تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني20%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 130983 / تحميل: 11533
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

سنا الملك حُسين، وأمر جمال الملك بالسير معه لقتال الفرنج، فساروا في خمسة آلاف، واستمدّوا طغتكين أتابك دمشق فأمدّهم بألف وثلاثمائة، ولقوا الفرنج بين عسقلان ويافا، فتفانوا بالقتل وتحاجزوا، وافترق المسلمون إلى عسقلان ودمشق. وكان مع الفرنج (بكتاش) بن تُتُش، عدل عنه طغتكين بالملك إلى بني أخيه دقاق بن تتش، فلحق بالافرنج مغاضباً)(١) .

استيلاء الفرنج على طرابلس وبيروت:

(كانت طرابلس رجعت إلى صاحب مصر، وكان يحاصرها من الفرنج ابن المرداني صاحب (صيحيل) والمدد يأتيهم من مصر. فلما كانت سنة ثلاث وخمسين (وأربعمائة) وصل أسطول من الفرنج مع (ويمتدين) إلى صيحيل، من قَمامِصَتِهم، فنزل على طرابلس، وتشاجر مع المرداني، فبادر بغدوين صاحب القدس، وأصلح بينهم، ونزلوا جميعاً على طرابلس، وألصقوا أبراجهم بسورها. وتأخرت الميرة عنهم من مصر في البحر لركود البحر، فاقتحمها الفرنج عَنْوَةً ثاني الأضحى من سنة ثلاث وخمسين (وأربعمائة). وقتلوا ونهبوا وأسروا وغنموا. وكان واليها قد استأمن قبل فتحها جماعة من الجند فلحقوا بدمشق، ووصل الأسطول بالمدد وكفاية سنة من الأقوات بعد فتحها ففرقوه في صور وصيدا وبيروت.

واستولى الفرنج على معظم سواحل الشام. قال ابن خلدون: وإنما خصصنا هذه بالذكر في الدولة العلوية؛ لأنها كانت من أعمالهم)(٢) .

مقتل الأفضل:

(قد قدّمنا أنّ الآمر ولاّه الأفضل صغيراً ابن خمس سنين، فلمّا استجمع واشتدّ تنكَّر للأفضل، وثقلت وطأته عليه، فانتقل الأفضل إلى مصر وبنى بها داراً ونزلها، وخطب منه الأفضل ابنته فزوّجها على كره منه. وشاور الآمر أصحابه في قتله، فقال له ابن عمه عبد المجيد وكان ولي

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٤٣، ١٤٤.

(٢) نفسه: م٤ ص١٤٤، ١٤٥.

١٨١

عهده: لا تفعل، وحذّره سوء الأُحدوثة لِما اشتهر بين الناس من نصحه ونصح أبيه، وحسن ولايتهما للدولة، ولابدَّ من إقامة غيره والاعتماد عليه فيتعرّض للحذر من مثلها إلى الامتناع منه، ثم أشار عليه من مداخلة ثقته أبي عبد الله بن البطائحي في مثل ذلك، فإنه يحسن تدبيره ويضع عليه من يغتاله، ويقتل به فيسلم عرضك.

وكان ابن البطائحي فرَّاشاً بالقصر، واستخلصه الأفضل ورقّاه واستحجبه، فاستدعاه الآمر وداخله في ذلك ووعده بمكانه، فوُضع عليه رجلان فقتلاه بمصر، وهو سائر في موكبه من القاهرة منقلباً من خزانة السلاح في سنة خمس عشرة وخمسمائة، كان يفرّق السلاح على العادة في الأعياد، وثار الغبار في طريقه، فانفرد عن الموكب فبدره الرجلان وطعناه فسقط، وقتلاه، وحمل إلى داره وبه رمق، فجاءه الآمر متوجعاً، وسأله عن ماله، فقال: أما الظاهر فأبو الحسن بن أبي أسامة يعرفه، وكان أبوه قاضياً بالقاهرة وأصله من حَلب. وأمّا الباطن فإنّ البطائحي يعرفه.

ثمّ قضى الأفضل نحبه لثمان وعشرين سنة من وزارته، واحتاط الآمر على داره فوجد له ستة آلاف كيس من الذهب العين، وخمسين أردباً من الورق، ومن الديباج الملوّن والمتاع البغدادي والإسكندري، وطُرف الهند، وأنواع الطيوب والعنبر والمسك ما لا يحصى، حتى لقد كان من ذخائره دكة عاج وأَبنوس محلاّة بالفِضَّة عليها عرم متمن من العنبر زنته ألف رطل، وعلى العرم مثل طائر من الذّهب برجلين مرجاناً ومنقار زمرداً، وعينان ياقوتتان، كان ينصبها في بيته ويضوع عرفها فيعم القصر، وصارت إلى صلاح الدين)(١) .

ولاية ابن البطائحي:

قال ابن الأثير: (كان أبوه من جواسيس الأفضل بالعراق، ومات ولم يخلف شيئاً، ثم ماتت أمه وتركته معلقاً، فتعلَّم البناء أوّلاً، ثم صار يحمل الأمتعة بالأسواق ويدخل بها على الأفضل، فخف عليه واستخدمه مع الفراشين، وتقدم عنده واستحجبه.

____________________

(١) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٤٦، ١٤٧.

١٨٢

ولما قتل الأفضل ولاّه الآمر مكانه، وكان يُعرَف بابن فاتت وابن القائد، فدعاه الآمر جلال الإسلام، ثم خلع عليه بعد سنتين من ولايته للوزارة، ولقّبه المأمون، فجرى على سنن الأفضل في الاستبداد. ونكر ذلك الآمر وتنكّر له، واستوحش المأمون، وكان له أخ يُلقّب المؤتمن، فاستأذن الآمر في بعثه إلى الإسكندرية لحمايتها ليكون له ردءاً هنالك، فأذن له، وسار معه القواد وفيهم علي بن السلاّر، وتاج الملوك قائمين، وسنا الملك الجمل ودريّ الحروب وأمثالهم.

وأقام المأمون على استيحاش من الآمر، وكثرت السعاية فيه، وأنّه يدّعي أنه ولد نزار من جارية خرجت من القصر حاملاً به، وأنه بعث ابن نجيب الدولة إلى اليَمَن يدعو له، فبعث الآمر إلى اليمن في استكشاف ذلك)(١) .

مقتله:

(ولما كثرت السعاية فيه عند الآمر، وتوغّر صدره عليه، كتب إلى القواد الذين كانوا مع أخيه بثغر الإسكندرية بالوصول إلى دار الخلافة.

فهمّ لذلك علي بن سلاّر، فحضروا، واستأذن المؤتمن بعدهم في الوصول فأذن له، وحضر رمضان من سنة تسع عشرة (وخمسمائة)، فجاؤوا إلى القصر للإفطار على العادة. ودخل المأمون والمؤتمن فقبض عليهما وحبسهما داخل القصر. وجلس الآمر من الغد في إيوانه، وقرأ عليه وعلى الناس كتاباً بتعديد ذنوبهم. وترك الآمر رتبة الوزارة خلواً، وأقام رجلين من أصحاب الدواوين يستخرجان الأموال من الخراج والزكاة والمكس، ثم عزلهما لظلمهما. ثم حضر الرسول الذي بعثه إلى اليمن ليكشف خبر المأمون، وحضر ابن نجيب وداعيتُه فُقتل، وقتل المأمون وأخوه المؤتمن)(٢) .

____________________

(١) نفسه: م٤ ص١٤٧، ١٤٨.

(٢) تاريخ ابن خلدون: م٤ ص١٤٨، ١٤٩.

١٨٣

مقتل الآمر وخلافة الحافظ:

كان الآمر مؤثراً للذّاته طموحاً إلى المعالي وقاعداً عنها، وكان يحدِّث نفسه بالنهوض إلى العراق في كل وقت ثم يقصر عنه، وكان يقرض الشعر قليلاً، ومن قوله:

أصبحت لا أرجو ولا أتقي إلا إلـهي ولـه الـفضل

جـدي نـبيي وإمامي أبي ومـذهبي التوحيد والعدل

وكانت الغداوية تحاول على قتله فيتحرَّز منهم، واتفق أن عشرة منهم اجتمعوا في بيت، وركب بعض الأيام إلى الروضة، ومرَّ على الجسر بين الجزيرة ومصر، فسبقوه فوقفوا في طريقه، فلمّا توسط الجسر انفرد عن الموكب لضيقه، فوثبوا عليه وطعنوه، وقُتلوا لحينهم.

ومات هو قبل الوصول إلى منزله سنة أربع وعشرين وخمسمائة، لتسع وعشرين سنة ونصف السنة من خلافته. وكان قد استخلص مملوكيَن وهما برغش العادل وبرعوارد هزير الملوك، وكان يؤثر العادل منهما. فلما مات الآمر تحيلوا في قيام المأمون عبد الحميد بالأمر، وكان أقرب القرابة سناً وأبو القاسم بن المستضيء معه. وقالوا: إن الآمر أوصى بأن فلانة حامل فدلته الرؤية بأنها تلد ذكراً فهو الخليفة بعدي وكفالته لعبد الحميد، فأقاموه كافلاً ولقّبوه الحافظ لدين الله، وذكروا من الوصية أن يكون هزير الملوك وزيراً والسعيد باس من موالي الأفضل صاحب الباب، وقرأوا السجل بذلك في دار الخلافة.

ولاية أبي علي بن الأفضل الوزارة ومقتله:

ولما تقرر الأمر على وزارة هزير الملوك وخلع عليه أنكر ذلك الجند، وتولّى كبر ذلك رضوان بن وغش كبيرهم، وكان أبو علي ابن الأفضل حاضراً بالقصر، فحثّه برغش العادل على الخروج حسداً لصاحبه وأوجد له السبيل إلى ذلك، فخرج وتعلّق به الجند، وقالوا: هذا الوزير ابن الوزير، وتنصّل فلم يقبلوا، وضربوا له خيمة بين القصرين وأحدقوا به وأغلقت أبواب القصر فتسوّروه وولجوا من طيقانه.

