض الصابئ إلى عمق مسألته، وأنّه لم يهتد لحلها علماء الكوفة والبصرة والشام والجزيرة، ويطلب من الإمامعليه‌السلام حلها، فقابله الإمام ببسمات فيّاضة بالبشر قائلاً: ( إن كان في الجماعة عمران الصابئ فأنت هو... ).

( أنا هو )

١٠٢

سل يا عمران، وعليك بالنصفة، وإيّاك والخطل(1) والجور... ).

وأطرق الصابئ بوجهه إلى الأرض، وقال بنبرات تقطر أدباً وإجلالاً للإمام: ( والله يا سيدي ما أريد إلاّ أن تثبت لي شيئاً أتعلق به فلا أجوزه... )

لقد أعرب الصابئ عن نواياه الحسنة وأنّه يريد الحقيقة، والوصول إلى الواقع، ولا صلة له بغير ذلك، فقالعليه‌السلام : ( سل عمّا بدا لك... ).

وكان المجلس مكتظاً بالعلماء والقادة، وفي طليعتهم المأمون فانضم بعضهم إلى بعض، وانقطعوا عن الكلام ليسمعوا أسئلة الصابئ وجواب الإمام عنها، وتقدّم الصابئ بأسئلته.

س1: ( أخبرني عن الكائن الأوّل، وعمّا خلق... ) أمّا المسؤول عنه في هذه الكلمات فهو الشيء الأوّل والمادة الأُولى التي خلق الله تعالى الأشياء منها، وليس المسؤول عنه وجود الله المبدع العظيم فإنّه من الأمور الواضحة التي لا يشك فيها من يملك وعيه وإرادته، فإنّ جميع ما في الكون تدلّل على وجود خالقها فإنّه من المستحيل أن يوجد المعلول من دون علّته... ولنستمع إلى جواب الإمامعليه‌السلام عن هذه المسألة.

ج 1: ( أمّا الواحد فلم يزل واحداً كائنا، بلا حدود، ولا أعراض، ولا يزال كذلك، ثم خلق خلقاً مبتدعاً مختلفاً بأعراض وحدود مختلفة، لا في شيء أقامه، ولا في شيء حده، ولا على شيء حذاه، ومثله له، فجعل الخلق من بعد ذلك صفوة، وغير صفوة، واختلافاً وائتلافاً، وألواناً وذوقاً وطعماً لا لحاجة كانت منه إلى ذلك، ولا لفضل منزلة لم يبلغها إلاّ به ولا رأي لنفسه فيما خلق زيادة ولا نقصاناً... ).

وحكى هذا المقطع من جواب الإمامعليه‌السلام ما يلي:

أوّلاً: إنّ الله تعالى واحد لا شيء معه، وهو مجرّد من الحدود والأعراض التي هي من صفات الممكن، فهو كائن واحد، ما زال ولا يزال، وليست وحدته عددية أو نوعية أو جنسية، وإنّما بمعنى عدم ارتباطه بأي شيء مادي أو غير مادي، فهو بمرتبة من الكمال لا يشابهه أي شيء من الممكنات التي نسبتها إليه نسبة الصانع إلى المصنوع، فتبارك الله.

ثانياً: إنّ النظرة البدوية في الأشياء أنّ كل صورة لا بد لها من مادة تقوم وتحل

___________________________

(1) الخطل: المنطق الفاسد.

١٠٣

بها، ولكن هذا بالنسبة إلى غير الواجب تعالى أمّا هو فإنّه يخلق الأشياء لا من شيء كان، ولا من شيء خلق، وإنّما يقول للشيء كن فيكون، فقد ابتدع خلق الأشياء لا على شيء حذاه، ومثله له، فهو القوّة الكبرى المبدعة لخلق الأشياء لا لحاجة منه إليها، فهو المصدر الوحيد للفيض على جميع الكائنات.

والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( تعقل هذا يا عمران...؟ ).

( نعم والله يا سيدي... ).

( اعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجة، لم يخلق إلاّ مَن يستعين به على حاجته، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنّ الأعوان كلّما كثروا كان صاحبهم أقوى، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه كان لم يحدث من الخلق شيئاً إلاّ حدثت فيه حاجة أخرى؛ ولذلك أقول: لم يخلق الخلق لحاجة ولكن تقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض، وفضل بعضهم على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل... ).

وهذا الكلام متمّم لما قبله من أنّ الله تعالى خلق الخلق في غنى عنهم فهم المحتاجون إلى فيضه ورحمته وعطائه، فهو الجواد المطلق الذي بسط الرحمة والإحسان على جميع الموجودات والكائنات، وكان من فضله أنّه فضّل بعض مخلوقاته على بعض بلا حاجة منه إلى من فضل، ولا نقمة منه على من أذل.

س 2: ( يا سيدي هل كان الكائن معلوماً في نفسه عند نفسه..؟ ).

وهذا السؤال عميق للغاية، وتوضيحه - حسبما ذكره الشيخ الجعفري - أن تحصل شيء وتحققه في الانكشاف العلمي كواقع ذلك الشيء ينحل إلى هوية نفسه، وطارديته لغيره، وبذلك يكون محدوداً، فإنّ الحجر ما لم يضف إلى هويته عدم جميع أضداده لا يتحصّل تحصلاً علمياً... فإنّ النفس المعلومة ما لم يلاحظ طرد جميع ما سواها عنها لا تكون معلومة ومحصلة عند العالم وكأنّ هذا هو الموجب لسؤال عمران عن كونه تعالى معلوماً عند نفسه، فحينئذٍ لو أجاب الإمام بثبوته لاستشكل عمران هل كان تحصيل نفسه عند نفسه ملازماً لطرد غيره من المعقولات أم لا؟.

ج 2: قالعليه‌السلام : ( إنّما يكون المعلمة بالشيء لنفي خلافه، وليكن الشيء نفسه، بما نفى عنه موجوداً، ولم يكن هناك شيء يخالفه، فتدعوه الحاجة إلى

١٠٤

نفي ذلك الشيء عن نفسه بتحديد ما علم منها... والتفت الإمام إلى عمران فقال له: ( أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم والله يا سيدي... ).

وحاصل ما أجاب به الإمامعليه‌السلام أنّ ما ذكره الصابئ إنّما يصح فيما لو كان المعلوم مقارناً بعدّة أشياء تخالفه فيلزم حينئذٍ نفي تلك الأشياء لتحصيل المعلوم إلاّ أنّ الله تعالى خالق الكون وواهب الحياة ما لم يكن هناك شيء يقارنه فلا حاجة إلى نفيه ليقرّر إرادته بذلك النفي.

س 3: أخبرني بأيّ شيء علم ما علم أبضمير أم بغير ضمير؟

أراد الصابئ بهذا السؤال إلزام الإمام بالقول بالتركيب في ذاته تعالى، من جهة أنّه ذو ضمير.

ج 3: أرأيت إذا علم بضمير هل يجد بداً من أن يجعل لذلك الضمير حداً تنتهي إليه المعرفة؟ أراد الإمام أنّ ذلك الضمير لا بد أن يعرف حقيقته وماهيته، وقد وجّه الإمام إليه السؤال التالي: ( فما ذلك الضمير؟... ).

فانقطع الصابئ عن الكلام ولم يستطع أن يقول شيئاً، فقد سد الإمام عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات ما يذهب إليه، والتفت الإمام إليه قائلاً: ( لا بأس إن سألتك عن الضمير نفسه فتعرفه بضمير آخر؟ فإن قلت: نعم، أفسدت عليك قولك... ).

وأقام الإمام الحجّة الكاملة والبرهان القاطع على بطلان ما التزم به الصابئ من أنّه تعالى يعلم بواسطة الضمير، وعلى هذا فلا بد من ضمير آخر يقع به الإدراك لذاته تعالى، وهذا الضمير الآخر يتوقّف على ضمير غيره، وهكذا فيلزم التسلسل، وهو ما لا نهاية له، وإن توقف الضمير الثاني على الضمير الأول فيلزم منه الدور والأمران ممّا أجمع على فسادهما، لترتب الأمور الفاسدة عليها حسبما ذكره الفلاسفة والمنطقيون وتمم الإمامعليه‌السلام حجته وبرهانه بقوله: ( يا عمران أليس ينبغي أن تعلم أنّ الواحد ليس يوصف بضمير، وليس يقال له: أكثر من فعل وعمل وصنع، وليس يتوهّم منه مذاهب وتجزية كمذاهب المخلوقين وتجزيتهم، فاعقل ذلك، وابن عليه ما علمت صواباً... ).

١٠٥

أراد لإمامعليه‌السلام أنّ صدور الأفعال والأعمال المختلفة من الله تعالى ليست على غرار غيره من الممكنات التي تحتاج إلى العلل والأسباب كالعقل، وغيره من سائر الجوارح الظاهرية، فإنّه تعالى يستحيل عليه ذلك.

س 4: ( يا سيدي ألا تخبرني عن حدود خلقه كيف هي؟ وما معانيها؟ وعلى كم نوع يكون؟... ).

واستفسر عمران عن حدود المخلوقات التي تميز بعضها عن بعض فأجابه الإمام:

ج 4: ( قد سألت فاعلم أنّ حدود خلقه على ستة أنواع: ملموس، وموزون، ومنظور إليه، وما لا ذوق له، وهو الروح، ومنها منظور إليه، وليس له وزن، ولا لمس، ولا حس، ولا لون، ولا ذوق، والتقدير والأعراض، والصور، والطول، والعرض، ومنها العمل والحركات التي تصنع الأشياء وتعملها، وتغيّرها من حال إلى حال وتزيدها، وتنقصها، فأمّا الأعمال والحركات فإنّها تنطلق؛ لأنّه لا وقت لها أكثر من قدر ما يحتاج إليه، فإذا فرغ من الشيء انطلق بالحركة، وبقي الأثر، ويجري مجرى الكلام الذي يذهب ويبقى أثره... ).

وحفل جواب الإمامعليه‌السلام بذكر الخواص والصفات التي تتميّز بها الأشياء سواء أكانت من الكائنات الحيّة أم من غيرها.

س 5: يا سيدي: ألا تخبرني عن الخالق إذا كان واحداً لا شيء غيره، ولا شيء معه، أليس قد تغيّر بخلقه الخلق... ).

ومعنى هذا السؤال أنّ الحقائق الطبيعية، التي أوجدها الله تعالى، أنّها توجب تغير الخالق العظيم بتغييرها، وهذا إنّما يلزم على القول باتحادها معه تعالى ذاتاً، وهذا مستحيل.

ج 5: ( قديم لم يتغيّر عزّ وجل بخلقه الخلق، ولكن الخلق يتغيّر، بتغييره... ).

وحاصل جواب الإمامعليه‌السلام أنّ الخالق العظيم لما كان هو الصانع والموجد للأشياء، وهو قديم فلا يلزم منه التغيير بتغيير الممكنات والكائنات.

س 6: ( يا سيدي فبأي شيء عرفناه؟... ).

ج 6: ( بغيره... إنّ جميع ما في الكون ممّا يرى، وممّا لا يرى يدلل على وجود الخالق العظيم،

١٠٦

لقد عرفناه بمخلوقاته، وآمنا به بما نشاهده من بدائع صنعته، وقد استبان بصورة واضحة لا غموض فيها في هذه العصور التي غزا الإنسان فيها الفضاء الخارجي، فقد ظهر للبشرية عظيم صنعته تعالى بما أودعه في هذا الفضاء من الكواكب التي لا تحصى ولا تعد، وكلّها تسير بانتظام، ودقّة، ولو اختلفت في مسيرها لحظة لتصادمت، وتلاشت، ولم يبق لها اثر، فسبحان الله المبدع الحكيم.

