حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)21%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 200696 / تحميل: 8164
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

ب :( وَلا تَنْقُضُوا الإيْمان بَعْد تَوكيدها ) فالأيمان جمع يمين.

فيقع الكلام في الفرق بين الجملتين ، والظاهر اختصاص الأولى بالعهود التي يبرمها مع الله تعالى ، كما إذا قال : عاهدت الله لأفعلنّه ، أو عاهدت الله أن لا أفعله.

وأمّا الثانية فالظاهر انّ المراد هو ما يستعمله الإنسان من يمين عند تعامله مع عباد الله.

وبملاحظة الجملتين يعلم أنّه سبحانه يؤكد على العمل بكلّ عهد يبرم تحت اسم الله ، سواء أكان لله سبحانه أو لخلقه.

ثمّ إنّه قيّد الأيمان بقوله : بعد توكيدها ، وذلك لأنّ الأيمان على قسمين : قسم يطلق عليه لقب اليمين ، بلا عزم في القلب وتأكيد له ، كقول الإنسان حسب العادة والله وبالله.

والقسم الآخر هو اليمين المؤكد ، وهو عبارة عن تغليظه بالعزم والعقد على اليمين ، يقول سبحانه :( لاَ يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الإيْمان ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يعلّل تحريم نقض العهد ، بقوله :( وَقَد جَعَلتم الله علَيكم كفيلاً انّ الله يعلم ما تَفْعلون ) أي جعلتم الله كفيلاً بالوفاء فمن حلف بالله فكأنّه أكفل الله بالوفاء.

فالحالف إذا قال : والله لأفعلنّ كذا ، أو لأتركنّ كذا ، فقد علّق ما حلف عليه نوعاً من التعليق على الله سبحانه ، وجعله كفيلاً عنه في الوفاء لما عقد عليه

__________________

١ ـ المائدة : ٨٩.

١٨١

اليمين ، فإن نكث ولم يفِ كان لكفيله أن يؤدبه ، ففي نكث اليمين ، إهانة وإزراء بساحة العزة.

ثمّ إنّه سبحانه يرسم عمل ناقض العهد بامرأة تنقض غزلها من بعد قوة أنكاثاً ، قال :( وَلاتَكُونُوا كَالّتى نَقَضَت غزلها مِنْ بعْدل قُوّة أنكاثاً ) مشيراً إلى المرأة التي مضى ذكرها وبيان عملها حيث كانت تغزل ما عندها من الصوف والشعر ، ثمّ تنقض ما غزلته ، وقد عرفت في قوله ب‍ « الحمقاء » فكذلك حال من أبرم عهداً مع الله وباسمه ثمّ يقدم على نقضه ، فعمله هذا كعملها بل أسوأ منها حيث يدل على سقوط شخصيته وانحطاط منزلته.

ثمّ إنّه سبحانه يبين ما هو الحافز لنقض اليمين ، ويقول إنّ الناقض يتخذ اليمين واجهة لدخله وحيلته أوّلاً ، ويبغي من وراء نقض عهده ويمينه أن يكون أكثر نفعاً ممّا عهد له ولصالحه ثانياً ، يقول سبحانه :( تَتَّخذون أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمّة هي أربى من أمّة ) فقوله « أربى » من الربا بمعنى الزيادة ، فالناقض يتخذ أيمانه للدخل والغش ، ينتفع عن طريق نقض العهد وعدم العمل بما تعهد ، ولكن الناقض غافل عن ابتلائه سبحانه ، كما يقول سبحانه :( إنّما يبلوكم الله به وليبيّننَّ لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ) .

أي انّ ذلك امتحان إلهي يمتحنكم به ، وأقسم ليبيّنن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون فتعلمون عند ذلك حقيقة ما أنتم عليه اليوم من التكالب على الدنيا وسلوك سبيل الباطل لإماطة الحق ، ودحضه ويتبين لكم يومئذ من هو الضال ومن هوا لمهتدي.(١)

__________________

١ ـ الميزان : ١٢ / ٣٣٦.

١٨٢

النحل

٣٠

التمثيل الثلاثون

( وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللهِ فأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ والْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُون * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظالِمُون ) .(١)

تفسير الآيات

« رغد » عيش رغد ورغيد : طيّب واسع ، قال تعالى :( وكلا منها رغداً ) .

يصف سبحانه قرية عامرة بصفات ثلاث :

أ : آمنة : أي ذات أمن يأمن فيها أهلها لا يغار عليهم ، ولا يُشنُّ عليهم بقتل النفوس وسبي الذراري ونهب الأموال ، وكانت آمنة من الحوادث الطبيعية كالزلازل والسيول.

ب : مطمئنة : أي قارّة ساكنة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتقال عنها بخوف أو ضيق ، فانّ ظاهرة الاغتراب إنّما هي نتيجة عدم الاستقرار ، فترك الأوطان وقطع الفيافي وركوب البحار وتحمّل المشاق رهن عدم الثقة بالعيش الرغيد فيه ، فالاطمئنان رهن الأمن.

____________

١ ـ النحل : ١١٢ ـ ١١٣.

١٨٣

ج :( يأتيها رزقها رغداً من كلّ مكان ) ، الضمير في يأتيها يرجع إلى القرية ، والمراد منها حاضرة ما حولها من القرى ، والدليل على ذلك ، قوله سبحانه حاكياً عن ولد يعقوب :( وَاسئلِ القَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ التِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنّا لَصادِقُون ) .(١) والمراد من القرية هي مصر الحاضرة الكبيرة يومذاك.

وعلى ذلك فتلك القرية الواردة في الآية بما انّها كانت حاضرة لما حولها من الاَصقاع فينقل ما يزرع ويحصد إليها بغية بيعه أو تصديره.

هذه الصفات الثلاث تعكس النعم المادية الوافرة التي حظيت بها تلك القرية.

ثمّ إنّه سبحانه يشير إلى نعمة أخرى حظيت بها وهي نعمة معنوية ، أعنيبعث الرسول إليها ، كما أشار إليه في الآية الثانية ، بقوله :( وَلَقد جاءهُمْ رسول منهم ) .

وهوَلاء أمام هذه النعم الظاهرة والباطنة بدل أن يشكروا الله عليها كفروا بها.

أمّا النعمة المعنوية ، أعني : الرسول فكذّبوه ـ كما هو صريح الآية الثانية ـ وأمّا النعمة المادية فالآية ساكتة عنها غير انّ الروايات تكشف لنا كيفية كفران تلك النعم.

روى العياشي ، عن حفص بن سالم ، عن الإمام الصادقعليه‌السلام ، أنّه قال : « إنّ قوماً في بني إسرائيل تؤتى لهم من طعامهم حتى جعلوا منه تماثيل بمدن كانت في بلادهم يستنجون بها ، فلم يزل الله بهم حتى اضطروا إلى التماثيل يبيعونها

__________________

١ ـ يوسف : ٨٢.

١٨٤

ويأكلونها ، وهو قول الله :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) ».(١)

وفي رواية أخرى عن زيد الشحّام ، عن الصادقعليه‌السلام قال : كان أبي يكره أن يمسح يده في المنديل وفيه شيء من الطعام تعظيماً له إلاّ أن يمصّها ، أو يكون إلى جانبه صبيّ فيمصّها ، قال : فانّي أجد اليسير يقع من الخوان فأتفقده فيضحك الخادم ، ثم قال : إنّ أهل قرية ممّن كان قبلكم كان الله قد وسع عليهم حتى طغوا ، فقال بعضهم لبعض : لو عمدنا إلى شيء من هذا النقي فجعلناه نستنجي به كان ألين علينا من الحجارة.

قالعليه‌السلام : فلمّا فعلوا ذلك بعث الله على أرضهم دواباً أصغر من الجراد ، فلم تدع لهم شيئاً خلقه الله إلاّ أكلته من شجر أو غيره ، فبلغ بهم الجهد إلى أن أقبلوا على الذي كانوا يستنجون به ، فأكلوه وهي القرية التي قال الله تعالى :( ضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .(٢)

وبذلك يعلم أنّ ما يقوم به الجيل الحاضر من رمي كثير من فتات الطعام في سلة المهملات أمر محظور وكفران بنعمة الله. حتى أنّ كثيراً من الدول وصلت بها حالة البطر بمكان انّها ترمي ما زاد من محاصيلها الزراعية في البحار حفظاً لقيمتها السوقية ، فكلّ ذلك كفران لنعم الله.

ثمّ إنّه سبحانه جزاهم في مقابل كفرهم بالنعم المادية والروحية ، وأشار إليها

__________________

١ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩١ ، حديث ٢٤٧.

٢ ـ تفسير نور الثقلين : ٣ / ٩٢ ، حديث ٢٤٨.

١٨٥

بآيتين :

الاَُولى :( فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ) .

الثانية :( فَأخذهم العذاب وهم ظالمون ) .

فلنرجع إلى الآية الأولى ، فقد جزاهم بالجوع والخوف نتيجة بطرهم.

وهناك سؤال مطروح منذ القدم وهو أنّه سبحانه جمع في الآية الأولى بين الذوق واللباس ، فقال :( فَأَذاقَهَا الله لِباسَ الجُوعِ ) مع أنّ مقتضى استعمال الذوق هو لفظ طعم ، بأن يقول : « فأذاقها الله طعم الجوع ».

ومقتضى اللفظ الثاني أعني : اللباس ، أن يقول : « فكساهم الله لباس الجوع » فلماذا عدل عـن تلك الجملتين إلى جملة ثالثــة لا صلـة لها ـ حسب الظاهر ـ بين اللفظين ؟

والجواب : انّ للإتيان بكلّ من اللفظين وجهاً واضحاً.

