حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)10%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 200692 / تحميل: 8164
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

وانتهت الوفود إلى دمشق لعرض آرائها على عاهل الشام ، وقد قام معاوية بضيافتهم والإحسان إليهم.

مؤتمرُ الوفود الإسلاميّة :

وعقدت وفود الأقطار الإسلاميّة مؤتمراً في البلاط الاُموي في دمشق لعرض آرائها في البيعة ليزيد ، وقد افتتح المؤتمر معاوية بالثناء على الإسلام ، ولزوم طاعة ولاة الاُمور ، ثمّ ذكر يزيد وفضله وعمله بالسّياسة ، ودعاهم لبيعته.

المؤيّدون للبيعة :

وانبرت كوكبة مِنْ أقطاب الحزب الاُموي فأيّدوا معاوية ، وحثّوه على الإسراع للبيعة ، وهم :

1 ـ الضحّاك بن قيس

2 ـ عبد الرحمن بن عثمان

3 ـ ثور بن معن السلمي

4 ـ عبد الله بن عصام

5 ـ عبد الله بن مسعدة

وكان معاوية قد عهد إليهم بالقيام بتأييده ، والردّ على المعارضين له.

٢٠١

خطابُ الأحنف بن قيس :

وانبرى إلى الخطابة زعيم العراق وسيّد تميم الأحنف بن قيس ، الذي تقول فيه ميسون اُمّ يزيد : لو لمْ يكن في العراق إلاّ هذا لكفاهم(1) . وتقدّم فحمد الله وأثنى عليه ، ثمّ التفت إلى معاوية قائلاً :

أصلح الله أمير المؤمنين ، إنّ الناس في منكر زمان قد سلف ، ومعروف زمان مؤتنف ، ويزيد ابن أمير المؤمنين نعم الخلف ، وقد حلبت الدهر أشطره.

يا أمير المؤمنين ، فاعرف مَنْ تسند إليه الأمر مِنْ بعدك ثمّ اعصِ أمر مَنْ يأمرك ، ولا يغررك مَنْ يُشير عليك ولا ينظر لك ، وأنت أنظر للجماعة ، وأعلم باستقامة الطاعة ، مع أنّ أهل الحجاز وأهل العراق لا يرضون بهذا ، ولا يبايعون ليزيد ما كان الحسن حيّاً.

وأثار خطاب الأحنف موجةً مِن الغضب والاستياء عند الحزب الاُموي ، فاندفع الضحّاك بن قيس مندِّداً به ، وشتم أهلَ العراق ، وقدح بالإمام الحسن (عليه السّلام) ، ودعا الوفد العراقي إلى الإخلاص لمعاوية والامتثال لما دعا إليه. ولمْ يعن به الأحنف ، فقام ثانياً فنصح معاوية ودعاه إلى الوفاء بالعهد الذي قطعه على نفسه مِنْ تسليم الأمر إلى الحسن (عليه السّلام) مِنْ بعده ؛ حسب اتفاقية الصلح التي كان من أبرز بنودها إرجاع الخلافة مِنْ بعده إلى الإمام الحسن (عليه السّلام) ، كما أنّه هدّد معاوية بإعلان الحرب إذا لمْ يفِ بذلك.

__________________

(1) تذكرة ابن حمدون / 81.

٢٠٢

فشلُ المؤتمر :

وفشلَ المؤتمر فشلاً ذريعاً بعد خطاب الزعيم الكبير الأحنف بن قيس ، ووقع نزاع حاد بين أعضاء الوفود وأعضاء الحزب الاُموي ، وانبرى يزيد بن المقفّع فهدّد المعارضين باستعمال القوّة قائلاً : أمير المؤمنين هذا ـ وأشار إلى معاوية ـ ، فإنْ هلك فهذا ـ وأشار إلى يزيد ـ ، ومَنْ أبى فهذا ـ وأشار إلى السيف ـ.

فاستحسن معاوية قوله ، وراح يقول له : اجلس فأنت سيّد الخطباء وأكرمهم.

ولمْ يعن به الأحنف بن قيس ، فانبرى إلى معاوية فدعاه إلى الإمساك عن بيعة يزيد ، وأنْ لا يُقدّمَ أحداً على الحسن والحسين (عليهما السّلام). وأعرض عنه معاوية ، وبقي مصرّاً على فكرته التي هي أبعد ما تكون عن الإسلام.

وعلى أي حالٍ ، فإنّ المؤتمر لمْ يصل إلى النتيجة التي أرادها معاوية ؛ فقد استبان له أنّ بعض الوفود الإسلاميّة لا تُقِرّه على هذه البيعة ولا ترضى به.

سفرُ معاوية ليثرب :

وقرّر معاوية السفر إلى يثرب التي هي محطّ أنظار المسلمين ، وفيها أبناء الصحابة الذين يُمثّلون الجبهة المعارضة للبيعة ؛ فقد كانوا لا يرون يزيداً نِدّاً لهم ، وإنّ أخذ البيعة له خروجٌ على إرادة الأُمّة ، وانحراف عن الشريعة الإسلاميّة التي لا تُبيح ليزيد أنْ يتولّى شؤون المسلمين ؛ لما عُرِفَ به مِن الاستهتار وتفسّخ الأخلاق.

٢٠٣

وسافر معاوية إلى يثرب في زيارة رسمية ، وتحمّل أعباء السفر لتحويل الخلافة الإسلاميّة إلى مُلْكٍ عضوض ، لا ظل فيه للحقّ والعدل.

اجتماعٌ مغلق :

وفور وصول معاوية إلى يثرب أمر بإحضار عبد الله بن عباس ، وعبد الله بن جعفر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر ، وعقد معهم اجتماعاً مغلقاً ، ولمْ يُحضر معهم الحسن والحسين (عليهما السّلام) ؛ لأنّه قد عاهد الحسن (عليه السّلام) أنْ تكون الخلافة له مِنْ بعده ، فكيف يجتمع به؟ وماذا يقول له؟ وقد أمر حاجبه أنْ لا يسمح لأي أحدٍ بالدخول عليه حتّى ينتهي حديثه معهم.

كلمةُ معاوية :

وابتدأ معاوية الحديث بحمد الله والثناء عليه ، وصلّى على نبيّه ، ثمّ قال : أمّا بعد ، فقد كبر سنّي ، ووهن عظمي ، وقرب أجلي ، وأوشكت أنْ اُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أنْ استخلف بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا. وأنتم عبادلة قريش وخيارهم وأبناء خيارهم ، ولمْ يمنعني أنْ أُحضِرَ حسناً وحُسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما علي ، على حُسنِ رأي فيهما ، وشدّة محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً رحمكم الله.

ولم يستعمل معهم الشدّة والإرهاب ؛ استجلاباً لعواطفهم ، ولمْ يخفَ عليهم ذلك ، فانبروا جميعاً إلى الإنكار عليه.

٢٠٤

كلمةُ عبد الله بن عباس :

وأوّل مَنْ كلّمه عبد الله بن عباس ، فقال بعد حمد الله ، والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس مَنْ تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذا اختاره الله له ؛ فإنّه إنّما اختار محمّداً (صلّى الله عليه وآله) بعلمه ، وهو العليم الخبير ، واستغفر الله لي ولكم.

وكانت دعوة ابن عباس صريحةً في إرجاع الخلافة لأهل البيت (عليهم السّلام) ، الذين هم ألصق الناس برسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأمسّهم به رحماً ؛ فإنّ الخلافة إنّما هي امتداد لمركز رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فأهل بيته أحقّ بمقامه وأولى بمكانته.