س 7: أي شيء غيره؟

ج 7: ( مشيئته، واسمه وصفته، وما أشبه ذلك، وكل ذلك محدث، مخلوق، مدبّر... ).

لقد عرفنا الله بمشيئته واسمه وصفاته التي دلّت عليه سبحانه، ففي دعاء الصباح: ( يا مَن دلّ على ذاته بذاته ).

وكل ما في الكون من موجودات تستند إليه استناد المصنوع إلى الصناع.

س 8: يا سيدي أي شيء هو؟

ج 8: ( هو نور، بمعنى أنّه هادٍ خلقه من أهل السماء، وأهل الأرض، وليس لك عليّ أكثر من توحيدي إيّاه... ).

لقد أراد عمران بسؤاله معرفة حقيقة الله تعالى، متوهّماً أنّه تعالى كسائر الممكنات والموجودات، ولمّا كان ذلك مستحيلاً، إذ كيف يحيط الإنسان الذي لا يعرف ذاته وما فيها من الأجهزة الدقيقة، كيف يعرف حقيقة الخالق العظيم المصور والمبدع للأكوان، وقد أجاب الإمامعليه‌السلام أنّه يعرف بأوصافه الظاهرية من هدايته لخلقه وغير ذلك من الأدلة الصريحة الواضحة التي تنادي بوجود خالقها العظيم.

س 9: يا سيدي: أليس قد كان ساكتاً قبل الخلق لا ينطق، ثم نطق...

ج 9: ( لا يكون السكوت إلاّ عن نطق قبله، والمثل في ذلك أنّه لا يقال للسراج: هو ساكت لا ينطق، ولا يقال: إنّ السراج ليضيء، فما يريد أن يفعل بنا لأنّ الضوء من السراج ليس بفعل منه، ولا كون، وإنّما هو ليس شيء غيره، فلمّا استضاء لنا، قلنا: قد أضاء لنا، حتى استضأنا به، فبهذا تستبصر أمرك... ).

ومعنى جواب الإمامعليه‌السلام أنّ السكوت والنطق إنّما يعرضان موضوع قابل لهما، توارد العدم والملكة وحيث إنّ نطق الله تعالى ليس على غرار ما يتصف به الناطقون من الممكنات، فيصح عليه النطق، كما يصح عليه السكوت وقد ذهبت

١٠٧

الشيعة إلى أنّ التكلّم من صفات الأفعال، لا يقوم بذاته تعالى قوام الأوصاف الذاتية، فإنّه تعالى هو الذي خلق النطق والكلام إذا أراده، وقد مثّل الإمامعليه‌السلام لذلك بالسراج فإنّه لا يقال له إنّه ساكت لا ينطق، كما أنّ إسناد الإضافة إلى السراج ليس اختياريا له، هذه بعض الاحتمالات في تفسير كلام الإمامعليه‌السلام .

س 10: ( يا سيدي: فإنّ الذي كان عندي أنّ الكائن قد تغيّر في فعله عن حاله بخلقه الخلق... ).

ج 10: ( يا عمران في قولك إنّ الكائن يتغيّر في وجه من الوجوه، حتى يصيب الذات منه ما يغيره، هل تجد النار تغيرها تغير نفسها، وهل تجد الحرارة تحرق نفسها؟ أو هل رأيت بصيراً قط رأى بصره؟... ).

إنّ هذا السؤال من عمران قد تقدّم، وقد أجابه الإمامعليه‌السلام وقد زادهعليه‌السلام توضيحاً، فقال له إنّ الكائن لا يتغيّر بوجه من الوجوه، فأفعال النفس - مثلاً - التي تصدر منها لا توجب زيادة فيها ولا نقصاناً، وهناك مثال آخر وهو البصر، فإن صدر الرؤية منه لا توجب زيادة فيه ولا نقصانا.

س 11: ( ألا تخبرني يا سيدي أهو في الخلق، أم الخلق فيه؟... )

ج 11: ( أجل هو يا عمران عن ذلك، ليس هو في الخلق، ولا الخلق فيه تعالى عن ذلك، وسأعلمك ما تعرفه، ولا قوّة إلاّ بالله، أخبرني عن المرآة أنت فيها، أم هي فيك؟ فإن كان ليس واحد منكما في صاحبه، فبأي شيء استدللت بها على نفسك يا عمران...؟ ).

لقد أحال الإمامعليه‌السلام حلول الله تعالى في خلقه، وحلولهم فيه، ومثّل لذلك بالصورة التي تنعكس في المرآة فإنّها لا تحل فيها، وكذلك المرآة لا تحل في الصورة، وإنّما النور هو الذي أوجب رؤية الصورة في المرآة، وهو غير حال في شيء منهما، يقول ابن الفارض:

بوحدته دامت لها كل كثرة

فصحت وقد آنت لها كل علة

فقد صار عين الكل فردا لذاته

وإن دخلت أفراده تحت عدة

نظرت فلم أبصر سوى محض وحدة

بغير شريك فد تغطّت بكثرة

وهنا بحوث فلسفية عميقة أعرضنا عن ذكرها إيثاراً للإيجاز.

س 12: ( بضوء بيني وبينها... ).

١٠٨

وهذا السؤال مرتبط بما قبله، وقد أوضحناه.

ج 12: هل ترى من ذلك الضوء أكثر ممّا تراه في عينك؟

عمران: نعم.

الإمام: فأرناه.

وسكت عمران، ولم يدر ما يقول، فقد سدّ الإمام عليه كل نافذة يسلك منها، وواصل الإمام حديثه قائلاً: ( فلا أرى النور إلاّ وقد دلّك، ودلّ المرآة على أنفسكما من غير أن يكون في واحد منكما، ولهذا أمثال كثيرة غير هذا لا يجد الجاهل فيها مقالاً ولله المثل الأعلى ).

تأجيل المناظرة:

وحضر وقت الصلاة، ولم يجد الإمام بدّاً من تأجيل المناظرة فالتفت إلى المأمون، فقال له: الصلاة حضرت، وخاف عمران من عدم استئناف الحوار بينه وبين الإمام، فقال له: ( يا سيدي لا تقطع عليّ مسألتي، فقد رقّ قلبي... ).

فأوعده الإمامعليه‌السلام بالعودة إلى مناظرته، ونهض الإمام فأدّى فريضة الصلاة.

استئناف المناظرة:

وعادت الجلسة، وقد حضرها المأمون، وكبار العلماء والقادة، والتفت الإمامعليه‌السلام إلى عمران فقال له: ( سل يا عمران... ).

س 13: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الله عزّ وجل، هل يوحد بحقيقة أو يوحد بوصف؟... ).

ج 13: إنّ الله المبدأ، الواحد الكائن الأول، لم يزل واحداً لا شيء معه، فرداً لا ثاني معه، لا معلوماً - يعني بحقيقته - ولا مجهولاً، ولا محكماً، ولا متشابهاً، ولا مذكوراً، ولا منسياً، ولا شيئاً يقع عليه اسم شيء من الأشياء، ولا من وقت كان ولا إلى وقت يكون، ولا بشيء قام، ولا إلى شيء يقوم ولا إلى شيء استند، ولا في شيء استكن، وذلك كلّه قبل لخلق(1) إذ لا شيء غيره، وما أوقعت عليه من الكل

____________________

(1) في نسخة قبل خلقه الخلق.

١٠٩

فهي صفات محدثة، وترجمة يفهم بها مَن فهم. واعلم أنّ الإبداع والمشيئة والإرادة معناها واحد، وأسماؤها ثلاثة، وكان أوّل إبداعه ومشيئته وإرادته التي جعلها أصلاً لكل شيء، ودليلاً على كل شيء مدرك، وفاصلاً لكل مشكل، وبتلك الحروف تفريق كل شيء من اسم حق وباطل أو فعل أو مفعول، أو معنى أو غير معنى، وعليها اجتمعت الأمور كلّها ولم يجعل للحروف في إبداعه لها معنى غير أنفسها، تتناهى ولا وجود لها؛ لأنّها مبدعة بالإبداع. والنور في هذا الموضع أوّل فعل الله الذي هو نور السماوات والأرض، والحروف هي المفعول التي عليها مدار الكلام، والعبادات كلّها من الله عزّ وجل علّمها خلقه، وهي ثلاثة وثلاثون حرفاً، فمنها ثمانية وعشرون حرفاً تدل على لغات العربية، ومن الثمانية والعشرين اثنان وعشرون حرفا تدل على لغات السريانية والعبرانية، ومنها خمسة أحرف متحرفة في ساير اللغات من العجم والأقاليم، واللغات كلها، وهي خمسة أحرف تحرفت من الثمانية والعشرين حرفاً من اللغات فصارت الحروف ثلاثة وثلاثين حرفاً، فأمّا الخمسة المختلفة ( فيتجنح ) لا يجوز ذكرها أكثر ممّا ذكرناه ثم جعل الحروف بعد إحصائها، وأحكام عدتها فعلامته كقوله عزّ وجل:( كن فيكون ) وكن منه صنع، وما يكون به المصنوع، فالخلق الأوّل من الله عزّ وجلّ الإبداع لا بوزن له، ولا حركة، ولا سمع، ولا لون، ولا حس، والخلق الثاني الحروف، لا وزن لها، ولا لون، وهي مسموعة موصوفة، غير منظور إليها، والخلق الثالث ما كان من الأنواع كلها محسوساً، ملموساً، ذا ذوق منظور إليه والله تبارك وتعالى سابقاً للحروف، والحروف لا تدل على غير نفسها. وبهر المأمون، ولم يفهم أكثر محتويات هذه الكلمات العميقة التي تحتاج إلى وقت طويل لبيانها، وقال للإمام: ( كيف لا تدل - أي الحروف - على غير أنفسها؟... ). فأجابه الإمام موضحاً له الأمر قائلاً:

( إنّ الله تبارك وتعالى لا يجمع منها شيئاً لغير معنى أبداً، فإذا ألف منها أحرفاً أربعة أو خمسة، أو ستة، أو أكثر من ذلك، أو أقل لم يؤلّفها بغير معنى ولم يكن إلاّ لمعنى محدث لم يكن قبل ذلك شيئاً... ).

س 14: كيف لنا بمعرفة ذلك؟...

ج 14: أمّا المعرفة فوجه ذلك وبيانه: إنّك تذكر الحروف إذا لم ترد بها غير

١١٠

نفسها ذكرتها فرداً، فقلت: ا ب ت ث ج ح خ حتى تأتي على آخرها، فلم تجد لها معنى غير أنفسها، وإذا ألفتها وجعلت منها أحرفاً، وجعلتها اسماً وصفة لمعنى، ما طلبت، ووجه ما عنيت، كانت دليلة على معانيها داعية إلى الموصوف بها، أفهمته؟

( نعم ).

وواصل الإمام حديثه في بيان معاني الحروف عند تركيبها قائلاً: ( واعلم أنّه لا يكون صفة لغير موصوف، ولا حد لغير محدود، والصفات والأسماء كلها تدل على الكمال، والوجود ولا مثال على الإحاطة، كما تدل الحدود التي هي التربيع والتثليث، والتسديس؛ لأنّ الله عزّ وجل تدرك معرفته بالصفات والأسماء، ولا تدرك بالتحديد، بالطول والعرض، والقلّة والكثرة، واللون والوزن، وما أشبه ذلك، وليس يحل بالله، وتقدس شيء من ذلك حتى يعرفه خلقه بمعرفتهم أنفسهم بالضرورة التي ذكرنا. ولكن يدل على الله عزّ وجل بصفاته، ويدرك بأسمائه، ويستدل عليه بخلقه حتى لا يحتاج في ذلك الطالب المرتاد إلى رؤية عين، ولا استماع أذن، ولا لمس كف، ولا إحاطة بقلب، ولو كانت صفاته جلّ ثناؤه لا تدل عليه، وأسماؤه لا تدعو إليه، والمعلمة من الخلق لا تدركه لمعناه كانت العبادة من الخلق لأسمائه وصفاته دون معناه، فلولا أنّ ذلك كذلك لكان المعبود الموحد غير الله لأنّ صفاته وأسماءه غيره... أفهمت يا عمران؟ )

( نعم يا سيدي زدني... )

وواصل الإمام حديثه الممتع، وقد استولى على مَن حضر من العلماء والقادة، قائلاً: ( إيّاك وقول الجهّال من أهل العمى والضلال الذين يزعمون أن الله جل وتقدس موجود في الآخرة للحساب في الثواب والعقاب، وليس بموجود في الدنيا للطاعة والرجاء ولو كان في الوجود لله عزّ وجل نقص واهتضام لم يوجد في الآخرة أبداً، ولكن القوم تاهوا وعموا، وصموا عن الحق من حيث لا يعلمون، وذلك قوله عزّ وجل:( وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ) (1) .