أمّا استخدام اللباس فلبيان شمول الجوع والخوف لكافة جوانب حياتهم ، فكأنّ الجوع والخوف أحاط بهم من كلّ الأطراف كإحاطة اللباس بالملبوس ، ولذلك قال :( لباس الجوع والخوف ) ولم يقل « الجوع والخوف » لفوت ذلك المعنى عند التجريد عن لفظ اللباس.

وأمّا استخدام الذوق فلبيان شدة الجوع ، لأنّ الإنسان يذوق الطعام ، وأمّا ذوق الجوع فانّما يطلق إذا بلغ به الجوع والعطش والخوف مبلغاً يشعر به من صميم ذاته ، فقال :( فَأَذاقَهُمُ الله لِباس الجوع والخَوف ) .

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وأمّا ما هو المرادمن تلك القرية بأوصافها الثلاثة ، فقد عرفت من الروايات خصوصياتها.

١٨٦

نعم ربما يقال بأنّ المراد أهل مكة ، لأنّهم كانوا في أمن وطمأنينة ورفاه ، ثمّ أنعم الله عليهم بنعمة عظيمة وهي محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فكفروا به وبالغوا في إيذائه ، فلا جرم أن سلط عليهم البلاء.

قال المفسرون : عذّبهم الله بالجوع سبع سنين حتى أكلوا الجيف والعظام.

وأمّا الخوف ، فهو انّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله كان يبعث إليهم السرايا فيغيرون عليهم.

ويؤيد ذلك الاحتمال ما جاء من وصف أرض مكة في قوله :( أَوَ لَمْ نُمَكّن لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلّ شَيْءٍ ) .(١)

ومع ذلك كلّه فتطبيق الآية على أهل مكة لا يخلو من بُعد.

أمّا أوّلاً : فلأنَّ الآية استخدمت الأفعال الماضية مما يشير إلى وقوعها في الأزمنة الغابرة.

وثانياً : لم يثبت ابتلاء أهل مكة بالقحط والجوع على النحو الوارد في الآية الكريمة ، وان كان يذكره بعض المفسرين.

وثالثاً : انّ الآية بصدد تحذير المشركين من أهل مكة من مغبّة تماديهم في كفرهم ، والسورة مكية إلاّ آيات قليلة ، ونزولها فيها يقتضي أن يكون للمثل واقعية خارجية وراء تلك الظروف ، لتكون أحوال تلك الأمم عبرة للمشركين من أهل مكة وما والاها.

__________________

١ ـ القصص : ٥٧.

١٨٧

الاِسراء

٣١

التمثيل الواحد والثلاثون

( وَلا تَجْعَل يَدَكَ مَغْلُولَة إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْط فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً * إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً ) .(١)

تفسير الآيات « الغلُّ » : ما يقيَّد به ، فيجعل الأعضاء وسطه ، وجمعه أغلال ، ومعنى قوله :( مغلولة إلى عنقك ) أي مقيَّدة به.

« الحسرة » : الغم على ما فاته والندم عليه ، وعلى ذلك يكون محسوراً ، عطف تفسير لقوله « ملوماً » ، ولكن الحسرة في اللغة كشف الملبس عما عليه ، وعلى هذا يكون بمعنى العريان.

أمّا الآية فهي تتضمن تمثيلاً لمنع الشحيح وإعطاء المسرف ، والأمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ، فشبّه منع الشحيح بمن تكون يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الاِعطاء والبذل ، فيكون تشبيه لغاية المبالغة في النهي عن الشح والإمساك ، كما شبّه إعطاء المسرف بجميع ما عنده بمن بسط يده حتى لا يستقر فيها شيء ، وهذا كناية عن الإسراف ، فيبقى الثالث وهو المفهوم من الآية

__________________

١ ـ الإسراء : ٢٩ ـ ٣٠.

١٨٨

وإن لم يكن منطوقاً ، وهو الاقتصاد في البذل والعطاء ، فقد تضمّنته آية أخرى في سورة الفرقان ، وهي :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُروا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً ) .(١)

وقد ورد في سبب نزول الآية ما يوضح مفادها.

روى الطبري أنّ امرأة بعثت ابنها إلى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وقالت : قل له : إنّ أمّي تستكسيك درعاً ، فإن قال : حتى يأتينا شيء. ، فقل له : انّها تستكسيك قميصك.

فأتاه ، فقال ما قالت له ، فنزع قميصه فدفعه إليه ، فنزلت الآية.

ويقال انّهعليه‌السلام بقي في البيت إذ لم يجد شيئاً يلبسه ولم يمكنه الخروج إلى الصلاة فلامه الكفّار ، وقالوا : إنّ محمداً اشتغل بالنوم واللهو عن الصلاة( إِنَّ ربّك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر ) أي يوسع مرة ويضيق مرة ، بحسب المصلحة مع سعة خزائنه.(٢)

روى الكليني عن عبدالملك بن عمرو الأحول ، قال : تلا أبو عبد الله هذه الآية :( وَالّذينَ إذا أَنْفَقُوا لَم يسرفُوا وَلم يقتروا وَكان بين ذلكَ قواماً ) .

قال : فأخذ قبضة من حصى وقبضها بيده ، فقال : هذا الإقتار الذي ذكره الله في كتابه ، ثمّ قبض قبضة أخرى ، فأرخى كفه كلها ، ثمّ قال : هذا الإسراف ، ثمّ قبض قبضة أخرى فأرخى بعضها ، وقال : هذا القوام.(٣)

__________________

١ ـ الفرقان : ٦٧.

٢ ـ مجمع البيان : ٣ / ٤١٢.

٣ ـ البرهان في تفسير القرآن : ٣ / ١٧٣.

١٨٩

هذا ما يرجع إلى تفسير الآية ، وهذا الدستور الإلهي تمخض عن سنّة إلهية في عالم الكون ، فقد جرت سنته سبحانه على وجود التقارن بين أجزاء العالم وانّ كلّ شيء يبذل ما يزيد على حاجته إلى من ينتفع به ، فالشمس ترسل ٤٥٠ ألف مليون طن من جرمها بصورة أشعة حرارية إلى أطراف المنظومة الشمسية وتنال الأرض منها سهماً محدوداً فتتبدل حرارة تلك الأشعة إلى مواد غذائية كامنة في النبات والحيوان وغيرهما ، حتى أنّ الأشجار والأزهار ما كان لها أن تظهر إلى الوجود لولا تلك الأشعة.

إنّ النحل يمتصّ رحيق الاَزهار فيستفيد منه بقدر حاجته ويبدل الباقي عسلاً ، كل ذلك يدل على أنّ التعاون بل بذل ما زاد عن الحاجة ، سنة إلهية وعليها قامت الحياة الإنسانية.

ولكن الإسلام حدّد الإنفاق ونبذ الاِفراط والتفريط ، فمنع عن الشح ، كما منع عن الإسراف في البذل.

وكأنّ هذه السنّة تجلت في غير واحد من شؤون حياة الإنسان ، ينقل سبحانه عن لقمان الحكيم انّه نصح ابنه بقوله :( وَ اقْصُدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِير ) .(١)

بل يتجلّى الاقتصاد في مجال العاطفة الإنسانية ، فمن جانب يصرح النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّ عنوان صحيفة المؤمن حبّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام .(٢)

ومن جانب آخر يقول الإمام عليعليه‌السلام : « هلك فيّ اثنان : محب غال ، ومبغض قال ».(٣)

__________________

١ ـ لقمان : ١٩.

٢ ـ حلية الأولياء : ١ / ٨٦.

٣ ـ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٠٧.

١٩٠

فالاِمعان في مجموع ما ورد في الآيات والروايات يدل بوضوح على أنّ الاقتصاد في الحياة هو الأصل الأساس في الإسلام ، ولعله بذلك سميت الأمة الإسلامية بالاَُمة الوسط ، قال سبحانه :( وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أمّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلى النّاسِ ) .(١)

وهناك كلمة قيمة للاِمام أمير المؤمنينعليه‌السلام حول الاعتدال نأتي بنصها :

دخل الإمام علي العلاء بن زياد الحارثى وهو من أصحابه يعوده ، فلمّا رأي سعة داره ، قال :

« ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج ؟

بلى إن شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرَّحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة ».

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد. قال : « وماله؟ » قال : لبس العباءة وتخلّى عن الدنيا. قال : « عليّ به ». فلمّا جاء قال :

« يا عديّ نفسك : لقد استهام بك الخبيث! أما رحمت أهلك وولدك ! أترى الله أحلّ لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟! أنت أهون على الله من ذلك ».

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوبة مأكلك !

قال : « ويحك ، إنّي لست كأنت ، إنّ الله تعالى فرض على أئمّة العدل ( الحق ) أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره ! »(٢)

__________________

١ ـ البقرة : ١٤٣.

٢ ـ نهج البلاغة ، الخطبة ٢٠٩.

١٩١

الكهف

٣٢

التمثيل الثاني والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتين مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً * كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً * وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً * وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبيدَ هذِهِ أَبَداً * وَما أَظُنُّ السّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبّي لاََجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً * قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوّاكَ رَجُلاً * لكِنّا هُوَ اللهُ رَبّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبّي أَحَداً * وَلَوْلا إذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللهُ لا قُوَّةَ إلاّ بِاللهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلداً * فَعَسى رَبّي أَنْ يُوَْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً * أَوْ يُصْبِحَ ماوَُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطيعَ لَهُ طَلَباً * وَأُحيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الحفّ » من حفَّ القوم بالشيء إذا أطافوا به ، وحفاف الشيء جانباه كأنّهما

__________________

١ ـ الكهف : ٣٢ ـ ٤٣.