كلمةُ عبد الله بن جعفر :

وانبرى عبد الله بن جعفر ، فقال بعد حمد الله والثناء عليه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة إنْ أُخذ فيها بالقرآن فاُولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) فاُولوا رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وإنْ أُخذ فيها بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر فأي الناس أفضل وأكمل وأحق بهذا الأمر مِنْ آل الرسول (صلّى الله عليه وآله)؟ وأيمُ الله ، لو ولّوها بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ؛ لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الرحمن وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتقِ الله يا معاوية ، فإنّك قد صرت راعياً ونحن رعيّة ، فانظر لرعيتك فإنّك مسؤول عنها غداً ،

٢٠٥

وأمّا ما ذكرت مِن ابنَي عمّي وتركك أنْ تحضرهم ، فوالله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، واستغفر الله لي ولكم.

وحفل هذا الخطاب بالدعوة إلى الحقّ ، والإخلاص للأُمّة ، فقد رشّح أهل البيت (عليهم السّلام) للخلافة وقيادة الأُمّة ، وحذّره مِنْ صرفها عنهم كما فعل غيره مِن الخلفاء ، فكان مِنْ جرّاء ذلك أنْ مُنِيَتِ الأُمّة بالأزمات والنّكسات ، وعانت أعنف المشاكل وأقسى الحوادث.

كلمةُ عبد الله بن الزبير :

وانطلق عبد الله بن الزبير للخطابة ، فحمد الله وأثنى عليه ، وقال : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصة ، نتناولها بمآثرها السنيّة وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء وكرم الأبناء ، فاتّقِ الله يا معاوية وأنصف نفسك ؛ فإنّ هذا عبد الله بن عباس ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وعلي خلّف حسناً وحُسيناً ، وأنت تعلم مَنْ هما وما هما؟ فاتّقِ الله يا معاوية ، وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

وقد رشح ابن الزبير هؤلاء النفر للخلافة ، وقد حفّزهم بذلك لمعارضة معاوية وإفساد مهمّته.

٢٠٦

كلمةُ عبد الله بن عمر :

واندفع عبد الله بن عمر ، فقال بعد حمد الله والصلاة على نبيّه : أمّا بعد ، فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فوالله ما أدخلني مع الستّة مِنْ أصحاب الشورى إلاّ على أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصة لمَنْ كان لها أهلاً ؛ ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، ممّن كان أتقى وأرضى ، فإنْ كنت تريد الفتيان مِنْ قريش فلعمري أنّ يزيد مِنْ فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك مِن الله شيئاً.

ولمْ تعبّر كلمات العبادلة عن شعورهم الفردي ، وإنّما عبّرت تعبيراً صادقاً عن رأي الأغلبية السّاحقة مِن المسلمين الذين كرهوا خلافة يزيد ، ولمْ يرضوا به.

كلمةُ معاوية :

وثقلَ على معاوية كلامهم ، ولمْ يجد ثغرة ينفذ منها للحصول على رضاهم ، فراح يشيد بابنه فقال : قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ مِن أبنائهم ، مع أنّ ابني إنْ قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ؛ لأنّهم أهل رسول الله ، فلمّا مضى رسول الله ولّى الناس أبا بكر وعمر مِنْ غير معدن المُلْك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرةٍ جميلةٍ ، ثمّ رجع المُلْك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد

٢٠٧

أخرجك الله يابن الزبير ، وأنت يابن عمر منه ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين مِن الرأي إنْ شاء الله(1) .

وانتهى اجتماع معاوية بالعبادلة ، وقد أخفق فيه إخفاقاً ذريعاً ؛ فقد استبان له أنّ القوم مصمّمون على رفض بيعة يزيد. وعلى إثر ذلك غادر يثرب ، ولمْ تذكر المصادر التي بأيدينا اجتماعه بسبطي رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، فقد أهملت ذلك ، وأكبر الظن أنّه لمْ يجتمع بهما.

فزعُ المسلمين :

وذُعِرَ المسلمون حينما وافتهم الأنباء بتصميم معاوية على فرض ابنه خليفة عليهم ، وكان مِنْ أشدّ المسلمين خوفاً المدنيون والكوفيون ، فقد عرفوا واقع يزيد ، ووقفوا على اتجاهاته المعادية للإسلام.

يقول توماس آرنولد : كان تقرير معاوية للمبدأ الوراثي نقلة خطيرة في حياة المسلمين الذين ألِفوا البيعة والشورى ، والنُّظم الاُولى في الإسلام ، وهم بعدُ قريبون منها ؛ ولهذا أحسّوا ـ وخاصة في مكّة والمدينة ، حيث كانوا يتمسّكون بالأحاديث والسّنن النّبوية الاُولى ـ أنّ الاُمويِّين نقلوا الخلافة إلى حكم زمني متأثر بأسباب دنيوية ، مطبوع بالعظمة وحبّ الذات بدلاً مِنْ أنْ يحتفظوا بتقوى النّبي وبساطته(2) .

لقد كان إقدام معاوية على فرض ابنه يزيد حاكماً على المسلمين تحوّلاً خطيراً في حياة المسلمين الذين لمْ يألفوا مثل هذا النظام الثقيل الذي فُرِضَ عليهم بقوّة السّلاح.

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 180 ـ 183 ، جمهرة الخطب 2 / 233 ـ 236.

(2) الخلافة ـ لتوماس / 10.

٢٠٨

الجبهةُ المعارضة :

وأعلن الأحرار والمصلحون في العالم الإسلامي رفضهم القاطع لبيعة يزيد ، ولمْ يرضوا به حاكماً على المسلمين ، وفيما يلي بعضهم :

1 ـ الإمام الحسين (عليه السّلام) :

وفي طليعة المعارضين لبيعة يزيد الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، فقد كان يحتقر يزيد ويكره طباعه الذميمة ، ووصفه بأنّه صاحب شراب وقنص ، وأنّه قد لزم طاعة الشيطان وترك طاعة الرحمن ، وأظهر الفساد ، وعطّل الحدود ، واستأثر بالفيء ، وأحلّ حرام الله وحرّم حلاله(1) . وإذا كان بهذه الضِعة ، فكيف يبايعه ويقرّه حاكماً على المسلمين؟!

ولمّا دعاه الوليد إلى بيعة يزيد قال له الإمام (عليه السّلام) : «أيّها الأمير ، إنّا أهل بيت النّبوة ، ومعدن الرسالة ، ومختلف الملائكة ، بنا فتح الله وبنا يختم ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، وقاتل النّفس المحترمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله».

ورفض بيعة يزيد جميع أفراد الأُسرة النّبوية تبعاً لزعيمهم العظيم ، ولمْ يشذّوا عنه.

الحرمان الاقتصادي :

وقابل معاوية الأسرة النّبوية بحرمان اقتصادي ؛ عقوبةً لهم لامتناعهم عن بيعة يزيد ، فقد حبس عنهم العطاء سنةً كاملة(2) ، ولكنّ ذلك لمْ يثنهم عن عزمهم في شجب البيعة ورفضها.

__________________

(1) تاريخ ابن الأثير.

(2) تاريخ ابن الأثير 3 / 252 ، الإمامة والسياسة 1 / 200.

٢٠٩

2 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

ومِن الذين نقموا على بيعة يزيد عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقد وسمها بأنّها هرقلية ، كلّما مات هرقل قام مكانه هرقل آخر(1) . وأرسل إليه معاوية مئة ألف درهم ليشتري بها ضميره فأبى ، وقال : لا أبيع ديني(2) .

3 ـ عبد الله بن الزبير :

ورفض عبد الله بن الزبير بيعة يزيد ، ووصفه بقوله : يزيد الفجور ، ويزيد القرود ، ويزيد الكلاب ، ويزيد النشوات ، ويزيد الفلوات(3) . ولمّا أجبرته السّلطة المحلّية في يثرب على البيعة فرّ منها إلى مكّة.

