حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)15%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 200714 / تحميل: 8164
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

ولاية علي بن مسلم على الموصل ثم انتزاعها منه وانقراض أمر بني المسيب من الموصل:

ولما قتل إبراهيم وملك تُتُش الموصل ولّى عليها علي بن أخيه مسلم بن قريش، فدخلها مع أمه صفية عند ملك شاه، واستقرت هي وأعمالها في ولايته، وسار تُتُش إلى ديار بكر فملكها، ثم إلى أذربيجان فاستولى عليها. وزحف إليه بركيارق وابن أخيه ملك شاه وتقاتلا فانهزم تُتُش، وقام بمكانه ابنه رضوان وملك حَلب وأمره السلطان بركيارق بإطلاق كربوقا فأطلقه. واجتمعت عليه رجال، وجاء إلى حران فملكها، فكاتبه محمد بن مسلم بن قريش وهو بنصيبين ومعه توران بن وهيب وأبو الهيجاء الكردي يستنصرونه على علي بن مسلم بن قريش بالموصل، فسار إليهم وقبض على محمد بن مسلم وسار به إلى نصيبين فملكها. ثم سار إلى الموصل فامتنعت عليه ورجع إلى مدينة بلد. وقتل بها محمد بن مسلم غريقاً، وعاد إلى حصار الموصل، واستنجد علي بن مسلم بالأمير جكرمش صاحب جزيرة ابن عمر، فسار إليه منجداً له، وبعث كربوقا إليه عسكراً مع أخيه ألتوتناش، فرده مهزوماً إلى الجزيرة، فتمسك بطاعة كربوقا وجاء مدداً له على حصار الموصل، واشتد الحصار بعلي بن مسلم، فخرج من الموصل ولحق بصدقة بن مزيد بالحلَّة وملك كربوقا بلد الموصل بعد حصار تسعة أشهر. وانقرض ملك بني المسيب من الموصل وأعمالها واستولى عليها ملوك الغز من السلجوقية أمراؤهم والبقاء لله وحده.

ما جاء من أخبارهم بتاريخ أبي الفداء الجزء الثالث:

في هذه السنة (٣٨٠) استولى أبو الذوّاد محمد بن المسيب بن رافع بن المقلَّد بن جعفر أمير بني عقيل على الموصل، وقتل أبا الطاهر ابن ناصر الدولة بن حمدان، وقتل أولاده وعدة من قواده بعد قتال جرى بينهما واستقر أمر أبي الذوّاد بالموصل.

وفي سنة ٣٨٦ مات أبو ذَوّاد بن المسيب أمير الموصل وولي بعده أخوه المقلَّد بن المسيب.

وفي سنة ٣٩١ قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب بن رافع بن

٢٢١

المقلَّد بن جعفر بن عمر بن مهنا بن يُزَيدْ (بالتصغير) بن عبد الله بن زيد من ولد ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن العقيلي، وكان المقلَّد المذكور أعور، وأخوه أبو الذوّاد محمد بن المسيب هو أول من استولى منهم على الموصل وملكها في سنة ثمانين وثلاثمائة. واستمر مالكها حتى قتل في هذه السنة، قتله مماليكه التُّرك بالأنبار وكان قد عظم شأنه، ولما مات قام مقامه ابنه قرواش بن المقلَّد بن المسيب. وفي هذه الصفحة في حوادث سنة ٣٩٢ جرى بين قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي وبين عسكر بهاء الدولة حروب انتصر فيها قرواش، ثم انتصر عسكر بهاء الدولة.

وفي حوادث سنة ٤١١ في الموصل قبض معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد على وزيره أبي القاسم المغربي، ثم أطلقه فيما بعد وقبض أيضاً على سليمان بن فهد، وكان ابن فهد في حداثته بين يدي الصابي ببغداد، ثم صعد إلى الموصل وخدم المقلَّد بن المسيب والد قرواش، ثم نظر في ضياع قرواش فظلم أهلها، ثم سخط قرواش عليه وحبسه، ثم قتله وهو المذكور في شعر ابن الزمكدم في أبياته وهي:

ولـيل كـوجه البرقعيدي مظلم وبـرد أغـانيه وطـول قرونه

سـريت ونومي فيه نوم مشرد كـعقل سـليمان بن فهد ودينه

عـلى أولـق فـيه التفات كأنه أبـو جـابر في خطبه وجنونه

إلـى أن بدا نور الصباح كأنه سنى وجه قرواش وضوء جبينه

وكان من حديث هذه الأبيات أن قرواشاً جلس في مجلس شرابه في ليلة شاتية، وكان عنده المذكورون، وهم البرقعيدي وكان مغنياً لقرواش وسليمان بن فهد الوزير المذكور، وأبو جابر وكان حاجباً لقرواش. فأمر قرواش الزمكدم أن يهجو المذكورين ويمدحه فقال هذه الأبيات البديهية.

في حوادث سنة ٤٢٥ وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد صاحب نصيبين فقصد ولده قريش عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين واستقر قريش بها.

في حوادث سنة ٤٣٧ قتل عيسى بن موسى لهَمَذاني صاحب أربل،

٢٢٢

قتله ابنا أخ له وملكا قلعة أربل، وكان لعيسى أخ آخر اسمه سلار بن موسى قد نزل على قرواش صاحب الموصل لوحشة كانت بين سلار وأخيه عيسى. فلما بلغه قتل أخيه سار قرواش إلى أربل ومعه سلار فملكها وتسلمها سلار وعاد قرواش إلى الموصل.

في حوادث سنة ٤٤٢ استولى أبو كامل بركة بن المقلَّد، على أخيه قرواش بن المقلَّد، ولم يبق لقرواش مع أخيه المذكور تصرف في المملكة وغلب عليها أبو كامل المذكور ولقبُه زعيم الدولة.

في حوادث سنة ٤٤٣ تُوفِّي بركة بن المقلَّد بن المسيب بتكريت، واجتمع العرب وكبراء الدولة على إقامة ابن أخيه قريش بن بدران بن المقلَّد وكان بدران بن المقلَّد المذكور صاحب نصيبين، ثم صارت لقريش المذكور بعده. وكان قرواش تحت الاعتقال منذ اعتقله أخوه بركة مع القيام بوظائفه ورواتبه، فلما تولّى قريش نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتقله بها.

في حوادث سنة ٤٤٤ مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة، أو منيع قرواش بن المقلَّد بن المسيب العقيلي الذي كان صاحب الموصل، وكان محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحمل فدفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وقيل: إن ابن أخيه قريش بن بدران المذكور أحضر عمه قرواشاً المذكور من الحبس إلى مجلسه وقتله فيه. وكان قرواش من ذوي العقل وله شعر حسن منه:

لـلـه در الـنـائبات فـإنه صدأ القلوب وصيقل الأحرار

مـا كنت إلاَّ زبرة فطبعنني سيفاً وأطلق صرفهن غراري

وجمع قرواش المذكور بين أختين في نكاحه، فقيل له: إن الشريعة تحرم ذلك، فقال: وأي شيء عندنا تجيزه الشريعة. وقال مرة: ما برقبتي غير خمسة أو ستة قتلتهم من البادية، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.

في حوادث سنة ٤٥٠ سار إبراهيم نيال بعد انفصاله عن الموصل إلى هَمَذان وسار طغرلبك من بغداد في أثر أخيه أيضاً إلى هَمَذان، وتبعه من كان ببغداد من التُّرك، فقصد البساسيري بغداد ومعه قريش بن بدران

٢٢٣

العقيلي في مائتي فارس، ووصل إليها يوم الأحد ثامن ذي القعدة ومعه أربعمائة غلام ونزل بمشرعة الزوايا. وخطب البساسيري بجامع المنصور للمستنصر بالله العلوي خليفة مصر، وأمر فأذّن بحي على خير العمل ثم عبر عسكره إلى الزاهر، وخطب بالجمعة الأُخرى من وصوله للمصري بجامع الرصافة أيضاً، وجرى بينه وبين مخالفيه حروب في أثناء الأسبوع. وجمع البساسيري جماعته ونهب الحريم، ودخل الباب النوبي فركب الخليفة القائم لابساً للسواد، وعلى كتفه البردة وبيده سيف وعلى رأسه اللواء، وحوله زمرة من العباسيين والخدم بالسيوف المسلولة وسرى النهب إلى باب الفردوس من داره، فلما رأى القائم ذلك رجع إلى ورائه، ثم صعد إلى المنظرة ومع القائم رئيس الرؤساء، وقال رئيس الرؤساء لقريش بن بدران: يا علم الدين أمير المؤمنين القائم يستذم بذمامك وذمام رسول الله وذمام العربية على نفسه وماله وأهل وأصحابه، فأعطى قريش بحضرته ذماماً، فنزل القائم ورئيس الرؤساء إلى قريش من الباب المقابل لباب الحَلبة وسارا معه، فأرسل البساسيري إلى قريش، وقال له: أتخالف ما استقر بيننا وتنقض ما تعاهدنا عليه، وكانا قد تعاهدا على المشاركة وأن لا يستبد أحدهما دون الآخر. ثم اتفقا على أن يسلم رئيس الرؤساء إلى البساسيري؛ لأنه عدوه ويبقى الخليفة عند قريش. وحمل قريش الخليفة إلى معسكره ببردته والقضيب ولوائه، ونهبت دار الخليفة وحريمها أياماً، ثم سلم قريش الخليفة إلى ابن عمه مهارس. وسار به مهارس والخليفة في هودج إلى حديثة عانة، فنزل بها وسار أصحاب الخليفة إلى طغرلـبك، وأما البساسيري فإنه ركب يوم عيد النحر إلى المصلّى بالجانب الشرقي وعلى رأسه ألوية خليفة مصر، وأحسن إلى الناس، ولم يتعصب لمذهب، وكانت والدة القائم باقية، وقد قاربت تسعين سنة، فأفرد لها البساسيري داراً وأعطاها جاريتين من جواريها، وأجرى لها الجِراية، وكان قد حبس البساسيري رئيس الرؤساء، فأحضره من الحبس، فقال رئيس الرؤساء: العفو، فقال له البساسيري: أنت قدرت فما عفوت، وأنت صاحب طيلسان وفعلت الأفعال الشنيعة مع حرمي وأطفالي. وجرى على رئيس الرؤساء أمور من التشهير الممقوت ما ندع ذكره، ومات تعذيباً وصلباً وأرسل البساسيري إلى المستنصر العلوي بمصر يعرِّفه بإقامة الخطبة له بالعراق، وكان الوزير هناك ابن أخي أبي القاسم المغربي، وهو ممن هرب

٢٢٤

من البساسيري. فبرَّد فعل البساسيري وخوف من عاقبته فتركت أجوبته مدة ثم عادت بخلاف ما أمله. ثم سار البساسيري من بغداد إلى واسط والبصرة فملكها. وأما طغرلبك فكان قد خرج عليه أخوه إبراهيم نيال وجرى بينه وبينه قتال، وآخره أن طغرلبك انتصر على أخيه إبراهيم نيال وأسره وخنقه بوتر، وكان قد خرج عليه مراراً وطغرلبك يعفو عنه، فلم يعف عنه في هذه المرة. وفي هذه السنة أعاد طغرلبك القائم إلى مقر ملكه وانتهى الأمر بقتل البساسيري.

في سنة ٤٥٢ تُوفِّي قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل ونصيبين، وكانت وفاته بنصيبين، وقام بالأمر بعده ابنه شرف الدولة أبو المكارم مسلم بن قريش.

في سنة ٤٥٨ أقطع ألب ارسلان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب الموصل، الأنبار، وتكريت زيادة على الموصل.

في سنة ٤٧٧ سار فخر الدولة بن جهير بعساكر السلطان ملكشاه إلى قتال شرف الدولة مسلم بن قريش، ثم سير السلطان ملكشاه إلى فخر الدولة جيشاً آخر فيهم الأمير أرتق بن أكسك، وقيل: أكسب، والأول أصح جد الملوك لأرتقية، فانهزم شرف الدولة مسلم وانحصر في آمد ونزل الأمير أرتق على آمد فحصره، فبذل له مسلم بن قريش مالاً جليلاً ليمكِّنه من الخروج من آمد، فأذن له أرتق وخرج شرف الدولة من آمد في حادي عشرين ربيع الأول من هذه السنة، فسار إلى الرقة وبعث إلى أرتق ما وعده به ثم سير السلطان عميد الدولة إلى الموصل، فاستولى عليها عميد الدولة، وهذا اقسنقر هو والد عماد الدولة زنكي، ثم أرسل مؤيد الملك بن نظام الملك إلى شرف الدولة بالعهود يستدعيه إلى السلطان. فقدم شرف الدولة إليه وأحضره عند السلطان ملكشاه بالبوازيج وكان قد ذهبت أمواله فاقترض شرف الدولة مسلم ما خدم به السلطان وقدم إليه خيلاً من جملتها فرسه الذي نجا عليه في المعركة، وكان اسم الفرس بشّار، وكان سابقاً وسابق به السلطان الخيل، فجاء سابقاً فقام السلطان قائماً لما تداخله من العجب فرضي السلطان على مسلم وخلع عليه وأقرَّه على بلاده.

٢٢٥

في حوادث هذه السنة نفسها قال: لما ملك سليمان بن قطلومش أنطاكية أرسل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب يطلب منه ما كان يحمله إليه أهل أنطاكية، فأنكر سليمان ذلك. وقال: إن صاحب أنطاكية كان نصرانياً فكنت تأخذ منه ذلك على سبيل الجزية. ولم يعطه شيئاً، فجمعا واقتتلا في الرابع والعشرين من صفر سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في طرف أعمال أنطاكية، فانهزم عسكر مسلم، وقتل شرف الدولة مسلم في المعركة، وقُتِل بين يدي أربعمائة غلام من أحداث حَلب. وكان شرف الدولة مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب أحول، واتسع ملكه، وزاد على ملك من تقدمه من أهل بيته، فإنه ملك السندية التي على نهر عيسى إلى منبج، وديار ربيعة ومضر عن الجزيرة وحَلب وما كان لأبيه وعمه قرواش من الموصل وغيرها. وكان مسلم يسوس مملكته سياسة حسنة بالأمر والعدل. ولما قتل قصد بنو عقيل أخاه إبراهيم بن قريش وهو محبوس، فأخرجوه وملَّكوه، وكان قد مكث في الحبس سنين كثيرة بحيث صار لم يقدر على المشي لما خرج.

