تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني15%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 391

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 391 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 131158 / تحميل: 11534
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ١

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم انتزاعها منه وانقراض أمر بني المسيب من الموصل:

ولما قتل إبراهيم وملك تُتُش الموصل ولّى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش، فدخلها مع أمه صفية عند ملك شاه، واستقرت هي وأعمالها في ولايته، وسار تُتُش إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها. وزحف إليه بركيارق وابن أخيه ملك شاه وتقاتلا فانهزم تُتُش، وقام بمكانه ابنه رضوان وملك حَلب وأمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه. واجتمعت عليه رجال، وجاء إلى حران فملكها، فكاتبه محمد بن مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه توران بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على علي بن مسلم بن قريش بالموصل، فسار إليهم وقبض على محمد بن مسلم وسار به إلى نصيبين فملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه ورجع إلى مدينة بلد. وقتل بها محمد بن مسلم غريقاً، وعاد إلى حصار الموصل، واستنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، فسار إليه منجداً له، وبعث كربوقا إليه عسكراً مع أخيه ألتوتناش، فرده مهزوماً إلى الجزيرة، فتمسك بطاعة كربوقا وجاء مدداً له على حصار الموصل، واشتد الحصار بعلي بن مسلم، فخرج من الموصل ولحق بصدقة بن مزيد بالحلَّة وملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر. وانقرض ملك بني المسيب من الموصل وأعمالها واستولى عليها ملوك الغز من السلجوقية أمراؤهم والبقاء لله وحده.

ما جاء من أخبارهم بتاريخ أبي الفداء الجزء الثالث:

في هذه السنة (٣٨٠) استولى أبو الذوّاد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلَّد بن جعفر أمير بني عقيل على الموصل، وقتل أبا الطاهر ابن ناصر الدولة بن حمدان، وقتل أولاده وعدة من قواده بعد قتال جرى بينهما واستقر أمر أبي الذوّاد بالموصل.

وفي سنة ٣٨٦ مات أبو ذَوّاد بن المسيب أمير الموصل وولي بعده أخوه المقلَّد بن المسيب.

وفي سنة ٣٩١ قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب بن رافع بن

٢٢١

المقلَّد بن جعفر بن عمر بن مهنا بن يُزَيدْ (بالتصغير) بن عبد الله بن زيد من ولد ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العقيلي، وكان المقلَّد المذكور أعور، وأخوه أبو الذوّاد محمد بن المسيب هو أول من استولى منهم على الموصل وملكها في سنة ثمانين وثلاثمائة. واستمر مالكها حتى قتل في هذه السنة، قتله مماليكه التُّرك بالأنبار وكان قد عظم شأنه، ولما مات قام مقامه ابنه قرواش بن المقلَّد بن المسيب. وفي هذه الصفحة في حوادث سنة ٣٩٢ جرى بين قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي وبين عسكر بهاء الدولة حروب انتصر فيها قرواش، ثم انتصر عسكر بهاء الدولة.

وفي حوادث سنة ٤١١ في الموصل قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد على وزيره أبي القاسم المغربي، ثم أطلقه فيما بعد وقبض أيضاً على سليمان بن فهد، وكان ابن فهد في حداثته بين يدي الصابي ببغداد، ثم صعد إلى الموصل وخدم المقلَّد بن المسيب والد قرواش، ثم نظر في ضياع قرواش فظلم أهلها، ثم سخط قرواش عليه وحبسه، ثم قتله وهو المذكور في شعر ابن الزمكدم في أبياته وهي:

ولـيل كـوجه البرقعيدي مظلم وبـرد أغـانيه وطـول قرونه

سـريت ونومي فيه نوم مشرد كـعقل سـليمان بن فهد ودينه

عـلى أولـق فـيه التفات كأنه أبـو جـابر في خطبه وجنونه

إلـى أن بدا نور الصباح كأنه سنى وجه قرواش وضوء جبينه

وكان من حديث هذه الأبيات أن قرواشاً جلس في مجلس شرابه في ليلة شاتية، وكان عنده المذكورون، وهم البرقعيدي وكان مغنياً لقرواش وسليمان بن فهد الوزير المذكور، وأبو جابر وكان حاجباً لقرواش. فأمر قرواش الزمكدم أن يهجو المذكورين ويمدحه فقال هذه الأبيات البديهية.

في حوادث سنة ٤٢٥ وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد صاحب نصيبين فقصد ولده قريش عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين واستقر قريش بها.

في حوادث سنة ٤٣٧ قتل عيسى بن موسى لهَمَذاني صاحب أربل،

٢٢٢

قتله ابنا أخ له وملكا قلعة أربل، وكان لعيسى أخ آخر اسمه سلار بن موسى قد نزل على قرواش صاحب الموصل لوحشة كانت بين سلار وأخيه عيسى. فلما بلغه قتل أخيه سار قرواش إلى أربل ومعه سلار فملكها وتسلمها سلار وعاد قرواش إلى الموصل.

في حوادث سنة ٤٤٢ استولى أبو كامل بركة بن المقلَّد، على أخيه قرواش بن المقلَّد، ولم يبق لقرواش مع أخيه المذكور تصرف في المملكة وغلب عليها أبو كامل المذكور ولقبُه زعيم الدولة.

في حوادث سنة ٤٤٣ تُوفِّي بركة بن المقلَّد بن المسيب بتكريت، واجتمع العرب وكبراء الدولة على إقامة ابن أخيه قريش بن بدران بن المقلَّد وكان بدران بن المقلَّد المذكور صاحب نصيبين، ثم صارت لقريش المذكور بعده. وكان قرواش تحت الاعتقال منذ اعتقله أخوه بركة مع القيام بوظائفه ورواتبه، فلما تولّى قريش نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتقله بها.

في حوادث سنة ٤٤٤ مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة، أو منيع قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي الذي كان صاحب الموصل، وكان محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحمل فدفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وقيل: إن ابن أخيه قريش بن بدران المذكور أحضر عمه قرواشاً المذكور من الحبس إلى مجلسه وقتله فيه. وكان قرواش من ذوي العقل وله شعر حسن منه:

لـلـه در الـنـائبات فـإنه صدأ القلوب وصيقل الأحرار

مـا كنت إلاَّ زبرة فطبعنني سيفاً وأطلق صرفهن غراري

وجمع قرواش المذكور بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم ذلك، فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة. وقال مرة: ما برقبتي غير خمسة أو ستة قتلتهم من البادية، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.

في حوادث سنة ٤٥٠ سار إبراهيم نيال بعد انفصاله عن الموصل إلى هَمَذان وسار طغرلبك من بغداد في أثر أخيه أيضاً إلى هَمَذان، وتبعه من كان ببغداد من التُّرك، فقصد البساسيري بغداد ومعه قريش بن بدران

٢٢٣

العقيلي في مائتي فارس، ووصل إليها يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة غلام ونزل بمشرعة الزوايا. وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر فأذّن بحي على خير العمل ثم عبر عسكره إلى الزاهر، وخطب بالجمعة الأُخرى من وصوله للمصري بجامع الرصافة أيضاً، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب في أثناء الأسبوع. وجمع البساسيري جماعته ونهب الحريم، ودخل الباب النوبي فركب الخليفة القائم لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة وبيده سيف وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة وسرى النهب إلى باب الفردوس من داره، فلما رأى القائم ذلك رجع إلى ورائه، ثم صعد إلى المنظرة ومع القائم رئيس الرؤساء، وقال رئيس الرؤساء لقريش بن بدران: يا علم الدين أمير المؤمنين القائم يستذم بذمامك وذمام رسول الله وذمام العربية على نفسه وماله وأهل وأصحابه، فأعطى قريش بحضرته ذماماً، فنزل القائم ورئيس الرؤساء إلى قريش من الباب المقابل لباب الحَلبة وسارا معه، فأرسل البساسيري إلى قريش، وقال له: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه، وكانا قد تعاهدا على المشاركة وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر. ثم اتفقا على أن يسلم رئيس الرؤساء إلى البساسيري؛ لأنه عدوه ويبقى الخليفة عند قريش. وحمل قريش الخليفة إلى معسكره ببردته والقضيب ولوائه، ونهبت دار الخليفة وحريمها أياماً، ثم سلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس. وسار به مهارس والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزل بها وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلـبك، وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر إلى المصلّى بالجانب الشرقي وعلى رأسه ألوية خليفة مصر، وأحسن إلى الناس، ولم يتعصب لمذهب، وكانت والدة القائم باقية، وقد قاربت تسعين سنة، فأفرد لها البساسيري داراً وأعطاها جاريتين من جواريها، وأجرى لها الجِراية، وكان قد حبس البساسيري رئيس الرؤساء، فأحضره من الحبس، فقال رئيس الرؤساء: العفو، فقال له البساسيري: أنت قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان وفعلت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي. وجرى على رئيس الرؤساء أمور من التشهير الممقوت ما ندع ذكره، ومات تعذيباً وصلباً وأرسل البساسيري إلى المستنصر العلوي بمصر يعرِّفه بإقامة الخطبة له بالعراق، وكان الوزير هناك ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب

٢٢٤

من البساسيري. فبرَّد فعل البساسيري وخوف من عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت بخلاف ما أمله. ثم سار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها. وأما طغرلبك فكان قد خرج عليه أخوه إبراهيم نيال وجرى بينه وبينه قتال، وآخره أن طغرلبك انتصر على أخيه إبراهيم نيال وأسره وخنقه بوتر، وكان قد خرج عليه مراراً وطغرلبك يعفو عنه، فلم يعف عنه في هذه المرة. وفي هذه السنة أعاد طغرلبك القائم إلى مقر ملكه وانتهى الأمر بقتل البساسيري.

في سنة ٤٥٢ تُوفِّي قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل ونصيبين، وكانت وفاته بنصيبين، وقام بالأمر بعده ابنه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش.

في سنة ٤٥٨ أقطع ألب ارسلان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل، الأنبار، وتكريت زيادة على الموصل.

في سنة ٤٧٧ سار فخر الدولة بن جهير بعساكر السلطان ملكشاه إلى قتال شرف الدولة مسلم بن قريش، ثم سير السلطان ملكشاه إلى فخر الدولة جيشاً آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك، وقيل: أكسب، والأول أصح جد الملوك لأرتقية، فانهزم شرف الدولة مسلم وانحصر في آمد ونزل الأمير أرتق على آمد فحصره، فبذل له مسلم بن قريش مالاً جليلاً ليمكِّنه من الخروج من آمد، فأذن له أرتق وخرج شرف الدولة من آمد في حادي عشرين ربيع الأول من هذه السنة، فسار إلى الرقة وبعث إلى أرتق ما وعده به ثم سير السلطان عميد الدولة إلى الموصل، فاستولى عليها عميد الدولة، وهذا اقسنقر هو والد عماد الدولة زنكي، ثم أرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إلى السلطان. فقدم شرف الدولة إليه وأحضره عند السلطان ملكشاه بالبوازيج وكان قد ذهبت أمواله فاقترض شرف الدولة مسلم ما خدم به السلطان وقدم إليه خيلاً من جملتها فرسه الذي نجا عليه في المعركة، وكان اسم الفرس بشّار، وكان سابقاً وسابق به السلطان الخيل، فجاء سابقاً فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب فرضي السلطان على مسلم وخلع عليه وأقرَّه على بلاده.

٢٢٥

في حوادث هذه السنة نفسها قال: لما ملك سليمان بن قطلومش أنطاكية أرسل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية، فأنكر سليمان ذلك. وقال: إن صاحب أنطاكية كان نصرانياً فكنت تأخذ منه ذلك على سبيل الجزية. ولم يعطه شيئاً، فجمعا واقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف أعمال أنطاكية، فانهزم عسكر مسلم، وقتل شرف الدولة مسلم في المعركة، وقُتِل بين يدي أربعمائة غلام من أحداث حَلب. وكان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب أحول، واتسع ملكه، وزاد على ملك من تقدمه من أهل بيته، فإنه ملك السندية التي على نهر عيسى إلى منبج، وديار ربيعة ومضر عن الجزيرة وحَلب وما كان لأبيه وعمه قرواش من الموصل وغيرها. وكان مسلم يسوس مملكته سياسة حسنة بالأمر والعدل. ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس، فأخرجوه وملَّكوه، وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث صار لم يقدر على المشي لما خرج.

وأما قلعة حَلب فكان بها منذ قتل مسلم بن قريش سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم، فحاصر تُتُش القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه وصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه.