١٨٤

واضطر الحافظ إلى عزل هزير الملوك ثم قتله، وولي أبو علي أحمد بن الأفضل الوزارة، وحبس بدست أبيه ورد الناس أموال الوزارة المقضية، واستبد على الحافظ ومنعه من التصرف ونقل الأموال من الذخائر والقصر إلى داره. وكان إمامياً متشدداً، فأشار عليه الإمامية بإقامة الدعوة للقائم المنتظر، وضرب الدراهم باسمه دون الدنانير، ونقش عليها: (الله الصمد الإمام محمد) وهو الإمام المنتظر، وأسقط ذكر إسماعيل من الدعاء على المنابر وذكر الحافظ، وأسقط من الأذان: حي على خير العمل، ونعت نفسه بنعوت أمر الخطباء بذكرها على المناب. وأراد قتل الحافظ بمن قتله الآمر من إخوته، فإن الآمر أجحفهم عند نكبة الأفضل وقتلهم، فلم يقدر أبو علي على قتله فخلعه واعتقله، وركب بنفسه في المواسم وخطب للقائم مموهاً، فتنكر له أولياء الشيعة ومماليك الخلفاء، وداخل يونس الجند من كتامة وغيرهم في شأنه فاتفقوا على قتله. وترصد له قوم من الجند فاعترضوه خارج البلد وهو في موكبه وهم يتلاعبون على الخيل، ثم اعتمدوه فطعنوه وقتلوه، وأخرجوا الحافظ من معتقله وجددوا له البيعة بالخلافة. ونهب دار أبي علي، وركب الحافظ وحمل ما بقي فيها إلى القصر.

واستوزر أبا الفتح يانساً الحافظي، ولقّبه أمير الجيوش، وكان عظيم الهيبة بعيد الغور، واستبد عليه فاستوحش كل منهما بصاحبه. ويقال: إن الحاكم وضع له سمّاً في المستراح هلك به، وذلك آخر ذي الحجَّة سنة ست وعشرين وخمسمائة.

قيام حسن بن الحافظ بأمر الدولة ومكره بأبيه ومهلكه:

ولما هلك يانس أراد الحافظ أن يخلي دست الوزارة ليستريح من التعب الذي عرض منهم للدولة، وأجمع أن يفوِّض الأمور إلى ولده، وفوَّض إلى ابنه سليمان، ومات لشهرين.

فأقام ابنه الآخر حسناً، فحدَّثته نفسه بالخلافة وعزم على اعتقال أبيه، وداخل الأجناد في ذلك فأطاعوه، واطَّلع أبوه على أمره، ففتك بهم، يُقال: إنه قتل منهم في ليلة أربعين. وبعث أبوه خادماً من القصر لقتله فهزمه حسن.

١٨٥

وبقي الحافظ محجوراً، وقد أمره. وبعث حسن بهرام الأرمني لحشد الأرمن ليستظهر بهم على الجند، وثاروا بحسن وطلبوه من أبيه، ووقفوا بين القصرين، وجمعوا الحطب لإحراق القصر. واستبشع الحافظ قتله بالحديد، فأمر طبيبه ابن فرقة عنه في ذلك سنة تسع وعشرين وخمسمائة.

وزارة بهرام ورضوان بعده:

ولمّا مات حسن بن الحافظ ورحل بهرام لحشد الأرمن اجتمع الجند، وكان بهرام كبيرهم، راودوا الحافظ على وزارته، فوافقهم وخلع عليه وفوَّض إليه الأمور السلطانية، واستثنى عليه الشرعية، وتبعه تاج الدولة أفتكين في الدولة. واستعمل الأرمن وأهانوا المسلمين، وكان رضوان بن وطيس صاحب الباب وهو الشجاع الكاتب من أولياء الدولة، وكان ينكر على بهرام ويهزأ به، فولاه بهرام الغربية.

ثم جمع رضوان وأتى إلى القاهرة، ففرَّ بهرام وقصد قوص في ألفين من الأرمن ووجد أخاه قتيلاً، فلم يعرض لأهل قوص وباء بحق الخلافة وصعد إلى أسوان فامتنعت عليه بكنز الدولة. ثم بعث رضوان العساكر في طلبه مع أخيه الأكبر، وهو إبراهيم الأوحد، فاستنزله على الأمان له وللأرمن الذين معه، وجاء به فأنزله الحافظ في القصر إلى أن مات على دينه.

واستقر رضوان في الوزارة ولُقِّب بالأفضل وكان سُنّياً، وكان أخوه إبراهيم إمامياً؛ فأراد الاستبداد وأخذ في تقديم معارفه سيفاً وقلماً، وأسقط المكوس وعاقب من تصدّى لها، فتغير له الخليفة فأراد خلعه وشاور في ذلك داعي الدعاة وفقهاء الإمامية، فلم يعينوه في ذلك بشيء، وفطن له الحافظ فدس خمسين فارساً ينادون في الطرقات بالثورة عليه، وينهضون باسم الحافظ، فركب لوقته هارباً منتصف شوال سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة، وهبت داره.

وركب الحافظ وسكن الناس ونقل ما فيها إلى قصره. وسار رضوان يريد الشام ليستنجد التُّرك وكان في جملته شاور وهو من مصطفيه، وأرسل الحافظ الأمير ابن مضيال ليرده على الأمان فرجع وحُبِس في القصر، وقيل: وصل إلى صرخد، فأكرمه صاحبها أمين الدولة كمستكين وأقام عنده، ثم

١٨٦

رجع إلى مصر سنة أربع وثلاثين وخمسمائة، فقاتلهم عند باب القصر وهزمهم، ثم افترق عنه أصحابه وأرادوا العود إلى الشام، فبعث عنه الحافظ ابن مضيال وحبسه بالقصر إلى سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة. فنقب الحبس وهرب إلى الجيزة، وجمع المغاربة وغيرهم ورجع إلى القاهرة، وقاتلهم عند جامع ابن طولون وهزمهم، ثم دخل القاهرة ونزل عند جامع الأقمر، وأرسل إلى الحافظ في المال ليفرِّقه، فبعث عشرين ألفاً على عادتهم مع الوزير، ثم استزاد عشرين وعشرين.

وفي خلال ذلك وضع الحافظ عليه جمعاً كثيراً من السودان، فحملوا عليه وقتلوه، وجاءوا برأسه إلى الحافظ.

واستمر الحافظ في دولته مباشراً لأموره، وأخلى رتبة الوزارة فلم يولّ أحداً بعده.

وفاة الحافظ وولاية ابنه الظافر:

ثم تُوفِّي الحافظ لدين الله عبد الحميد بن الأمير أبي القاسم أحمد بن المستنصر سنة أربع وأربعين وخمسمائة لتسع عشرة سنة ولم يزل في خلافته محجور الوزارة. ولمّا مات ولي بعده ابنه أبو منصور إسماعيل بعهده إليه بذلك، ولُقِّب الظافر بأمر الله.

وزارة ابن مضيال ثم ابن السلار:

كان الحافظ لمّا عهد لابنه الظافر أوصاه بوزارة ابن مضيال، فاستوزره أربعين يوماً، وكان علي بن السلاّر والياً على الإسكندرية ومعه بلارة ابنة عمه القاسم وابنه منها عباس، وتزوجت بعده بابن السلاّر. وشب عباس وتقدم عند الحافظ حتى ولي الغربية، فلم يرض ابن السلاّر وزارة ابن مضيال واتفق مع عباس على عزله.

وبلغ الخبر إلى ابن مضيال، فشكا إلى الظافر فلم يشكه، فقال ذوو الحرب: ليس هنا من يقاتل ابن السلار، فغضب الظافر ودس عليه من بني علي مصلحية، فخرج إلى الصعيد.

١٨٧

وفد ابن السلاّر إلى القاهرة، فاستوزره الظافر وهو منكر له، ولقَّبه العادل، وبعث العساكر مع العباس ربيبه في اتباع ابن مضيال، فخرج في طلبه، وكان جماعة من لواتة السودان، فتحصنوا من عباس في جامع دولام فأحرقه عليهم، وقتل ابن مضيال وجاء برأسه.

وقام ابن سلاّر بالدولة وحفظ النواميس وشد من مذاهبه أهله، وكان الخليفة مستوحشاً منه منكراً له وهو مبالغ في النصيحة والخدمة، واستخدم الرجالة لحراسته، فارتاب له جيان الخاص من حاشية الخليفة، فاعتزموا على قتله، ونُمي إليه ذلك فقبض على رؤوسهم فحبسهم، وقتل جماعة منهم وافترقوا. ولم يقدر الظافر على إنكار ذلك، واحتفل ابن السلاّر بأمر عسقلان ومنعها من الفرنج، وبعث إليها بالمدد كل حين من الأقوات والأسلحة، فلم يُغنِ ذلك عنها. وملكها الفرنج، وكان لذلك من الوهن على الدولة ما تحدث به الناس.

ولما قتل العادل ابن السلاّر جيان الخاص تأكد نكر الخليفة له، واشتد قلقه، وكان عباس بن أبي الفتوح صديقاً ملاطفاً له فكان يسكنه ويهدئه، وكان لعباس ولد اسمه نصير استخصه الظافر واستدناه ويقال: كان يهواه، ففاوض العادل عباساً في شأن ابنه عن مخالطة ابنه للظافر فلم ينته ابنه، فنهى العادل جدته أن يدخل إلى بيته، فشق ذلك على نصير وعلى أبيه، وتنكر للعادل، وزحف الفرنج إلى عسقلان فجهَّز العادل الجيوش والعساكر إليها مدداً مع ما كان بذهابه، وبعثهم مع عباس ابن أبي الفتوح، فارتاب لذلك وفاوض الظافر في قتل العادل. وحضر معهم مؤيد الدولة الأمير أسامة بن منقذ أحد أمراء شيزر، وكان عند الظافر صديقاً لعباس، فاستصوب ذلك وحث عليه.

وخرج عباس بالعساكر إلى بلبيس وأوصى ابنه نصيراً بقتله، فجاء بجماعة إلى بيت جدته والعادل نائم، فدخل عليه وضربه فلم يجهز عليه وخرج إلى أصحابه، ثم دخلوا جميعاً فقتلوه وجاؤوا برأسه إلى الظافر.

ورجع عباس من بلبيس بالعساكر، فاستوزره الظافر، وقام بالدولة وأحسن إلى الناس. وأيس أهل عسقلان من المدد فأسلموا بأنفسهم بلدهم بعد حصار طويل، وكان ذلك سنة ثمان وأربعين وخمسمائة.

١٨٨

مقتل الظافر وأخويه وولاية ابنه الفائز:

ولما وزر عباس للظافر وقام بالدولة كان ولده نصير من ندماء الظافر، وكان يهواه كما تقدم. وكان أسامة بن منقذ من خلصاء عباس وأصدقائه، فقبح عليه سوء المقالة في ابنه وأشار عليه بقتل الظافر، فاستدعى ابنه نصيراً وقبح عليه في شناعة الأحدوثة فيه بين الناس وأغراه باغتيال الظافر ليمحو عنه ما يتحدّث به الناس، فسأل نصير من الظافر أن يأتي إلى بيته في دعوة، فركب من القصر إليه فقتله نصير ومن جاء معه ودفنهم في داره، وذلك في محرم سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

وباكر القصر ولم يرَ الظافر، وسأل خدام القصر فأحسن العذر، ورجع إلى أخوي الظافر يوسف وجبريل فخبرهما بركوب الظافر إلى دار نصير، فقالا له: خبر الوزير، فلما جاء عباس من الغد أخبره بأنه ركب إلى بيت نصير ابنه ولم يعد. فاستشاط غيظاً عليه ورماه بأنّه داخل أخويه في قتله، ثم استدعاهما فقتلهما، وقتل معهما ابناً هنالك لحسن بن الحافظ، ثم أخرج ابنه أبا القاسم عيسى (ابن خمس سنين) وحمله على كتفه وأجلسه على سرير الملك، وبايع له بالخلافة ولقَّبه الفائز بالله.