وأما قلعة حَلب فكان بها منذ قتل مسلم بن قريش سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وهو ابن عم شرف الدولة مسلم، فحاصر تُتُش القلعة سبعة عشر يوماً، فبلغه وصول مقدمة أخيه السلطان ملكشاه.

ولما قتل سليمان بن قطلومش مسلم بن قريش أرسل إلى ابن الْحُتَّيتي العباسي مقدم أهل حَلب يطلب منه تسليمها، فاستمهله إلى أن يكاتب السلطان ملكشاه، وأرسل ابن الْحُتَّيتي استدعى تُتُش إلى حَلب، وكان مع تُتُش أرتق بن أكسك؛ وقد فارق خدمة ملكشاه خوفاً من إطلاق مسلم بن قريش من آمد، وكان ابن الْحُتَّيتي قد كاتب السلطان ملكشاه في أمر حَلب فسار إليها من أصفهان في جمادى الآخرة، فملك في طريقه حران وأقطعها لمحمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش. ثم سار إلى الرها فملكها وملك قلعة جعبر، ثم ملك منبج وسار إلى حَلب فلما قاربها رحل أخوه تُتُش عنها على البرية وتوجَّه إلى دمشق، ووصل السلطان إلى حَلب وتسلمها وتسلم القلعة من سالم بن مالك بن بدران العقيلي على أن يعوضه بقلعة جعبر

٢٢٦

فبقيت بيده ويد أولاده إلى أن أخذها منهم نور الدين محمود بن زنكي.

سنة ٤٨٦ وفيها تحرك تُتُش من دمشق لطلب السلطنة بعد موت أخيه ملكشاه، واتفق معه اقسنقر صاحب حَلب، وخطب له باغي سيان صاحب أنطاكية وبران صاحب الرها. وسار تُتُش ومعه اقسنقر فافتتح نصيبين عنوة ثم قصد الموصل، وكنا قد ذكرنا (أبو الفداء) في سنة سبع وسبعين وأربعمائة أنه لما قتل شرف الدولة مسلم بن قريش صاحب الموصل وحَلب وغيرهما استولى على الموصل إبراهيم بن قريش أخو مسلم. ثم إن ملكشاه قبض على إبراهيم سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة، وأخذ منه الموصل، وبقي إبراهيم معه حتى مات ملكشاه، فأطلق إبراهيم وسار إلى الموصل وملكها. فلما قصد تُتُش في هذه السنة الموصل خرج إبراهيم لقتاله، والتقوا بالمضيّع من أعمال الموصل، وجرى بينهم قتال شديد انهزمت فيه المواصلة، وأخذ إبراهيم بن قريش أسيراً وجماعة من أمراء العرب، فقُتلوا وملك تُتُش الموصل، واستثاب عليها علي بن مسلم بن قريش وأمه صفية عمة تُتُش، وأرسل تُتُش إلى بغداد يطلب الخطبة فتوقفوا فيها. ثم سار تُتُش واستولى على ديار بكر.

في سنة ٤٨٩ بعد مقتل تُتُش سنة ٤٨٨ قصد كربوغا نصيبين، وبها محمد بن شرف الدولة مسلم بن قريش، فطلع محمد إلى كربوغا واستحلفه ثم غدر كربوغا بمحمد، وقبض عليه وحاصر نصيبين وملكها، ثم سار إلى الموصل وقتل في طريقه محمد بن مسلم بن قريش بن بدران بن المقلَّد بن المسيب، وحصر الموصل وبها علي بن مسلم أخو محمد المذكور من حين استنابه بها تتش، فلما ضاق عليه الأمر هرب من الموصل إلى صدقة بن مزيد بالحلَّة بعد حصار تسعة أشهر.

سنة ٥١٩ وفيها مات سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب صاحب قلعة جعبر، وملكها بعده ابنه مالك بن سالم.

الجزء الثالث ص١٨ سنة (٥٤١) سار عماد الدين زنكي، ونزل على قلعة جعبر وحصرها وصاحبها علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وأرسل عسكراً إلى قلعة فنك وهي تجاور جزيرة ابن عمر، فحصرها أيضاً وصاحبها حسام الدين الكردي البشنوي.

٢٢٧

ولما طال على زنكي منازلة قلعة جعبر أرسل مع حسَّان البعلبكي الذي كان صاحب منبج يقول لصاحب قلعة جعبر: قل لي من يخلصك مني،فقال صاحب قلعة جعبر لحسَّان: يخلصني منك الذي خلصك من بلك بن بهرام بن أرتق، وكان بلك محاصراً منبج، فجاءه سهم قتله فرجع حسَّان إلى زنكي ولم يخبره بذلك فاستمر زنكي منازلاً قلعة جعبر، فوثب عليه جماعة من مماليكه وقتلوه في خامس ربيع الآخر من هذه السنة بالليل وهربوا إلى قلعة جعبر، فصاح من بها على العسكر وأعلموهم بقتل زنكي فدخل أصحابه إليه وبه رمق ودفن بالرقة.

سنة ٥٦٤ في هذه السنة ملك نور الدين محمود قلعة جعبر وأخذها من صاحبها شهاب الدين مالك بن علي بن مالك بن سالم بن مالك بن بدران بن المقلَّد بن المسيب العقيلي، وكانت بأيديهم من أيام السلطان ملكشاه، ولم يقدر نور الدين على أخذها إلا بعد أن أسر صاحبها مالك المذكور بنو كِلاب، وأحضروه إلى نور الدين محمود، واجتهد به على تسليمها فلم يفعل، فأرسل عسكراً مقدمهم فخر الدين مسعود بن أبي علي الزعفراني وردفه بعسكر آخر مع مجد الدين أبي بكر المعروف بابن الداية، وكان رضيع نور الدين وحصروا قلعة جعبر، فلم يظفروا منها بشيء وما زالوا على صاحبها مالك حتى سلمها وأخذ عنها عوضاً مدينة سروج بأعمالها والملوحة من بلد حَلب وعشرين ألف دينار معجلة وباب بزاعة.

ما جاء في كامل ابن الأثير من أوليتهم وأخبارهم

الجزء التاسع في سنة ٣٠٨ لما ملك أبو طاهر والحسين ابنا حمدان بلاد الموصل طمع فيها باذ وجمع الأكراد، فأكثر وممن أطاعه الأكراد البشنوية أصحاب قلعة فنك، وكانوا كثيراً وكاتب أهل الموصل فاستمالهم فأجابه بعضهم، فسار إليهم ونزل بالجانب الشرقي فضعفا عنه. وراسلا أبا الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل واستنصراه، فطلب منهما جزيرة ابن عمر ونصيبين وبلداً غير ذلك. فأجاباه إلى ما طلب، وانتهى الأمر بانتصار الأميرين الحماديين بمناصرة أبي الذوّاد على باذ، فكانت هذه أول إمرة لبني عقيل في دولة بني حمدان.

في سنة ٣٨٠ لما انهزم أبو طاهر بن حمدان من أبي علي بن مروان

٢٢٨

سار إلى نصيبين في قلة من أصحابه وكانوا قد تفرقوا، فطمع فيه أبو الذوّاد محمد بن المسيب أمير بني عقيل، وكان صاحب نصيبين حينئذ، فثار بأبي طاهر، فأسره وأسر ولده وعدة من قوادهم، وقتلهم وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وكاتب بهاء الدولة يسأله أن ينفذ إليه من يقيم عنده من أصحابه يتولّى الأمور. فسيَّر إليه قائداً من قواده وكان بهاء الدولة قد سار من العراق إلى الأهواز، وأقام نائب بهاء الدولة وليس له من الأمر شيء، ولا يحكم إلا فيما يريده أبو الذوَّاد.

في سنة (٣٨٢) كان بهاء الدولة قد أنفذ أبا جعفر الحجاج بن هرمز في عسكر كثير إلى الموصل، فملكها آخر سنة إحدى وثمانين، فاجتمعت عقيل وأميرهم أبو الذواد محمد بن المسيب على حربه، فجرى بينهم عدة وقائع ظهر من أبي جعفر فيها بأس شديد حتى أنه كان يضع له كرسياً بين الصفين ويجلس عليه. فهابه العرب، واستمد من بهاء الدولة عسكراً فأمده بالوزير أبي القاسم علي بن أحمد، وكان مسيره أول هذه السنة. فلما وصل إلى العسكر كتب بهاء الدولة إلى أبي جعفر بالقبض عليه، فعلم أبو جعفر أنه إن قبض عليه اختلف العسكر وظفر به العرب، فتراجع في أمره. وكان سبب ذلك أن ابن المعلم كان عدواً له، فسعى به عند بهاء الدولة فأمر بقبضه، وكان بهاء الدولة أذناً يسمع ما يقال له ويفعل به، وعلم الوزير الخبر، فشرع في صلح أبي الذوّاد وأخذ رهائنه والعود إلى بغداد فأشار عليه أصحابه باللحاق بأبي الذوّاد، فلم يفعل أنفة وحسن عهد فلما وصل إلى بغداد رأى ابن المعلم قد قُبِض وقُتِل وكُفِي شره. ولما أتاه خبر قبض ابن المعلم وقتله ظهر عليه الانكسار، فقال له خواصه: ما هذا الهم وقد كفيت شر عدوك، فقال: إن ملكاً قرب رجلاً كما قرب بهاء الدولة ابن المعلم، ثم فعل به هذا لحقيق بأن تخاف ملابسته. وكان بهاء الدولة قد أرسل الشريف أبا أحمد الموسوي رسولاً إلى أبي الذوّاد فأسره العرب ثم أطلقوه، فورد إلى الموصل وانحدر إلى بغداد.

سنة (٣٨٦) في هذه السنة ملك المقلَّد بن المسيب مدينة الموصل، وكان سبب ذلك أن أخاه أبا الذَّوّاد تُوفِّي في هذه السنة، فطمع المقلَّد في الإمارة فلم تساعده عقيل على ذلك، وقلدوا أخاه علياً؛ لأنه أكبر منه فشرع المقلَّد واستمال الديلم الذين كانوا مع أبي جعفر الحجاج بالموصل فمال

٢٢٩

إليه بعضهم، وكتب إلى بهاء الدولة يضمن منه البلد بألفي ألف درهم كل سنة، ثم حضر عند أخيه علي وأظهر له أن بهاء الدولة قد ولاه الموصل وسأله مساعدته على أبي جعفر؛ لأنه قد منعه عنها، فساروا ونزلوا على الموصل، فخرج إليهم كل من استماله المقلَّد من الديلم، وضعف الحجاج وطلب منهم الأمان فأمنوه ووعدهم يوماً يخرج إليهم فيه. ثم إنه انحدر في السفن قبل ذلك اليوم، فلم يشعروا به إلا بعد انحداره، فتبعوه فلم ينالوا منه شيئاً ونجا بماله منهم، وسار إلى بهاء الدولة ودخل المقلَّد البلد. واستقر الأمر بينه وبين أخيه على أن يخطب لهما ويقدِّم علي لكبره ويكون له معه نائب يجبي المال، واشتركا في البلد والولاية وسار علي إلى البر وأقام المقلَّد وجرى الأمر على ذلك مدة مديدة، ثم تشاجروا واختصموا وكان المقلَّد يتولّى حماية غربي الفرات من أرض العراق، وكان له ببغداد نائب فيه تهور، فجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة مشاجرة، فكتب إلى المقلَّد يشكو، فانحدر من الموصل في عساكره وجرى بينه وبين أصحاب بهاء الدولة حرب انهزموا فيها. وكتب إلى بهاء الدولة يعتذر وطلب إنفاذ من يعقد عليه ضمان القصر وغيره، وكان بهاء الدولة مشغولاً بمن يقاتله من عساكر أخيه، فاضطر إلى المغالطة، ومد المقلَّد يده فأخذ الأموال، فبرز نائب بهاء الدولة ببغداد وهو حينئذ أبو علي بن إسماعيل، وخرج إلى حرب المقلَّد، فبلغ الخبر إليه فأنفذ أصحابه ليلاً فاقتتلوا وعادوا إلى المقلَّد، فلما بلغ الخبر إلى بهاء الدولة بمجيء أصحاب المقلَّد إلى بغداد أنفذ أبا جعفر الحجاج إلى بغداد وأمره بمصالحة المقلَّد والقبض على أبي علي بن إسماعيل. فسار إلى بغداد في آخر ذي الحجَّة، فلما وصل إليها أرسله المقلَّد في الصلح، فاصطلحا على أن يحمل لبهاء الدولة عشرة آلاف دينار، ولا يأخذ من البلاد إلا رسم الحماية، ويخطب لأبي جعفر بعد بهاء الدولة، وأن يخلع على المقلَّد الخلع السلطانية،ويُلقَّب بحسام الدولة، ويقطع الموصل والكوفة والقصر والجامعين. واستقر الأمر على ذلك، وجلس القادر بالله له ولم يف المقلَّد من ذلك بشيء إلا بحمل المال، واستولى على البلاد ومد يده في المال وقصده المتصرفون والأماثل وعظم قدره.

