حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 200656 / تحميل: 8164
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

في عهد الرشيد والأمين والمأمون

عاصر الإمام الرضاعليه‌السلام ثلاثة من ملوك العباسيين: وهم هارون الرشيد، والأمين والمأمون، وفي عهد الرشيد انطوت نفسه على حزن عميق وأسى مرير؛ وذلك لما اتخذه هارون من إجراءات صارمة وقاسية ضد السادة العلويين عامة، وضد أبيه الإمام الكاظمعليه‌السلام ، كما تحدثنا عنه في فصول هذا الكتاب، ونتحدث - بإيجاز - عن هؤلاء الملوك، وعن مواقفهم مع الإمام الرضاعليه‌السلام .

هارون الرشيد:

وهو من أشهر ملوك بني العباس، فقد انتشر اسمه، وذاع ذكره في الشرق والغرب، واستوسقت له الدنيا، وزها له الملك، وأصبحت عاصمته بغداد عروس الشرق، وامتد حكمه وسلطانه على أغلب أنحاء الأرض، وهو القائل للسحاب: إنّما تمطرين ففي ملكي. وقد ذعنت له ملوك الأرض، وصغرت أمام سلطانه، ونعرض إلى بعض ملامح شخصيته، وهي:

٢٠١

أ - القسوة:

أمّا القسوة فكانت من عناصره ومقوّماته، وكان فيما يقول المؤرّخون جبّاراً سفّاكاً للدماء على نمط ملوك الشرق المستبدين، حسبما يقول الأمير شكيب أرسلان(١) .

وكان من قسوته البالغة فتكه بالسادة العلويين، وتنكيله بهم فقد صبّ عليهم وابلاً من العذاب الأليم لم يألفوه إلاّ في عهد جدّه الطاغية السفّاك المنصور الدوانيقي، وقد عرضنا إلى ما لاقوه في عهده من الضر والمحن والبلاء.

ب - الحقد:

ومن عناصر شخصية الرشيد أنّه كان حقوداً على ذوي الأحساب العريقة والشخصيات اللامعة التي تتمتع بمكانة مرموقة في الأوساط الاجتماعية، وقد حقد على سيد المسلمين الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، فأودعه في ظلمات السجون ثم اغتاله بالسم، وذلك لما للإمام من منزلة عظمي في نفوس المسلمين وهكذا كان حاقداً على كل من ذاع اسمه، وانتشر فضله بين الناس، فقد نكب البرامكة فقتل أعلامهم، وصادر أملاكهم، وتركهم بأقصى مكان من الذلّ والهوان؛ وذلك لما لهم من مكانة عند الناس، فكانت الشعراء تلهج بذكرهم وتذيع جودهم وسخاءهم فغاظه ذلك، وورم أنفه فأنزل بهم عقابه الصارم.

لقد كان الحقد من مقومات شخصية هارون، وعنصراً بارزاً من عناصره.

التحلّل:

ولم يملك هارون أي رصيد من التقوى والإيمان، فكان متحلّلاً منساباً وراء شهواته وملاذه، وكان من مظاهر تحلّله ما يلي:

أ - شربه للخمر:

كان هارون مدمناً على شرب الخمر، وربما كان يتولى بنفسه سقاية ندمائه، وكانت أخته علية تصنع له الخمر الجيد، وتبعثه إليه، وقد ذكرنا عرضا مفصلاً لإدمانه على الخمر، وعكوفه على شربها في كتابنا حياة الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام .

____________________

(١) حياة الإمام الرضا (ص ١١٩).

٢٠٢

ب - ولعه بالغناء:

ونشأ هارون بين أحضان المغنيات والمطربات، وقد اجتمع في قصره عدد كبير من العازفات والمغنيات، فكان في قصره ثلاثمائة جارية من الحسان يعزفن ويغنين(١) ، وقد جعل المغنين طبقات ومراتب، فكان إبراهيم الموصلي وابن جامع وزلزل الضارب في الطبقة الأولى، وكان زلزل يضرب على العود، ويغني الموصلي وابن جامع، والطبقة الثانية: إسحاق وسليم بن سلام وعمرو بن الغزال، والطبقة الثالثة: أصحاب المعازف والطنابر(٢) .

وهام بحب ثلاث مغنيات من جواريه هن: غادر، وماردة، وهيلانة، وخنث وقال فيهن الشعر ومن قوله:

ملك الثلاث الآنسات عناني

وحللن من قلبي أعزّ مكاني

مالي تطاوعني البرية كلها

وأطيعهن وهن في عصيانِ

ما ذاك إلاّ أنّ سلطان الهوى

وبه غلبن أعزّ من سلطاني(٣)

وقد عرضنا بصورة مفصّلة إلى هذه الظاهرة من حياة الرشيد في كتابنا(حياة الإمام موسى بن جعفر) .

ج - لعبه بالنرد:

ومن تحلّل هارون وعدم مبالاته باقتراف الحرام لعبه بالنرد(٤) وهو من أنواع القمار، وقد لعب مرّة مع إسحاق الموصلي بالنرد، وقد قامره على الخلعة التي عليها فغلبه إسحاق، فقام وخلع ما عليه من ثياب فامتنع الرشيد من لبسها وقال له: ويلك أنا البس ثيابك؟ فقال إسحاق: أي والله إذا أنصفت، وإذا لم تنصف قدرت وأمكنك، قال: ويلك أو أفتدي منك؟ قال نعم: قال الرشيد: وما الفداء؟ قال إسحاق: قل: أنت يا أمير المؤمنين فإنّك أولى بالقوّة، فقال: أعطيك كل ما علي، قال إسحاق: فمر به يا أمير المؤمنين فدعا بغير ما عليه من الثياب، ونزع ما كان عليه

____________________

(١) التمدن الإسلامي ٥ / ١١٨.

(٢) التاج (ص ٤٠ - ٤٢).

(٣) تزيين الأسواق، فوات الوفيات ٤ / ٢٢٥.

(٤) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٧٠.

٢٠٣

فدفعه إلى إبراهيم(١) وكان يعلب بالشطرنج إذا سافر في دجلة(٢) .

هذه بعض الأعمال التي أثرت عن هارون، وقد دلّت - بوضوح - على تحلّله وعدم تمسّكه بتعاليم الدين الحنيف.

لقد أسرف هارون في الشهوات، وصار بلاطه مسرحاً لجميع ألوان الدعارة والمجون، فلا يكاد يخلو من حفلات الرقص والغناء وشرب الخمور، ولم يعد حكمه بأي حال من الأحوال يمثّل أي جانب من جوانب الحكم الإسلامي.

مع الإمام الرضا:

وحينما اغتال هارون الإمام الرضاعليه‌السلام بعث عصابة من رجال الأمن للاطلاع على شؤون الإمام الرضاعليه‌السلام ومعرفة اتجاهاته وميوله.

وشعر الإمامعليه‌السلام بذلك فأراد التخلّص من هارون فمضى إلى السوق والأمن يتابعه فاشترىعليه‌السلام ديكاً وكلباً وشاة، ورفع رجال الأمن ذلك إلى هارون فلمّا عرف ذلك استراح من جانب الإمام، وعرف أنّه ليس أهلاً لأن يقوم بأي حركة ضده، وأمر رجال أمنه بالتوجّه إلى بغداد.

وانبرى الإمامعليه‌السلام إلى نشر أحكام الله وتعاليم الإسلام، وإيضاح جوانب الإمامة، وفزع بعض أعلام شيعته وخافوا بأنّه لا يصيبه أي مكروه من

هارون، وأنّه لا يخاف جانبه(٣) بعد الذي صنعه من شراء الديك والكلب والكبش، وكان ممّن خاف على الإمام وحذرّه من بطش هارون هم:

١ - صفوان بن يحيى:

قال صفوان: لـمّا مضى أبو إبراهيمعليه‌السلام وتكلّم أبو الحسن الرضا خفنا عليه، فقيل له: إنّك قد أظهرت أمراً عظيماً، وإنّا نخاف عليك هذا الطاغية - يعني هارون - فقالعليه‌السلام : ليجهد جهده فلا سبيل له علي(٤) .

٢ - محمد بن سنان:

قال محمد بن سنان: قلت لأبي الحسن الرضا في أيام هارون، إنّك قد شهرت

____________________

(١) الأغاني ٥ / ٦٩ - ٧٠.

(٢) الأغاني ٩ / ٦٤.

(٣) البحار ١٢ / ٣٢.

(٤) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٩٧.

٢٠٤

نفسك بهذا الأمر - أي إظهار الإمامة - وجلست مجلس أبيك، وسيف هارون يقطر من دمائكم!

فقالعليه‌السلام : جرأني على هذا ما قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : إن أخذ أبو جهل من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بنبي وأنا أقول لكم: إن أخذ هارون من رأسي شعرة فاشهدوا أنّي لست بإمام(١) .

وشاية عيسى بن جعفر بالإمام:

وانبرى عيسى بن جعفر نحو هارون حينما توجّه من (الرقة) إلى (مكة) فقال له: (أذكر يمينك التي حلفت بها في آل أبي طالب، فإنك حلفت إن ادعى أحد بعد موسى الإمامة ضربت عنقه صبراً، وهذا علي ابنه يدعي الأمر - أي الإمامة - ويقال فيه، ما في أبيه...).

فلم يحفل هارون بكلامه، ونظر إليه وقال له: (وما ترى؟ أتريد أن أقتلهم كلّهم؟).

وكان في المجلس موسى بن مهران فبادر إلى الإمام الرضاعليه‌السلام فأخبره بالأمر، فقالعليه‌السلام : (مالي ولهم لا يقدرون إلي على شيء)(٢) .

وشاية يحيى بالإمام:

وممّن وشى بالإمام يحيى البرمكي، فقد قال لهارون: هذا علي الرضا بن موسى قد تقدم، وادعى الأمر لنفسه، فلم يحفل به هارون وقال له: يكفينا ما فعلنا بأبيه أتريد أن نقتلهم جميعاً(٣) ، وقد باءت بالفشل جميع المحاولات التي حيكت ضده.

دعاء الإمام على البرامكة:

وكان للبرامكة دور خطير في التنكيل بالإمام الكاظمعليه‌السلام ، فقد أوغروا صدر الطاغية هارون عليه، وكان الإمام الرضاعليه‌السلام عالماً بذلك

____________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٩٧.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٢٦.

(٣) الإتحاف بحب الأشراف (ص ٥٩).

٢٠٥

فراح يدعو عليهم فقد روى محمد بن الفضيل قال: لـمّا كان في السنة التي بطش فيها بالبرامكة، ونزل بهم من البلاء ما نزل أبو الحسن الرضا واقفاً بعرفة يدعو ثم طأطأ رأسه فسئل عن ذلك، فقال: إنّي كنت أدعو الله تعالى على البرامكة بما فعلوا بأبي فاستجاب الله لي اليوم فيهم، ولم يلبث يسيراً حتى بطش هارون بجعفر ويحيى وتغيّرت أحوالهم(١) .