ولما قتل سليمان بن قطلومش مسلم بن قريش أرسل إلى ابن الْحُتَّيتي العباسي مقدم أهل حَلب يطلب منه تسليمها، فاستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الْحُتَّيتي استدعى تُتُش إلى حَلب، وكان مع تُتُش أرتق بن أكسك؛ وقد فارق خدمة ملكشاه خوفاً من إطلاق مسلم بن قريش من آمد، وكان ابن الْحُتَّيتي قد كاتب السلطان ملكشاه في أمر حَلب فسار إليها من أصفهان في جمادى الآخرة، فملك في طريقه حران وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش. ثم سار إلى الرها فملكها وملك قلعة جعبر، ثم ملك منبج وسار إلى حَلب فلما قاربها رحل أخوه تُتُش عنها على البرية وتوجَّه إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حَلب وتسلمها وتسلم القلعة من سالم بن مالك بن بدران العقيلي على أن يعوضه بقلعة جعبر

٢٢٦

فبقيت بيده ويد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي.

سنة ٤٨٦ وفيها تحرك تُتُش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، واتفق معه اقسنقر صاحب حَلب، وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية وبران صاحب الرها. وسار تُتُش ومعه اقسنقر فافتتح نصيبين عنوة ثم قصد الموصل، وكنا قد ذكرنا (أبو الفداء) في سنة سبع وسبعين وأربعمائة أنه لما قتل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب وغيرهما استولى على الموصل إبراهيم بن قريش أخو مسلم. ثم إن ملكشاه قبض على إبراهيم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وأخذ منه الموصل، وبقي إبراهيم معه حتى مات ملكشاه، فأطلق إبراهيم وسار إلى الموصل وملكها. فلما قصد تُتُش في هذه السنة الموصل خرج إبراهيم لقتاله، والتقوا بالمضيّع من أعمال الموصل، وجرى بينهم قتال شديد انهزمت فيه المواصلة، وأخذ إبراهيم بن قريش أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقُتلوا وملك تُتُش الموصل، واستثاب عليها علي بن مسلم بن قريش وأمه صفية عمة تُتُش، وأرسل تُتُش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها. ثم سار تُتُش واستولى على ديار بكر.

في سنة ٤٨٩ بعد مقتل تُتُش سنة ٤٨٨ قصد كربوغا نصيبين، وبها محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، فطلع محمد إلى كربوغا واستحلفه ثم غدر كربوغا بمحمد، وقبض عليه وحاصر نصيبين وملكها، ثم سار إلى الموصل وقتل في طريقه محمد بن مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب، وحصر الموصل وبها علي بن مسلم أخو محمد المذكور من حين استنابه بها تتش، فلما ضاق عليه الأمر هرب من الموصل إلى صدقة بن مزيد بالحلَّة بعد حصار تسعة أشهر.

سنة ٥١٩ وفيها مات سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب قلعة جعبر، وملكها بعده ابنه مالك بن سالم.

الجزء الثالث ص١٨ سنة (٥٤١) سار عماد الدين زنكي، ونزل على قلعة جعبر وحصرها وصاحبها علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدين الكردي البشنوي.

٢٢٧

ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مع حسَّان البعلبكي الذي كان صاحب منبج يقول لصاحب قلعة جعبر: قل لي من يخلصك مني،فقال صاحب قلعة جعبر لحسَّان: يخلصني منك الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق، وكان بلك محاصراً منبج، فجاءه سهم قتله فرجع حسَّان إلى زنكي ولم يخبره بذلك فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس ربيع الآخر من هذه السنة بالليل وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي فدخل أصحابه إليه وبه رمق ودفن بالرقة.

سنة ٥٦٤ في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعة جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه، ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها مالك المذكور بنو كِلاب، وأحضروه إلى نور الدين محمود، واجتهد به على تسليمها فلم يفعل، فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر المعروف بابن الداية، وكان رضيع نور الدين وحصروا قلعة جعبر، فلم يظفروا منها بشيء وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها وأخذ عنها عوضاً مدينة سروج بأعمالها والملوحة من بلد حَلب وعشرين ألف دينار معجلة وباب بزاعة.

ما جاء في كامل ابن الأثير من أوليتهم وأخبارهم

الجزء التاسع في سنة ٣٠٨ لما ملك أبو طاهر والحسين ابنا حمدان بلاد الموصل طمع فيها باذ وجمع الأكراد، فأكثر وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً وكاتب أهل الموصل فاستمالهم فأجابه بعضهم، فسار إليهم ونزل بالجانب الشرقي فضعفا عنه. وراسلا أبا الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر ونصيبين وبلداً غير ذلك. فأجاباه إلى ما طلب، وانتهى الأمر بانتصار الأميرين الحماديين بمناصرة أبي الذوّاد على باذ، فكانت هذه أول إمرة لبني عقيل في دولة بني حمدان.

في سنة ٣٨٠ لما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان

٢٢٨

سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه وكانوا قد تفرقوا، فطمع فيه أبو الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذ، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم، وقتلهم وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولّى الأمور. فسيَّر إليه قائداً من قواده وكان بهاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز، وأقام نائب بهاء الدولة وليس له من الأمر شيء، ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذوَّاد.

في سنة (٣٨٢) كان بهاء الدولة قد أنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل، فملكها آخر سنة إحدى وثمانين، فاجتمعت عقيل وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب على حربه، فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد حتى أنه كان يضع له كرسياً بين الصفين ويجلس عليه. فهابه العرب، واستمد من بهاء الدولة عسكراً فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد، وكان مسيره أول هذه السنة. فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه، فعلم أبو جعفر أنه إن قبض عليه اختلف العسكر وظفر به العرب، فتراجع في أمره. وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدواً له، فسعى به عند بهاء الدولة فأمر بقبضه، وكان بهاء الدولة أذناً يسمع ما يقال له ويفعل به، وعلم الوزير الخبر، فشرع في صلح أبي الذوّاد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذوّاد، فلم يفعل أنفة وحسن عهد فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قُبِض وقُتِل وكُفِي شره. ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار، فقال له خواصه: ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك، فقال: إن ملكاً قرب رجلاً كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم، ثم فعل به هذا لحقيق بأن تخاف ملابسته. وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولاً إلى أبي الذوّاد فأسره العرب ثم أطلقوه، فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.

سنة (٣٨٦) في هذه السنة ملك المقلَّد بن المسيب مدينة الموصل، وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذَّوّاد تُوفِّي في هذه السنة، فطمع المقلَّد في الإمارة فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً؛ لأنه أكبر منه فشرع المقلَّد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل فمال

٢٢٩

إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة يضمن منه البلد بألفي ألف درهم كل سنة، ثم حضر عند أخيه علي وأظهر له أن بهاء الدولة قد ولاه الموصل وسأله مساعدته على أبي جعفر؛ لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل، فخرج إليهم كل من استماله المقلَّد من الديلم، وضعف الحجاج وطلب منهم الأمان فأمنوه ووعدهم يوماً يخرج إليهم فيه. ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه فلم ينالوا منه شيئاً ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة ودخل المقلَّد البلد. واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما ويقدِّم علي لكبره ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية وسار علي إلى البر وأقام المقلَّد وجرى الأمر على ذلك مدة مديدة، ثم تشاجروا واختصموا وكان المقلَّد يتولّى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلَّد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها. وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره، وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عساكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلَّد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلَّد، فبلغ الخبر إليه فأنفذ أصحابه ليلاً فاقتتلوا وعادوا إلى المقلَّد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلَّد إلى بغداد أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد وأمره بمصالحة المقلَّد والقبض على أبي علي بن إسماعيل. فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجَّة، فلما وصل إليها أرسله المقلَّد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل لبهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلَّد الخلع السلطانية،ويُلقَّب بحسام الدولة، ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين. واستقر الأمر على ذلك، وجلس القادر بالله له ولم يف المقلَّد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد ومد يده في المال وقصده المتصرفون والأماثل وعظم قدره.

سنة (٣٨٧): في هذه السنة قبض المقلَّد على أخيه علي؛ وكان سبب ذلك ما تقدم ذكره من الاختلاف الواقع بين أصحابهما واشتغل المقلَّد بما

٢٣٠

سبق بيانه بالعراق، فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه، ثم خافه وعمل الحيلة في قبض أخيه، فأحضر عسكره من الديلم والأكراد، وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا وحلَّفهم على الطاعة، وكانت داره ملاصقة دار أخيه، فنقب في الحائط ودخل عليه وهو سكران فأخذه وأدخله الخزانة، وقبض عليه وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر. ففعلت ذلك وخلصت، وكانت في الحلَّة التي له على أربعة فراسخ من تكريت وسمع الحسن الخبر، فبادر إلى الحلَّة ليقبض أولاد أخيه فلم يجدهم. وأقام المقلَّد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم، واجتمع عنده زهاء ألفي فارس، وسار الحسن إلى حلل أخيه ومعه أولاد أخيه علي وحرمه ويستنفرهم على المقلَّد، واجتمع معهم نحو عشرة آلاف وراسل المقلَّد يؤذنه بالحرب، فسار عن الموصل وبقي بينهم، فنزل واحد ونزل بإزاء العلث، فحضره وجوه العرب واختلفوا عليه، فمنهم من أشار بالحرب منهم رافع بن محمد بن مقن، ومنهم من أشار بالكف عن القتال وصلة الرحم منهم غريب بن محمد بن مقن، وتنازع هو وأخوه فبينما هم في ذلك قيل للمقلَّد: إنّ أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك، فركب وخرج إليها، فلم تزل معه حتى أطلق أخاه علياً ورد إليه ماله ومثله معه وأنزله في خيم ضربها له. فسر الناس بذلك، وتحالفا وعاد إلى حلته وعاد المقلَّد إلى الموصل، وتجهَّز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي؛ لأنه تعصب لأخيه علي وقصد ولاية المقلَّد بالأذى فسار إليه. ولما خرج علي من محبسه اجتمع العرب إليه، وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلَّد فسار إلى الموصل، وبها أصحاب المقلَّد وامتنعوا عليه فافتتحها، فسمع المقلَّد بذلك فعاد إليه، واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن، فخرج إليه ورأى كثرة عسكره، فخاف على أخيه علي منه، فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر، وسار إلى أخيه علي، وقال له: إن الأعور يعني المقلَّد قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل، وأمره بإفساد عسكر المقلَّد، فكتب إليهم فظفر المقلَّد بالكتب، فأخذها وسار مجدِّاً إلى الموصل، فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه ودخل الموصل وهما معه. ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلاً وتبعه الحسن وتردُّدت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر، وبقوا كذلك

٢٣١

إلى سنة تسع وثمانين ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه، فقصده المقلَّد ومعه بنو خفاجة، فهرب الحسن إلى العراق وتبعه المقلَّد، فلم يدركه فعاد، ولما استقر أمر المقلَّد بعد أخيه علي سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي، فدخله ثانية والتجأ ابن مزيد إلى مهذّب الدولة، فتوسط ما بينه وبين المقلَّد. وأصلح الأمر معه، وسار المقلَّد إلى دقوقا فملكها ثم ملكها عليه جبريل بن محمد، ثم عادت إلى المقلَّد، ثم ملكها محمد بن عناز بعده، ثم أخذها بعده قرواش، ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب ثم إلى جبريل وموصك بن جكويه من أمراء الأكراد، ثم قصدها بدران بن المقلَّد وأخذها منهما.

سنة (٣٩١): في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب العقيلي غيلة قتله مماليك له ترك. وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منه فتبعهم وظفر بهم وقتل منهم وقطع وأعاد الباقين، فخافوه على نفوسهم فاغتنم بعضهم غفلته وقتلوه بالأنبار. وكان قد عظم أمره وراسل وجوه العساكر ببغداد، وأراد التغلب على الملك، فأتاه الله من حيث لا يشعر. ولما قُتِل كان ولده الأكبر قرواش غائباً، وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار فخاف نائبه عبد الله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند، فراسل أبا منصور بن قراد اللديد، وكان بالسندية فاستدعاه إليه، وقال له: أن أجعل بينك وبين قراوش عهداً وأُزوجه ابنتك، وأقاسمك على ما خلفه أبوه وتساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد، وأرسل عبد الله إلى قرواش يحثه على الوصول، فوصل وقاسمه على المال وأقام قراد عنده، ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل وشكا قرواشاً إليهم وما صنع مع قراد، فقالوا له: خوفُه منك حمله على ذلك، فبذل من نفسه الموافقة له والوقوف عند رضاه، وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا، واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب ويخرج هو وقراد لقتاله، فإذا لقي بعضهم بعضاً عادوا جميعاً على قراد فأخذوه. فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله. فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال، فهرب على فرس له وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه، وعاد قرواش إلى بيت قراد، فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش وهي بحالها. وسار قرواش إلى الكوفة فأوقع بخفاجة

٢٣٢

عندها وقعة عظيمة، فساروا بعدها إلى الشام، فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج.