سنة (٣٨٧): في هذه السنة قبض المقلَّد على أخيه علي؛ وكان سبب ذلك ما تقدم ذكره من الاختلاف الواقع بين أصحابهما واشتغل المقلَّد بما

٢٣٠

سبق بيانه بالعراق، فلما خلا وجهه وعاد إلى الموصل عزم على الانتقام من أصحاب أخيه، ثم خافه وعمل الحيلة في قبض أخيه، فأحضر عسكره من الديلم والأكراد، وأعلمهم أنه يريد قصد دقوقا وحلَّفهم على الطاعة، وكانت داره ملاصقة دار أخيه، فنقب في الحائط ودخل عليه وهو سكران فأخذه وأدخله الخزانة، وقبض عليه وأرسل إلى زوجته يأمرها بأخذ ولديه قرواش وبدران واللحاق بتكريت قبل أن يسمع أخوه الحسن الخبر. ففعلت ذلك وخلصت، وكانت في الحلَّة التي له على أربعة فراسخ من تكريت وسمع الحسن الخبر، فبادر إلى الحلَّة ليقبض أولاد أخيه فلم يجدهم. وأقام المقلَّد بالموصل يستدعي رؤساء العرب ويخلع عليهم، واجتمع عنده زهاء ألفي فارس، وسار الحسن إلى حلل أخيه ومعه أولاد أخيه علي وحرمه ويستنفرهم على المقلَّد، واجتمع معهم نحو عشرة آلاف وراسل المقلَّد يؤذنه بالحرب، فسار عن الموصل وبقي بينهم، فنزل واحد ونزل بإزاء العلث، فحضره وجوه العرب واختلفوا عليه، فمنهم من أشار بالحرب منهم رافع بن محمد بن مقن، ومنهم من أشار بالكف عن القتال وصلة الرحم منهم غريب بن محمد بن مقن، وتنازع هو وأخوه فبينما هم في ذلك قيل للمقلَّد: إنّ أختك رهيلة بنت المسيب تريد لقاءك وقد جاءتك، فركب وخرج إليها، فلم تزل معه حتى أطلق أخاه علياً ورد إليه ماله ومثله معه وأنزله في خيم ضربها له. فسر الناس بذلك، وتحالفا وعاد إلى حلته وعاد المقلَّد إلى الموصل، وتجهَّز للمسير إلى أبي الحسن علي بن مزيد الأسدي؛ لأنه تعصب لأخيه علي وقصد ولاية المقلَّد بالأذى فسار إليه. ولما خرج علي من محبسه اجتمع العرب إليه، وأشاروا عليه بقصد أخيه المقلَّد فسار إلى الموصل، وبها أصحاب المقلَّد وامتنعوا عليه فافتتحها، فسمع المقلَّد بذلك فعاد إليه، واجتاز في طريقه بحلة أخيه الحسن، فخرج إليه ورأى كثرة عسكره، فخاف على أخيه علي منه، فأشار عليه بالوقوف ليصلح الأمر، وسار إلى أخيه علي، وقال له: إن الأعور يعني المقلَّد قد أتاك بحده وحديده وأنت غافل، وأمره بإفساد عسكر المقلَّد، فكتب إليهم فظفر المقلَّد بالكتب، فأخذها وسار مجدِّاً إلى الموصل، فخرج إليه أخواه علي والحسن وصالحاه ودخل الموصل وهما معه. ثم خاف علي فهرب من الموصل ليلاً وتبعه الحسن وتردُّدت الرسل بينهم، فاصطلحوا على أن يدخل أحدهما البلد في غيبة الآخر، وبقوا كذلك

٢٣١

إلى سنة تسع وثمانين ومات علي سنة تسعين وقام الحسن مقامه، فقصده المقلَّد ومعه بنو خفاجة، فهرب الحسن إلى العراق وتبعه المقلَّد، فلم يدركه فعاد، ولما استقر أمر المقلَّد بعد أخيه علي سار إلى بلد علي بن مزيد الأسدي، فدخله ثانية والتجأ ابن مزيد إلى مهذّب الدولة، فتوسط ما بينه وبين المقلَّد. وأصلح الأمر معه، وسار المقلَّد إلى دقوقا فملكها ثم ملكها عليه جبريل بن محمد، ثم عادت إلى المقلَّد، ثم ملكها محمد بن عناز بعده، ثم أخذها بعده قرواش، ثم انتقلت إلى فخر الدولة أبي غالب ثم إلى جبريل وموصك بن جكويه من أمراء الأكراد، ثم قصدها بدران بن المقلَّد وأخذها منهما.

سنة (٣٩١): في هذه السنة قتل حسام الدولة المقلَّد بن المسيب العقيلي غيلة قتله مماليك له ترك. وكان سبب قتله أن هؤلاء الغلمان كانوا قد هربوا منه فتبعهم وظفر بهم وقتل منهم وقطع وأعاد الباقين، فخافوه على نفوسهم فاغتنم بعضهم غفلته وقتلوه بالأنبار. وكان قد عظم أمره وراسل وجوه العساكر ببغداد، وأراد التغلب على الملك، فأتاه الله من حيث لا يشعر. ولما قُتِل كان ولده الأكبر قرواش غائباً، وكانت أمواله وخزائنه بالأنبار فخاف نائبه عبد الله بن إبراهيم بن شهرويه بادرة الجند، فراسل أبا منصور بن قراد اللديد، وكان بالسندية فاستدعاه إليه، وقال له: أن أجعل بينك وبين قراوش عهداً وأُزوجه ابنتك، وأقاسمك على ما خلفه أبوه وتساعده على عمه الحسن إن قصده وطمع فيه. فأجابه إلى ذلك وحمى الخزائن والبلد، وأرسل عبد الله إلى قرواش يحثه على الوصول، فوصل وقاسمه على المال وأقام قراد عنده، ثم إن الحسن بن المسيب جمع مشايخ عقيل وشكا قرواشاً إليهم وما صنع مع قراد، فقالوا له: خوفُه منك حمله على ذلك، فبذل من نفسه الموافقة له والوقوف عند رضاه، وسفر المشايخ بينهما فاصطلحا، واتفقا على أن يسير الحسن إلى قرواش شبه المحارب ويخرج هو وقراد لقتاله، فإذا لقي بعضهم بعضاً عادوا جميعاً على قراد فأخذوه. فسار الحسن وخرج قرواش وقراد لقتاله. فلما تراءى الجمعان جاء بعض أصحاب قراد إليه فأعلمه الحال، فهرب على فرس له وتبعه قرواش والحسن فلم يدركاه، وعاد قرواش إلى بيت قراد، فأخذ ما فيه من الأموال التي أخذها من قرواش وهي بحالها. وسار قرواش إلى الكوفة فأوقع بخفاجة

٢٣٢

عندها وقعة عظيمة، فساروا بعدها إلى الشام، فأقاموا هناك حتى أحضرهم أبو جعفر الحجاج.

سنة (٣٩٢): في هذه السنة سيَّر قرواش بن المقلَّد جمعاً من عقيل إلى المدائن، فحصروها فسيَّر إليهم أبو جعفر نائب بهاء الدولة جيشاً فأزالوهم عنها، فاجتمعت عقيل وأبو الحسن مزيد في بني أسد وقويت شوكتهم. فخرج الحجاج إليهم واستنجد خفاجة وأحضرهم من الشام فاجتمعوا معه واقتتلوا بنواحي (باكرم) في رمضان، فانهزمت الديلم والتُّرك وأُسر منهم خلق كثير واستبيح عسكرهم، فجمع أبو جعفر من عنده من العسكر وخرج إلى بني عقيل وابن مزيد، وقتل من أصحابهم خلق كثير وأسر مثلهم وسار إلى حلل ابن مزيد فأوقع بمن فيها فانهزموا أيضاً، فنهبت الحلل والبيوت والأموال، ورأوا فيها من العين والمصاغ والثياب ما لا يقدر قدره.

سنة (٣٩٧): في المحرم جرت وقعة بين معتمد الدولة أبي المنيع قرواش بن المقلَّد العقيلي وبين أبي علي بن ثمال الخفاجي. وكان سببها أن قرواش جمع جمعاً كثيراً وسار إلى الكوفة وأبو علي غائب عنها، فدخلها ونزل بها وعرف أبو علي الخبر فسار إليه فالتقوا واقتتلوا، فانهزم قرواش وعاد إلى الأنبار مغلولاً، وملك أبو علي الكوفة وأخذ أصحاب قرواش فصادرهم.

سنة (٣٩٩): في هذه السنة قتل عيسى بن خلاط العقيلي أبا علي بن ثمال الخفاجي الذي كان والياً للحاكم بأمر الله صاحب مصر على الرحبة، وملكها، وأقام فيها مدة ثم قصده بدران بن المقلَّد، فأخذها منه وبقيت لبدران، فأمر الحاكم بأمر الله نائبه بدمشق لؤلؤاً البشاري بالمسير إليها، فقصد الرقة أولاً وملكها، ثم سار إلى الرحبة وملكها، ثم انتهى أمر ملكها إلى صالح بن مرداس صاحب حَلب.

سنة (٤٠١): في هذه السنة أيضاً خطب قرواش بن المقلَّد أمير بني عقيل للحاكم بأمر الله العلوي صاحب مصر بأعماله كلها، وهي الموصل والأنبار والمدائن والكوفة وغيرها، وكان ابتداء الخطبة بالموصل: (الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب، وانهدَّت بقدرته أركان النصب، وأطلع

٢٣٣

بنوره شمس الحق من العرب. فأرسل القادر بالله أمير المؤمنين القاضي أبا بكر بن الباقلاني إلى بهاء الدولة يعرفه ذلك، وأن العلويين والعباسيين انتقلوا من الكوفة إلى بغداد، فأكرم بهاء الدولة القاضي أبا بكر، وكتب إلى عميد الجيوش يأمره بالمسير إلى حرب قرواش، وأطلق له مائة ألف دينار ينفقها في العسكر، وخلع على القاضي أبي بكر وولاّه قضاء عمان والسواحل، وسار عميد الجيوش إلى حرب قرواش، فأرسل يعتذر وقطع خطبة العلويين وأعاد خطبة القادر بالله.

سنة (٤٠١): وفيها تُوفِّي أبو عبد الله محمد بن مقن بن مقلد بن جعفر بن عمر بن المهيا العقيلي، وفي مقلد يجتمع آل المسيب وآل مقن، وكان عمره مائة وعشرة سنين، وكان بخيلاً شديد البخل وشهد مع القرامطة أخذ الحجر الأسود.

سنة (٤١٧): في هذه السنة اجتمع دُبيس بن علي بن مزيد الأسدي وأبو الفتيان منيع بن حسَّان أمير خفاجة، وجمعا عشائرهما وغيرهم، وانضاف إليهما عسكر بغداد على قتال قرواش بن المقلَّد العقيلي؛ وكان سببه أن خفاجة تعرضوا إلى السواد وما بيد قرواش منه، فانحدر من الموصل لدفعهم فاستعانوا بدُبيس، فسار إليهم واجتمعوا، فأتاهم عسكر بغداد فالتقوا بظاهر الكوفة وهي لقرواش، فجرى بين مقدمته ومقدمتهما مناوشة وعلم قرواش أنه لا طاقة له بهم، فسار ليلاً جريدة في نفر يسير وعلم أصحابه بذلك فتبعوه منهزمين، فوصلوا إلى الأنبار وسارت أسد وخفاجة خلفهم. فلما قاربوا الأنبار فارقها قرواش إلى حلله، فلم يمكنهم الإقدام عليه واستولوا على الأنبار ثم تفرقوا.

وفي هذه السنة أصعد الأثير عنبر إلى الموصل من بغداد، وكان سببه أن الأثير كان حاكماً في الدولة البويهية ماضي الحكم نافذ الأمر والجند من أطوع الناس له وأسمعهم لقوله. فلما كان الآن زال ذلك وخالفه الجند فزالت طاعته عنهم، فلم يلتفتوا إليه فخافهم على نفسه، فسار إلى قرواش فندم الجند على ذلك وسألوه أن يعود فلم يفعل. وأصعد إلى الموصل مع قرواش فأخذ ملكه وإقطاعه بالعراق. ثم إن نجدة الدولة بن قراد ورافع بن الحسين جمعا جمعاً كثيراً من عقيل، وانضم إليهم بدران أخو قرواش وساروا يريدون حرب قرواش. وكان قرواش لما سمع خبرهم قد اجتمع

٢٣٤

هو وغريب بن معن والأثير عنبر، وأتاه مدد من ابن مروان، فاجتمع في ثلاثة عشر ألف مقاتل، فالتقوا عند بلد واقتتلوا وثبت بعضهم لبعض وكثر القتل. ففعل ثروان بن قراد فعلا جميلاً، وذلك أنه قصد غريباً في وسط المصاف واعتنقه وصالحه، وفعل أبو الفضل بدران بن المقلَّد بأخيه قرواش كذلك، فاصطلح الجميع وأعاد قرواش إلى أخيه بدران مدينة نصيبين.

الصفحة نفسها والسنة نفسها سار منيع بن حسَّان أمير خفاجة في الجامعين وهي لنور الدولة دُبيس فنهبها، فسار دُبيس في طلبه إلى الكوفة، ففارقها وقصد الأنبار، وهي لقرواش كان استعادها بعد ما ذكرناه قبل. فلما نازلها منيع قاتله أهلها، فلم يكن لهم بخفاجة طاقة، فدخل جنود خفاجة الأنبار ونهبوها وأحرقوا أسواقها، فانحدر قرواش إليهم ليمنعهم، وكان مريضاً ومعه غريب والأثير عنبر، ثم تركها ومضى إلى القصر فاشتد طمع جنود خفاجة وعادوا إلى الأنبار فأحرقوها مرة ثانية. وسار قرواش إلى الجامعين فاجتمع هو ونور الدولة دُبيس بن مزيد في عشرة آلاف مقاتل. فلم يقدر قرواش في ذلك الجيش العظيم على هذه الألف، وشرع أهل الأنبار في بناء سور على البلد وأعادهم قرواش، وأقام عندهم الشتاء، ثم إن منيع بن حسَّان سار إلى الملك أبي كاليجار فأطاعه، فخلع عليه وأتى منيع الخفاجي إلى الكوفة، فخطب فيها لأبي كاليجار وأزال حكم عقيل عن سقي الفرات.