وروى الحسن بن علي الوشاء عن مسافر قال: كنت مع أبي الحسن الرضاعليه‌السلام بـ (منى)، فمرّ يحيى بن خالد مع قوم من آل برمك، فقالعليه‌السلام : (مساكين هؤلاء لا يدرون ما يحل بهم في هذه السنة).

وأضاف الإمام قائلاً:

(وا عجبي من هذا، هارون وأنا كهاتين، وضمّ بأصبعه)

قال مسافر: فو الله ما عرفنا معنى حديثه حتى دفنّاه معه(٢) .

لقد استجاب الله دعاء وليّه فأنزل عقابه الصارم بالبرامكة، فأزال نعتهم وأباد أعلامهم، فقد نكل بهم هارون كأفظع وأقسى ما يكون التنكيل، فقتل جعفر،

وقسمه نصفين، وجعل كل نصف في الأماكن الحسّاسة في بغداد وألقى يحيى مع بقية أبنائه في سجونه، وصادر أموالهم المنقولة، وغير المنقولة.

كبس دار الإمام:

ولـمّا ثار محمد بن جعفر بن محمد على هارون أرسل الجلودي إلى مناجزته وأمره أن يغير على دور العلويين في المدينة، ويسلب ما على نسائهم من ثياب وحلي، ولا يدع على واحدة منهن إلاّ ثوباً واحداً.

وهجم الجلودي على دار الإمام الرضاعليه‌السلام ، فقام الإمام وجمع السيدات من بنات رسول الله (ص) في بيت ووقف على باب البيت فقال الجلودي:

للإمام لا بد أن أدخل البيت فأسلبهن كما أمرني الرشيد، فقال له الإمام: أنا أسلبهن لك، وأحلف أنّي لا أدع عليهنّ شيئاً إلاّ أخذته، فلم يزل الإمام يطلب إليه، ويتوسّل حتى سكن، وقامعليه‌السلام إلى البيت فأخذ ما على العلويات من حلي

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٢٥.

(٢) عيون أخبار الرضا، البحار.

٢٠٦

وحلل، ولم يدع عليهن شيئاً حتى أقراطهن وخلاخيلهن وأزرارهن، وسلّم جميع ذلك إلى الجلودي ليقوم بتسليمه إلى طاغية بغداد(١) .

وتأثّر الإمام الرضاعليه‌السلام كأشد ما يكون التأثّر من هذا الاعتداء الصارخ على بيته، فلم يرع هارون كرامة الإمام، ولا كرامة بنات رسول الله (ص) واقترف معهن ما اقترفه جند يزيد مع عائلة ريحانة رسول الله (ص) وسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسينعليه‌السلام بعد مقتله، فقد تدافعوا كالكلاب المسعورة إلى نهب ما على العلويات من حلي وحلل.

وعلى أي حال فإنّ هارون لم يقم - فيما أحسب - بإجراء آخر ضد الإمامعليه‌السلام غير هذا الإجراء... ومن الجدير بالذكر أنّ الإمام قد انطوت نفسه على حزن عميق على ما حلّ بأبيه الإمام موسىعليه‌السلام من المحن والخطوب التي صبّها عليه هارون، فقد أودعه في ظلمات سجونه حفنة من السنين، وقابله بمزيد من التوهين، ثم اغتاله بالسم، وكذلك صبّ جام غضبه على السادة العلويين فأنزل بهم العقاب الصارم، وقتلهم تحت كل حجر ومدر ولم يرع فيهم أواصر النسب، وقرابتهم من رسول الله (ص) التي هي أولى بالرعاية والعطف من كل شيء.

رسالة سفيان لهارون:

من الخير أن ننهي الحديث عن هارون بهذه الرسالة القيّمة التي بعثها سفيان الثوري أو (سفيان بن عينية) إلى هارون، فإنّها تكشف عن الكثير من جوانب حياته، فقد كتب إليه هارون رسالة يطلب فيها ودّه، والاتصال به، فأجابه سفيان بما يلي:

(من العبد الميت سفيان إلى العبد المغرور بالآمال هارون الذي سلب حلاوة الإيمان، ولذّة قراءة القرآن، أمّا بعد: فإنّي كتبت إليك أعلمك أنّي قد صرمت حبلك، وقطعت ودّك، وإنّك جعلتني شاهداً عليك بإقرارك على نفسك في كتابك، بما هجمت على بيت مال المسلمين، فأنفقته في غير حقّه، وأنفذته بغير حكمه، ولم ترض بما فعلته، وأنت ناءٍ عنّي، حين كتبت إليّ تشهدني على نفسك، فأمّا أنا فأنّي قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين حضروا قراءة كتابك، وسنؤدّي الشهادة غدا بين يدي الله الحكم العدل.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦١، البحار ٤٩ / ١٦٦.

٢٠٧

يا هارون: هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم، هل رضي بفعلك المؤلّفة قلوبهم، والعاملون عليها في أرض الله، والمجاهدون في سبيل الله وابن السبيل؟ أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم - يعني العاملين - أم رضى بفعلك الأيتام والأرامل؟ أم رضي بذلك خلق من رعيتك، فشد يا هارون مئزرك، وأعد للمسألة جواباً، وللبلاء جلباباً، واعلم أنّك ستقف بين يدي الله الحكم العدل، فاتق الله في نفسك إذا سلبت حلاوة العلم والزهد ولذة قراءة القرآن، ومجالسة الأخيار، ورضيت لنفسك أن تكون ظالماً، وللظالمين إماماً.

يا هارون: قعدت على السرير، ولبست الحرير، وأسبلت ستوراً دون بابك، وتشبّهت بالحجّة بربّ العالمين، ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك، يظلمون الناس، ولا ينصفون، ويشربون الخمر، ويحدون الشارب، ويزنون، ويقتلون القاتل، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن يحكموا بها علىالناس، فكيف بك يا هارون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله احشروا الظلمة وأعوانهم، فتقدّمت بين يدي الله، ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يكفهما إلاّ عدلك وإنصافك والظالمون حولك، وأنت لهم إمام أو سائق إلى النار وكأنّي بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق، ووردت المساق، وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك، وسيئات غيرك في ميزانك على سيئاتك بلاء على بلاء، وظلمة فوق ظلمة، فاتق الله يا هارون في رعيّتك واحفظ محمداً (ص) في أمّته، واعلم أنّ هذا الأمر يصر إليك إلاّ وهو صائر إلى غيرك، وكذلك الدنيا تفعل بأهلها واحداً بعد واحد ÷، فمنهم مَن تزوّد زاداً نفعه، ومنهم مَن خسر دنياه وآخرته، وإيّاك ثم إيّاك أن تكتب إليّ بعد هذا فإنّي لا أجيبك والسلام...).

ثم بعث بالكتاب من غير طي ولا ختم(١) ، وحكى هذا الكتاب تصرّف هارون بأموال المسلمين، وإنفاقها في غير جهاتها المشروعة كما حكت هذه الرسالة إيمان سفيان وقوّة شخصيته، ونكرانه لذاته... وبهذه الرسالة نطوي الحديث عن حكومة هارون.

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٥٥ - ٥٧ نقلاً عن حياة الحيوان للدميري ٢ / ١٨٨.

٢٠٨

حكومة الأمين:

وتسلّم الأمين بعد وفاة أبيه القيادة الإسلامية، وكان بإجماع المؤرّخين غير مؤهّل لهذا المنصب الرفيع؛ وذلك لما يتصف به من نزعات وضيعة كان منها ما يلي:

١ - انهماكه في اللذات:

وانصرف الأمين بعد تقلّده للخلافة إلى اللهو والطرب، وعهد بأمور الدولة إلى الفضل بن الربيع فجعل يتصرف في شؤون الدولة حسب رغباته وميوله(١)، وقد جدّ في طلب الملهين(٢) ، كما اشتغل بالخصيان ورقص النساء(٣) .

٢ - كراهته للعلم:

من صفات الأمين بغضه للعلم، وكراهته للعلماء، وكان أميّاً، لا يقرأ ولا يكتب(٤).

وإذا كان بهذه الصفة فكيف قلّده هارون شؤون المسلمين وجعله حاكماً على أعظم إمبراطورية في العالم كلّه؟ لقد قلّده الخلافة استجابة لعواطف السيدة زبيدة، وسائر الأسرة العباسية الذين كانت ميولهم معه.

٣ - ضعف الرأي:

ولم يتمتع الأمين برأي حصيف، فلم تصقله التجارب، ولم تهذّبه الأيام، وقد أعطي الملك العريض، ولم يحسن أي شيء، وقد وصفه المسعودي بقوله: (كان قبيح السيرة، ضعيف الرأي يركب هواه، ويهمل أمره، ويتكل في جليلات الخطوب على غيره ويثق بمَن لا ينصحه)(٥) .

ووصفه الكتبي بقوله: (وكان قد هان عليه القبيح فاتبع هواه ولم ينظر في شيء من عقباه، وأنّه كان من أبخل الناس على الطعام، وكان لا يبالي أين قعد، ولا مع مَن شرب)(٦) .

____________________

(١) حياة الإمام محمد الجواد (ص ٢٨٤).

(٢) مآثر الإنافة في معالم الخلافة ١ / ٢٨٥ روضة الأعيان ورقة ٩٩، وجاء فيه أنّه اشترى عربية المغنية بمائة ألف دينار.

(٣) تأريخ الخلفاء للسيوطي (ص ١٣٤)، مختصر تأريخ الدولة (ص ١٣٤).

(٤) السلوك لمعرفة دول الملوك للمقريزي ١ / ١٦.

(٥) التنبيه والإشراف (ص ٣٠٢).

(٦) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢١٢.

٢٠٩

ويقول عنه الفخري: (انه لم يجد للأمين شيئا من سيرته يستحسنه فيذكره)(١) .

احتجابه عن الرعية:

ومن نزعاته أنّه كان ينفر من الناس تكبّراً عليهم، فقد احتجب عن رعيّته وأهالي مملكته، وقد خفّ إليه إسماعيل بن صبيح، وكان أثيراً عنده، فقال له:

(يا أمير المؤمنين إنّ قوّادك وجندك وعامة رعيتك قد خبثت نفوسهم وساءت ظنونهم، وكبر عندهم ما يرون من احتجابك عنهم، فلو جلست لهم ساعة من نهار فدخلوا عليك فإنّ في ذلك تسكيناً لهم ومراجعة لآمالهم...).

واستجاب الأمين لهذه النصيحة، فجلس في بلاطه، ودخل عليه الشعراء فمدحوه في قصائدهم، وهو لا يفهم ما يقولون، ثم انصرف عن الناس فركب الحراقة إلى (الشماسية)، واصطفّت له الخيل، وعليها الرجال، وقد اصطفوا على ضفاف دجلة وحملت معه مطابخ القصر، وما فيه من الخزائن.

