حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 200663 / تحميل: 8164
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

أي الشعور الديني الفطري، واحدة من السخافات والمهازل.

إنّ وجود البعد الرابع في الروح الإنسانية يثبت أنّ لجميع الميول الدينية عند الإنسان جذوراً ضاربة في أعماق الوجدان، وقد تجلى هذا الشعور في جميع أدوار الحياة البشرية حتى في تلكم الأدوار والمناطق التي لم تكن فيها مشكلة العامل ورب العمل(١) مطروحة بحال.

فقد كان هذا الشعور يدفع البشر في تلك الأدوار والمناطق إلى الله وإلى ما وراء الطبيعة.

كما أنّ آثار الشعور الديني لم تختف عن الكهوف والمغارات التي كان يسكنها الإنسان الأوّل.

هذا ونظائره يكشف بوضوح عن ملازمة هذا البعد للروح الإنسانية ملازمة الظل للشاخص، وملازمة الزوجية للأربعة وكأنّ التوجه إلى الله وإلى قضايا ما وراء الطبيعة نشيد غيبي لا يفتأ ينبع من الفطرة الإنسانية

نشيد لا يهدأ

الماركسيون وتقديس المبادئ الماركسية

رغم كل الدعايات المستمرة التي يقوم بها الماديون ضد « الدين » ووصمهم له بأنّه من عوامل الجمود والتأخر، وكونه منافياً للحرية الإنسانية ومانعاً من تقدم

__________________

(١) هذا هو رد تلويحي إلى ما يردّده الماديون الماركسيون حول الدين إذ يقولون: إنّ الدين لم يوجد إلّا لإخماد ثورة العمال الكادحين على أرباب العمل.

ولكن بعد أن ثبت أنّ للدين جذوراً في ضمير البشر، وأنّه كان موجوداً حتى في النقاط التي لم يكن فيها خبر عن العامل ورب العمل لم يعد للنظرية الماركسية حول الدين أية قيمة.

٦١

البشرية في مجالات البناء الفكري والاجتماعي.

رغم كل تلك الدعايات المضادة لم يستطيعوا أن ينبذوا الدين والأفكار الدينية من أدمغة البشر، أو يقلّلوا من تقديس المجتمعات المؤمنة لمعتقداتها.

وربما عاب الماركسيون على المتدينين ذلك التقديس المفرط لمعتقداتهم والحال إنّ تقديس الماركسيين ـ أنفسهم ـ لمبادئ الماركسية ولمؤسسيها لم يقل، ولم يختلف عن معاملة المتديّنين لمعتقداتهم وكتبهم السماوية ومن جاء بها.

إنّ الماركسيين يعتبرون أُصول الماركسية وما جاء به وقاله ماركس وانجلز ولينين، أُموراً صحيحة مائة بالمائة، ويرون أنّها منزّهة عن أي غلط أو عيب وعارية عن أي اشتباه وخطأ، وإنّها قطعية لا يأتي الباطل من بين يديها ولا من خلفها، ولا يمكن أن تتغيّر أو تتبدل(١) تماماً كما يعتقد المتديِّنون والإلهيون في شأن الوحي والكتب السماوية.

ويكفي لمعرفة مدى تقديس الشيوعيين والماركسيين لشخصياتهم ومؤسسي مبادئهم ما نشرته صحيفة البرافدا الناطقة بلسان الحزب الشيوعي في ٢٦ أبريل ١٩٤٩م إذ قالت :

نحن نؤمن بثلاثة أشياء: كارل ماركس، ولينين ; وستالين، ولا نؤمن بثلاثة أشياء: الله، والدين، والملكية الخاصة.

إنّهم يحرمون أية إعادة نظر في المبادئ والأُصول الماركسية، ويصمون كل من يحاول ذلك بالردة الفكرية، والمروق من اللينينية الماركسية ويعتبرونه مرتداً حزبياً، تماماً كما يفعل المتدينون، إذ يعتبرون الانحراف عن التعاليم النبوية وإنكار

__________________

(١) هذا رغم أنّ من أُصول المادية الديالكتيكية هو التغير المستمر في الأشياء !!!

٦٢

بعض الضروريات الدينية سبباً للارتداد، ويعدون منكرها « مرتدّاً دينياً » ويهدرون دمه.

إنّ الاحترام الذي يلقاه مؤسسوا الاشتراكية من قبل أتباعهم لا يختلف كثيراً عن احترام أتباع الديانات الإلهية للأنبياء والرسل إن لم يزدد عليه.

وغاية التفاوت بين السلوكين أنّ أتباع هذه الأحزاب والمبادئ المادية يحترمون قادتهم السياسيين ما داموا يحتلون المناصب، ففي مثل هذه الفترة تجدهم يصفون قادتهم بأنّهم « ملائكة الرحمة » وأنّهم « محطمو قيود الاستعمار والاستبداد » وأنّهم « ملجأ الجماهير الكادحة » وما إلى ذلك من ألفاظ المديح والثناء.

ولكن ما أن أُقصي هؤلاء القادة من مناصبهم أو حان موتهم وأُودعوا باطن الأرض إلّا ووجدت انعكاس الآية. فإذا بالأسياد المحترمين بالأمس المستحقين لأجمل وأسمى آيات المديح والثناء، ينهال عليهم كل ما في قاموس الشتائم من سباب واتهامات، فإذا بالقائد التقدمي يصبح رجعياً، ضد الكادحين، سفاكاً، خرق أُسس الماركسية وتجاوز عليها، واستهان بآراء الجماهير، إلى غير ذلك من الاتهامات الرخيصة !!!

وقد وجدنا ووجد العالم كله ـ طوال الفترة التي عشناها ـ نوعين متضادين من الوصف في حق ستالين فبينما كان يعد ذات يوم ملاكاً طاهراً مقدساً صار يعد في يوم آخر سفاكاً دموياً إلى درجة أنّ تماثيله أُزيلت من الساحات والميادين العامة في الاتحاد السوفياتي بعد موته(١) .

__________________

(١) بل وأُريد إخراج جثمانه للحرق انتقاماً، كما تتحدث عن ذلك بعض الكتب عن الاتحاد السوفياتي.

٦٣

وها نحن اليوم نشاهد بدايات لنفس الموقف في شأن « ماو »، وسوف لن يمضي زمان طويل إلّا ونجد « ماو » وقد أُصيب بما سبق أن أُصيب به سلفه ستالين المنكود الحظ.

إنّ الاحترام والتعظيم الذي يظهره أتباع الفلسفة المادية لمؤسّسي أُصول الماركسية كماركس وانجلز، لدليل قاطع على فطرية سلسلة من المفاهيم كالخلود والأبدية.

فهذه المفاهيم صحيحة في حد ذاتها وهي أُمور قطعية مائة بالمائة إلّا أنّ القوم استخدموها في غير مواضعها خطأ(١) .

فبدل أن يستخدموا وصف الخلود والأبدية في حق « الوحي الإلهي » ويعتبروا الانحراف عن ذلك الوحي ارتداداً، نجدهم وصفوا « الماركسية » بالخلود ونعتوا مؤسسيها بالأبدية فإذا بهم يواجهون ذلك التخبط الذريع.

ولو لم تكن مفاهيم كمفهوم الخلود والأبدية أُموراً فطرية لما راح الماركسيون يطلقونها على هذا أو ذاك حتى ولو خطأ.

ثم إنّنا كثيراً ما نجد الماركسيين يستخدمون في شعاراتهم ونشراتهم ألفاظاً ك‍ « التضحية والفداء » في حين أنّ هذه المفاهيم لا تتلاءم مع أُصول الماركسية لحصرها الوجود في « العالم المادي » وإنكارها لما وراء ذلك.

وإذا كنا نعلم بأنّ الإنسان لا يعمل شيئاً إلّا لتحقيق منفعة شخصية إلى

__________________

(١) يقصد الأُستاذ بأنّ الإيمان الفطري بوجود أُمور خالدة وأبدية أمر صحيح وموجود في باطن البشر، وأنّ هناك بالفعل أُموراً خالدة وأبدية في الوجود بيد أنّ الماركسيين أخطأوا في استعمال هذه الأوصاف فاستخدموها في غير مواضعها ـ الهادي ـ.

٦٤

درجة أنّ المنافع الاجتماعية أيضاً لا يريدها الإنسان إلّا لمنفعة نفسه، فلمن يضحي الماركسي ولمن يقدم نفسه فداء وهو لا يعتقد بالآخرة وما فيها من أجر وثواب ؟!

أما يعتقد المنطق الماركسي بأنّ الإنسان يفنى بالموت فناء كاملاً ولا تعود منافعه إليه بعد موته ؟

فماذا تعني التضحية والفداء عند الماركسيين ؟

أليس ذلك يدل على أنّ دوافع التضحية والفداء أُمور فطرية متأصلة في ضمير الإنسان ووجدانه، وأنّ الماركسيين أخطأوا في طريقة استخدامها ؟

المعنى الآخر لفطرية الإيمان ب الله

وقد تفسر فطرية الإيمان بالله بنحو آخر إذ يقال: يكمن في قرارة كل إنسان عشق للكمال والخير المطلق لم يزل ولا يزال يدفع الإنسان إليه.

فإذا ما وجد الإنسان في نفسه ميلاً شديداً إلى العلم أو إلى الأخلاق أو الفن والجمال، فإنّ هذا الميل إنّما هو شعبة نابعة من ذلك العشق للكمال، وإشعاعة من إشعاعاته.

إنّ أوضح دليل على وجود مثل هذا العشق للكمال المطلق في باطن البشر هو أنّ أي كمال مادي لا يروي عطش الإنسان ولا يطفئ ظمأه.

فها هو الإنسان يسعى جهده ليبلغ إلى ما يريده من المناصب الرفيعة، ويظل يطمح إلى ما هو أعلى وأعلى حتى إذا نال ما أراد، فكّر في أن يسخّر قمة أعلى ممّا ناله وكلّما ازداد رقياً ازداد عطشاً وظمأ وطموحاً أكثر فأكثر.