ونقل عباس بسبب ذلك ما في القصر من الأموال والذخائر ما لا حد له، وعند خروجه بأخويه رأى القتلى فاضطرب وفزع، وبقي سائر أيامه يعتاده الصرع.

وزارة الصالح بن رُزِّيك:

ولما قتل الظافر وأخواه كتب النساء من القصر إلى طلائع بن رُزِّيك، وكان والياً على الاشمونين والبهنسة، وجاء الخبر بأن الناس اختلفوا على عباس بسبب ذلك، فجمع وقصد القاهرة ولبس السواد حزناً ورفع على الرماح الشعور التي بعث بها النساء حزناً. ولما عبر البحر خرج عباس وولده ودفعوا ما قدروا عليه من مال وسلاح من حاصل الدولة، ومعهما صديقهما أسامة بن منقذ. فاعترضهم الفرنج وقاتلوا، فقُتِل عباس وأُسِر ولده ونجا أسامة إلى الشام، ودخل طلائع القاهرة في ربيع سنة تسع وخمسين وخمسمائة. وجاء إلى القصر راجلاً، ثم مضى إلى دار عباس

١٨٩

ومعه الخادم الذي حضر لقتله، فاستخرجه من التراب ودفنه عند آبائه.

وخلع الفائز عليه الوزارة ولقَّبه الصالح، وكان إمامياً كاتباً أديباً، فقام بأمر الدولة وشرع في جمع الأموال والنظر في الولايات، وكان الأوحد بن تميم من قرابة عباس والياً على تنيس، وكان لما سمع بفعلة قريبه عباس جمع وقصد القاهرة، فسبقه طلائع، فلما استقل بالوزارة أعاده إلى عمله بدمياط وتنيس. ثم بعث في فداء نصير بن عباس من الفرنج، فجيء به وقتله وصلبه بباب زويلة. ثم نظر في المزاحمين من أهل الدولة ولم يكن أرفع رتبة من تاج الملوك قايماز وابن غالب، فوضع عليهما الجند فطلبوهما فهربا، ونهب دورهما، وتتبع كبراء الأمراء بمثل ذلك حتى خلا الجو، ووضع الرقباء والحجاب على القصر، وثقلت وطأته على الحرم.

ودبَّرت عمة الفائز في قتل الصالح، وفرقت الأموال في ذلك، ونمي الخبر إليه فجاء إلى القصر وأمر الاستاذين والصقالبة بقتلها فقتلوها سرّاً، وصار الفائز في كفالة عمته الصغرى. وعظم اشتداد الفائز واستفحل أمره، وأعطى الولايات للأمراء، واتخذ مجلساً لأهل الأدب يسامرون فيه، وكان يقرض الشعر ولا يجيده، وولّى شاور السعدي على قرضه وأشار عليه حجابه بصرفه، واستقدمه فامتنع وقال: إن عزلتني دخلت بلاد النوبة.

وعلى عهده كان استيلاء نور الدين محمود الملك العادل على دمشق من يدي طغتكين أتابك تُتُش سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

وفاة الفائز وولاية العاضد:

ثم تُوفِّي الفائز بنصر الله أبو القاسم عيسى بن الظافر إسماعيل سنة خمس وخمسين وخمسمائة لست سنين من خلافته، فجاء الصالح بن رزّيك إلى القصر وطلب الخدام بإحضار أبناء الخلفاء ليختار منهم. وعدل عن كبرائهم إلى صغرائهم لمكان استبداده فوقع اختياره على أبي محمد عبد الله بن يوسف قتيل عباس، فبايع له بالخلافة وهو غلام، ولقَّبه العاضد لدين الله، وزوجه ابنته وجهزها بما لم يسمع بمثله.

١٩٠

مقتل الصالح بن رزّيك وولاية ابنه رزّيك:

ولمّا استفحل أمر الصالح وعظم استبداده بجباية الأموال والتصرف وحجر العاضد، تنكَّر له الحرم ودس إلى الأمراء بقتله، وتولت كبر ذلك عمة العاضد الصغرى التي كانت كافلة الفائز بعد أختها.

واجتمع قوم من القواد والسودان منهم الريفي الخادم وابن الداعي والأمير ابن قوام الدولة وكان صاحب الباب، وتواطئوا على قتله ووقفوا في دهليز القصر، وأخرج ابن قوام الدولة الناس أمامه وهو خارج من القصر، واستوقفه عنبر الريفي يحادثه، وتقدم ابنه رزّيك فوثب عليه جماعة منهم وجرحوه، وضرب ابن الداعي الصالح فأثبته، وحمل إلى داره فبقي يجود بنفسه يومه، وإذا أفاق يقول: رحمك الله يا عباس، ومات من الغد، وبعث إلى العاضد يعاتبه على ذلك فحلف على البراءة من ذلك ونسبه إلى العمة، وأحضر ابنه رزّيك وولاه الوزارة مكان أبيه ولقَّبه العادل، فأذن له في الأخذ بثأره، فقتل العمة وابن قوام الدولة والأستاذ عنبر الريفي، وقام بحمل الدولة، وأُشير عليه بصرف شاور من قوص، وقد كان أبوه أوصاه ببقائه وقال له: قد ندمت على ولايته ولم يمكني عزله، فصرفه وولّى مكانه الأمير ابن الرفقة، فاضطرب شاور وخرج إلى طريق الواحات، وجمع وقصد القاهرة.

وجاء الخبر إلى رزّيك فعجز عن لقائه، وخرج في جماعة من غلمانه بعدة أحمال من المال والثياب والجوهر، وانتهى إلى طفيحة واعترضه ابن النضر وقبض عليه وجاء به إلى شاور فاعتقله واعتقل معه أخاه، فأراد الهرب من محبسه فوشى به أخوه فقُتِل لسنة من ولايته ولتسع سنين من ولاية أبيه.

وزارة شاور ثم الضرغام من بعده:

ودخل شاور القاهرة سنة ثمان وخمسين وخمسمائة، ونزل بدار سعيد السعداء ومعه ولده طز وشجاع والطازي، وولاّه العاضد الوزارة ولقَّبه أمير الجيوش، وأمكنه من أموال بني رزّيك، فاستصفى معظمها وزاد أهل الرواتب والجرايات عشرة أمثالها، واحتجب عن الناس، وكان الصالح بن رزّيك قد أنشأ في لواقته أمراء يسمون البرقية، وكان مقدمهم الضرغام وكان

١٩١

صاحب الباب، فنازع شاور في الوزارة لتسعة أشهر من ولايته، وثار عليه وأخرجه من القاهرة، فلحق بالشام وقتل ولده علياً وكثيراً من أمراء المصريين حتى ضعفت الدولة وخلت من الأعيان وأدى ذلك إلى خرابها.

مسير شيركوه وعساكر نور الدين إلى مصر:

ولما لحق شاور إلى الشام نزل على الملك العادل نور الدين بدمشق صريخا، وشرط له ثلث الجباية على أن يقيم له العساكر، وجهز نور الدين شيركوه وكان مقدماً في دولته فساروا في جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وقد تقدم نور الدين إلى أسد الدين شيركوه بأن يعيد شاور إلى وزارته وينتقم له ممن نازعه.

وسار نور الدين بعساكره إلى طرف بلاد الفرنج؛ ليمنعهم من اعتراض أسد الدين إن هموا به. ولما وصل أسد الدين وشاور إلى بلبيس لقيهم ناصر الدين همام وفخر الدين همام أخو الضرغام في عساكر مصر فهزموه، ورجع إلى القاهرة ومعه أخو الضرغام أسيراً، وفرّ الضرغام فقتل بالحبر عند مشهد السيدة نفيسة، وقتل أخواه، وعاد شاور إلى وزارته وتمكَّن منها، ثم نكث عهده مع أسد الدين وسلطانه وصرفه إلى الشام.

فتنة أسد الدين مع شاور وحصاره:

ولما رجع أسد الدين من مصر إلى الشام أقام بها في خدمة نور الدين، ثم استأذن نور الدين العادل سنة اثنتين وستين وخمسمائة في العود إلى مصر، فأذن له وجهزه في العساكر؛ وسار إلى مصر ونازل بلاد الفرنج في طريقه، ثم وصل إلى أطفيح من ديار مصر، وعبر النيل إلى الجانب الغربي ونزل الجيزة وتصرف في البلاد الغربية نيفاً وخمسين يوماً.

واستمد شاور الفرنج وجاء بهم إلى مصر، وخرج معهم للقاء أسد الدين شيركوه، فأدركوه بالصعيد، فرجع للقائهم على رهب لكثرة عددهم، وصدقهم القتال فهزمهم على قلة من معه، فإنهم لم يبلغوا ألفي فارس.

ثم سار إلى الاسكندرية وهو يجبي الأموال في طريقه إلى أن وصلها، فاستأمن أهلها وملكها، وولّى عليها صلاح الدين يوسف ابن أخيه

١٩٢

نجم الدين أيوب، ورجع إلى جباية الصعيد.

واجتمعت عساكر مصر والفرنج على القاهرة، وأزاحوا عللهم، وساروا إلى الإسكندرية وحاصروا بها صلاح الدين، فسار أسد الدين إليهم من الصعيد، ثم خذله بعض من معه من التُّركمان بمداخلة شاور، وبعثوا له أثر ذلك في الصلح، فصالحهم وردّ إليهم الإسكندرية.

ورجع إلى دمشق فدخلها آخر ذي القعدة من سنة اثنتين وستين وخمسمائة. واستطال الفرنج على أهل مصر وشرطوا عليهم أن ينزلوا بالقاهرة وشحنة، وأن تكون أبوابها بأيديهم؛ لئلا تدخل عساكر نور الدين، وقرر ضريبة يحملها كل سنة، فأجابه إلى ذلك.