١٩٢

أطافا به ، فقوله في الآية( فَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ ) أي جعلنا النخل مطيفاً بهما ، وقوله :( ما أظن أن تبيد ) فهو من باد الشيء ، يبيد بياداً إذا تفرق وتوزع في البيداء أي المفازة.

« حسباناً » : أصل الحسبان السهام التي ترمى ، الحسبان ما يحاسب عليه ، فيجازى بحسبه فيكون النار والريح من مصاديقه ، وفي الحديث انّه قالصلى‌الله‌عليه‌وآله في الريح : « اللهم لا تجعلها عذاباً ولا حسباناً ».

« الصعيد » يقال لوجه الأرض « زلق » أي دحضاً لا نبات فيه ويرادفه الصلد ، كما في قوله سبحانه :( فتركه صلداً ) (١)

هذا ما يرجع إلى مفردات الآية.

وأمّا تفسيرها ، فهو تمثيل للمؤمن والكافر بالله والمنكر للحياة الأخروية ، فالأوّل منهما يعتمد على رحمته الواسعة ، والثاني يركن إلى الدنيا ويطمئن بها ، ويتبين ذلك بالتمثيل التالي :

قد افتخر بعض الكافرين بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين ، فضرب الله سبحانه ذلك المثل يبين فيها بأنّه لا اعتبار بالغنى الموَقت وانّه سوف يذهب سدى ، أمّا الذي يجب المفاخرة به هو تسليم الإنسان لربه وإطاعته لمولاه.

وحقيقة ذلك التمثيل انّ رجلين أخوين مات أبوهما وترك مالاً وافراً فأخذ أحدهما حقه منه وهو المؤمن منهما فتقرب إلى الله بالإحسان والصدقة ، وأخذ الآخر حقه فتملك به ضياعاً بين الجنتين فافتخر الاَخ الغني على الفقير ، وقال :( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) ، وما هذا إلاّ لأنّه كان يملك جنتين من أعناب ونخل مطيفاً

__________________

١ ـ البقرة : ٢٦٤.

١٩٣

بهما وبين الجنتين زرع وافر ، وقد تعلّقت مشيئته بأن تأتي الجنتان أكلها ولم تنقص شيئاً وقد تخللها نهر غزير الماء وراح صاحب الجنتين المثمرتين يفتخر على صاحبه بكثرة المال والخدمة.

وكان كلما يدخل جنته يقول : ما أظن أن تفنى هذه الجنة وهذه الثمار ـ أي تبقى أبداً ـ وأخذ يكذب بالساعة ، ويقول : ما أحسب القيامة آتية ، ولو افترض صحة ما يقوله الموحِّدون من وجود القيامة ، فلئن بعثت يومذاك ، لآتاني ربي خيراً من هذه الجنة ، بشهادة أعطائي الجنة في هذه الدنيا دونكم ، وهذا دليل على كرامتي عليه.

هذا ما كان يتفوّه به وهو يمشي في جنته مختالاً ، وعند ذاك يواجهه أخوه بالحكمة والموعظة الحسنة.

و يقول : كيف كفرت بالله سبحانه مع أنّك كنت تراباً فصرت نطفة ، ثمّ رجلاً سوياً ، فمن نقلك من حال إلى حال وجعلك سوياً معتدل الخلقة ؟

وبما انّه ليس في عبارته إنكار للصانع صراحة ، بل إنكار للمعاد ، فكأنّه يلازم إنكار الربّ.

فإن افتخرت أنت بالمال ، فأنا أفتخر بأنّي عبد من عباد الله لا أُشرك به أحداً.

ثمّ ذكّره بسوء العاقبة ، وانّك لماذا لم تقل حين دخولك البستان ما شاء الله ، فانّ الجنتين نعمة من نعم الله سبحانه ، فلو بذلت جهداً في عمارتها فإنّما هو بقدرة الله تبارك وتعالى.

ثمّ أشار إلى نفسه ، وقال : أنا وإن كنت أقل منك مالاً وولداً ، ولكن أرجو

١٩٤

أن يجزيني ربي في الآخرة خيراً من جنتك ، كما أترقب أن يرسل عذاباً من السماء على جنتك فتصبح أرضاً صلبة لا ينبت فيها شيء ، أو يجعل ماءها غائراً ذاهباً في باطن الأرض على وجه لا تستطيع أن تستحصله.

قالها أخوه وهو يندّد به ويحذّره من مغبّة تماديه في كفره وغيّه ويتكهن له بمستقبل مظلم.

فعندما جاء العذاب وأحاط بثمره ، ففي ذلك الوقت استيقظ الاَخ الكافر من رقدته ، فأخذ يقلّب كفّيه تأسّفاً وتحسّراً على ما أنفق من الأموال في عمارة جنتيه ، وأخذ يندم على شركه ، ويقول : يا ليتني لم أكن مشركاً بربي ، ولكن لم ينفعه ندمه ولم يكن هناك من يدفع عنه عذاب الله ولم يكن منتصراً من جانب ناصر.

هذه حصيلة التمثيل ، وقد بيّنه سبحانه على وجه الإيجاز ، بقوله :( المالُ والبنونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنيا وَالباقيِاتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً ) .(١)

وقد روى المفسرون انّه سبحانه أشار إلى هذا التمثيل في سورة الصافات في آيات أخرى ، وقال :( قالَ قائلٌ مِنْهُمْ إِنّي كانَ لِي قَرينٌ * يَقول أءِنّكَ لَمِنَ المُصَدّقينَ * أإِذا مِتْنا وَكُنّا تُراباً وَعِظاماً أإنّا لَمَدِينُونَ * قالَ هَل أَنْتُمْ مُطَّلِعُون * فَاطَّلَعَ فرآهُ فِي سَواءِ الجَحِيم ) .(٢)

إلى هنا تبيّـن مفهوم المثل ، وأمّا تفسير مفردات الآية وجملها ، فالاِمعان فيما ذكرنا يغني الباحث عن تفسير الآية ثانياً ، ومع ذلك نفسرها على وجه الإيجاز.

__________________

١ ـ الكهف : ٤٦.

٢ ـ الصافات : ٥١ ـ ٥٥.

١٩٥

( واضرب لهم ) أي للكفار مع المؤمنين( مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما ) أي للكافر( جنتين ) أي بستانين( من أعناب وحففناهما ) أحدقناهما بنخل( وجعلنا بينهما زرعاً ) يقتات به( كلتا الجنتين آتت أكلها ) ثمرها( لم تظلم ) تنقص( منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً ) يجري بينهما( وكان له ) مع الجنتين( ثمر فقال لصاحبه ) المؤمن( وهو يحاوره ) يفاخره( أنا أكثر منك مالاً وأعزّ نفراً ) عشيرة( ودخل جنته ) بصاحبه يطوف به فيها ويريه ثمارها.( وهو ظالم لنفسه ) بالكفر( قال ما أظن أن تبيد ) تنعدم( هذه أبداً وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربّي ) في الآخرة على زعمك( لاَجدنّ خيراً منها منقلباً ) مرجعاً( قال له صاحبه وهو يحاوره ) يجادله( أكفرت بالذى خلقك من تراب ) لأنّ آدم خلق منه( ثم من نطفة ثمّ سوّاك ) عدلك وصيّرك( رجلاً ) . أمّا أنا فأقول( لكنّا هو الله ربي ولا أُشرك بربي أحداً ولولا إذ دخلت جنتك قلت ) عند اعجابك بها( ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ) .( إن ترن أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى ربي أن يؤتين خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً ) وصواعق( من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) أي أرضا ً ملساء لا يثبت عليهاقدم( أو يصبح ماؤها غوراً ) بمعنى غائراً( فلن تستطيع له طلباً ) حيلة تدركه بها( وأحيط بثمره ) مع ما جنته بالهلاك فهلكت( فأصبح يقلب كفيه ) ندماً وتحسراً( على ما أنفق فيها ) في عمارة جنته( وهي خاوية ) ساقطة( على عروشها ) دعائمها للكرم بأن سقطت ثمّ سقط الكرم( ويقول يا ليتني ) كأنّه تذكّر موعظة أخيه( لم أُشرك بربي أحداً ولم تكن له فئة ) جماعة( ينصرونه من دون الله ) عند هلاكها و( ما كان منتصراً ) عند هلاكها بنفسه( هنالك ) أي يوم القيامة( الولاية ) الملك( لله الحقّ ) .(١)

__________________

١ ـ السيوطي : تفسير الجلالين : تفسير سورة الكهف.

١٩٦

الكهف

٣٣

التمثيل الثالث والثلاثون

( وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الحَياةِ الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرّياحُ وَكانَ اللهُ عَلى كُلّ شَيءٍ مُقتدراً ) .(١)

تفسير الآيات

« الهشيم » : ما يكسر ويحطم في يبس النبات ، و « الذر » والتذرية : تطيير الريح الأشياء الخفيفة في كلّ جهة.

تحدّث التمثيل السابق عن عدم دوام نعم الدنيا التي ربما يعتمد عليها الكافر ، ولأجل التأكيد على تلك الغاية المنشودة أتى القرآن بتمثيل آخر يجسم فيها حال الحياة الدنيوية وعدم ثباتها بتمثيل رائع يتضمن نزول قطرات من السماء على الأراضي الخصبة المستعدة لنمو البذور الكامنة فيها ، فعندئذٍ تبتدئ الحركة فيها بشقها التراب وإنباتها وانتفاعها من الشمس إلى أن تعود البذور باقات من الاَزهار الرائعة ، فربما يتخيل الإنسان بقاءها ودوامها ، فإذا بالأعاصير والعواصف المدمِّرة تهب عليها فتصيرها أعشاباً يابسة ، وتبيدها عن بكرة أبيها وكأنّها لم تكن موجودة قط. فتنثر الرياح رمادها إلى الأطراف ، فهذا النوع من الحياة والموت يتكرر

__________________

١ ـ الكهف : ٤٥.