سنة (٣٩٢): في هذه السنة سيَّر قرواش بن المقلَّد جمعاً من عقيل إلى المدائن، فحصروها فسيَّر إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشاً فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن مزيد في بني أسد وقويت شوكتهم. فخرج الحجاج إليهم واستنجد خفاجة وأحضرهم من الشام فاجتمعوا معه واقتتلوا بنواحي (باكرم) في رمضان، فانهزمت الديلم والتُّرك وأُسر منهم خلق كثير واستبيح عسكرهم، فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد، وقتل من أصحابهم خلق كثير وأسر مثلهم وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضاً، فنهبت الحلل والبيوت والأموال، ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره.

سنة (٣٩٧): في المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلَّد العقيلي وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي. وكان سببها أن قرواش جمع جمعاً كثيراً وسار إلى الكوفة وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها وعرف أبو علي الخبر فسار إليه فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مغلولاً، وملك أبو علي الكوفة وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.

سنة (٣٩٩): في هذه السنة قتل عيسى بن خلاط العقيلي أبا علي بن ثمال الخفاجي الذي كان والياً للحاكم بأمر الله صاحب مصر على الرحبة، وملكها، وأقام فيها مدة ثم قصده بدران بن المقلَّد، فأخذها منه وبقيت لبدران، فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها، ثم انتهى أمر ملكها إلى صالح بن مرداس صاحب حَلب.

سنة (٤٠١): في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلَّد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي صاحب مصر بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: (الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدَّت بقدرته أركان النصب، وأطلع

٢٣٣

بنوره شمس الحق من العرب. فأرسل القادر بالله أمير المؤمنين القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر وولاّه قضاء عمان والسواحل، وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش، فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.

سنة (٤٠١): وفيها تُوفِّي أبو عبد الله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمر بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشرة سنين، وكان بخيلاً شديد البخل وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.

سنة (٤١٧): في هذه السنة اجتمع دُبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسَّان أمير خفاجة، وجمعا عشائرهما وغيرهم، وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلَّد العقيلي؛ وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه، فانحدر من الموصل لدفعهم فاستعانوا بدُبيس، فسار إليهم واجتمعوا، فأتاهم عسكر بغداد فالتقوا بظاهر الكوفة وهي لقرواش، فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جريدة في نفر يسير وعلم أصحابه بذلك فتبعوه منهزمين، فوصلوا إلى الأنبار وسارت أسد وخفاجة خلفهم. فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله، فلم يمكنهم الإقدام عليه واستولوا على الأنبار ثم تفرقوا.

وفي هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد، وكان سببه أن الأثير كان حاكماً في الدولة البويهية ماضي الحكم نافذ الأمر والجند من أطوع الناس له وأسمعهم لقوله. فلما كان الآن زال ذلك وخالفه الجند فزالت طاعته عنهم، فلم يلتفتوا إليه فخافهم على نفسه، فسار إلى قرواش فندم الجند على ذلك وسألوه أن يعود فلم يفعل. وأصعد إلى الموصل مع قرواش فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق. ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعاً كثيراً من عقيل، وانضم إليهم بدران أخو قرواش وساروا يريدون حرب قرواش. وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع

٢٣٤

هو وغريب بن معن والأثير عنبر، وأتاه مدد من ابن مروان، فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل، فالتقوا عند بلد واقتتلوا وثبت بعضهم لبعض وكثر القتل. ففعل ثروان بن قراد فعلا جميلاً، وذلك أنه قصد غريباً في وسط المصاف واعتنقه وصالحه، وفعل أبو الفضل بدران بن المقلَّد بأخيه قرواش كذلك، فاصطلح الجميع وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين.

الصفحة نفسها والسنة نفسها سار منيع بن حسَّان أمير خفاجة في الجامعين وهي لنور الدولة دُبيس فنهبها، فسار دُبيس في طلبه إلى الكوفة، ففارقها وقصد الأنبار، وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها، فلم يكن لهم بخفاجة طاقة، فدخل جنود خفاجة الأنبار ونهبوها وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم، وكان مريضاً ومعه غريب والأثير عنبر، ثم تركها ومضى إلى القصر فاشتد طمع جنود خفاجة وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية. وسار قرواش إلى الجامعين فاجتمع هو ونور الدولة دُبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل. فلم يقدر قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف، وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد وأعادهم قرواش، وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسَّان سار إلى الملك أبي كاليجار فأطاعه، فخلع عليه وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة، فخطب فيها لأبي كاليجار وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات.

سنة (٤١٩): في هذه السنة في جمادى الأولى سار بدران بن المقلَّد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها، وكانت لنصر الدولة بن مروان، فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها وقاتلوه، فهزمهم واستظهر عليهم، وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر، فسيَّر نصر الدولة عسكراً آخر نجدة لمن بنصيبين، فأرسل إليهم بدران عسكراً فلقوهم فقاتلوهم وهزموهم وقتلوا أكثرهم، فأزعج ذلك ابن مروان وأقلقه، فسير عسكراً آخر ثلاثة آلاف فارس، فدخلوا نصيبين واجتمعوا بمن فيها وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا، فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد وقت الظهر وتبعهم عسكر ابن مروان، ثم عطف عليهم بدران وأصحابه، فلم يثبتوا له. فأكثر فيهم القتل والأسر وغنم الأموال، فعاد عسكر ابن مروان مغلوبين، فدخلوا نصيبين فاجتمعوا بها، واقتتلوا مرة أُخرى وكانوا على السواء. ثم سمع بدران بأن

٢٣٥

أخاه قرواشاً قد وصل إلى الموصل، فرحل خوفاً منه؛ لأنهما كانا مختلفين.

في سنة (٤٢٠) يذكر دخول الغز ديار بكر ومقاومة قرواش لهم ويذكر ملكهم مدينة الموصل ومقاومة قرواش لهم وانكساره، ثم يذكر ظفر قرواش بهم ص ١٦٣ مما يجب أن يضم إلى أخبار بني المقلَّد مع ما ذكر في ص١٦٤.

في سنة (٤٢١) قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين، وأنه رحل عنها خوفاً من قرواش، فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا، ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة بن مروان نفرة كان سببها أن نصر الدولة كان قد تزوج ابنة قرواش، فآثر عليها غيرها فأرسلت إلى أبيها تشكو منه، فأرسل يطلبها إليه، فسيرها فأقامت بالموصل، ثم إن ولد مستحفظ جزيرة ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش، وأطمعه في الجزيرة، فأرسل إلى نصر الدولة يطلب منه صداق ابنته، وهو عشرون ألف دينار ويطلب الجزيرة لنفقتها، ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها عام أول، وتردُّدت الرسل بينهما في ذلك، فلم يستقر حال فسير جيشاً لمحاصرة الجزيرة وجيشاً مع أخيه بدران إلى نصيبين، فحصرها بدران وأتاه قرواش، فحصرها معه فلم يُمْلَك واحِد من البلدين، وتفرق من كان معه من العرب والأكراد. فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين، فسلمها إليه وأرسل من صداق ابنة قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا.

وفي هذه السنة في جمادى الأولى اختلف قرواش وغريب بن مقن؛ وكان سبب ذلك أن غريباً جمع جمعاً كثيراً من العرب والأكراد، واستمد جلال الدولة فأمده بجملة صالحة من العسكر، فسار إلى تكريت فحصرها وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجه إلى الموصل وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما، فبلغا الدكة وغريب يحاصر تكريت، وقد ضيَّق على من بها وأهلها يطلبون منه الأمان فلم يؤمنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال. فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم، فالتقوا بالدكة واقتتلوا، فغدر بغريب بعض من معه ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية، فانهزم وتبعهم قرواش ورافع، ثم كفوا عنه وعن أصحابه ولم يتعرضوا إلى حلته وماله فيها وحفظوا ذلك أجمع، ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.

٢٣٦

سنة (٤٢٥): وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد وقصد ولده عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، وكان بنو نُمير قد طمعوا فيها وحصروها، فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها.

سنة (٤٣٣) يذكر الحلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل.

سنة (٤٤٠) ذكر الحلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية. وفيها كانت الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلَّد، فانضاف قريش بن بدران بن المقلَّد إلى عمّه قرواش وجمع جمعاً، وقاتل عمه أبا كامل، فظفر ونصر وانهزم أبو كامل ولم يزل قريش يغري قرواشاً بأخيه حتى تأكدت الوحشة وتفاقم الشر بينهما.

ظهور الخلاف بين قرواش وأخيه أبي كامل وصلحهما:

سنة (٤٤١): في هذه السنة ظهر الخلاف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهوراً آل إلى المحاربة، وقد تقدم سبب ذلك. فلما اشتد الأمر وفسد الحال فساداً لا يمكن إصلاحه جمع كل منهما جمعاً لمحاربة صاحبه، وسار قرواش في المحرم وعبر دجلة بنواحي بلد، وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي وغيرهما من الأكراد، وساروا إلى معلثايا، فأخرجوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمُغيثة، وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب فنزلوا بمرج بابنيثا وبين الطائفتين نحو فرسخ واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم، وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية، ووافقه أبو الحسن الحُميدي وساروا عن قرواش، وفارقه جمع من العرب وقصدوا أخاه، فضعف أمر قرواش وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير فركبت العرب من أصحاب أبي كامل لقصده، فمنعهم وأسفر الصبح يوم الاثنين، وقد تسرع بعضهم ونهب بعضاً من عرب قرواش، وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته وأحسن عشرته، ثم أنفذه إلى الموصل محجوراً عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار. وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار؛ لسوء طريقهم وفسادهم فهرب الباقون

٢٣٧

منهم وبقي بعضهم بالسندية، فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة، وقتلوا حارساً وفتحوا الباب ونادوا بشعار أبي كامل، فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل، فكثروا وثار بهم أصحاب قرواش، فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة وهرب الباقون. فبلغه خبر استيلاء أخيه، ولم يبلغه عود أصحابه. ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه واشتطوا عليه، فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته، فبادرهم إليه وقبل يده، وقال له: إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك فيَّ وأشعرك الوحشة مني، والآن فأنت الأمير وأنا الطائع لأمرك والتابع لك. فقال له قرواش: بل أنت الأخ والأمر لك مسلّم، وأنت أقوم به مني، وصلح الحال بينهما وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره. وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى وأوانا، فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالاً عنها، فتظاهر بلال بالخلاف عليهما وجمع إلى نفسه جمعاً، وقاتل أصحاب قرواش وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما، فانحدر قرواش من الموصل إليهما وحصرهما وأخذهما.

وفي هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا، فنهبوها وأخذوا من الأموال الكثير وكانا في إقطاع البساسيري، فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم، فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل بن المقلَّد، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى الفريقان فيه بلاء حسناً وصبرا صبراً جميلاً وقُتل جماعة من الفريقين.

في هذه السنة في ذي القعدة ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه، وكان سبب ملكها أن قرواشاً أساء السيرة في أهلها، ومد يده إلى أموالهم فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد، وسألوه أن ينفذ معهم عسكراً يسلمون إليه الأنبار. فأجابهم إلى ذلك وسيّر معهم جيشاً، فتسلموا الأنبار ولحقهم البساسيري، وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم ولم يمكن أحداً من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه. وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد.

سنة (٤٤٢) وفي هذه السنة في جمادى الأولى استولى زعيم الدولة

٢٣٨

أبو كامل بركة بن المقلَّد على أخيه قرواش، وحجر عليه ومنعه من التصرف على اختياره؛ وسبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد، وأنه قد صار لا حكم له فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه. وسار عن الموصل، فشق ذلك على بركة وعظم عنده، ثم أرسل إليه نفراً من أعيان أصحابه يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة ويحذرونه من الفرقة والاختلاف، فلما بلّغوه ذلك امتنع عليهم، فقالوا: أنت ممنوع عن فعلك والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك، فعلم حينئذ أنه يُمنع قهراً، فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل، وسار معهم. فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه وأنزله عنده، فهرب أصحابه وأهله خوفاً فأمّنهم زعيم الدولة، وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره.

سنة (٤٤٣) وفي هذه السنة في شهر رمضان تُوفِّي زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلَّد بتكريت، وكان انحدر إليها في حلله قاصداً نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم وينهب البلاد. فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصل، فتُوفِّي ودفن بمشهد الخضر بتكريت. واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلَّد، فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش، وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة وقيامه بالإمارة، وأنه يتصرف على اختياره ويقوم بالأمر نيابة عنه. فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش وقوي ابن أخيه ومالت العرب إليه، واستقرت الإمارة له وعاد عمه إلى ما كان عليه من الاعتقال الجميل والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء والنفقة، ثم نقله إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتُقل بها.