أمّا الحراقة التي ركبها فكانت سفينة صنعت شبيهة بالأسد، وما رأى الناس منظراً أبهى ولا أجمل من ذلك المنظر، وكان معه في السفينة أبو نواس ينادمه وقال يصف تلك السفينة:

سخر الله للأمين مطايا

لم تسخّر لصاحب المحرابِ(٢)

فإذا ما ركابه سرن بحراً

سار في الماء راكباً ليث غابِ

أسداً باسطاً ذراعيه يعدو

أهرت الشدق كالح الأنيابِ(٣)

لا يعانيه باللجام ولا السوط

ولا غمز رجله في الركابِ

عجب الناس إذ رأوك على صورة

ليث يمر مرّ السحابِ

سبّحوا إذ رأوك سرت عليه

كيف لو أبصروك فوق العقابِ(٤)

ذات زور ومنسر وجناحين

تشف العباب بعد العبابِ

تسبق الطير في السماء إذ ما

استعجلوها بجيئةٍ وذهابِ

____________________

(١) الآداب السلطانية (ص ٢١٢).

(٢) صاحب المحراب: هو سليمان بن داود الذي بنى بيت المقدس.

(٣) أهرت الشدق: واسعه، كالخ الأنياب: أي كاشرها.

(٤) العقاب: إحدى السفن التي كانت معدّةً للأمين.

٢١٠

بارك الله للأمين وأبقاه

له رداء الشبابِ

ملك تقصر المدائح عنه

هاشمي موفّق للصوابِ(١)

هذه بعض نزعات الأمين وصفاته وهي تحكي صورة انسان تافه قد اتجه صوب ملذّاته وشهواته، ولم يعن بأيّ حالٍ من الأحوال في شؤون الدولة الإسلامية، وإنّما كان متجهاً نحو شهواته.

خلعه للمأمون:

وتقلّد الأمين الخلافة يوم وفاة أبيه الرشيد، وقد تسلم خاتم الخلافة، والبردة، والقضيب التي كان يتسلمها الملوك من قبله من بنى العباس.

ولم يمض زمان طويل من الوقت حتى فسدت العلائق ما بين الأمين والمأمون، فقد لعبت الحواشي المحيطة بهما في خلق الأزمات بينهما وتبودلت الرسائل بينهما وهي تحمل السباب والشتائم، لكل منهما وليس فيها أي دعوة إلى المودة والصفاء، وعمد الأمين فخلع رسميا أخاه المأمون عن ولاية العهد وجعلها لولده موسى وهو طفل صغير في المهد، وسماه الناطق بالحق، وأرسل إلى الكعبة المقدسة من جاء بكتاب العهد الذي علقه فيها الرشيد، وجعل فيه ولاية العهد إلى المأمون، وحينما أتى به مزقه، ولم يف به، وكان ذلك فيما يقول المؤرخون برأي الفضل بن الربيع، وبكر بن المعتمر في نكثه للعهد وبيعته لولده يقول رجل أعمى من أهل بغداد:

أضاع الخلافة غشّ الوزير،

وفعل الإمام، ورأى المشير

وما ذاك إلاّ طريق الغرور

وشر المسالك طرق الغرور

فعال الخليفة أعجوبة

وأعجب منه فعال الوزير

وأعجب من ذا وذا أنّنا

نبايع للطفل فينا الصغير

ومَن ليس يحسن مسح أنفه

ولم يخل من متنه حجر ظير

وما ذاك إلاّ بباغٍ وغاو

يريدان نقض الكتاب المنير

وَهَذانِ لَولا اِنقِلابُ الزَمانِ

أَفي العيرِ هَذانِ أَم في النَفير

وَلَكِنَّها فِتَنٌ كَالجِبالِ

تَرَفَّعَ فيها الوَضيعُ(٢) الحَقير

____________________

(١) أبو نواس (ص ١٠٣ - ١٠٤) لابن منظور.

(٢) مروج الذهب ٣ / ٣٠٩.

٢١١

الرشيد هو المسؤول عن هذه الأحداث:

وألقى الرشيد العداء والفتنة بين أبنائه فقد نصب الأمين ملكاً من بعده، وجعل المأمون ولي عهده، وكتب بذلك العهود والمواثيق، وأشهد عليها، وعلّقها في جوف الكعبة، مع علمه بالعداء العارم بين الأخوين فكانت النتيجة هي الأحداث المؤسفة التي ذهب ضحيّتها عشرة آلاف من المواطنين، وتخربت بغداد، وقد أعرب بعض الشعراء عن أسفه العميق على ما فعله الرشيد يقول:

أقول لغمّة في النفس منّي

ودمع العين يطّرد اطرادا

خذي للهول عدته بحزمٍ

ستلقي ما سيمنعك الرقادا

فإنّك إن بقيت رأيت أمراً

يطيل لك الكآبة والسهادا

رأى الملك المهذّب شرّ رأي

بقسمته الخلافة والبلادا

رأى ما لو تعقّبه بعلم

لبيض من مفارقة السوادا

أراد به ليقطع عن بنيه

خلافهم ويبتذلوا الودادا

فقد غرس العداوة غير آل

وأورث شمل ألفتهم بدادا

وألقح بينهم حرباً عواناً

وسلس لاجتنابهم القيادا

فويل للرعيّة عن قليل

لقد أهدى لها الكرب الشدادا

وألبسها بلاءً غير فانٍ

وألزمها التضعضع والفسادا

ستجري من دمائهم بحور

زواخر لا يرون لها نفادا

فوزر بلائهم أبداً عليه

أغيّاً كان ذلك أم رشادا(١)

الحروب الطاحنة:

وبعد ما خلع الأمين أخاه المأمون رسمياً عن ولاية العهد، وأبلغه ذلك ندب إلى حربه علي بن عيسى، ودفع إليه قيداً من ذهب، وقال له: أوثق المأمون ولا تقتله حتى تقدم به إليّ، وأعطاه مليوني دينار سوى الأثاث والكراع، ولـمّا انتهت الأنباء من بغداد بالإجراءات التي أتخذها الأمين ضد أخيه، بادر المأمون فخلع أخاه، ونصب نفسه حاكماً عاماً على العالم الإسلامي وقطع الخراج عن الأمين، وألغى اسمه من الطراز والدراهم والدنانير، وأعلن الخروج عن طاعته، وندب إلى قتاله طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين، وجهّزهما بجيش.

____________________

(١) تاريخ الطبري حوادث سنة ١٨٦ ه‍ـ.

٢١٢

والتقى الجيشان بـ‍ (الري)، والتحما في معركة رهيبة، جرت فيها أنهار من الدماء، وأخيراً انتصر جيش المأمون على جيش الأمين، وقتل القائد العام لقواته المسلحة، وانتهت جميع أمتعته وأسلحته، وكتب طاهر بن الحسين إلى الفضل بن سهل وزير المأمون يخبره بهذا الانتصار الرائع، ويهنئه فيه، وجاء في رسالته (كتبت إليك ورأس علي بن عيسى في حجري وخاتمه في يدي والحمد لله ربّ العالمين).

وبادر الفضل فسلّم عليه بالخلافة وبشّره بهذا الانتصار، وأيقن المأمون بالنصر فبعث إلى طاهر بالهدايا والأموال، وشكره شكراً جزيلاً على ذلك وسمّاه (ذا اليمينين، وصاحب خيل اليدين) وأمره بالتوجّه إلى العراق لاحتلال بغداد، والقضاء على أخيه.

ولـمّا علم الفضل بن الربيع وزير الأمين بهزيمة الجيش، ومقتل علي بن عيسى بن ماهان أسقط ما في يده، وأيقن بالرزء القاصم الذي حل بهم، وفي ذلك يقول الشاعر:

عجبت لمعشر يرجون نجحاً

لأمر ما تتمّ به الأمورُ

وكيف يتم ما عقدوا وراموا

وأس بنائهم فيه الفجورُ

أهاب إلى الضلال بهم غوي

وشيطان مواعده غرورُ

يصيب بهم ويلعب كل لعب

كما لعبت بشاربها الخمورُ

وكادوا الحق والمأمون غدراً

وليس بمفلح أبداً غرورُ

هو العدل النجيب البر فينا

تضمّن حبّه منّا الصدورُ

وعاقبة الأمور له يقينا

به شهد الشريعة والزبورُ(١)

وحكى هذا الشعر انتصار المأمون، وأنّه الفائز بالخلافة وأنّه لا يتم أمر الأمين؛ لأنّ الذين ناصروه كان أسُّ بنائهم قائماً على الفجور والبغي، وأنّ أنصاره قد أهاب بهم الضلال والغي، وأنّ المنتصر هو المأمون فإنّه العدل النجيب الذي عقد له الولاء في قلوب الناس.

محاصرة بغداد:

وخفّت جيوش المأمون إلى احتلال بغداد بقيادة طاهر بن الحسين، وقد

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٣١٠.

٢١٣

حاصرت بغداد، وأيقن الأمين بالهزيمة فكتب إلى طاهر يطلب منه الأمان لنفسه وعائلته، وأنصاره، وأنّه يستقيل من الخلافة لأخيه، فقال طاهر: (الآن ضيّق خناقه، وهيض جناحه، وانهزم فساقه، لا والذي نفسي بيده حتى يضع يده في يدي، وينزل على حكمي).

ولم يجبه إلى شيء ممّا أراد.

ودام الحصار على بغداد مدة طويلة حتى تخربت فيها معالم الحضارة، وعمّ الفقر والبؤس جميع سكّانها وكثر العابثون والشذّاذ فقاموا باغتيال الأبرياء ونهب الأموال، ومطاردة النساء، وانبرى جماعة من خيار الناس بقيادة رجل يقال له سهل بن سلامة فمنعوا العابثين من إيذاء الناس، وتصدّوا لهم بقوة السلاح حتى أخرجوهم من بغداد.

وعلى أي حال فقد منيت بغداد بأفدح الخسائر، وفقدت زينتها وشبابها، وشاع الثكل والحزن والحداد في جميع أنحائها، وقد رثاها جماعة من الشعراء يقول الأعمى في قصيدة له:

وأبكي لإحراق وهدم منازل

وقتل وانهاب اللهى والذخائرِ

وإبراز ربات الخدور حواسراً

خرجن بلا خمرٍ ولا بمآزرِ

تراها حيارى ليس تعرف مذهباً

نوافر كأمثال الظباء النوافرِ

كأن لم تكن بغداد أحسن منظراً

وملهى رأته عين لاهٍ وناظرِ

بلى هكذا كانت فأذهب حسنها

وبدّد منها الشمل حكم المقادرِ

وحلّ بهم ما حلّ بالناس قبلهم

فأضحوا أحاديثاً لبادٍ وحاضرِ

أبغداد يا دار الملوك ومجتنى

صفوف المنى يا مستقر المنابرِ

ويا جنّة الدنيا ويا مطلب الغنى

ومستنبط الأموال عند المتاجرِ

أبيني لنا أين الذين عهدتهم

يحلّون في روض من العيش ناضرِ

وأين الملوك في المواكب تغتدي

تشبّه حسناً بالنجوم الزواهرِ

والقصيدة كلها توجّع وألم على ما حلّ ببغداد من الدمار الشامل في الأموال والأنفس، ويصف شاعر آخر حالة بغداد، وما حلّ بها من الخراب يقول:

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٣١٣.