رجوع أسد الدين إلى مصر ومقتل شاور ووزارته:

ثم طمع الفرنج في مصر واستطالوا على أهلها، وملكوا بلبيس، واعتزموا على قصد القاهرة. وأمر شاور بتخريب مصر خشية عليها منهم، فحرقت ونهب أهلها، ونزل الفرنج على القاهرة. وأرسل العاضد إلى نور الدين يستنجده، وخشي شاور من اتفاق العاضد ونور الدين، فداخل الفرنج في الصلح على ألفي دينار مصرية معجلة وعشرة آلاف أردب من الزرع، وحذرهم أمر القهر إلى ذلك، وكان فيه السفير الجليس بن عبد القوي، وكان الشيخ الموفَّق كاتب السر، وكان العاضد، قد أمرهم بالرجوع إلى رأيه، وقال: هو رب الحرمة علينا وعلى آبائنا وأهل النصيحة لنا.

فأمر الكامل شجاع بن شاور القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني أن يأتيه ويشاوره، فقال له: قل لمولانا (يعني العاضد) أن تقرير الجزية للفرنج خير من دخول الغز للبلاد واطلاعهم على الأحوال.

ثم بعث نور الدين العساكر مع أسد الدين شيركوه مدداً للعاضد كما سأل، وبعث معه صلاح الدين ابن أخيه وجماعة الأمراء. فلما سمع الفرنج بوصولهم أخرجوا عن القاهرة ورجعوا إلى بلادهم.

وقال ابن الطويل مؤرخ دولة العُبْيَديين: إنه هزمهم على القاهرة ونهب معسكرهم، ودخل أسد الدين إلى القاهرة في جمادى الأولى سنة أربع وستين وخمسمائة. وخلع عليه العاضد، ورجع إلى معسكره، وفرضت له

١٩٣

الجرايات. وبقي شاور على ريبة وخوف وهو يماطله فيما يعين له من الأموال.

ودس العاضد إلى أسد الدين بقتل شاور، وقال: هذا غلامنا ولا خير لك في بقائه ولا لنا. فبعث عليه صلاح الدين ابن أخيه وعِزُّ الدين خرديك.

وجاء شاور إلى أسد الدين على عادته فوجده عند قبر الإمام الشافعي، فسار إليه هنالك فاعترضه صلاح الدين وخرديك فقتلاه وبعثا برأسه إلى العاضد، ونهبت العامة دوره. واعتقل ابناه شجاع والطازي وجماعة من أصحابه بالقصر، وخلع عليه للوزارة، ولُقِّب المنصور أمير الجيوش. وجلس في دست الوزارة واستقر في الأمر وغلب على الدولة، وأقطع البلاد لعساكره، واستعد أصحابه في ولايتها، ورد أهل مصر إلى بلدهم، وأنكر ما فعلوه في تخريبها.

ثم اجتمع بالعاضد مرة أُخرى، وقال له جوهر الأستاذ: يقول لك مولانا لقد تيقنا أن الله قد ادخرك نصرة لنا على أعدائنا، فحلف له أسد الدين على النصيحة، فقال له: الأمل فيك أعظم، وخلع عليه وحسن عنده موقع الجليس بن عبد القوي، وكان داعي الدعاة وقاضي القضاة، فأبقاه على مراتبه.

وفاة أسد الدين وولاية صلاح الدين الوزارة:

ثم تُوفِّي أسد الدين لشهرين في أيام قلائل من وزارته، وقيل: لأحد عشر شهراً. وأوصى أصحابه أن لا يفارقوا القاهرة. ولما تُوفِّي كان معه جماعة من الأمراء النورية، منهم عين الدولة الفاروقي، وقطب الدين يسال وعين الدين المشطوب الهكاوي وشهاب الدين محمود الحازمي. فتنازعوا في طلب الرئاسة وفي الوزارة، وجمع كل أصحابه للمطالبة. ومال العاضد إلى صلاح الدين؛ لصغره وضعفه عنهم، ووافقه أهل دولته على ذلك بعد أن ذهب كثير منهم إلى دفع الغزو وعساكرهم إلى الشرقية، ويولّى عليهم قواقوش، ومال آخرون إلى وزارة صلاح الدين، ومال العاضد إلى ذلك لمكافأته عن خدمته السالفة، فاستدعاه وولاّه الوزارة. واضطرب أصحابه،

١٩٤

وكان الفقيه عيسى الهكاري من خلصاء صلاح الدين فاستمالهم إليه، إلاّ عين الدولة الفاروقي فإنه سار إلى الشام، وقام صلاح الدين بوزارة مصر نائباً عن نور الدين يكاتبه ويشركه في الكتاب مع كافة الأمراء بالديار المصرية.

ثم استبد صلاح الدين بالأمور، وضعف أمر العاضد، وهدم دار المعرفة بمصر وكانت حبساً وبناها مدرسة للشافعية، وبنى دار الغزل كذلك للمالكية، وعزل قضاة الشيعة، وأقام قاضياً شافعياً في مصر، واستناب في جميع البلاد.

حصار الفرنج دمياط:

ولما جاء أسد الدين وأصحابه إلى مصر وملكوها ودفعوهم عنها ندموا على ما فرطوا فيها، وانقطع عنهم ما كان يصل إليهم، وخشوا غائلة الغز على بيت المقدس، وكاتبوا الفرنج بصقلية والأندلس واستنجدوهم.

وجاءهم المدد من كل ناحية، فنزلوا دمياط سنة خمس وستين وخمسمائة، وبها شمس الخواض منكوريين، فأمدها صلاح الدين بالعساكر والأموال مع بهاء الدين قراقوش وأمراء الغز، واستمد نور الدين واعتذر عن المسير إليها بشأن مصر والشيعة، فبعث نور الدين العساكر إليها شيئاً فشيئاً، وسار بنفسه إلى بلاد الفرنج بسواحل الشام، فضيَّق عليها، فأقلع الفرنج عن دمياط لخمسين يوماً من نزولها، فوجدوا بلادهم خراباً، وأثنى العاضد على صلاح الدين في ذلك، ثم بعث صلاح الدين غرابيه نجم الدين وأصحابه إلى مصر، وركب العاضد للقائه تكرمة له.

واقعة الخصيان وعمارة:

ولما استقام الأمر لصلاح الدين بمصر غص به الشيعة وأولياؤهم، واجتمع منهم العوريش وقاضي القضاة ابن الكامل، والأمير المعروف الكاتب عبد الصمد، وكان فصيحاً وعمارة اليمني الشاعر الزبيدي وكان متولي كبرها، فاتفقوا على استدعاء الفرنج لإخراج الغز من مصر وجعلوا لهم نصيباً وافراً من ارتفاعها، وعمدوا إلى شيعي من خصيان القصر اسمه نجاح ولقبه مؤتمن الدولة، وكان قد ربى العاضد وصهره فأغروه بذلك

١٩٥

ورغبوا على أن يجمع رسول الفرنج بالعاضد فجمعه معه في بيته ملبساً بذلك. ولم يكن العاضد الذي حضر وأوهموه أنه عقد معه. ثم اتصل الخبر بنجم الدين بن مضيال من أولياء الشيعة، وكان نجم الدين قد اختصه صلاح الدين وولاه الإسكندرية.

واستغضبه بهاء الدين قراقوش ببعض النزغات، فظنوا أنه غضب فأطلعوه على شأنهم وأن يكون وزيراً وعمارة كاتب الدست، وصاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات مكان الفاضل بن كامل قاضي القضاة وداعي الدعاة، وعبد الصمد جابي الأموال، والعوريش ناظر عليهم، فوافقهم ابن مضيال ووشى بهم إلى صلاح الدين، فقبض عليهم وعلى رسول الفرنج وقررهم في عدة مجالس، وأحضر زمام القصر وهو مختص العرز، ونكر عليه خروج العاضد إلى بيت نجاح مع مختص، فحضر واعترف بالحق أن العاضد لم يحضر، فتحقق صلاح الدين براءته، وكان عمارة يجالس شمس الدولة تورنشاه، فنقل لأخيه صلاح الدين أنه امتدحه بقصيدة يغريه فيها بالمضي إلى اليمن ويحمله على الاستبداد، وأنه تعرض فيها للجانب النبوي يوجب استباحة دمه، وهو قوله:

فاخلق لنفسك ملكاً لا تضاف به إلـى سواك وأورِ النار في العلم

هذا ابن تومرت قد كانت ولايته كما يقول الورى لحماً على وَضَم

وكـان أول هذا الدين من رجل سـعى إلـى أن دعوه سيد الأمم

فجمعهم صلاح الدين وشنقهم في يوم واحد بين القصرين، وأخّر ابن كامل عنهم عشرين يوماً ثم شنقه.

ومر عمارة بباب القاضي الفاضل فطلب لقاءه فمُنع، فقال وهو سائر إلى المشنقة:

عبد الرحيم قد احتجب إن الخلاص هو العجب

وفي كتاب ابن الأثير أن صلاح الدين إنما اطلع على أمرهم من كتابهم الذي كتبوه إلى الفرنجة عثر على حامله، وقُرئ الكتاب وجيء به إلى صلاح الدين، فقتل مؤتمن الخلافة لقرينة، وعزل جميع الخدام، واستعمل على القصر بهاء الدين قراقوش، وكان خصياً أبيض.

١٩٦

وغضب السودان لقتل مؤتمن الخلافة، واجتمعوا في خمسين ألفاً، وقاتلوا أجنا وصلاح الدين بين القصرين، وخالفهم إلى بيوتهم فأضرمها ناراً، واحترقت أموالهم وأولادهم، فانهزموا وركبهم السيف، ثم استأمنوا ونزلوا الجيزة وعبر إليهم شمس الدولة تورنشاه فاستلحمهم.

قطع الخطبة للعاضد وانقراض الدولة العلوية بمصر:

كان نور الدين العادل يوم استقل صلاح الدين بملك مصر، وضعف أمر العاضد بها وتحكم في قصره يخاطبه في قطع دعوتهم من مصر والخطبة بها للمستضيء العباسي، وهو يماطل بذلك حذراً من استيلاء نور الدين عليه، ويعتذر بتوقع المخالفة من أهل مصر في ذلك فلا يقبل، ثم ألزمه ذلك، فاستأذن فيه أصحابه فأشاروا به وأنه لا يمكن مخالفة نور الدين.

ووفد عليه من علماء العجم الفقيه الخبشاني، وكان يدعى بالأمير العالم، فلما رأى إحجامهم عن هذه الخطبة قال: أنا أخطبها. فلما كان أول جمعة من المحرم سنة سبع وستين وخمسمائة صعد المنبر قبل الخطيب ودعا للمستنصر، فلم ينكر أحد عليه، فأمر صلاح الدين في الجمعة الثانية الخطباء بمصر والقاهرة أن يقطعوا خطبة العاضد ويخطبوا للمستضيء ففعلوا.