يعني أعمى عن الحقائق الموجودة، وقد علم ذوو الألباب أنّ الاستدلال على ما هناك لا

____________________

(1) سورة الإسراء: آية 72.

١١١

يكون إلاّ بما ها هنا، ومَن أخذ علم ذلك برأيه، وطلب وجوده وإدراكه عن نفسه دون غيرها لم يزدد من علم ذلك إلاّ بعداً؛ لأنّ الله عزّ وجل جعل علم ذلك خاصة عند قوم يعقلون ويعلمون ويفهمون... ).

س 15: ( يا سيدي ألا تخبرني عن الإبداع أخلق هو أم غير خلق؟... ).

علّق الشيخ الجعفري على هذه المسألة بقوله: إنّ هذه المسألة أيضاً ممّا أعيى الأذهان والعقول البشرية؛ لأنّها التي أوجبت افتراق المسالك والفرق المختلفة فمنهم مَن قال: باستحالة الإبداع مطلقاً أكان من الواجب، أم من الممكن، ومن قبيل المواد والصور أو العقول والنفوس وغيرها، ومنهم من جوزه مطلقاً، ومنهم من حصر إمكان الإبداع على الله تعالى على نحو العموم أي إنّه تعالى قادر على أن يبدع أي موجود شاء دون مادة سابقة له، وقع التغير عليه، وقد قالوا: إنّه مقتضى قدرته المطلقة وقابلية الموضوع ومنهم من ذهب مذاهب أخرى(1) .

ج 15: بل خلق ساكن، لا يدرك بالسكون، وإنّما صار خلقاً لأنّه شيء محدث، والله تعالى الذي أحدثه فصار خلقاً له، وإنّما هو الله عزّ وجل خلقه لا ثالث بينهما ولا ثالث غيرهما، فيما خلق الله عزّ وجل لم يعد أن يكون خلقه، وقد يكون الخلق ساكناً ومتحركاً ومختلفاً ومؤتلفاً ومعلوماً ومتشابهاً، وكل ما وقع عليه حد فهو خلق الله عزّ وجل، واعلم أنّ كل ما أوجدتك الحواس فهو معنى مدرك للحواس، وكل حاسة تدل عل ما جعل الله عزّ وجل لها في إدراكها، والفهم من القلب بجميع ذلك كله، واعلم أنّ الواحد الذي هو قائم بغير تقدير ولا تحديد خلق خلقاً مقدراً بتحديد وتقدير، وكان الذي خلق خلقين اثنين: التقدير والمقدر، وليس في كل واحد منهما لون ولا وزن، ولا ذوق، فجعل أحدهما يدرك بالآخر وجعلهما مدركين بنفسهما، ولم يخلق شيئاً فرداً قائماً بنفسه دون غيره للذي أراد من الدلالة على نفسه واثبات وجوده فالله تبارك وتعالى فرد واحد لا ثاني معه يقيمه، ولا يعضده، ولا يكنه، والخلق ممّا يمسك بعضه بعضاً بإذن الله تعالى ومشيئته، وإنّما اختلف الناس في هذا الباب حتى تاهوا وتحيّروا وطلبوا الخلاص من الظلمة بالظلمة في وصفهم الله تعالى بصفة أنفسهم، فازدادوا من الحق بعداً، ولو وصفوا الله عزّ وجل بصفاته،

____________________

(1) تحف العقول (ص 527).

١١٢

ووصفوا المخلوقين بصفاتهم لقالوا بالفهم واليقين، ولما اختلفوا، فلمّا طلبوا من ذلك ما تحيروا فيه، ارتبكوا، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم... )

س 16: ( أشهد أنّه كما وصفت، ولكن بقيت لي مسألة... ).

( سل عمّا أردت... ).

( أسألك عن الحكيم في أي شيء هو؟ وهل يحيط به شيء؟ وهل يتحوّل من شيء إلى شيء؟ أو به حاجة إلى شيء...؟ ).

ج 16: أخبرك يا عمران فاعقل ما سألت عنه، فإنّه مَن أغمض ما يرد على الخلق في مسائلهم، وليس يفهم المتفاوت عقله، العازب حلمه، ولا معجز عن فهمه أولو العقل المنصفون، أمّا أول ذلك فلو كان خلق ما خلق لحاجة منه لجاز لقائل أن يقول: يتحول إلى ما خلق لحاجة إلى ذلك، ولكنّه عزّ وجل لم يخلق شيئاً لحاجة ولم يزل ثابتا لا في شيء، ولا على شيء إلاّ أنّ الخلق يمسك بعضه بعضاً، ويدخل بعضه في بعض، ويخرج منه،

والله جلّ وتقدّس بقدرته يمسك ذلك كله، وليس يدخل في شيء ولا يخرج منه، ولا يؤوده حفظه، ولا يعجز عن إمساكه، ولا يعرف أحد من الخلق كيف ذلك؟ إلاّ الله عزّ وجل، ومن أطلعه عليه من رسله، وأهل سره، والمستحفظين لأمره وخزانه، القائمين بشريعته، وإنّما أمره كلمح البصر أو هو أقرب، إذا شاء شيئا فإنّما يقول له( كن فيكون ) بمشيئته وإرادته وليس شيء أقرب إليه من شيء، ولا شيء أبعد منه من شيء... أفهمت يا عمران؟... ).

( نعم يا سيدي... ).

إنّ الإنسان مهما أوتي من علم فهو عاجز عن معرفة نفسه وما فيها من الأجهزة الدقيقة المذهلة، فكيف ليعرف أو يحيط علماً بالخالق العظيم، مبدع الأكوان، وواهب الحياة، يقول ابن أبي الحديد:

فيك يا أعجوبة الكون غدا الفكر عليلا

فكري كلّما دان شبراً منك راح ميلا

أنت حيّرت ذوي اللب، وبلبلت العقولا

إنّ فكر الإنسان محدود فكيف يعرف حقيقة الله تعالى، نعم عرفناه وآمنّا به بمخلوقاته، فكل ذرّة في هذا الوجود تنادي بوجود الخالق العظيم الذي لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السماء والأرض.

١١٣

إسلام الصابئ:

ولمّا رأى عمران الصابئ الطاقات الهائلة من العلم التي يتمتع بها الإمامعليه‌السلام ، والتي منها أجوبته الحاسمة من أعمق المسائل الفلسفية التي لا يهتدي لحلّها إلاّ أوصياء الأنبياء الذين منحهم الله العلم وفصل الخطاب، أعلن عمران إسلامه وطفق يقول: ( أشهد أنّ الله تعالى على ما وصفت، ووحدت، وأشهد أنّ محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله عبده المبعوث بالهدى، ودين الحق... ). ثم خرّ ساجداً لله تعالى وأسلم، وبهر العلماء والمتكلمون من علوم الإمام، ومواهبه وعبقرياته، وراحوا يحدثون الناس عن فضل الإمام وسعة علومه، وانصرف المأمون وهو غارق بالألم، قد أترعت نفسه بالحقد والحسد للإمام:

خوف محمد على الإمام:

وخاف عمّ الإمام محمد بن جعفر عليه من المأمون، وكان حاضرا في المجلس، ورأى كيف تغلب على عمران الصابئ الذي هو في طليعة فلاسفة العصر، فاستدعى الحسن بن محمد النوفلي، وكان من أصحاب الإمام فقال له: ( يا نوفلي أما رأيت ما جاء به صديقك - يعني الإمام -؟

لا والله ما ظننت أنّ علي بن موسى الرضا خاض في شيءٍ قط، ولا عرفناه به، إنّه كان يتكلّم بالمدينة، أو يجتمع إليه أصحاب الكلام؟...

( وراح النوفلي يعرفه بعلم الإمام وفضله قائلاً: ( قد كان الحجاج يأتونه فيسألونه عن أشياء من حلالهم وحرامهم فيجيبهم، وربّما كلم مَن يأتيه يحاججه... ).

وراح محمد يبدي مخاوفه من المأمون على ابن أخيه قائلاً: ( إنّي أخاف عليه أن يحسده هذا الرجل فيسمّه أو يفعل به بليّة، فأشر عليه بالإمساك عن هذه الأشياء... ).

وكان النوفلي يظن خيراً بالمأمون، ولا يخاف منه على الامام، فقال لمحمد: ) ما أراد الرجل - يعني المأمون - إلاّ امتحانه ليعلم هل عنده شيء من علوم آبائه؟... ).

ولم يقنع محمد بكلام النوفلي، فقد كان يظن السوء بالمأمون وراح يقول له: ( قل له: إنّ عمّك قد كره هذا الباب، وأحب أن تمسك عن هذه الأشياء

١١٤

لخصال شتّى... ).

وكان عمّ الإمام مصيباً في حدسه، عالماً بما تكنّه الأسرة العباسية من العداء والحقد لأهل البيتعليهم‌السلام ، وقد أثارت أسئلة الصابئ وإسلامه على يد الإمام أحقاد المأمون فقدم اغتيال الإمام كما سنوضّح ذلك في غضون هذا الكتاب.

ونقل النوفلي كلمات محمد إلى الإمامعليه‌السلام فشكره على ذلك، ودعا له بالخير.

تكريم الإمام لعمران:

وكسب الإمامعليه‌السلام في مناظرته إسلام عمران الذي هو في طليعة علماء عصره، فقد بعث خلفه، فلمّا مثل عنده رحّب به وقابله بمزيد من الحفاوة والتكريم، ودعا له بكسوة فخلعها عليه وأعطاه عشرة آلاف درهم، ففرح عمران بذلك وأخذ يدعو للإمام ويشكره على ذلك قائلاً: ( جُعلت فداك حكيت فعل جدّك أمير المؤمنين عليه السلام ).

وجعل عمران يتردد على الإمام ويكتسب من فيض علومه وصار بعد ذلك فيما يقول المؤرّخون داعية من دعاة الإسلام، وجعل المتكلمون من أصحاب المقالات والبدع يفدون عليه، ويسألونه عن مهام المسائل وهو يجيبهم عنها، حتى اجتنبوه، وأوصله المأمون بعشرة آلاف درهم، كما أعطاه الفضل بن سهل مالاً، وولاه الإمام على صدقات بلخ فأصاب الرغائب(1) .

أسئلة سليمان المروزي:

أمّا سليمان المروزي فكان متضلّعاً بالفلسفة، ومتمرسا في البحوث الكلامية وكان يعد في طليعة علماء خراسان، وقد انتدبه المأمون لامتحان الإمام الرضاعليه‌السلام وقد قابله بحفاوة وتكريم، وقال له: إنّ ابن عمي علي بن موسى الرضا، قدم علي من الحجاز، وهو يحب الكلام وأصحابه، فلا عليك أن تصير إلينا يوم التروية لمناظرته... ).