١٩٧

على طول السنة ويشاهده الإنسان باُمّ عينه ، دون أن يعتبر بها ، فهذا ما صيغ لأجله التمثيل.

يقول سبحانه :( وَاضربْ لَهُم مثل الحياة الدُّنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض ) على وجه يلتف بعضه ببعض ، يروق الإنسان منظره ، فلم يزل على تلك الحال إلى أن ينتقل إلى حالة لا نجد فيها غضاضة ، وهذا ما يعبر عنه القرآن ، بقوله :( فأصبح هشيماً ) أي كثيراً مفتتاً تذوره الرياح فتنقله من موضعه إلى موضع ، فانقلاب الدنيا كانقلاب هذا النبات( وكان الله على كلّ شيء مقتدراً ) .

ثمّ إنّه سبحانه يشبّه المال والبنين بالورود والأزهار التي تظهر على النباتات ووجه الشبه هو طروء الزوال بسرعة عليها ، فهكذا الأموال والبنون.

وإنّما هي زينة للحياة الدنيا ، فإذا كان الأصل مؤقتاً زائلاً ، فما ظنّك بزينته ، فلم يكتب الخلود لشيء مما يرجع إلى الدنيا ، فالاعتماد على الأمر الزائل ليس أمراً صحيحاً عقلائياً ، قال سبحانه :( المال وَالبَنُون زينَة الحَياة الدُّنيا ) .

نعم ، الخلود للأعمال الصالحة بمالها من نتائج باهرة في الحياة الأخروية ، قال سبحانه :( وَالباقياتُ الصّالِحاتُ خَيرٌ عِنْدَ رَبّك ثَواباً وخَيرٌ مَردّا ) .(١)

ثمّ إنّه سبحانه يؤكد على زوال الدنيا وعدم دوامها من خلال ضرب أمثلة ، فقد جاء روح هذا التمثيل في سورة يونس الماضية.(٢)

__________________

١ ـ مريم : ٧٦.

٢ ـ انظر التمثيل الرابع عشر وسورة يونس ٢٥ ، كما يأتي مضمونها عند ذكر التمثيل الوارد في سورة الحديد ، الآية ٢٠.

١٩٨

ايقاظ

ثمّ إنّه ربما يُعدُّ من أمثال القرآن قوله :( وَلَقَد صرفنا في هذا القرآن للناسِ من كلّ مثل وكانَ الإنسان أكثر شيء جدلاً ) .(١)

والحق انّه ليس تمثيلاً مستقلاً وإنّما يؤكد على ذكر نماذج من الأمثال خصوصاً فيما يرجع إلى حياة الماضين التي فيها العبر.

ومعنى قوله :( ولقد صرّفنا ) أي بيّنا في هذا القرآن للناس من كلّ مثل وإنّما عبر عن التبيين بالتصريف لأجل الإشارة إلى تنوّعها ليتفكر فيها الإنسان من جهات مختلفة ومع ذلك( وَكانَ الإنسانُ أكثرَ شىءٍ جَدلاً ) أي أكثر شيء منازعة ومشاجرة من دون أن تكون الغاية الاهتداء إلى الحقيقة.

__________________

١ ـ الكهف : ٥٤.

١٩٩

الحج

٣٤

التمثيل الرابع والثلاثون

( يا أَيُّهَا النّاسُ ضُرِبَ مَثلٌ فَاستَمِعُوا لَهُ إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلوِ اجْتَمعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوه مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اللهَ حقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللهَ لَقَوِيّ عَزِيز ) .(١)

تفسير الآيات

كان العرب في العصر الجاهلي موحدين في الخالقية ، ويعربون عن عقيدتهم ، بأنّه لا خالق في الكون سوى الله سبحانه ، وقد حكاه سبحانه عنهم في غير واحد من الآيات ، قال سبحانه :( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمواتِ وَالأرضَ لَيقُولُنَّ خَلقهُنَّ العَزِيزُ العَلِيم ) .(٢)

ولكنّهم كانوا مشركين في التوحيد في الربوبية ، وكأنّه سبحانه ـ بزعمهم ـ خلق السماوات والأرض وفوّض تدبيرهما إلى الآلهة المزعومة ، ويكشف عن ذلك إطلاق المشركين لفظ الاَرباب في جميع العهود على آلهتهم المزعومة ، يقول سبحانه :( أَأَرْبابٌ مُتَفَرّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الواحِدُ القَهّار ) (٣) والآية وإن كانت تفصح عن

____________

١ ـ الحج : ٧٣ ـ ٧٤.

٢ ـ الزخرف : ٩.

٣ ـ يوسف : ٣٩.

٢٠٠

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

كافراً؟...).

(لا...).

(أرأيت لو قال: ما أدري هذه السورة قرآناً أم لا، أكان عندك كافراً؟...).

(بلى...).

(يا إسحاق خبرني عن حديث الطائر المشوي أصحيح عندك؟).

(بلى...).

(بان والله عنادك، لا يخلو هذا من أن يكون كما دعاه النبي أو يكون مردوداً، أو عرف الله الفاضل من خلقه، وكان المفضول أحب إليه، أو تزعم أن الله لم يعرف الفاضل من المفضول، فأيّ الثلاث أحب إليك؟...).

وحار إسحاق ولم يهتد إلى الجواب، وبقي يتأمّل فوجد مسلكاً يدافع يه عن فكرته، فقال: (يا أمير المؤمنين إنّ الله تعالى يقول في أبي بكر:( ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (١) فنسبه الله إلى صحبة نبيّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ).

وسارع المأمون في الرد عليه قائلاً: (سبحان الله!! ما أقل علمك باللغة والكتاب، أما يكون الكافر صاحباً للمؤمن، فأيّ فضيلة في هذا؟ أما سمعت قول الله تعالى:( قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً ) (٢) ، فقد جعله له صاحباً، وقال الهزلي شعراً:

ولقد غدوت وصاحبي وحشية

تحت الرداء بصيرة بالمشرق

وقال الأزدي:

ولقد دعوت الوحش فيه وصاحبي

محض القوادم من هجانٍ هيكل

فصيّر فرسه صاحبه، وأمّا قوله:( إنّ الله معنا ) فإنّ الله تبارك وتعالى مع البر والفاجر، أما سمعت قوله تعالى:( مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا

____________________

(١) سورة التوبة: آية ٤٠.

(٢) سورة الكهف: آية ٣٤.

٢٤١

خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ) (١) .

وأمّا قوله:( لا تحزن ) فأخبرني عن حزن أبي بكر كان طاعة أو معصية، فإن زعمت أنّه طاعة فقد جعلت النبي (ص) ينهى عن الطاعة، وهو خلاف صفة الحكيم، وإن زعمت أنّه معصية فأيّ فضيلة للعاصي؟ وأخبرني عن قوله تعالى:( فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ ) على مَن؟.

وانبرى إسحاق فقال: (نزلت - أي السكينة - على أبي بكر؛ لأنّ النبي (ص) منزّه عن صفة السكينة.

فأجابه المأمون:

(اخبرني عن قوله تعالى:( وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ ) (٢).

أتدري مَن المؤمنون الذين أرادهم الله في هذا الموضع؟).

(لا...).

وأخذ المأمون يشرح لإسحاق معنى الآية الكريمة قائلاً: (إنّ الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي (ص) إلاّ سبعة من بني هاشم، عليعليه‌السلام يضرب بسيفه، والعباس آخذ بلجام بغلة رسول الله (ص) والخمسة محدقون بالنبي (ص) خوفاً من أن يناله سلاح الكفّار حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله (ص) الظفر، عنى بالمؤمنين في هذا الموضع عليا، ومَن حضر من بني هاشم، فمَن كان أفضل أمن كان مع النبي (ص) فنزلت السكينة على النبي (ص) وعليه، أم مَن كان في الغار مع النبي (ص) ولم يكن أهلاً لنزولها عليه يا إسحاق، مَن أفضل؟ مَن كان مع النبي (ص) في الغار أو مَن نام على مهاده وفراشه، ووقاه بنفسه حتى تم للنبي (ص) ما عزم عليه من الهجرة.

إنّ الله تبارك وتعالى أمر نبيّه (ص) أن يأمر عليّاً بالنوم على فراشه، ووقايته بنفسه فأمره بذلك، فقال علي: أتسلم يا نبي الله؟ فقال: نعم، قال: سمعاً وطاعة، ثم أتى مضجعه، وتسجّى بثوبه وأحدق المشركون به لا يشكون في أنّه النبي (ص)

____________________

(١) سورة المجادلة: آية ٧.

(٢) سورة التوبة: آية ٢٥ - ٢٦.

٢٤٢

وقد اجمعوا على أن يضربه من كل بطن من قريش رجل ضربة؛ لئلاّ يطلب الهاشميون بدمه، وعليعليه‌السلام يسمع بأمر القوم فيه من التدبير في تلف نفسه، فلم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار، وهو مع النبي (ص) وعلي وحده، فلم يزل صابراً محتسباً، فبعث الله تعالى ملائكته تمنعه من مشركي قريش، فلمّا أصبح قام فنظر القوم إليه فقالوا أين محمد؟ قال: وما علمي به؟ قالوا: فأنت غدرتنا ثم لحق بالنبي (ص)، فلم يزل عليعليه‌السلام أفضل لما بدا منه، إلاّ ما يزيد خيراً حتى قبضه الله تعالى إليه، وهو محمود مغفور له.