وكتب بذلك إلى سائر أعمال مصر، وكان العاضد في شدة من المرض، فلم يعلمه أحد بذلك، وتُوفِّي في عاشوراء من السنة نفسها.

وجلس صلاح الدين للعزاء فيه، واحتوى على قصر الخلافة بما فيه، فحمله بهاء الدين قراقوش إليه، وكان في خزائنهم من الذخيرة ما لم يسمع بمثله.

ثم أتى ابن خلدون على ذكر طائفة منها، ومنها مكتبة تحوي مائة وعشرين ألف سفر أعطاها للفاضل عبد الرحيم البيساني، وقال بعد ذلك:

ثم حبس رجالهم ونساءهم حتى ماتوا، وكانت بالدولة عند عهد العزيز والحاكم قد خلا جوّها من رجالات كتامة وتفرقوا في المشرق في سبيل ذلك الملك وانقرضوا بانقراض أمر الشيعة وموت العاضد آخر

١٩٧

خلفائهم، وأكلتهم الأقطار والوقائع شأن الدول.

ولما هلك العاضد وحوَّل صلاح الدين الدعوة إلى العباسية، اجتمع قوم من الشيعة بمصر وبايعوا لداود بن العاضد، ونُمي خبرهم إلى صلاح الدين، فقبض عليهم وقتلهم، وأخرج داود من القصر وذلك سنة تسع وستين وخمسمائة.

ثم خرج بعد حين بجهة فاس بالمغرب محمد بن عبد الله بن العاضد، ودعا هنالك وتَسمّى بالمهدي، فقُتل وصُلب، ولم يبق للعُبيديين ذكر إلا في بلاد الحثيثية من العراق، وهم دعاة الغداوية، وفي بلاد الإسماعيلية التي كانت فيها دعوتهم بالعراق. وقام بها ابن الصباح في قلعة ألموت وغيرها، إلى أن انقرضت تلك الدعوة أجمع بانقطاع دعوة العباسيين ببغداد، وعلى يد هولاكو من ولد جنكزخان من ملوك التتر سنة خمس وخمسين وستمائة.

١٩٨

ما جاء في خطط المقريزي في الجزء الثالث

في مبدأ أمر الفاطميين إلى عهد المستنصر الفاطمي

ذِكْرُ أبي عبد الله الشيعي:

هو الحسن بن أحمد بن محمد بن زكريا الشيعي من أهل صنعاء اليمن، ولي الحسبة في بعض أعمال بغداد، ثم سار إلى ابن حوشب باليمن وصار من كبار أصحابه. وكان ذا علم وفهم، وعنده دهاء ومكر. فورد على ابن حوشب بعد موت الحلواني داعي المغرب ورفيقه، فقال لأبي عبد الله الشيعي: إن أرض كتامة من بلاد المغرب قد خربها الحلواني وأبو سفيان وقد ماتا وليس لها غيرك، فإنها مواطأة ممهدة لك.

فخرج من اليمن إلى مكة، وقد زوده ابن حوشب بمال، فسأل عن حجاج كتامة فأرشد إليهم، واجتمع بهم، وأخفى عنهم قصده، وذلك أنه جلس قريباً منهم فسمعهم يتحدثون بفضائل أهل البيت، فحدثهم في ذلك وأطال ثم نهض ليقوم، فسألوه أن يأذن لهم بزيارته فأذن لهم، فصاروا يتردُّدون إليه لما رأوا من علمه وعقله، ثم إنهم سألوه إلى أين يقصد، فقال: أريد مصر فسروا بصحبته ورحلوا من مكة وهو لا يخبرهم شيئاً من خبره وما هو عليه من القصد. وشاهدوا منه عبادة وورعاً وتحرجاً وزهادة، فقويت رغبتهم فيه واشتملوا على محبته واجتمعوا على اعتقاده وساروا بأسرهم خدماً له، وهو في أثناء ذلك يستخبرهم عن بلادهم، ويعلم أحوالهم ويفحص عن قبائلهم، وكيف طاعتهم للسلطان في أفريقية، فقالوا له: ليس له علينا طاعة، وبيننا وبينه عشرة أيام. قال: أفتحملون السلاح؟ قالوا: هو

١٩٩

شغلنا، وما برح حتى عرف جميع ما هم عليه. فلما وصلوا إلى مصر أخذ يودعهم، فشق عليهم فراقه وسألوه عن حاجته بمصر فقال: ما لي بها من حاجة إلا أني أطلب التعليم بها، قالوا: فأما إذا كنت تقصد هذا فإن بلادنا أنفع لك وأطوع لأمرك، ونحن أعرف بحقك.

وما زالوا به حتى أجابهم إلى المسير معهم، فساروا به إلى أن قاربوا بلادهم، وخرج إلى لقائهم أصحابهم، وكان عندهم حسّ كبير من التشيع واعتقاد عظيم في محبة أهل البيت كما قرره الحلواني، فعرَّفهم القوم خبر أبي عبد الله، فقاموا بحق تعظيمه وإجلاله، ورغبوا في نزوله عندهم، واقترعوا فيمن يضيّفه، ثم ارتحلوا إلى أرض كتامة، فوصلوا إليها منتصف ربيع الأول سنة ثمان وثمانين ومائتين. فما منهم إلا من سأله أن يكون منزله عنده، فلم يوافق أحداً منهم، وقال: أين يكون (فج الأخيار)؟ فعجبوا من ذلك، ولم يكونوا قط ذكروه له منذ صحبوه، فدلوه عليه فقصده، وقال: إذا حللنا به صرنا نأتي كل قوم منكم في ديارهم ونزورهم في بيوتهم، فرضوا جميعاً بذلك.

وسار إلى جبل ايلحان وفيه (فج الأخيار)، فقال: هذا فج الأخيار، وما سمي إلاّ بكم، ولقد جاء في الآثار: (للمهدي هجرة ينبو بها عن الأوطان، ينصره فيها الأخيار من أهل ذلك الزمان قوم اسمهم مشتق من الكتمان، ولخروجكم في هذا الفج سمي (فج الأخيار)).

فتسامعت به القبائل، وأتته البربر من كل مكان، وعظم أمره، حتى إن كتامة اقتتلت عليه مع قبائل البربر، وهو لا يذكر اسم المهدي ولا يعرج عليه. فبلغ خبره إبراهيم بن الأغلب أمير أفريقية، فقال أبو عبد الله لكتامة: أنا صاحب النذر الذي قال لكم أبو سفيان والحلواني. فازدادت محبتهم له وعظم أمره فيهم، وأتته القبائل من كل مكان، وسار إلى مدينة (تاحروق)، وجمع الخيل وصيّر أمرها للحسن بن هارون كبير كتامة.

وخرج للحرب فظفر وغنم، وعمل على تاحروق خندقاً، فرجعت إليه قبائل من البربر وحاربوه فظفر بهم وصارت إليه أموالهم، ووالى الغزو فيهم حتى استقام له أمرهم، فسار وأخذ مدائن عدة.

فبعث إليه ابن الأغلب بعساكر كانت له معهم حروب عظيمة وخطوب

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

ـ فذاك أبو تراب.

ـ كلا ، ذاك أبو الحسن والحسين (ع).

والتفت مدير شرطة زياد الى صيفي منكرا عليه مقاله ليتقرب الى ابن سمية قائلا :

« يقول لك الأمير : هو ابو تراب ، وتقول أنت : لا؟!! »

فنهره صيفي ورد عليه وهو غير معتن به ولا بأميره قائلا :

« وإن كذب الأمير أتريد أن اكذب وأشهد له على باطل كما شهد! »

فثار ابن سمية وانتفخت اوداجه غضبا ، فقال له :

« وهذا أيضا مع ذنبك ».

والتفت الى شرطته وهو مغيظ فقال لهم : « علي بالعصا » فأتى بها فالتفت الى صيفي :

« ما قولك؟ ».

فقال له بكل شجاعة وايمان :

« أحسن قول أنا قائله فى عبد من عباد الله المؤمنين. »

وأمر زياد جلاوزته بضرب عاتقه حتى يلصق بالأرض ، فبادروا إليه وضربوه ضربا عنيفا حتى وصل عاتقه الى الأرض ، ثم أمرهم بالكف عنه والتفت إليه :

« إيه ما قولك فى علي؟ »

وأصر بطل العقيدة على ايمانه فقال :

ـ والله لو شرحتني بالمواسي والمدى ما قلت إلا ما سمعت مني.

ـ لتلعننه أو لأضربن عنقك!

ـ إذا تضربها والله قبل ذلك فان أبيت إلا أن تضربها. رضيت

٣٦١

بالله وشقيت أنت!

« ادفعوا في رقبته ».

ثم أمر به ثانيا أن يوقر في الحديد ويلقى فى ظلمات السجون(1) وأخيرا بعثه مع حجر فاستشهد معه في مرج عذراء.

ج ـ قبيصة بن ربيعة :

ومن جملة أصحاب حجر الذين أرهقهم زياد قبيصة بن ربيعة العبسي فقد بعث إليه مدير شرطته شداد بن الهيثم فهجم عليه خفية فلما أحس به قبيصة أخذ سيفه ووقف للدفاع عن نفسه ولحق به فريق من قومه فقال مدير الشرطة الى قبيصة مخادعا :

« أنت آمن على دمك ومالك ، فلم تقتل نفسك؟ »

ولما سمع بذلك اصحابه انخدعوا فلم يحاموا عنه ولم ينقذوه لأن خوفهم من سلطة زياد كان اشد وقعا في نفوسهم من خطر الموت ، فاندفعوا قائلين :

« قد امنت فعلام تقتل نفسك وتقتلنا معك؟ »

ولم يذعن لمقالة اصحابه وذلك لعلمه بغدر الأمويين وعدم وفائهم بالعهد والوعد فقال لهم :

« ويحكم إن هذا الدعي ابن العاهرة ، والله لئن وقعت فى يده لا افلت ابدا أو يقتلني ».

ـ كلا.

ولما لم يجد بدا من ذلك وضع يده في ايديهم وأخذ اسيرا الى زياد فلما مثل عنده قال له :

« أما والله لأجعلن لك شاغلا عن تلقيح الفتن والتوثب على الامراء »

__________________

(1) الطبري 4 / 198 ، الكامل 3 / 139.

٣٦٢

ـ إني لم آتك إلا على الأمان.

ـ انطلقوا به الى السجن(1) .