كل هذا ـ لو تأملنا ـ دليل واضح على أنّ للإنسان ضالة ينشدها أبداً ،

٦٥

ويبحث عنها باستمرار وقد كان يظنها في الكمالات المادية المزيجة بالنقائص والشرور وأنّها قادرة على إرواء ظمئه وغليله، ولكنَّه كلّما خطا خطوة جديدة إلى الإمام رأى خلاف ما كان يتصوره ويتوقعه، ووجده دون ما يهواه ويعشقه.

إنّ عشق الكمال المطلق لدليل ـ حقاً ـ على وجود مثل هذا الكمال، ولدليل أيضاً على وجود رابطة قائمة بين الإنسان والكمال ذاك.

إنّ الوصول إلى ذلك الكمال وبلوغه يحتاج إلى تفكّر وتدبّر، وإلى السير في الطريق المؤدّي إليه، وإلى الرياضة الدؤوبة التي تشعل الجذوة الكامنة في أعماق النفس وتوجد في حناياه شغفاً أكبر وعطشاً أعمق، وتحوله بالتالي من باحث عن الله إلى واجد لله، ثم يتحول وجدانه لله إلى الشهود، واليقين الذي لا ينفذ إليه شك، ولا يتسلل إليه تردد وارتياب.

إنّ هذا الشهود ليس برؤية العين بل بعين البصيرة التي نوّه عنها في كلام الإمام عليعليه‌السلام إذ قال :

« لم تدركه العيون بمشاهدة العيان، بل تدركه القلوب بحقائق الإيمان »(١) .

إنّ اليقين الحاصل للسالك والعارف في مسألة « وجدان الله » لهو أعلى من اليقين الحاصل من استخدام الجوارح والحواس، انّه نور لا ظلمة فيه، ويقين لا شك فيه، ولا تردد ولا احتمال ولا ظن.

والآن ما هو طريق الوصول إلى مثل هذا الكمال واليقين المطلق والشهود الأعلى ؟

إنّ القرآن الكريم يشير بنحو ما إلى هذا الطريق في آية، إذ يقول :

__________________

(١) نهج البلاغة: شرح محمد عبده، خطبة ١٧٤.

٦٦

( فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ الْسَّاجِدِينَ *وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ اليَقِينُ ) (١) .

ففي هذه الآية وصفت العبادة والدعاء بكونها طريقاً للوصول إلى هذا اليقين والمعرفة القلبية اليقينية(٢) .

إنّ هذا اليقين هو غير اليقين الذي يحصل لكل العابدين إنّ هذا هو ذلك الشهود الذي يكون على غرار اليقين الحاصل من الاحتكاك بالمحسوسات الذي يكون من القوة بحيث يمنع من تطرق أي شك أو ترديد إليه.

وهذا الطريق ليس في وسع كل أحد سلوكه كيفما اتفق، بل لابد لسلوكه من التهيؤ اللازم الذي لا يوجد إلّا عند القليلين من عباد الله المخلصين.

الشعور الديني الفطري في الأحاديث

نظراً للأهمية التي تتمتع بها مسألة فطرية الحس الديني في العلوم الإنسانية وردت بعض الأحاديث الصادرة من النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والأئمّة الطاهرين الصادقين: التي تتحدّث عن ذلك وإليك طائفة منها :

١. صحيح البخاري في تفسير الآية( فطرة الله ) نقل الحديث التالي عن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :

« ما من مولود إلّا يولد على الفطرة ثمّ أبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو

__________________

(١) الحجر: ٩٨ ـ ٩٩.

(٢) انّ التفسير المذكور في المتن للآية هو أحد المداليل والأبعاد التي يمكن استخراجها من الآية ولا ينافي تفسير بعض الأحاديث اليقين هنا بالموت.

٦٧

يمجّسانه » ثمّ قالصلى‌الله‌عليه‌وآله :( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) (١) .

وقد ورد في أحاديث أهل البيت: في تفسير آية الفطرة ما يقارب (١٥) حديثاً فسرت الفطرة بالتوحيد، وهي تفيد أنّ توحيد الله والإيمان بذاته ووجوده وصفاته ممّا جبل عليه البشر وعجنت به فطرته(٢) .

وربما فسرت بعض هذه الأحاديث الفطرة المذكورة في الآية ب‍ « الإسلام » و « معرفة الله » التي تعود في الحقيقة إلى المعنى السالف.

ونذكر هاهنا كل تلك الأصناف من الروايات مع الإشارة إلى ما هو مكرر منها :

أمّا ما صرح منها بالتوحيد فهي :

٢. سأل هشام بن سالم الإمام الصادق جعفر بن محمّدعليهما‌السلام عن معنى الفطرة فقال الإمام :

« فطرهم على التوحيد »(٣) .

وقد روى مثل هذا عن الإمام الصادقعليه‌السلام غير هشام كزرارة والعلاء بن فضيل ومحمد الحلبي وعبد الرحمن بن كثير مولى أبي جعفر.

٣. ما رواه زرارة عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام حينما سأله قائلاً: أصلحك الله، قول الله عزّ وجلّ في كتابه:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) فقال الإمام مجيباً :

__________________

(١) التاج الجامع للأُصول: ٤ / ١٨٠، وتفسير البرهان: ٣ / ٢٦١، الحديث ٥.

(٢) و (٣) راجع تفسير البرهان: ٣ / ٢٦١ ـ ٢٦٣، والتوحيد للصدوق: ٣٢٨ ـ ٣٣١.

٦٨

« فطرهم على التوحيد(١) عند الميثاق على معرفته أنّه ربّهم »(٢) .

وأمّا ما فسرت الفطرة فيه بالمعرفة فهي :

٤. ما عن زرارة أيضاً عن أبي جعفر الإمام محمد بن علي الباقرعليهما‌السلام قال سألته عن قول الله عزّ وجل:( حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ ) وعن الحنيفية، فقال الإمام :

« هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله ».

ثم قال :

« فطرهم الله على المعرفة »(٣) .

وقد أوضح الإمام الباقر المقصود بهذه المعرفة في رواية أُخرى رواها زرارة عنه أيضاً لـمّا سأله عن نفس الآية فقالعليه‌السلام :

« فطرهم على معرفة أنّه ربهم، ولولا ذلك لم يعلموا إذا سئلوا من ربهم ومن رازقهم »(٤) .

وأمّا ما فسرت الفطرة بالإسلام فهي :

٥. ما عن عبد الله بن سنان، عن الإمام أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام لـمّا سأله عن قول الله عزّ وجلّ:( فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟ قال الإمام:

__________________

(١) إنَّ تفسير الدين المفطور عليه، في هذه الأحاديث بالتوحيد لا يدل على اختصاص الدين في الآية بالتوحيد خاصة بل إنّ ذكر التوحيد إنّما هو من باب ذكر أظهر المصاديق وأجلاها.

(٢) و (٣) و (٤) نفس المصادر السابقة.

٦٩

« هي الإسلام »(١) .

ثم أوضح الإمام نفسه في رواية أُخرى عن عبد الله بن سنان أيضاً المقصود بالإسلام وأنّه هو التوحيد ومعرفة الله إذ قالعليه‌السلام :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد »(٢) .

٦. سأل محمد بن حكيم الإمام الصادقعليه‌السلام عن المعرفة من صنع من هي ؟ فقالعليه‌السلام :

« من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع »(٣) .

٧. سأل أبو بصير الإمام الصادقعليه‌السلام فقال الإمامعليه‌السلام :

« نعم وليس للعباد فيها صنع »(٤) .

٨. ولقد تعرض الإمام عليعليه‌السلام إلى هذا المطلب « أي فطرية الاعتقاد بالله » في نهج البلاغة في أوّل خطبة فيه عندما ذكر بأنّ الأنبياء أُرسلوا لإثارة دفائن العقول، أي لإحياء ما هو مرتكز في عقول البشر وما هو كامن في حنايا فطرتهم من الاعتراف بوجود الله والإذعان بإلهيته، إذ يقولعليه‌السلام :

« فبعث الله فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ ويثيروا لهم دفائن العقول »(٥) .

مع ملاحظة هذا الكلام العلوي يمكننا القول بأنّ المقصود من قول الله

__________________

(١) و (٢) المصادر السابقة.

(٣) أُصول الكافي: ١ / ٨٥، ٩٣، ١٦٥.

(٤) أُصول الكافي: ١ / ١٦٣.

(٥) نهج البلاغة: الخطبة الأُولى.

٧٠

تعالى:( فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ ) (١) في حق الرسول الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله هو: أن يذكّر الرسول الأكرم الناس بما هو كامن ومودوع ـ أساساً ـ في فطرتهم أو أنّ هذا هو أحد أبعاد الآية ومعانيها ـ على الأقل ـ.

٩. ما دار بين رجل والإمام جعفر بن محمّد الصادقعليهما‌السلام قال الرجل: يابن رسول الله دلّني على الله ما هو ؟ فقد أكثر عليّ المجادلون وحيّروني.

فقال له الإمام: « يا عبد الله هل ركبت سفينة قط ؟ » قال: نعم، قال: « فهل كسر بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك ؟ » قال: نعم.

قال: « فهل تعلَّق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلّصك من ورطتك ؟ » قال: نعم.

قال الصادقعليه‌السلام : « فذلك الشيء هو الله القادر على الإنجاء حيث لا منجي، وعلى الإغاثة حيث لا مغيث »(٢) .

تنبيه

دلّت الأبحاث الماضية على أنّ للإنسان إدراكات فطرية منذ أن يولد، وهي تواكب جميع مراحل حياته، وتتكامل بتكامل وجوده وتتفتح بتفتح مشاعره ولكن ربّما يتوهم أنّ هذا منقوض بقوله تعالى :

( واللهُ أخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأبْصَارَ وَالأفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (٣) .

__________________

(١) الغاشية: ٢١.