يا إسحاق أما تروي حديث الولاية؟).

(نعم...).

(أروه...).

فرواه له، فقال المأمون:

(أما ترى أنّه أوجب لعليعليه‌السلام على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما عليه؟).

فقال إسحاق:

(إنّ الناس يقولون: إنّ هذا قاله بسبب زيد بن حارثة).

فأنكر المأمون ذلك وقال:

(وأين قال النبي (ص) هذا؟).

فأجاب إسحاق:

(قاله بغدير خم بعد منصرفه من حجّة الوداع).

وسارع المأمون لإبطال ذلك قائلاً:

(متى قتل زيد بن حارثة؟... أليس قد قتل قبل غدير خم؟).

(بلى...).

(أخبرني لو رأيت ابناً لك أتت عليه خمس عشرة سنة، يقول: مولاي مولى ابن عمّي أيّها الناس فاقبلوا أكنت تكره له ذلك؟).

(بلى...).

وكرّ المأمون منكراً عليه قائلاً:

(أتنزّه ابنك عمّا لا تنزّه عنه النبي (ص)...).

والتفت إليه المأمون ليقيم عليه الحجّة قائلاً:

٢٤٣

(أتروي قول النبي (ص) لعلي أنت منّي بمنزلة هارون من موسى)؟.

(نعم...).

(أما تعلم أنّ هارون أخو موسى لأبيه وأُمّه؟).

(بلى...).

(فعلي كذلك؟).

(لا...).

سارع المأمون قائلاً: (هارون نبي، وليس علي كذلك، فما المنزلة الثالثة إلاّ الخلافة، لقد قال المنافقون: إنّه استخلفه استثقالاً، فأراد أن يطيب نفسه، وهذا كما حكى الله تعالى عن موسى، حيث قال: لهارون( اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ) (١) .

وانبرى إسحاق قائلاً: (إنّ موسى خلف هارون في قومه، وهو حي، ثم مضى، إلى ميقات ربّه تعالى، وإنّ النبي (ص) خلف عليّاً حين خرج إلى غزاته...).

وردّ عليه المأمون: (اخبرني عن موسى حين خلف هارون أكان معه حيث مضى إلى ميقات ربّه عزّ وجل أحد من أصحابه؟).

(نعم...).

(أو ليس قد استخلفه على جميعهم؟...).

(بلى...).

(فكذلك علي خلفه النبي (ص) حين خرج إلى غزاته في الضعفاء والنساء والصبيان، إذ كان أكثر قومه معه، وإن كان قد جعله خليفة على جميعهم، والدليل على أنّه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (علي منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبي بعدي) وهو وزير النبي (ص) أيضاً بهذا القول؛ لأنّ موسى قد دعا الله تعالى، وقال فيما دعا( وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي *

____________________

(١) سورة الأعراف: آية ١٤٢.

٢٤٤

هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وأشركه في أمري ) (١) فإذا كان علي منه بمنزلة هارون من موسى فهو وزيره، كما كان هارون وزير موسى، وهو خليفته كما كان هارون خليفة موسى...).

مع علماء الكلام:

وبعدما حاجج المأمون علماء الحديث، وتغلّب عليهم بمناقشته للأحاديث التي تمسّكوا بها، في الاستدلال على ما يذهبون إليه، التفت بعد ذلك إلى علماء الكلام فقال لهم:

(أسألكم أو تسألوني؟...).

(بل نسألك...).

س - والتفت عالم منهم، فقال للمأمون: (أليست إمامة عليعليه‌السلام من قبل الله عزّ وجل؟ نقل ذلك عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من نقل الفرائض مثل الظهر أربع ركعات، وفي مأتي درهم خمسة دراهم، والحج إلى مكة؟) فقال المأمون: بلى، فقال المتكلّم: فما بالهم لم يختلفوا في جميع الفرائض، واختلفوا في خلافة علي وحدها؟...).

ج - المأمون:

(لأنّ جميع الفرائض لا يقع فيها من التنافس والرغبة مثل ما يقع في الخلافة).

س - متكلّم:

وانبرى متكلّم آخر فقال: ما أنكرت أن يكون النبي (ص) أمرهم باختيار رجل منهم يقوم مقامه رأفة ورقّة عليهم من غير أن يستخلف هو بنفسه، فيعصي

خليفته فينزل بهم العذاب...).

ج - المأمون:

وأجاب المأمون: أنكرت ذلك من قبل أنّ الله تعالى أرأف بخلقه من النبي (ص)، وقد بعث نبيّه إليهم وهو يعلم أنّ فيهم عاص ومطيع، فلم يمنعه تعالى ذلك من إرساله.

____________________

(١) سورة طه: آية ٢٩ - ٣٢.

٢٤٥

وعلّة أخرى: لو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم، فلو أمر الكل مَن كان المختار؟ ولو أمر بعضاً دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا المعنى علامة، فإن قلت: الفقهاء فلا بد من تحديد الفقيه وسمته).

وانبرى متكلّم فقال: (روى أنّ النبي (ص) قال: ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح...).

فردّ عليه المأمون هذه المقالة الفاسدة التي تستلزم التصويب المجمع على بطلانه، وهو أن ليس لله تعالى في كل واقعة حكم يصيبه مَن يصيبه، ويخطئه مَن يخطئه، وهذا جواب المأمون: (هذا القول لا بد أن يكون يريد كل المؤمنين أو البعض، فإن أراد الكل فهذا مفقود؛ لأنّ الكل لا يمكن اجتماعهم، وإن كان البعض، فقد روى كل في صاحبه حسناً مثل رواية الشيعة في علي، ورواية الحشوية في غيره، فمتى يثبت ما تريدون من الإمامة؟).

وقال متكلّم آخر: (فيجوز أن تزعم أنّ أصحاب محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله أخطأوا).

فأجابه المأمون: (كيف نزعم أنّهم أخطأوا، واجتمعوا على ضلالة وهم لم يعلموا فرضاً ولا سنّة؛ لأنّك تزعم أنّ الإمامة لا فرض من الله تعالى، ولا سنّة من الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنّة خطأ؟.

وسارع متكلّم آخر فقال للمأمون: (إن كنت تدّعي لعلي من الإمامة دون غيره فهات بيّنتك على ما تدّعي...).

مناقشة المأمون:

(ما أنا بمدع، ولكنّي مقر، ولا بينة على مقر، والمدّعي مَن يزعم أنّ إليه التولية والعزل، وأنّ إليه الاختيار، والبيّنة لا تعرى من أن تكون من شركائه، فهم خصماء، أو تكون من غيرهم، والغير معدوم، فكيف يؤتى بالبيّنة على هذا؟).

وقال متكلّم آخر:

(فما كان الواجب على عليعليه‌السلام بعد مضي رسول الله (صلّى الله عليه

٢٤٦

وآله)؟).

وأجاب المأمون:

(قد فعله - أي فعل ما يجب عليه -).

وأشكل المتكلّم قائلاً:

(أفما وجب عليه أن يعلم الناس أنّه إمام؟).

وسارع المأمون قائلاً:

(إنّ الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه، ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك، وإنّها تكون بفعل من الله تعالى فيه، كما قال لإبراهيم:( إنّي جاعلك للناس إماماً ) (١) ، وكما قال تعالى لداود:( يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ) (٢) وكما قال عزّ وجل للملائكة في آدم( إنّي جاعل في الأرض خليفة ) (٣) .

فالإمام إنّما يكون إماماً من قبل الله تعالى، وباختياره إيّاه في بدء الصنيعة والتشريف في النسب والطهارة في المنشأ والعصمة في المستقبل، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقّاً للإمامة، وإذا عمل خلافها اعتزل فيكون خليفة من قبل أفعاله).

وأشكل متكلّم آخر فقال:

(لم أوجبت الإمامة لعلي بعد الرسول (ص)؟).

وأجاب المأمون:

(لخروجه من الطفولة إلى الإيمان كخروج النبي من الطفولية إلى الإيمان، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجّة، واجتنابه الشرك كبراءة النبي (ص) من الضلالة، واجتنابه للشرك؛ لأنّ الشرك ظلم ولا يكون الظالم إماماً، ولا من عبد وثناً بإجماع، ومن شرك فقد حلّ من الله تعالى محلّ أعدائه، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة حتى يجيء إجماع آخر مثله، ولأنّ من حكم عليه مرة، فلا يجوز أن يكون حاكماً، فيكون الحاكم محكوماً عليه مرة، فلا يكون حينئذٍ فرق بين الحاكم والمحكوم عليه...).

____________________

(١) سورة البقرة: آية ١٢٤.

(٢) سورة ص: آية ٢٦.

(٣) سورة البقرة: آية ٣٠.

٢٤٧

وأشكل شخص أخر من المتكلّمين فقال:

(لم لا يقاتل عليعليه‌السلام أبا بكر وعمر، كما قاتل معاوية؟).

وأجاب المأمون:

(المسألة محال؛ لأنّ لِمَ اقتضاء، ولم يفعل نفي، والنفي لا يكون له علة، إنّما العلة، للإثبات، وإنّما يجب أن ينظر في أمر علىعليه‌السلام امن قبل الله أم من قبل غيره، فإن صحّ أنّه من قبل الله تعالى، فالشك في تدبيره كفر لقوله تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما)(١) فأفعال الفاعل تبع له صلة، فإن كان قيامه عن الله تعالى، فأفعاله عنه، وعلى الناس الرضى والتسليم، وقد ترك رسول الله (ص) القتال يوم (الحديبية) يوم صد المشركون هديه عن البيت، فلمّا وجد الأعوان وقوي حارب، كما قال الله تعالى: في الأول: (فاصفح الصفح الجميل)(٢) ، ثم قال عز وجل:( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ) (٣) .