لقد نقض زياد الأمان وخاس بالميثاق ، ثم أمر به أن يحمل مع حجر وأصحابه الى مرج عذراء ، فحمل معهم ، فلما انتهت قافلتهم الى جبانة ( عرزم ) وكانت فيها داره ، نظر إليها وإذا بناته قد أشرفن من أعلا الدار ينظرن إليه ، وهن يخمشن الوجوه ، ويخلطن الدموع بالدعاء ، قد أخذتهن المائقة ، ومزق الأسى قلوبهن ، فلما نظر الى ذلك المنظر الرهيب طلب من الشرطة الموكلة بخفارته أن يسمحوا له بالدنو من بناته ليوصيهن بما أراد ، فسمحوا له بذلك ، فلما دنا منهن علا صراخهن فأمرهن بالسكوت والخلود الى الصبر ، وأرضاهن بوصيته التي مثلت الإيمان والرضا بقضاء الله قائلا :

« اتقين الله عز وجل ، واصبرن ، فاني أرجو من ربي في وجهي هذا إحدى الحسنيين إما الشهادة وهي السعادة ، وإما الانصراف إليكن في عافية ، وإن الذي كان يرزقكن ويكفيني مئونتكن هو الله تعالى ، وهو حي لا يموت ، أرجو أن لا يضيعكن ، وأن يحفظني فيكن ».

ثم ودعهن وانصرف ، ولما رأى من معه شجو بناته وما داخلهن من الفزع والمصاب رقّوا لهن ، ثم رفعوا أيديهم بالدعاء والابتهال الى الله تعالى طالبين منه العافية والسلامة الى قبيصة فانبرى إليهم قائلا :

« إنه لمما يعدل عندي خطر ما أنا فيه هلاك قومي حيث لا ينصرونني »(2) .

__________________

(1) تاريخ الطبري 6 / 149.

(2) نفس المصدر.

٣٦٣

أراد بذلك عدم نصرة قومه وخذلانهم له ، وان ذلك أشد وقعا على نفسه من هلاكه ، وسار قبيصة مع حجر الى مرج عذراء فاستشهد معه ، وأما بقية اصحاب حجر الذين استشهدوا معه فلم نعثر على معلومات وافية عنهم ، ونشير الى أسمائهم وهم :

شريك بن شداد الحضرمي.

كدام بن حيان العنزي.

محرز بن شهاب التميمي.

وهؤلاء الحماة الذين قدموا نفوسهم ضحايا للعقيدة ، وقرابين للحق

كانوا من خيار المسلمين ومن صالحائهم ، قد ساقتهم السلطة الأموية الى ساحة الإعدام ، فاستباحت دماءهم ، لا لذنب اقترفوه ، سوى مودتهم للعترة الطاهرة التي هي عديلة القرآن الكريم في لزوم مراعاتها ومودتها.

صدى الفاجعة :

وذعر المسلمون لهذا الحادث الخطير ، وعم السخط جميع ارجاء البلاد لأن حجرا من أعلام الإسلام ، ومن خيار صحابة النبيّ (ص) ، وقد انتهكت في قتله حرمة الإسلام ، لأنه لم يحدث فسادا في الأرض ، وإنما رأى منكرا فناهضه ، وجورا فناجزه ، رأى زيادا يؤخر الصلاة فطالبه باقامتها ورآه يسب امير المؤمنين فطالبه بالكف عنه ، فقتل من اجل ذلك ، وقد اندفعت الشخصيات الرفيعة في العالم الإسلامى الى اعلان سخطها على معاوية والى الإنكار عليه ، ومن الخير ان نذكر بعضهم ونستمع الى نقدهم وهم :

أ ـ الإمام الحسين (ع).

ورفع الإمام الحسين (ع) من يثرب رسالة الى معاوية أنكر فيها

٣٦٤

اشد الإنكار على ما ارتكبه من قتل حجر واصحابه الأبرار وهذا نصها :

« الست القاتل حجرا اخا كندة ، والمصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ولا يخافون فى الله لومة لائم؟ قتلتهم ظلما وعدوانا من بعد ما كنت اعطيتهم الإيمان المغلظة ، والمواثيق المؤكدة أن لا تأخذهم بحدث ، كان بينك وبينهم ولا بإحنة تجدها في نفسك عليهم »(1) .

لقد انكر الإمام (ع) برسالته على معاوية استباحته لدم حجر واصحابه المثاليين الذين انكروا الظلم وناهضوا الجور ، واستعظموا البدع وقد قتلهم ظلما وعدوانا ، بعد ما أكد على نفسه واعطاهم المواثيق المؤكدة ان لا يأخذهم بحدث ولا بإحنة فيما مضى ، ولكن ابن هند قد خاس بذلك ولم يف به.

ب ـ عائشة :

ومن جملة المنكرين على معاوية عائشة ، فقد دخل عليها في بيتها بعد منصرفه من الحج فقالت له :

« أأمنت ان اخبأ لك من يقتلك؟ »

فقال لها مخادعا :

« بيت الأمن دخلت ».

ـ اما خشيت الله في قتل حجر واصحابه؟(2) .

وكانت دوما تتحدث عن مصاب حجر فقد حدثت عما سمعته من رسول الله (ص) فى فضله قالت : سمعت رسول الله (ص) يقول :

__________________

(1) البحار 10 / 149.

(2) الطبري 6 / 156.

٣٦٥

سيقتل بعذراء أناس يغضب الله لهم وأهل السماء »(1) وقالت منددة بأهل الكوفة : « أما والله لو علم معاوية أن عند أهل الكوفة منعة ما اجترأ على أن يأخذ حجرا وأصحابه من بينهم حتى يقتلهم بالشام ، ولكن ابن آكلة الأكباد علم أنه قد ذهب الناس ، أما والله إن كانوا لجمجمة العرب عزا ومنعة وفقها ولله در لبيد حيث يقول :

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

لا ينفعون ولا يرجى خيرهم

ويعاب قائلهم وان لم يشغب(2)

ج ـ الربيع بن زياد :

ومن الناقمين على معاوية الربيع بن زياد البصري(3) عامله على خراسان فانه لما سمع بالنبإ المؤلم طاش لبّه وذهبت نفسه حسرات فقال والحزن باد عليه :

« لا تزال العرب تقتل صبرا بعده ـ أي بعد مقتل حجر ـ ولو نفرت عند قتله لم يقتل واحد منهم صبرا. ولكنها أقرت فذلت!! »

إن أهل الكوفة لو منعوا السلطة الأموية من قتل حجر وأصحابه لما

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 55 ، الاصابة 1 / 314.

(2) الاستيعاب 1 / 357.

(3) الربيع بن زياد بن أنس الحارثي البصري كان عاملا لمعاوية على خراسان وكان كاتبه الحسن البصري ، روي عن أبي بن كعب ، وعن جماعة وروى عنه قوم ، توفي سنة 51 ، جاء ذلك في تهذيب التهذيب 3 / 43 ، وجاء في الاصابة 1 / 491 ، ان الربيع وفد على عمر بن الخطاب فقال له : يا أمير المؤمنين والله ما وليت هذه الأمّة إلا ببلية ابتليت بها ، ولو أن شاة ضلت بشاطئ الفرات لسئلت عنها يوم القيامة ، فبكى عمر حينما سمع منه هذا الكلام.

٣٦٦

تمكن الأمويون من قتل أحرارهم وأخيارهم ، ولكنهم رضوا بالخمول والذل وكرهوا الموت في سبيل الله ، فهان أمرهم وذلوا ، وعمل فيهم الأمويون ما أرادوا من اخضاعهم للذل والهوان.

وبقي الربيع ذاهل النفس ، خائر القوى ، قد مزق الأسى قلبه ، فلما صار يوم الجمعة صلى بالناس صلاة الجمعة ، وبعد الفراغ منها خطب الناس فقال فى خطابه :

« أيها الناس ، إني قد مللت الحياة وإني داع فأمنوا » ثم رفع يديه بالدعاء فقال :

« اللهم ، إن كان للربيع عندك خير فاقبضه إليك وعجل ».

فاستجاب الله دعاءه فما فارق المجالس حتى وافاه الأجل المحتوم(1) .

د ـ الحسن البصري :

وعدّ الحسن البصري قتل حجر إحدى الموبقات الأربعة التي ارتكبها معاوية ، فقال فيما يخص حجرا :

« ويل له من حجر وأصحاب حجر مرتين »(2) .

ه ـ عبد الله بن عمر :

لقد ذعر ابن عمر حينما علم بمقتل حجر ، فقد أخبر بقتله وهو بالسوق وكان محتبى فأطلق حبوته وولى وهو يبكي أشد البكاء وأمرّه(3) .

و ـ معاوية بن خديج :

__________________

(1) الكامل 3 / 195.

(2) ذكرنا حديثه بكامله مع ترجمته فى فصول هذا الكتاب.

(3) الاصابة 1 / 314.

٣٦٧

وانتهى الخبر المؤلم الى معاوية بن خديج(1) وكان في افريقية مع الجيش ، فقال لقومه الذين كانوا معه من كندة :

« ألا ترون أنا نقاتل لقريش ونقتل أنفسنا لنثبت ملكها ، وأنهم يثبون على بنى عمنا فيقتلونهم ».

لقد كان قتل حجر من الأحداث الكبار وكان صدعا في الاسلام وبلاء على عموم العرب ، وكان معاوية نفسه لا يشك فى ذلك فكان ينظر إليه شبحا مخيفا ويردد ذكره في خلواته ، وقد ذكره كثيرا في مرضه الذي هلك فيه فكان يقول : « ويلي منك يا حجر » وكان يقول : « يوم لي من ابن الأدبار ـ يعني حجرا ـ طويل » قال ذلك ثلاث مرات(2) .

نعم ، أن يومه لطويل من حجر وأمثاله من المؤمنين والصالحين الذين سفك دماءهم لا لذنب اقترفوه ، سوى حبهم لأهل البيت ، وهنا ينتهي بنا الحديث عن محنة حجر وأصحابه لنلتقي بزملاء له آخرين.

رشيد الهجري :

ورشيد الهجري يعد في طليعة رجال الإسلام ورعا وتقى وعلما وفضلا ، فقد تتلمذ فى مدرسة أمير المؤمنين ونال الكثير من علومه ومعارفه فكان (ع) يسميه ( رشيد البلايا ) وحدثت ابنته قنو قالت : سمعت أبي يقول :

__________________

(1) معاوية بن خديج بن جفنة السكوني ، وقيل الكندي : هو الذي قتل العبد الصالح الطيب محمد بن أبي بكر بأمر ابن العاص ، وقد غزا افريقية ثلاث مرات ، جاء ذلك في الاستيعاب 3 / 389.

(2) الطبري 6 / 156.

٣٦٨

« قال لي أمير المؤمنين ، يا رشيد كيف صبرك إذا أرسل إليك دعي بني أمية فقطع يديك ورجليك ولسانك؟ »

ـ يا أمير المؤمنين آخر ذلك الى الجنة؟

ـ يا رشيد أنت معي في الدنيا والآخرة.