وخاف سليمان من ذلك، فقد ظن أنّ الإمام سوف يعجز عن أجوبة مسائله فيحقد عليه العلويون، وراح يعتذر من المأمون قائلاً:

____________________

(1) عيون أخبار الرضا 1 / 168 - 178، وذكر الطبرسي ما يقرب من ذلك في الاحتجاج، والمجلسي في البحار، والحسن بن شعبة في تحف العقول.

١١٥

( إنّي أكره أن أسأل مثله في مجلسك في جماعة من بني هاشم، فينتقص عند القوم إذا كلّمني، ولا يجوز الانتقاص عليه... ).

وتعهّد له المأمون، ووعده أن لا يصيبه أي أذى أو مكروه قائلاً: ( إنّما وجهت إليه لمعرفتي بقوتك، وليس مرادي إلاّ تقطعه عن حجّة واحدة فقط... ).

وهذا الكلام يدلل على سوء ما يضمره المأمون للإمام، وما يكنّه له من الحقد والعداء، واطمأن سليمان، من أي اعتداء عليه، وراح يقول للمأمون: ( حسبك يا أمير المؤمنين، اجمع بيني وبينه، وخلّني والذم... ).

ووجّه المأمون في الوقت رسوله إلى الإمام يطلب منه الحضور لمناظرة سليمان فأجابه الإمام إلى ذلك، وحضر معه وفد من أعلام أصحابه ضم عمران الصابئ الذي أسلم على يده وجرى حديث بينه وبين سليمان حول البداء، فأنكره سليمان، وأثبته عمران، وطلب سليمان رأي الإمام فيه فأقره، واستدل عليه بآيات من الذكر الحكيم، والتفت المأمون إلى سليمان فقال له: سل أبا الحسن عما بدا لك وعليك بحسن الاستماع والإنصاف، ووجه سليمان الأسئلة التالية للإمامعليه‌السلام :

س 1: ( ما تقول فيمَن جعل الإرادة اسماً وصفة مثل حي، وسميع، وبصير وقدير؟... ).

ج 1: إنّما تقول: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه شاء وأراد، ولم تقولوا: حدثت الأشياء واختلفت لأنّه سميع بصير، فهذا دليل على أنّهما - أي الإرادة والمشيئة - ليستا مثل سميع، ولا بصير، ولا قدير.

وانبرى سليمان قائلاً: ( فإنّه لم يزل مريداً... ).

ورد عليه الإمام: ( يا سليمان فإرادته غيره؟... ).

( نعم... ).

وذهب سليمان إلى التعدد مع أنّ الله تعالى متحد مع إرادته، وأبطل الإمام شبهته قائلاً: ( قد أثبت معه شيئاً غيره لم يزل؟... ).

( ما أثبت... ).

١١٦

( أهي - أي الإرادة - محدثة؟... ).

( لا ما هي محدثة... ).

وضيق الإمام على سليمان الخناق، وراحت أقواله تتناقض فتارة يقول بقدم الإرادة، وأخرى يقول بحدوثها، فصاح به المأمون، وطلب منه عدم المكابرة، والإنصاف في حديثه قائلاً: ( عليك بالإنصاف، أما ترى من حولك من أهل النظر؟. )

والتفت المأمون إلى الإمام قائلاً: ( كلّمه يا أبا الحسن، فإنّه متكلّم خراسان ).

وسأله الإمام قائلاً: ( أهي محدثة؟... ).

فأنكر سليمان حدوث الإرادة، فردّ عليه الإمام: ( يا سليمان هي محدثة، فإنّ الشيء إذا لم يكن أزلياً كان محدثاً، وإذا لم يكن محدثاً كان أزلياً... ).

وانبرى سليمان قائلاً:

( إرادته - أي الله - منه؟ كما أنّ سمعه وبصره وعلمه منه ).

وأبطل الإمام عليه قوله، وقائلاً: ( فأراد نفسه؟... ).

( لا... ).

وأخذ الإمام يفند مقالته قائلاً له: ( فليس المريد مثل السميع والبصير ).

وراح سليمان يتخبّط خبط عشواء فقد ضيّق الإمام عليه، وسد كل نافذة يسلك منها، قائلاً: ( إنّما أراد نفسه، كما سمع نفسه، وأبصر نفسه، وعلم نفسه... ).

وانبرى الإمام فأبطل مقالته، قائلاً له: ( ما معنى أراد نفسه؟ أراد أن يكون شيئاً، وأراد أن يكون حياً، أو سميعاً، أو بصيرا أو قديراً؟... ).

ولم يدر سليمان ماذا يقول، فأجاب: ( نعم... ).

١١٧

فقال له الإمام: ( أفبإرادته كان ذلك؟... ).

( نعم... )

وطفق الإمام يبطل مقالته، ويبدي ما فيها من التناقض قائلاً: ( فليس لقولك: أراد أن يكون حياً سميعاً، بصيراً معنى، إذا لم يكن ذلك بإرادته؟... ).

والتبس الأمر على سليمان، وراح يقول: ( بلى قد كان ذلك بإرادته... ). وعجّ المجلس بالضحك، وضحك المأمون والرضاعليه‌السلام من تناقض كلام سليمان، والتفت الإمام إلى الجماعة، وطلب منهم الرفق بسليمان، ثم قال له: ) يا سليمان، فقد حال - أي الله تعالى - عندكم عن حاله وتغير عنها، وهذا ما لا يوصف الله به... ).

وبان العجز على سليمان، وانقطع الكلام، والتفت الإمام إليه ليقيم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان أسألك عن مسألة...؟ ).

( سل جعلت فداك... ).

( اخبرني عنك وعن أصحابك تكلمون الناس بما تفقهون وتعرفون؟ أو بما لا تفقهون، ولا تعرفون... ).

( بل بما نفقه ونعلم... ).

وأخذ الإمام يقيم الحجّة والبرهان على خطأ ما ذهب إليه سليمان قائلاً: ( فالذي يعلم الناس أنّ المريد غير الإرادة، وأنّ المريد قبل الإرادة، وأنّ الفاعل قبل المفعول، وهذا يبطل قولكم: إنّ الإرادة والمريد شيء واحد... ).

وطفق سليمان قائلاً: ( جعلت فداك، ليس ذلك منه على ما يعرف الناس، ولا على ما يفقهون؟ ).

واندفع الإمام يبطل ما ذهب إليه قائلاً: ( فأراكم ادعيتم علم ذلك بلا معرفة، وقلتم: الإرادة كالسمع والبصر إذا كان ذلك عندكم على ما لا يعرف، ولا يعقل... ).

وحار سليمان ولم يطق جواباً أمام هذه الطاقات الهائلة من العلم التي يملكها

١١٨

الإمامعليه‌السلام ، واستأنف الإمام حديثه ليتم عليه الحجة قائلاً: ( يا سليمان هل يعلم الله جميع ما في الجنة والنار؟... ).

وأسرع سليمان قائلاً: ( نعم ).

وانبرى الإمام قائلاً: ( أفيكون ما علم الله تعالى أنه يكون من ذلك؟... ).

( نعم... ).

( فإذا كان حتى لا يبقى منه شيء، إلاّ كان يزيدهم أو يطويه عنهم؟... )

فأجاب سليمان: ( بل يزيدهم... ).

وأبطل الإمام قوله: ( فأراه في قولك: قد زادهم ما لم يكن في علمه، أنّه يكون... ).

وطفق سليمان يقول: ( جعلت فداك فالمريد لا غاية له... ).

ومضى الإمام يفنّد شبه سليمان قائلاً:

( فليس يحيط علمه عندكم بما يكون فيهما إذا لم يعرف غاية ذلك وإذا لم يحط علمه بما يكون فيهما، لم يعلم ما يكون فيهما قبل أن يكون، تعالى الله عزّ وجل عن ذلك علواً كبيراً... ).

وراح سليمان يعتذر ويوجه ما قاله: ( إنّما قلت: لا يعلمه، لأنه لا غاية لهذا، لان الله عزّ وجل وصفهما بالخلود، وكرهنا أن نجعل لهما انقطاعاً... ).

وراح الإمامعليه‌السلام يفنّد شبهه وأوصافه قائلاً: ( ليس علمه بذلك بموجب لانقطاعه عنهم؛ لأنّه قد يعلم ذلك، ثم يزيدهم ثم لا يقطعه عنهم، وكذلك قال الله عزّ وجل في كتابه:( كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ ) (1) وقال لأهل الجنّة:( عَطَاءً غَيْرَ

____________________

(1) سورة النساء / آية 56.

١١٩

مجذوذ ) (1) وقال عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) (2) فهو عزّ وجل يعلم ذلك لا يقطع عنهم الزيادة... أرأيت ما أكل أهل الجنة، وما شربوا يخلف مكانه؟... ).

( بلى... ).

( أفيكون يقطع ذلك عنهم، وقد أخلف مكانه؟... ).

( لا... ).

ومضى الإمامعليه‌السلام يقرّر ما ذهب إليه قائلاً: ( فكذلك كلما يكون فيها إذا أخلف مكانه فليس بمقطوع عنهم... ).

وراح سليمان يتمسك بالشبه والأوهام ثم يزيله عنها هذه الحجج البالغة التي أقامها الإمام قائلاً: ( بلى يقطعه عنهم، ولا يزيدهم... ).

وانبرى الإمام فأبطل ذلك بقوله: ( إذا يبيد فيها، وهذا يا سليمان إبطال الخلود، وخلاف الكتاب؛ لأنّ الله عزّ وجل يقول:( لهم ما يشاؤون فيها ولدينا مزيد ) (3) .

ويقول عزّ وجل: (عطاء غير مجذوذ) ويقول عزّ وجل:( وما هم عنها بمخرجين ) (4).

ويقول عزّ وجل:( خالدين فيها أبداً ) (5)

ويقول عزّ وجل:( وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ ) .

ووجم سليمان، وحار في الجواب، وراح يسد عليه كل نافذة يسلك فيها لإثبات شبهة قائلاً له: ( يا سليمان ألا تخبرني عن الإرادة أفعل هي أم غير فعل...؟ ).

( بل هي فعل... ).

ورد الإمام عليه: ( فهي محدثة لأنّ الفعل كله محدث... ). إنّ كل ممكن معلول ومصنوع وحادث إمّا واجب الوجود تعالى فهو عارٍ عن

____________________

(1) سورة هود / آية 108

(2) سورة الواقعة / آية 33.

(3) سورة ق / آية 35.

(4) سورة الحجر / آية 48.

(5) سورة البينة / آية 8.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

سنا الملك حُسين، وأمر جمال الملك بالسير معه لقتال الفرنج، فساروا في خمسة آلاف، واستمدّوا طغتكين أتابك دمشق فأمدّهم بألف وثلاثمائة، ولقوا الفرنج بين عسقلان ويافا، فتفانوا بالقتل وتحاجزوا، وافترق المسلمون إلى عسقلان ودمشق. وكان مع الفرنج (بكتاش) بن تُتُش، عدل عنه طغتكين بالملك إلى بني أخيه دقاق بن تتش، فلحق بالافرنج مغاضباً)(١) .

استيلاء الفرنج على طرابلس وبيروت:

(كانت طرابلس رجعت إلى صاحب مصر، وكان يحاصرها من الفرنج ابن المرداني صاحب (صيحيل) والمدد يأتيهم من مصر. فلما كانت سنة ثلاث وخمسين (وأربعمائة) وصل أسطول من الفرنج مع (ويمتدين) إلى صيحيل، من قَمامِصَتِهم، فنزل على طرابلس، وتشاجر مع المرداني، فبادر بغدوين صاحب القدس، وأصلح بينهم، ونزلوا جميعاً على طرابلس، وألصقوا أبراجهم بسورها. وتأخرت الميرة عنهم من مصر في البحر لركود البحر، فاقتحمها الفرنج عَنْوَةً ثاني الأضحى من سنة ثلاث وخمسين (وأربعمائة). وقتلوا ونهبوا وأسروا وغنموا. وكان واليها قد استأمن قبل فتحها جماعة من الجند فلحقوا بدمشق، ووصل الأسطول بالمدد وكفاية سنة من الأقوات بعد فتحها ففرقوه في صور وصيدا وبيروت.