سنة (٤١٩): في هذه السنة في جمادى الأولى سار بدران بن المقلَّد العقيلي في جمع من العرب إلى نصيبين وحصرها، وكانت لنصر الدولة بن مروان، فخرج إليه عسكر نصر الدولة الذين بها وقاتلوه، فهزمهم واستظهر عليهم، وقتل جماعة من أهل نصيبين والعسكر، فسيَّر نصر الدولة عسكراً آخر نجدة لمن بنصيبين، فأرسل إليهم بدران عسكراً فلقوهم فقاتلوهم وهزموهم وقتلوا أكثرهم، فأزعج ذلك ابن مروان وأقلقه، فسير عسكراً آخر ثلاثة آلاف فارس، فدخلوا نصيبين واجتمعوا بمن فيها وخرجوا إلى بدران فاقتتلوا، فانهزم بدران ومن معه بعد قتال شديد وقت الظهر وتبعهم عسكر ابن مروان، ثم عطف عليهم بدران وأصحابه، فلم يثبتوا له. فأكثر فيهم القتل والأسر وغنم الأموال، فعاد عسكر ابن مروان مغلوبين، فدخلوا نصيبين فاجتمعوا بها، واقتتلوا مرة أُخرى وكانوا على السواء. ثم سمع بدران بأن

٢٣٥

أخاه قرواشاً قد وصل إلى الموصل، فرحل خوفاً منه؛ لأنهما كانا مختلفين.

في سنة (٤٢٠) يذكر دخول الغز ديار بكر ومقاومة قرواش لهم ويذكر ملكهم مدينة الموصل ومقاومة قرواش لهم وانكساره، ثم يذكر ظفر قرواش بهم ص ١٦٣ مما يجب أن يضم إلى أخبار بني المقلَّد مع ما ذكر في ص١٦٤.

في سنة (٤٢١) قد ذكرنا محاصرة بدران نصيبين، وأنه رحل عنها خوفاً من قرواش، فلما رحل شرع في إصلاح الحال معه فاصطلحا، ثم جرى بين قرواش ونصر الدولة بن مروان نفرة كان سببها أن نصر الدولة كان قد تزوج ابنة قرواش، فآثر عليها غيرها فأرسلت إلى أبيها تشكو منه، فأرسل يطلبها إليه، فسيرها فأقامت بالموصل، ثم إن ولد مستحفظ جزيرة ابن عمر وهي لابن مروان هرب إلى قرواش، وأطمعه في الجزيرة، فأرسل إلى نصر الدولة يطلب منه صداق ابنته، وهو عشرون ألف دينار ويطلب الجزيرة لنفقتها، ويطلب نصيبين لأخيه بدران ويحتج بما أخرج بسببها عام أول، وتردُّدت الرسل بينهما في ذلك، فلم يستقر حال فسير جيشاً لمحاصرة الجزيرة وجيشاً مع أخيه بدران إلى نصيبين، فحصرها بدران وأتاه قرواش، فحصرها معه فلم يُمْلَك واحِد من البلدين، وتفرق من كان معه من العرب والأكراد. فلما رأى بدران تفرق الناس عن أخيه سار إلى نصر الدولة بن مروان بميافارقين يطلب منه نصيبين، فسلمها إليه وأرسل من صداق ابنة قرواش خمسة عشر ألف دينار واصطلحا.

وفي هذه السنة في جمادى الأولى اختلف قرواش وغريب بن مقن؛ وكان سبب ذلك أن غريباً جمع جمعاً كثيراً من العرب والأكراد، واستمد جلال الدولة فأمده بجملة صالحة من العسكر، فسار إلى تكريت فحصرها وهي لأبي المسيب رافع بن الحسين، وكان قد توجه إلى الموصل وسأل قرواشاً النجدة، فجمعا وحشدا وسارا منحدرين فيمن معهما، فبلغا الدكة وغريب يحاصر تكريت، وقد ضيَّق على من بها وأهلها يطلبون منه الأمان فلم يؤمنهم، فحفظوا نفوسهم وقاتلوا أشد قتال. فلما بلغه وصول قرواش ورافع سار إليهم، فالتقوا بالدكة واقتتلوا، فغدر بغريب بعض من معه ونهبوا سواده وسواد الأجناد الجلالية، فانهزم وتبعهم قرواش ورافع، ثم كفوا عنه وعن أصحابه ولم يتعرضوا إلى حلته وماله فيها وحفظوا ذلك أجمع، ثم إنهم تراسلوا واصطلحوا وعادوا إلى ما كانوا عليه من الوفاق.

٢٣٦

سنة (٤٢٥): وفيها تُوفِّي بدران بن المقلَّد وقصد ولده عمه قرواشاً، فأقر عليه حاله وماله وولاية نصيبين، وكان بنو نُمير قد طمعوا فيها وحصروها، فسار إليهم ابن بدران فدفعهم عنها.

سنة (٤٣٣) يذكر الحلف بين جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل.

سنة (٤٤٠) ذكر الحلف بين قرواش والأكراد الحميدية والهذبانية. وفيها كانت الوحشة بين معتمد الدولة قرواش بن المقلَّد وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل بن المقلَّد، فانضاف قريش بن بدران بن المقلَّد إلى عمّه قرواش وجمع جمعاً، وقاتل عمه أبا كامل، فظفر ونصر وانهزم أبو كامل ولم يزل قريش يغري قرواشاً بأخيه حتى تأكدت الوحشة وتفاقم الشر بينهما.

ظهور الخلاف بين قرواش وأخيه أبي كامل وصلحهما:

سنة (٤٤١): في هذه السنة ظهر الخلاف بين معتمد الدولة قرواش وبين أخيه زعيم الدولة أبي كامل ظهوراً آل إلى المحاربة، وقد تقدم سبب ذلك. فلما اشتد الأمر وفسد الحال فساداً لا يمكن إصلاحه جمع كل منهما جمعاً لمحاربة صاحبه، وسار قرواش في المحرم وعبر دجلة بنواحي بلد، وجاءه سليمان بن نصر الدولة بن مروان، وأبو الحسن بن عيسكان الحميدي وغيرهما من الأكراد، وساروا إلى معلثايا، فأخرجوا المدينة ونهبوها ونزلوا بالمُغيثة، وجاء أبو كامل فيمن معه من العرب وآل المسيب فنزلوا بمرج بابنيثا وبين الطائفتين نحو فرسخ واقتتلوا يوم السبت ثاني عشر المحرم، وافترقوا من غير ظفر، ثم اقتتلوا يوم الأحد كذلك ولم يلابس الحرب سليمان بن مروان بل كان ناحية، ووافقه أبو الحسن الحُميدي وساروا عن قرواش، وفارقه جمع من العرب وقصدوا أخاه، فضعف أمر قرواش وبقي في حلته وليس معه إلا نفر يسير فركبت العرب من أصحاب أبي كامل لقصده، فمنعهم وأسفر الصبح يوم الاثنين، وقد تسرع بعضهم ونهب بعضاً من عرب قرواش، وجاء أبو كامل إلى قرواش واجتمع به ونقله إلى حلته وأحسن عشرته، ثم أنفذه إلى الموصل محجوراً عليه وجعل معه بعض زوجاته في دار. وكان مما فت في عضد قرواش وأضعف نفسه أنه كان قد قبض على قوم من الصيادين بالأنبار؛ لسوء طريقهم وفسادهم فهرب الباقون

٢٣٧

منهم وبقي بعضهم بالسندية، فلما كان الآن سار جماعة منهم إلى الأنبار وتسلقوا السور ليلة خامس المحرم من هذه السنة، وقتلوا حارساً وفتحوا الباب ونادوا بشعار أبي كامل، فانضاف إليهم أهلوهم وأصدقاؤهم ومن له هوى في أبي كامل، فكثروا وثار بهم أصحاب قرواش، فاقتتلوا فظفروا وقتلوا من أصحاب معتمد الدولة قرواش جماعة وهرب الباقون. فبلغه خبر استيلاء أخيه، ولم يبلغه عود أصحابه. ثم إن المسيب وأمراء العرب كلفوا أبا كامل ما يعجز عنه واشتطوا عليه، فخاف أن يؤول الأمر بهم إلى طاعة قرواش وإعادته إلى مملكته، فبادرهم إليه وقبل يده، وقال له: إنني وإن كنت أخاك فإنني عبدك وما جرى هذا إلا بسبب من أفسد رأيك فيَّ وأشعرك الوحشة مني، والآن فأنت الأمير وأنا الطائع لأمرك والتابع لك. فقال له قرواش: بل أنت الأخ والأمر لك مسلّم، وأنت أقوم به مني، وصلح الحال بينهما وعاد قرواش إلى التصرف على حكم اختياره. وكان أبو كامل قد أقطع بلال بن غريب بن مقن حربى وأوانا، فلما اصطلح أبو كامل وقرواش أرسلا إلى حربى من منع بلالاً عنها، فتظاهر بلال بالخلاف عليهما وجمع إلى نفسه جمعاً، وقاتل أصحاب قرواش وأخذ حربى وأوانا بغير اختيارهما، فانحدر قرواش من الموصل إليهما وحصرهما وأخذهما.

وفي هذه السنة سار جمع من بني عقيل إلى بلد العجم من أعمال العراق وبادوريا، فنهبوها وأخذوا من الأموال الكثير وكانا في إقطاع البساسيري، فسار من بغداد بعد عوده من فارس إليهم، فالتقوا هم وزعيم الدولة أبو كامل بن المقلَّد، واقتتلوا قتالاً شديداً أبلى الفريقان فيه بلاء حسناً وصبرا صبراً جميلاً وقُتل جماعة من الفريقين.

في هذه السنة في ذي القعدة ملك البساسيري الأنبار ودخلها أصحابه، وكان سبب ملكها أن قرواشاً أساء السيرة في أهلها، ومد يده إلى أموالهم فسار جماعة من أهلها إلى البساسيري ببغداد، وسألوه أن ينفذ معهم عسكراً يسلمون إليه الأنبار. فأجابهم إلى ذلك وسيّر معهم جيشاً، فتسلموا الأنبار ولحقهم البساسيري، وأحسن إلى أهلها وعدل فيهم ولم يمكن أحداً من أصحابه أن يأخذ رطل الخبز بغير ثمنه. وأقام فيها إلى أن أصلح حالها وقرر قواعدها وعاد إلى بغداد.

سنة (٤٤٢) وفي هذه السنة في جمادى الأولى استولى زعيم الدولة

٢٣٨

أبو كامل بركة بن المقلَّد على أخيه قرواش، وحجر عليه ومنعه من التصرف على اختياره؛ وسبب ذلك أن قرواشاً كان قد أنف من تحكم أخيه في البلاد، وأنه قد صار لا حكم له فعمل على الانحدار إلى بغداد ومفارقة أخيه. وسار عن الموصل، فشق ذلك على بركة وعظم عنده، ثم أرسل إليه نفراً من أعيان أصحابه يشيرون عليه بالعود واجتماع الكلمة ويحذرونه من الفرقة والاختلاف، فلما بلّغوه ذلك امتنع عليهم، فقالوا: أنت ممنوع عن فعلك والرأي لك القبول والعود ما دامت الرغبة إليك، فعلم حينئذ أنه يُمنع قهراً، فأجاب إلى العود على شرط أن يسكن دار الإمارة بالموصل، وسار معهم. فلما قارب حلة أخيه زعيم الدولة لقيه وأنزله عنده، فهرب أصحابه وأهله خوفاً فأمّنهم زعيم الدولة، وحضر عنده وخدمه وأظهر له الخدمة وجعل عليه من يمنعه من التصرف على اختياره.

سنة (٤٤٣) وفي هذه السنة في شهر رمضان تُوفِّي زعيم الدولة أبو كامل بركة بن المقلَّد بتكريت، وكان انحدر إليها في حلله قاصداً نحو العراق لينازع النواب به عن الملك الرحيم وينهب البلاد. فلما بلغها انتقض عليه جرح كان أصابه من الغز لما ملكوا الموصل، فتُوفِّي ودفن بمشهد الخضر بتكريت. واجتمعت العرب من أصحابه على تأمير علم الدين أبي المعالي قريش بن بدران بن المقلَّد، فعاد بالحلل والعرب إلى الموصل وأرسل إلى عمه قرواش، وهو تحت الاعتقال يعلمه بوفاة زعيم الدولة وقيامه بالإمارة، وأنه يتصرف على اختياره ويقوم بالأمر نيابة عنه. فلما وصل قريش إلى الموصل جرى بينه وبين عمه قرواش منازعة ضعف فيها قرواش وقوي ابن أخيه ومالت العرب إليه، واستقرت الإمارة له وعاد عمه إلى ما كان عليه من الاعتقال الجميل والاقتصار به على قليل من الحاشية والنساء والنفقة، ثم نقله إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل فاعتُقل بها.