وخرج رشيد مع أمير المؤمنين الى بستان فاستظلا تحت نخلة ، فقام صاحب البستان الى نخلة ، فأخذ منها رطبا وقدمه الى أمير المؤمنين فأكلعليه‌السلام منه ، فالتفت رشيد الى الإمام قائلا له :

« ما أطيب هذا الرطب!؟ »

ـ أما انك ستصلب على جذعها!!

فكان رشيد بعد حديث الإمام يتعاهد تلك النخلة التي أكل من رطبها فيسقيها ويتعبد تحتها واجتاز عليها يوما فرأى سعفها قد قطع فشعر بدنو أجله ، واجتاز عليها مرة أخرى فرأى نصفها قد جعل زرنوقا يستسقى عليه فتيقن بدنو الأجل المحتوم منه(1) ، وفي فترات تلك المدة الرهيبة بعث خلفه ابن سمية ، فلما حضر عنده قال له :

« ما قال لك خليلك إنا فاعلون بك؟ »

ـ تقطعون يديّ ورجليّ وتصلبونني.

ـ أما والله لأكذّبن حديثه ، خلّوا سبيله.

فخلت الجلاوزة سراحه ، فلما خرج قال زياد لجلاوزته : ردّوه ، فردوه إليه ، فالتفت له قائلا :

« لا نجد لك شيئا أصلح مما قال صاحبك ، إنك لا تزال تبغي لنا سوءا إن بقيت ، اقطعوا يديه ورجليه » ، فامتثلت الجلاوزة أمره ، فقطعوا

__________________

(1) التعليقات على منهج المقال ص 140.

٣٦٩

يديه ورجليه وهو يتكلم ، فغاظ كلامه زيادا ، فقال لجلاوزته : اصلبوه خنقا ، فقال رشيد لهم : « قد بقي لي عندكم شيء ما أراكم فعلتموه ـ أراد بذلك قطع لسانه ـ » فأمر ابن سمية بقطع لسانه ولما أرادوا قطع لسانه قال لهم : « نفسوا عني حتى أتكلم كلمة واحدة » ، فأعطوه ذلك ، فقال : « هذا والله تصديق خبر أمير المؤمنين (ع) أخبرني بقطع لساني » ، ثم قطع الجلاوزة لسانه(1) .

أي ذنب اقترفه هذا العابد العظيم حتى يستحق هذا التنكيل ويمثل به بدلك التمثيل الفظيع ، ولكن ابن سمية ومعاوية قد راما بذلك تصفية الحساب مع شيعة أهل البيت والقضاء على روح التشيع.

عمرو بن الحمق الخزاعي :

وكان عمرو بن الحمق يحمل شعورا دينيا قويا حيا ، وكان من خيرة

الصحابة في ورعه وتقواه ، وهو الذي سقى النبي لبنا فدعا له (ص) بأن يمتعه الله بشبابه ، فاستجاب الله دعاء نبيه فأخذ عمرو بعنق الثمانين عاما ولم تر في كريمته شعرة بيضاء(2) .

وكان من صفوة أصحاب أمير المؤمنين (ع) ومن خلص أصحابه ، وقد دعاعليه‌السلام له فقال : « اللهم نوّر قلبه بالتقى ، واهده الى صراطك المستقيم »(3) ، وكان (ع) يكبره ويجله ويقدمه على غيره ، فقد قال

__________________

(1) سفينة البحار 1 / 522 ، وقال الحافظ الذهبي في التذكرة قتل زياد رشيدا الهجري لتشيعه ، فقطع لسانه وصلبه.

(2) الاصابة 2 / 526.

(3) سفينة البحار 2 / 360.

٣٧٠

له : « ليت في جندي مثلك مائة ». وقال لأمير المؤمنين معربا له عن ولائه واخلاصه :

« يا أمير المؤمنين ، والله ما أحببتك للدنيا ولا للمنزلة تكون لي بها ، وإنما أحببتك لخمس خصال ، إنك أول المؤمنين إيمانا ، وابن عم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأعظم المهاجرين والأنصار ، وزوج سيدة النساءعليها‌السلام ، وأبو ذريته الباقية من رسول الله (ص) ، فلو قطعت الجبال الرواسي ، وعبرت البحار الطوامي في توهين عدوك وتلقيح حجتك لرأيت ذلك قليلا من كثير ما يجب علي من حقك »(1) .

وقد دلّ حديثه على عقيدته وإيمانه وعظيم ولائه لأمير المؤمنين (ع) ولاء يلتمس منه وجه الله ويبغي فيه الدار الآخرة.

ولما ولى زياد الكوفة وتتبع زعماء الشيعة ووجوههم خاف الخزاعي من سلطته الغاشمة ففرّ الى المدائن ومعه رفاعة بن شداد فمكثا فيها برهة من الزمن ثم هربا الى الموصل وقبل أن يصلا إليها مكثا في جبل هناك ليستجما فيه ، وبلغ بلتعة بن أبي عبد الله عامل معاوية أن رجلين قد كمنا في جبل من جبال الموصل فاستنكر شأنهما فسار إليهما مع فريق من أصحابه ، فلما انتهوا الى الجبل خرج إليهما عمرو ورفاعة ، فأما عمرو فقد كان مريضا لأنه قد سقي سما وليس عنده قوى يستطيع بها على خلاص نفسه فوقف ولم يهرب ، وأما رفاعة فقد كان في شرخ الشباب فاعتلى فرسه ثم التفت الى عمرو فقال له : « أقاتل عنك؟ ».

فنهاه عن ذلك وقال له :

« وما ينفعني أن تقاتل انج بنفسك إن استطعت. »

__________________

(1) التعليقات ص 246.

٣٧١

ومضى رفاعة فهجم على القوم فأفرجوا له ، ثم خرجوا فى طلبه فلم يتمكنوا عليه لأنه كان راميا ، وأخذ عمرو أسيرا وطلبوا منه أن يعرفهم شخصيته فامتنع وقال لهم :

« أنا من إن تركتموه كان أسلم لكم ، وإن قتلتموه كان أضر لكم ».

وأصروا عليه أن يعرفهم نفسه ، فأبى ، فارتابوا من أمره ، فأرسلوه مخفورا الى عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي حاكم الموصل ، فلما رآه عرفه ورفع بالوقت رسالة الى معاوية عرفه بالأمر ، فأجابه :

« إنه زعم أنه طعن عثمان بن عفان تسع طعنات بمشاقص(1) كانت معه ، وإنا لا نريد أن نعتدي عليه ، فاطعنه تسع طعنات كما طعن عثمان ».

فأخرجه عبد الرحمن وأمر بطعنه تسع طعنات فمات في الاولى أو الثانية منها(2) ثم احتز رأسه وبعثه الى معاوية فأمر أن يطاف به في الشام وغيره فكان أول رأس طيف به في الإسلام(3) ثم أمر به أن يبعث الى زوجته آمنة بنت الشريد وكانت في سجنه فجيء به فوضع فى حجرها وهي غافلة لا تعلم من أمره شيئا ، فلما بصرت به اضطربت حتى كادت أن تموت ثم قالت ودموعها تتبلور على وجهها :

« وا حزناه لصغره في دار هوان ، وضيق من ضيمه سلطان ، نفيتموه عني طويلا ، وأهديتموه إليّ قتيلا ، فأهلا وسهلا بمن كنت له غير قالية ، وأنا له اليوم غير ناسية ».

__________________

(1) المشاقص : جمع مفرده ـ مشقص ـ النصل العريض ، أو سهم فيه نصل عريض.

(2) تاريخ الطبري.

(3) الاستيعاب 2 / 517.

٣٧٢

ثم التفتت الى الحرسي فقالت له :

« ارجع به أيها الرسول الى معاوية فقل له : ولا تطوه دونه ، أيتم الله ولدك ، وأوحش منك أهلك ، ولا غفر لك ذنبك ».

ورجع الرسول الى معاوية فأخبره بمقالتها فغضب وغاظه كلامها فأمر باحضارها في مجلسه ، فجيء بها إليه فقال لها :

« أنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغنى؟ »

فانبرت إليه غير مكترثة ولا هيّابة لسلطانه قائلة :

« نعم ، غير نازعة عنه ، ولا معتذرة منه ، ولا منكرة له ، فلعمري لقد اجتهدت فى الدعاء ان نفع الاجتهاد وإن الحق لمن وراء العباد ، وما بلغت شيئا من جزائك وإن الله بالنقمة من ورائك!! »

فالتفت إياس بن حسل الى معاوية متقربا إليه :

« أقتل هذه يا أمير المؤمنين؟ فو الله ما كان زوجها أحق بالقتل منها ».

فقالت له : « تبا لك ، ويلك بين لحييك كجثمان الضفدع ، ثم أنت تدعوه الى قتلي كما قتل زوجي بالأمس!!! إن تريد إلا أن تكون جبارا فى الأرض وما تريد أن تكون من المصلحين ».

فضحك معاوية وقال متبهرا :

« لله درك اخرجي!! ثم لا أسمع بك في شيء من الشام ».

فقالت له : « وأبي لأخرجن ثم لا تسمع لي في شيء من الشام فما الشام لي بحبيب ولا اعرج فيها على حميم ، وما هي لي بوطن ، ولا أحن فيها الى سكن ، ولقد عظم فيها ديني ، وما قرت فيها عيني ، وما أنا فيها إليك بعائدة ، ولا حيث كنت بحامدة ».

وثقل كلامها على معاوية فأشار إليها ببنانه بالخروج ، فخرجت

٣٧٣

وهي تقول :

واعجبي لمعاوية يكف عنى لسانه ويشير الى الخروج ببنانه ، أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد شديد أوجع من نوافد الحديد ، أو ما أنا بابنة الشريد ».

ثم خرجت من مجلسه(1) لقد كان قتل عمرو من الأحداث الجسام في الإسلام لأنه من صحابة النبي (ص) وقد عمد معاوية الى اراقة دمه فخالف بذلك ما أمر الله به من حرمة سفك دماء المسلمين إلا بالحق ، ولم يشف قتله غليل معاوية فقد أمر بأن يطاف برأسه في بلاد المسلمين وبعث به الى زوجته فروعها وكادت أن تموت من ألم المصاب ، وقد رفع الإمام الحسين (ع) من يثرب رسالة الى معاوية انكر فيها ارتكابه لهذا الحادث الخطير وهذا نصها :

« أو لست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله (ص) العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه ، واصفر لونه بعد ما أمنته وأعطيته من عهود الله ومواثيقه ما لو اعطيته طائرا لنزل إليك من رأس الجبل ثم قتلته جرأة على ربك ، واستخفافا بذلك العهد »(2) .