وانبرى متكلّم آخر فقال:

(إذا زعمت أنّ إمامة عليعليه‌السلام من قبل الله تعالى، وأنّه مفترض الطاعة، فلم لا يجوز إلاّ التبليغ والدعاء للأنبياءعليهم‌السلام ، وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته؟...).

جواب المأمون:

(إنّا لم نزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام أمر بالتبليغ فيكون رسولاً، ولكنّه وضع علماً بين الله تعالى وبين خلقه، فمن تبعه كان مطيعاً، ومَن خالفه كان عاصياً، فإن وجد أعواناً يتقوّى بهم جاهد، وإن لم يجد أعواناً فاللوم عليهم لا عليه؛ لأنّهم أمروا بطاعته على كل حال ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلاّ بقوّة، وهو بمنزلة البيت، على الناس الحج إليه، فإذا حجّوا أدّوا ما عليهم، وإذا لم يفعلوا كانت اللائمة عليهم لا على البيت).

____________________

(١) سورة النساء: آية ٦٥.

(٢) سورة الحجر: آية ٨٥.

(٣) سورة التوبة: آية ٥.

٢٤٨

وقال متكلّم آخر:

(إذا وجب أنّه لا بد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار، كيف يجب بالاضطرار أنّه (علي) دون غيره؟...).

جواب المأمون:

وردّ المأمون هذه الشبهة بقوله: إنّ الله تعالى لا يفرض مجهولاً، ولا يكون المفروض - أي الإمامة وغيرها من التكاليف - ممتنعا، إذ المجهول ممتنع من قبل أن الله تعالى لا يفرض مجهولاً، ولا يكون المفروض ممتنعاً، فلا بد من دلالة الرسول (ص) على الفرض ليقطع العذر بين الله وبين عباده، أرأيت لو فرض الله تعالى على الناس صوم شهر فلم يعلم الناس أي شهر هو؟ ولم يوسم بوسم وكان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد الله تعالى، فيكون الناس حينئذٍ مستغنين عن الرسول المبين لهم، وعن الإمام الناقل لهم خبر الرسول إليهم...).

وأشكل متكلّم أخر فقال:

(من أين أوجبت أنّ عليا كان بالغاً حين دعاه النبي (ص) فإنّ الناس يزعمون أنّه كان صبياً حين دعي، ولم يكن جاز عليه الحكم، ولا بلغ مبلغ الرجال...).

جواب المأمون:

(أنّه لا يرى في ذلك الوقت من أن يكون ممّن أرسل إليه النبي (ص) ليدعوه، فإن كان كذلك فهو محتمل التكليف، قوي على أداء الفرائض الخ...).

وجوم العلماء:

ووجم علماء الحديث وعلماء الكلام، فقد أفحمهم المأمون، وألزمهم الحجّة، واستدلّ على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بأوثق الأدلة وأنصعها.

أسئلة المأمون للعلماء:

ووجّه المأمون أسئلة إلى العلماء، كان منها ما يلي:

١ - س: أليس قد روت الأمّة بإجماع منها أنّ النبي (ص) قال: (مَن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار) فقال العلماء بأجمعهم:

(بلى يا أمير المؤمنين).

وعرض عليهم المأمون حديثاً نبوياً آخر فقال:

(ورووا عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال: (مَن عصى الله بمعصية صغرت أو

٢٤٩

كبرت ثم اتخذها ديناً، ومضى مصرّاً عليها فهو مخلد بين أطباق الجحيم).

وصدق العلماء الحديث وأقرّوا به، فقال لهم المأمون:

خبروني عن رجل تختاره الأمّة، هل يجوز أن يقال له: خليفة رسول الله (ص) ومن قبل الله عزّ وجل، ولم يستخلفه الرسول (ص)؟ فإن قلتم نعم، فقد كابرتم، وإن قلتم: لا وجب أن يكون فلان غير خليفة لرسول الله (ص).

وأقبل المأمون يعظهم بعد حديث جرى بينه وبين العلماء في هذا الموضوع قائلاً: (اتقوا الله، وانظروا لأنفسكم، ودعوا التقليد، وتجنّبوا الشبهات، فو الله ما يقبل الله تعالى إلاّ من عبد لا يأتي إلاّ بما يعقل، ولا يدخل إلاّ فيما يعلم أنّه حق، والريب شك، وإدمان الشك كفر بالله تعالى، وصاحبه في النار...).

والتفت إليهم بعد هذا التأنيب، قائلاً:

(أخبروني عن النبي (ص) هل استخلف حين مضى؟ أم لا).

فقالوا جميعاً:

(لم يستخلف).

وأشكل عليهم المأمون قائلاً:

(فتركه ذلك - أي الاستخلاف لأحد من بعده - هدى أم ضلال؟...).

فأجابوا:

(بلى هدى).

وانبرى المأمون يقيم الدليل على بطلان ما ذهبوا إليه قائلاً:

(فعلى الناس أن يتبعوا الهدى، ويتركوا الباطل ويتنكّبوا الضلال؟...).

فأجابوا:

(وقد فعلوا ذلك - أي اتبعوا الهدى -).

وأخذ المأمون يقيم أروع الحجج والبراهين على زيف ما قالوه: قائلاً:

(لم استخلف الناس بعده - أي بعد النبي (ص) - وقد تركه هو، فترك فعله ضلال، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى... وإذا كان ترك الاستخلاف هدى، فلم استخلف أبو بكر ولم يفعله النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ ولم جعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافاً على صاحبه، لأنّكم زعمتم أنّ النبي (ص) لم يستخلف،

٢٥٠

وأنّ أبا بكر استخلف، وعمر لم يترك الاستخلاف كما فعل أبو بكر، وجاء بمعنى ثالث، وهو الشورى التي نصّ عليها لتعيين الخليفة من بعده فخبروني أي ذلك ترونه صواباً، فإن رأيتم فعل النبي (ص) صواباً فقد أخطأتم أبا بكر، وكذلك القول في بقية الأقاويل وخبروني أيّهما أفضل ما فعله النبي (ص) بزعمكم من ترك الاستخلاف، أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف؟.

وخبروني هل يجوز أن يكون تركه من الرسول (ص) هدى وفعله من غيره هدى؟ فيكون هدى ضد هدى؟ فأين الضلال حينئذٍ.

وخبروني هل ولي أحد بعد النبي (ص) باختيار الصحابة منذ قبض النبي (ص) إلى اليوم؟ فإن قلتم: لا، فقد أوجبتم أنّ الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي (ص).

وإن قلتم: نعم، كذبتم الأمة، وأبطل قولكم: الوجود الذي لا يدفع.

وخبروني عن قول الله عزّ وجل:( قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ ) (١) .

أصدق هذا أم كذب؟.

فأجابوا:

(نعم - إنّه صدق -).

وانبرى المأمون قائلاً:

(أليس ما سوى الله لله إذ كان محدثه ومالكه؟).

(نعم...).

وثار المأمون فقال:

(ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة، تفرضون طاعته، وتسمونه خليفة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنتم استخلفتموه وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه، وعمل بخلاف محبتكم، ومقتول إذا أبى الاعتزال...).

وتكلّم بعد هذا الكلام بعنف مع القوم، ثم استقبل القبلة ورفع يديه قائلاً: (اللّهمّ إنّي قد أرشدتهم، اللّهمّ إنّي قد أخرجت ما وجب عليّ إخراجه من عنقي.

____________________

(١) سورة الأنعام: آية ١٢.

٢٥١

اللّهمّ إنّي أدين بالتقرّب إليك بتقديم عليعليه‌السلام على الخلق بعد نبيك محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كما أمرنا به رسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله ...(١) ).

ووجم القوم، ولم يجدوا منفذاً يسلكون فيه للدفاع عمّا يرونه، وكان معظم استدلال المأمون على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام قائماً على المنطق والدليل، ولا أكاد أعرف حقيقة ناصعة واضحة وضوح الشمس كإمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقد فرضته مواهبه وعبقرياته، وشدة إنابته إلى الله وزهده، وتخلّيه من الدنيا، كل ذلك جعله أولى بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من غيره، فلم يملك أحد من الصحابة، ولا من أقرباء النبي (ص) وأرحامه مثل ما يملكه من الطاقات الندية الخلاقة من العلم والنزاهة والشرف، وغير ذلك من الصفات الكريمة والنزعات العظيمة، وبهذه الجهة كان أولى بمركز النبي ومقامه، وأمّا قرابته من النبي فليس لها أي أثر في ترجيحه على غيره من المسلمين، فإنّ هذه الجهة لا تصلح دليلاً تثبت به أحقيّة الإمامعليه‌السلام بالخلافة.

وعلى أيّ حال فإن ما أقامه المأمون من هذه الأدلة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام لم يكن المقصود منها إلاّ التقرّب إلى الإمام الرضاعليه‌السلام حتى ينال ثقته منه، وقد صرّح بذلك إسحاق بن حماد فقال: لم يكن الغرض في تفضيله الإمام عليعليه‌السلام على جميع الصحابة إلاّ تقرّباً للإمام أبي الحسن الرضاعليه‌السلام ، وكان الإمام نفسه يقول لأصحابه الذين يثق بهم: لا تغترّوا بقوله، فما يقتلني والله غيره، ولكن لا بد لي من الصبر حتى يبلغ الكتاب أجله(٢) .

عقده بولاية العهد للإمام:

وثمّة دليل آخر اعتمد عليه الذاهبون إلى تشيّع المأمون، وهو عقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وبذلك فقد عرّض الخلافة التي تقمّصها العباسيون إلى الخطر، وتسليمها إلى السادة العلويين.