٢١٤

مَن ذا أصابك يا بغداد بالعين

ألم تكوني زماناً قرّة العينِ

ألم يكن فيك قوم كان قربهم

وكان مسكنهم زيناً من الزينِ

صاح الزمان بهم بالبين فانقرضوا

ماذا لقيت بهم من لوعة البينِ(١)

ورثى شاعر آخر بغداد وما حلّ بأهلها من الخطوب والنكبات يقول:

بكت عيني على بغداد لـمّا

فقدت غضارة العيش الأنيقِ

تبدّلنا هموماً من سرورٍ

ومن سعةٍ تبدّلنا بضيقِ

أصابتنا من الحسّاد عينٌ

فأفنت أهلنا بالمنجنيقِ

فقوم أحرقوا بالنار قسراً

ونائحة تنوح على غريقِ

وصائحة تنادي يا صحابي

وقائلة تقول أيا شقيقي

وحوراء المدامع ذات دلٍّ

مضمّخة المجاسد بالخلوقِ

تنادي بالشفيق فلا شفيق

وقد فقد الشفيق مع الرقيقِ

وقوم أخرجوا من ظل دنيا

متاعهم يباع بكل سوقِ

ومغترب بعيد الدار ملقى

بلا رأس بقارعة الطريقِ

توسّط من قتالهم جميعاً

فما يدرون من أي الفريقِ

فلا ولد يقيم على أبيه

وقد هرب الصديق عن الصديقِ(٢)

وحكت هذه القصيدة الحالة الراهنة في بغداد من انتشار القتل، وفقدان الأمن، وشيوع الخوف في جميع أرجاء بغداد.

قتل الأمين:

وكان الأمين في تلك المحنة الحازبة مشغولاً بلهوه وطربه، وقد أحاطت به جيوش المأمون، ويروي المؤرّخون أنّه كان يصطاد سمكاً مع جماعة من الخدم، وكان من بينهم (كوثر) وكان مغرماً به فخرج ينظر إلى الجيش المحيط بالقصر فأصابته شجة في وجهه فجعل يبكي، فوجّه الأمين من جاء به فجعل يمسح الدم من وجهه وهو يقول:

ضربوا قرّة عيني ومن أجلي ضربوه

أخذ الله من قلبي لأناس حرقوه(٣)

____________________

(١) مروج الذهب ٣ / ٣١٦.                                       (٢) مروج الذهب ٣ / ٣١٧.

(٣) روضة الأعيان في أخبار مشاهير الزمان، مصوَّر في مكتبة السيد الحكيم تسلسل ٣٩٠٢ ورقة ١٠٣.

٢١٥

وكانت الأنباء تتوافد عليه بهزيمة جيشه، ومحاصرة قصره فلم يعن بذلك كله، وكان مشغولاً مع كوثر في صيد الأسماك التي جعلها في حوض كبير له، وكان يقول: (يصطاد كوثر ثلاث سمكات وما صدت إلاّ سمكتين).

وكان بهذه الحالة المزرية مشغولاً بلهوه حتى هجمت عليه طلائع جيش المأمون فأجهزت عليه، وحمل رأسه إلى طاهر بن الحسين فنصبه على رمح، وتلا قوله تعالى:( اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ ) (١) .

وهجاه بعض الشعراء بقوله:

إذا غدا ملك باللهو مشتغلاً

فاحكم على ملكه بالويل والخربِ

أما ترى الشمس في الميزان هابطة

لما غدا وهو برج اللهو والطربِ(٢)

وبعث طاهر برأس الأمين إلى المأمون في (خراسان) فلمّا رآه حزن وتأسّف فقال له الفضل:

(الحمد الله على هذه النعمة الجليلة فإنّ محمّداً كان يتمنى أن يراك بحيث رأيته).

وأمر المأمون بنصب رأس أخيه في صحن الدار وقد وضع على خشبة، وأعطى الجند، وأمر كل مَن قبض رزقة أن يلعنه فكان الجندي يقبض رزقه ويلعن الرأس وقبض بعض العجم عطاءه فقيل له: العن هذا الرأس فقال: لعن الله هذا ولعن

والديه وأدخلهم في كذا وكذا من أمهاتهم، فقيل له: لعنت أمير المؤمنين، وكان المأمون يسمعه فتغافل عنه، وأمر بحط رأس أخيه وردّه إلى العراق فدُفن مع جثّته(٣) .

وانتهت بذلك حياة الأمين، وقد حكت عن قساوة المأمون وعدم رأفته على أخيه، فقد سلب الرحمة من نفسه، وما ذاك إلاّ لحرصه على الملك.

ولم تظهر لنا أيّة بوادر للإمام الرضاعليه‌السلام في عهد الأمين، لعلّ السبب في ذلك هو انشغاله في الحرب مع أخيه فقد أشغلته هذه الحرب عن التعرّض للإمامعليه‌السلام بأيّ مكروه.

____________________

(١) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢١١.

(٢) حياة الحيوان للدميري ١ / ٧٨.

(٣) مروج الذهب (ص ٢٢٥ - ٢٢٦).

٢١٦

حكومة المأمون:

وقبل أن نتحدث عن شؤون الإمام الرضاعليه‌السلام في عهد المأمون، نعرض - بإيجاز - إلى إعطاء صورة عنه، وهي كما يلي:

أُمّه:

أمّا أم المأمون فكانت أمة وهي إحدى خادمات قصر الرشيد، وقد عهد إليها بطبخ الطعام، ويصفها المؤرّخون بأنّها كانت أشوه وأقذر جارية في مطبخ الرشيد، أمّا السبب في ملامسة الرشيد لها فتعزوه بعض المصادر إلى أنّ السيدة زبيدة لعبت مع الرشيد الشطرنج فغلبته، فحكمت عليه أن يطأ أقبح جارية في المطبخ، وهي (مراجل) فأبى هارون ذلك، وبذل لها خراج مصر والعراق لتعفيه، فأبت، ولم تقبل، وانصاع إلى حكمها فوطأ (مراجل) فعلقت منه المأمون(١) ، وقد ولد سنة (١٧٠ ه‍) وهي السنة التي استخلف بها الرشيد، فلمّا بشّر به سمّاه المأمون تيمّناً بذلك(٢) ، وقد توفّيت أمّه في النفاس، وقد تولّى تربيته الفضل بن سهل.

وقد اتخذ الحاقدون على المأمون من أمّه وسيلة لهجائه والتشهير به، وعدم لباقته لتولّي منصب الخلافة، يقول له أخوه الأمين:

وإذا تطاولت الرجال بفضلها

فاربع فإنّك لست بالمتطاولِ

أعطاك ربّك ما هويت وإنّما

تلقى خلاف هواك عند مراجلِ

تعلو المنابر كل يوم آملاً

ما لست من بعدي بواصلِ(٣)

وفي أيام الفتنة عيّره بأمّه وكتب إليه:

يا بن التي بيعت بأبخس قيمةٍ

بين الملا في السوق هل من زائدِ

ما فيك موضع غرزة من أبوة

إلاّ وفيه نطفة من واحدِ

فردّ عليه المأمون:

وإنّما أمّهات الناس أوعية

مستودعات وللأحساب آباءُ

فلربّ معربة ليست بمنجبةٍ

وطالما أنجبت في الخدر عجماءُ(٤)

____________________

(١) حياة الحيوان للدميري ١ / ٧٢.

(٢) عصر المأمون ١ / ٢١٠.

(٣) تأريخ الخلفاء للسيوطي (ص ٣٠٤).

(٤) محاسن بغداد دار السلام (ص ١٢١).

٢١٧

وقال الرقاشي في مدحه للأمين وهو يعرض بمراجل أم المأمون: لم تلده أمة تعرف في السوق التجار(١)، وليس على المأمون أي نقص من جهة أمّه، فقد هدم الإسلام هذه النعرات الجاهلية، وساوى بين جميع أجناس البشر فليس لأحد على أحد فضل إلاّ بالتقوى.

صفات المأمون:

أمّا صفات المأمون ونزعاته النفسية فهي كما يلي:

الغدر:

أمّا الغدر فهو من ذاتيات المأمون، ومن عناصره فقد بايع الإمام الرضاعليه‌السلام بولاية العهد، وبعد ما انتهت مآربه السياسية غدر به فدسّ له سمّاً

قاتلاً فقتله - كما سنوضّح ذلك في البحوث الآتية - وقد غدر بطائفة من أعلام عصره ممّن كان يحذر منهم وهم:

١ - عبد الله بن موسى الهادي:

وكان يندّد المأمون، وكان يعربد عليه إذا شرب معه فساء المأمون ذلك، فحبسه في منزله، وأقعد على بابه حرسا ثم أنّه أظهر له الرضى، وصرف الحرس عن بابه، وكان عبد الله مغرماً بالصيد فدس إلى خادم من خدمه فسقاه سمّاً في دراج وهو بـ (موسى باد) ولـمّا أحسّ بالسم قال لأصحابه: هو آخر ما تروني(٢) .

٢ - إسحاق بن موسى:

الهادي، وقد احتفت به فصائل من الجيش حينما كان المأمون في (خراسان) وأمرته، فاستولى على بعض المناطق فدسّ إليه المأمون ابنه وخادماً له فقتلاه وقاد به ابنه وقتل الخادم بالسياط(٣) .

٣ - حميد بن عبد الحميد:

الطوسي، دعاه المأمون لتناول الطعام، وكان عنده أحمد بن أبي خالد الأحول وهو من الحاقدين على حميد ومن أعدائه، ولـمّا قربت المائدة أجلس المأمون أحمد إلى

____________________

(١) الآداب السلطانية (ص ٢١٢).

(٢) أسماء المغتالين (ص ٢٠٠).

(٢) أسماء المغتالين (ص ١٩٩).

٢١٨

جانبه فساء ذلك حميد، وقال للمأمون: (يا أمير المؤمنين لا أماتني الله حتى يريني الدنيا عليك سهلة حتى ترى أينا أنفع لك).

وانتهز أحمد هذه الفرصة فقال للمأمون: (يا أمير المؤمنين إنّما يتمنى فساد ملكك والفتنة).