سنة (٤٤٤): في هذه السنة جرى حِلف بين علم الدين قريش بن بدران وبين أخيه المقلَّد، وكان قريش قد نقل عمه قرواشاً إلى قلعة الجراحية من أعمال الموصل وسجنه بها وارتحل يطلب العراق، فجرى بينه وبين أخيه المقلَّد منازعة أدت إلى الاختلاف، فسار المقلَّد إلى نور الدولة دُبيس بن مزيد ملتجئاً إليه فحمل أخاه الغيظ منه على أن نهب حلته وعاد

٢٣٩

إلى الموصل، واختلَّت أحواله واختلفت العرب عليه، وأخرج نواب الملك الرحيم ببغداد إلى ما كان بيد قريش من العراق بالجانب الشرقي من عُكبرا والعلث وغيرهما من قبض غلته، وسلم الجانب الغربي من أوانا ونهر بيطر إلى أبي الهندي بلال بن غريب. ثم إن قريشاً استمال العرب وأصلحهم، فأذعنوا له بعد وفاة عمه قرواش، فإنه تُوفِّي هذه الأيام، وانحدر إلى العراق؛ ليستعيد ما أخذ منه، فوصل إلى الصالحية وسير بعض أصحابه إلى ناحية الحظيرة وما والاها، فنهبوا ما هناك وعادوا فلقوا كامل بن محمد بن المسيّب صاحب الحظيرة، فأوقع بهم وقاتلهم فأرسلوا إلى قريش يعرفونه الحال، فسار إليهم في عدة كثيرة من العرب والأكراد، فانهزم كامل وتبعه قريش فلم يلحقه، فقصد حلل بلال بن غريب وهي خالية من الرجال، فنهبها وقاتله بلال وأبلى بلاء حسناً فجرح ثم انهزم، وراسل قريش نواب الملك الرحيم يطلب ببذل الطاعة ويطلب تقرير ما كان له عليه، فأجابوه إلى ذلك على كره؛ لقوته وضعفهم واشتغال الملك الرحيم بخوزستان عنهم، فاستقر أمره وقوي شأنه. وفي هذه الصفحة: وفي السنة نفسها مستهل رجب تُوفِّي معتمد الدولة أبو المنيع قرواش بن المقلَّد العُقيلي الذي كان صاحب الموصل محبوساً بقلعة الجراحية من أعمال الموصل، وحُمل ميتاً إلى الموصل، ودفن بتل توبة من مدينة نينوى شرقي الموصل. وكان من رجال العرب وذوي العقل منهم وله شعر حسن. وأورد له عن (دمية القصر) البيتين المنقولين عن تاريخ ابن خلدون وهذه الأبيات التي لم يوردها ابن خلدون:

مـن كان يحمد أو يذم موّرث لـلمال مـن آبـائه وجدوده

إنـي امـرؤ لـله أشكر وحده شـكراً كـثيراً جـالباً لمزيده

لـي أشقرٌ سمح العنان مغاور يعطيك ما يرضيك من مجهوده

ومـهند عـضب إذا جـردته خلت البروق تموج في تجريده

ومـثقف لـدنُ الـسنان كأنم أم الـمنايا رُكـبت في عوده

وبـذا حـويُت المال إلا أنني سـلّطت جود يدي على تبديده

وفي هذه السنة ورد سعدي بن أبي الشوك في جيش من عند السلطان طغرلبك إلى نواحي العراق، فدوَّخ كثيراً منها وأسرف في

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

وبهر المأمون، وقال: ما أحسن هذا؟ من قاله: فقالعليه‌السلام : لبعض فتياننا، ثم قال المأمون: أنشدني: أحسن ما رويته في استجلاب العدو وحتى يكون صديقاً، فأنشده الإمام هذه الأبيات:

وذي غلّة سالمته فقهرته

فأوقرته منّي لعفو التحمّلِ

ومن لا يدافع سيئات عدوه

باحسانه لم يأخذ الطول من علِ

ولم أر في الأشياء أسرع مهلكاً

لغمر قديم من وداد معجل(١)

فقال المأمون:

- ما أحسن هذا مَن قاله؟

- قاله بعض فتياننا.

- أنشدني أحسن ما رويته في كتمان السر.

فأنشده:

وإنّي لأنسى السر كي لا أذيعه

فيا مَن رأى سرّاً يصان بأن ينسى

مخافة أن يجري ببالي ذكره

فينبذه قلبي إلى ملتوى الحشا

فيوشك من لم يفش سرّاً وجال في

خواطره أن لا يطيق له حبسا(٢)

وراح المأمون يبدي اعجابه بما حفظه الإمامعليه‌السلام من روائع الشعر

رسالة الإمام إلى ولده الجواد:

وأرسل الإمام الرضاعليه‌السلام من (خراسان) إلى ولده الإمام الجواد هذه الرسالة وقد جاء فيها بعد البسملة:

(فدتك نفسي بلغني أنّ الموالي إذا ركبت أخرجوك من باب البستان الصغير،

وإنّما ذاك من بخل بهم لئلا ينال أحد منك خيرا، فأسألك بحقي عليك، لا يكن

مدخلك ومخرجك إلاّ من الباب الكبير، وإذا ركبت إن شاء الله فليكن معك ذهب وفضة لا يسألك أحد شيئاً إلاّ أعطيته، ومن سألك من عمومتك أن تبره فلا تعطه أقل من خمسين ديناراً، والكثير إليك، ومَن سألك من عمّاتك فلا تعطها أقل من خمسين ديناراً، والكثير إليك، ومَن سألك من قريش فلا تعطه أقل من خمسة

____________________

(١) الغمر: الحقد.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٧٤ - ١٧٥.

٣٢١

وعشرين ديناراً، والكثير إليك، إنّي إنّما أريد أن يوفقك الله، فاتق الله، واعط ولا تخف من ذي العرش إقتارا...)(١) .

أرأيتم هذه النفس الملائكية التي طبعت على البر والمعروف والإحسان إلى الناس... لقد كان الكرم عنصراً من عناصر الإمام ومقوماً من مقوّماته، فقد حثّ ولده الجواد على صلة أرحامه، والبرّ بالبؤساء.

لقد حكت هذه الرسالة لوناً من ألوان التربية الرفيعة لأهل البيتعليهم‌السلام فقد كانوا يربون أبنائهم على الشرف والفضيلة، ويغرسون في نفوسهم مكارم الأخلاق، ومحاسن الصفات، ليكونوا أمثلة للخير، وقدوة حسنة لهذه الأمّة.

كتاب الحباء والشرط:

نسب هذا الكتاب إلى الإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد حفل بالثناء على الفضل بن سهل، والإشادة بجهوده الجبارة في إقامة ملك المأمون، ودحر الناهضين له من أخيه الأمين وأبي السرايا وغيرهما، فقد بذل جميع طاقاته حتى قضى على تلك الثورات العارمة، وقد جزاه المأمون فمنحه الثراء العريض، ووهبه الأموال الطائلة، كما وهب مثل ذلك لأخيه الحسن بن سهل مجازاة لهما على عظيم إخلاصهما للمأمون، وها هو نص الكتاب بعد البسملة: (أمّا بعد: فالحمد لله البادئ الرفيع، القادر، القاهر، الرقيب على عباده المقيت على خلقه، الذي خضع كل شيء لملكه، وذل كل شيء لعزته واستسلم كل شيء لقدرته، وتواضع كل شيء لسلطانه، وعظمته، وأحاط بكل شيء علمه، وأحصى عدده، فلا يؤوده كبير، ولا يعزب عنه صغير، الذي لا تدركه أبصار الناظرين، ولا تحيط به صفة الواصفين، له الخلق والأمر والمثل الأعلى في السماوات والأرض، وهو العزيز الحكيم.

والحمد لله الذي شرع للإسلام ديناً، ففضله، وعظمه، وشرفه، وكرمه، وجعله الدين القيم الذي لا يقبل غيره، والصراط المستقيم الذي لا يضل من لزمه، ولا يهتدي من صرف عنه، وجعل فيه النور والبرهان، والشفاء والبيان، وبعث به من

____________________

(١) الدر النظيم ورقة ٢١٥ - ٢١٦.

٣٢٢

اصطفى من ملائكته إلى من اجتبى من رسله في الأمم الخالية، والقرون الماضية حتى انتهت رسالته إلى محمد المصطفى (صلى الله عليه وآله) فختم به النبيين وقفّى به على آثار المرسلين، وبعثه رحمة للعالمين، وبشيراً للمؤمنين المصدقين، ونذيراً للكافرين المكذّبين لتكون له الحجّة البالغة، وليهلك من هلك عن بينة، وان الله لسميع عليم.

والحمد لله الذي أورث أهل بيته مواريث النبوّة واستودعهم العلم والحكمة، وجعلهم معدن الإمامة والخلافة، وأوجب ولايتهم، وشرف منزلتهم، فأمر رسوله أمّته بمسألة مودّتهم إذ يقول:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) (١) وما وصفهم به من إذهاب الرجس عنهم، وتطهيره إيّاهم في قوله:( إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٢) .

ثم أن المأمون بر برسول الله (صلى الله عليه وآله) في عترته، ووصل أرحام أهل بيته، فردّ ألفتهم، وجمع فرقتهم، ورأب صدعهم، ورتق فتقهم، وأذهب الله به الضغائن والإحن بينهم، وأسكن التناصر، والتواصل والمودة والمحبة قلوبهم، فأصبحت بيمنه وحفظه وبركته وبرّه وصلته أيديهم واحدة، وكلمتهم جامعة، وأهواؤهم متفقة، ورعى الحقوق لأهلها، ووضع المواريث مواضعها، وكافأ إحسان المحسنين، وحفظ بلاء المبتلين، وقرّب وباعد على الدين، ثم اختص بالتفضيل، والتقديم والتشريف من قدمته مساعيه، فكان ذلك ذا الرياستين الفضل بن سهل، إذ رآه له مؤازرا، وبحقه قائماً، وبحجّته ناطقاً، ولنقبائه نقيباً، ولخيوله قائداً، ولحروبه مدبّراً ولرعيّته سائساً، وإليه داعياً، ولـمَن أجاب إلى طاعته مكافياً، ولـمَن عدل عنها منابذاً، وبنصرته متفرداً، ولمرض القلوب والنيات مداوياً، لم ينهه عن ذلك قلة مال ولا عواز رجال ولم يمل به الطمع، ولم يلفته عن نيته وبصيرته وجل، بل عندما يهول المهولون، ويرعد ويبرق له المبرقون والمرعدون وكثرة المخالفين والمعاندين، من المجاهدين والمخاتلين أثبت ما يكون عزيمة، وأجرأ جناناً، وأنفذ مكيدة، وأحسن

____________________

(١) سورة الشورى: آية ٢٠ قال العلامة: روى الجمهور في الصحيحين وأحمد بن حنبل في مسنده والثعلبي في تفسيره عن ابن عباس رحمه الله قال: لما نزلت:( قل لا أسألكم عليه أجراً إلاّ المودّة في القربى ) قالوا: يا رسول الله من قرابتك الذين أوجبت علينا مودتهم؟ قال: علي وفاطمة وابناهما.

(٢) سورة الأحزاب: آية ٣٣، قال العلاّمة: أجمع المفسّرون وروى الجمهور كأحمد بن حنبل وغيره أنّها نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسينعليهم‌السلام .

٣٢٣

تدبيراً، وأقوى في تثبيت حق المأمون، والدعاء إليه حتى غصم أنياب الضلالة، وفلّ حدهم، وقلم أظفارهم، وحصد شوكتهم، وصرعهم مصارع الملحدين في دينهم، والناكثين لعهده، الوانين في أمره، والمستخفّين بحقّه الآمنين لما حذر من سطوته وبأسه مع آثار ذي الرياستين في صنوف الأمم من المشركين، وما زاد الله به في حدود دار المسلمين، ممّا قد وردت أنباؤه عليكم، وقرئت به الكتب على منابركم، وحملة أهل لآفاق إليكم إلى غيركم فانتهى شكر ذي الرياستين بلاء أمير المؤمنين عنده، وقيامه بحقه، وابتذاله مهجته، ومهجة أخيه أبي محمد الحسن بن سهل الميمون النقيبة، المحمود السياسة إلى غاية تجاوز بها الماضيين، وفاز بها الفائزون.

وانتهت مكافأة أمير المؤمنين إياه إلى ما حصل له من الأموال والقطايع، والجواهر، وإن كان ذلك لا يفي بيوم من أيامه، ولا بمقام من مقاماته، فتركه زهداً فيه، وارتفاعاً من همته عنه، وتوفيراً له على المسلمين، واطراحاً للدنيا، واستصغاراً لها، وإيثاراً للآخرة ومنافسة فيها.

وسأل أمير المؤمنين ما لم يزل له سائلاً، وإليه فيه راغباً من التخلّي والتزاهد، فعظم ذلك عنده وعندنا، لمعرفتنا بما جعل الله عزّ وجل في مكانه الذي هو به من العز للدين والسلطان، والقوة على صلاح المسلمين، وجهاد المشركين، وما أرى الله به من تصديق نيته، ويمن نقيبته، وصحة تدبيره، وقوّة رأيه، ونجح طلبته، ومعاونيه على الحق والهدى، والبر والتقوى، فلمّا وثق أمير المؤمنين وثقنا منه، بالنظر للدين، وإيثار ما فيه صلاحه، وأعطيناه سؤاله الذي يشبه قدره، وكتبنا له كتاب حباء وشرط، قد نسخ في أسفل كتابي هذا، وأشهدنا الله عليه، ومن حضرنا من أهل بيتنا والقواد، والصحابة، والقضاة والفقهاء والخاصة والعامة.

وأمر أمير المؤمنين بالكتاب إلى الآفاق ليذيع، ويشيع في أهلها ويقرأ على منابرها، ويثبت عند ولاتها وقضاتها، فسألني أن أكتب بذلك، وأشرح معانيه وهي على ثلاثة أبواب:

ففي الباب الأول:

البيان عن كل آثاره التي أوجب الله بها حقّه علينا، وعلى المسلمين.

الباب الثاني:

البيان عن مرتبته في إزاحة علته في كل ما دبر، ودخل فيه ولا سبيل عليه، فيما

٣٢٤

ترك وكره؛ وذلك لما ليس لخلق ممن في عنقه بيعة إلا له وحده ولأخيه، ومن إزاحة العلّة تحكيمها في كل من بغى عليهما وسعى بفساد علينا وعليهما وعلى أوليائنا لئلاّ يطمع طامع في خلاف عليهما، ولا معصية لها، ولا احتيال في مدخل بيننا وبينهما.