4 ـ المنذر بن الزبير :

وكره المنذر بن الزبير بيعة يزيد وشجبها ، وأدلى بحديث له عن فجور يزيد أمام أهل المدينة ، فقال : إنّه قد أجازني بمئة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أنْ أخبركم خبره. والله ، إنّه ليشرب الخمر. والله ، إنّه ليسكر حتّى يدع الصلاة(4) .

5 ـ عبد الرحمن بن سعيد :

وامتنع عبد الرحمن بن سعيد مِن البيعة ليزيد ، وقال في هجائه :

__________________

(1) الاستيعاب.

(2) الاستيعاب ، البداية والنهاية 8 / 89.

(3) أنساب الأشراف 4 / 30.

(4) الطبري 4 / 368.

٢١٠

لستَ منّا وليس خالُك منّا

يا مضيعَ الصلاةِ للشهواتِ(1)

6 ـ عابس بن سعيد :

ورفض عابس بن سعيد بيعة يزيد حينما دعاه إليها عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال له : أنا أعرَفُ به منك ، وقد بعتَ دينك بدنياك(2) .

7 ـ عبد الله بن حنظلة :

وكان عبد الله بن حنظلة مِن أشدّ الناقمين على البيعة ليزيد ، وكان مِن الخارجين عليه في وقعة الحرّة ، وقد خاطب أهل المدينة ، فقال لهم : فو الله ، ما خرجنا على يزيد حتّى خفنا أنْ نُرمى بالحِجارة مِن السّماء.

حياة الإمام الحُسين

إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لمْ يكن معي أحدٌ مِن الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً(3) .

وكان يرتجز في تلك الواقعة :

بعداً لمَنْ رام الفساد وطغى

وجانب الحقّ وآيات الهدى

لا يبعد الرحمنُ إلاّ مَنْ عصى(4)

__________________

(1) الحُسين بن علي (عليه السّلام) 2 / 6.

(2) القضاة ـ للكندي / 310.

(3) طبقات ابن سعد.

(4) تاريخ الطبري 7 / 12.

٢١١

موقفُ الأُسرة الاُمويّة :

ونقمت الأُسرة الاُمويّة على معاوية في عقده البيعة ليزيد ، ولكن لمْ تكن نقمتهم عليه مشفوعة بدافع ديني أو اجتماعي ، وإنّما كانت مِنْ أجل مصالحهم الشخصية الخاصة ؛ لأنّ معاوية قلّد ابنه الخلافة وحرمهم منها ، وفيما يلي بعض الناقمين :

1 ـ سعيد بن عثمان :

وحينما عقد معاوية البيعة ليزيد أقبل سعيد بن عثمان إلى معاوية ، وقد رفع عقيرته قائلاً : علامَ جعلت ولدك يزيد وليّ عهدك؟! فوالله لأبي خير مِنْ أبيه ، وأُمّي خير مِنْ أُمّه ، وأنا خيرٌ مِنه ، وقد ولّيناك فما عزلناك ، وبنا نلت ما نلت!

فراوغ معاوية وقال له : أمّا قولك إنّ أباك خير مِنْ أبيه فقد صدقت ، لعمر الله إنّ عثمان لخير مِنّي ؛ وأمّا قولك إنّ أُمّك خير مِنْ أُمّه فحسب المرأة أنْ تكون في بيت قومِها ، وأنْ يرضاها بعلها ، ويُنجب ولدها ؛ وأمّا قولك إنّك خير مِنْ يزيد ، فوالله ما يسرّني أنّ لي بيزيد ملء الغوطة ذهباً مثلك ؛ وأمّا قولك إنّكم ولّيتموني فما عزلتموني ، فما ولّيتموني إنّما ولاّني مَنْ هو خير مِنكم عمر بن الخطاب فأقررتموني.

وما كنت بئس الوالي لكم ؛ لقد قمت بثأركم ، وقتلتُ قتلة أبيكم ، وجعلت الأمر فيكم ، وأغنيت فقيركم ، ورفعت الوضيع منكم ...

٢١٢

وكلّمه يزيد فأرضاه ، وجعله والياً على خراسان(1) .

2 ـ مروان بن الحكم :

وشجب مروان بن الحكم البيعة ليزيد وتقديمه عليه ، فقد كان شيخ الاُمويِّين وزعيمهم ، فقال له : أقم يابن أبي سفيان ، واهدأ مِنْ تأميرك الصبيان ، واعلم أنّ لك في قومك نُظراء ، وأنّ لهم على مناوئتك وزراً.

فخادعه معاوية ، وقال له : أنت نظير أمير المؤمنين بعده ، وفي كلّ شدّة عضده ، فقد ولّيتك قومك ، وأعظمنا في الخراج سهمك ، وإنّا مجيرو وفدك ، ومحسنو وفدك(2) .

وقال مروان لمعاوية : جئتم بها هرقلية ، تُبايعون لأبنائكم!(3) .

3 ـ زياد بن أبيه :

وكره زياد بن أبيه بيعة معاوية لولده ؛ وذلك لما عرف به مِن الاستهتار والخلاعة والمجون.

ويقول المؤرّخون : إنّ معاوية كتب إليه يدعوه إلى أخذ البيعة بولايته العهد ليزيد ، وإنّه ليس أولى مِن المغيرة بن شعبة. فلمّا قرأ كتابه دعا برجل مِنْ أصحابه كان يأتمنه حيث لا يأتمن أحداً غيره ، فقال له : إنّي اُريد أنْ ائتمنك على ما لم ائتمن على بطون الصحائف ؛ ائت معاوية وقل له : يا أمير المؤمنين ، إنّ كتابك ورد عليّ بكذا ، فماذا يقول

__________________

(1) وفيات الأعيان 5 / 389 ـ 390.

(2) الإمامة والسّياسة 1 / 128.

(3) الإسلام والحضارة العربية 2 / 395.

٢١٣

الناس إنْ دعوناهم إلى بيعة يزيد ، وهو يلعب بالكلاب والقرود ، ويلبس المصبغ ، ويدمن الشراب ، ويمسي على الدفوف ، ويحضرهم ـ أي الناس ـ الحُسين بن علي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عمر؟! ولكن تأمره أنْ يتخلّق بأخلاق هؤلاء حولاً أو حولين ، فعسانا أنْ نموه على الناس. وسار الرسول إلى معاوية فأدّى إليه رسالة زياد ، فاستشاط غضباً ، وراح يتهدّده ويقول :

ويلي على ابن عُبيد! لقد بلغني أنّ الحادي حدا له أنّ الأمير بعدي زياد. والله ، لأردّنه إلى أُمّه سُميّة وإلى أبيه عُبيد(1) .

هؤلاء بعض الناقدين لمعاوية مِن الأُسرة الاُمويّة وغيرهم في توليته لخليعه يزيد خليفة على المسلمين.

إيقاعُ الخلاف بين الاُمويِّين :

واتّبع معاوية سياسة التفريق بين الاُمويِّين حتّى يصفو الأمر لولده يزيد ؛ فقد عزل عامله على يثرب سعيد بن العاص واستعمل مكانه مروان بن الحكم ، ثمّ عزل مروان واستعمل سعيداً مكانه ، وأمره بهدم داره ومصادرة أمواله ، فأبى سعيد مِنْ تنفيذ ما أمره به معاوية فعزله وولّى مكانه مروان ، وأمره بمصادرة أموال سعيد وهدم داره ، فلمّا همّ مروان بتنفيذ ما عهد إليه أقبل إليه سعيد وأطلعه على كتاب معاوية في شأنه ، فامتنع مروان مِن القيام بما أمره معاوية.

وكتب سعيد إلى معاوية رسالة يندّد فيها بعمله ، وقد جاء فيها : العجب ممّا صنع أمير المؤمنين بنا في قرابتنا له ، أنْ يضغن بعضنا

__________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2 / 196.

٢١٤

على بعض! فأمير المؤمنين في حلمه وصبره على ما يكره مِن الأخبثين ، وعفوه وإدخاله القطيعة بنا والشحناء ، وتوارث الأولاد ذلك!(1) .