هذه أهم الأدلة التي استند إليها القائلون بتشيّع المأمون وأنّه علوي الفكر والرأي:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٨٤ - ١٩٩ البحار.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٨٥.

٢٥٢

زيف تشيّعه:

والذي نراه بمريد من التأمّل والتحقيق أنّ المأمون لم يكن من الشيعة، ولم يعتنق ولاء أهل البيتعليهم‌السلام ، وإنّما بدرت هذه البوادر التي ذكرها لأغراض سياسية، لا علاقة لها مطلقاً بدعوى التشيّع، ويدعم ذلك ما يلي:

١ - إنّه من الأسرة العباسية التي عرفت بالبغض والعداء لأهل البيتعليهم‌السلام ، فلم تنجب هذه الأسرة إلاّ الجبابرة الطغاة الذين صبّوا جام غضبهم على آل النبي (ص) وعترته، فقد عمدوا إلى قتلهم وتشريدهم، والتنكليل بهم، وقد اقترفوا معهم ما لم تقترفه الأسرة الأموية، بل إنّ الأسرة الأموية على ما عرفت به من العداء العارم لأبناء النبي (ص) فإنّها لم تقابلهم بمثل ما قابلتهم به بنو العباس، وقد كانت لبني أمية من الفواضل ما ليست لبني العباس، وقد أوضحنا بعض ما عانوه العلويون منهم في فصول هذا الكتاب.

وعلى أي حال، فإنّه من المستبعد جداً أن يتحوّل المأمون عن خطّة آبائه، ويغيّر منهجهم وسلوكهم بين عشيّة وضحاها فيكون علوي الرأي، وموالياً لخصوم آبائه، ويعرّض دولته إلى الخطر.

٢ - أمّا انتقاصه لمعاوية، والحكّام الذين سبقوه، وتفضيل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام عليهم، فإنّه لم يكن جديّاً، وإنّما كان صورياً لأغراض سياسية، فقد روى التغلبي، وكان معاصراً له، قال المأمون: (وظنّوا أنّه لا يجوز تفضيل علي إلاّ بانتقاص غيره من السلف، والله ما استجيز أن انتقص الحجّاج بن يوسف، فكيف بالسلف الطيب)(١) .

إنّه يتمنّع من انتقاص الإرهابي المجرم الحجّاج الذي أغرق العراق لما سفكه من دماء الأبرياء.

ونسب له من الشعر ما يدعم ذلك، فقد قال:

أصبح ديني الذي أدين به

ولست منه الغداة معتذرا

حب علي بعد النبي ولا

اشتم صدّيقاً ولا عمرا

ثم ابن عفّان في الجنان مع الـ

أبرار ذاك القتيل مصطبرا

____________________

(١) حياة الإمام الرضا نقلاً عن عصر المأمون ١ / ٣٦٩.

٢٥٣

ألا ولا أشتم الزبير ولا

طلحة إن قال قائل غدرا

وعائش الأم لست أشتمها

من يفتريها فنحن منه برا(١)

إلى غير ذلك من الشواهد والأدلة التي تثبت زيف تشيّعه، وأنّه لا علاقة له مطلقاً بأهل البيتعليهم‌السلام .

٣ - اغتياله للإمام الرضاعليه‌السلام بعد ما نفذت أغراضه السياسية ولم يكتف بذلك، وإنّما أوعز إلى عامله على مصر بغسل المنابر التي كان يخطب عليها بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام (٢) ، وهذا يكشف عمّا يكنّه في أعماق نفسه من البغض والعداء للإمام.

لقد استبان بصورة واضحة للأسرة العلوية زيف ما يدّعيه المأمون من الولاء لهم، وأنّه كان صورياً لا واقع له، ويقول الرواة إنّه كتب إلى عبد الله شقيق الإمام الرضا يعطيه الأمان، ويضمن له ولاية العهد بعده كما صنع مثل ذلك بأخيه الإمام الرضا، وقد جاء في كتابه: (وما ظننت أنّ أحداً من آل أبي طالب يخافني بعدما عملته بالرضا...).

فأجابه برسالة كشف فيها عن نوايا المأمون، وهذا نصّها: (وصل كتابك، وفهمته تختلني فيه عن نفسي ختل القانص، وتحتال عليّ حيلة المغتال القاصد لسفك دمي. وعجبت من ذلك العهد، وولاية لي بعدك، كأنّك تظن أنّه لم يبلغني ما فعلته بالرضا، ففي أي شيء ظننت أنّي أرغب من ذلك؟ أفي الملك الذي قد غرّتك نضرته وحلاوته؟ فو الله لئن أقذف وأنا حي، في نار تتأجّج أحبّ إليّ من أن ألي أمراً بين المسلمين أو أشرب شربة من غير حلها مع عطش شديد قاتل.

أم في العنب المسموم الذي قتلت به الرضا أم ظننت أنّ الاستتار قد أملّني وضاق به صدري؟ فو الله إنّي لذلك، ولقد مللت الحياة، وأبغضت الدنيا ولو وسعني في ديني أن أضع يدي في يدك حتى تبلغ من قبلي مرادك لفعلت ذلك، ولكن الله قد حظر علي المخاطرة بدمي، وليتك قدرت من غير أن أبذل نفسي لك فتقتلني، ولقيت الله عزّ وجل بدمي ولقيته قتيلاً مظلوماً، فاسترحت من هذه الدنيا.

____________________

(١) البداية والنهاية ١٠ / ٢٧٧.

(٢) الولاية والقضاة للكندي.

٢٥٤

واعلم أنّي رجل طالب النجاة لنفسي، واجتهدت فيما يرضي الله عزّ وجل عنّي، وفي عمل أتقرّب به إليه، فلم أجد رأياً يهدي إلى شيء من ذلك، فرجعت إلى القرآن الذي فيه الهدى والشفاء، فتصفّحته سورة سورة، وآية، آية، فلم أجد شيئاً أزلف للمرء عند ربّه من الشهادة في طلب مرضاته.

ثم تتبّعته ثانية أتأمّل الجهاد أيّه أفضل، ولأي صنف، فوجدته جلّ وعلا يقول: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة) فطلبت أيّ الكفّار أضر على الإسلام، وأقرب من موضعي فلم أجد أضر على الإسلام منك؛ لأنّ الكفار أظهروا كفرهم فاستبصر الناس في أمرهم، وعرفوهم فخافوهم، وأنت ختلت المسلمين بالإسلام، وأسررت الكفر، فقتلت بالظنة، وعاقبت بالتهمة، وأخذت مال الله من غير حلّه، وشربت الخمر المحرمة صراحاً، وأنفقت مال الله على الملهين، وأعطيته المغنّين ومنعته من حقوق المسلمين، فغششت بالإسلام، وأحطت بأقطاره إحاطة أهله، وحكمت فيه للمشرك، وخالفت الله ورسوله في ذلك خلافة المضاد المعاند.

فإن يسعدني الدهر، ويعينني الله عليك، بأنصار الحق أبذل نفسي في جهادك بذلاً يرضاه منّي، وأن يمهلك ويؤخّرك ليجزيك بما تستحقّه في منقلبك، أو تختر منّي الأيام قبل ذلك، فحسبي من سعيي ما يعلمه الله عزّ وجل من نيّتي والسلام...)(١) .

ووضعت هذه الرسالة المأمون على طاولة التشريح، فأظهرت زيفه، وكشفت خداعه، ودجله، وأنّه لا واقع بأي حال من الأحوال إلى ما يزعمه من الولاء والحب لأهل البيت.

أما الفصول الأخيرة من هذه الرسالة، فقد ألحقت المأمون بقافلة الكفار الذين يجب جهادهم، والإطاحة بهم، كما بيّنت سياسة المأمون، وأنّها تأخذ الناس بالظنّة، وتعاقبهم بالتهمة وبالإضافة إلى ذلك، فقد أعربت عن تحلّل المأمون؛ وذلك بشربه للخمر، وإنفاقه لأموال المسلمين على الملاهي والمغنّين والعابثين والماجنين.

لقد كانت هذه الرسالة صرخة مدوّية في وجه الطاغية المأمون، وهي من الصفحات المشرقة في مناهضة الظلم والطغيان.

____________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٦٣٠ - ٦٣١).

٢٥٥

ومن الجدير بالذكر أنّه يروي جانب آخر من هذه الرسالة، أو من رسالة أخرى بعثها هذا السيد الجليل إلى المأمون يقول فيها:

(هبني لا ثأر لي عندك، وعند آبائك المستحلّين لدمائنا الآخذين حقّنا، الذين جاهروا في أمرنا فحذّرناهم، وكنت ألطف حيلة منهم بما استعملته من الرضا بنا والتستّر لمحننا، تختل واحدا فواحدا منا، ولكنني كنت امرأ حبب إلى الجهاد، كما حبب إلى كل امرئ بغيته، فشحذت سيفي، وركبت سناني على رمحي، واستفرهت فرسي.

ولم أدر أي العدو أشد ضرراً على الإسلام، فعلمت أنّ كتاب الله يجمع كل شيء فقرأته فإذا فيه:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ) .

ومن بنود هذه الرسالة:

(وتدبّرت فإذا أنت أضرّ على الإسلام والمسلمين من كل عدو لهم؛ لأنّ الكفار خرجوا منه، وخالفوه، فحذرهم الناس وقاتلوهم، وأنت دخلت فيه ظاهراً، فأمسك الناس، وطفقت تنقض عراه، عروة، عروة، فأنت أشدّ أعداء الإسلام ضرراً عليه...) (١).