لقد اشاد الإمام بفضل عمرو فذكر أنه صاحب رسول الله (ص) وانه قد أبلت العبادة جسمه ، كما ذكر ان معاوية قد ابرم عهدا خاصا فى شأنه يتضمن أمنه وعدم البغي عليه ولكنه قد خاس بعهده ولم يف به.

__________________

(1) أعلام النساء 1 / 4.

(2) التعليقات ص 246.

٣٧٤

أوفى بن حصن :

وكان أوفى بن حصن من المنددين بالسياسة الأموية ، ومن الناقدين لسلطتهم ، وكان يذيع مساوئهم بين أوساط الكوفيين فبلغ ذلك زيادا فبعث في طلبه فاختفى أوفى واستعرض زياد الناس فاجتاز عليه أوفى فشك في أمره فقال لمن معه :

« من هذا؟ »

ـ أوفى بن حصن.

ـ عليّ به.

فجيء به إليه فقال متبهرا : « أتتك بخائن رجلاه تسعى ». ثم التفت إليه قائلا :

ـ ما رأيك في عثمان؟

ـ ختن رسول الله (ص) على ابنتيه.

ـ ما تقول في معاوية؟

ـ جواد حليم.

ـ ما تقول فيّ؟

ـ بلغني أنك قلت بالبصرة : « والله لآخذن البريء بالسقيم والمقبل بالمدبر »

ـ قد قلت ذلك.

ـ خبطتها خبط عشواء!!

ـ ليس النفاخ بشر الزمرة.

ثم أمر بقتله(1) ، إن نكران أوفى لسياسة زياد في ذلك الظرف

__________________

(1) الكامل 3 / 183.

٣٧٥

العصيب من اعظم الأعمال التي قام بها ، ومن أفضل الجهاد الذي عناه رسول الله (ص) بقوله : « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ، وأفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ورجل تكلم عند سلطان جائر ، فأمر به فقتل »(1) .

جويرية بن مسهر العبدي :

وكان جويرية من خلّص أصحاب الإمام أمير المؤمنين ومن حملة حديثه ومن المقربين عنده فقد نظر إليه يوما فناداه : يا جويرية الحق بي فأني إذا رأيتك هويتك ، ثم حدثه ببعض أسرار الإمامة وقال له : « يا جويرية أحب حبيبنا ما أحبنا فاذا أبغضنا فابغضه ، وابغض بغيضنا ما ابغضنا فاذا أحبنا فأحبه »(2) ، ودخل على أمير المؤمنين يوما وكان مضطجعا فقال له جويرية :

« أيها النائم استيقظ فلتضربن على رأسك ضربة تخضب منها لحيتك ».

فتبسم أمير المؤمنين (ع) وانبرى إليه فأخبره بما يجري عليه من بعده من ولاة الجور قائلا :

« وأحدثك يا جويرية بأمرك ، أما والذي نفسي بيده لتعتلن(3) الى العتل الزنيم ، فليقطعن يدك ورجلك وليصلبنك تحت جذع كافر »(4) .

وما دارت الأيام حتى استدعى ابن سمية جويرية فأمر بقطع يده ورجله

__________________

(1) النصائح ص 60.

(2) ابن أبي الحديد وقريب منه جاء في التعليقات ص 366.

(3) لتعتلن : أي لتجذبن.

(4) الكافر : القصير.

٣٧٦

ثم صلبه على جذع قصير(1) ، وقد ألف هشام بن محمد السائب كتابا فى فاجعة جويرية ورشيد وميثم التمار(2) .

عبد الله بن يحيى الحضرمي :

وكان عبد الله الحضرمى من أولياء أمير المؤمنين ومن صفوة أصحابه وكان من شرطة الخميس(3) وقد قال (ع) له يوم الجمل :

« أبشر يا عبد الله فانك وأباك من شرطة الخميس حقا لقد أخبرني رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله باسمك واسم أبيك في شرطة الخميس(4) .

ولما قتل أمير المؤمنين (ع) حزن عليه عبد الله حزنا مرهقا فترك الكوفة وبنى له صومعة يتعبد فيها هو وأصحابه المؤمنون ، ولما علم ابن هند بجزعهم وحزنهم على موت أمير المؤمنين (ع) أمر باحضارهم عنده ، فلما جيء بهم أمر بقتلهم صبرا فقتلوا(5) ففي ذمة الله هؤلاء الصلحاء الأخيار الذين سفكت دماؤهم ، وتقطعت أوصالهم ، ولم يرتكبوا ذنبا أو يحدثوا في الإسلام حدثا سوى ولائهم لأمير المؤمنين (ع) امتثالا لرسول الله صلى الله

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد.

(2) التعليقات ص 366.

(3) الخميس : اسم من أسماء الجيش سمي به لأنه قد قسم الى خمسة أقسام المقدمة والميمنة والميسرة والقلب والساقة ، وقيل : إنما سمى به لأن الغنائم تخمّس فيه جاء ذلك فى نهاية ابن الأثير ، وذكرت بعض المصادر أن شرطة الخميس كانوا معروفين بالثقة والعدالة حتى كانت شهادة أحدهم تعدل شهادة رجلين.

(4) التعليقات ص 214.

(5) البحار 10 / 102.

٣٧٧

عليه وآله الذي فرض ودّه على جميع المسلمين.

ولم يقتصر معاوية في عدائه للشيعة على قتل زعمائهم ، فقد قام بأمور بالغة الخطورة وهي :

هدم دور الشيعة :

وبذل معاوية جميع جهوده في سبيل القضاء على شيعة أمير المؤمنين فأمر عماله أن يهدموا دورهم ، فقامت جلاوزته بهدمها(1) وقد تركهم بلا مأوى يأوون إليه كل ذلك لأجل القضاء على التشيع ومحو ذكر أهل البيتعليهم‌السلام .

عدم قبول شهادة الشيعة :

وعمل معاوية جميع ما يمكنه في اذلال الشيعة وفهرهم ، فقد كتب الى جميع عماله أن لا يجيزوا لأحد من شيعة أمير المؤمنين وأهل بيته شهادة(2) فامتثل العمال أمره ، فلم تقبل شهادة الشيعة وهم من ثقات المسلمين وعدولهم وأخيارهم.

اشاعة الارهاب والاعتقال :

وأذاع معاوية الرعب والإرهاب فى نفوس الشيعة فخلّد بعضهم في السجون حتى ماتوا ، وروّع جمعا آخرين حتى تركوا أوطانهم وفرّوا هائمين على وجه الأرض يطاردهم الخوف والرعب ، وقد قبضت شرطته

__________________

(1) اعيان الشيعة 4 / 46.

(2) شرح ابن أبي الحديد 3 / 15 ، ذخيرة الدارين ص 19.

٣٧٨

على الكثيرين منهم فجيء بهم مخفورين إليه فقابلهم بالاستخفاف والاستهانة والتحقير ونحن نذكر أسماءهم مع ما جرى عليهم من العسف والظلم وهم :

1 ـ محمد بن أبي حذيفة :

محمد بن أبي حذيفة يعد في طليعة ثقات الإسلام ومن خيرة صالحاء المسلمين فقد كان من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وقد قال أمير المؤمنين (ع) في حقه : « ان المحامدة تأبى أن يعصى الله » ثم عده منهم ، وكان ملازما لأمير المؤمنين وفى خدمته ، ولما قتل (ع) وانتهى الأمر الى معاوية أراد قتله ثم بدا له أن يسجنه فسجنه أمدا غير قصير ، والتفت يوما الى أصحابه فقال لهم : « ألا نرسل الى هذا السفيه محمد بن أبي حذيفة فنبكته ونخبره بضلاله ، ونأمره أن يقوم فيسب عليا » فأجابوه الى ذلك ، ثم أمر باحضاره فلما مثل عنده التفت إليه قائلا :

« يا محمد ألم يأن لك أن تبصر ما كنت عليه من الضلالة بنصرتك علي بن أبي طالب (ع) ألم تعلم أن عثمان قتل مظلوما وان عائشة وطلحة والزبير خرجوا يطلبون بدمه وان عليا هو الذي دس الناس في قتله ونحن اليوم نطلب بدمه ».

فأجابه محمد : « إنك لتعلم أني أمس القوم بك رحما وأعرفهم بك ».

فقال له معاوية : أجل. واندفع محمد فقال له :

« فو الله الذي لا إله غيره ما اعلم أحدا شرك في دم عثمان والّب الناس عليه غيرك لما استعملك ، ومن كان مثلك فسأله المهاجرون والأنصار أن يعزلك فأبى ففعلوا به ما بلغك ، والله ما أحد شرك فى قتله بدئا وأخيرا إلا طلحة والزبير وعائشة فهم الذين شهدوا عليه بالعظمة وألّبوا عليه الناس وشركهم في ذلك عبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار والأنصار جميعا ».

٣٧٩

فارتاع معاوية وقال منكرا عليه :

« قد كان ذلك؟!! »

« أي والله ، وإني لأشهد أنك منذ عرفتك في الجاهلية والإسلام لعلى خلق واحد ، ما زاد الإسلام فيك لا قليلا ولا كثيرا وإن علامة ذلك فيك لبينة تلومنى على حبي عليا ، خرج مع علي كل صوام قوام مهاجري وانصاري وخرج معك ابناء المنافقين والطلقاء والعنقاء خدعتهم عن دينهم ، وخدعوك عن دنياك ، والله يا معاوية ما خفي عليك ما صنعت ، وما خفي عليهم ما صنعوا إذ احلوا انفسهم بسخط الله في طاعتك ، والله لا ازال احب عليا لله ولرسوله ، وابغضك في الله ورسوله ابدا ما بقيت!! »

ففزع معاوية وقال : « إني اراك على ضلالك بعد ردوه الى السجن »

فردوه للسجن فمكث فيه مدة من الزمن حتى مات فيه(1) .

لقد لاقى محمد حتفه وهو مروع في ظلمات السجون لأنه لم يرتض اعمال معاوية ولم يقره على منكراته ومساوئه ، وهكذا كان مصير الأحرار والنبلاء المعارضين لحكومة معاوية يلاقون التعذيب والتنكيل والتخليد في السجون.

2 ـ عبد الله بن هاشم المرقال :

ومن زعماء الشيعة وعيونهم الذين روعهم معاوية الزعيم المثالي عبد الله ابن هاشم المرقال ، فقد كان معاوية يحمل فى نفسه كمدا وحقدا عليه وذلك لولائه واخلاصه لأمير المؤمنين (ع) ولموقف ابيه هاشم في يوم صفين ذلك الموقف الخالد الذي اخافه وارهبه حتى صمم على الهزيمة والفرار ، وللتشفي والانتقام منه فقد كتب الى عامله زياد رسالة يطلب فيها القبض على عبد الله

__________________

(1) رجال الكشي ص 47.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391