وعلّق عمر أبو النّصر على سياسة التفريق التي تبعها معاوية مع أُسرته بقوله : إنّ سبب هذه السّياسة هو رغبة معاوية في إيقاع الخلاف بين أقاربه الذين يخشى نفوذهم على يزيد مِنْ بعده ، فكان يضرب بعضهم ببعضٍ حتّى يظلّوا بحاجة إلى عطفه وعنايته(2) .

تجميدُ البيعة :

وجمّد معاوية رسمياً البيعة ليزيد إلى أجل آخر حتّى يتمّ له إزالة الحواجز والسدود التي تعترض طريقه. ويقول المؤرّخون : إنّه بعد ما التقى بعبادلة قريش في يثرب ، واطّلع على آرائهم المعادية لما ذهب إليه ، أوقف كلّ نشاط سياسي في ذلك ، وأرجأ العمل إلى وقت آخر(3) .

اغتيالُ الشخصيات الإسلاميّة :

ورأى معاوية أنّه لا يمكن بأي حالٍ تحقيق ما يصبوا إليه مِنْ تقليد ولده الخلافة مع وجود الشخصيات الرفيعة التي تتمتّع باحترام بالغ في نفوس المسلمين ، فعزم على القيام باغتيالهم ؛ ليصفو له الجو ، فلا يبقى أمامه أي مزاحم ،

__________________

(1) تاريخ الطبري 4 / 18.

(2) السياسة عند العرب ـ عمر أبو النّصر / 98.

(3) الإمامة والسياسة 1 / 182.

٢١٥

وقد قام باغتيال الذوات التالية :

1 ـ سعد بن أبي وقاص :

ولسعد المكانة العليا في نفوس الكثيرين مِن المسلمين ، فهو أحد أعضاء الشورى ، وفاتح العراق ، وقد ثقل مركزه على معاوية فدسّ إليه سُمّاً فمات منه(1) .

2 ـ عبد الرحمن بن خالد :

وأخلص أهل الشام لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد ، وأحبّوه كثيراً ، وقد شاورهم معاوية فيمَنْ يعقد له البيعة بعد وفاته ، فقالوا له : رضينا بعبد الرحمن بن خالد ، فشقّ ذلك عليه ، وأسرّها في نفسه.

ومرض عبد الرحمن ، فأمر معاوية طبيباً يهودياً كان مكيناً عنده أنْ يأتيه للعلاج فيسقيه سقية تقتله ، فسقاه الطبيب فمات على أثر ذلك(2) .

3 ـ عبد الرحمن بن أبي بكر :

وكان عبد الرحمن بن أبي بكر مِنْ أقوى العناصر المعادية لبيعة معاوية لولده ، وقد أنكر عليه ذلك ، وبعث إليه معاوية بمئة ألف درهم فردّها عليه ، وقال : لا أبيع ديني بدنياي. ولمْ يلبث أنْ مات فجأة بمكة(3) .

وتعزو المصادر سبب وفاته إلى أنّ معاوية دسّ إليه سُمّاً فقتله.

__________________

(1) مقاتل الطالبيِّين / 29.

(2) الاستيعاب.

(3) المصدر نفسه.

٢١٦

4 ـ الإمام الحسن (عليه السّلام) :

وقام معاوية باقتراف أعظم جريمة وإثم في الإسلام ، فقد عمد إلى اغتيال سبط النّبي (صلّى الله عليه وآله) وريحانته الإمام الحسن (عليه السّلام) ، الذي عاهده بأنْ يكون الخليفة مِنْ بعده.

ولم يتحرّج الطاغية مِنْ هذه الجريمة في سبيل إنشاء دولة اُمويّة تنتقل بالوارثة إلى أبنائه وأعقابه ، وقد وصفه (الميجر اُوزبورن) بأنّه مخادع ، وذو قلب خال مِنْ كلّ شفقة ، وأنّه كان لا يتهيّب مِنْ الإقدام على أيّة جريمة مِنْ أجل أنْ يضمن مركزه ؛ فالقتل إحدى وسائله لإزالة خصومه ، وهو الذي دبّر تسميم حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، كما تخلّص مِنْ مالك الأشتر قائد علي بنفس الطريقة(1) .

وقد استعرض الطاغية السفّاكين ليعهد إليهم القيام باغتيال ريحانة النّبي (صلّى الله عليه وآله) ، فلمْ يرَ أحداً خليقاً بارتكاب الجريمة سوى جُعيدة بنت الأشعث ؛ فإنّها مِنْ بيت قد جُبِلَ على المكر ، وطُبِعَ على الغدر والخيانة ، فأرسل إلى مروان بن الحكم سُمّاً فاتكاً كان قد جلبه مِنْ مَلكِ الروم ، وأمره بأنْ يُغري جُعيدة بالأموال وزواج ولده يزيد إذا استجابت له ، وفاوضها مروان سرّاً ففرحت ، فأخذت مِنه السُّمّ ودسّته للإمام (عليه السّلام) ، وكان صائماً في وقت ملتهب مِن شدّة الحرّ ، ولمّا وصل إلى جوفه تقطّعت أمعاؤه ، والتفت إلى الخبيثة فقال لها : «قتلتيني قتلك الله. والله لا تصيبنَّ مِنّي خَلفاً ، لقد غرّك ـ يعني معاوية ـ وسخر مِنك ، يخزيك الله ويخزيه».

وأخذ حفيد الرسول (صلّى الله عليه وآله) يعاني الآلام الموجعة مِنْ شدّة السُّمّ ،

__________________

(1) روح الإسلام / 295.

٢١٧

وقد ذبلت نضارته ، واصفرّ لونه حتّى وافاه الأجل المحتوم. وقد ذكرنا تفصيل وفاته مع ما رافقها مِن الأحداث في كتابنا (حياة الإمام الحسن (عليه السّلام».

إعلانُ البيعة رسميّاً :

وصفا الجو لمعاوية بعد اغتياله لسبط الرسول (صلّى الله عليه وآله) وريحانته ، فقد قضى على مَنْ كان يحذر منه ، وقد استتبت له الاُمور ، وخلت السّاحة مِنْ أقوى المعارضين له ، وكتب إلى جميع عمّاله أنْ يبادروا دونما أي تأخير إلى أخذ البيعة ليزيد ، ويُرغموا المسلمين على قبولها. وأسرع الولاة في أخذ البيعة مِن الناس ، ومَنْ تخلّف عنها نال أقصى العقوبات الصارمة.

مع المعارضين في يثرب :

وامتنعت يثرب مِنْ البيعة ليزيد ، وأعلن زعماؤهم وعلى رأسهم الإمام الحُسين (عليه السّلام) رفضهم القاطع للبيعة ، ورفعت السّلطة المحلّية ذلك إلى معاوية ، فرأى أنْ يسافر إلى يثرب ليتولّى بنفسه إقناع المعارضين ، فإنْ أبوا أجبرهم على ذلك. واتّجه معاوية إلى يثرب في موكب رسميّ تحوطه قوّة هائلة مِن الجيش ، ولمّا انتهى إليها استقبله أعضاء المعارضة فجفاهم وهدّدهم.

وفي اليوم الثاني أرسل إلى الإمام الحُسين (عليه السّلام) ، وإلى عبد الله بن عباس ، فلمّا مَثُلا عنده قابلهما بالتكريم والحفاوة ، وأخذ يسأل الحُسين (عليه السّلام) عن أبناء أخيه والإمامُ (عليه السّلام) يُجيبه ، ثمّ خطب معاوية فأشاد بالنّبي (صلّى الله عليه وآله) وأثنى عليه ، وعرض إلى بيعة يزيد ، ومنح ابنه الألقاب الفخمة ، والنعوت الكريمة ، ودعاهما إلى بيعته.