سنة (٤٤٤): في هذه السنة جرى حِلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلَّد، وكان قريش قد نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل يطلب العراق، فجرى بينه وبين أخيه المقلَّد منازعة أدت إلى الاختلاف، فسار المقلَّد إلى نور الدولة دُبيس بن مزيد ملتجئاً إليه فحمل أخاه الغيظ منه على أن نهب حلته وعاد

٢٣٩

إلى الموصل، واختلَّت أحواله واختلفت العرب عليه، وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عُكبرا والعلث وغيرهما من قبض غلته، وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب. ثم إن قريشاً استمال العرب وأصلحهم، فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش، فإنه تُوفِّي هذه الأيام، وانحدر إلى العراق؛ ليستعيد ما أخذ منه، فوصل إلى الصالحية وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها، فنهبوا ما هناك وعادوا فلقوا كامل بن محمد بن المسيّب صاحب الحظيرة، فأوقع بهم وقاتلهم فأرسلوا إلى قريش يعرفونه الحال، فسار إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد، فانهزم كامل وتبعه قريش فلم يلحقه، فقصد حلل بلال بن غريب وهي خالية من الرجال، فنهبها وقاتله بلال وأبلى بلاء حسناً فجرح ثم انهزم، وراسل قريش نواب الملك الرحيم يطلب ببذل الطاعة ويطلب تقرير ما كان له عليه، فأجابوه إلى ذلك على كره؛ لقوته وضعفهم واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم، فاستقر أمره وقوي شأنه. وفي هذه الصفحة: وفي السنة نفسها مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش بن المقلَّد العُقيلي الذي كان صاحب الموصل محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحُمل ميتاً إلى الموصل، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وكان من رجال العرب وذوي العقل منهم وله شعر حسن. وأورد له عن (دمية القصر) البيتين المنقولين عن تاريخ ابن خلدون وهذه الأبيات التي لم يوردها ابن خلدون:

مـن كان يحمد أو يذم موّرث لـلمال مـن آبـائه وجدوده

إنـي امـرؤ لـله أشكر وحده شـكراً كـثيراً جـالباً لمزيده

لـي أشقرٌ سمح العنان مغاور يعطيك ما يرضيك من مجهوده

ومـهند عـضب إذا جـردته خلت البروق تموج في تجريده

ومـثقف لـدنُ الـسنان كأنم أم الـمنايا رُكـبت في عوده

وبـذا حـويُت المال إلا أنني سـلّطت جود يدي على تبديده

وفي هذه السنة ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق، فدوَّخ كثيراً منها وأسرف في

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

الخليفة ويرنقش الزكوي.

سنة (٥٢٢): في هذه السنة خرج السلطان سنجر من خراسان إلى الري في جيش كثير؛ وكان سبب ذلك أن دُبيساً بن صدقة لما وصل إليه هو والملك طغرل على ما ذكرناه لم يزل يُطمعه في العراق، ويسهل عليه قصده، ويلقي في نفسه أن المسترشد والسلطان محموداً متفقان على الامتناع منه، ولم يزل به حتى أجابه إلى المسير إلى العراق. فلما ساروا وصل إلى الري، وكان السلطان محمود بهَمَذان، فأرسل إليه السلطان سنجر يستدعيه إليه؛ لينظر هل هو على طاعته أم قد تغيّر على ما زعم دُبيس، فلما جاءه الرسول بادر إلى المسير إلى عمه. فلما وصل إليه أمر العسكر جميعه بلقائه، وأجلسه معه على التخت، وبالغ في إكرامه، وأقام عنده إلى منتصف ذي الحجَّة. ثم عاد السلطان سنجر إلى خراسان، وسلَّم دُبيساً إلى السلطان محمود، ووصّاه بإكرامه وإعادته إلى بلده. ورجع محمود إلى هَمَذان ودُبيس معه، ثم سارا إلى العراق، فلما قاربا بغداد خرج الوزير إلى لقائه، وكان قدومه تاسع المحرم سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة، وكان الوزير أبو القاسم الانساباذي قد قبض السلطان محمود عليه، فلما اجتمع بالسلطان سنجر أمر بإطلاقه، فأطلقه وقرّره سنجر في وزارة ابنته التي زوَّجها بالسلطان محمود.

سنة (٥٢٢): في هذه السنة في المحرم قدم السلطان محمود بغداد بعد عوده من عند عمه السلطان سنجر، ومعه دُبيس بن صدقة ليصلح حاله مع الخليفة المسترشد بالله، فتأخر دُبيس عن السلطان، ثم دخل بغداد ونزل بدار السلطان واسترضى عنه الخليفة، فامتنع الخليفة من الإجابة إلى أن يُوَلاّ دُبيس شيئاً من البلاد،وبذل مائة ألف دينار لذلك. وعلم أتابك زنكي أن السلطان يريد أن يولّي دُبيساً الموصل، فبذل مائة ألف دينار، وحضر بنفسه إلى خدمة السلطان، فلم يشعر السلطان به إلا وهو عند الستر، وحمل معه الهدايا الجليلة، فأقام عند السلطان ثلاثة أيام، وخلع عليه، وأعاده إلى الموصل، وأقام السلطان إلى رابع جمادى الآخرة، وسار عن بغداد إلى هَمَذان وجعل بهروز عل شحنكية بغداد وسُلِّمت إليه الحلَّة.

وفي هذه السنة لما رحل السلطان إلى هَمَذان ماتت زوجته، وهي ابنة السلطان سنجر، وهي التي كانت تعنى بأمر دُبيس وتدافع عنه. فلما ماتت انحل أمر دُبيس. ثم إن السلطان مرض مرضاً شديداً، فأخذ دُبيس ابناً له

٣٠١

صغيراً وقصد العراق. فلما سمع المسترشد بالله بذلك جند الأجناد وحشد، وكان بهروز بالحلَّة فهرب منها، فدخلها دُبيس في شهر رمضان، فلما سمع السلطان الخبر عن دُبيس أحضر الأميرين قزل والأحمديلي. وقال: أنتما ضمنتما دُبيساً مني وأريده منكما، فسار الأحمديلي إلى العراق إلى دُبيس؛ ليكف شرَّه عن البلاد؛ ويحضره إلى السلطان. فلما سمع دُبيس الخبر أرسل إلى الخليفة يستعطفه، ويقول: إن رضيت عني فأنا أرد أضعاف ما أخذت، وأكون العبد المملوك. فتردّد الرسل ودُبيس يجمع الأموال والرجال، فاجتمع معه عشرة آلاف فارس، وكان قد وصل في ثلاثمائة فارس. ووصل الأحمديلي بغداد في شوال، وسار في أثر دُبيس. ثم إن السلطان سار إلى العراق، فلما سمع دُبيس بذلك أرسل إليه هدايا جليلة المقدار وبذل ثلاثمائة حصان منعَّلة بالذهب، ومائتي ألف دينار؛ ليرضى عنه السلطان والخليفة. فلم يجبه إلى ذلك، ووصل السلطان إلى بغداد في ذي القعدة، فلقيه الوزير الزينبي وأرباب المناصب. فلما تيقَّن دُبيس وصوله رحل إلى البرية وقصد البصرة، وأخذ منها أموالاً كثيراً وما للخليفة والسلطان هناك من الدخل، فسيَّر السلطان أثره عشرة آلاف فارس، ففارق البصرة ودخل البرية.

سنة (٥٢٥): في هذه السنة في شعبان أسر تاج الملوك بوري بن طغتكين صاحب دمشق الأمير دُبيساً بن صدقة، وسلَّمه إلى أتابك الشهيد زنكي بن آقسنقر؛ وسبب ذلك أنه لما فارق البصرة جاءه قاصد من الشام من صرخد يستدعيه إليها؛ لأن صاحبها كان خصيّاً، فتُوفِّي هذه السنة، وخلَّف جارية سُرّية له، فاستولت على القلعة وما فيها، وعلمت أنها لا يتم لها ذلك إلاّ بأن تتصل برجل له قوة ونجدة، فوُصف لها دُبيس بن صدقة وكثرة عشيرته، وذُكر لها حاله وما هو عليه بالعراق، فأرسلت تدعوه إلى صرخد لتتزوَّج به وتسلِّم القلعة ما فيها من مال وغيره إليه. فأخذ الأدلاء معه، وسار من أرض العراق إلى الشام، فضل به الأدلاّء بنواحي دمشق، فنزل بناس من كلب كانوا شرقي الغوطة، فأخذوه وحملوه إلى تاج الملوك صاحب دمشق، فحبسه عنده. وسمع أتابك عماد الدين زنكي الخبر، وكان دُبيس يقع فيه وينال منه، فأرسل إلى تاج الملوك، وطلب منه دُبيساً ليسلمه إليه، ويطلق وله ومن معه من الأمراء المأسورين، وإن امتنع من تسليمه سار

٣٠٢

إلى دمشق وحصرها ونهبها. فأجاب تاج الملوك إلى ذلك، وأرسل أتابك سونج بن تاج الملوك والأمراء الذين معه، وأرسل تاج الملوك دُبيساً، فأيقن دُبيس بالهلاك. ففعل زنكي معه خلاف ما ظن، وأحسن إليه وحمل له الأقوات والسلاح والدواب وسائر أمتعة الخزائن، وقدَّمه حتى على نفسه، وفعل معه ما يفعل مع أكابر الملوك. ولما سمع المسترشد بالله بقبضه بدمشق أرسل سديد الدولة بن الأنباري، وأبا بكر بن بشر الجزري من جزيرة ابن عمر إلى تاج الملوك يطلب منه أن يسلِّم دُبيساً إليه لما كان متحققاً به من عداوة الخليفة. فسمع سديد الدولة بن الأنباري بتسليمه إلى عماد الدين وهو في الطريق، فسار إلى دمشق ولم يرجع، وذم أتابك زنكي بدمشق واستخف به. وبلغ الخبر عماد الدين، فأرسل إلى طريقه من يأخذه إذا عاد، فلما رجع من دمشق قبضوا عليه وعلى ابن بشر، وحملوهما إليه، فأما ابن بشر فأهانه وجرى في حقه مكروه. وأما ابن الأنباري فسجنه. ثم إن المسترشد بالله شفع فيه، فأُطلق ولم يزل دُبيس مع زنكي حتى انحدر معه إلى العراق.

وفي سنة (٥٢٦): لمَّا تُوفِّي السلطان محمود، سار السلطان سنجر إلى بلاد الجبال، ومعه الملك طغرل بن السلطان محمد، ثم سار منها إلى هَمَذان. فوصل الخبر إلى المسترشد بالله والسلطان مسعود بوصوله إلى هَمَذان، فاستقرت القاعدة بينهما على قتاله، وأن يكون الخليفة معهم، فتجهَّز الخليفة، وتقدَّم قراجة الساقي والسلطان مسعود وسلجوقشاه نحو السلطان سنجر، وتأخر المسترشد بالله عن المسير معهم، وسار على تريث وتوقف إلى أن بلغ خانقين وأقام بها. وقطعت خطبة سنجر من العراق جميعه، ووصلت الأخبار بوصول عماد الدين زنكي ودُبيس بن صدقة إلى قريب بغداد. فأما دُبيس، فإنه ذكر أن السلطان سنجر أقطعه الحلَّة وأرسل إلى المسترشد بالله يضَّرع ويسأل الرضا عنه. فامتنع من إجابته إلى ذلك. وأعطى سنجر على ما ذكر عماد الدين زنكي شحنكية بغداد، ثم عاد المسترشد بالله إلى بغداد، وأمر أهلها بالاستعداد للمدافعة عنها، وجرت حروب بين السلطان سنجر ومسعود خارج ذكرها عن موضوعنا.

وفي السنة نفسها لما سار المسترشد بالله من بغداد، وبلغه انهزام السلطان مسعود، عزم على العود إلى بغداد، فأتاه الخبر بوصول عماد الدين

٣٠٣

زنكي إلى بغداد ومعه دُبيس بن صدقة، وكان السلطان سنجر قد كاتبهما وأمرهما بقصد العراق والاستيلاء عليه. فلما علم الخليفة بذلك أسرع العود إليها، وعبر إلى الجانب الغربي، وسار فنزل بالعباسيَّة ونزل عماد الدين بالمناريَّة من دُجيل، والتقيا بحصن البرامكة سابع عشرين رجب. فابتدأ زنكي، فحمل على ميمنة الخليفة، وبها جمال الدولة إقبال فانهزموا منه، وحمل نظر الخادم من ميسرة الخليفة على ميمنة عماد الدين ودُبيس، وحمل الخليفة بنفسه، واشتد القتال فانهزم دُبيس. وأراد عماد الدين الصبر فرأى الناس قد تفرَّقوا عنه، فانهزم أيضاً، وقُتل من العسكر جماعة وأُسر جماعة. وبات الخليفة هناك ليلته وعاد من الغد إلى بغداد.