الباب الثالث:

البيان عن عطائنا إيّاه ما أحب من ملك التخلي وحلية الزهد، وحجّة التحقيق لما سعى فيه من ثواب الآخرة بما يتقرر في قلب مَن كان شاكاً في ذلك منه، وما يلزمنا له من الكرامة والعز والحباء الذي بذلناه له ولأخيه في منعهما ما نمنع منه أنفسنا؛ وذلك محيط بكل ما يحتاط فيه محتاط في أمر دين ودنيا...).

وانتهت هذه الكلمة، وقد أشادت بالجهود الجبارة التي بذلها الفضل بن سهل في توطيد حكومة المأمون، وإقامة دولته، كما أشادته بنزاهته، ورفضه للجوائز والهبات الكثيرة، وطلبه للتقاعد، وقد رفض ذلك، وكانت هذه الكلمة مقدمة لكتاب الحباء والشرط، وهذا نصه بعد البسملة:

(هذا كتاب حباء وشرط من عبد الله المأمون أمير المؤمنين وولي عهده علي بن موسى الرضا لذي الرياستين الفضل بن سهل في يوم الاثنين لسبع ليال خلون من شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، وهو اليوم الذي تمم الله فيه دولة أمير المؤمنين، وعقد لولي عهده، والبس الناس اللباس الأخضر، وبلغ أمله في إصلاح وليه، والظفر بعدوه، إنّا دعوناك إلى ما فيه بعض مكافأتك، على ما قمت به من حق الله، تبارك وتعالى، وحق رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله وحق أمير المؤمنين، وولي عهده على بن موسى، وحق هاشم التي بها يرجى صلاح الدين، وسلامة ذات البين بين المسلمين، إلى أن يثبت النعمة علينا وعلى العامة بذلك، وبما عاونت عليه أمير المؤمنين من إقامة الدين والسنة، وإظهار الدعوة الثانية وإيثار الأولى، مع قمع المشركين، وكسر الأصنام، وقتل العتاة وساير آثارك الممثلة للأمصار في المخلوع - وهو الأمين - وقابل، وفي المسمّى بـ‍ (الأصفر) المكنّى بأبي السرايا، وفي المسمّى بالمهدي محمد بن جعفر الطالبين، والترك الحوليه، وفي طبرستان وملوكها إلى بندار هرمز بن شروين، وفي الديلم وملكها (مهورس) وفي كابل وملكها هرموس ثم ملكها الأصفهيد، وفي ابن البرم، وحبال بدار بنده، وعرشستان، والغور وأصنافها، وفي خراسان وبلون صاحب جبل التبت، وفي كيمان والتغرغر، وفي أرمينية والحجاز،

٣٢٥

وصاحب السرير، وصاحب الخزر وفي المغرب وحروبه، وتفسير ذلك في ديوان السيرة.

وكان ما دعواك إليه وهو معونة لك الف ألف درهم، وغلّة عشرة ألف ألف درهم جوهر أسواماً أقطعك أمير المؤمنين قبل ذلك، وقيمة مائة ألف ألف درهم جوهراً يسيراً عندنا ما أنت له مستحق فقد تركت مثل ذلك حين بذله لك المخلوع، وآثرت الله ودينه، وإنّك شكرت أمير المؤمنين وولي عهده، وآثرت توفير ذلك كلّه على المسلمين، وجدت لهم به.

وسألتنا أن نبلّغك الخصلة التي لم تزل لها تائقاً من الزهد والتخلّي ليصح عند مَن شك في سعيك للآخرة دون الدنيا وتركك الدنيا، وما عن مثلك يستغني في حال، ولا مثلك رد عن طلبه، ولو أخرجتنا طلبتك عن شطر النعيم علينا فكيف نأمر؟ رفعت فيه المؤنة، وأوجبت به الحجّة، على مَن كان يزعم أنّ دعاك إلينا للدنيا لا للآخرة، وقد أجبناك إلى ما سألت به، وجعلنا ذلك لك مؤكّداً بعهد الله وميثاقه اللذين لا تبديل لهما، ولا تغيير، وفوّضنا الأمر في وقت ذلك إليك، فما أقمت فعزيز مزاح العلّة، مدفوع عنك الدخول فيما تكرهه، من الأعمال، كائناً ما كان، نمنعك ممّا نمنع به أنفسنا في الحالات كلها، وإذا أردت التخلي فمكرم، مزاح البدن، وحق لبدنك بالراحة والكرامة ثم نعطيك مما تتناوله، ممّا بذلناه لك في هذا الكتاب، فتركته اليوم.

وجعلنا للحسن بن سهل مثل ما جعلناه لك، فنصف ما بذلناه من العطية، وأهل ذلك هو لك، وبما بذل من نفسه في جهاد العتاة، وفتح العراق مرتين، وتفريق جموع الشيطان بيده حتى قوى الدين، وخاض نيران الحروب، ووقانا عذاب السموم بنفسه وأهل بيته، ومن ساس من أولياء الحق، وأشهدنا الله وملائكته وخيار خلقه، وكل من أعطانا بيعته، وصفقة يمينه في هذا اليوم وبعده على ما في هذا الكتاب، وجعلنا الله علينا كفيلاً، وأوجبنا على أنفسنا الوفاء بما اشترطنا من غير استثناء بشيء ينقصه في سر ولا علانية، والمؤمنون عند شروطهم، والعهد فرض مسؤول، وأولى الناس بالوفاء مَن طلب من الناس الوفاء، وكان موضعا للقدرة، قال الله تعالى:( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاّ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) (١) .

____________________

(١) سورة النحل: آية ٩١.

٣٢٦

وانتهت هذه الوثيقة التي عرفت بوثيقة الحباء والشرط وقد وقع عليها المأمون، والإمام الرضاعليه‌السلام .

توقيع المأمون:

وقد جاء فيه بعد البسملة: (قد أوجب أمير المؤمنين على نفسه جميع ما في هذا الكتاب، وأشهد الله تعالى، وجعله عليه داعياً وكفيلاً) وكتب بخطّه في صفر سنة (٢٠٢) تشريفاً للحباء، وتوكيداً للشروط.

توقيع الإمام الرضا:

وجاء في توقيع الإمامعليه‌السلام بعد البسملة (قد ألزم علي بن موسى الرضا نفسه بجميع ما في هذا الكتاب، على ما أكّد فيه، في يومه وغده ما دام حيّاً، وجعل الله تعالى عليه داعياً وكفيلاً، وكفى بالله شهيداً).

وكتب بخطّه في هذا الشهر - أي صفر - وفي هذه السنة - أي سنة (٢٠٢ ه‍) والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله وسلّم، وحسبنا الله، ونعم الوكيل(١) .

وانتهت هذه الوثيقة، وقد حكت صوراً رهيبة من لاضطراب السياسي الذي مُنيت به البلاد الإسلامية، فقد انتشرت فيها الثورات الشعبية، وعمّت فيها الفتن، وهذا ممّا يؤكّد بعض المصادر من أنّ عصر المأمون كان عصر فتن، واضطراب وقد أخمد هذه الثورات، واستأصل جذورها الفضل بن سهل، فقد كان خبيراً، ومضطلعاً بإخماد الثورات وقد أريقت أنهار من الدماء، وانتشر الحزن والحداد في معظم الأقطار الإسلامية، ومن الطبيعي أنّ تلك الثورات كانت ناجمة عن الظلم والجور، السائدين في ذلك العصر، فقد ساس العباسيون العالم الإسلامي سياسة قائمة لا بصيص فيها من نور العدل والحق.

وعلى أيّ حال فإنّ هذه الوثيقة بقسيمتها لم تكن من إنشاء الإمام الرضاعليه‌السلام ، وإنّما كانت من إنشاء الجهاز الحاكم وأعوانه، ونسبت إلى الإمام الرضا، لتكسب الجهة الشرعية، وتكون غير قابلة للنقض ويدعم ذلك ما يلي:

أوّلاً: إنّ هذه الوثيقة قد منحت الملايين من الأموال إلى الفضل بن سهل، ووهبته

____________________

عيون أخبار الرضا ٢/١٥٤ - ١٥٩.

٣٢٧

الثراء العريض جزاءً لخدماته للمأمون وقمعه للثورات المعادية له، ومن الطبيعي أنّ تلك الأموال انما هي من الخزينة المركزية التي هي ملك لجميع المسلمين، ومما لا شبهة فيه أنه لا يجوز التفريط بأقل القليل من أموال المسلمين ولا يجوز أن تعطى مكافأة أو غير ذلك إلى أي شخص، وانما يجب انفاقها على صالح المسلمين وتطوير حياتهم، وانعاشهم ونشر الرخاء عليهم، فكيف جاز للامام ان يجيز ذلك ويقر منح هذه الأموال للفضل.

ثانياً: إنّ هذه الوثيقة قد حوت آيات من المدح والثناء على المأمون والفضل بن سهل، والطعن في ثورة أبي السرايا وثورة جعفر بن محمد الطالبين، وكل ذلك ليس من خلق الإمام الرضاعليه‌السلام ، فهو لا يمدح أحداً حتى يكون جديرا بالمدح والثناء، ولا يذم كذلك أحداً حتى يكون جديراً بالذم والتوهين، كانت هذه سيرته ومنهجه، فكيف يمنح المأمون هذا الثناء، وكيف يمدح هذا الفضل بهذا المدح؟ مع العلم أنّه سلام الله عليه كان يكن في أعماق نفسه ودخائل ذاته الكراهية والبغضاء لهما؛ وذلك لعلمه بما انطوت عليه نفوسهما من الشر، والحقد عليه، وإنّما قام المأمون بتكريم الإمام ومنحه ولاية العهد لمناورة سياسية لم تكن خافية عليه.

ثالثاً: إنّ هذه الوثيقة تتنافى مع ما اشترطه الإمامعليه‌السلام على المأمون في قبوله لولاية العهد أن لا يتدخّل في أي أمر من أمور الدولة، ويكون بمعزل عن جميع الأحداث السياسية، فكيف يتدخّل في أمر الفضل، ويجازيه على إخلاصه للمأمون، وعلى سعيه في إخماد الثورات الملتهبة التي اندلعت ضد المأمون؟!!.

هذه بعض المؤاخذات التي تواجه نسبة هذه الوثيقة للإمام الرضاعليه‌السلام .

مع أخيه زيد:

وانضم زيد إلى الثورة التي أعلنها أبو السرايا داعية محمد بن إبراهيم الحسني، وقد قلّد زيدا ولاية (الأهواز)، فسار إليها ليتولّى مهام منصبه، فاجتاز على (البصرة)، وكانت خاضعة للحكم العباسي فأحرق دور بني العباس، ومن أجل ذلك لقب بزيد النار، ولـمّا فشلت ثورة أبي السرايا، واستتر زيد فطلبه الحسن بن سهل فظفر به، فحبسه، ولم يزل في الحبس حتى ظفر إبراهيم شيخ المغنّيين المعروف بابن شكلة،

فهجم البغداديون على السجن، وأخرجوا زيداً من السجن، ومضى إلى يثرب، ودعا

٣٢٨

لبيعة محمد بن جعفر فبعث المأمون جيشاً فقضى على الثورة، وأسر زيد وجيء به مخفوراً إلى المأمون فقال له:

(يا زيد خرجت بالبصرة، وتركت أن تبدأ بدور أعدائنا من أمية وثقيف، وغنى، وباهلة، وآل زياد، وقصدت دور بني عمّك - يعني بني العباس -).

فقال له زيد بمرح:

(يا أمير المؤمنين أخطأت من كل جهة، وإن عدت للخروج بدأت بأعدائنا).

وضحك المأمون، وبعثه إلى الإمام الرضاعليه‌السلام وقال له: وقد وهبت لك جرمه فأحسن أدبه(١) ، ولـمّا مثل أمام الإمامعليه‌السلام قال له:

ويلك يا زيد، فعلت بالمسلمين بالبصرة ما فعلت، وتزعم أنّك ابن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، والله لأشد الناس عليك رسول الله (ص) يا زيد ينبغي لمن أخذ برسول الله أن يعطي به...).

ولـمّا انتهى كلام الإمام إلى المأمون بكى، وقال: هكذا ينبغي أن يكون أهل بيت رسول الله (ص)(٢).

مع أخته فاطمة:

وكتب الإمام الرضاعليه‌السلام وهو في (خراسان) إلى السيدة الزكية فاطمة المعروفة بالسيدة معصومة أن تلحق به، فقد كانت أثيرة عنده، عزيزة عليه، ولـمّا انتهى الكتاب إليها تجهّزت وسافرت إليه(٣) ولـمّا وصلت إلى (ساوه) مرضت فسألت عن المسافة بينها وبين (قم) فقيل لها: عشرة

فراسخ فأمرت بحملها إلى (قم)، فحملت إليها، ونزلت في بيت موسى بن خزرج بزمام ناقتها، وأقدمها إلى داره فبقيت عنده سبعة عشر يوماً ثم انتقلت إلى حظيرة القدس، فقام موسى بتجهيزها، ودفنها في أرض كانت له، وبنى على مرقدها الطاهر

____________________

(١) تنقيح المقال ١ / ٤٧١.

(٢) مرآة الجنان ٢ / ١٣.

(٣) جوهرة الكلام (ص ١٤٦).

٣٢٩

سقيفة من البواري إلى أن بنت عليها السيدة زينب بنت محمد بن علي الجواد قبّة(١) ، وأصبح مرقدها الطاهر من أعزّ أمكنة العبادة، والمراقد المطهّرة في الإسلام، كما أصبحت تلك المدينة المقدّسة جامعة من جوامع العلم، ومركزاً من مراكز الثقافة في الإسلام.

ويقول الحسن بن محمد القمّي: كنت عند الإمام الصادقعليه‌السلام فقال: (إنّ لله حرماً وهو مكّة، ولرسوله (ص) حرماً وهو المدينة، ولأمير المؤمنين حرماً وهو الكوفة، ولنا حرماً وهو (قم)، وستدفن فيه امرأة من ولدي تسمّى فاطمة، مَن زارها وجبت له الجنة)(٢) وقد أعلن الإمام الصادقعليه‌السلام ذلك قبل ولادتها.