٢١٨

خطابُ الإمام الحُسين (عليه السّلام) :

وانبرى أبيّ الضيم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : «أمّا بعد يا معاوية ، فلن يؤدّي المادح وإنْ أطنب في صفة الرسول (صلّى الله عليه وآله) مِنْ جميع جزءاً ، وقد فهمتُ ما لبست به الخلف بعد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) مِنْ إيجاز الصفة ، والتنكّب عن استبلاغ النّعت ، وهيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت الشمس أنوار السُّرج ، ولقد فضلّتَ حتّى أفرطت ، واستأثرتَ حتّى أجحفت ، ومنعتَ حتّى بخلت ، وجُرْتَ حتّى جاوزت ، ما بذلت لذي حقٍّ مِنْ اسمٍ حقّه مِنْ نصيب حتّى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمتُ ما ذكرته عن يزيد مِن اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله) ؛ تريد أنْ توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تُخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص ، وقد دلّ يزيد مِنْ نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به مِن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحَمام السبق لأترابهنَّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضروب الملاهي تجده ناصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أنْ تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه ، فوالله ما برحتَ تقدح باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتُقدم على عمل محفوظ ، في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا تُراثاً ، ولعمر الله أورثنا الرسول (صلّى الله عليه وآله) ولادة ، وجئت لنا بها ما حججتم به القائمَ عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النّصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان

٢١٩

ويكون ، حتّى أتاك الأمر يا معاوية مِنْ طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا اُولي الأبصار.

وذكرتَ قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ، وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار ـ لعمر الله ـ يومئذ مبعثهم حتّى أنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال (صلّى الله عليه وآله) : لا جرم يا معشر المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري. فكيف تحتجّ بالمنسوخ مِنْ فعل الرسول في أوكد الأحكام وأولاها بالمجتمع عليه مِن الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابعاً وحولك مَنْ لا يُؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته ، وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أنْ تُلبس الناس شبهةً يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك؟! إنّ هذا لهو الخسران المبين! واستغفر الله لي ولكم».

وفنّد الإمام (عليه السّلام) في خطابه جميع شبهات معاوية ، وسدّ عليه جميع الطرق والنوافذ ، وحمّله المسؤولية الكبرى فيما أقدم عليه مِنْ إرغام المسلمين على البيعة لولده. كما عرض للخلافة وما منيت به مِن الانحراف عمّا أرادها الله مِنْ أنْ تكون في العترة الطاهرة (عليهم السّلام) ، إلاّ أنّ القوم زووها عنهم ، وحرفوها عن معدنها الأصيل.

وذُهل معاوية مِنْ خطاب الإمام (عليه السّلام) ، وضاقت عليه جميع السّبل ، فقال لابن عباس : ما هذا يابن عباس؟!

ـ لعمر الله إنّها لذرّيّة الرسول (صلّى الله عليه وآله) ، وأحد أصحاب الكساء ، ومِن البيت المطهّر ، فاله عمّا تريد ؛ فإنّ لك في الناس مقنعاً حتّى يحكم الله

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

بصلاحيات واسعة النطاق، فقد سيطر على جميع أجهزة الدولة فكان دوره في حكومة المأمون كدور البرامكة أيام هارون الرشيد وكان ماهراً في الشؤون السياسية، ويقول فيه إبراهيم بن العباس:

وإذا الحروب غلت بعثت لها

رأياً تفل به كتائبها

رأياً إذا نبت السيوف مضى

عزم به فشفى مضاربها

أجرى إلى فئة بدولتها

وأقام في أخرى نوادبها(١)

وحكى هذا الشعر عن مهارة الفضل في الشؤون السياسية، وأنّه برأيه يستطيع أن يقضي على دولة ويقيم أخرى كما فعل في إسقاط دولة الأمين، وإقامة دول المأمون.

وعلى أيّ حالٍ فقد كان الفضل أحد المفاوضين للإمام الرضاعليه‌السلام في قبوله لولاية العهد، وقد هدّد الإمام، وتوعّده إن رفض ذلك، ونعرض فيما يلي إلى بعض شؤون الإمامعليه‌السلام معه.

عرض كاذب لاغتيال المأمون:

وقام الفضل بن سهل وهشام بن إبراهيم بعملية لخداع الإمام الرضاعليه‌السلام والقضاء عليه، فقد طلبا منه أن يخلّي مجلسه من كل أحد، ليفوضاه في

سر، وأخلى الإمام مجلسه، فاخرج الفضل يميناً مكتوبة بالعتق والطلاق، وما لا كفارة له، وقالا له:

(إنّما جئناك لنقول كلمة الحق والصدق، وقد علمنا أنّ الإمرة أمرتكم، والحق حقّكم يا بن رسول الله، والذي نقوله بألسنتنا عليه ضمائرنا، إلاّ ينعتق ما نملك، والنساء طوالق، وعلينا ثلاثون حجّة راجلين، على أن نقتل المأمون، ونخلص لك الأمر، حتى يرجع الحق إليك...).

____________________

(١) الأغاني ٩ / ٣١ - ٣٢.

٣٤١

ولم يخف على الإمام خداعيهما، وزيف قوليهما، فلو كانا صادقين في القول لقاما بذلك، قبل أن يفاوضا الإمام، وهما يعلمان انهعليه‌السلام يرفض كل محاولة لا يقرّها الإسلام، والتي منها عملية الاغتيال، فزجرهما، وقال لهما: (كفرتما النعمة، فلا تكون لكما السلامة، ولا لي إن رضيت بما قلتما...).

وبادرا نحو المأمون فاخبراه بمقالة الإمام فجزاهما خيراً، وسارع الإمام نحو المأمون، وأعلمه بالأمر، وذلك لتبرير ساحته، وتبيّن للمأمون أن الإمام لا يضمر له سوءاً(١) وأكبر الظن أنّ هذه العملية كانت بتدبير من المأمون للاطلاع على نوايا الإمام تجاهه.

وشاية بالإمام:

وعرضت البحوث الواعية في دراسة التأريخ الإسلامي إلى أنّ الفضل بن سهل لم يكن علوي الفكر(٢) ، فقد قام بخطوات رهيبة معادية للإمام الرضاعليه‌السلام ، والتي كان منها وشايته بالإمام إلى المأمون، فقد قال له: (إنّك جعلت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك والعامة، والعلماء، والفقهاء، وآل عباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك...)(٣) .

أرأيتم كيف حرّض الفضل على النكاية بالإمام، والوشاية به فقد ملأ قلب المأمون حقداً وكراهية للإمامعليه‌السلام .

معارضته للإمام:

وكان الفضل شديد المعارضة للإمام، فإذا ذهب الإمام إلى رأي عاكسه، ودعا المأمون إلى نقضه، وكان ذلك ما نقله الرواة أنّ المأمون دخل على الإمام، وقرأ عليه كتاباً، فيه أنّ بعض قوّاته فتحت بعض قرى (كابل)، فقال له الإمام:

(أو سرّك فتح قرية من قرى الشرك؟...).

وسارع المأمون قائلاً:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٧.

(٢) يراجع في ذلك إلى كتاب الإمام الرضا للسيد جعفر مرتضى، فقد نفى عن الفضل نسبة التشيّع بصورة جازمة خلافاً لما ذهب إليه ابن خلكان في وفيات الأعيان ٣ / ٢٠٩ وغيره من أنّه كان شيعياً.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٠.

٣٤٢

(أو ليس في ذلك سرور؟...).