واستولى الفرنج على معظم سواحل الشام. قال ابن خلدون: وإنما خصصنا هذه بالذكر في الدولة العلوية؛ لأنها كانت من أعمالهم)(٢) .

مقتل الأفضل:

(قد قدّمنا أنّ الآمر ولاّه الأفضل صغيراً ابن خمس سنين، فلمّا استجمع واشتدّ تنكَّر للأفضل، وثقلت وطأته عليه، فانتقل الأفضل إلى مصر وبنى بها داراً ونزلها، وخطب منه الأفضل ابنته فزوّجها على كره منه. وشاور الآمر أصحابه في قتله، فقال له ابن عمه عبد المجيد وكان ولي

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٤٣، ١٤٤.

(٢) نفسه: م٤ ص١٤٤، ١٤٥.

١٨١

عهده: لا تفعل، وحذّره سوء الأُحدوثة لِما اشتهر بين الناس من نصحه ونصح أبيه، وحسن ولايتهما للدولة، ولابدَّ من إقامة غيره والاعتماد عليه فيتعرّض للحذر من مثلها إلى الامتناع منه، ثم أشار عليه من مداخلة ثقته أبي عبد الله بن البطائحي في مثل ذلك، فإنه يحسن تدبيره ويضع عليه من يغتاله، ويقتل به فيسلم عرضك.

وكان ابن البطائحي فرَّاشاً بالقصر، واستخلصه الأفضل ورقّاه واستحجبه، فاستدعاه الآمر وداخله في ذلك ووعده بمكانه، فوُضع عليه رجلان فقتلاه بمصر، وهو سائر في موكبه من القاهرة منقلباً من خزانة السلاح في سنة خمس عشرة وخمسمائة، كان يفرّق السلاح على العادة في الأعياد، وثار الغبار في طريقه، فانفرد عن الموكب فبدره الرجلان وطعناه فسقط، وقتلاه، وحمل إلى داره وبه رمق، فجاءه الآمر متوجعاً، وسأله عن ماله، فقال: أما الظاهر فأبو الحسن بن أبي أسامة يعرفه، وكان أبوه قاضياً بالقاهرة وأصله من حَلب. وأمّا الباطن فإنّ البطائحي يعرفه.

ثمّ قضى الأفضل نحبه لثمان وعشرين سنة من وزارته، واحتاط الآمر على داره فوجد له ستة آلاف كيس من الذهب العين، وخمسين أردباً من الورق، ومن الديباج الملوّن والمتاع البغدادي والإسكندري، وطُرف الهند، وأنواع الطيوب والعنبر والمسك ما لا يحصى، حتى لقد كان من ذخائره دكة عاج وأَبنوس محلاّة بالفِضَّة عليها عرم متمن من العنبر زنته ألف رطل، وعلى العرم مثل طائر من الذّهب برجلين مرجاناً ومنقار زمرداً، وعينان ياقوتتان، كان ينصبها في بيته ويضوع عرفها فيعم القصر، وصارت إلى صلاح الدين)(١) .

ولاية ابن البطائحي:

قال ابن الأثير: (كان أبوه من جواسيس الأفضل بالعراق، ومات ولم يخلف شيئاً، ثم ماتت أمه وتركته معلقاً، فتعلَّم البناء أوّلاً، ثم صار يحمل الأمتعة بالأسواق ويدخل بها على الأفضل، فخف عليه واستخدمه مع الفراشين، وتقدم عنده واستحجبه.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٤٦، ١٤٧.

١٨٢

ولما قتل الأفضل ولاّه الآمر مكانه، وكان يُعرَف بابن فاتت وابن القائد، فدعاه الآمر جلال الإسلام، ثم خلع عليه بعد سنتين من ولايته للوزارة، ولقّبه المأمون، فجرى على سنن الأفضل في الاستبداد. ونكر ذلك الآمر وتنكّر له، واستوحش المأمون، وكان له أخ يُلقّب المؤتمن، فاستأذن الآمر في بعثه إلى الإسكندرية لحمايتها ليكون له ردءاً هنالك، فأذن له، وسار معه القواد وفيهم علي بن السلاّر، وتاج الملوك قائمين، وسنا الملك الجمل ودريّ الحروب وأمثالهم.

وأقام المأمون على استيحاش من الآمر، وكثرت السعاية فيه، وأنّه يدّعي أنه ولد نزار من جارية خرجت من القصر حاملاً به، وأنه بعث ابن نجيب الدولة إلى اليَمَن يدعو له، فبعث الآمر إلى اليمن في استكشاف ذلك)(١) .

مقتله:

(ولما كثرت السعاية فيه عند الآمر، وتوغّر صدره عليه، كتب إلى القواد الذين كانوا مع أخيه بثغر الإسكندرية بالوصول إلى دار الخلافة.

فهمّ لذلك علي بن سلاّر، فحضروا، واستأذن المؤتمن بعدهم في الوصول فأذن له، وحضر رمضان من سنة تسع عشرة (وخمسمائة)، فجاؤوا إلى القصر للإفطار على العادة. ودخل المأمون والمؤتمن فقبض عليهما وحبسهما داخل القصر. وجلس الآمر من الغد في إيوانه، وقرأ عليه وعلى الناس كتاباً بتعديد ذنوبهم. وترك الآمر رتبة الوزارة خلواً، وأقام رجلين من أصحاب الدواوين يستخرجان الأموال من الخراج والزكاة والمكس، ثم عزلهما لظلمهما. ثم حضر الرسول الذي بعثه إلى اليمن ليكشف خبر المأمون، وحضر ابن نجيب وداعيتُه فُقتل، وقتل المأمون وأخوه المؤتمن)(٢) .

____________________

(١) نفسه: م٤ ص١٤٧، ١٤٨.

(٢) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٤٨، ١٤٩.

١٨٣

مقتل الآمر وخلافة الحافظ:

كان الآمر مؤثراً للذّاته طموحاً إلى المعالي وقاعداً عنها، وكان يحدِّث نفسه بالنهوض إلى العراق في كل وقت ثم يقصر عنه، وكان يقرض الشعر قليلاً، ومن قوله:

أصبحت لا أرجو ولا أتقي إلا إلـهي ولـه الـفضل

جـدي نـبيي وإمامي أبي ومـذهبي التوحيد والعدل

وكانت الغداوية تحاول على قتله فيتحرَّز منهم، واتفق أن عشرة منهم اجتمعوا في بيت، وركب بعض الأيام إلى الروضة، ومرَّ على الجسر بين الجزيرة ومصر، فسبقوه فوقفوا في طريقه، فلمّا توسط الجسر انفرد عن الموكب لضيقه، فوثبوا عليه وطعنوه، وقُتلوا لحينهم.

ومات هو قبل الوصول إلى منزله سنة أربع وعشرين وخمسمائة، لتسع وعشرين سنة ونصف السنة من خلافته. وكان قد استخلص مملوكيَن وهما برغش العادل وبرعوارد هزير الملوك، وكان يؤثر العادل منهما. فلما مات الآمر تحيلوا في قيام المأمون عبد الحميد بالأمر، وكان أقرب القرابة سناً وأبو القاسم بن المستضيء معه. وقالوا: إن الآمر أوصى بأن فلانة حامل فدلته الرؤية بأنها تلد ذكراً فهو الخليفة بعدي وكفالته لعبد الحميد، فأقاموه كافلاً ولقّبوه الحافظ لدين الله، وذكروا من الوصية أن يكون هزير الملوك وزيراً والسعيد باس من موالي الأفضل صاحب الباب، وقرأوا السجل بذلك في دار الخلافة.

ولاية أبي علي بن الأفضل الوزارة ومقتله:

ولما تقرر الأمر على وزارة هزير الملوك وخلع عليه أنكر ذلك الجند، وتولّى كبر ذلك رضوان بن وغش كبيرهم، وكان أبو علي ابن الأفضل حاضراً بالقصر، فحثّه برغش العادل على الخروج حسداً لصاحبه وأوجد له السبيل إلى ذلك، فخرج وتعلّق به الجند، وقالوا: هذا الوزير ابن الوزير، وتنصّل فلم يقبلوا، وضربوا له خيمة بين القصرين وأحدقوا به وأغلقت أبواب القصر فتسوّروه وولجوا من طيقانه.

١٨٤

واضطر الحافظ إلى عزل هزير الملوك ثم قتله، وولي أبو علي أحمد بن الأفضل الوزارة، وحبس بدست أبيه ورد الناس أموال الوزارة المقضية، واستبد على الحافظ ومنعه من التصرف ونقل الأموال من الذخائر والقصر إلى داره. وكان إمامياً متشدداً، فأشار عليه الإمامية بإقامة الدعوة للقائم المنتظر، وضرب الدراهم باسمه دون الدنانير، ونقش عليها: (الله الصمد الإمام محمد) وهو الإمام المنتظر، وأسقط ذكر إسماعيل من الدعاء على المنابر وذكر الحافظ، وأسقط من الأذان: حي على خير العمل، ونعت نفسه بنعوت أمر الخطباء بذكرها على المناب. وأراد قتل الحافظ بمن قتله الآمر من إخوته، فإن الآمر أجحفهم عند نكبة الأفضل وقتلهم، فلم يقدر أبو علي على قتله فخلعه واعتقله، وركب بنفسه في المواسم وخطب للقائم مموهاً، فتنكر له أولياء الشيعة ومماليك الخلفاء، وداخل يونس الجند من كتامة وغيرهم في شأنه فاتفقوا على قتله. وترصد له قوم من الجند فاعترضوه خارج البلد وهو في موكبه وهم يتلاعبون على الخيل، ثم اعتمدوه فطعنوه وقتلوه، وأخرجوا الحافظ من معتقله وجددوا له البيعة بالخلافة. ونهب دار أبي علي، وركب الحافظ وحمل ما بقي فيها إلى القصر.

واستوزر أبا الفتح يانساً الحافظي، ولقّبه أمير الجيوش، وكان عظيم الهيبة بعيد الغور، واستبد عليه فاستوحش كل منهما بصاحبه. ويقال: إن الحاكم وضع له سمّاً في المستراح هلك به، وذلك آخر ذي الحجَّة سنة ست وعشرين وخمسمائة.

قيام حسن بن الحافظ بأمر الدولة ومكره بأبيه ومهلكه:

ولما هلك يانس أراد الحافظ أن يخلي دست الوزارة ليستريح من التعب الذي عرض منهم للدولة، وأجمع أن يفوِّض الأمور إلى ولده، وفوَّض إلى ابنه سليمان، ومات لشهرين.

فأقام ابنه الآخر حسناً، فحدَّثته نفسه بالخلافة وعزم على اعتقال أبيه، وداخل الأجناد في ذلك فأطاعوه، واطَّلع أبوه على أمره، ففتك بهم، يُقال: إنه قتل منهم في ليلة أربعين. وبعث أبوه خادماً من القصر لقتله فهزمه حسن.

١٨٥

وبقي الحافظ محجوراً، وقد أمره. وبعث حسن بهرام الأرمني لحشد الأرمن ليستظهر بهم على الجند، وثاروا بحسن وطلبوه من أبيه، ووقفوا بين القصرين، وجمعوا الحطب لإحراق القصر. واستبشع الحافظ قتله بالحديد، فأمر طبيبه ابن فرقة عنه في ذلك سنة تسع وعشرين وخمسمائة.