فغضب المأمون وقام عن المائدة، ولم يتم غذاءه، وقد أضمر ذلك في نفسه، ولـمّا أراد البناء بـ‍ (بوران) قال لحميد: يا أبا غانم قد أذنت لك في الحج، فانصرف حميد مسروراً وأمر بتهيئة أسباب السفر، ودخل جبريل بن بختيشوع على حميد فقال له: يا أبا غانم طر بدنك فإنّي أرجو أن تأتي بكل جارية معك حاملاً، وكان حميد مغرماً بالنكاح ثم سقاه شربة، وكان في مجلسه عبد الله الطيفوري، وكان متطبباً فلمّا رأى الشربة فهم الأمر، فقال لجبريل: (أبو غانم قد ضعف عن هذه؟).

وقصد بذلك أنّه انكشف له ما دبّر لأبي غانم من الاغتيال، وتناول أبو غانم الشربة، فأثرب به في الوقت، وجعل الطيفوري يداويه حتى تماثل للشفاء قليلاً إلاّ أنّه بعد ذلك أشربه السم وقضى عليه(١) .

٤ - الفضل بن سهل:

واغتال المأمون الفضل بن سهل، وكان وزيره ومستشاره إلاّ أنّه خشي منه فدسّ إليه مَن قتله في الحمّام، وسنوضح ذلك في البحوث الآتية.

هؤلاء بعض الذين اغتالهم المأمون، ومقتدياً بمعاوية فهو أوّل الملوك الذين فتحوا باب الاغتيال والغدر في الإسلام.

القسوة:

وظاهرة أخرى من صفات المأمون وهي القسوة وانعدام الرأفة من نفسه، فقد قتل أخاه، وحمل رأسه إليه، ولو كانت عنده نزعة من الرحمة لعفا عن

أخيه بعد ما طلب العفو والأمان وتسليم السلطة إليه، ومن قسوته أنّه بعد ما اغتال الإمام الرضاعليه‌السلام قابل السادة العلويين بمنتهى الشدّة والصرامة، فعهد إلى

____________________

(١) أسماء المغتالين (ص ١٩٩).

٢١٩

جلاّديه بقتلهم والتنكيل بهم أينما وجدوا(١) .

الدهاء:

ولم تعرف الدبلوماسية الإسلامية في العصر العباسي مَن هو أدهى من المأمون، ولا مَن هو أدرى منه في الشؤون السياسية، فقد كان سياسياً من الطراز الأول، فقد استطاع بدهائه أن يتغلب على كثير من الأحداث الرهيبة التي ألـمّت به، وكادت تطوي حياته وسلطانه، فقد استطاع بمهارة فائقة أن يقضي على أخيه الأمين الذي كان يتمتع بتأييد مكثف من قبل الأسرة العباسية والقيادات العسكرية العليا، كما استطاع أن يقضى على أعظم ثورة مضادة له، تلك ثورة القائد الملهم أبي السريا، التي اتسع نطاقها فشملت معظم الأقاليم الإسلامية، وقد سقط معظمها بأيدي الثوار، وكان شعار الثورة الدعوة إلى الرضا من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقد حمل الإمام الرضاعليه‌السلام قسراً إلى (خراسان)، وهو الزعيم الأوحد للأسرة العلوية، والمرجع العام للعالم الإسلامي، فأرغمه على قبول ولاية العهد وعهد إلى جميع أجهزة حكومته بإذاعة مآثر الإمام أمير المؤمنين وباقي أفراد الأئمة الطاهرين، كما ضرب السكة باسم الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد أوهم الثوّار والقوى العسكرية التي كان معظمها يدينون بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام بأنّه علوي العقيدة وأنّه جاد في تحويل الخلافة إلى العلويين حتى أيقنوا أنّه لا حاجة لاستمرار الثورة، وإراقة الدماء وقضى بذلك على الثورات كما تعرّف في نفس الوقت على العناصر الشيعية التي عجز آباءه عن معرفتهم، وهذا التخطيط السياسي - فيما أحسب - من أروع المخططات السياسية التي عرفها العالم في جميع مراحل التأريخ(٢) .

الميل إلى اللهو:

وكان المأمون شديد الميل إلى اللهو، وكان بعض ما أثر عنه في ذلك ما يلي:

أ - لعبه بالشطرنج:

وأهم لعبة عند المأمون وأحبها إليه هي الشطرنج(٣) فقد هام فيها، وقد وصفها بهذه الأبيات:

____________________

(١) حياة الإمام الرضا.

(٢) حياة الإمام محمد الجواد (ص ٢٣١ - ٢٣٢).

(٣) العقد الفريد ٣ / ٢٥٤.

٢٢٠

بأمره ، وهو خير الحاكمين(1) .

ونهض أبيّ الضيم ، وترك معاوية يتميّز مِن الغيظ ، وقد استبان له أنّه لا يتمكّن أنْ يخدع الإمام الحُسين (عليه السّلام) ويأخذ البيعة منه.

إرغامُ المعارضين :

وغادر معاوية يثرب متّجهاً إلى مكّة وهو يطيل التفكير في أمر المعارضين ، فرأى أنْ يعتمد على وسائل العنف والإرهاب ، وحينما وصل إلى مكّة أحضر الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وعبد الله بن عمر ، وعرض عليهم مرّة أُخرى البيعة إلى يزيد فأعلنوا رفضهم له ، فانبرى إليهم مغضباً ، وقال : إنّي أتقدّم إليكم أنّه قد أُعذِرَ مَنْ أنذر. كنتُ أخطب فيكم فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رؤوس الناس ، فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا لا ترجع إليه كلمة غيرها حتّى يسبقها السّيف إلى رأسه ، فلا يسبقني رجل إلاّ على نفسه.

ودعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال له : أقم على رأس كلّ رجل مِن هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإنْ ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثمّ خرج وخرجوا معه ، فرقى المنبر فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يبتزّ أمرٌ دونهم ،

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 195 ـ 196.

٢٢١

ولا يُقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله.

فبايعه الناس ، ثمّ ركب رواحله وغادر مكّة(1) ، وقد حسب معاوية أنّ الأمر قد تمّ لولده ، واستقر المُلْكُ في بيته ، ولمْ يعلم أنّه قد جرّ الدمار على دولته ، وأعدّ المجتمع للثورة على حكومة ولده.

موقفُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

كان موقف الإمام الحُسين (عليه السّلام) مع معاوية يتّسم بالشدّة والصرامة ، فقد أخذ يدعو المسلمين بشكل سافر إلى مقاومة معاوية ، ويحذّرهم مِنْ سياسته الهدّامة ، الحاملة لشارات الدمار إلى الإسلام.

وفودُ الأقطار الإسلاميّة :

وأخذت الوفود تترى على الإمام (عليه السّلام) مِنْ جميع الأقطار الإسلاميّة وهي تعجّ بالشكوى إليه ، وتستغيث به ممّا ألمّ بها مِن الظلم والجور ، وتطلب منه القيام بإنقاذها مِن الاضطهاد.

ونقلت الاستخبارات في يثرب إلى السّلطة المحلية تجمّع الناس واختلافهم على الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وكان الوالي مروان ، ففزع مِنْ ذلك وخاف إلى حدٍّ بعيدٍ.

__________________

(1) الكامل 3 / 252 ، الأمالي 2 / 73 ، ذيل الأمالي / 177 ، عيون الأخبار 2 / 210 ، البيان والتبيين 1 / 300.

٢٢٢

مذكّرةُ مروان لمعاوية :

ورفع مروان مذكّرة لمعاوية سجّل فيها تخوّفه مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) ، واختلاف الناس عليه ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فقد كثُر اختلاف الناس إلى حُسين ، والله إنّي لأرى لكم منه يوماً عصيباً(1) .

جوابُ معاوية :

وأمره معاوية بعدم القيام بأيّ حركة مضادّة للإمام (عليه السّلام) ، فقد كتب إليه : اترك حُسيناً ما تركك ولمْ يُظهر لك عداوته ويبد صفحته ، وأكمن عنه كمون الثرى إنْ شاء الله ، والسّلام(2) .

لقد خاف معاوية مِنْ تطور الأحداث ، فعهد إلى مروان بعدم التعرّض له بأيّ أذى أو مكروه.

رأيُ مروان في إبعاد الإمام (عليه السّلام) :

واقترح مروان على معاوية إبعاد الإمام (عليه السّلام) عن يثرب ، وفرض الإقامة الجبرية عليه في الشام ؛ ليقطعه عن الاتصال بأهل العراق ، ولمْ يرتضِ معاوية ذلك ، فردّ عليه : أردت والله أنْ تستريح منه وتبتليني به ، فإنْ صبرت عليه صبرت على ما أكره ، وإنْ أسأت إليه قطعت رحمه(3) .

__________________

(1) و (2) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(3) العقد الفريد 2 / 116.

٢٢٣

رسالةُ معاوية للحُسين (عليه السّلام) :

واضطرب معاوية مِنْ تحرك الإمام (عليه السّلام) واختلاف الناس عليه ، فكتب إليه رسالة ، وقد رويت بصورتين :

1 ـ رواها البلاذري ، وهذا نصّها : أمّا بعد ، فقد أُنهيت إليّ عنك اُمورٌ إنْ كانت حقّاً فإنّي لمْ أظنّها بك ؛ رغبة عنها ، وإنْ كانت باطلة فأنت أسعد الناس بمجانبتها ، وبحظّ نفسك تبدأ ، وبعهد الله توفي ، فلا تحملني على قطيعتك والإساءة إليك ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك ، ومتى تكدني أكِدْكَ ، فاتّقِ الله يا حُسين في شقّ عصا الأُمّة ، وأنْ ترِدهم في فتنة(1) .

2 ـ رواها ابن كثير ، وهذا نصّها : إنّ مَنْ أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أُنبئتُ أنّ قوماً مِنْ أهل الكوفة قد دعوك إلى الشقاق ، وأهل العراق مَنْ قد جرّبت ، قد أفسدوا على أبيك وأخيك ، فاتّقِ الله واذكر الميثاق ؛ فإنّك متى تكدْني أكِدْكَ(2) .

واحتوت هذه الرسالة حسب النّص الأخير على ما يلي :

1 ـ أنّ معاوية قد طالب الإمام (عليه السّلام) بتنفيذ ما شرطه عليه في بنود الصلح أنْ لا يخرج عليه ، وقد وفّى له الإمام (عليه السّلام) بذلك ، إلاّ أنّ معاوية لمْ يفِ بشيء ممّا أبرمه على نفسه مِنْ شروط الصلح.

2 ـ أنّ معاوية كان على علمٍ بوفود أهل الكوفة التي دعت الإمام (عليه السّلام) للخروج عليه ، وقد وسمهم بأنّهم أهل الشقاق ، وأنّهم قد غدروا بعلي والحسن (عليهما السّلام) مِنْ قبل.

3 ـ التهديد السافر للإمام (عليه السّلام) بأنّه متى كاد معاوية فإنّه يكيده.