وفي هذه السنة عاد دُبيس بعد انهزامه المذكور يلوذ ببلاد الحلَّة وتلك النواحي، وجمع جمعاً، وكانت تلك الولاية بيد إقبال المسترشدي، فأُمد بعسكر من بغداد، فالتقى هو ودُبيس. فانهزم دُبيس واختفى في أجمة هناك وبقي ثلاثة أيام لم يطعم شيئاً، ولم يقدر على التخلّص منها حتى أخرجه حمّال على ظهره، ثم جمع جمعاً وقصد واسط، وانضم إليه عسكرها وبختيار وشاق وابن أبي الجبر، ولم يزل فيها إلى أن دخلت سنة سبع وعشرين وخمسمائة، فنفذ إليهم يرنقش بازدار، وإقبال الخاد المسترشدي في عسكر، فاقتتلوا في الماء والبر، فانهزم الواسطيون ودُبيس وأُسر بختيار وشاق وغيره من الأمراء.

- ما جاء من أخبارهم في الجزء الحادي عشر من كامل ابن الأثير -

سنة (٥٢٩): في هذه السنة كانت الحرب بين الخليفة المسترشد بالله وبين السلطان مسعود؛ وسبب ذلك أن السلطان مسعوداً لما سافر من بغداد إلى هَمَذان بعد موت أخيه طغرل وملكها، فارقه جماعة من أعيان الأمراء ومعهم عدد كثير، ومنهم دُبيس بن صدقة. وأرسلوا إلى الخليفة يطلبون منه الأمان؛ ليحضروا في خدمته، فقيل له: إنها مكيدة لأن دُبيساً معهم. وساروا نحو خوزستان واتفقوا مع بُرسق بن بُرسق، فأرسل الخليفة إليهم سديد الدولة بن الأنباري بتوقيعات إلى الأمراء المذكورين، بتطييب نفوسهم والأمر بحضورهم. وكان الأمراء المذكورون قد عزموا على قبض دُبيس، والتقرّب إلى الخليفة بحمله إليه. فبلغه ذلك، فهرب إلى السلطان مسعود. وسار

٣٠٤

الأمراء إلى بغداد. وانتهى أخيراً أمر الخليفة بالانكسار وانتصار السلطان مسعود، وقبض الخليفة فقتله على أيدي أربعة وعشرين رجلاً من الباطنية.

وفي هذه السنة قُتِل السلطان مسعود دُبيس بن صدقة على باب سُرادقه بظاهر مدينة خُوي، أمر غلاماً أرمنياً بقتله، فوقف على رأسه وهو ينكت الأرض بأصبعه، فضرب رقبته وهو لا يشعر، وكان ابنه صدقة بالحلَّة، فاجتمع إليه عسكر أبيه ومماليكه، وكثر جمعه واستأمن إليه الأمير قتلغ تكين، وأمر السلطان مسعود بك آبه أن يأخذ الحلَّة. فسار بعض عسكره إلى المدائن، وأقاموا مدة ينتظرون لحاق بك آبه بهم، فلم يَسِر إليهم جبناً وعجزاً عن قصد الحلَّة؛ لكثرة العسكر بها مع صدقة. وبقي صدقة بالحلَّة إلى أن قدم السلطان مسعود إلى بغداد سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة، فقصده وأصلح حاله معه، ولزم باب السلطان. ومثل هذه الحادثة تقع كثيراً وهي قرب موت المتعاديين، فإن دُبيساً كان يعادي المسترشد بالله ويكره خلافته، ولم يكن يعلم أن السلاطين إنما كانوا يبقون عليه؛ ليجعلوه عُدة لمقاومة المسترشد، فلما زال السبب زال المسبب.

وفي سنة (٥٣٠) لما بعث السلطان مسعود في هذه السنة يرنقش الزكوي؛ يطالب الخليفة الراشد بما كان قد استقر على المسترشد بالله من المال، وهو أربعمائة ألف دينار، وامتنع الراشد من الإجابة، ثم بلغه أن يرنقش يريد التهجُّم على دار الخلافة وتفتيشها ليأخذ المال. فجمع العساكر لمنعه، وانتهى الأمر بإخراج عسكر السلطان، واجتماع أصحاب الأطراف على الخروج عن طاعته، وفيهم صدقة بن دُبيس صاحب الحلَّة، ومعه عنتر بن أبي العسكر الجاواني، يدبِّره ويُتمِّم نقص صباه. وقدم مسعود إلى بغداد، وانتهى الأمر بخلع الراشد بالله واستخلاف المُقتفي بالله.

وفي سنة (٥٣١) في المحرم أَذِن السلطان مسعود للعساكر التي عنده ببغداد بالعود إلى بلادهم؛ لما بلغه أن الراشد بالله قد فارق أتابك زنكي من الموصل، فإنه كان يتمسَّك بالعساكر عنده خوفاً أن ينحدر به إلى العراق فيملكه عليه. فلما أراد أن يأذن للأمير صدقة بن دُبيس صاحب الحلَّة زوَّجه ابنته تمسّكاً به. ورجع إليه بعض الأمراء الذين فارقوه وبذلوا له الطاعة، فرضي عنهم وأمنهم، وتزوَّج الخليفة فاطمة أخت السلطان ووثق السلطان، حيث صار الخليفة وصدقة بن دُبيس بن صدقة صهريه.

٣٠٥

سنة (٥٣٢): لما فارق الراشد بالله أتابك زنكي من الموصل، سار نحو أذربيجان فوصل مراغة، وكان الأمير منكبرس صاحب فارس ونائبه بخوزستان بوزابة، والأمير عبد الرحمان طغايرك والملك داود بن السلطان محمود، مستشعرين من السلطان مسعود خائفين منه، فتجمَّعوا ووافقوا الراشد على الاجتماع؛ لتكون أيديهم واحدة ويردوه إلى الخلافة فأجابهم إلى ذلك، إلا أنه لم يجتمع معهم. ووصل الخبر إلى السلطان مسعود وهو ببغداد باجتماعهم، فسار عنها في شعبان نحوهم، فالتقوا ببنجن كشت، فاقتتلوا فهزمهم السلطان مسعود، وأُخذ الأمير منكبرس أسيراً فقُتل بين يديه صبراً. وتفرّق عسكر مسعود في النهب واتّباع المنهزمين، وكان بوزابة وعبد الرحمان طغايرك على نشز من الأرض، فرأيا السلطان مسعوداً، وقد تفرَّق عسكره عنه، فحملا عليه وهو في قلة، فلم يثبت لهما وانهزم، وقبض بوزابة على جماعة من الأمراء، منهم صدقة بن دُبيس صاحب الحلَّة، ومنهم ولد أتابك قراسُنقر صاحب أذربيجان وعنتر بن أبي العسكر وغيرهم، وتركهم عنده، فلما بلغه قتل صاحبه منكبرس قتلهم أجمعين، وصار العسكران مهزومين، وكان هذا من أعجب الاتفاق.

ولما قتل صدقة بن دُبيس أقر السلطان مسعود الحلَّة على أخيه محمد ابن دُبيس، وجعل معه مهلهل بن أبي العسكر أخا عنتر المقتول يُدبِّر أمره.

وفي سنة (٥٤٠): سار علي بن دُبيس إلى الحلَّة هارباً، فملكها؛ وكان سبب ذلك أن السلطان لما أراد الرحيل من بغداد وأشار عليه مهلهل أن يحبس علي بن دُبيس بقلعة تكريت، فعلم ذلك فهرب في جماعة يسيرة نحو خمسة عشر. فمضى إلى الأزيز، وجمع بني أسد وغيرهم، وسار إلى الحلَّة وبها أخوه محمد بن دُبيس فقاتله، فانهزم محمد وملك علي الحلَّة. واستهان السلطان أمره أولاً، فاستفحل وضم إليه جمعاً من غلمانه وغلمان أبيه وأهل بيته وعساكرهم، وكثر جمعهم. فسار إليه مهلهل فيمن معه في بغداد من العسكر، فضربوا معه مصافاً، فكسرهم وعادوا منهزمين إلى بغداد. وكان أهلها يتعصَّبون لعلي بن دُبيس، وكانوا يصيحون إذا رأوا مهلهلاً وبعض أصحابه يا علي كُلْهُ. وكثر ذلك منهم بحيث امتنع مهلهل من الركوب، ومد علي يده في إقطاع الأمراء بالحلَّة، وتصرف فيها وصار شحنة بغداد ومن فيها على وجل منه، وجمع الخليفة جماعة، وجعلهم على السور لحفظه وراسل

٣٠٦

علياً، فأعاد بأنني العبد المطيع مهما رسم لي فعلت. فسكن الناس ووصلت الأخبار بعد ذلك أن السلطان مسعوداً تفرَّق خصومه عنه، فازداد سكون الناس لذلك.

سنة (٥٤٢): في هذه السنة كثر فساد أصحاب علي بن دُبيس بالحلَّة وما جاورها، وكثرت الشكاوى منه، فأقطع السلطان مسعود الحلَّة للأمير سلاركرد. فسار إليها من هَمَذان ومعه عسكر، وانضاف إليه جماعة من عسكر بغداد وقصدوا الحلَّة. فجمع علي عسكره وحشد، والتقى العسكران بمُطيرباذ. فانهزم علي وملك سلاركرد الحلَّة، واحتاط على أهل عليّ ورجعت العساكر، وأقام هو بالحلَّة ومماليكه وأصحابه. وسار علي بن دُبيس، فلحق بالبقش كون خَر، وكان بإقطاعه في اللحف متجنّياً على السلطان، فاستنجده فسار معه إلى واسط، واتفق هو والطرنطاي، وقصدوا الحلَّة فاستنقذوها من سلاركرد في ذي الحجَّة، وفارقها سلاركرد وعاد إلى بغداد.

وفي سنة (٥٤٤) في رجب عاد البقش كون خَر والطرنطاي وابن دُبيس ومعهم ملكشاه بن السلطان محمود إلى العراق، وراسلوا الخليفة في الخطبة لملكشاه. فلم يلتفت إليهم وجمع العساكر، وحصن بغداد وأرسل إلى السلطان مسعود يعرِّفه الحال، فوعده بالوصول إلى بغداد، فلم يحضر. ولما علم البقش بمراسلة الخليفة إلى مسعود نهب النهروان، وقبض على الأمير علي بن دُبيس في رمضان. ولما وصل السلطان مسعود إلى بغداد، ورحل البقش كون خَر من النهروان أطلق علي بن دُبيس.

سنة (٥٤٥): وفيها تُوفِّي الأمير علي بن دُبيس بن صدقة صاحب الحلَّة باسدآباذ، واتُّهم طبيبه محمد بن صالح بالمواطأة عليه، فمات الطبيب بعده بقريب.

[ما جاء من أخبارهم في تاريخ ابن خلدون]

أول أمير من بني مَزْيد هو أبو الحسن علي بن مزيد. ومن أمرائهم أخوه أبو الغنائم، وقد مرَّ من أخبارهما ما يغنينا عن إعادتها.

تُوفِّي أبو الحسن بن مزيد سنة ثمانٍ وأربعمائة، وقام بالأمر مكانه ابنه نور الدولة أبو الأغر دُبيس، وقد كان أبوه عهد لأخيه في حياته، وخلع عليه

٣٠٧

سلطان الدولة وأذن في ولايته. فلما ولي بعد أبيه نزع أخوه المقلَّد إلى بني عقيل فأقام بينهم. وكانت بسبب ذلك بين دُبيس وقرواش أميري بني عقيل فتن وحروب. وجمع دُبيس عليه بني خفاجة، وملك الأنبار من يده سنة سبع عشرة. ثم انتقض خفاجة على دُبيس وأميرهم منيع بن حسَّان، وسار إلى الجامعين، فنهبها وملك الكوفة وصار أمر دُبيس وقرواش إلى الوفاق. واستوى الأمر على ذلك، ومنعت خفاجة بني عقيل من سقي الفرات.

(استيلاء منصور بن الحسين على الجزيرة الدُبيسية)

كانت الجزيرة الدُبيسية قد استقرت لطراد بن دُبيس، وكان منصور بن الحسين من شعوب بني أسد تغلَّب عليها، وأخرج طراد بن دُبيس عنها سنة ثمان عشرة. ثم مات طراد، فسار ابنه أبو الحسن إلى جلال الدولة ببغداد، وكان منصور بن الحسين قد خطب للملك أبي كليجار، وقطع الخطبة لجلال الدولة. فسأل منه علي بن طراد أن يبعث معه عسكراً ليُخرِج منصوراً من الجزيرة، فأنفذ معه العسكر، وسار إلى واسط ثم أغذ السير، وكان منصور جمع للقائه، وأعانه بعض أمراء التُّرك، وهو أبو صالح كركير، وكان قد هرب من جلال الدولة إلى أبي كاليجار، فأعان منصوراً على شؤونه، ولقوا علي بن طراد، فهزموه وقتلوه وجماعة من التُّرك الذين بعثهم جلال الدولة لنصرته. واستقر ملك الجزيرة الدُبيسية لمنصور بن الحسين.