وزارة بهرام ورضوان بعده:

ولمّا مات حسن بن الحافظ ورحل بهرام لحشد الأرمن اجتمع الجند، وكان بهرام كبيرهم، راودوا الحافظ على وزارته، فوافقهم وخلع عليه وفوَّض إليه الأمور السلطانية، واستثنى عليه الشرعية، وتبعه تاج الدولة أفتكين في الدولة. واستعمل الأرمن وأهانوا المسلمين، وكان رضوان بن وطيس صاحب الباب وهو الشجاع الكاتب من أولياء الدولة، وكان ينكر على بهرام ويهزأ به، فولاه بهرام الغربية.

ثم جمع رضوان وأتى إلى القاهرة، ففرَّ بهرام وقصد قوص في ألفين من الأرمن ووجد أخاه قتيلاً، فلم يعرض لأهل قوص وباء بحق الخلافة وصعد إلى أسوان فامتنعت عليه بكنز الدولة. ثم بعث رضوان العساكر في طلبه مع أخيه الأكبر، وهو إبراهيم الأوحد، فاستنزله على الأمان له وللأرمن الذين معه، وجاء به فأنزله الحافظ في القصر إلى أن مات على دينه.

واستقر رضوان في الوزارة ولُقِّب بالأفضل وكان سُنّياً، وكان أخوه إبراهيم إمامياً؛ فأراد الاستبداد وأخذ في تقديم معارفه سيفاً وقلماً، وأسقط المكوس وعاقب من تصدّى لها، فتغير له الخليفة فأراد خلعه وشاور في ذلك داعي الدعاة وفقهاء الإمامية، فلم يعينوه في ذلك بشيء، وفطن له الحافظ فدس خمسين فارساً ينادون في الطرقات بالثورة عليه، وينهضون باسم الحافظ، فركب لوقته هارباً منتصف شوال سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وهبت داره.

وركب الحافظ وسكن الناس ونقل ما فيها إلى قصره. وسار رضوان يريد الشام ليستنجد التُّرك وكان في جملته شاور وهو من مصطفيه، وأرسل الحافظ الأمير ابن مضيال ليرده على الأمان فرجع وحُبِس في القصر، وقيل: وصل إلى صرخد، فأكرمه صاحبها أمين الدولة كمستكين وأقام عنده، ثم

١٨٦

رجع إلى مصر سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، فقاتلهم عند باب القصر وهزمهم، ثم افترق عنه أصحابه وأرادوا العود إلى الشام، فبعث عنه الحافظ ابن مضيال وحبسه بالقصر إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. فنقب الحبس وهرب إلى الجيزة، وجمع المغاربة وغيرهم ورجع إلى القاهرة، وقاتلهم عند جامع ابن طولون وهزمهم، ثم دخل القاهرة ونزل عند جامع الأقمر، وأرسل إلى الحافظ في المال ليفرِّقه، فبعث عشرين ألفاً على عادتهم مع الوزير، ثم استزاد عشرين وعشرين.

وفي خلال ذلك وضع الحافظ عليه جمعاً كثيراً من السودان، فحملوا عليه وقتلوه، وجاءوا برأسه إلى الحافظ.

واستمر الحافظ في دولته مباشراً لأموره، وأخلى رتبة الوزارة فلم يولّ أحداً بعده.

وفاة الحافظ وولاية ابنه الظافر:

ثم تُوفِّي الحافظ لدين الله عبد الحميد بن الأمير أبي القاسم أحمد بن المستنصر سنة أربع وأربعين وخمسمائة لتسع عشرة سنة ولم يزل في خلافته محجور الوزارة. ولمّا مات ولي بعده ابنه أبو منصور إسماعيل بعهده إليه بذلك، ولُقِّب الظافر بأمر الله.

وزارة ابن مضيال ثم ابن السلار:

كان الحافظ لمّا عهد لابنه الظافر أوصاه بوزارة ابن مضيال، فاستوزره أربعين يوماً، وكان علي بن السلاّر والياً على الإسكندرية ومعه بلارة ابنة عمه القاسم وابنه منها عباس، وتزوجت بعده بابن السلاّر. وشب عباس وتقدم عند الحافظ حتى ولي الغربية، فلم يرض ابن السلاّر وزارة ابن مضيال واتفق مع عباس على عزله.

وبلغ الخبر إلى ابن مضيال، فشكا إلى الظافر فلم يشكه، فقال ذوو الحرب: ليس هنا من يقاتل ابن السلار، فغضب الظافر ودس عليه من بني علي مصلحية، فخرج إلى الصعيد.

١٨٧

وفد ابن السلاّر إلى القاهرة، فاستوزره الظافر وهو منكر له، ولقَّبه العادل، وبعث العساكر مع العباس ربيبه في اتباع ابن مضيال، فخرج في طلبه، وكان جماعة من لواتة السودان، فتحصنوا من عباس في جامع دولام فأحرقه عليهم، وقتل ابن مضيال وجاء برأسه.

وقام ابن سلاّر بالدولة وحفظ النواميس وشد من مذاهبه أهله، وكان الخليفة مستوحشاً منه منكراً له وهو مبالغ في النصيحة والخدمة، واستخدم الرجالة لحراسته، فارتاب له جيان الخاص من حاشية الخليفة، فاعتزموا على قتله، ونُمي إليه ذلك فقبض على رؤوسهم فحبسهم، وقتل جماعة منهم وافترقوا. ولم يقدر الظافر على إنكار ذلك، واحتفل ابن السلاّر بأمر عسقلان ومنعها من الفرنج، وبعث إليها بالمدد كل حين من الأقوات والأسلحة، فلم يُغنِ ذلك عنها. وملكها الفرنج، وكان لذلك من الوهن على الدولة ما تحدث به الناس.

ولما قتل العادل ابن السلاّر جيان الخاص تأكد نكر الخليفة له، واشتد قلقه، وكان عباس بن أبي الفتوح صديقاً ملاطفاً له فكان يسكنه ويهدئه، وكان لعباس ولد اسمه نصير استخصه الظافر واستدناه ويقال: كان يهواه، ففاوض العادل عباساً في شأن ابنه عن مخالطة ابنه للظافر فلم ينته ابنه، فنهى العادل جدته أن يدخل إلى بيته، فشق ذلك على نصير وعلى أبيه، وتنكر للعادل، وزحف الفرنج إلى عسقلان فجهَّز العادل الجيوش والعساكر إليها مدداً مع ما كان بذهابه، وبعثهم مع عباس ابن أبي الفتوح، فارتاب لذلك وفاوض الظافر في قتل العادل. وحضر معهم مؤيد الدولة الأمير أسامة بن منقذ أحد أمراء شيزر، وكان عند الظافر صديقاً لعباس، فاستصوب ذلك وحث عليه.

وخرج عباس بالعساكر إلى بلبيس وأوصى ابنه نصيراً بقتله، فجاء بجماعة إلى بيت جدته والعادل نائم، فدخل عليه وضربه فلم يجهز عليه وخرج إلى أصحابه، ثم دخلوا جميعاً فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى الظافر.

ورجع عباس من بلبيس بالعساكر، فاستوزره الظافر، وقام بالدولة وأحسن إلى الناس. وأيس أهل عسقلان من المدد فأسلموا بأنفسهم بلدهم بعد حصار طويل، وكان ذلك سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.

١٨٨

مقتل الظافر وأخويه وولاية ابنه الفائز:

ولما وزر عباس للظافر وقام بالدولة كان ولده نصير من ندماء الظافر، وكان يهواه كما تقدم. وكان أسامة بن منقذ من خلصاء عباس وأصدقائه، فقبح عليه سوء المقالة في ابنه وأشار عليه بقتل الظافر، فاستدعى ابنه نصيراً وقبح عليه في شناعة الأحدوثة فيه بين الناس وأغراه باغتيال الظافر ليمحو عنه ما يتحدّث به الناس، فسأل نصير من الظافر أن يأتي إلى بيته في دعوة، فركب من القصر إليه فقتله نصير ومن جاء معه ودفنهم في داره، وذلك في محرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

وباكر القصر ولم يرَ الظافر، وسأل خدام القصر فأحسن العذر، ورجع إلى أخوي الظافر يوسف وجبريل فخبرهما بركوب الظافر إلى دار نصير، فقالا له: خبر الوزير، فلما جاء عباس من الغد أخبره بأنه ركب إلى بيت نصير ابنه ولم يعد. فاستشاط غيظاً عليه ورماه بأنّه داخل أخويه في قتله، ثم استدعاهما فقتلهما، وقتل معهما ابناً هنالك لحسن بن الحافظ، ثم أخرج ابنه أبا القاسم عيسى (ابن خمس سنين) وحمله على كتفه وأجلسه على سرير الملك، وبايع له بالخلافة ولقَّبه الفائز بالله.

ونقل عباس بسبب ذلك ما في القصر من الأموال والذخائر ما لا حد له، وعند خروجه بأخويه رأى القتلى فاضطرب وفزع، وبقي سائر أيامه يعتاده الصرع.

وزارة الصالح بن رُزِّيك:

ولما قتل الظافر وأخواه كتب النساء من القصر إلى طلائع بن رُزِّيك، وكان والياً على الاشمونين والبهنسة، وجاء الخبر بأن الناس اختلفوا على عباس بسبب ذلك، فجمع وقصد القاهرة ولبس السواد حزناً ورفع على الرماح الشعور التي بعث بها النساء حزناً. ولما عبر البحر خرج عباس وولده ودفعوا ما قدروا عليه من مال وسلاح من حاصل الدولة، ومعهما صديقهما أسامة بن منقذ. فاعترضهم الفرنج وقاتلوا، فقُتِل عباس وأُسِر ولده ونجا أسامة إلى الشام، ودخل طلائع القاهرة في ربيع سنة تسع وخمسين وخمسمائة. وجاء إلى القصر راجلاً، ثم مضى إلى دار عباس

١٨٩

ومعه الخادم الذي حضر لقتله، فاستخرجه من التراب ودفنه عند آبائه.

وخلع الفائز عليه الوزارة ولقَّبه الصالح، وكان إمامياً كاتباً أديباً، فقام بأمر الدولة وشرع في جمع الأموال والنظر في الولايات، وكان الأوحد بن تميم من قرابة عباس والياً على تنيس، وكان لما سمع بفعلة قريبه عباس جمع وقصد القاهرة، فسبقه طلائع، فلما استقل بالوزارة أعاده إلى عمله بدمياط وتنيس. ثم بعث في فداء نصير بن عباس من الفرنج، فجيء به وقتله وصلبه بباب زويلة. ثم نظر في المزاحمين من أهل الدولة ولم يكن أرفع رتبة من تاج الملوك قايماز وابن غالب، فوضع عليهما الجند فطلبوهما فهربا، ونهب دورهما، وتتبع كبراء الأمراء بمثل ذلك حتى خلا الجو، ووضع الرقباء والحجاب على القصر، وثقلت وطأته على الحرم.

ودبَّرت عمة الفائز في قتل الصالح، وفرقت الأموال في ذلك، ونمي الخبر إليه فجاء إلى القصر وأمر الاستاذين والصقالبة بقتلها فقتلوها سرّاً، وصار الفائز في كفالة عمته الصغرى. وعظم اشتداد الفائز واستفحل أمره، وأعطى الولايات للأمراء، واتخذ مجلساً لأهل الأدب يسامرون فيه، وكان يقرض الشعر ولا يجيده، وولّى شاور السعدي على قرضه وأشار عليه حجابه بصرفه، واستقدمه فامتنع وقال: إن عزلتني دخلت بلاد النوبة.