__________________

(1) أنساب الأشراف 1 / ق 1.

(2) تاريخ ابن كثير 8 / 162.

٢٢٤

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ورفع الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية مذكّرةً خطيرةً كانت جواباً لرسالته ، حمّله مسؤوليات جميع ما وقع في البلاد مِن سفك الدماء ، وفقدان الأمن ، وتعريض الأُمّة للأزمات ، وهي مِنْ أروع الوثائق الرسمية التي حفلت بذكر الأحداث التي صدرت مِنْ معاوية ، وهذا نصّها :

«أمّا بعد ، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنّه انتهت إليك عنّي اُمور أنت عنها راغب ، وأنا بغيرها عندك جدير ، وإنّ الحسنات لا يهدي لها ولا يُسدّد إليها إلاّ الله تعالى.

أمّا ما ذكرت أنّه رقي إليك عنّي ، فإنّه إنّما رقاه إليك الملاّقون ، المشّاؤون بالنميمة ، المفرّقون بين الجمع ، وكذب الغاوون. ما أردت لك حرباً ، ولا عليك خلافاً ، وإنّي لأخشى الله في ترك ذلك منك ، ومن الإعذار فيه إليك وإلى أوليائك القاسطين حزب الظلمة.

ألست القاتل حِجْرَ بن عدي أخا كندة وأصحابه المصلّين العابدين الذين كانوا يُنكرون الظلم ، ويستعظمون البدع ، ويأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ولا يخافون في الله لومة لائم ، ثمّ قتلتهم ظُلماً وعدواناً مِنْ بعد ما أعطيتهم الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكدة ؛ جرأة على الله واستخفافاً بعهده؟!

أوَلست قاتل عمرو بن الحمق الخزاعي صاحب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، العبد الصالح الذي أبلته العبادة ، فنحل جسمه واصفرّ لونه ، فقتلته بعد ما أمنته وأعطيته ما لو فهمته العصم لنزلت مِنْ رؤوس الجبال؟!

أوَلست بمدّعي زياد بن سُميّة المولود على فراش عبيد ثقيف ، فزعمت أنّه ابن أبيك ، وقد قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله) : الولد للفراش ، وللعاهر الحَجَرَ

٢٢٥

فتركت سُنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) تعمّداً ، وتبعت هواك بغير هدىً مِن الله ، ثمّ سلّطته على أهل الإسلام يقتلهم ، ويقطع أيديهم وأرجلهم ، ويسملُ أعينهم ، ويصلبهم على جذوع النّخل ، كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة ، وليسوا منك؟!

أوَلست قاتل الحضرمي الذي كتب فيه إليك زيادٌ أنّه على دين علي (عليه السّلام) ، فكتبت إليه أنْ اقتل كلّ مَنْ كان على دين علي. فقتلهم ومثّل بهم بأمرك ، ودينُ علي هو دين ابن عمّه (صلّى الله عليه وآله) الذي أجلسك مجلسك الذي أنت فيه ، ولولا ذلك لكان شرفك وشرف آبائك تجشّم الرحلتين ؛ رحلة الشتاء والصيف؟!

وقلتَ فيما قلت : انظر لنفسك ودينك ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، واتّقِ شقّ عصا هذه الأُمّة وأنْ تردهم إلى فتنة. وإنّي لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأُمّة مِنْ ولايتك عليها ، ولا أعظم لنفسي ولديني ولأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) أفضل مِنْ أنْ أجاهرك ؛ فإنْ فعلتُ فإنّه قربة إلى الله ، وإنْ تركته فإنّي استغفر الله لديني ، وأسأله توفيقه لإرشاد أمري.

وقلتَ فيما قلت : إنّني إنْ أنكرتك تنكرني ، وإنْ أكِدْك تكدني. فكِدْني ما بدا لك ؛ فإنّي أرجو أنْ لا يضرّني كيدك ، وأنْ لا يكون على أحدٍ أضر منه على نفسك ؛ لأنّك قد ركبت جهلك ، وتحرّصت على نقض عهدك.

ولعمري ما وفيتَ بشرطٍ ، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النّفر الذين قتلتهم بعد الصلح والأيمان ، والعهود والمواثيق ، فقتلتهم مِنْ غير أنْ يكونوا قاتَلوا وقُتِلوا ، ولمْ تفعل ذلك بهم إلاّ لذكرهم فضلنا ، وتعظيمهم حقّنا ؛ مخافة أمر لعلّك لو لمْ تقتلهم متّ قبل أنْ يفعلوا ، أو ماتوا قبل أنْ يدركوا.

٢٢٦

فأبشر يا معاوية بالقصاص ، واستيقن بالحساب ، واعلم أنّ لله تعالى كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها. وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنّة ، وقتلك أولياءَه على التّهم ، ونفيك إيّاهم مِنْ دورهم إلى دار الغربة ، وأخذك الناس ببيعة ابنك الغلام الحدث ، يشرب الشراب ويلعب بالكلاب ، ما أراك إلاّ قد خسرت نفسك ، وتبرتَ دينك(1) ، وغششت رعيتك ، وسمعت مقالة السّفيه الجاهل ، وأخفت الورع التّقي ، والسّلام»(2) .

لا أكاد أعرف وثيقةً سياسةً في ذلك العهد عرضت لعبث السلطة ، وسجّلت الجرائم التي ارتكبها معاوية ، والدماء التي سفكها ، والنفوس التي أرعبها غير هذه الوثيقة ، وهي صرخة في وجه الظلم والاستبداد.

واللهِ كم هي هذه الكلمة رقيقة شاعرة «كأنّك لست مِنْ هذه الأُمّة وليسوا مِنك». هذه الكلمة المشبعة بالشعور القومي الشريف ، وقديماً قال الصابي : إنّ الرجل مِنْ قومٍ ليست له أعصاب تقسو عليهم. وهو اتّهام مِن الحُسين لمعاوية في وطنيته وقوميته ، واتّخذ مِن الدماء الغزيرة المسفوكة عنواناً على ذلك(3) .

لقد حفلت هذه المذكّرة بالأحداث الخطيرة التي اقترفها معاوية وعمّاله ، خصوصاً زياد بن سُميّة الذي نشر الإرهاب والظلم بين الناس ؛ فقتل على الظنّة والتّهمة ، وأعدم كلّ مَنْ كان على دين الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) الذي هو دين ابن عمّه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد أسرف هذا الطاغية في سفك الدماء بغير حقّ.

ومِن الطبيعي أنّه لمْ يقترف ذلك إلاّ بإيعاز مِنْ معاوية ، فهو الذي عهد إليه بذلك.

__________________

(1) تبرت : أهلكت دينك.

(2) الإمامة والسياسة 1 / 284 ، رجال الكشّي / 32 ، الدرجات الرفيعة / 334.

(3) الإمام الحُسين (عليه السّلام) / 338.

٢٢٧

صدى الرسالة :

ولمّا انتهت رسالة الإمام (عليه السّلام) إلى معاوية ضاق بها ذرعاً ، وراح يراوغ على عادته ، ويقول : إنّ أثرنا بأبي عبد الله إلاّ أسداً(1) .

المؤتمرُ السياسي العام :

وعقد الإمام (عليه السّلام) في مكة مؤتمراً سياسياً عامّاً ، دعا فيه جمهوراً غفيراً ممّن شهد موسم الحجّ ؛ مِن المهاجرين والأنصار ، والتابعين وغيرهم مِن سائر المسلمين ، فانبرى (عليه السّلام) خطيباً فيهم ، وتحدّث ببليغ بيانه بما ألمّ بعترة النّبي (صلّى الله عليه وآله) وشيعتهم مِن المحن والخطوب التي صبّها عليهم معاوية ، وما اتّخذه مِن الإجراءات المشدّدة مِنْ إخفاء فضائلهم ، وستر ما أُثِرَ عن الرسول الأعظم في حقّهم ، وألزم حضّار مؤتمره بإذاعة ذلك بين المسلمين ، وفيما يلي نصّ حديثه ، فيما رواه سليم بن قيس :

قال : ولمّا كان قبل موت معاوية بسنة حجّ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، فجمع الحُسين بني هاشم ونساءهم ومواليهم ، ومَنْ حجّ مِن الأنصار ممّن يعرفهم الحُسين وأهل بيته ، ثمّ أرسل رسلاً ، وقال لهم : «لا تدَعوا أحداً حجّ العام مِنْ أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، المعروفين بالصلاح والنُّسك إلاّ اجمعوهم لي». فاجتمع إليه بمِنى أكثر مِنْ سبعمئة رجل وهم في سرادق ، عامّتهم مِن التابعين ، ونحو مِنْ مئتي رجل مِنْ أصحاب النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد ، فإنّ هذا الطاغية ـ يعني معاوية ـ قد فعل بنا وبشيعتنا

__________________

(1) سير أعلام النبلاء 3 / 198.

٢٢٨

ما قد رأيتم ، وعلمتم وشهدتم ، وإنّي أُريد أنْ أسألكم عن شيء ؛ فإنْ صدقت فصدّقوني ، وإنْ كذبت فكذّبوني. اسمعوا مقالتي واكتبوا قولي ، ثمّ ارجعوا إلى أمصاركم وقبائلكم ، فمَنْ أمنتم مِن الناس ووثقتم به فادعوهم إلى ما تعلمون مِنْ حقّنا ؛ فإنّي أتخوف أنْ يُدرسَ هذا الأمر ويُغلب ، والله مُتِمّ نوره ولو كرِه الكافرون».

وما ترك شيئاً ممّا أنزله الله فيهم مِن القران إلاّ تلاه وفسّره ، ولا شيئاً ممّا قاله رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في أبيه وأخيه وفي نفسه وأهل بيته (عليهم السّلام) إلاّ رواه ، وكلّ ذلك يقول أصحابه : اللهمّ نعم ، قد سمعنا وشهدنا. ويقول التابعي : اللهمّ قد حدّثني به مَنْ أُصدّقه وأئتمنه مِن الصحابة. فقال (عليه السّلام) : «أنشدُكم اللهَ إلاّ حدّثتم به مَنْ تثقون به وبدينه»(1) .

وكان هذا المؤتمر أوّل مؤتمر إسلامي عرفه المسلمون في ذلك الوقت ، وقد شجب فيه الإمام (عليه السّلام) سياسة معاوية ، ودعا المسلمين لإشاعة فضائل أهل البيت (عليهم السّلام) ، وإذاعة مآثرهم التي حاولت السّلطة حجبها عن المسلمين.

رسالةُ جعدة للإمام (عليه السّلام) :

وكان جعدة بن هبيرة بن أبي وهب مِنْ أخلص الناس للإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وأكثرهم مودّة له ، وقد اجتمعت عنده الشيعة وأخذوا يلحّون عليه في مراسلة الإمام للقدوم إلى مصرهم ؛ ليعلن الثورة على حكومة معاوية.