(٢) بحار الأنوار: ٣ / ٤١، نقلاً عن معاني الأخبار للشيخ الصدوق.

(٣) النحل: ٧٨.

٧١

فهذه الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس من خلو صفحة النفس من المعلومات في بدء تكونها، بلا فرق بين العلوم الفطرية وغيرها.

والجواب عن هذا واضح بعد الوقوف على مقدمة وهي: انّ التصورات والتصديقات إمّا كسبية أو بديهية، والكسبية إنّما يمكن تحصيلها بواسطة تركيب البديهيات فلابد من سبق هذه العلوم البديهية.

أمّا العلوم البديهية فلم تكن حاصلة في نفوسنا، بل حصلت هي أيضاً بمعونة الحواس كالسمع والبصر، فالطفل إذا أبصر أو سمع شيئاً مرّة بعد أُخرى ارتسمت ـ في ذهنه ـ ماهيّة ذلك المبصر أو المسموع، وكذا القول في بقية الحواس.

فالمدركات على قسمين: ما يكون نفس حضورها موجباً تاماً في جزم الذهن باسناد بعضها إلى بعض كما إذا حضر في الذهن إنّ الواحد ما هو ؟ وانّ نصف الاثنين ما هو ؟ كان حضور هذين التصوّرين في الذهن علّة تامة في جزم الذهن بأنّ الواحد محكوم عليه بأنّه نصف الاثنين وهذا القسم هو عين العلوم البديهية.

والقسم الثاني ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النظرية، مثلما إذا أُحضر في الذهن انّ الجسم ما هو ؟ وإنّ المحدث ما هو ؟ فإنّ مجرد هذين التصوّرين لا يكفي في جزم الذهن بأنّ الجسم محدث بل لابد فيه من دليل منفصل وعلوم سابقة.

وهذا هو الملاك في تقسيم العلوم إلى بديهية وكسبية(١) .

والآية ناظرة إلى العلوم الحصولية التي تنقسم إلى البديهي والنظري لا العلوم الحضورية مثل علم النفس بذاتها، ولا العلوم الفطرية التي ليس لها إلّا قوة العلم

__________________

(١) راجع مفاتيح الغيب للرازي: ٥ / ٣٤٩.

٧٢

وإنّما تنفتح إذا خرج الإنسان إلى هذا العالم واعمل حواسه، ولامس الحقيقة الخارجية، فعند ذاك ينقلب ما هو علم بالقوة إلى العلم بالفعل.

وصفوة القول: إنّ هناك في النفس البشرية سلسلة من المعلومات على صورة خمائر تتجلّى وتظهر وتتفتح شيئاً فشيئاً مع مرور الزمن ومع احتكاك الإنسان بالوقائع الخارجية ولا يسمّى هذا علماً فعلياً وإدراكاً حاضراً.

وبالتالي فالآية ناظرة إلى ذلك أي انّ الإنسان منذ يخرج من بطن أُمّه ليس فيه علم فعلي ولا ينافي وجود ما يشبه خمائر العلوم التي تحتاج إلى أرضية للتفتح والظهور.

٧٣
٧٤

الفصل الثاني

الله وعالم الذر

٧٥

ما هو عالم الذر وما هو الميثاق ؟

١. استعراض الآيات أوّلاً.

٢. نقاط جديرة بالاهتمام.

٣. آراء العلماء حول « الميثاق في عالم الذر ».

٤. النظرية الأُولى المستندة إلى الأحاديث.

٥. انتقادات على هذه النظرية.

٦. النظرية الثانية.

٧. إشكالات على هذه النظرية.

٨. النظرية الثالثة.

٩. أسئلة حول هذه النظرية.

١٠. بحث حول الأحاديث الواردة في تفسير الآية.

٧٦

استعراض الآيات أوّلاً

قبل أن نعطي رأينا في حقيقة ذلك العالم وواقع ذلك الميثاق المأخوذ في العالم المذكور، ولأجل أن نتجنب اتخاذ أي موقف قبل دراسة ومراجعة الآية المرتبطة بهذا الموضوع يتعين علينا استعراض هذه الآية، أوّلاً، لكي ندفع القارئ نفسه إلى التأمل فيها والتفكير حولها لمعرفة معنى هذه الآية ومغزاها.

وإليك فيما يأتي نص الآية المتعلّقة بالموضوع مضافاً إلى آيتين لاحقتين لها :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ *أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المُبْطِلُونَ *وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) (١) .

نقاط جديرة بالاهتمام

١. لقد وردت لفظة ( الذرية ) في (١٨) موضعاً آخر ما عدا هذا الموضع أيضاً والمقصود بها في كل تلك الموارد هو: « النسل البشري » وليس في ذلك خلاف، انّما وقع الخلاف في أصل هذه اللفظة وانّها مأخوذة من ماذا ؟

__________________

(١) الأعراف: ١٧٢ ـ ١٧٤.

٧٧

فذهب فريق إلى أنّ لفظة « الذرية » مشتقة من « الذرء » بمعنى الخلق، وفي هذه الصورة تكون الذرية بمعنى: المخلوق.

وذهب فريق آخر إلى أنّها مشتقة من « الذر » بمعنى الكائنات الصغيرة الدقيقة جداً كذرات الغبار وصغار النمل.

وذهب فريق ثالث إلى أنّها مأخوذة من « الذرو » أو « الذري » بمعنى التفرّق والانتشار وانّما تطلق « الذرية » على ولد آدم ونسله لتفرقهم على وجه الأرض وأكناف البسيطة(١) .

٢. تستعمل لفظة الذرية ـ غالباً ـ في الأولاد الصغار مثل قوله تعالى :

( وَلَهُ ذُرِيَّةٌ ضُعَفَاءُ ) (٢) .

وقد تستعمل في مطلق الأولاد مثل قوله سبحانه :

( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ ) (٣) .

كما أنّها قد تستعمل في فرد واحد مثل قوله سبحانه :

( هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ) (٤) .

وفيها يطلب زكريا ولداً صالحاً(٥) .

وقد تستعمل في الجمع مثل قوله تعالى :

__________________

(١) راجع في هذا الصدد: مفردات الراغب مادة « ذرو »، ومجمع البيان: ١ / ١٩٩ تفسير آية( قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ) .

(٢) البقرة: ٢٦٦.

(٣) الأنعام: ٨٤.

(٤) آل عمران: ٣٨.

(٥) ويؤكد هذا أنّ طلب زكريا تكرر في آية أُخرى بلفظ « ولي » إذ يقول:( فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيْاً *يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ) ( مريم: ٦ ).

٧٨

( وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ ) (١) .

٣. يجب المزيد من الدقة والعناية في عبارة الآية

فالآية تفيد أنّ الله أخذ من ظهور كل أبناء آدم، أنسالهم وذرياتهم، وليس من ظهر آدم وحده.

وذلك بدليل أنّ الله تعالى يقول :

( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَم ) .

ولم يقل: وإذ أخذ ربك من آدم وعلى هذا الأساس فإنّ مفاد هذه الآية هو غير ما هو معروف عند المفسّرين الذاهبين إلى أنّ الذرية أُخذت من ظهر آدم فحسب.

٤. تصرح الآية بأنّ الله أخذنا شهداء على أنفسنا، وأننا جميعاً اعترفنا بأنّه إلهنا، وانّ هذا الاعتراف كان بحيث لم يبق من ذكراها في ذاكرتنا شيء.

٥. كما تفيد الآية بأنّ هذا الاستيثاق والاستشهاد سيسد باب العذر في يوم القيامة في وجه المبطلين والمشركين، فلا يحقّ لهم بأن يدّعوا بأنّهم لم يعطوا مثل هذه الشهادة، ولم يكن عندهم علم بمثل هذا الميثاق والاعتراف كما يشهد به قوله سبحانه :

( أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ ) .

من هنا يتخذ المفاد لنفسه شكلاً خاصاً وطابعاً مخصوصاً.

فمن جانب لم يك عندنا أي علم بهذا الميثاق والاعتراف.

__________________

(١) الأعراف: ١٧٣.

٧٩

فمن جانب آخر لا يحق لنا أن ندعي الغفلة عن هذا الميثاق، وعن مثل هذا الإقرار كما تقول الآية :

( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) .

أي أن لا تقولوا(١) .

في هذه الصورة ينطرح هذا السؤال :

كيف يمكن أن يسد اقرار لا نعلم به هنا أبداً (باب العذر) علينا ؟!

وكيف يمكن أن نلزم بميثاق لا نتذكره وعهد لا نعرف عنه شيئاً ؟!

وبعبارة أُخرى: إنّنا ـ لا شك ـ لا نعلم مثل هذا الميثاق على نحو العلم الحصولي، في حين أنّ الآية (١٧٢) تقول بمنتهى الصراحة والتأكيد: إنّه لا حق لأحد أن يغفل أو يتغافل عن هذا الميثاق فكيف تتلاءم هذه الغفلة وعدم تذكرنا له في هذه الدنيا مع قوله تعالى:( أَن تَقُولُوا يَوْمَ القِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) ؟

٦. لا شك أنّ الخطاب في هذه الآية إمّا موجه إلى النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وإمّا إلى

__________________

(١) إنّ للمفسّرين في أمثال هذه الآية مذهبين :

أحدهما: تقدير لا، ففي مثل قوله سبحانه :

( يُبَيّن الله لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا ) ( النساء: ١٧٦ ) قالوا: إنّ المعنى هو أن لا تضلّوا.

فهم جعلوا قوله:( أَنْ تَضِلُّوا ) مفعولاً له ليبين، بنحو « التحصيلي » فيكون المعنى « يبيّن الله لكم لأجل أن لا تضلوا ».

الثاني: عدم تقدير لا وجعل المفعول له من باب « الحصولي » كقول القائل ضربته لسوء أدبه، أي لوجود هذا وحصوله فعلاً ضربته.