وعلى عهده كان استيلاء نور الدين محمود الملك العادل على دمشق من يدي طغتكين أتابك تُتُش سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

وفاة الفائز وولاية العاضد:

ثم تُوفِّي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل سنة خمس وخمسين وخمسمائة لست سنين من خلافته، فجاء الصالح بن رزّيك إلى القصر وطلب الخدام بإحضار أبناء الخلفاء ليختار منهم. وعدل عن كبرائهم إلى صغرائهم لمكان استبداده فوقع اختياره على أبي محمد عبد الله بن يوسف قتيل عباس، فبايع له بالخلافة وهو غلام، ولقَّبه العاضد لدين الله، وزوجه ابنته وجهزها بما لم يسمع بمثله.

١٩٠

مقتل الصالح بن رزّيك وولاية ابنه رزّيك:

ولمّا استفحل أمر الصالح وعظم استبداده بجباية الأموال والتصرف وحجر العاضد، تنكَّر له الحرم ودس إلى الأمراء بقتله، وتولت كبر ذلك عمة العاضد الصغرى التي كانت كافلة الفائز بعد أختها.

واجتمع قوم من القواد والسودان منهم الريفي الخادم وابن الداعي والأمير ابن قوام الدولة وكان صاحب الباب، وتواطئوا على قتله ووقفوا في دهليز القصر، وأخرج ابن قوام الدولة الناس أمامه وهو خارج من القصر، واستوقفه عنبر الريفي يحادثه، وتقدم ابنه رزّيك فوثب عليه جماعة منهم وجرحوه، وضرب ابن الداعي الصالح فأثبته، وحمل إلى داره فبقي يجود بنفسه يومه، وإذا أفاق يقول: رحمك الله يا عباس، ومات من الغد، وبعث إلى العاضد يعاتبه على ذلك فحلف على البراءة من ذلك ونسبه إلى العمة، وأحضر ابنه رزّيك وولاه الوزارة مكان أبيه ولقَّبه العادل، فأذن له في الأخذ بثأره، فقتل العمة وابن قوام الدولة والأستاذ عنبر الريفي، وقام بحمل الدولة، وأُشير عليه بصرف شاور من قوص، وقد كان أبوه أوصاه ببقائه وقال له: قد ندمت على ولايته ولم يمكني عزله، فصرفه وولّى مكانه الأمير ابن الرفقة، فاضطرب شاور وخرج إلى طريق الواحات، وجمع وقصد القاهرة.

وجاء الخبر إلى رزّيك فعجز عن لقائه، وخرج في جماعة من غلمانه بعدة أحمال من المال والثياب والجوهر، وانتهى إلى طفيحة واعترضه ابن النضر وقبض عليه وجاء به إلى شاور فاعتقله واعتقل معه أخاه، فأراد الهرب من محبسه فوشى به أخوه فقُتِل لسنة من ولايته ولتسع سنين من ولاية أبيه.

وزارة شاور ثم الضرغام من بعده:

ودخل شاور القاهرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ونزل بدار سعيد السعداء ومعه ولده طز وشجاع والطازي، وولاّه العاضد الوزارة ولقَّبه أمير الجيوش، وأمكنه من أموال بني رزّيك، فاستصفى معظمها وزاد أهل الرواتب والجرايات عشرة أمثالها، واحتجب عن الناس، وكان الصالح بن رزّيك قد أنشأ في لواقته أمراء يسمون البرقية، وكان مقدمهم الضرغام وكان

١٩١

صاحب الباب، فنازع شاور في الوزارة لتسعة أشهر من ولايته، وثار عليه وأخرجه من القاهرة، فلحق بالشام وقتل ولده علياً وكثيراً من أمراء المصريين حتى ضعفت الدولة وخلت من الأعيان وأدى ذلك إلى خرابها.

مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى مصر:

ولما لحق شاور إلى الشام نزل على الملك العادل نور الدين بدمشق صريخا، وشرط له ثلث الجباية على أن يقيم له العساكر، وجهز نور الدين شيركوه وكان مقدماً في دولته فساروا في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وقد تقدم نور الدين إلى أسد الدين شيركوه بأن يعيد شاور إلى وزارته وينتقم له ممن نازعه.

وسار نور الدين بعساكره إلى طرف بلاد الفرنج؛ ليمنعهم من اعتراض أسد الدين إن هموا به. ولما وصل أسد الدين وشاور إلى بلبيس لقيهم ناصر الدين همام وفخر الدين همام أخو الضرغام في عساكر مصر فهزموه، ورجع إلى القاهرة ومعه أخو الضرغام أسيراً، وفرّ الضرغام فقتل بالحبر عند مشهد السيدة نفيسة، وقتل أخواه، وعاد شاور إلى وزارته وتمكَّن منها، ثم نكث عهده مع أسد الدين وسلطانه وصرفه إلى الشام.

فتنة أسد الدين مع شاور وحصاره:

ولما رجع أسد الدين من مصر إلى الشام أقام بها في خدمة نور الدين، ثم استأذن نور الدين العادل سنة اثنتين وستين وخمسمائة في العود إلى مصر، فأذن له وجهزه في العساكر؛ وسار إلى مصر ونازل بلاد الفرنج في طريقه، ثم وصل إلى أطفيح من ديار مصر، وعبر النيل إلى الجانب الغربي ونزل الجيزة وتصرف في البلاد الغربية نيفاً وخمسين يوماً.

واستمد شاور الفرنج وجاء بهم إلى مصر، وخرج معهم للقاء أسد الدين شيركوه، فأدركوه بالصعيد، فرجع للقائهم على رهب لكثرة عددهم، وصدقهم القتال فهزمهم على قلة من معه، فإنهم لم يبلغوا ألفي فارس.

ثم سار إلى الاسكندرية وهو يجبي الأموال في طريقه إلى أن وصلها، فاستأمن أهلها وملكها، وولّى عليها صلاح الدين يوسف ابن أخيه

١٩٢

نجم الدين أيوب، ورجع إلى جباية الصعيد.

واجتمعت عساكر مصر والفرنج على القاهرة، وأزاحوا عللهم، وساروا إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين، فسار أسد الدين إليهم من الصعيد، ثم خذله بعض من معه من التُّركمان بمداخلة شاور، وبعثوا له أثر ذلك في الصلح، فصالحهم وردّ إليهم الإسكندرية.

ورجع إلى دمشق فدخلها آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وستين وخمسمائة. واستطال الفرنج على أهل مصر وشرطوا عليهم أن ينزلوا بالقاهرة وشحنة، وأن تكون أبوابها بأيديهم؛ لئلا تدخل عساكر نور الدين، وقرر ضريبة يحملها كل سنة، فأجابه إلى ذلك.

رجوع أسد الدين إلى مصر ومقتل شاور ووزارته:

ثم طمع الفرنج في مصر واستطالوا على أهلها، وملكوا بلبيس، واعتزموا على قصد القاهرة. وأمر شاور بتخريب مصر خشية عليها منهم، فحرقت ونهب أهلها، ونزل الفرنج على القاهرة. وأرسل العاضد إلى نور الدين يستنجده، وخشي شاور من اتفاق العاضد ونور الدين، فداخل الفرنج في الصلح على ألفي دينار مصرية معجلة وعشرة آلاف أردب من الزرع، وحذرهم أمر القهر إلى ذلك، وكان فيه السفير الجليس بن عبد القوي، وكان الشيخ الموفَّق كاتب السر، وكان العاضد، قد أمرهم بالرجوع إلى رأيه، وقال: هو رب الحرمة علينا وعلى آبائنا وأهل النصيحة لنا.

فأمر الكامل شجاع بن شاور القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أن يأتيه ويشاوره، فقال له: قل لمولانا (يعني العاضد) أن تقرير الجزية للفرنج خير من دخول الغز للبلاد واطلاعهم على الأحوال.

ثم بعث نور الدين العساكر مع أسد الدين شيركوه مدداً للعاضد كما سأل، وبعث معه صلاح الدين ابن أخيه وجماعة الأمراء. فلما سمع الفرنج بوصولهم أخرجوا عن القاهرة ورجعوا إلى بلادهم.

وقال ابن الطويل مؤرخ دولة العُبْيَديين: إنه هزمهم على القاهرة ونهب معسكرهم، ودخل أسد الدين إلى القاهرة في جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمسمائة. وخلع عليه العاضد، ورجع إلى معسكره، وفرضت له

١٩٣

الجرايات. وبقي شاور على ريبة وخوف وهو يماطله فيما يعين له من الأموال.

ودس العاضد إلى أسد الدين بقتل شاور، وقال: هذا غلامنا ولا خير لك في بقائه ولا لنا. فبعث عليه صلاح الدين ابن أخيه وعِزُّ الدين خرديك.

وجاء شاور إلى أسد الدين على عادته فوجده عند قبر الإمام الشافعي، فسار إليه هنالك فاعترضه صلاح الدين وخرديك فقتلاه وبعثا برأسه إلى العاضد، ونهبت العامة دوره. واعتقل ابناه شجاع والطازي وجماعة من أصحابه بالقصر، وخلع عليه للوزارة، ولُقِّب المنصور أمير الجيوش. وجلس في دست الوزارة واستقر في الأمر وغلب على الدولة، وأقطع البلاد لعساكره، واستعد أصحابه في ولايتها، ورد أهل مصر إلى بلدهم، وأنكر ما فعلوه في تخريبها.

ثم اجتمع بالعاضد مرة أُخرى، وقال له جوهر الأستاذ: يقول لك مولانا لقد تيقنا أن الله قد ادخرك نصرة لنا على أعدائنا، فحلف له أسد الدين على النصيحة، فقال له: الأمل فيك أعظم، وخلع عليه وحسن عنده موقع الجليس بن عبد القوي، وكان داعي الدعاة وقاضي القضاة، فأبقاه على مراتبه.

وفاة أسد الدين وولاية صلاح الدين الوزارة:

ثم تُوفِّي أسد الدين لشهرين في أيام قلائل من وزارته، وقيل: لأحد عشر شهراً. وأوصى أصحابه أن لا يفارقوا القاهرة. ولما تُوفِّي كان معه جماعة من الأمراء النورية، منهم عين الدولة الفاروقي، وقطب الدين يسال وعين الدين المشطوب الهكاوي وشهاب الدين محمود الحازمي. فتنازعوا في طلب الرئاسة وفي الوزارة، وجمع كل أصحابه للمطالبة. ومال العاضد إلى صلاح الدين؛ لصغره وضعفه عنهم، ووافقه أهل دولته على ذلك بعد أن ذهب كثير منهم إلى دفع الغزو وعساكرهم إلى الشرقية، ويولّى عليهم قواقوش، ومال آخرون إلى وزارة صلاح الدين، ومال العاضد إلى ذلك لمكافأته عن خدمته السالفة، فاستدعاه وولاّه الوزارة. واضطرب أصحابه،

١٩٤

وكان الفقيه عيسى الهكاري من خلصاء صلاح الدين فاستمالهم إليه، إلاّ عين الدولة الفاروقي فإنه سار إلى الشام، وقام صلاح الدين بوزارة مصر نائباً عن نور الدين يكاتبه ويشركه في الكتاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية.

ثم استبد صلاح الدين بالأمور، وضعف أمر العاضد، وهدم دار المعرفة بمصر وكانت حبساً وبناها مدرسة للشافعية، وبنى دار الغزل كذلك للمالكية، وعزل قضاة الشيعة، وأقام قاضياً شافعياً في مصر، واستناب في جميع البلاد.

حصار الفرنج دمياط:

ولما جاء أسد الدين وأصحابه إلى مصر وملكوها ودفعوهم عنها ندموا على ما فرطوا فيها، وانقطع عنهم ما كان يصل إليهم، وخشوا غائلة الغز على بيت المقدس، وكاتبوا الفرنج بصقلية والأندلس واستنجدوهم.