والتفت إليه فأرشده إلى موضع السرور الذي ينبغي أن يسلكه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين اتق الله في أمّة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما ولاّك الله من هذا الأمر، وخصّك به، فإنّك قد ضيّعت أمور المسلمين، وفوّضت ذلك إلى غيرك يحكم فيهم بغير حكم الله، وقعدت في هذه البلاد - يعني (خراسان) - وتركت بيت الهجرة، ومهبط الوحي، وإنّ المهاجرين والأنصار يظلمون دونك، ولا يرقبون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة، ويأتي على المظلوم دهر يتعب فيه نفسه، ويعجز عن نفقته، ولا يجد مَن يشكو إليه حاله ولا يصل إليك.

فاتق الله يا أمير المؤمنين في أمور المسلمين، وارجع إلى بيت النبوّة ومعدن المهاجرين والأنصار، أما علمت أنّ والي المسلمين مثل العمود في وسط الفسطاط، من أراده أخذه؟...).

وحكت هذه الكلمات الصراحة والنصيحة الخالصة، وليس فيها أيّ محاباة للمأمون ولا مجاراة لعواطفه وميوله، والتفت إلى الإمام فقال له:

(يا سيدي فما ترى؟...).

وأشار الإمام عليه بالحق الذي فيه نجاته قائلاً:

(أرى أن تخرج من هذه البلاد، وتتحوّل إلى موضع آبائك وأجدادك وتنظر في أمور المسلمين، ولا تكلهم إلى غيرك، فإنّ الله تعالى سائلك عمّا ولاّك...).

واستجاب المأمون لرأي الإمام وقال له:

(نعم ما قلت: يا سيدي، هذا هو الرأي...).

وأمر أن تقدم النوائب(١) للخروج إلى (يثرب)، وبلغ ذلك الفضل فغمّه الأمر، وسارع نحو المأمون فقال له:

(ما هذا الرأي الذي أمرت به؟...).

وعرض المأمون بما أشار عليه الإمامعليه‌السلام ، من اتخاذ المدينة المنورة عاصمة للملك، وانبرى الفضل يفند هذه الفكرة، ويشير عليه بعكس ما أشار عليه الإمام قائلاً:

____________________

(١) النوائب: هي الجيوش والعساكر المعدة للنوائب.

٣٤٣

(يا أمير المؤمنين ما هذا الصواب، قتلت بالأمس أخاك، وأزلت الخلافة عنه، وبنو أبيك معادون لك، وجميع أهل العراق، وأهل بيتك والعرب، ثم أحدثت هذا الحدث الثاني، إنّك ولّيت ولاية العهد لأبي الحسن، وأخرجتها من بني أبيك، والعامة والفقهاء والعلماء وآل العباس لا يرضون بذلك وقلوبهم متنافرة عنك.

فالرأي أن تقيم بخراسان حتى تسكن قلوب الناس على هذا، ويتناسون ما كان من أمر محمّد أخيك، وها هنا مشايخ قد خدموا الرشيد، وعرفوا الأمر فاستشرهم في ذلك، فإن أشاروا بذلك فامضه).

فقال المأمون:

(مَن هم؟...).

فقال الفضل:

مثل علي بن أبي عميران وأبي يونس، والجلودي - هؤلاء الذين نقموا بيعة أبي الحسن، ولم يرضوا بها...).

وأخيراً استجاب المأمون لرأي الفضل، وأعرض عمّا أشار عليه الإمام من اتخاذ (يثرب) عاصمة للملك(١) .

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٠.

٣٤٤

نهاية المطاف

ولم يمض قليل من الوقت على تقليد الإمام الرضاعليه‌السلام لولاية العهد حتى تنكّر له المأمون كأشد ما يكون التنكّر، وأضمر له السوء والغدر، وأخذ يبغي له الغوائل، ويكيده في غلس الليل، وفي وضح النهار، ففرض عليه الرقابة الشديدة، وحبسه في بيته ومنع العلماء والفقهاء من الاتصال به، والانتهال من غير علومه كما منع سواد شيعته من التشرّف بمقابلته.

وقد ورم أنف المأمون، وتميّز غضباً وغيظاً بما يتمتّع به الإمامعليه‌السلام من المكانة العظمى في نفوس المسلمين، وقد ترسّخت وازدادت حينما أُسندت إليه ولاية العهد، فقد رأوا ترسّله، وعدم تكلّفه، وبعده عن مغريات الحياة، وزهده في الدنيا، ومشاركته للناس في آلامهم، وحنوّه على الضعفاء، وعطفه على البؤساء، وسعة علومه، وإحاطته بما تحتاج إليه الأمّة في جميع شؤونها، وشدّة إنابته إلى الله تعالى وتقواه إلى غير ذلك من معالي أخلاقه التي يحار الفكر فيها، والتي هي امتداد ذاتي إلى أخلاق جدّه الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي طوّر الحياة، وقضى على جميع التخلّف والانحراف في دنيا العرب والمسلمين.

رأى الناس الأخلاق العلوية الماثلة في الإمام الرضاعليه‌السلام فهاموا

٣٤٥

بحبّه، وآمنوا بإمامته، في حين أنّ المأمون وسائر ملوك بني العباس قد اتصفوا بضد ما اتصف به الإمام فإنّهم من حين أن تقلّدوا الخلافة لم يؤثر عن أي أحد منهم مكرمة أو فضيلة فقد انسابوا وراء شهواتهم وملذاتهم، وأنفقوا الملايين من أموال المسلمين على لياليهم الحمراء، ورحم الله أبا فراس الحمداني الشاعر الملهم والثائر على الظلم والجور فقد قارن في رائعته الخالدة بين الحياة الرفيعة التي عاشها السادة العلويون، وبين الحياة الوضيعة المليئة بالإثم والمنكرات التي عاشها العباسيون يقول:

تمسي التلاوة في أبياتهم سحراً

وفي بيوتكم الأوتار والنغمُ

إذا تلوا آيةً غنّى إمامكم:

(قف بالديار التي لم يعفها قدمُ)

ومنكم عليه أم منهم وكان لكم

شيخ المغنّين إبراهيم، أم لهمُ؟

ما في بيوتهم للخمر معتصر

ولا بيوتهم للشر معتصمُ

ولا تبيت لهم خنثى تنادمهم

ولا يرى لهم قرد له حشمُ

الركن والبيت والأستار منزلهم

وزمزم والصفا والحجر والحرمُ

إنّ سيرة العلويين مشرقة كالشمس بنور الإيمان، وسيرة خصومهم العباسيين مظلمة قاتمة لا بصيص فيها بنور الإيمان، وهدى الإسلام وعلى أي حال فقد جهد المأمون أن يظهر للمجتمع الإسلامي عدم زهد الإمام الرضاعليه‌السلام في تقليده لولاية العهد إلاّ أنّه باء بالفشل فقد ظهر الإمام عليه كألمع شخصية عرفها العلم الإسلامي في تقواه وورعه، وإقباله على طاعة الله وعبادته، وعدم إشتراكه بأيّ منحى من المناحي السياسية.

ومهما يكن الأمر فإنّ هذا البحث هو الفصل الأخير من هذا الكتاب، ونعرض فيه إلى الشؤون الأخيرة من حياة الإمامعليه‌السلام ، وفيما يلي ذلك:

نصيحة الإمام للمأمون:

وقدّم الإمامعليه‌السلام نصيحة خالصة للمأمون، نقيّة من كثير من المشاكل السياسية، فقد أشار عليه أن يعفيه من ولاية العهد ويعفي الفضل بن سهل

من الوزارة، وبذلك يتخلّص من كيد العباسيين وبغيهم عليه(١) إلاّ أن المأمون لم يعفهما، وإنّما قام باغتيالهما كما سنعرض ذلك.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٤٥.