فيكون معنى الآية السابقة هو « يبين الله لوجود الضلالة فيكم » ومنه يعلم حال الآية المبحوثة عنها، فيجوز فيها وجهان.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وبهر المأمون، وقال: ما أحسن هذا؟ من قاله: فقالعليه‌السلام : لبعض فتياننا، ثم قال المأمون: أنشدني: أحسن ما رويته في استجلاب العدو وحتى يكون صديقاً، فأنشده الإمام هذه الأبيات:

وذي غلّة سالمته فقهرته

فأوقرته منّي لعفو التحمّلِ

ومن لا يدافع سيئات عدوه

باحسانه لم يأخذ الطول من علِ

ولم أر في الأشياء أسرع مهلكاً

لغمر قديم من وداد معجل(١)

فقال المأمون:

- ما أحسن هذا مَن قاله؟

- قاله بعض فتياننا.

- أنشدني أحسن ما رويته في كتمان السر.

فأنشده:

وإنّي لأنسى السر كي لا أذيعه

فيا مَن رأى سرّاً يصان بأن ينسى

مخافة أن يجري ببالي ذكره

فينبذه قلبي إلى ملتوى الحشا

فيوشك من لم يفش سرّاً وجال في

خواطره أن لا يطيق له حبسا(٢)

وراح المأمون يبدي اعجابه بما حفظه الإمامعليه‌السلام من روائع الشعر

رسالة الإمام إلى ولده الجواد:

وأرسل الإمام الرضاعليه‌السلام من (خراسان) إلى ولده الإمام الجواد هذه الرسالة وقد جاء فيها بعد البسملة:

(فدتك نفسي بلغني أنّ الموالي إذا ركبت أخرجوك من باب البستان الصغير،

وإنّما ذاك من بخل بهم لئلا ينال أحد منك خيرا، فأسألك بحقي عليك، لا يكن

مدخلك ومخرجك إلاّ من الباب الكبير، وإذا ركبت إن شاء الله فليكن معك ذهب وفضة لا يسألك أحد شيئاً إلاّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً، والكثير إليك، ومَن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقل من خمسين ديناراً، والكثير إليك، ومَن سألك من قريش فلا تعطه أقل من خمسة

____________________

(١) الغمر: الحقد.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٧٤ - ١٧٥.

٣٢١

وعشرين ديناراً، والكثير إليك، إنّي إنّما أريد أن يوفقك الله، فاتق الله، واعط ولا تخف من ذي العرش إقتارا...)(١) .

أرأيتم هذه النفس الملائكية التي طبعت على البر والمعروف والإحسان إلى الناس... لقد كان الكرم عنصراً من عناصر الإمام ومقوماً من مقوّماته، فقد حثّ ولده الجواد على صلة أرحامه، والبرّ بالبؤساء.

لقد حكت هذه الرسالة لوناً من ألوان التربية الرفيعة لأهل البيتعليهم‌السلام فقد كانوا يربون أبنائهم على الشرف والفضيلة، ويغرسون في نفوسهم مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، ليكونوا أمثلة للخير، وقدوة حسنة لهذه الأمّة.

كتاب الحباء والشرط:

نسب هذا الكتاب إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفل بالثناء على الفضل بن سهل، والإشادة بجهوده الجبارة في إقامة ملك المأمون، ودحر الناهضين له من أخيه الأمين وأبي السرايا وغيرهما، فقد بذل جميع طاقاته حتى قضى على تلك الثورات العارمة، وقد جزاه المأمون فمنحه الثراء العريض، ووهبه الأموال الطائلة، كما وهب مثل ذلك لأخيه الحسن بن سهل مجازاة لهما على عظيم إخلاصهما للمأمون، وها هو نص الكتاب بعد البسملة: (أمّا بعد: فالحمد لله البادئ الرفيع، القادر، القاهر، الرقيب على عباده المقيت على خلقه، الذي خضع كل شيء لملكه، وذل كل شيء لعزته واستسلم كل شيء لقدرته، وتواضع كل شيء لسلطانه، وعظمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصى عدده، فلا يؤوده كبير، ولا يعزب عنه صغير، الذي لا تدركه أبصار الناظرين، ولا تحيط به صفة الواصفين، له الخلق والأمر والمثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم.

والحمد لله الذي شرع للإسلام ديناً، ففضله، وعظمه، وشرفه، وكرمه، وجعله الدين القيم الذي لا يقبل غيره، والصراط المستقيم الذي لا يضل من لزمه، ولا يهتدي من صرف عنه، وجعل فيه النور والبرهان، والشفاء والبيان، وبعث به من

____________________

(١) الدر النظيم ورقة ٢١٥ - ٢١٦.

٣٢٢

اصطفى من ملائكته إلى من اجتبى من رسله في الأمم الخالية، والقرون الماضية حتى انتهت رسالته إلى محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) فختم به النبيين وقفّى به على آثار المرسلين، وبعثه رحمة للعالمين، وبشيراً للمؤمنين المصدقين، ونذيراً للكافرين المكذّبين لتكون له الحجّة البالغة، وليهلك من هلك عن بينة، وان الله لسميع عليم.

والحمد لله الذي أورث أهل بيته مواريث النبوّة واستودعهم العلم والحكمة، وجعلهم معدن الإمامة والخلافة، وأوجب ولايتهم، وشرف منزلتهم، فأمر رسوله أمّته بمسألة مودّتهم إذ يقول:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) (١) وما وصفهم به من إذهاب الرجس عنهم، وتطهيره إيّاهم في قوله:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) .

ثم أن المأمون بر برسول الله (صلى الله عليه وآله) في عترته، ووصل أرحام أهل بيته، فردّ ألفتهم، وجمع فرقتهم، ورأب صدعهم، ورتق فتقهم، وأذهب الله به الضغائن والإحن بينهم، وأسكن التناصر، والتواصل والمودة والمحبة قلوبهم، فأصبحت بيمنه وحفظه وبركته وبرّه وصلته أيديهم واحدة، وكلمتهم جامعة، وأهواؤهم متفقة، ورعى الحقوق لأهلها، ووضع المواريث مواضعها، وكافأ إحسان المحسنين، وحفظ بلاء المبتلين، وقرّب وباعد على الدين، ثم اختص بالتفضيل، والتقديم والتشريف من قدمته مساعيه، فكان ذلك ذا الرياستين الفضل بن سهل، إذ رآه له مؤازرا، وبحقه قائماً، وبحجّته ناطقاً، ولنقبائه نقيباً، ولخيوله قائداً، ولحروبه مدبّراً ولرعيّته سائساً، وإليه داعياً، ولـمَن أجاب إلى طاعته مكافياً، ولـمَن عدل عنها منابذاً، وبنصرته متفرداً، ولمرض القلوب والنيات مداوياً، لم ينهه عن ذلك قلة مال ولا عواز رجال ولم يمل به الطمع، ولم يلفته عن نيته وبصيرته وجل، بل عندما يهول المهولون، ويرعد ويبرق له المبرقون والمرعدون وكثرة المخالفين والمعاندين، من المجاهدين والمخاتلين أثبت ما يكون عزيمة، وأجرأ جناناً، وأنفذ مكيدة، وأحسن

____________________

(١) سورة الشورى: آية ٢٠ قال العلامة: روى الجمهور في الصحيحين وأحمد بن حنبل في مسنده والثعلبي في تفسيره عن ابن عباس رحمه الله قال: لما نزلت:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين أوجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما.

(٢) سورة الأحزاب: آية ٣٣، قال العلاّمة: أجمع المفسّرون وروى الجمهور كأحمد بن حنبل وغيره أنّها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام .

٣٢٣

تدبيراً، وأقوى في تثبيت حق المأمون، والدعاء إليه حتى غصم أنياب الضلالة، وفلّ حدهم، وقلم أظفارهم، وحصد شوكتهم، وصرعهم مصارع الملحدين في دينهم، والناكثين لعهده، الوانين في أمره، والمستخفّين بحقّه الآمنين لما حذر من سطوته وبأسه مع آثار ذي الرياستين في صنوف الأمم من المشركين، وما زاد الله به في حدود دار المسلمين، ممّا قد وردت أنباؤه عليكم، وقرئت به الكتب على منابركم، وحملة أهل لآفاق إليكم إلى غيركم فانتهى شكر ذي الرياستين بلاء أمير المؤمنين عنده، وقيامه بحقه، وابتذاله مهجته، ومهجة أخيه أبي محمد الحسن بن سهل الميمون النقيبة، المحمود السياسة إلى غاية تجاوز بها الماضيين، وفاز بها الفائزون.

وانتهت مكافأة أمير المؤمنين إياه إلى ما حصل له من الأموال والقطايع، والجواهر، وإن كان ذلك لا يفي بيوم من أيامه، ولا بمقام من مقاماته، فتركه زهداً فيه، وارتفاعاً من همته عنه، وتوفيراً له على المسلمين، واطراحاً للدنيا، واستصغاراً لها، وإيثاراً للآخرة ومنافسة فيها.

وسأل أمير المؤمنين ما لم يزل له سائلاً، وإليه فيه راغباً من التخلّي والتزاهد، فعظم ذلك عنده وعندنا، لمعرفتنا بما جعل الله عزّ وجل في مكانه الذي هو به من العز للدين والسلطان، والقوة على صلاح المسلمين، وجهاد المشركين، وما أرى الله به من تصديق نيته، ويمن نقيبته، وصحة تدبيره، وقوّة رأيه، ونجح طلبته، ومعاونيه على الحق والهدى، والبر والتقوى، فلمّا وثق أمير المؤمنين وثقنا منه، بالنظر للدين، وإيثار ما فيه صلاحه، وأعطيناه سؤاله الذي يشبه قدره، وكتبنا له كتاب حباء وشرط، قد نسخ في أسفل كتابي هذا، وأشهدنا الله عليه، ومن حضرنا من أهل بيتنا والقواد، والصحابة، والقضاة والفقهاء والخاصة والعامة.