وجاءهم المدد من كل ناحية، فنزلوا دمياط سنة خمس وستين وخمسمائة، وبها شمس الخواض منكوريين، فأمدها صلاح الدين بالعساكر والأموال مع بهاء الدين قراقوش وأمراء الغز، واستمد نور الدين واعتذر عن المسير إليها بشأن مصر والشيعة، فبعث نور الدين العساكر إليها شيئاً فشيئاً، وسار بنفسه إلى بلاد الفرنج بسواحل الشام، فضيَّق عليها، فأقلع الفرنج عن دمياط لخمسين يوماً من نزولها، فوجدوا بلادهم خراباً، وأثنى العاضد على صلاح الدين في ذلك، ثم بعث صلاح الدين غرابيه نجم الدين وأصحابه إلى مصر، وركب العاضد للقائه تكرمة له.

واقعة الخصيان وعمارة:

ولما استقام الأمر لصلاح الدين بمصر غص به الشيعة وأولياؤهم، واجتمع منهم العوريش وقاضي القضاة ابن الكامل، والأمير المعروف الكاتب عبد الصمد، وكان فصيحاً وعمارة اليمني الشاعر الزبيدي وكان متولي كبرها، فاتفقوا على استدعاء الفرنج لإخراج الغز من مصر وجعلوا لهم نصيباً وافراً من ارتفاعها، وعمدوا إلى شيعي من خصيان القصر اسمه نجاح ولقبه مؤتمن الدولة، وكان قد ربى العاضد وصهره فأغروه بذلك

١٩٥

ورغبوا على أن يجمع رسول الفرنج بالعاضد فجمعه معه في بيته ملبساً بذلك. ولم يكن العاضد الذي حضر وأوهموه أنه عقد معه. ثم اتصل الخبر بنجم الدين بن مضيال من أولياء الشيعة، وكان نجم الدين قد اختصه صلاح الدين وولاه الإسكندرية.

واستغضبه بهاء الدين قراقوش ببعض النزغات، فظنوا أنه غضب فأطلعوه على شأنهم وأن يكون وزيراً وعمارة كاتب الدست، وصاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات مكان الفاضل بن كامل قاضي القضاة وداعي الدعاة، وعبد الصمد جابي الأموال، والعوريش ناظر عليهم، فوافقهم ابن مضيال ووشى بهم إلى صلاح الدين، فقبض عليهم وعلى رسول الفرنج وقررهم في عدة مجالس، وأحضر زمام القصر وهو مختص العرز، ونكر عليه خروج العاضد إلى بيت نجاح مع مختص، فحضر واعترف بالحق أن العاضد لم يحضر، فتحقق صلاح الدين براءته، وكان عمارة يجالس شمس الدولة تورنشاه، فنقل لأخيه صلاح الدين أنه امتدحه بقصيدة يغريه فيها بالمضي إلى اليمن ويحمله على الاستبداد، وأنه تعرض فيها للجانب النبوي يوجب استباحة دمه، وهو قوله:

فاخلق لنفسك ملكاً لا تضاف به إلـى سواك وأورِ النار في العلم

هذا ابن تومرت قد كانت ولايته كما يقول الورى لحماً على وَضَم

وكـان أول هذا الدين من رجل سـعى إلـى أن دعوه سيد الأمم

فجمعهم صلاح الدين وشنقهم في يوم واحد بين القصرين، وأخّر ابن كامل عنهم عشرين يوماً ثم شنقه.

ومر عمارة بباب القاضي الفاضل فطلب لقاءه فمُنع، فقال وهو سائر إلى المشنقة:

عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص هو العجب

وفي كتاب ابن الأثير أن صلاح الدين إنما اطلع على أمرهم من كتابهم الذي كتبوه إلى الفرنجة عثر على حامله، وقُرئ الكتاب وجيء به إلى صلاح الدين، فقتل مؤتمن الخلافة لقرينة، وعزل جميع الخدام، واستعمل على القصر بهاء الدين قراقوش، وكان خصياً أبيض.

١٩٦

وغضب السودان لقتل مؤتمن الخلافة، واجتمعوا في خمسين ألفاً، وقاتلوا أجنا وصلاح الدين بين القصرين، وخالفهم إلى بيوتهم فأضرمها ناراً، واحترقت أموالهم وأولادهم، فانهزموا وركبهم السيف، ثم استأمنوا ونزلوا الجيزة وعبر إليهم شمس الدولة تورنشاه فاستلحمهم.

قطع الخطبة للعاضد وانقراض الدولة العلوية بمصر:

كان نور الدين العادل يوم استقل صلاح الدين بملك مصر، وضعف أمر العاضد بها وتحكم في قصره يخاطبه في قطع دعوتهم من مصر والخطبة بها للمستضيء العباسي، وهو يماطل بذلك حذراً من استيلاء نور الدين عليه، ويعتذر بتوقع المخالفة من أهل مصر في ذلك فلا يقبل، ثم ألزمه ذلك، فاستأذن فيه أصحابه فأشاروا به وأنه لا يمكن مخالفة نور الدين.

ووفد عليه من علماء العجم الفقيه الخبشاني، وكان يدعى بالأمير العالم، فلما رأى إحجامهم عن هذه الخطبة قال: أنا أخطبها. فلما كان أول جمعة من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستنصر، فلم ينكر أحد عليه، فأمر صلاح الدين في الجمعة الثانية الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيء ففعلوا.

وكتب بذلك إلى سائر أعمال مصر، وكان العاضد في شدة من المرض، فلم يعلمه أحد بذلك، وتُوفِّي في عاشوراء من السنة نفسها.

وجلس صلاح الدين للعزاء فيه، واحتوى على قصر الخلافة بما فيه، فحمله بهاء الدين قراقوش إليه، وكان في خزائنهم من الذخيرة ما لم يسمع بمثله.

ثم أتى ابن خلدون على ذكر طائفة منها، ومنها مكتبة تحوي مائة وعشرين ألف سفر أعطاها للفاضل عبد الرحيم البيساني، وقال بعد ذلك:

ثم حبس رجالهم ونساءهم حتى ماتوا، وكانت بالدولة عند عهد العزيز والحاكم قد خلا جوّها من رجالات كتامة وتفرقوا في المشرق في سبيل ذلك الملك وانقرضوا بانقراض أمر الشيعة وموت العاضد آخر

١٩٧

خلفائهم، وأكلتهم الأقطار والوقائع شأن الدول.

ولما هلك العاضد وحوَّل صلاح الدين الدعوة إلى العباسية، اجتمع قوم من الشيعة بمصر وبايعوا لداود بن العاضد، ونُمي خبرهم إلى صلاح الدين، فقبض عليهم وقتلهم، وأخرج داود من القصر وذلك سنة تسع وستين وخمسمائة.

ثم خرج بعد حين بجهة فاس بالمغرب محمد بن عبد الله بن العاضد، ودعا هنالك وتَسمّى بالمهدي، فقُتل وصُلب، ولم يبق للعُبيديين ذكر إلا في بلاد الحثيثية من العراق، وهم دعاة الغداوية، وفي بلاد الإسماعيلية التي كانت فيها دعوتهم بالعراق. وقام بها ابن الصباح في قلعة ألموت وغيرها، إلى أن انقرضت تلك الدعوة أجمع بانقطاع دعوة العباسيين ببغداد، وعلى يد هولاكو من ولد جنكزخان من ملوك التتر سنة خمس وخمسين وستمائة.

١٩٨

ما جاء في خطط المقريزي في الجزء الثالث

في مبدأ أمر الفاطميين إلى عهد المستنصر الفاطمي

ذِكْرُ أبي عبد الله الشيعي:

هو الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي من أهل صنعاء اليمن، ولي الحسبة في بعض أعمال بغداد، ثم سار إلى ابن حوشب باليمن وصار من كبار أصحابه. وكان ذا علم وفهم، وعنده دهاء ومكر. فورد على ابن حوشب بعد موت الحلواني داعي المغرب ورفيقه، فقال لأبي عبد الله الشيعي: إن أرض كتامة من بلاد المغرب قد خربها الحلواني وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك، فإنها مواطأة ممهدة لك.

فخرج من اليمن إلى مكة، وقد زوده ابن حوشب بمال، فسأل عن حجاج كتامة فأرشد إليهم، واجتمع بهم، وأخفى عنهم قصده، وذلك أنه جلس قريباً منهم فسمعهم يتحدثون بفضائل أهل البيت، فحدثهم في ذلك وأطال ثم نهض ليقوم، فسألوه أن يأذن لهم بزيارته فأذن لهم، فصاروا يتردُّدون إليه لما رأوا من علمه وعقله، ثم إنهم سألوه إلى أين يقصد، فقال: أريد مصر فسروا بصحبته ورحلوا من مكة وهو لا يخبرهم شيئاً من خبره وما هو عليه من القصد. وشاهدوا منه عبادة وورعاً وتحرجاً وزهادة، فقويت رغبتهم فيه واشتملوا على محبته واجتمعوا على اعتقاده وساروا بأسرهم خدماً له، وهو في أثناء ذلك يستخبرهم عن بلادهم، ويعلم أحوالهم ويفحص عن قبائلهم، وكيف طاعتهم للسلطان في أفريقية، فقالوا له: ليس له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيام. قال: أفتحملون السلاح؟ قالوا: هو

١٩٩

شغلنا، وما برح حتى عرف جميع ما هم عليه. فلما وصلوا إلى مصر أخذ يودعهم، فشق عليهم فراقه وسألوه عن حاجته بمصر فقال: ما لي بها من حاجة إلا أني أطلب التعليم بها، قالوا: فأما إذا كنت تقصد هذا فإن بلادنا أنفع لك وأطوع لأمرك، ونحن أعرف بحقك.

وما زالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم، فساروا به إلى أن قاربوا بلادهم، وخرج إلى لقائهم أصحابهم، وكان عندهم حسّ كبير من التشيع واعتقاد عظيم في محبة أهل البيت كما قرره الحلواني، فعرَّفهم القوم خبر أبي عبد الله، فقاموا بحق تعظيمه وإجلاله، ورغبوا في نزوله عندهم، واقترعوا فيمن يضيّفه، ثم ارتحلوا إلى أرض كتامة، فوصلوا إليها منتصف ربيع الأول سنة ثمان وثمانين ومائتين. فما منهم إلا من سأله أن يكون منزله عنده، فلم يوافق أحداً منهم، وقال: أين يكون (فج الأخيار)؟ فعجبوا من ذلك، ولم يكونوا قط ذكروه له منذ صحبوه، فدلوه عليه فقصده، وقال: إذا حللنا به صرنا نأتي كل قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم، فرضوا جميعاً بذلك.

وسار إلى جبل ايلحان وفيه (فج الأخيار)، فقال: هذا فج الأخيار، وما سمي إلاّ بكم، ولقد جاء في الآثار: (للمهدي هجرة ينبو بها عن الأوطان، ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتق من الكتمان، ولخروجكم في هذا الفج سمي (فج الأخيار)).

فتسامعت به القبائل، وأتته البربر من كل مكان، وعظم أمره، حتى إن كتامة اقتتلت عليه مع قبائل البربر، وهو لا يذكر اسم المهدي ولا يعرج عليه. فبلغ خبره إبراهيم بن الأغلب أمير أفريقية، فقال أبو عبد الله لكتامة: أنا صاحب النذر الذي قال لكم أبو سفيان والحلواني. فازدادت محبتهم له وعظم أمره فيهم، وأتته القبائل من كل مكان، وسار إلى مدينة (تاحروق)، وجمع الخيل وصيّر أمرها للحسن بن هارون كبير كتامة.

وخرج للحرب فظفر وغنم، وعمل على تاحروق خندقاً، فرجعت إليه قبائل من البربر وحاربوه فظفر بهم وصارت إليه أموالهم، ووالى الغزو فيهم حتى استقام له أمرهم، فسار وأخذ مدائن عدة.

فبعث إليه ابن الأغلب بعساكر كانت له معهم حروب عظيمة وخطوب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391