(فتنة دُبيس مع جلال الدولة وحروبه مع قومه)

كان المقلَّد أخو دُبيس بن مزيد قد لحق ببني عقيل، وكانت بينه وبين نور الدولة دُبيس عداوة. فسار إلى منيع بن حسَّان أمير خفاجة، واجتمعا على قتال دُبيس على خلافة جلال الدين. وخطب لأبي كليجار واستقدمه إلى العراق، فجاء إلى واسط وبها ابن جلال الدولة، ففارقها وقصد النعمانية ففجَّر عليه البثوق من بلده، وأرسل أبو كليجار إلى قرواش صاحب الموصل، والأثير عنبر الخادم أن ينحدروا إلى العراق، فانحدروا إلى الكُحيل ومات بها الأثير عنبر. وجمع جلال الدولة عساكره، واستنجد أبا الشوك صاحب بلاد الأكراد، فأنجده وانحدر إلى واسط وأقام بها. وتتابعت الأمطار والأوحال، فسار جلال الدولة إلى الأهواز بلد أبي كليجار

٣٠٨

لينهبها، وبعث أبو كليجار إليه بأن عساكر محمود بن سبكتكين قد قصدت العراق ليرده عن الأهواز. فلم يلتفت إلى ذلك وسار ونهب الأهواز. وبلغ الخبر إلى أبي كليجار، فسار إلى مدافعته، وتخلَّف عنه دُبيس خوفاً على حلله من خفاجة. والتقى أبو كليجار وجلال الدولة، فانهزم أبو كليجار وقتل من أصحابه كثير. واستولى جلال الدولة على واسط، وأعاد إليه ابنه عبد العزيز كما كان، ولما فارق دُبيس أبا كليجار وجد جماعة من عشيرته قد خالفوا عليه، وعاثوا في نواحي الجامعين، فقاتلهم وظفر بهم وأسر منهم جماعة: منهم أبو عبد الله الحسين بن عمه أبي الغنائم، وشبيب، وسرايا، ووهب بنو عمه حماد بن مزيد، وحبسهم بالجوسق. ثم جمع المقلَّد أخوه جموعاً من العرب، واستمد جلال الدولة فأمده بعساكر، وقصدوا دُبيساً، فانهزم، وأُسِر جماعة من أصحابه، ونزل المعتقلون بالجوسق فنهبوا حلله. ولحق دُبيس بالشريد مُنهزماً، فسار به إلى مجد الدولة وضمن عنه المال المقرَّر في ولايته، فأجيب إلى ذلك وخلع عليه. واستقام حاله وذهب المقلَّد مع جماعة من خفاجة، فنهبوا مطير آباد والنيل أقبح نهب، وعاثوا في منازلها، ولم تكن الحلَّة بنيت يومئذٍ. وعبر المقلَّد دجلة إلى أبي الشوك، فأقام عنده حتى أصلح أمره.

(الفتنة بين دُبيس وأخيه ثابت)

كان أبو قوام ثابت بن علي بن مزيد متصلاً بالبساسيري سنة أربع وعشرين، وتزحزح لهم دُبيس عن البلاد، وملك ثابت النيل وأعمال دُبيس، وبعث دُبيس طائفة من أصحابه لقتال ثابت فانهزموا. فسار دُبيس عن البلاد وتركها لثابت حتى رجع البساسيري إلى بغداد، فسار في جموع بني أسد وخفاجة، ومعه أبو كامل منصور بن قراد، وتركوا حللهم بين حصنى خفان وجرى، وساروا جريدة، ولقيهم ثابت عند جرجرا، فاقتتلوا ملياً ثم تحاجزوا، واصطلحوا على أن يعود دُبيس إلى أعماله، ويُقطع أخاه ثابتاً بعض تلك الأعمال. وتحالفوا على ذلك وافترقوا، وجاء البساسيري منجداً لثابت فبلغه الخبر بالنعمانية فرجع.

٣٠٩

الفتنة بين دُبيس وعسكر واسط

كان الملك الرحيم قد أقطع دُبيسَ بن مزيد سنة إحدى وأربعين حماية نهر الصِلَّة ونهر الفضل، وهي من أقطاع جند واسط. فسخطوا ذلك واجتمعوا، وبعثوا إليه بالتهديد، فراجعهم إلى حكم الملك الرحيم، فغضبوا وزحفوا إليه، فلقيهم وأكمن لهم، فهزمهم وأثخن فيهم، وغنِم أموالهم ودوابَّهم، ورجعوا إلى واسط يستنجدون جند بغداد، يرغبون من البساسيري في المدافعة عنهم على أن يُعطوه نهر الصلة ونهر الفضل.

إيقاع دُبيس بخفاجة

وفي سنة ست وأربعين قصد بنو خفاجة الجامعين من أعمال دُبيس، فعاثوا فيها من غربي الفرات. وكان دُبيس في شرقيِّه، فاستنجد البساسيري، فجاء بنفسه، وعبر دُبيس الفرات معه، وقاتل خفاجة وأجلاهم عن الجامعين. فسلكوا البرية ورجع عنهم، ثم عادوا للفساد فعاد إليهم، فدخلوا البرية فاتَّبعهم إلى خفان، فأوقع بهم وأثخن فيهم وحاصر خفان، ثم اقتحمه وأخرجهم. ورجع إلى بغداد ومعه أُسارى من خفاجة فصُلبوا. ثم سار إلى جرى، فحاصرها ووضع عليها سبعة آلاف دينار، فالتزموها وأمّنهم.

حرب دُبيس مع الغز وخطبته لصاحب مصر العلوي

ومعاودته الطاعة

ولما انقرض أمر بني بويه، وغلب عليهم الغز، وصارت الدولة للسلطان طغرلبك سلطان السلجوقية، وجاء السلطان طغرلبك إلى بغداد، واستولى على الخليفة. وخُطب له على منابر الإسلام، وقُبض على الملك الرحيم آخر ملوك بني بويه. وكان البساسيري قد فارق الملك الرحيم قبل مسيره من واسط إلى بغداد؛ للقاء طغرلبك، مُجمعاً على الخلاف على الغز، مع قطلمش ابن عم طغرلبك جد الملوك ببلاد الروم، أولاد قلبيج أرسلان، ومعه متمِّم الدولة أبو الفتح عمر. وسار معهم قريش بن بدران صاحب الموصل، فلقيهم دُبيس والبساسيري على سنجار. وهزمهم ورجع قريش إلى دُبيس جريحاً، فخلع عليه وسار معهم، وذهب بهم إلى الموصل. وخرج دُبيس وقريش والبساسيري إلى البرية، ومعهم جماعة من بني نُمير أصحاب

٣١٠

حرَّان والرقَّة، واتبعهم عساكر السلطان مع هزارسب من أمراء السلجوقية. فأوقع بهم ورجع بالغنائم والأسرى، وأرسل دُبيس وقريش إلى هزارسب أن يستعطف بهم السلطان ففعل. ثم انتقض عليه أخوه نيال بهَمَذان، فسار لحربه وترك بغداد، وخالفه البساسيري إليها، وبعث الخليفة القائم عن دُبيس؛ ليُقيم عنده ببغداد، فاعتذر بأنَّ العرب لا تُقيم، وطلب الخليفة في الخروج إليه؛ حتى يجتمع عليه هو وهزارسب، ويدافعوا عن بغداد. وجاء البساسيري ودخل بغداد، ومعه قريش بن بدران، فملكها سنة خمسين وأربعمائة. وخطب فيها للعلويين واستذَّم الخليفة القائم بقريش بن بدران، فأذمَّه وبعثه إلى عانة عند مهاوش العقيلي من بني عمه. وفعل البساسيري وجموعه في بغداد الأفاعيل، وأطاعه دُبيس بن علي بن مزيد، وصدقة بن منصور بن الحسين صاحب الجزيرة الدُبيسية، وكان وُلّي بعد أبيه كما تقدم ذكره. ثم رجع السلطان من هَمَذان بعد قتل أخيه، وقضى أشغاله، فأجفل البساسيري وأصحابه من بغداد، ولحق ببلاد دُبيس، وفارقه صدقة بن منصور إلى هزارسب بواسط. وأعاد طغرلبك الخليفة إلى داره، وسار السلطان في اتِّباعه، وفي مقدمته خمارتكين الطغرائي في ألفي فارس، ومعه سرايا بن منيع الخفاجي، فصبَّحت المقدمة دُبيس بن مزيد والبساسيري، فقُتل وذلك سنة إحدى وخمسين وأربعمائة. ورجع السلطان إلى بغداد، ثم انحدر إلى واسط، وجاءه هزارسب بن تنكين، فأصلح عنده حال دُبيس بن مزيد، وصدقة بن منصور بن الحسين. وحضرا عند السلطان، وجاءا في ركابه إلى بغداد، فخلع عليهما وردهما إلى عمالتهما.

وفاة دُبيس وإمارة ابنه منصور

ولم يزل دُبيس على أعماله إلى أنْ تُوفِّي سنة أربع وسبعين وأربعمائة، لسبع وخمسين سنة من إمارته، وكان ممدوحاً، ورثاه الشعراء بعد وفاته بأكثر مما مدحوه في حياته. ولما مات وُلِّيَ في أعماله، وعلى بني أسد ابنه أبو كامل منصور، ولُقِّب بهاء الدولة. وسار إلى السلطان ملك شاه، فأقره على أعماله، وعاد في صفر سنة خمس وسبعين وأربعمائة، فأحسن السيرة.

وفاة منصور بن دُبيس وولاية ابنه صدقة

ثم تُوفِّي بهاء الدولة أبو كامل منصور بن دُبيس بن علي بن مزيد

٣١١

صاحب الحلَّة والنيل وغيرهما، في ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة. فأرسل الخليفة نَقيب العلويين أبا الغنائم إلى ابنه سيف الدولة صدقة يغريه، وسار صدقة إلى السلطان ملك شاه، فخلع عليه وولاّه مكان أبيه.

انتقاض صدقة على السلطان بركيارق

كان السلطان بركيارق قد خرج عليه أخوه محمود بن ملك شاه ينازعه في الملك، وكانت بينهما عدَّة وقعات، ولم يزل صدقة بن منصور على طاعته، ويحضر حروبه تارة بنفسه، وتارة يبعث إليه العساكر مع ابنه، إلى سنة أربع وتسعين وأربعمائة. فبعث إليه وزير السلطان بركيارق، وهو الأغر أبو المحاسن الدهساني، يطلبه فيما تخلَّف عنده من المال، وهو ألف ألف دينار، ويتهدَّده عليه، فقطع صدقة الخطبة لبركيارق، وعاد إلى بغداد في هذه السنة منهزماً أمام أخويه محمد وسنجر. فبعث الأمير أياز من أكبر أصحابه، وطرد نائب السلطان عن الكوفة واستضافها إليه.

استيلاء صدقة على واسط وهيْت

كان السلطان محمد في سنة ست وتسعين وأربعمائة مستولياً على بغداد، والخطبة بها، وشحنته فيها أبو الغازي بن أرتق، وصدقة بن دُبيس على طاعته ومظاهرته. ثم ظهر في هذه السنة بركيارق على محمد، وحاصره بأصفهان، فامتنع عليه، فأفرج عنه إلى هَمَذان. وبعث كمستكين القصيري شحنة إلى بغداد، فاستدعى أبو الغازي أخاه سقمان بن أرتق من حصن كيفا؛ يستعين به في مدافعة كمستكين، وجاء كمستكين إلى بغداد، وخطب بها لبركيارق، وخرج أبو الغازي وسقمان إلى دجيل، فأقاما به وبجر، وجاء صدقة بن مزيد إلى صرصر بعد أن جاءه رسول الخليفة في طاعة إيلغازي وسقمان، فعادا وعاثت عساكرهما في نواحي دجيل، وتقدما إلى بغداد، وبعث معهما صدقة ابنه دُبيساً، فخيَّموا بالرملة. وقاتلهم العامَّة وكَثُر الهرج. وبعث الخليفة إلى صدقة يعظِّم عليه الأمر، فأشار بإخراج كمستكين القيصري من بغداد لتصلح الأحوال، فأُخرج إلى النهروان في ربيع سنة ست وتسعين وأربعمائة، وعاد صدقة إلى الحلَّة، وأُعيدت خطبة السلطان محمد ببغداد، ولحق القيصري بواسط، وخطب بها لمحمد. فسار إليه صدقة، وأخرجه وجاء إيلغازي، واتبعوا القيصري واستأمن إلى صدقة فأكرمه.