صلاة العيد:

وطلب المأمون من الإمام الرضاعليه‌السلام أن يصلّي بالناس صلاة العيد، ويخطب بعد الصلاة، لتطمئن بذلك قلوب العامة، ويعرفوا فضله، فامتنع الإمام من إجابته، وقال له: قد علمت ما كان بيني وبينك من الشروط، وهي عدم تدخّله في أي أمر من الأمور، فقال المأمون: إنّما أريد بهذا أن يرسخ في قلوب العامة والجند، والشاكرية، هذا الأمر فتطمئن قلوبهم، ويقرّوا لما فضّلك الله به، وأصرّ المأمون عليه، فاضطرّ إلى إجابته، ولكنّه شرط عليه أن يخرج إلى الصلاة كما كان يخرج جدّه رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وجدّه الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام ، فقال له المأمون: اخرج كيف شئت، وأوعز المأمون إلى القوات المسلحة، والى سائر الناس باستقبال الإمام الرضاعليه‌السلام ، وخرجت الجماهير تنتظر خروج الإمام، وقد غصّت بهم الطرقات وأشرفوا من أعلى منازلهم، ولـمّا طلعت الشمس قام الإمام فاغتسل، ولبس عمامة بيضاء وألقى طرفاً منها على صدره الشريف، وطرفاً بين كتفه، وأمر مواليه أن يصنعوا مثل صنعه، ثم أخذ بيده عكّازة، وخرج بتلك الحالة التي تعنو لها الجباه، ورفع رأسه الشريف إلى السماء فكبّر أربع تكبيرات، وقد تهيأ الجيش، وتزين بأحسن زينة، ثم وقف على الباب فكبر أربعاً وقال: (الله أكبر على ما هدانا، الله أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام الحمد لله على ما أبلانا...).

____________________

(١) حياة الإمام موسى بن جعفر ٢ / ٤٣٩.

(٢) تحفة العالم (ص ٣٦) البحار.

٣٣٠

وضجّت الأرض بالتكبير، وماج الناس، وعلت أصواتهم بالتكبير وتذكّروا في صورة الإمامعليه‌السلام صورة جدّه الرسول (ص) الذي طوّر الحياة الفكرية في الأرض، وتبيّن لهم زيغ أولئك الملوك الذين حكموهم بالظلم والجور.

وكان الإمام العظيم سلام الله عليه يمشي على قدميه، ويقف في كل عشر خطوات، ويكبّر الله تعالى أربع مرات، وتخيّل الناس أنّ السماء والأرض، والحيطان تجاوبه، وصارت (مرو) ضجّة واحدة، وبلغ المأمون ذلك فارتاع، وفزع، وانبرى إليه الفضل بن سهل فقال له:

(يا أمير المؤمنين إن بلغ الرضا المصلّى على هذا السبيل افتتن به الناس، فالرأي أن تسأله أن يرجع...).

وبعث المأمون بعض جلاوزته إلى الإمام فسأله الرجوع، فدعاعليه‌السلام بخفّه فلبسه ورجع من دون أن يصلّي بالناس(١) ، وقد أظهرت هذه البادرة روحانية الإمام، وزهده في الدنيا، ورفضه لمباهج الملك والسلطان، ويصف البحتري خروج الإمامعليه‌السلام إلى الصلاة بهذه الكيفية بقوله:

ذكروا بطلعتك النبي فهلّلوا

لـمّا طلعت من الصفوف وكبّروا

حتى انتهيت إلى المصلّى لابساً

نور الهدى يبدو عليك فيظهرُ

ومشيت مشية خاضعٍ متواضعٍ

لله لا يزهو ولا يتكبّرُ

ولو انّ مشتاقاً تكلّف غير ما

في وسعه لمشى إليك المنبرُ(٢)

ويقول الرواة: إنّ خروج الإمام إلى الصلاة بهذه الكيفية كانت من أهم العوامل التي أدّت إلى حقد المأمون على الإمام، وإقدامه على اغتياله.

استسقاء الإمام:

وحُبس المطر عن الناس، فعزى ذلك بعض الحاقدين على الإمامعليه‌السلام ذلك إلى تولّيه ولاية العهد، وأخذوا يذيعون ذلك وينشرونه في الأوساط الشعبية للطعن بشخصية الإمامعليه‌السلام وبلغ المأمون ذلك، فثقل

____________________

(١) أصول الكافي ١ / ١٨٩ - ١٩٠ عيون أخبار الرضا ٢ / ١٥٠ - ١٥١، المناقب ٤ / ٣٧١ - ٣٧٢، كشف الغمّة.

(٢) المناقب ٤ / ٣٧٢.

٣٣١

عليه، وعرض ذلك على الإمام وطلب منه أن يدعو الله تعالى لينزل المطر على الناس، فأجابه الإمام: إنّي أفعل ذلك يوم الاثنين، فقال له المأمون: ولم ذلك، فقالعليه‌السلام :

(إن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أتاني البارحة، ومعه أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، وقال: يا بني انتظر بوم الاثنين، فابرز إلى الصحراء واستسق، فإنّ الله تعالى سيسقيهم، وأخبرهم بما يريك الله ممّا لا يعلمون من حالهم ليزدادوا علماً بفضلك ومكانك من ربّك عزّ وجل...).

وانتظر المأمون، وباقي حاشيته الاثنين، وقد أوعز إلى جميع الأوساط الشعبية بالخروج إلى الصحراء يوم الاثنين، ولـمّا حلّ هذا اليوم هرعت الناس إلى الصحراء، وخرج الإمامعليه‌السلام وعليه هيبة الأنبياء فلمّا انتهى إلى الصحراء نصب له منبر وقد حفّت به الجماهير، وقد علت أصواتهم بالتهليل والتكبير.

دعاء الإمام:

واعتلى الإمام المنبر فحمد الله تعالى، وأثنى عليه، ثم قال: (اللّهمّ يا رب أنت عظمت حقّنا أهل البيت، فتوسّلوا بنا كما أمرت، وأملوا فضلك، ورحمتك، وتوقّعوا إحسانك، ونعمتك، فاسقهم سقياً نافعاً، عامّاً، غير رايث(١) ولا ضائر، وليكن ابتداء مطرهم بعد انصرافهم من مشهدهم هذا إلى منازلهم ومقارهم...

وأضاف الإمام قائلاً:

(فوالذي بعث محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله بالحق نبياً، لقد نسجت الرياح في الهواء الغيوم، وأرعدت وأبرقت...).

ولـمّا سمعت الجماهير كلام الإمام أرادت الرجوع إلى أهلها لئلاّ يصيبهم المطر، فقالعليه‌السلام : ليست هذه السحابة التي أطلّت عليكم لكم، وإنّما هي لبلد وسمّاه لهم.

وهكذا أطلّت على الجماهير عشر سحب متوالية، ويخبر الإمام عن كل سحابة أنّها تهطل في بلد وسمّاه، وأطلّت السحابة الحادية عشر، فقالعليه‌السلام :

____________________

(١) غير رايث: أي غير بطئ.

٣٣٢

(أيّها الناس: هذه سحابة بعثها الله عزّ وجل لكم، فاشكروا الله على تفضّله عليكم، وقوموا إلى مقاركم، ومنازلكم، فإنّها مساقة لكم، ولرؤوسكم ممسكة عنكم إلى أن تدخلوا إلى مقاركم، ثم يأتيكم من الخير ما يليق بكرم الله تعالى وجلاله...).

ثم نزل من على المنبر، وسارعت الجماهير إلى بيوتها، فلمّا انتهت إليها هطلت السحابة بوابل من المطر لم يسبق له مثيل فملئت الأودية والحياض، والغدران، والفلوات.

وأيقن الناس بكرامة أهل البيت، وما لهم من المنزلة الوثيقة عند الله تعالى، وقالوا: هنيئاً لولد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله كرامات الله عزّ وجل لهم، وكانت هذه الكرامة من كرامات هذا الإمام العظيم.

خطاب الإمام:

وخطب الإمامعليه‌السلام في حفل كبير حاشد على أثر هذه الكرامة فقالعليه‌السلام :

(أيّها الناس: اتقوا الله في نعم الله عليكم، فلا تنفروها عنكم بمعاصيه بل استديموها بطاعته، وشكره على نعمه وأياديه، واعلموا أنّكم لا تشكرون الله تعالى بشيء بعد الإيمان بالله، وبعد الاعتراف بحقوق أولياء الله من آل محمد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أحب إليه من معاونتكم لإخوانكم المؤمنين على دنياهم التي هي معبر لهم إلى جنان ربّهم، فإنّ مَن فعل ذلك من خاصة الله تبارك وتعالى وقد قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في ذلك قولاً ما ينبغي لقائل أن يزهد في فضل الله عليه فيه إن تأمّله وعمل عليه؟

قيل: يا رسول الله هلك فلان يعمل من الذنوب كيت، وكيت، فقال رسول الله: بل قد نجا، ولا يختم الله عمله إلاّ بالحسنى، وسيمحو الله عنه السيئات، ويبدلها حسنات، إنّه كان يمر مرة في طريق، عرض له مؤمن قد انكشفت عورته وهو لا يشعر فسترها عليه، ولم يخبره مخافة أن يخجل، ثم إنّ ذلك المؤمن عرفه في مهواه(١) فقال له: أجزل الله لك الثواب وأكرم لك المآب، ولا ناقشك في الحساب، فاستجاب الله له فيه، فهذا العبد لا يختم الله له إلاّ بخير بدعاء ذلك

____________________

(١) المهواة: المطمئن من الأرض ما بين جبلين.

٣٣٣

المؤمن، فاتصل قول رسول الله (ص) بهذا الرجل فتاب وأناب، وأقبل على طاعة الله عزّ وجل، فلم تأت سبعة أيام حتى أغير على سرح(١) المدينة، فوجّه رسول الله (ص) في أثرهم جماعة ذلك الرجل أحدهم فاستشهد...).

وانتهى خطاب الإمام، وقد حفل بالدعوة إلى تقوى الله تعالى والتعاون والتآلف بين المسلمين، واعتبر ذلك من أفضل الطاعات والقربات إلى الله تعالى.

عتاب وتحذير:

وتحدثت الأندية والمجالس عن استسقاء الإمامعليه‌السلام وهطول الأمطار الغزيرة بدعائه، وقد ورمت أنوف العباسيين وعملائهم، وتميّزوا غيظاً وغضباً فقد ظهر فضل العلويين، وما لهم من المنزلة العظيمة عند الله تعالى وقد اشتد وغد خبيث كالكلب نحو المأمون، وجعل يعاتبه، ويحذّره من عقده ولاية العهد للإمام وظهور هذه الكرامة له قائلاً:

(يا أمير المؤمنين أعيذك بالله أن تكون تأريخ الخلفاء(٢) في إخراجك هذاالشرف العميم، والفخر العظيم من بيت ولد العباس إلى بيت ولد علي.

لقد أعنت على نفسك وأهلك، وجئت بهذا الساحر، ولد السحرة، وقد كان خاملاً فأظهرته، ومتضعاً فرفعته، ومنسيّاً فذكرت به، ومستخفاً فنوّهت به، وقد ملا الدنيا مخرقة(٣) وتشوقاً بهذا المطر الوارد عند دعائه، وما أخوفني أن يخرج هذا الرجل هذا الأمر عن ولد العباس إلى ولد علي، بل ما أخوفني أن يتوصل بسحره إلى إزالة نعمتك، والتواثب(٤) على مملكتك، هل جنى أحد على نفسه وملكه مثل جنايتك؟...).

وحكى هذا منطق الجاهلية الرعناء التي حكمت على الرسول الأعظم أنّه ساحر، وذلك لظهور المعاجز والآيات على يده، وكذلك حكموا على حفيده بهذا

الحكم.... ولنستمع إلى جواب المأمون:

____________________

(١) السرح: المال السائم.

(٢) قوله: أن تكون تأريخ الخلفاء: كناية عن عظيم الواقعة وهي عقده بولاية العهد للإمام، وأنّها ستكون موضع تأريخ للناس، ويحتمل أن يكون المراد أنت آخر الخلفاء.

(٣) المخرقة: الشعبذة.

(٤) وفي نسخة البحار (الريث).

٣٣٤

(وقد كان هذا الرجل - يعني الإمام - مستتراً عنّا، يدعو إلى نفسه، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا، وليكون دعاؤه لنا، وليعترف بالملك والخلافة لنا، وليعتقد فيه المفتونون به أنّه ليس ممّا ادعى في قليل ولا كثير، وأنّ هذا الأمر لنا من دونه، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينفتق علينا منه ما لا نسده، ويأتي علينا منه ما لا نطيقه، والآن فإذ قد فعلناه، وأخطأنا في أمره بما أخطأنا، وأشرفنا من الهلاك بالتنويه على ما أشرفنا فليس يجوز التهاون في أمره، ولكنّا نحتاج أن نضع منه قليلاً، قليلاً، حتى نصوّره عند الرعايا بصورة مَن لا يستحق لهذا الأمر ثم ندبّر فيه بما يحسم عنّا مواد بلائه...)(١) .

لقد كشف المأمون الغطاء عن الدوافع التي دعته لعقد ولاية العهد للإمامعليه‌السلام وهي:

أولاً: إنّ الإمامعليه‌السلام كان يدعو الناس إلى نفسه سرّاً وبتقليده لولاية العهد يكون دعاؤه للمأمون، ويعترف بملكه وخلافته.

ثانياً: إنّه أراد أن يظهر للملأ أنّ الإمامعليه‌السلام لم يكن زاهداً في الحكم، ومبتغياً الدار الآخرة.