وأمر أمير المؤمنين بالكتاب إلى الآفاق ليذيع، ويشيع في أهلها ويقرأ على منابرها، ويثبت عند ولاتها وقضاتها، فسألني أن أكتب بذلك، وأشرح معانيه وهي على ثلاثة أبواب:

ففي الباب الأول:

البيان عن كل آثاره التي أوجب الله بها حقّه علينا، وعلى المسلمين.

الباب الثاني:

البيان عن مرتبته في إزاحة علته في كل ما دبر، ودخل فيه ولا سبيل عليه، فيما

٣٢٤

ترك وكره؛ وذلك لما ليس لخلق ممن في عنقه بيعة إلا له وحده ولأخيه، ومن إزاحة العلّة تحكيمها في كل من بغى عليهما وسعى بفساد علينا وعليهما وعلى أوليائنا لئلاّ يطمع طامع في خلاف عليهما، ولا معصية لها، ولا احتيال في مدخل بيننا وبينهما.

الباب الثالث:

البيان عن عطائنا إيّاه ما أحب من ملك التخلي وحلية الزهد، وحجّة التحقيق لما سعى فيه من ثواب الآخرة بما يتقرر في قلب مَن كان شاكاً في ذلك منه، وما يلزمنا له من الكرامة والعز والحباء الذي بذلناه له ولأخيه في منعهما ما نمنع منه أنفسنا؛ وذلك محيط بكل ما يحتاط فيه محتاط في أمر دين ودنيا...).

وانتهت هذه الكلمة، وقد أشادت بالجهود الجبارة التي بذلها الفضل بن سهل في توطيد حكومة المأمون، وإقامة دولته، كما أشادته بنزاهته، ورفضه للجوائز والهبات الكثيرة، وطلبه للتقاعد، وقد رفض ذلك، وكانت هذه الكلمة مقدمة لكتاب الحباء والشرط، وهذا نصه بعد البسملة:

(هذا كتاب حباء وشرط من عبد الله المأمون أمير المؤمنين وولي عهده علي بن موسى الرضا لذي الرياستين الفضل بن سهل في يوم الاثنين لسبع ليال خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وهو اليوم الذي تمم الله فيه دولة أمير المؤمنين، وعقد لولي عهده، والبس الناس اللباس الأخضر، وبلغ أمله في إصلاح وليه، والظفر بعدوه، إنّا دعوناك إلى ما فيه بعض مكافأتك، على ما قمت به من حق الله، تبارك وتعالى، وحق رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحق أمير المؤمنين، وولي عهده على بن موسى، وحق هاشم التي بها يرجى صلاح الدين، وسلامة ذات البين بين المسلمين، إلى أن يثبت النعمة علينا وعلى العامة بذلك، وبما عاونت عليه أمير المؤمنين من إقامة الدين والسنة، وإظهار الدعوة الثانية وإيثار الأولى، مع قمع المشركين، وكسر الأصنام، وقتل العتاة وساير آثارك الممثلة للأمصار في المخلوع - وهو الأمين - وقابل، وفي المسمّى بـ‍ (الأصفر) المكنّى بأبي السرايا، وفي المسمّى بالمهدي محمد بن جعفر الطالبين، والترك الحوليه، وفي طبرستان وملوكها إلى بندار هرمز بن شروين، وفي الديلم وملكها (مهورس) وفي كابل وملكها هرموس ثم ملكها الأصفهيد، وفي ابن البرم، وحبال بدار بنده، وعرشستان، والغور وأصنافها، وفي خراسان وبلون صاحب جبل التبت، وفي كيمان والتغرغر، وفي أرمينية والحجاز،

٣٢٥

وصاحب السرير، وصاحب الخزر وفي المغرب وحروبه، وتفسير ذلك في ديوان السيرة.

وكان ما دعواك إليه وهو معونة لك الف ألف درهم، وغلّة عشرة ألف ألف درهم جوهر أسواماً أقطعك أمير المؤمنين قبل ذلك، وقيمة مائة ألف ألف درهم جوهراً يسيراً عندنا ما أنت له مستحق فقد تركت مثل ذلك حين بذله لك المخلوع، وآثرت الله ودينه، وإنّك شكرت أمير المؤمنين وولي عهده، وآثرت توفير ذلك كلّه على المسلمين، وجدت لهم به.

وسألتنا أن نبلّغك الخصلة التي لم تزل لها تائقاً من الزهد والتخلّي ليصح عند مَن شك في سعيك للآخرة دون الدنيا وتركك الدنيا، وما عن مثلك يستغني في حال، ولا مثلك رد عن طلبه، ولو أخرجتنا طلبتك عن شطر النعيم علينا فكيف نأمر؟ رفعت فيه المؤنة، وأوجبت به الحجّة، على مَن كان يزعم أنّ دعاك إلينا للدنيا لا للآخرة، وقد أجبناك إلى ما سألت به، وجعلنا ذلك لك مؤكّداً بعهد الله وميثاقه اللذين لا تبديل لهما، ولا تغيير، وفوّضنا الأمر في وقت ذلك إليك، فما أقمت فعزيز مزاح العلّة، مدفوع عنك الدخول فيما تكرهه، من الأعمال، كائناً ما كان، نمنعك ممّا نمنع به أنفسنا في الحالات كلها، وإذا أردت التخلي فمكرم، مزاح البدن، وحق لبدنك بالراحة والكرامة ثم نعطيك مما تتناوله، ممّا بذلناه لك في هذا الكتاب، فتركته اليوم.

وجعلنا للحسن بن سهل مثل ما جعلناه لك، فنصف ما بذلناه من العطية، وأهل ذلك هو لك، وبما بذل من نفسه في جهاد العتاة، وفتح العراق مرتين، وتفريق جموع الشيطان بيده حتى قوى الدين، وخاض نيران الحروب، ووقانا عذاب السموم بنفسه وأهل بيته، ومن ساس من أولياء الحق، وأشهدنا الله وملائكته وخيار خلقه، وكل من أعطانا بيعته، وصفقة يمينه في هذا اليوم وبعده على ما في هذا الكتاب، وجعلنا الله علينا كفيلاً، وأوجبنا على أنفسنا الوفاء بما اشترطنا من غير استثناء بشيء ينقصه في سر ولا علانية، والمؤمنون عند شروطهم، والعهد فرض مسؤول، وأولى الناس بالوفاء مَن طلب من الناس الوفاء، وكان موضعا للقدرة، قال الله تعالى:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاّ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) (١) .

____________________

(١) سورة النحل: آية ٩١.

٣٢٦

وانتهت هذه الوثيقة التي عرفت بوثيقة الحباء والشرط وقد وقع عليها المأمون، والإمام الرضاعليه‌السلام .

توقيع المأمون:

وقد جاء فيه بعد البسملة: (قد أوجب أمير المؤمنين على نفسه جميع ما في هذا الكتاب، وأشهد الله تعالى، وجعله عليه داعياً وكفيلاً) وكتب بخطّه في صفر سنة (٢٠٢) تشريفاً للحباء، وتوكيداً للشروط.

توقيع الإمام الرضا:

وجاء في توقيع الإمامعليه‌السلام بعد البسملة (قد ألزم علي بن موسى الرضا نفسه بجميع ما في هذا الكتاب، على ما أكّد فيه، في يومه وغده ما دام حيّاً، وجعل الله تعالى عليه داعياً وكفيلاً، وكفى بالله شهيداً).

وكتب بخطّه في هذا الشهر - أي صفر - وفي هذه السنة - أي سنة (٢٠٢ ه‍) والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله وسلّم، وحسبنا الله، ونعم الوكيل(١) .

وانتهت هذه الوثيقة، وقد حكت صوراً رهيبة من لاضطراب السياسي الذي مُنيت به البلاد الإسلامية، فقد انتشرت فيها الثورات الشعبية، وعمّت فيها الفتن، وهذا ممّا يؤكّد بعض المصادر من أنّ عصر المأمون كان عصر فتن، واضطراب وقد أخمد هذه الثورات، واستأصل جذورها الفضل بن سهل، فقد كان خبيراً، ومضطلعاً بإخماد الثورات وقد أريقت أنهار من الدماء، وانتشر الحزن والحداد في معظم الأقطار الإسلامية، ومن الطبيعي أنّ تلك الثورات كانت ناجمة عن الظلم والجور، السائدين في ذلك العصر، فقد ساس العباسيون العالم الإسلامي سياسة قائمة لا بصيص فيها من نور العدل والحق.

وعلى أيّ حال فإنّ هذه الوثيقة بقسيمتها لم تكن من إنشاء الإمام الرضاعليه‌السلام ، وإنّما كانت من إنشاء الجهاز الحاكم وأعوانه، ونسبت إلى الإمام الرضا، لتكسب الجهة الشرعية، وتكون غير قابلة للنقض ويدعم ذلك ما يلي:

أوّلاً: إنّ هذه الوثيقة قد منحت الملايين من الأموال إلى الفضل بن سهل، ووهبته

____________________

عيون أخبار الرضا ٢/١٥٤ - ١٥٩.

٣٢٧

الثراء العريض جزاءً لخدماته للمأمون وقمعه للثورات المعادية له، ومن الطبيعي أنّ تلك الأموال انما هي من الخزينة المركزية التي هي ملك لجميع المسلمين، ومما لا شبهة فيه أنه لا يجوز التفريط بأقل القليل من أموال المسلمين ولا يجوز أن تعطى مكافأة أو غير ذلك إلى أي شخص، وانما يجب انفاقها على صالح المسلمين وتطوير حياتهم، وانعاشهم ونشر الرخاء عليهم، فكيف جاز للامام ان يجيز ذلك ويقر منح هذه الأموال للفضل.