٣١٢

وأُعيدت خطبة السلطان محمد بواسط، وبعده لصدقة وإيلغازي، وولَّى كل واحد منهما ولده على واسط، وذهب إيلغازي إلى بغداد، وعاد صدقة إلى الحلَّة، وأرسل ابنه منصوراً مع إيلغازي إلى المستنصر؛ ليستظهر رضاه فرضي عنه. ثم استولى صدقة على هيت، وكان بركيارق أقطعها لبهاء الدولة توران بن تهيبة، وكان مقيماً في جماعة من بني عقيل عند صدقة، ثم تشاجرا، ومال بنو عقيل إلى صدقة، وحجَّ عقب ذلك ورجع، فُوكِّل به صدقة، وبعث ابنه دُبيساً ليتسلم هيت، فمنعه نائب توران بها، وهو محمد بن رافع بن منيعة بن مالك بن المقلَّد. فلما أخذ صدقة واسطاً سار إلى هيت، وبها منصور بن كثير نائباً عن عمِّه توران، فلقي صدقة وحاربه، ثم انتقض جماعة من أهل البلد، وفتحوا لصدقة فملكها، وخلع على منصور وأصحابه، وعاد إلى الحلَّة واستخلف على هيت ابن عمه ثابت بن كامل. ثم اصطلح السلطان محمد وبركيارق، وسار صدقة في شوال إلى واسط، فملكها وأخرج التُّرك الذين كانوا بها، وأحضر مهذّب الدولة بن أبي الخير، فضمنه البلد لثلاثة أشهر بقيت من السنة بخمسين ألف دينار وعاد إلى الحلَّة.

استيلاء صدقة بن مزيد على البصرة

كانت البصرة منذ سنين في ولاية إسماعيل بن أرسلان جق من السلجوقية، أقام فيها عشر سنين، وعَظُم تمكُّنه للخلاف الواقع بين بركيارق ومحمد، وكان يُظهر طاعة صدقة وموافقته. فلما صفا الأمر لمحمد رغِب إليه صدقة في إبقائه فأبقاه، وبعث السلطان محمد عاملاً على خاصة البصرة فمنعه إسماعيل، فأمر السلطان صدقة بأخذ البصرة منه، وأظهر منكبرس الخلاف، فشُغلوا عن البصرة. وبعث إليه صدقة بتسليم الشرطة إلى مهذّب الدولة بن أبي الخير، فمنع من ذلك، فسار صدقة إليه. وحصَّن إسماعيل القلاع التي استجدَّها حوالي البصرة، واعتقل وجوه البلد من العباسيين، والعلويين، والقاضي، والمدرس، والأعيان، وحاصرها صدقة وخرج إسماعيل لقتاله، وخالفه طائفة من أصحاب صدقة إلى مكان آخر من البلد. وانحدر لمهذّب بن أبي الخير في السفر، فأخذ القلعة التي كانت لإسماعيل بمطارا، ثم استأمن إسماعيل إلى صدقة، فأمنه وجاء صدقة، فأمن أهل البصرة ورتَّب عندهم شحنة، وعاد إلى الحلَّة منتصف تسع وتسعين وأربعمائة، لستة عشر يوماً من مقامه بالبصرة. وسار إسماعيل نحو فارس، فطرقه مرض في

٣١٣

وفاة علي بن دُبيس وانقراض بني مزيد

ثُمَّ تُوفِّي علي بن دُبيس صاحب الحلَّة عليلاً بأسد آباد، واتُّهِم طبيبه محمد بن صالح بالادِّهان فيه، فمات بعده بقليل. ثُمَّ مات السلطان مسعود آخر الملوك السلجوقية، وبويع ملك شاه بن أخيه محمود بعده. واستبدَّ المُقتفي على مُلوك السلجوقيَّة بعده وبعث السلطان ملك شاه سلاَّركرد إلى الحلَّة فملكها. ولحق به مسعود بلاك شُحنة بغداد هرب منها عند موت السلطان مسعود وأظهر لسلاَّركرد الوفاق. ثُمَّ قبض عليه وغرَّقه واستبدَّ بالحلَّة. وبعث المُقتفي إليه العساكر مع الوزير عون الدين بن هبيرة، فبرز مسعود بلاك للقائهم فانهزم وعاد إلى الحلَّة. فمنعه أهلها مِن الدخول، فسار إلى تكريت. وملك ابن هبيرة الحلَّة، وبعث العساكر إلى الكوفة وواسط فمَلكوهما. ثُمَّ جاءت عساكر السلطان ملك شاه إلى واسط وخرجت منها عساكر المُقتفي إلى واسط فملكها. ثُمَّ إلى الحلَّة كذلك، ثُمَّ عاد إلى بغداد آخر ذي القعدة سنة سبع وأربعين. ثُمَّ قبض الأُمراء على ملك شاه سنة ثمان وأربعين، وبايعوا لأخيه محمد، وطلب الخُطبة مِن المُقتفي فمُنع منها، فسار السلطان محمد بن محمود إلى العراق سنة إحدى وخمسين. واضطرب الناس ببغداد واهتمَّ المُقتفي بالاحتشاد وجاءته عساكر واسط، وبعث السلطان مهلهل بن أبي العسكر إلى الحلَّة فملكها، وحاصر السلطان محمد بغداد سنة ثنتين وخمسين وامتنعت عليه فرجع، وتُوفِّي المُقتفي سنة خمس وخمسين، وبويع ابنه المُستنجد، واستبدَّ بأمره كما كان أبوه. ومنع خُطبة السلجوقيَّة مِن بغداد، وكان في نفسه شيءٌ مِن بني أسد لإجلابهم على بغداد مع مهلهل بن أبي العسكر أيَّام حصار السلطان محمد لها، فأمر بردن بن قماج بقتالهم وإجلائهم، وكانوا مُنتشرين في البطائح ولا يقدر عليهم. وجمع عساكره وبعث عن ابن معروف مُقدَّم المُنتفق مِن أرض البصرة، فجاءه في جمعٍ كبيرٍ وحاصرهم حتَّى انحسر الماء عنهم وأبطأ أمرهم على المُستنجد، فبعث إلى بردن يعاتبه وينسبه إلى موافقتهم في التشيع. فجهد هو وابن معروف في قتالهم، وسدَّ مسالكهم في الماء واستسلموا، فقُتل منهم أربعة آلاف ونودي عليهم بالجَلاء عن الحلَّة، فافترقوا في البلاد ولم يَبقَ منهم بالعراق مَن يُعرف. وسُلِّمت بطائحهم وبلادهم إلى ابن معروف والمُنتفق، وانقرضت دولة بني مزيد والبقاء لله.

٣١٤

ما جاء مِن أخبارهم بذيل تاريخ دمشق لحمزة بن القلانسي

سنة (٥١٤) وفيها وردت الأخبار بأنَّ السلطان محمود قصد حلَّة دُبيس بن صدقة بن مزيد في عسكره، ونهبها وهزم عسكرها، وانهزم دُبيس إلى قلعة جعبر مُستجيراً بصاحبها الأمير شهاب الدين مالك بن سالم بن مالك، فأجاره وأكرمه واحترمه، وقيل: إنَّه انعقد بينهما صهر.

سنة(٥١٥) وردت الأخبار في هذه السنة بظهور الكرج مِن الدروب، وقصدهم بلاد الملك طغرل، فاستنجد بالأمير نجم الدين إيلغازي بن أرتق صاحب حَلب، وبالتُّركمان، وبالأمير دُبيس بن صدقة بن مزيد، فأجابوا إلى ما دعاهم إليه، وبعثهم عليه وتوجَّهوا نحوه في خَلْقٍ عظيم، فانهزم جَمع الكرج خوفاً وعاد فرقاً، وضايقهم المسلمون في الدروب، فعادوا على المسلمين فهزموهم، وقتلوا منهم مَقتلةً عظيمةً، وقصدوا مدينة تفليس فافتتحوها بالسيف وقتلوا من كان فيها.

سنة (٥١٦) في هذه السنة وردت الأخبار مِن ناحية بغداد بأنَّ الأمير دُبيس بن صدقة بن مزيد جَمع واحتشد وقصد بغداد في حَشده، وعاث في أطرافها وأفسد في أكنافها. فخرج الإمام الخليفة المسترشد بالله مِن دار الخلافة، واجتمعت إليه الأجناد، وظهر إليه وحمل عليه فهزمه، وثُمَّ إلى الحلَّة فنهبها ونُهبت مقابر قريش ببغداد، وما بها مِن قناديل الفضَّة والتور والديباج. وعاد إلى بغداد ودخلها في المُحرَّم سنة (٥١٧).

سنة (٥٢٥) وفيها ورد الخبر مِن حلَّة مكتوم بن حسَّان بن سمار بأنَّ الأمير دُبيس بن صدقة بن مزيد اجتاز بالحلَّة، وكان قد انهزم مِن العراق في خواصِّ أصحابه وغُلمانه خوفاً مِن الخليفة المسترشد وضلَّ في الطريق، ولم يكن معه دليلٌ عارفٌ بالمَسالك والمَناهل. وكان قصده حلَّة ميري بن ربيعة، فهلك أكثر مَن كان معه وتفرَّق أصحابه بعد موت مَن مات بالعطش. وقد حصل في الحلَّة كالمُنقطع الوحيد في نَفرٍ يَسيرٍ مِن أصحابه، فأنهض تاج الملوك فرقةً مِن الخيل نحوه لإحضاره، فأحضرته إلى القلعة بدمشق في ليلة يوم الاثنين لستٍ خلون مِن شعبان سنة ٥٢٥، فتقدَّم تاج الملوك بإنزاله في دارٍ بالقلعة وإكرامه واحترامه والاهتمام في شَرابه وطعامه، وحمل إليه مِن المَلبوس والمفروض ما يَقتضيه محلَّه الرفيع، ومكانه المَكين الوجيه، واعتقله

٣١٥

اعتقال كرامة لا اعتقال إهانةٍ. وأنهى الحال في ذلك إلى الدار العزيزة الإماميَّة المسترشديَّة، فورد الجواب إليه بالتوثَّق منه والاحتياط عليه إلى حين يَصل إليه مَن يتَسلَّمه ويحمله إلى بغداد. ولمَّا عرف عماد الدين أتابك زنجي صاحب الموصل هذه الحال، نفَّذ رسولاً له إلى تاج الملوك يلتمس منه تسليمه، ويكون الجزاء عنه الخمسين الألف دينار المُقرَّرة على ولده سونج وبقية العسكر الدمشقي المُعتقَلين. فأجابه تاج الملوك إلى ذلك وتقرَّر الشرط عليه وأنْ يَصل عسكره إلى ناحية قارا ومعه المُعتقَلون. ويخرج الأمير دُبيس مع عسكر دمشق إلى هناك، فإذا تسلَّم المُعتقَلين سَلَّموا دُبيساً إلى أصحابه، فتوجَّهوا به مِن دمشق ووصلوا به إلى قارا، فتسلَّموا المُعتقلَين منهم، وسلَّموا إليهم دُبيساً في يوم الخميس الثامن مِن ذي القعدة مِن السنة، وعاد كُلٌّ مِن العسكرين إلى مكانه. ووصل سونج إلى دمشق هو والجماعة، فسُرَّ تاج الملوك بهم وزال شُغل قلبه بوصولهم. فعند ذلك خوطب تاج الملوك في الرئيس وأهله المُعتقَلين، وسُئل في إطلاقهم والمنِّ عليهم بتخلية سبيلهم. فأجاب إلى ذلك بعد أنْ قرَّر عليه مُصالحةً يقوم بها، وأُطلق وأُعيد إلى رئاسته دون وزارته وخُلِع عليه وعلى الوزير كمال الدين، كريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزَّاق المزوقاني، في شهر رمضان.

وفيها وصل سديد الدولة بن الأنباري كاتب المُسترشد رسولاً منه في أمور وأسباب اقتضتها في آخر ذي القعدة منها، ويَبعث على تسليم الأمير دُبيس إلى مَن يحمله إلى بغداد. وقد فات الأمر فيه فأكرم مَثواه وسَرَّ بمقدمه وأُجيب عن رسائله، وتوجَّه عائداً وجرى عليه وهو في طريقه بناحية الرحبة مِن خَيل الأمير عماد الدين ما لا عَلاقة له بموضوعنا؛ فندعه لذلك واجتناباً للتطويل.