وقد اعترف أخيراً بالخطأ في ترشيحه لهذا المنصب، وانتدابه للقيام بالاستسقاء وغيره التي ظهرت روحانيته، وعظيم مكانته عند الله، ولكنّه سوف يبغي له الغوائل، ويكيده حتى يقضى عليه.

خشية المأمون من الإمام:

وخشي المأمون من الإمام، وفزع من التفاف الجماهير حوله، وخاف على ملكه من الزوال، فقد استبان للناس فضل الإمامعليه‌السلام وروحانيته، وأنّه هو القادر على أن يبسط العدل السياسي، والعدل الاجتماعي في ربوعهم، وأنّ بني العباس لا لايقة لهم لزعامة الأمة والتحكّم في سلطان المسلمين.

قرارات هامّة:

وأخذ المأمون يطيل التفكير، ويقلب الرأي على وجوهه مع مستشاريه للتخلّص من الإمام، فاتخذ من القرارات ما يلي:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٩ - ١٧٠.

٣٣٥

أولاً: عقد المؤتمرات العلمية التي تضم كبار علماء الدنيا لامتحان الإمام لعلّه يعجز عن الإجابة فيتخذ من ذلك وسيلة للطعن في شخصية الإمام، وإبطال مذهب التشيّع الذي ينص على أنّ الإمام لا بد أن يكون أعلم أهل عصره، كما أنه إذا عجز الإمام فإنّه يكون في فسحة من عزله عن ولاية العهد.

وقد فشلت هذه الخطة فشلاً ذريعاً، فقد حلّق الإمام، وارتفع صيته، وأقرّت جميع الوفود العلمية التي سألته بأنّه يملك طاقات هائلة من العلوم لا تحد، وأنّه فوق العلماء في مواهبه وعبقرياته، الأمر الذي أوجب أن يقر بإمامته طائفة من كبار العلماء الذين امتحنوه.

ثانياً: فرض الرقابة عليه، وإحاطته بقوى مكثّفة من الأمن تحصي عليه أنفاسه، وقد أسندت مديرية الرقابة التي تشرف عليه إلى هشام بن إبراهيم الراشدي الهمداني، وكان إبراهيم فيما يقول الرواة عالماً أديباً، وكانت أمور الإمام الرضاعليه‌السلام قبل أن يحمل إلى (خراسان) تجري من عنده وعلى يده، كما أنّ الأموال التي كانت ترسل إلى الإمام كانت تبعث على يده، ولـمّا حمل الإمام إلى (خراسان) اتصل إبراهيم بذي الرياستين فأغراه بالمنصب والأموال، فتغلب هواه على دينه فانحرف عن الحق،

فصار عيناً على الإمام فجعل ينقل جميع أخباره وشؤونه إلى الفضل والى المأمون، وقد أسند إليه المأمون حجابة الرضا، فكان لا يصل إليه إلاّ مَن أحب، وضيّق على الإمام غاية التضييق، وكان لا يتكلم بشيء قلّ أو كثر إلاّ أورده على المأمون وعلى وزيره الفضل(١) ؛ وبذلك فقد سيطر المأمون على جميع شؤون الإمام، وعرف جميع مَن يتصل به.

ثالثاً: طرد الشيعة من الحضور في مجالس الإمام والاستماع إلى حديثه، وقد عهد المأمون للقيام بذلك إلى حاجبه محمد بن عمرو الطوسي فطرد الشيعة، وزبرهم من الالتقاء بالإمامعليه‌السلام ، وقد قابل المأمون الإمام بشراسة فغضبعليه‌السلام ، وقام فصلّى ركعتين، وقال في قنوته:

(اللّهم يا ذا القدرة الجامعة والرحمة الواسعة، والمنن والمتتابعة والآلاء والمتوالية، والأيادي الجميلة، والمواهب الجزيلة، يا مَن لا يوصف بتمثيل، ولا يمثل بنظير، يا

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٥٣.

٣٣٦

مَن خلق فرزق، وألهم فأنطق وابتدع فشرع، وعلا فارتفع، وقدّر فأحسن، وصوّر فأتقن، وأجنح فأبلغ، وأنعم فأسبغ، وأعطى فأجزل، يا مَن سما في العز ففات خواطف الأبصار، ودنا في اللطف فجاز هواجس الأفكار.

يا مَن تفرّد بالملك فلا ندّ له في ملكوت سلطانه، وتوحّد بالكبرياء فلا ضدّ له في جبروت شأنه، يا مَن حارت في كبرياء هيبته دقائق لطائف الأوهام، وحسرت دون إدراك عظمته خطايف أبصار الأنام، يا عالم خطرات قلوب العارفين وشاهد لحظات أبصار الناظرين، يا من عنت الوجوه لهيبته وخضعت الرقاب لجلالته، ووجلت القلوب من خيفته، وارتعدت الفرايض من فرقه، يا بدئ يا بديع، يا قوي يا منيع، يا علي، يا رفيع، صلّي على مَن شرفت الصلاة بالصلاة عليه، وانتقم لي ممّن ظلمني، واستخفّ بي، وطرد الشيعة عن بابي وأذاقه مرارة الذل والهوان كما أذاقنيها، واجعله طريد الأرجاس وشريد الأنجاس...)(١) .

واستجاب الله دعاء الإمامعليه‌السلام فقد ثارت الغوغاء على المأمون حتى كادت أن تقضى عليه ولاقى من الرعب والهوان ما لا يوصف.

وقام المأمون مرة أخرى بطرد الشيعة، وحاول النكاية بالإمام فلمّا علمعليه‌السلام بذلك قام فاغتسل وصلّى ركعتين ودعا في قنوته بهذا الدعاء:

(اللّهمّ أنت الله الحي، القيوم، الخالق، الرازق، المحي المميت، المبدئ، البديع، لك الكرم، ولك الحمد، ولك المن، ولك الأمر، وحدك لا شريك لك، يا واحد، يا أحد يا فرد، يا صمد، يا من لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، صلِّ على محمد وآل محمد...).

ثم دعا الله بصرف ما أهمه، فكشف عنه كيد المأمون وبغيه(٢) .

عدم محاباة الإمام للمأمون:

ولم يجار الإمامعليه‌السلام المأمون، ولم يصانعه، وإنّما وقف منه موقفاً يتسم بالجد والصراحة، والنقد اللاذع لبعض أعماله وكان المأمون يتميز غيظاً، ويكتم ذلك، مجاراة للإمامعليه‌السلام وكان من بين مواقفه مع المأمون ما يلي:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٧٢ - ١٧٣.

(٢) هامش المصباح (ص ٢٩٣).

٣٣٧

١ - إنّ المأمون لما عرض الخلافة على الإمام، وقال له: (إنّي رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة، وأجعلها لك، وأبايعك...).

وانظروا إلى صراحة الإمام في جوابه قالعليه‌السلام :

(إن كانت هذه الخلافة لك، والله جعلها لك فلا يجوز أن تخلع لباساً ألبسكه الله، وتجعله لغيرك، وإن كانت الخلافة ليست لك فلا يجوز أن تجعل لي ما ليس لك...)(١) .

أرأيتم هذا المنطق الفياض، والحجّة الدامغة الحافلة بالحق والصدق، وقد فقد المأمون إهابه، فلم يدر ماذا يقول فالتجأ إلى الصمت والسكوت.

٢ - ولـمّا امتنع الإمام عليه من قبول الخلافة عرض عليه المأمون ولاية العهد، فأجابه بهذا الجواب قائلاً:

(تريد بذلك - أي بتقليده لولاية العهد - أن يقول الناس: إنّ علي بن موسى الرضا لم يزهد في الدنيا، بل زهدت الدنيا فيه، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد؟...).

والتاع المأمون، وورم أنفه، وصاح بالإمامعليه‌السلام قائلاً: (إنّك تتلقاني أبدا بما أكرهه، وقد أمنت سطوتي، فبالله أقسم لئن قبلت ولاية العهد، وإلاّ أجبرتك على ذلك، فان فعلت وإلا ضربت عنقك...)(٢) .

إنّ الإمامعليه‌السلام في جميع خطواته وأعماله قد آثر رضى الله تعالى، فلم يحاب أحداً، ولم يصانع مخلوقاً، ولو صانع المأمون وتقرّب إليه، وأرضى عواطفه لما قدم المأمون على اغتياله وقتله.

٣ - وكان من صراحة الإمامعليه‌السلام وعدم محاباته للمأمون أنّ المأمون قال له: (يا أبا الحسن إنّي فكرت في شيء، فنتج لي الفكر الصواب فيه، فكرت في أمرنا وأمركم، نسبنا ونسبكم، فوجدت الفضيلة فيه واحدة، ورأيت اختلاف شيعتنا في ذلك محمولاً على الهوى والعصبية...).

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٣٩.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤٠.

٣٣٨

فقال له الإمام:

(إنّ لهذا الكلام جواباً، إن شئت ذكرته لك، وإن شئت أمسكت...).

وسارع المأمون قائلاً:

(إنّي لم أقله إلاّ لأعلم ما عندك منه...).

وانبرى يقيم له الحجّة على أنّ العلويين أحق بالنبي، وأقرب إليه من العباسيين قائلاً: (أنشدك بالله يا أمير المؤمنين، لو أنّ الله تعالى بعث نبيّه محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله فخرج علينا من وراء أكمة من هذه الآكام يخطب إليك ابنتك كنت مزوّجه إيّاها؟

فقال المأمون: (يا سبحان الله!! وهل أحد يرغب عن رسول الله (ص)؟.

وبادر الإمام الرضا قائلاً:

(افتراه كان يحل له أن يخطب إلي؟...).

وأفحم المأمون ولم يجد منفذاً يسلك فيه لتبرير قربهم من النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقد أقام الإمام حجّة دامغة لا مجال لإنكارها والشك فهم أبناء بنته البضعة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها، وأبناؤها أبناؤه، وراح المأمون يقول:

(أنتم والله أمس برسول الله رحماً...)(١) .

وليس استحقاق أهل البيت للخلافة باعتبار أنّهم ألصق الناس برسول الله (ص) وأقربهم إليه، وإنّما لمواهبهم وعبقرياتهم ودراياتهم بما تحتاج إليه الأمة في جميع مجالاتها الإدارية والاقتصادية.

الإمام يرفض تعيين الولاة:

وعرض المأمون على الإمام الرضاعليه‌السلام تعيين مَن يشاء ويختار ليكون والياً على بعض الأقاليم الإسلامية، ورفض الإمامعليه‌السلام الاستجابة لهذا الطلب، وقال له:

(إنّي إنّما دخلت فيما دخلت على أن لا آمر ولا أنهى، ولا أعزل ولا أشير حتى

____________________

(١) كنز الفوائد (ص ١٦٦).

٣٣٩

يقدمني الله قبلك، فوالله إنّ الخلافة لشيء ما حدثت به نفسي، ولقد كنت بالمدينة أتردد في طرقها على دابتي، وأنّ أهلها وغيرهم يسألوني الحوائج فأقضيها لهم، فيصيرون كالأعمام لي وإنّ كتبي لنافذة في الأمصار، وما زدتني من نعمة هي عليّ من ربّي)(١) .

لقد رفض الإمامعليه‌السلام رفضاً تاماً التدخّل في أيّ شأن من شؤون الدولة، وذلك للتدليل على عدم شرعية دولة المأمون، وأنّه إنّما دخل فيها عن كره وإجبار.

الإمام يخبر بعدم دخوله بغداد:

وقال المأمون للإمام الرضاعليه‌السلام ندخل بغداد، وعرض عليه ما يفعله فيها، فقالعليه‌السلام له: تدخل أنت بغداد، وسمع بعض الشيعة هذا الكلام ففزع لأنه يؤذن بعدم دخول الإمام إلى بغداد، واختلى بالإمام، وقال له: إنّي سمعت شيئا غمني، وذكر له ما قاله الإمام، فقالعليه‌السلام له: (ما أنا وبغداد، لا أرى بغداد، ولا تراني...)(٢) .

وكان ذلك من دلائل إمامته، فإنّه لم يفارق (خراسان)، حتى اغتاله المأمون، ولم ير بغداد.

الإمام والفضل بن سهل:

أمّا الفضل بن سهل(٣) ، فهو أقوى شخصية في دولة المأمون، ويتمتّع

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٦ - ١٦٧.                        (٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٢٤ - ٢٢٥.

(٣) الفضل بن سهل السرخسي أسلم على يد المأمون سنة (١٩٠ ه‍) وكان من أخبر الناس بعلم النجوم، وقد طلب المأمون من والدة الفضل أن ترسل إليه بما خلفه ابنها فأرسلت إليه صندوقاً صغيراً مختوماً ففضّه، فإذا فيه درج، وفي الدرج رقعة من حرير مكتوب فيها بخطّه بعد البسملة هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنّه يعيش ٤٨ سنة، ثم يقتل ما بين ماء ونار، وقد عاش هذه المدة، ثم قتله غالب خال المأمون بسرخس، ومن بديع ما قاله إبراهيم بن العباس الصولي في مدحه:

لفضل بن سهل يد

تقاصر عنها المثل

فنائلها للغني

وسطوتها للأجل

وباطنها للندى

وظاهرها للقبل

ويقول في مدحه أبو محمد عبد الله بن محمد:

لعمرك ما الأشراف في كل بلدةٍ

وإن عظموا للفضل إلاّ صنائعُ

ترى عظماء الناس للفضل خشّعاً

إذا ما بدا والفضل لله خاشعُ

تواضع لـمّا زاده الله رفعةً

وكل جليل عنده متواضعُ

وأصيب الفضل بابن يقال له العباس فجزع عليه جزعاً شديداً فدخل عليه إبراهيم نجل الإمام موسى بن جعفرعليه‌السلام فعزاه وأنشده.

خير من العباس أجرك بعده

والله خير منك للعباسِ

فقال له الفضل صدقت، وجاء ذلك في وفيات الأعيان ٣ / ٢٠٩ - ٢١١.

٣٤٠

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375