ثانياً: إنّ هذه الوثيقة قد حوت آيات من المدح والثناء على المأمون والفضل بن سهل، والطعن في ثورة أبي السرايا وثورة جعفر بن محمد الطالبين، وكل ذلك ليس من خلق الإمام الرضاعليه‌السلام ، فهو لا يمدح أحداً حتى يكون جديرا بالمدح والثناء، ولا يذم كذلك أحداً حتى يكون جديراً بالذم والتوهين، كانت هذه سيرته ومنهجه، فكيف يمنح المأمون هذا الثناء، وكيف يمدح هذا الفضل بهذا المدح؟ مع العلم أنّه سلام الله عليه كان يكن في أعماق نفسه ودخائل ذاته الكراهية والبغضاء لهما؛ وذلك لعلمه بما انطوت عليه نفوسهما من الشر، والحقد عليه، وإنّما قام المأمون بتكريم الإمام ومنحه ولاية العهد لمناورة سياسية لم تكن خافية عليه.

ثالثاً: إنّ هذه الوثيقة تتنافى مع ما اشترطه الإمامعليه‌السلام على المأمون في قبوله لولاية العهد أن لا يتدخّل في أي أمر من أمور الدولة، ويكون بمعزل عن جميع الأحداث السياسية، فكيف يتدخّل في أمر الفضل، ويجازيه على إخلاصه للمأمون، وعلى سعيه في إخماد الثورات الملتهبة التي اندلعت ضد المأمون؟!!.

هذه بعض المؤاخذات التي تواجه نسبة هذه الوثيقة للإمام الرضاعليه‌السلام .

مع أخيه زيد:

وانضم زيد إلى الثورة التي أعلنها أبو السرايا داعية محمد بن إبراهيم الحسني، وقد قلّد زيدا ولاية (الأهواز)، فسار إليها ليتولّى مهام منصبه، فاجتاز على (البصرة)، وكانت خاضعة للحكم العباسي فأحرق دور بني العباس، ومن أجل ذلك لقب بزيد النار، ولـمّا فشلت ثورة أبي السرايا، واستتر زيد فطلبه الحسن بن سهل فظفر به، فحبسه، ولم يزل في الحبس حتى ظفر إبراهيم شيخ المغنّيين المعروف بابن شكلة،

فهجم البغداديون على السجن، وأخرجوا زيداً من السجن، ومضى إلى يثرب، ودعا

٣٢٨

لبيعة محمد بن جعفر فبعث المأمون جيشاً فقضى على الثورة، وأسر زيد وجيء به مخفوراً إلى المأمون فقال له:

(يا زيد خرجت بالبصرة، وتركت أن تبدأ بدور أعدائنا من أمية وثقيف، وغنى، وباهلة، وآل زياد، وقصدت دور بني عمّك - يعني بني العباس -).

فقال له زيد بمرح:

(يا أمير المؤمنين أخطأت من كل جهة، وإن عدت للخروج بدأت بأعدائنا).

وضحك المأمون، وبعثه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام وقال له: وقد وهبت لك جرمه فأحسن أدبه(١) ، ولـمّا مثل أمام الإمامعليه‌السلام قال له:

ويلك يا زيد، فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت، وتزعم أنّك ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله لأشد الناس عليك رسول الله (ص) يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله أن يعطي به...).

ولـمّا انتهى كلام الإمام إلى المأمون بكى، وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله (ص)(٢).

مع أخته فاطمة:

وكتب الإمام الرضاعليه‌السلام وهو في (خراسان) إلى السيدة الزكية فاطمة المعروفة بالسيدة معصومة أن تلحق به، فقد كانت أثيرة عنده، عزيزة عليه، ولـمّا انتهى الكتاب إليها تجهّزت وسافرت إليه(٣) ولـمّا وصلت إلى (ساوه) مرضت فسألت عن المسافة بينها وبين (قم) فقيل لها: عشرة

فراسخ فأمرت بحملها إلى (قم)، فحملت إليها، ونزلت في بيت موسى بن خزرج بزمام ناقتها، وأقدمها إلى داره فبقيت عنده سبعة عشر يوماً ثم انتقلت إلى حظيرة القدس، فقام موسى بتجهيزها، ودفنها في أرض كانت له، وبنى على مرقدها الطاهر

____________________

(١) تنقيح المقال ١ / ٤٧١.

(٢) مرآة الجنان ٢ / ١٣.

(٣) جوهرة الكلام (ص ١٤٦).

٣٢٩

سقيفة من البواري إلى أن بنت عليها السيدة زينب بنت محمد بن علي الجواد قبّة(١) ، وأصبح مرقدها الطاهر من أعزّ أمكنة العبادة، والمراقد المطهّرة في الإسلام، كما أصبحت تلك المدينة المقدّسة جامعة من جوامع العلم، ومركزاً من مراكز الثقافة في الإسلام.

ويقول الحسن بن محمد القمّي: كنت عند الإمام الصادقعليه‌السلام فقال: (إنّ لله حرماً وهو مكّة، ولرسوله (ص) حرماً وهو المدينة، ولأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ولنا حرماً وهو (قم)، وستدفن فيه امرأة من ولدي تسمّى فاطمة، مَن زارها وجبت له الجنة)(٢) وقد أعلن الإمام الصادقعليه‌السلام ذلك قبل ولادتها.

صلاة العيد:

وطلب المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام أن يصلّي بالناس صلاة العيد، ويخطب بعد الصلاة، لتطمئن بذلك قلوب العامة، ويعرفوا فضله، فامتنع الإمام من إجابته، وقال له: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط، وهي عدم تدخّله في أي أمر من الأمور، فقال المأمون: إنّما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند، والشاكرية، هذا الأمر فتطمئن قلوبهم، ويقرّوا لما فضّلك الله به، وأصرّ المأمون عليه، فاضطرّ إلى إجابته، ولكنّه شرط عليه أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجدّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال له المأمون: اخرج كيف شئت، وأوعز المأمون إلى القوات المسلحة، والى سائر الناس باستقبال الإمام الرضاعليه‌السلام ، وخرجت الجماهير تنتظر خروج الإمام، وقد غصّت بهم الطرقات وأشرفوا من أعلى منازلهم، ولـمّا طلعت الشمس قام الإمام فاغتسل، ولبس عمامة بيضاء وألقى طرفاً منها على صدره الشريف، وطرفاً بين كتفه، وأمر مواليه أن يصنعوا مثل صنعه، ثم أخذ بيده عكّازة، وخرج بتلك الحالة التي تعنو لها الجباه، ورفع رأسه الشريف إلى السماء فكبّر أربع تكبيرات، وقد تهيأ الجيش، وتزين بأحسن زينة، ثم وقف على الباب فكبر أربعاً وقال: (الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام الحمد لله على ما أبلانا...).

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٣٩.

(٢) تحفة العالم (ص ٣٦) البحار.

٣٣٠

وضجّت الأرض بالتكبير، وماج الناس، وعلت أصواتهم بالتكبير وتذكّروا في صورة الإمامعليه‌السلام صورة جدّه الرسول (ص) الذي طوّر الحياة الفكرية في الأرض، وتبيّن لهم زيغ أولئك الملوك الذين حكموهم بالظلم والجور.

وكان الإمام العظيم سلام الله عليه يمشي على قدميه، ويقف في كل عشر خطوات، ويكبّر الله تعالى أربع مرات، وتخيّل الناس أنّ السماء والأرض، والحيطان تجاوبه، وصارت (مرو) ضجّة واحدة، وبلغ المأمون ذلك فارتاع، وفزع، وانبرى إليه الفضل بن سهل فقال له:

(يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع...).

وبعث المأمون بعض جلاوزته إلى الإمام فسأله الرجوع، فدعاعليه‌السلام بخفّه فلبسه ورجع من دون أن يصلّي بالناس(١) ، وقد أظهرت هذه البادرة روحانية الإمام، وزهده في الدنيا، ورفضه لمباهج الملك والسلطان، ويصف البحتري خروج الإمامعليه‌السلام إلى الصلاة بهذه الكيفية بقوله:

ذكروا بطلعتك النبي فهلّلوا

لـمّا طلعت من الصفوف وكبّروا

حتى انتهيت إلى المصلّى لابساً

نور الهدى يبدو عليك فيظهرُ

ومشيت مشية خاضعٍ متواضعٍ

لله لا يزهو ولا يتكبّرُ

ولو انّ مشتاقاً تكلّف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبرُ(٢)

ويقول الرواة: إنّ خروج الإمام إلى الصلاة بهذه الكيفية كانت من أهم العوامل التي أدّت إلى حقد المأمون على الإمام، وإقدامه على اغتياله.

استسقاء الإمام:

وحُبس المطر عن الناس، فعزى ذلك بعض الحاقدين على الإمامعليه‌السلام ذلك إلى تولّيه ولاية العهد، وأخذوا يذيعون ذلك وينشرونه في الأوساط الشعبية للطعن بشخصية الإمامعليه‌السلام وبلغ المأمون ذلك، فثقل

____________________

(١) أصول الكافي ١ / ١٨٩ - ١٩٠ عيون أخبار الرضا ٢ / ١٥٠ - ١٥١، المناقب ٤ / ٣٧١ - ٣٧٢، كشف الغمّة.

(٢) المناقب ٤ / ٣٧٢.

٣٣١

عليه، وعرض ذلك على الإمام وطلب منه أن يدعو الله تعالى لينزل المطر على الناس، فأجابه الإمام: إنّي أفعل ذلك يوم الاثنين، فقال له المأمون: ولم ذلك، فقالعليه‌السلام :

(إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتاني البارحة، ومعه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وقال: يا بني انتظر بوم الاثنين، فابرز إلى الصحراء واستسق، فإنّ الله تعالى سيسقيهم، وأخبرهم بما يريك الله ممّا لا يعلمون من حالهم ليزدادوا علماً بفضلك ومكانك من ربّك عزّ وجل...).

وانتظر المأمون، وباقي حاشيته الاثنين، وقد أوعز إلى جميع الأوساط الشعبية بالخروج إلى الصحراء يوم الاثنين، ولـمّا حلّ هذا اليوم هرعت الناس إلى الصحراء، وخرج الإمامعليه‌السلام وعليه هيبة الأنبياء فلمّا انتهى إلى الصحراء نصب له منبر وقد حفّت به الجماهير، وقد علت أصواتهم بالتهليل والتكبير.