٣٤٦

عزم المأمون على الرجوع إلى بغداد:

وأخذ المأمون يطيل التفكير، ويقلّب الرأي على وجوهه في الرجوع إلى (بغداد)، عاصمة آبائه، وزينة الشرق، ولكن يصدّه عن تحقيق هذه الأمنية الغالية أمران:

الأول: وجود الإمام علي بن موسى الرضاعليه‌السلام ولي عهده الذي تحقد عليه الأسرة العباسية كأشد ما يكون الحقد، فقد خلعت بيعة المأمون، وبايعت ابن شكلة شيخ المغنّين انتقاماً منه لتقليده للإمام بولاية العهد.

الثاني: وجود وزيره الفضل بن سهل على المسرح السياسي فقد نقم عليه العباسيون، معتقدين أنّه هو الذي حبّذ للمأمون عقد ولاية العهد للإمام الرضاعليه‌السلام .

ورأى المأمون أن يتخلّص من الإمام والفضل، ويصفّيهما جسدياً ليخلو له الجو، وينال بذلك رضى العباسين، ويزيل عنه سخطهم وانتقامهم، وهذا ما سنعرضه.

حمّام سرخس:

ورأى المأمون أن يتخلّص من الإمام الرضاعليه‌السلام ، ومن الفضل بن سهل دفعة واحدة حتى تخلص له الأسرة العباسية فأوعز إلى عصابة مجرمة من عملائه القيام باغتيال الإمام والفضل في حمّام (سرخس)، وطلب منهما الدخول في الحمّام في وقت واحد، ويكون هو معهما، وذلك لتغطية الأمر، وعدم انكشافه لأيّ أحد، وكان الإمامعليه‌السلام يقظاً حسّاساً فلم تخف عليه هذه المكيدة فرفض إجابته، فكتب المأمون إليه ثانياً يلتمسه، ويترجّاه فأجابه الإمام:

(لست بداخل غداً الحمّام، فإنّي رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في المنام في هذه الليلة يقول لي: يا علي لا تدخل الحمّام غداً، فلا أرى لك يا أمير المؤمنين، ولا للفضل أن تدخلا الحمّام غداً...).

فأجابه المأمون:

(صدقت يا سيدي، وصدق رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لست بداخل الحمّام غداً، والفضل فهو أعلم وما يفعله...).

وتتضح مكيدة المأمون بالنسبة إلى الفضل فقد خلاّه وشأنه ليلاقي مصرعه على

٣٤٧

أيدي عصابته.

مصرع الفضل:

وبادر الفضل إلى الحمّام، فحينما دخل فيه تناهبت جسمه سيوف العصابة فخرّ على الأرض صريعاً يتخبّط بدمه، وما هي إلاّ لحظات وإذا به جثّة هامدة لا حراك فيها، وبذلك فقد حقّق المأمون شطراً من مهمّته.

وحينما قتل الفضل سارع أصحابه نحو المأمون ليأخذوا الثأر منه، فقد علموا أنّه هو الذي أوعز بقتله، وبادر حرّاس قصر المأمون إلى غلق أبوابه خوفاً من هجوم الثوّار على المأمون إلاّ أنّ الثوّار حملوا أقبسة من النار لحرق أبواب القصر، ولـمّا علم المأمون بذلك فزع، والتجأ إلى الإمام الرضاعليه‌السلام فاحتمى به، وخرج الإمامعليه‌السلام إلى الثوار، وأمرهم بالانصراف فاستجابوا له، ونجا المأمون ببركة الإمامعليه‌السلام (١) ، أمّا الذين قتلوا الفضل فكانوا خمسة أشخاص من حاشية المأمون كان من بينهم غالب خاله، وقد قبضت عليهم الشرطة، وجاءت بهم إلى المأمون، فقالوا له: أنت أمرتنا بقتله، فقال لهم: أنا أقتلكم بإقراركم، وأمّا ما ادعيتموه من أني أنا أمرتكم بذلك فدعوى ليس لها بينة، ثم أمر بهم فضربت أعناقهم، وبعث برؤوسهم إلى الحسن بن سهل، وأظهر عليه الحزن الكاذب(٢) .

اغتيال الإمام:

وقام المأمون باغتيال إمام المسلمين، سبط الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الرضاعليه‌السلام ، فدس له سمّاً قاتلاً في العنب، أو الرمّان، كما سنذكره، وبذلك فقد قضى المأمون على ألمع شخصية في العالم الإسلامي، كانت مصدر الوعي والفكر في دنيا الإسلام.

أقوال شاذّة:

وحاول بعض المؤرّخين تنزيه المأمون من اقتراف هذه الجريمة النكراء، وأنّه لم يقدم على اغتيال الإمامعليه‌السلام ، وهذه بعض أقوالهم:

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٦٤.

(٢) تأريخ أبن خلدون ٣ / ٢٤٩، الكامل ٥ / ١٩١ حكيا ذلك قولاً، الآداب السلطانية والدول الإسلامية (ص ٢١٨) بحر الأنساب (ص ٢٨).

٣٤٨

١ - موته حتف أنفه:

ذهب (ابن خلدون) إلى أنّ الإمامعليه‌السلام مات حتف أنفه فجأة على أثر عنب أكله(١)، وكذا ذهب غيره إلى هذا القول(٢) .

٢ - اغتيال العباسيين للإمام:

قال ابن الجوزي: لـمّا رأى العباسيون أنّ الخلافة قد خرجت من أيديهم إلى أولاد علي بن أبي طالب سمّوا علي بن موسى الرضا فتوفّى في قرية من قرى (طوس) يقال لها (سناباد)... وقد زعم قوم أنّ المأمون سمّه، وليس كما ذكر، فإنّ المأمون حزن عليه حزناً لم يحزنه على أحد، وكتب إلى الآفاق يعزّونه(٣) .

٣ - موته بالسم:

وذكر فريق من المؤرّخين أنّ الإمامعليه‌السلام توفّي مسموماً(٤) ولم يذكروا غير ذلك.

هذه بعض الأقوال التي ذكرت وهي شاذة لا نصيب لها من الواقع، فإنّ من المقطوع به هو أنّ المأمون هو الذي اغتال الإمام لا الأسرة العباسية، ولا غيرها، ولم يمت الإمام حتف أنفه، ولقد قدم المأمون على اقتراف هذه الجريمة للتخلّص من الإمام الذي شاع ذكره في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد ظهرت للعيان دلائل إمامته، وهام المسلمون بحبّه؛ وذلك لما يتمتّع به من معالي الأخلاق، وسموا الآداب، والإقبال على الله، والزهد في الدنيا، وغير ذلك من صفاته العظيمة في حين أن المأمون وسائر ملوك بني العباس كانوا خالين من كل نزعة كريمة، وصفة رفيعة.

وعلى أي حال فقد أجمع معظم المؤرّخين والرواة أنّ المأمون هو الذي دسّ السم إلى الإمام لا غيره، فقد اغتال بهذه الطريقة كوكبة من أعلام عصره خاف منهم(٥) .

____________________

(١) تأريخ ابن خلدون ٣ / ٢٥٠.

(٢) وفيات الأعيان تأريخ الإسلام للذهبي ٨ / ورقة ٣٥.

(٣) تذكرة الخواص (ص ٣٦٤) المنتظم ١٠ / ورقة ٦٧.

(٤) البحار.

(٥) ذكرنا أسماء الذي اغتالهم المأمون في البحوث السابقة.

٣٤٩

إلى جنّة المأوى:

وامتحن الإمام امتحاناً عسيراً في تقلده لولاية العهد، فقد ضيق عليه المأمون غايد التضييق، ففرض عليه الرقابة الشديدة، وأحاطه بقوى مكثفة من الأمن، وقد سئم الإمام من الحياة، وراح يدعوا الله تعالى أن ينقله من دار الدنيا إلى دار الخلود قائلاً: (اللّهمّ إن كان فرجي ممّا أنا فيه بالموت فعجّل لي الساعة...).