ورفع جعدة رسالةً للإمام (عليه السّلام) ، وهذا نصها : أمّا بعد ، فإنّ مِنْ قِبَلِنا مِنْ شيعتك متطلّعة أنفسهم إليك ، لا يعدلون بك أحداً ، وقد كانوا عرفوا رأي الحسن أخيك في الحرب ، وعرفوك باللين

__________________

(1) حياة الإمام الحسن (عليه السّلام) 2 / 216 ـ 217.

٢٢٩

لأوليائك ، والغلظة على أعدائك ، والشدّة في أمر الله ، فإنْ كنت تحبّ أنْ تطلب هذا الأمر فاقدم علينا ؛ فقد وطنّا أنفسنا على الموت معك.

جوابُ الإمام (عليه السّلام) :

ولم يكن مِنْ رأي الإمام الحُسين (عليه السّلام) الخروج على معاوية ؛ وذلك لعلمه بفشل الثورة وعدم نجاحها ؛ فإنّ معاوية بما يملك مِنْ وسائل دبلوماسية وعسكرية لا بدّ أنْ يقضي عليها ، ويخرجها مِنْ إطارها الإسلامي إلى حركة غير شرعية ، ويوسم القائمين بها بالتمرّد والخروج على النظام ، وقد أجابهم (عليه السّلام) بعد البسملة والثناء على الله بما يلي :

«أمّا أخي فإنّي أرجو أنْ يكون الله قد وفّقه وسدّده ، وأمّا أنا فليس رأيي اليوم ذلك ، فالصقوا رحمكم الله بالأرض ، واكمنوا في البيوت ، واحترسوا مِن الظنّة ما دام معاوية حيّاً ، فإنْ يُحدث الله به حدثاً وأنا حيّ كتبت إليكم برأيي ، والسّلام»(1) .

لقد أمر (عليه السّلام) شيعته بالخلود إلى الصبر ، والإمساك عن المعارضة ، وأنْ يلزموا بيوتهم خوفاً عليهم مِن سلطان معاوية الذي كان يأخذ البريء بالسّقيم ، والمُقبل بالمُدبر ، ويقتل على الظنّة والتهمة. وأكبر الظنّ أنّ هذه الرسالة كانت في عهد زياد الذي سمل عيون الشيعة ، وصلبهم على جذوع النخل ، ودمّرهم تدميراً ساحقاً.

__________________

(1) الأخبار الطوال / 203 ، أنساب الأشراف 1 / ق 1.

٢٣٠

نصيحةُ الخدري للإمام (عليه السّلام) :

وشاعت في الأوساط الاجتماعية أنباء وفود أهل الكوفة على الإمام الحُسين (عليه السّلام) واستنجادهم به لإنقاذهم مِن ظلم معاوية وجوره ، ولمّا علم أبو سعيد الخدري بذلك خفّ مسرعاً للإمام (عليه السّلام) ينصحه ويحذّره ، وهذا نص حديثه : يا أبا عبد الله ، إنّي أنا ناصح ، وإنّي عليكم مشفق ، وقد بلغني أنّه قد كاتبك قوم مِنْ شيعتكم بالكوفة يدعونكم إلى الخروج إليهم ، فلا تخرج إليهم ؛ فإنّي سمعت أباك يقول بالكوفة : «والله لقد مللتهم وأبغضتهم ، وملّوني وأبغضوني ، وما يكون منهم وفاء قط ، ومَنْ فاز به فاز بالسّهم الأخيب. والله ما لهم ثبات ولا عزم على أمر ، ولا صبر على السّيف»(1) .

وليس مِنْ شك في أنّ أبا سعيد الخدري كان مِنْ ألمع أصحاب الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام) ، وأكثرهم إخلاصاً وولاءً لأهل البيت (عليهم السّلام) ، وقد دفعه حرصه على الإمام الحُسين (عليه السّلام) وخوفه عليه مِنْ معاوية أنْ يقوم بالنصيحة له في عدم خروجه على معاوية. ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا جواب الإمام الحُسين (عليه السّلام) له.

استيلاءُ الحُسين (عليه السّلام) على أموال للدولة :

وكان معاوية يُنفق أكثر أموال الدولة على تدعيم مُلْكه ، كما كان يهبُ الأموالَ الطائلة لبني أُميّة لتقوية مركزهم السياسي والاجتماعي ، وكان الإمام الحُسين (عليه السّلام) يشجب هذه السياسة ، ويرى ضرورة إنفاذ الأموال مِنْ معاوية وإنفاقها على المحتاجين. وقد اجتازت على يثرب أموال مِن اليمن إلى خزينة دمشق ، فعمد الإمام (عليه السّلام) إلى الاستيلاء عليها ، ووزّعها على

__________________

(1) البداية والنهاية 8 / 161 ، تاريخ ابن عساكر 13 / 67.

٢٣١

المحتاجين مِنْ بني هاشم وغيرهم ، وكتب إلى معاوية :

«مِن الحُسين بن علي إلى معاوية بن أبي سفيان. أمّا بعد ، فإنّ عيراً مرّت بنا مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليك ، لتودعها خزائن دمشق ، وتعل بها بعد النهل بني أبيك ، وإنّي احتجت إليها فأخذتها ، والسّلام».

وأجابه معاوية : مِنْ عبد الله معاوية إلى الحُسين بن علي. أمّا بعد ، فإنّ كتابك ورد عليّ تذكر أنّ عيراً مرّت بك مِن اليمن تحمل مالاً وحُللاً ، وعنبراً وطيباً إليّ لأودعها خزائن دمشق ، وأعل بها بعد النهل بني أبي ، وإنّك احتجت إليها فأخذتها ، ولم تكن جديراً بأخذها إذ نسبتها إليّ ؛ لأنّ الوالي أحقّ بالمال ، ثمّ عليه المخرج منها. وأيم الله ، لو تركت ذلك حتى صار إليّ لمْ أبخسك حظّلك منها ، ولكنّني قد ظننت يابن أخي أنّ في رأسك نزوة ، وبودّي أنْ يكون ذلك في زماني فأعرف لك قدرك وأتجاوز عن ذلك ، ولكنّني والله ، أتخوّف أنْ تُبلى بمَنْ لا ينظرك فواق ناقة.

وكتب في أسفل كتابه هذه الأبيات :

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ليس ما

جئتَ بالسائغِ يوماً والعلل

أخذكَ المالَ ولمْ تُؤمر بهِ

إنّ هذا مِنْ حُسينٍ لَعجلْ

قد أجزناها ولمْ نغضبْ لها

واحتملنا مِنْ حُسينٍ ما فعلْ

يا حُسينُ بنَ عليٍّ ذا الأملْ

لك بعدي وثبةٌ لا تُحتملْ

وبودّي أنّني شاهدُها

فإليها مِنك بالخلقِ الأجلْ

إنّني أرهبُ أنْ تصلَ بمَنْ

عنده قد سبق السيفُ العذلْ(1)

__________________

(1) شرح نهج البلاغة 4 / 327 الطبعة الأولى.

٢٣٢

وفي هذا الكتاب تهديد للإمام بمَنْ يخلف معاوية ، وهو ابنه يزيد ، الذي لا يؤمن بمقام الحُسين ومكانته مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله).

وعلى أيّ حالٍ ، فقد قام الإمام بإنقاذ هذه الأموال مِنْ معاوية وأنفقها على الفقراء ، في حين أنّه لمْ يكن يأخذ لنفسه أيّ صلة مِنْ معاوية ، وقد قدّم له مالاً كثيراً وثياباً وافرة وكسوة فاخرة ، فردّ الجميع عليه(1) .

وقد روى الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) أنّ الحسن والحُسين كانا لا يقبلان جوائز معاوية(2) .

حديثٌ موضوع :

مِن الأخبار الموضوعة ما روي أنّ الإمام الحُسين وفد مع أخيه الحسن على معاوية فأمر لهما بمئة ألف درهم ، وقال لهم : خُذاها وأنا ابن هند ، ما أعطاها أحدٌ قبلي ، ولا يُعطيها أحد بعدي.

فانبرى إليه الإمام الحُسين قائلاً : «والله ، ما أعطى أحدٌ قبلك ولا بعدك لرجلين أشرف منّا».

ولا مجال للقول بصحة هذه الرواية ، فإنّ الإمام الحُسين (عليه السّلام) لمْ يفد على معاوية بالشام ، وإنّما وفد عليه الإمام الحسن (عليه السّلام) لا لأجل الصلة والعطاء ، كما يذهب لذلك بعض السذّج مِن المؤرّخين ، وإنّما كان الغرض إبراز الواقع الاُموي والتدليل على مساوئ معاوية ، كما أثبتت ذلك

__________________

(1) الحُسين ـ لعلي جلال 1 / 117.

(2) حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السّلام) 2 / 332.

٢٣٣

مناظراته مع معاوية وبطانته ، والتي لمْ يقصد فيها إلاّ تلك الغاية ، وقد أوضحنا ذلك بصورة مفصلّة في كتابنا (حياة الإمام الحسن).

الحُسين مع بني أُميّة :

كانت العداوة بين الحُسين وبين بني أُميّة ذاتية ، فهي عداوة الضد للضد ، وقد سأل سعيد الهمداني الإمام الحُسين عن بني أُميّة ، فقال (عليه السّلام) : «إنّا وهم الخصمان اللذان اختصما في ربّهم»(1) .

أجل ، إنّهما خصمان في أهدافهم ، وخصمان في اتّجاههم ، فالحُسين (عليه السّلام) كان يُمثّل جوهر الإيمان بالله ، ويُمثّل القيم الكريمة التي يشرف بها الإنسان ، وبنو أُميّة كانوا يُمثّلون مساوئ الجاهلية التي تهبط بالإنسان إلى مستوى سحيق ، وكان الاُمويّون بحسب طباعهم الشريرة يحقدون على الإمام الحُسين ، ويبالغون في توهينه ، وقد جرت منازعة بين الحُسين وبين الوليد بن عتبة بن أبي سفيان في مال كان بينهما فتحامل الوليد على الحُسين في حقّه ، فثار الإمام في وجهه ، وقال : «أحلف بالله لتنصفي مِنْ حقّي أو لآخذنّ سيفي ، ثمّ لأقومنّ في مسجد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وأدعونّ بحلف الفضول».

لقد أراد أنْ يُحيي حلف الفضلول الذي أسسه الهاشميون ، والذي كان شعاره إنصاف المظلومين والأخذ بحقوقهم ، وقد حاربه الاُمويّون في جاهليتهم ؛ لأنّه يتنافى مع طباعهم ومصالحهم.

وانبرى عبد الله بن الزّبير فانضمّ للحُسين وانتصر له ، وقال :

__________________

(1) الكنى والأسماء ـ لأبي بشر الدولابي 1 / 77.