وحكمت هذه الفصول بعض الجوانب من السياسة العباسية التي تركّزت على ظلم السادة العلويين، والتنكيل بهم، كما حكت تعطش السيد الجليل نجل الإمام موسىعليه‌السلام إلى الجهاد للإطاحة بحكم المأمون الذي هو من ألد أعداء الإسلام، فقد نقض عراه، عروة، عروة على حد تعبير هذه الرسالة.

٤ - إبادته للسادة العلويين بعد اغتياله للإمام الرضاعليه‌السلام فقد عمدت مخابراته ورجال أمنه إلى مطاردتهم، واستئصالهم، وقد اغتال كوكبة من أبناء الإمام موسىعليه‌السلام ، وقد استخدم السمّ كأعظم سلاح لتصفية أبناء النبي (ص)، فقد اغتال بالسم السيد الشريف الجليل إبراهيم نجل الإمام موسىعليه‌السلام ، ولـمّا توفّي أنزله في ملحودة قبره الفقيه أبن السمّاك، وأنشد حينما ألحده:

٢٥٦

مات الإمام المرتضى مسموما

وطوى الزمان فضائلاً وعلوما

قد مات في الزوراء مظلوماً

كما أضحى أبوه بكربلا مظلوما

فالشمس تندب موته مصفرّة

والبدر يلطم وجهه مغموما(١)

إنّ اغتياله للسادة العلويين، ومطاردتهم حتى هربوا خوفا منه مختفين في الأقطار والأمصار ينسف دعوى تشيّعه، وأنّه لا علاقة له بالولاء لأهل البيت شأنه شأن آبائه الذين هم من ألد أعداء أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله .

أسباب تظاهره بالتشيّع:

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للبحث عن بعض الأسباب التي دعت المأمون لتظاهره بالولاء لأهل البيتعليه‌السلام ، وإعلان تشيّعه في المحافل الرسمية، وفيما أحسب أنّ الذي دعاه لذلك ما يلي:

أ - إنّه كان مختلفاً كأشد ما يكون الاختلاف مع أسرته العباسية، الذين كانت ميولهم مع أخيه الأمين؛ لأنّ أمه السيدة زبيدة، وهي من صميم الأسرة العباسية، وكانت من أندى الناس كفّاً، ومن أكثرهم عطاء وصلة للعباسيين، أمّا أم المأمون فهي (مراجل)، وكانت من إماء القصر، وكان العباسيون يحتقرون المأمون من جهة أمّه، فأراد بما أظهره من الولاء للعلويين، وعقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام إرغامهم، وإذلالهم، وقهرهم.

ب - إنّه أراد بإظهاره التشيّع إرضاء قادة جيشه الذين كانت لهم ميول ومحبّة لأهل البيتعليهم‌السلام .

ج - وإنّما عمد المأمون إلى العطف على العلويين، وإذاعة فضائل الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام جلب عواطف الشعب البار، الذين أترعت عواطفهم وقلوبهم بالمحبة والولاء لأهل البيتعليهم‌السلام وقد تسلّح بهم في محاربته لأخيه الأمين.

د - ومن الأسباب الوثيقة جداً التي دعت المأمون إلى التظاهر بالتشيّع وعقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام هو القضاء على الثورة العارمة التي فجّرتها الشيعة بقيادة السادة العظام من أبناء الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام ، فقد التهمت الكثير من مناطق العالم الإسلامي، وكادت تقضي على الحكم العباسي، ولكنّه

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٨ نقلاً عن مختصر الخلفاء.

٢٥٧

استطاع بدهاء منقطع النظير القضاء عليها وذلك بعقده بولاية العهد للإمام الرضا الذي هو سيد العلويين وزعيمهم بلا منازع، والذي يدين شطر كبير من هذه الأمة بإمامته.

لقد أخمد المأمون الثورة، واستأصلها من جذورها بعطفه المصطنع لأهل البيت، وترشيحه للخلافة الإمام الرضا ثم مبايعته له بولاية العهد، وضربه للسكة باسمه.

ه‍ـ - ولعلّ من جملة الأسباب التي حفّزت المأمون إلى تظاهره بالتشيّع، هو كشف الشيعة، ومعرفة السلطة بأسمائهم وأماكنهم، بعد ما كانوا خلايا تحت الخفاء، فقد عجزت الحكومات العباسية السابقة على حكومة المأمون عن معرفتهم، والوقوف على نشاطاتهم ومعرفة خلاياهم، فأراد المأمون بما صدر منه من الإحسان إلى العلويين، وانتقاصه للخلفاء، وذمّه لمعاوية، وغير ذلك ممّا صدر منه كشف الشيعة حتى تطاردهم أجهزة أمنه، وشرطته، وقد دلّت على ذلك بعض الوثائق الرسمية التي صدرت منه... هذه بعض الأسباب التي دعت المأمون إلى التظاهر بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام .

منهج حكمه:

ونهج المأمون في أيام حكومته منهج معاوية بن هند، فقد ذكر المؤرخون أنّه عرضت عليه سيرة أبي بكر وعمر وعثمان وعليعليه‌السلام فأبى أن ينهج نهجهم، ويسير بسياستهم، ولكنّه قبل أن يسير بسيرة معاوية الذئب الجاهلي الذي كان يأخذ الأموال من وجوهها، ويضعها كيف يشاء، وقال المأمون: إن كان فهذا(١) ، لقد اقتدى بمعاوية ونهج نهجه فعمد إلى اغتيال الأبرياء فدسّ إليهم سمّاً قاتلاً فقضى عليهم كما فعل معاوية بخصومة، وهو القائل: (إنّ لله جنوداً من عسل) لقد كان المكر والخداع من أبرز صفاته، كما كان معاوية.

____________________

(١) حياة الإمام الرضا (ص ١٨١) نقلاً عن المحاسن والمساوئ للبيهقي (ص ٢٩٥).

٢٥٨

الإمام الرضاعليه‌السلام وولاية العهد

نحن أمام حدث تأريخي مهم بالغ الخطورة، أشغل الرأي العام، وأذهل كافة الأوساط السياسية، وهو عقد المأمون بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، الأمر الذي يؤذن بتحوّل الخلافة من بني العباس إلى خصومهم السادة العلويين، فقد بهر الناس، وتساءلوا: كيف تحوّلت السياسة العباسية بين عشيّة وضحاها إلى هذا الخط المعاكس للخط السياسي الذي سلكه العباسيون منذ بداية حكمهم، وهو قهر السادة العلويين وإبادتهم، فقد أفنوا شبابهم فدفنوهم أحياءً وألقوا بأطفالهم في حوض دجلة، واستعملوا معهم جميع ألوان الإبادة...

والمأمون - فيما عرفه الناس، وعرفه التأريخ - هو من أبناء هذه الأسرة الظالمة لأهل البيتعليهم‌السلام ، لم يشذ في سلوكه عن سلوك آبائه، ولم ينحرف عن اتجاههم المعادي للعلويين، قد تغذّى وتربّى على بغضهم وعدائهم، فجدّه المنصور وأبوه الرشيد، وهما قد سلكا جميع الطرق لتصفية العلويين جسدياً، وسخّرا جميع أجهزتهم السياسية والاقتصادية للحط من شأن العلويين وكرامتهم، وإبعادهم عن الساحة السياسية في دنيا العرب والإسلام.

٢٥٩

وبعد هذا فما الذي دعا المأمون إلى هذا التغيير المفاجئ والعدول عن خطّة آبائه ومنهجهم، فعقد ولاية العهد إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ؟ كما أنّه كيف انصاع الإمام الرضا إلى ذلك مع علمه بانحراف المأمون، وما يكنّه في ذخائر نفسه من البغض لأهل البيتعليهم‌السلام ؟ وهذا ما سنتحدث عنه.

دوافع المأمون:

ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر في الأسباب والدوافع التي دعت المأمون إلى

عقده بولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام ، وهذه بعضها:

١ - إنّه لم يكن له مركز قوي في الدولة الإسلامية، فقد كانت الأسرة العباسية تحتقره، وذلك من جهة أمّه (مراجل) التي كانت من خدم القصر، مضافاً إلى صلته القوية بالفضل بن سهل، وتوليته جميع أموره، وهو فارسي الأصل، وكذلك كان أخوه الأمين يبغضه ويبغي له الغوائل، ويكيده من جهة منافسته له على السلطة، فأراد المأمون تدعيم مركزه، وتقوية نفوذه، والتغلّب على الحاقدين عليه، فعقد بولاية العهد لأعظم شخصية في العالم الإسلامي وهو الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام فهو ابن الإمام الصادق الملهم الأول لقضايا الفكر والعلم في الإسلام، كما يدين بإمامته والولاء له شطراً كبير من المسلمين، فلذا بادر إلى تعيينه لهذا المنصب الخطر في الدولة الإسلامية.

٢ - وقبل أن يتسلّم المأمون قيادة الدولة الإسلامية كان على علم بما يكنّه المجتمع الإسلامي من الكراهية والبغض للأسرة العباسية؛ وذلك لما اقترفوه من

الظلم والاستبداد بأمور المسلمين، وما صبّوه على السادة العلويين دعاة العدل الاجتماعي من أنواع الجور والطغيان، حتى تمنّى المسلمون عودة الحكم الأموي على ما فيه من قسوة وعذاب يقول الشاعر:

يا ليت جور بني مروان عاد لنا

وليت عدل بني العباس في النارِ

ويقول شاعر آخر:

ما أحسب الجور ينقضي وعلى

الأمّة والٍ من آل عباسِ

فأراد المأمون أن يفتح صفحة جديدة للمواطنين، ويلقي الستار على سياسة آبائه، فعيّن الإمام الرضاعليه‌السلام ، والذي هو أمل الأمّة الإسلامية لولاية العهد.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375