دعاء الإمام:

واعتلى الإمام المنبر فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: (اللّهمّ يا رب أنت عظمت حقّنا أهل البيت، فتوسّلوا بنا كما أمرت، وأملوا فضلك، ورحمتك، وتوقّعوا إحسانك، ونعمتك، فاسقهم سقياً نافعاً، عامّاً، غير رايث(١) ولا ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارهم...

وأضاف الإمام قائلاً:

(فوالذي بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحق نبياً، لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم، وأرعدت وأبرقت...).

ولـمّا سمعت الجماهير كلام الإمام أرادت الرجوع إلى أهلها لئلاّ يصيبهم المطر، فقالعليه‌السلام : ليست هذه السحابة التي أطلّت عليكم لكم، وإنّما هي لبلد وسمّاه لهم.

وهكذا أطلّت على الجماهير عشر سحب متوالية، ويخبر الإمام عن كل سحابة أنّها تهطل في بلد وسمّاه، وأطلّت السحابة الحادية عشر، فقالعليه‌السلام :

____________________

(١) غير رايث: أي غير بطئ.

٣٣٢

(أيّها الناس: هذه سحابة بعثها الله عزّ وجل لكم، فاشكروا الله على تفضّله عليكم، وقوموا إلى مقاركم، ومنازلكم، فإنّها مساقة لكم، ولرؤوسكم ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا إلى مقاركم، ثم يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله...).

ثم نزل من على المنبر، وسارعت الجماهير إلى بيوتها، فلمّا انتهت إليها هطلت السحابة بوابل من المطر لم يسبق له مثيل فملئت الأودية والحياض، والغدران، والفلوات.

وأيقن الناس بكرامة أهل البيت، وما لهم من المنزلة الوثيقة عند الله تعالى، وقالوا: هنيئاً لولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كرامات الله عزّ وجل لهم، وكانت هذه الكرامة من كرامات هذا الإمام العظيم.

خطاب الإمام:

وخطب الإمامعليه‌السلام في حفل كبير حاشد على أثر هذه الكرامة فقالعليه‌السلام :

(أيّها الناس: اتقوا الله في نعم الله عليكم، فلا تنفروها عنكم بمعاصيه بل استديموها بطاعته، وشكره على نعمه وأياديه، واعلموا أنّكم لا تشكرون الله تعالى بشيء بعد الإيمان بالله، وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أحب إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبر لهم إلى جنان ربّهم، فإنّ مَن فعل ذلك من خاصة الله تبارك وتعالى وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك قولاً ما ينبغي لقائل أن يزهد في فضل الله عليه فيه إن تأمّله وعمل عليه؟

قيل: يا رسول الله هلك فلان يعمل من الذنوب كيت، وكيت، فقال رسول الله: بل قد نجا، ولا يختم الله عمله إلاّ بالحسنى، وسيمحو الله عنه السيئات، ويبدلها حسنات، إنّه كان يمر مرة في طريق، عرض له مؤمن قد انكشفت عورته وهو لا يشعر فسترها عليه، ولم يخبره مخافة أن يخجل، ثم إنّ ذلك المؤمن عرفه في مهواه(١) فقال له: أجزل الله لك الثواب وأكرم لك المآب، ولا ناقشك في الحساب، فاستجاب الله له فيه، فهذا العبد لا يختم الله له إلاّ بخير بدعاء ذلك

____________________

(١) المهواة: المطمئن من الأرض ما بين جبلين.

٣٣٣

المؤمن، فاتصل قول رسول الله (ص) بهذا الرجل فتاب وأناب، وأقبل على طاعة الله عزّ وجل، فلم تأت سبعة أيام حتى أغير على سرح(١) المدينة، فوجّه رسول الله (ص) في أثرهم جماعة ذلك الرجل أحدهم فاستشهد...).

وانتهى خطاب الإمام، وقد حفل بالدعوة إلى تقوى الله تعالى والتعاون والتآلف بين المسلمين، واعتبر ذلك من أفضل الطاعات والقربات إلى الله تعالى.

عتاب وتحذير:

وتحدثت الأندية والمجالس عن استسقاء الإمامعليه‌السلام وهطول الأمطار الغزيرة بدعائه، وقد ورمت أنوف العباسيين وعملائهم، وتميّزوا غيظاً وغضباً فقد ظهر فضل العلويين، وما لهم من المنزلة العظيمة عند الله تعالى وقد اشتد وغد خبيث كالكلب نحو المأمون، وجعل يعاتبه، ويحذّره من عقده ولاية العهد للإمام وظهور هذه الكرامة له قائلاً:

(يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تكون تأريخ الخلفاء(٢) في إخراجك هذاالشرف العميم، والفخر العظيم من بيت ولد العباس إلى بيت ولد علي.

لقد أعنت على نفسك وأهلك، وجئت بهذا الساحر، ولد السحرة، وقد كان خاملاً فأظهرته، ومتضعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكرت به، ومستخفاً فنوّهت به، وقد ملا الدنيا مخرقة(٣) وتشوقاً بهذا المطر الوارد عند دعائه، وما أخوفني أن يخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي، بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره إلى إزالة نعمتك، والتواثب(٤) على مملكتك، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟...).

وحكى هذا منطق الجاهلية الرعناء التي حكمت على الرسول الأعظم أنّه ساحر، وذلك لظهور المعاجز والآيات على يده، وكذلك حكموا على حفيده بهذا

الحكم.... ولنستمع إلى جواب المأمون:

____________________

(١) السرح: المال السائم.

(٢) قوله: أن تكون تأريخ الخلفاء: كناية عن عظيم الواقعة وهي عقده بولاية العهد للإمام، وأنّها ستكون موضع تأريخ للناس، ويحتمل أن يكون المراد أنت آخر الخلفاء.

(٣) المخرقة: الشعبذة.

(٤) وفي نسخة البحار (الريث).

٣٣٤

(وقد كان هذا الرجل - يعني الإمام - مستتراً عنّا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، وليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به أنّه ليس ممّا ادعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه، والآن فإذ قد فعلناه، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه على ما أشرفنا فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوّره عند الرعايا بصورة مَن لا يستحق لهذا الأمر ثم ندبّر فيه بما يحسم عنّا مواد بلائه...)(١) .

لقد كشف المأمون الغطاء عن الدوافع التي دعته لعقد ولاية العهد للإمامعليه‌السلام وهي:

أولاً: إنّ الإمامعليه‌السلام كان يدعو الناس إلى نفسه سرّاً وبتقليده لولاية العهد يكون دعاؤه للمأمون، ويعترف بملكه وخلافته.

ثانياً: إنّه أراد أن يظهر للملأ أنّ الإمامعليه‌السلام لم يكن زاهداً في الحكم، ومبتغياً الدار الآخرة.

وقد اعترف أخيراً بالخطأ في ترشيحه لهذا المنصب، وانتدابه للقيام بالاستسقاء وغيره التي ظهرت روحانيته، وعظيم مكانته عند الله، ولكنّه سوف يبغي له الغوائل، ويكيده حتى يقضى عليه.

خشية المأمون من الإمام:

وخشي المأمون من الإمام، وفزع من التفاف الجماهير حوله، وخاف على ملكه من الزوال، فقد استبان للناس فضل الإمامعليه‌السلام وروحانيته، وأنّه هو القادر على أن يبسط العدل السياسي، والعدل الاجتماعي في ربوعهم، وأنّ بني العباس لا لايقة لهم لزعامة الأمة والتحكّم في سلطان المسلمين.

قرارات هامّة:

وأخذ المأمون يطيل التفكير، ويقلب الرأي على وجوهه مع مستشاريه للتخلّص من الإمام، فاتخذ من القرارات ما يلي:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٩ - ١٧٠.

٣٣٥

أولاً: عقد المؤتمرات العلمية التي تضم كبار علماء الدنيا لامتحان الإمام لعلّه يعجز عن الإجابة فيتخذ من ذلك وسيلة للطعن في شخصية الإمام، وإبطال مذهب التشيّع الذي ينص على أنّ الإمام لا بد أن يكون أعلم أهل عصره، كما أنه إذا عجز الإمام فإنّه يكون في فسحة من عزله عن ولاية العهد.

وقد فشلت هذه الخطة فشلاً ذريعاً، فقد حلّق الإمام، وارتفع صيته، وأقرّت جميع الوفود العلمية التي سألته بأنّه يملك طاقات هائلة من العلوم لا تحد، وأنّه فوق العلماء في مواهبه وعبقرياته، الأمر الذي أوجب أن يقر بإمامته طائفة من كبار العلماء الذين امتحنوه.

ثانياً: فرض الرقابة عليه، وإحاطته بقوى مكثّفة من الأمن تحصي عليه أنفاسه، وقد أسندت مديرية الرقابة التي تشرف عليه إلى هشام بن إبراهيم الراشدي الهمداني، وكان إبراهيم فيما يقول الرواة عالماً أديباً، وكانت أمور الإمام الرضاعليه‌السلام قبل أن يحمل إلى (خراسان) تجري من عنده وعلى يده، كما أنّ الأموال التي كانت ترسل إلى الإمام كانت تبعث على يده، ولـمّا حمل الإمام إلى (خراسان) اتصل إبراهيم بذي الرياستين فأغراه بالمنصب والأموال، فتغلب هواه على دينه فانحرف عن الحق،

فصار عيناً على الإمام فجعل ينقل جميع أخباره وشؤونه إلى الفضل والى المأمون، وقد أسند إليه المأمون حجابة الرضا، فكان لا يصل إليه إلاّ مَن أحب، وضيّق على الإمام غاية التضييق، وكان لا يتكلم بشيء قلّ أو كثر إلاّ أورده على المأمون وعلى وزيره الفضل(١) ؛ وبذلك فقد سيطر المأمون على جميع شؤون الإمام، وعرف جميع مَن يتصل به.