٢٣٤

وأنا أحلف بالله ، لئن دعا به لآخذنّ سيفي ثمّ لأقومنّ معه حتى ينتصف مِنْ حقّه أو نموت جميعاً.

وبلغ المسوّر بن مخرمة بن نوفل الزهري الحديث فانضمّ للحُسين وقال بمثل مقالته ، وشعر الوليد بالوهن والضعف فتراجع عن غيّه ، وأنصف الحُسين (عليه السّلام) مِنْ حقّه(1) .

ومِنْ ألوان الحقد الاُموي على الحُسين أنّه كان جالساً في مسجد النّبي (صلّى الله عليه وآله) فسمع رجلاً يُحدّث أصحابه ، ويرفع صوته ليُسمع الحُسين ، وهو يقول : إنّا شاركنا آل أبي طالب في النّبوة حتّى نلنا مِنها مثلَ ما نالوا مِنها مِن السّبب والنّسب ، ونلنا مِن الخلافة ما لمْ ينالوا فبِمَ يفخرون علينا؟

وكرّر هذا القول ثلاثاً ، فأقبل عليه الحُسين ، فقال له : «إنّي كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً ، وفي الثاني عفواً ، وأمّا في الثالث فإنّي مجيبك. إنّي سمعت أبي يقول : إنّ في الوحي الذي أنزله الله على محمّد (صلّى الله عليه وآله) ، إذا قامت القيامة الكبرى حشر الله بني أُميّة في صوَرِ الذر يطؤهم الناس حتى يفرغ مِن الحساب ، ثمّ يُؤتى بهم فيحاسبوا ويُصار بهم إلى النار»(2) . ولمْ يطق الاُموي جواباً وانصرف وهو يتميّز مِن الغيظ.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن موقف الإمام مع معاوية وبني أُميّة ، ونعرض فيما يلي إلى وفاة معاوية وما رافقها مِن الأحداث.

__________________

(1) سيرة ابن هشام 1 / 142.

(2) المناقب والمثالب للقاضي نعمان المصري / 61.

٢٣٥

مرضُ معاوية :

ومرض معاوية وتدهورت صحته ، ولمْ تُجْدِ معه الوصفات الطيبة ، فقد تناهبت جسمه الأمراض ، وقد شعر بدنوّ أجله ، وكان في حزن على ما اقترفه في قتله لحِجْرِ بن عَدِي ، فكان ينظر إليه شبحاً مخيفاً ، وكان يقول :

ويلي مِنكَ يا حِجْر! إنّ لي مع ابن عَدِي ليوماً طويلاً(1) ، وتحدّث الناس عن مرضه ، فقالوا : إنّه الموت ، فأمر أهله أنْ يحشوا عينيه أثمداً ، ويسبغوا على رأسه الطيب ويجلسوه ، ثمّ أذن للناس فدخلوا وسلّموا عليه قياماً ، فلمّا خرجوا مِنْ عنده أنشد قائلاً :

وتجلُّدي للشامتين أريهمُ

أنّي لريبِ الدهرِ لا اتضعضعُ

فسمعه رجل مِن العلويِّين فأجابه :

وإذا المنيّةُ أنشبتْ أظفارَها

ألفيتَ كلَّ تميمةٍ لا تنفعُ(2)

وصاياه :

ولمّا ثقل حال معاوية عهد بوصيته إلى يزيد ، وقد جاء فيها : يا بُني ، إنّي قد كفيتك الشرّ والترحال ، ووطأت لك الأمور وذللت لك الأعداء ، وأخضعت لك رقاب العرب وجمعت لك ما لمْ يجمعه أحدٌ ، فانظر أهل الحجاز فإنّهم أصلك وأكرم مَنْ قدم عليك منهم وتعاهد مَنْ غاب ، وانظر أهل العراق فإنْ سألوك أنْ تعزل كلّ يوم عاملاً فافعل ؛ فإنّ عزل عامل

__________________

(1) الفتنة الكبرى 2 / 245.

(2) حياة الحيوان للدميري 1 / 59.

٢٣٦

أيسر مِنْ أنْ يُشهر عليك مئة ألف سيف ، وانظر أهل الشام فليكونوا بطانتك وعيبتك ، فإنْ رابك مِنْ عدوك شيء فانتصر بهم ، فإذا أصبتهم فارددْ أهل الشام إلى بلادهم ؛ فإنْ أقاموا بغير بلادهم تغيّرت أخلاقهم.

وإنّي لست أخاف عليك أنْ ينازعك في هذا الأمر إلاّ أربعة نفر مِنْ قريش : الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزّبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ؛ فأمّا ابن عمر فإنّه رجل قد وقذته العبادة ، فإذا لمْ يبقَ أحدٌ غيره بايعك ، وأمّا الحُسين بن علي فهو رجل خفيف ، ولنْ يترك أهل العراق حتّى يخرجوه ، فإنْ خرج وظفرت به فاصفح عنه ؛ فإنّ له رحماً ماسة وحقّاً عظيماً وقرابة مِنْ محمّد ، وأمّا ابن أبي بكر فإنْ رأى أصحابه صنعوا شيئاً صنع مثله ليس له همّة إلاّ في النساء واللّهو ، وأمّا الذي يجثم لك جثوم الأسد ، ويراوغك مراوغة الثعلب فإنْ أمكنته فرصة وثب فذاك ابن الزّبير ، فإنْ هو فعلها بك فظفرت به فقطّعه إرباً إرباً ، واحقنْ دماء قومك ما استطعت(1) .

وأكبر الظنّ أنّ هذه الوصية مِن الموضوعات ؛ فقد افتُعلتْ لإثبات حلم معاوية ، وإنّه عهد إلى ولده بالإحسان الشامل إلى المسلمين وهو غير مسؤول عن تصرفاته.

وممّا يؤيد وضعها ما يلي :

1 ـ إنّ المؤرّخين رووا أنّ معاوية أوصى يزيد بغير ذلك ، فقال له : إنّ لك مِنْ أهل المدينة يوماً ، فإنْ فعلوها فارمهم بمسلم بن عقبة ، فإنّه رجل قد عرفنا نصيحته(2) ، وكان مسلم بن عقبة جزّاراً جلاداً لا يعرف الرحمة والرأفة ، وقد استعمله يزيد بعهد مِنْ أبيه في واقعة الحرّة فاقترف كلّ موبقة

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير 3 / 259.

(2) تاريخ خليفة خياط 1 / 229.

٢٣٧

وإثم ، فكيف تلتقي هذه الوصيّة بتلك الوصيّة التي عهد فيها بالإحسان إلى أهل الحجاز؟!

2 ـ إنّه أوصاه برعاية عواطف العراقيين والاستجابة لهم إذا سألوه في كلّ يوم عزل مَنْ ولاّه عليهم ، وهذا يتنافى مع ما ذكره المؤرّخون أنّه عهد بولاية العراق إلى عبيد الله بن زياد وهو يعلم شدّته وصرامته وغدره ؛ فهو ابن زياد الذي أغرق العراق بدماء الأبرياء ، فهل العهد إليه بولايته العراق من الإحسان إلى العراقيين والبرّ بهم؟!

3 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الله بن عمر وقد وصفه بأنّه قد وقذته العبادة ، وإذا كان كذلك فهو بطبيعة الحال منصرف عن السّلطة والمنازعات السّياسية فما معنى التخوّف منه؟!

4 ـ إنّه جاء في هذه الوصية أنّه يتخوّف عليه مِنْ عبد الرحمن بن أبي بكر ، وقد نصّ المؤرّخون أنّه توفي في حياة معاوية ، فما معنى التخوّف عليه مِنْ إنسان ميّت؟

5 ـ إنّه أوصاه برعاية الحُسين (عليه السّلام) وإنّ له رحماً ماسّة ، وحقًّا عظيماً وقرابةً مِنْ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، ومن المؤكد أنّ معاوية بالذّات لمْ يرعَ أيّ جانب مِنْ جوانب القرابة مِنْ رسول الله فقد قطع جميع أواصرها ، فقد فرض سبّها على رؤوس الأشهاد ، وعهد إلى لجان التربية والتعليم بتربية النشء ببغض أهل البيت ، ولمْ يتردّد في ارتكاب أيّ وسيلة للحطّ مِنْ شأنهم.

وقد علّق الاُستاذ عبد الهادي المختار على هذه الفقرات مِنْ الوصيّة بقوله : وتقول بعض المصادر إنّ معاوية أوصى ولده يزيد برعاية الحُسين ، والذي نعتقده أنّه لا أثر لها من الصحة ؛ فإنّ معاوية لمْ يتردّد في اغتيال

٢٣٨

الإمام الحسن حتّى بعد ما بايعه ، فكيف يوصي ولده بالعفو عن الحُسين إنْ ظفر به.

لم يكن معاوية بالذي يرعى لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) حرمةً أو قرابةً حتّى يوصي ابنه برعاية آل محمّد ، كلاّ أبداً ، فقد حارب الرسول في الجاهلية حتّى أسلم كُرها يوم فتح مكّة ، ثمّ حارب صهر الرسول وخليفته وابن عمّه علي ، ونزا على خلافة المسلمين وانتزعها قهراً ، وسمّ ابن بنت الرسول الحسن ، فهل يُصدَّق بعد هذا كلّه أنْ يوصي بمثل ما أوصى به؟!

قد يكون أوصاه أنْ يغتاله سرّاً ويدسّ له السمّ ، أو يبعث له مَنْ يطعنه بليل ، ربّما كان هذا الفرض أقرب إلى الصحة مِنْ تلك الوصية ، ولكنّ المؤرّخين ـ سامحهم الله ـ أرادوا أنْ يُبرِّئوا ساحة الأب ويلقوا جميع التبعات على الابن ، وهما في الحقيقة غرسُ إثمٍ واحدٌ وثمرةُ جريمةٍ واحدة.

وأضاف يقول : ولو أنّ الوصيّة المزعومة كانت صحيحةً لما كان يزيد لاهمَّ له بعد موت أبيه إلاّ تحصيل البيعة مِن الحُسين وتشديده على عامله بالمدينة بلزوم إجبار الحُسين على البيعة(1) .

موتُ معاوية :

واستقبل معاوية الموت غير مطمئن فكان يتوجّع ويظهر الجزع على ما اقترفه مِن الإسراف في سفك دماء المسلمين ونهب أموالهم ، وقد وافاه الأجل في دمشق محروماً عن رؤية ولده الذي اغتصب له الخلافة ، وحمله

__________________

(1) مجلة الغري السنة الثامنة العدد 9 و 10.

٢٣٩

على رقاب المسلمين ، وكان يزيد فيما يقول المؤرّخون مشغولاً عن أبيه في أثناء وفاته برحلات الصيد ، وعربدات السكر ونغمة العيدان.

وبهذا ينتهي بنا الحديث عن حكومة معاوية وما رافقها من الأحداث الجسام.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375