وعلى هامش الصفحة ٢٣٢ نقلاً عن سبط ابن الجوزي، أنَّ ذكره هكذا في تواريخ أهل الشام وأبي يعلى بن القلانسي. أما تواريخ البغداديِّين فإنَّهم قالوا: ضلَّ في طريقه فقَبض عليه مكتوم بن حسَّان الكلبي مِن أعمال دمشق، وانقطع منه أصحابه، فحُمل إلى دمشق فباعه أميرها إلى زنكي بن آق سنقر صاحب الموصل بخمسين ألف دينار، وكان زنكي عدوَّه فظنَّ أنَّه سيُهلكه، فلمَّا وصل في قبضته أكرمه وخوَّله المال والسلاح. فلمَّا ورد الخبر إلى بغداد بعث الخليفة ابن الأنباري ليتوصَّل في أخذه، فلمَّا وصل الرحبة

٣١٦

قبض عليه أميرها بأمر زنكي وحصل إلى قلعة الموصل، وأنَّه لم يَخلص إلاَّ بشفاعة السلطان محمود.

سنة (٥٣٠) في المُحرَّم منها وردت الأخبار مِن ناحية العراق بقتل الأمير دُبيس بن صدقة بن مزيد، قتله السلطان مسعود بن محمد لأمور أنكرها وأسباب امتعض منها نُسبت إليه. وقيل: إنَّ هذه مُكافأة مِن الله تعالى له عمَّا كان منه في عصيان الخليفة الإمام المسترشد بالله والسعاية في دَمِه.

سنة (٥٠١) وفيها وردت الأخبار بوصول عسكر السلطان غياث الدنيا والدين محمد إلى بغداد، في آخر شهر ربيع الآخر منها، وأعلن الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد العصيان عليه خَوفاً، لِما بلغه مِن إفساد شحنة بغداد (وعمدها حاله معه، ولم يَزل السلطان مُقيماً ببغداد) إلى العشرين مِن رجب، فاجتمع إليه تقدير ثلاثين ألف فارس، واجتمع مع صدقة تقدير عشرين ألفاً في الحلَّة، وبينهما أنهار وسواحل في الحلَّة. فآثر السلطان مراسلته في تقرير أمره والصفح وإيقاع مُهادنةً تستقيم معها الأحوال وتتصلَّح بها الأعمال. فأبى ذلك كافَّة الأُمراء والمقدِّمين وامتنعوا مِن الإهمال لأمره ونهضوا إليه. فلمَّا عرِف الحال قطع الأنهار ووصل في جَمعه حتَّى صار بإزائهم، وحمل بعض الفريقين على بعض، ونشبت الحرب بينهم، وكان منزل صدقة بن مزيد كثير الوَحل عَسير المَجال، فترجَّل التُّرك عن خيلهم وحثُّوا عليهم، وأطلقوا السهام وشهروا الصفاح وشرعوا الرماح. وفعل مِثل ذلك أصحاب صدقة، والتقى الجيشان، ونظر صدقة إلى أصحابه والسهام قد شكَّت خيولهم قد أشرفوا على الهلاك، وظنَّ التُّرك أنَّهم قد انهزموا فركبوا أكتافهم رشقاً بالسهام وضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح، فقتلوا منهم خَلقاً كثيراً. وقُتل الأمير صدقة بن مزيد في الجُملة، ووجوه رجاله، ولم يُفلت منهم إلا اليسير مِمَّن حماه الأجل واستطار قلبه الخوف والوَجل. وكان السلطان قد اعتمد في تدبير الجيش وترتيب الحرب على الأمير مودود المُستشهد بيد الباطنيَّة في جامع دمشق، ووصل السلطان عند يوم الوقعة ونزل الحلَّة. ولم يكن للعرب بعد صدقة مِثله في البيت والتقدُّم، وحسَّان السيرة فيهم والإنصاف لهم والإنعام عليهم، وكرم النفس وجزيل العطاء، وحُسن الوفاء والصفح عن الجرائر والتجاوز عن الجرائم والكبائر، والتعفُّف عن أموال الرعيَّة وحسَّان النية للعسكريَّة، غير أنَّه كان مع هذه الخلال

٣١٧

رام هرمز ومات. وكان صدقة قد استعمل على البصرة مملوك جده دُبيس، واسمه اليونشاش، ورتَّب معه مائة وعشرين فارساً. فاجتمعت ربيعة والمُتقّن وقصدوا البصرة، فدخلوها بالسيف وأسروا اليونشاش، وأقاموا بها شهراً ينهبون ويخربون. وبعث صدقة عسكراً، فوصل بعد خروجهم من البلد، فانتزع السلطان البصرة من صدقة، وبعث إليها شحنة وعميداً واستقام أمرها.

استيلاء صدقة على تكريت

كانت تكريت لبني معن من بني عقيل، وكانت إلى آخر سبع وعشرين وأربعمائة بيد رافع بن الحسين بن معن. فلما مات وليها ابن أخيه أبو منعة بن ثعلب بن حماد، ووجد بها خمسمائة ألف دينار، وتُوفِّي سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، ووليها ابنه أبو غشام إلى سنة أربع وأربعين، فوثب عليه أخوه عيسى، فحبسه وملك القلعة والأموال. فلما اجتاز به طغرلبك سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، صالحه على بعض المال فرحل عنه، ومات عيسى أثر ذلك، وخافت زوجته من عود أخيه أبي غشام إلى المُلك فقتلته في محبسه، وولَّت على القلعة أبا الغنائم بن المجلبان، فسلَّمها إلى أصحاب طغرلبك، وسارت هي إلى الموصل، فقتلها ابن أبي غشام بأبيه، وأخذ مسلم بن قريش مالها، وولَّى طغرلبك على قلعة تكريت أبا العباس الرازي، فمات لستة أشهر، فولَّى عليها المهرباط، وهو أبو جعفر محمد بن أحمد بن غشام من بلد الثغر، فأقام بها إحدى وعشرين سنة ومات. فوَليها ابنه سنتين، وأخذتها منه تركمان خاتون، وولَّت عليها كوهويين الشحنة. ثم مات ملك شاه. فملكها قسيم الدولة آقسنقر صاحب حَلب، فلما قُتل صارت للأمير كمستكين الجاندار، فولَّى عليها رجلاً يُعرف بأبي نصر المصارع. ثم عادت إلى كوهويين إقطاعاً، ثم أخذها منه محمد الملك الباسلاني، فولَّى عليها لمقا بن هزارسب الديلمي، وأقام بها اثنتي عشرة سنة، فظلم أهلها وأساء السيرة. فلما أجاز به سقمان بن أرتق سنة ست وتسعين وأربعمائة نهبها، وكان كيقباذ ينهبها ليلاً وسقمان ينهبها نهاراً. فلمّا استقر السلطان محمد بعد أخيه بركيارق، أقطعها للأمير آقسنقر البُرسقي شحنة بغداد، فسار إليها وحصرها مدة تزيد على سبعة أشهر، حتى ضاق على كيقباذ الأمر، فراسل صدقة بن مزيد ليسلِّمها إليه. فسار إليها. في صفر من هذه السنة

٣١٨

وتسلَّمها منه. وانحدر البُرسقي ولم يملكها، ومات كيقباذ بعد نزوله من القلعة بثمانية أيام، وكان عمره ستين سنة، واستناب صدقة بها ورام بن أبي قريش بن ورام، وكان كيقباذ ينسب إلى الباطنية.

الخلف بين صدقة وصاحب البطيحة

تقدَّم أن السلطان محمداً أقطع صدقة بن مزيد مدينة واسط، فضمنها صدقة لمهذّب الدولة بن أبي الخير، وولَّى في أعمالها أولاده، فبذَّروا الأموال. وطالبه صدقة عند انقضاء السنة بالمال وحبسه، وسعى في خلاصه بدران بن أبي صدقة، وكان صهراً لمهذّب الدولة، وأعاده إلى البطيحة. وضمن حمَّاد والمختم محمد والد مهذّب الدولة، وكانا أخوين وهما ابنا أبي الخير، وكانت لهما رياسة قومهما. وهلك المصطنع، وقام ابنه أبو السيد المظفر والد حماد مقامه. وهلك المختم محمد وقام ابنه مهذّب الدولة مقامه. ونازعا إبراهيم صاحب البطيحة حتى غلب مهذّب الدولة وقبض عليه وسلمه إلى كوهويين. فحمله إلى أصفهان فهلك في الطريق، وعظم أمر مهذّب الدولة وصير كوهويين أمير البطيحة وصارت جماعته لحكمه، وكان حماد شاباً وكان مهذّب الدولة يداريه بجهده وهو يضمر نقضه. فلما مات كوهويين انتقض حماد عن مهذّب الدولة وأظهر ما في نفسه، واجتهد مهذّب الدولة في اسنصلاحه فلم يقدر، وجمع ابنه القيسر وقصد حماد، فهرب إلى صدقة بالحلَّة وبعث معه عدداً من العسكر. وحشد مهذّب الدولة وسار في العساكر براً وبحراً. وأكمن حماد وأصحابه لهم واستطردوا بين أيديهم، ثم خرجت عليهم الكمائن فانهزموا. وأرسل حماد يستمد صدقة فبعث إليه مقدم جيشه وجمعوا السفن. وكان مهذّب الدولة جواداً، فبعث إلى مقدم الجيش بالانعامات والصلات، فمال إليه وأشار عليه أن يبعث ابن النفيس إلى صدقة. فرضي عنه وأصلح بينه وبين حماد ابن عمه وذلك آخر المائة الخامسة.

مقتل صدقة وولاية ابنه دُبيس

كان صدقة بن منصور بن مزيد شيعةً للسلطان محمد بن ملك شاه على أخيه بركيارق، ومِن أعظم أنصاره. ولمَّا هلك بركيارق واستبدَّ

٣١٩

السلطان محمد بالمُلك، رعى وسائله في ذلك وأقطعه واسطاً، وأذِن له في مُلك البصرة، وأنزله مَنزل المَصافاة حتَّى كان يُجبر عليه، وسَخط مَرَّة على سرخاب بن كيخسرو صاحب ساوة، فلجأ إليه مُستجيراً فأجاره، وطلبه السلطان فمنعه. وكان العميد أبو جعفر يستبدله السلطان لكثرة السعاية ويُغريه به ويُنكر دالَّته وتَبسطه، فتَعيَّن السلطان وسار إلى العراق، وأرسل إلى صدقة فاستشار صدقة أصحابه فأشار ابنه دُبيس بملاطفته واستعطافه بالهدايا، وأشار سعيد بن حميد جيشه بالمُحاربة فجَنَح إلى رأيه واستطال في الخِطاب، وجمع الجُند وأفاض فيهم العَطاء واعترضهم، فكانوا عشرين ألف فارس وثلاثين ألف راجل. وبعث إليه المُستظهر مع علي بن طراد الزينبي نَقيب النُّقباء يَعظه في المُخالفة ويَحضَّه على لقاء السلطان، فاعتذر بالخوف منه. ثُمَّ بعث إليه السلطان أقضى القضاة أبا سعيد الهروي ليؤمنه ويَستنفره لجهاد الفرنج في جُملته فامتنع، ووصل السلطان إلى بغداد في ربيع مِن سنة إحدى وخمسمائة، ومعه وزيره أحمد بن نظام الملك، فقدم البُرسقي شُحنة بغداد في جماعة مِن الأُمراء، فنزلوا بصرصر مُسلَّحة لقلَّة عسكر السلطان، وأنَّه إنَّما جاء في ألفي فارس للإصلاح والاستئلاف؛ فلمَّا تَبيَّن له لجِاج صدقة أرسل إلى الأُمراء بأصفهان بأنْ يستجيشوا ويَقدِموا، فكتب صدقة إلى الخليفة بالمُقاربة وموافقة السلطان. ثُمَّ رجع صدقة عن رأيه، وقال: إذا رحل السلطان عن بغداد مَددته بالأموال والرجال لجهاده، وأمَّا الآن وعساكره مُتصلة فلا وِفاق عندي. وقد أرسل إلى جاولي سكاو وصاحب الموصل وإيلغازي بن أرتق صاحب ماردين بالانتقاض على السلطان، وأيَّس السلطان مِن استقامته. ووصل إليه ببغداد، وقرواش شرف الدولة، وكروباوي بن خراسان التُّركماني، وأبو عمران فضل بن ربيعة بن خادم بن الجرج الطائي، وكان آباؤه أصحاب البلقاء وبيت المَقدس، ومنهم حسَّان ابن مفرج. وطرده كفرتكين أتابك دمشق لمَّا كان عليه مِن الإجلاب تارةً مع الفرنج وتارةً مع أهل مِصر، فلجأ إلى صدقة وقَبِله وأكرمه وأجزل له العطاء سبعة آلاف دينار. فلمَّا كانت هذه الحادثة رغب عن صدقة وسار في طلائعه، فهرب إلى السلطان؛ فخلع عليه وعلى أصحابه وسوَّغه دار صدقة عن الهروب وأذن له، فعَبر مِن الأنبار وكان آخر العهد به. ثُمَّ أنفذ السلطان في

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391