ثالثاً: طرد الشيعة من الحضور في مجالس الإمام والاستماع إلى حديثه، وقد عهد المأمون للقيام بذلك إلى حاجبه محمد بن عمرو الطوسي فطرد الشيعة، وزبرهم من الالتقاء بالإمامعليه‌السلام ، وقد قابل المأمون الإمام بشراسة فغضبعليه‌السلام ، وقام فصلّى ركعتين، وقال في قنوته:

(اللّهم يا ذا القدرة الجامعة والرحمة الواسعة، والمنن والمتتابعة والآلاء والمتوالية، والأيادي الجميلة، والمواهب الجزيلة، يا مَن لا يوصف بتمثيل، ولا يمثل بنظير، يا

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٥٣.

٣٣٦

مَن خلق فرزق، وألهم فأنطق وابتدع فشرع، وعلا فارتفع، وقدّر فأحسن، وصوّر فأتقن، وأجنح فأبلغ، وأنعم فأسبغ، وأعطى فأجزل، يا مَن سما في العز ففات خواطف الأبصار، ودنا في اللطف فجاز هواجس الأفكار.

يا مَن تفرّد بالملك فلا ندّ له في ملكوت سلطانه، وتوحّد بالكبرياء فلا ضدّ له في جبروت شأنه، يا مَن حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام، وحسرت دون إدراك عظمته خطايف أبصار الأنام، يا عالم خطرات قلوب العارفين وشاهد لحظات أبصار الناظرين، يا من عنت الوجوه لهيبته وخضعت الرقاب لجلالته، ووجلت القلوب من خيفته، وارتعدت الفرايض من فرقه، يا بدئ يا بديع، يا قوي يا منيع، يا علي، يا رفيع، صلّي على مَن شرفت الصلاة بالصلاة عليه، وانتقم لي ممّن ظلمني، واستخفّ بي، وطرد الشيعة عن بابي وأذاقه مرارة الذل والهوان كما أذاقنيها، واجعله طريد الأرجاس وشريد الأنجاس...)(١) .

واستجاب الله دعاء الإمامعليه‌السلام فقد ثارت الغوغاء على المأمون حتى كادت أن تقضى عليه ولاقى من الرعب والهوان ما لا يوصف.

وقام المأمون مرة أخرى بطرد الشيعة، وحاول النكاية بالإمام فلمّا علمعليه‌السلام بذلك قام فاغتسل وصلّى ركعتين ودعا في قنوته بهذا الدعاء:

(اللّهمّ أنت الله الحي، القيوم، الخالق، الرازق، المحي المميت، المبدئ، البديع، لك الكرم، ولك الحمد، ولك المن، ولك الأمر، وحدك لا شريك لك، يا واحد، يا أحد يا فرد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، صلِّ على محمد وآل محمد...).

ثم دعا الله بصرف ما أهمه، فكشف عنه كيد المأمون وبغيه(٢) .

عدم محاباة الإمام للمأمون:

ولم يجار الإمامعليه‌السلام المأمون، ولم يصانعه، وإنّما وقف منه موقفاً يتسم بالجد والصراحة، والنقد اللاذع لبعض أعماله وكان المأمون يتميز غيظاً، ويكتم ذلك، مجاراة للإمامعليه‌السلام وكان من بين مواقفه مع المأمون ما يلي:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٧٢ - ١٧٣.

(٢) هامش المصباح (ص ٢٩٣).

٣٣٧

١ - إنّ المأمون لما عرض الخلافة على الإمام، وقال له: (إنّي رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك، وأبايعك...).

وانظروا إلى صراحة الإمام في جوابه قالعليه‌السلام :

(إن كانت هذه الخلافة لك، والله جعلها لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك...)(١) .

أرأيتم هذا المنطق الفياض، والحجّة الدامغة الحافلة بالحق والصدق، وقد فقد المأمون إهابه، فلم يدر ماذا يقول فالتجأ إلى الصمت والسكوت.

٢ - ولـمّا امتنع الإمام عليه من قبول الخلافة عرض عليه المأمون ولاية العهد، فأجابه بهذا الجواب قائلاً:

(تريد بذلك - أي بتقليده لولاية العهد - أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد؟...).

والتاع المأمون، وورم أنفه، وصاح بالإمامعليه‌السلام قائلاً: (إنّك تتلقاني أبدا بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد، وإلاّ أجبرتك على ذلك، فان فعلت وإلا ضربت عنقك...)(٢) .

إنّ الإمامعليه‌السلام في جميع خطواته وأعماله قد آثر رضى الله تعالى، فلم يحاب أحداً، ولم يصانع مخلوقاً، ولو صانع المأمون وتقرّب إليه، وأرضى عواطفه لما قدم المأمون على اغتياله وقتله.

٣ - وكان من صراحة الإمامعليه‌السلام وعدم محاباته للمأمون أنّ المأمون قال له: (يا أبا الحسن إنّي فكرت في شيء، فنتج لي الفكر الصواب فيه، فكرت في أمرنا وأمركم، نسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولاً على الهوى والعصبية...).

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤٠.

٣٣٨

فقال له الإمام:

(إنّ لهذا الكلام جواباً، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت...).

وسارع المأمون قائلاً:

(إنّي لم أقله إلاّ لأعلم ما عندك منه...).

وانبرى يقيم له الحجّة على أنّ العلويين أحق بالنبي، وأقرب إليه من العباسيين قائلاً: (أنشدك بالله يا أمير المؤمنين، لو أنّ الله تعالى بعث نبيّه محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام يخطب إليك ابنتك كنت مزوّجه إيّاها؟

فقال المأمون: (يا سبحان الله!! وهل أحد يرغب عن رسول الله (ص)؟.

وبادر الإمام الرضا قائلاً:

(افتراه كان يحل له أن يخطب إلي؟...).

وأفحم المأمون ولم يجد منفذاً يسلك فيه لتبرير قربهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد أقام الإمام حجّة دامغة لا مجال لإنكارها والشك فهم أبناء بنته البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، وأبناؤها أبناؤه، وراح المأمون يقول:

(أنتم والله أمس برسول الله رحماً...)(١) .

وليس استحقاق أهل البيت للخلافة باعتبار أنّهم ألصق الناس برسول الله (ص) وأقربهم إليه، وإنّما لمواهبهم وعبقرياتهم ودراياتهم بما تحتاج إليه الأمة في جميع مجالاتها الإدارية والاقتصادية.

الإمام يرفض تعيين الولاة:

وعرض المأمون على الإمام الرضاعليه‌السلام تعيين مَن يشاء ويختار ليكون والياً على بعض الأقاليم الإسلامية، ورفض الإمامعليه‌السلام الاستجابة لهذا الطلب، وقال له:

(إنّي إنّما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر ولا أنهى، ولا أعزل ولا أشير حتى

____________________

(١) كنز الفوائد (ص ١٦٦).

٣٣٩

يقدمني الله قبلك، فوالله إنّ الخلافة لشيء ما حدثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي، وأنّ أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي وإنّ كتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني من نعمة هي عليّ من ربّي)(١) .

لقد رفض الإمامعليه‌السلام رفضاً تاماً التدخّل في أيّ شأن من شؤون الدولة، وذلك للتدليل على عدم شرعية دولة المأمون، وأنّه إنّما دخل فيها عن كره وإجبار.

الإمام يخبر بعدم دخوله بغداد:

وقال المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام ندخل بغداد، وعرض عليه ما يفعله فيها، فقالعليه‌السلام له: تدخل أنت بغداد، وسمع بعض الشيعة هذا الكلام ففزع لأنه يؤذن بعدم دخول الإمام إلى بغداد، واختلى بالإمام، وقال له: إنّي سمعت شيئا غمني، وذكر له ما قاله الإمام، فقالعليه‌السلام له: (ما أنا وبغداد، لا أرى بغداد، ولا تراني...)(٢) .

وكان ذلك من دلائل إمامته، فإنّه لم يفارق (خراسان)، حتى اغتاله المأمون، ولم ير بغداد.

الإمام والفضل بن سهل:

أمّا الفضل بن سهل(٣) ، فهو أقوى شخصية في دولة المأمون، ويتمتّع

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٦ - ١٦٧.                        (٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٢٤ - ٢٢٥.

(٣) الفضل بن سهل السرخسي أسلم على يد المأمون سنة (١٩٠ ه‍) وكان من أخبر الناس بعلم النجوم، وقد طلب المأمون من والدة الفضل أن ترسل إليه بما خلفه ابنها فأرسلت إليه صندوقاً صغيراً مختوماً ففضّه، فإذا فيه درج، وفي الدرج رقعة من حرير مكتوب فيها بخطّه بعد البسملة هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنّه يعيش ٤٨ سنة، ثم يقتل ما بين ماء ونار، وقد عاش هذه المدة، ثم قتله غالب خال المأمون بسرخس، ومن بديع ما قاله إبراهيم بن العباس الصولي في مدحه:

لفضل بن سهل يد

تقاصر عنها المثل

فنائلها للغني

وسطوتها للأجل

وباطنها للندى

وظاهرها للقبل

ويقول في مدحه أبو محمد عبد الله بن محمد:

لعمرك ما الأشراف في كل بلدةٍ

وإن عظموا للفضل إلاّ صنائعُ

ترى عظماء الناس للفضل خشّعاً

إذا ما بدا والفضل لله خاشعُ

تواضع لـمّا زاده الله رفعةً

وكل جليل عنده متواضعُ

وأصيب الفضل بابن يقال له العباس فجزع عليه جزعاً شديداً فدخل عليه إبراهيم نجل الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام فعزاه وأنشده.

خير من العباس أجرك بعده

والله خير منك للعباسِ

فقال له الفضل صدقت، وجاء ذلك في وفيات الأعيان ٣ / ٢٠٩ - ٢١١.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375