واستجاب الله دعاء وليه العظيم فنقله من دار الدنيا المحفوفة بالمكاره والآلام إلى دار الحق، ونعرض إلى كيفية وفاته، فقد دعا الإمامعليه‌السلام في غلس الليل البهيم هرثمة بن أعين، فلمّا مثل عنده قال له: (يا هرثمة هذا آوان رحيلي إلى الله تعالى، ولحوقي بجدي وآبائيعليهم‌السلام ، وقد بلغ الكتاب أجله، وقد عزم هذا الطاغي - يعني المأمون - على سمّي في عنب ورمّان مفروك، فأمّا العنب فإنّه يغمس السلك في السم ويجذبه بالخيط بالعنب، وأمّا الرمان فإنه يطرح السم في كف بعض غلمانه، ويفرك الرمان بيده ليتلطّخ حبّه في ذلك السم، وإنّه سيدعوني في اليوم المقبل، ويقرب إلى الرمان والعنب،، ويسألني أكلها، فآكلها ثم ينفذ الحكم، ويحضر القضاء.

فإذا أنا مت فسيقول: أنا أغسله بيدي، فإذا قال: ذلك، فقل له عنّي: بينك وبينه، أنّه قال لي: لا تتعرّض لغسلي، ولا لتكفيني ولا لدفني، فإنّك إن فعلت ذلك عاجلك من العذاب ما أُخّر عنك، وحلّ بك اليم ما تحذر فإنّه سينتهي.

وأضاف الإمام قائلاً:

فإذا خلّى بينك وبين غسلي حتى ترى، فيجلس في علو من أبنيته مشرفاً على موضع غسلي لينظر، فلا تتعرّض يا هرثمة لشيء من غسلي حتى ترى فسطاطاً أبيض قد ضرب في جانب الدار، فإذا رأيت ذلك فاحملني في أثوابي التي أنا فيها، وضعني من وراء الفسطاط، وقف وراءه، ويكون مَن معك دونك ولا تكشف عني الفسطاط حتى تراني فتهلك.

وإنّه - أي المأمون - سيشرف عليك، ويقول لك: يا هرثمة أليس زعمتم أنّ

٣٥٠

الإمام لا يغسّله إلاّ إمام مثله، فمَن يغسّل أبا الحسن علي بن موسى، وابنه محمد بالمدينة من بلاد الحجاز ونحن بـ‍ (طوس)؟

فإذا قال ذلك: فقل له: إنّا نقول: إنّ الإمام لا يجب أن يغسله إلا إمام مثله، فإن تعدّى متعد فغسل الإمام لم تبطل إمامة الإمام لتعدي غاسله، ولا بطلت إمامة الإمام الذي بعده، بأن غلب على غسله أبيه، ولو ترك أبو الحسن على بن موسى الرضا (ع) بالمدينة لغسّله ابنه محمد ظاهراً مكشوفاً، ولا يغسله الآن أيضاً إلاّ هو من حيث يخفى، فإذا ارتفع الفسطاط فسوف تراني مدرجاً في أكفاني، فضعني على نعشي، واحملني، فإذا أراد أن يحفر قبري، فإنّه سيجعل قبر أبيه هارون الرشيد قبلة لقبري، ولا يكون ذلك أبداً، فإذا ضربت المعاول ينب عن الأرض(١) ولم يحفر لهم منها شيء، ولا مثل قلامة ظفر، فإذا اجتهدوا في ذلك وصعب عليهم، فقل لهم عني: إنّي أمرتك أن تضرب معولاً واحداً في قبلة قبر أبيه هارون الرشيد، فإذا ضربت تقذفه في الأرض إلى قبر محفور، وضريح قائم، فإذا انفرج القبر فلا تنزلني حتى يفور من ضريحه الماء الأبيض فيملئ منه ذلك القبر... فإذا غار الماء فأنزلني في ذلك القبر وألحدني في ذلك الضريح(٢) .

وأمر الإمامعليه‌السلام هرثمة بحفظ ما قاله، فأجابه هرثمة إلى ما أراد، وفي اليوم الثاني بعث المأمون خلف الإمام، فلمّا حضر عنده قام إليه فعانقه وقبّل ما بين عينيه وأجلسه إلى جانبه، وأقبل عليه يحادثه، وأمر بعض غلمانه أن يأتيه بعنب ورمّان، قال هرثمة: فلم أستطع الصبر وأصابتني رعدة.

وناول المأمون الإمام العنقود من العنب، وقال له: (يا بن رسول الله ما رأيت عنبا أحسن من هذا؟...).

فرد عليه الإمام:

(ربّما كان عنبا حسناً منه في الجنة...).

وطلب من الإمام أن يتناول منه شيئاً فامتنععليه‌السلام منه، فصاح المأمون:

____________________

(١) ينسب عن الأرض أي يمتنع ولا يؤثر فيها.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤٧، وقريب منه في نور الأبصار (ص ١٤٥).

٣٥١

(لعلّك تتهمنا بشيء؟...).

وتناول المأمون ثلاث حبّات، ثم رمى به، وقام، فقال له المأمون:

(إلى أين؟...).

فنظر إليه الإمام، وقال له بنبرات خافته:

(إلى حيث وجهتني...)(١) .

وسارع الإمام إلى الدار، وقد تفاعل السم في جميع أجزاء بدنه، وقد أيقن بنزول الرزء القاصم، وبعث إليه المأمون يطلب منه وصيته ونصيحة له، فقالعليه‌السلام لرسوله:

(قل له: يوصيك أن لا تعطي أحداً ما تندم عليه...)(٢).

وسرى السم في جميع أجزاء بدن الإمام، وأخذ يعاني من أقسى الآلام وقد علم أنّ لقاءه بربّه لقريب فأخذ يتلو آيات من الذكر الحكيم، ويستغفر الله تعالى، ويدعو للمؤمنين، ويقول الرواة: إنّه لما ثقل حاله امتنع أهل بيته وأصحابه من الأكل والشرب، فالتفتعليه‌السلام إلى ياسر وقال له:

(هل أكل الناس شيئاً؟...).

فردّ عليه بصوت خافت حزين النبرات قائلاً: (مَن يأكل مع ما أنت فيه).

فانتصبعليه‌السلام ثم قال: هاتوا المائدة، ولم يدع أحداً من حشمه إلاّ أجلسه على المائدة، وجعل يتفقّد واحداً بعد واحد، ولـمّا فرغوا من تناول الطعام، أمر بحمله إلى النساء، ولـمّا فرغوا من الأكل أغمي عليه(٣) .

وفي غلس الليل البهيم كان الإمام يتلوا آيات من الذكر الحكيم، وكان آخر آية قرأها قوله تعالى:( قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ) (٤) ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً ) (٥) ثم فاضت نفسه الزكية إلى بارئها(٦)

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤٣.

(٢) عيون التواريخ ٣ / ٢٢٧.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤١.

(٤) سورة آل عمران: آية ١٥٤.

(٥) سورة الأحزاب: آية ٣٨.

(٦) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤١.

٣٥٢

تحفّها ملائكة الرحمن، وتستقبلها في رياض الخلد أرواح الأنبياء والأوصياء، لقد أظلمت الدنيا بفقده، وأشرقت الآخرة بقدومه، وكانت وفاته رزءاً على

العلماء والفقهاء ورجال الفكر الذين كانوا ينتهلون من نمير علومه، كما كانت وفاته رزءاً شعبياً عامّاً، فقد فقدت الأوساط الشعبية مَن كان يسهر على مصالحهم، ويناضل عن قضاياهم.

لقد انتقل الإمام إلى حضيرة القدس بعد ما أدى رسالة ربّه، فلم يشترك بأي عمل إيجابي في جهاز دولة المأمون، ورفض أي تعاون معه، وقد سلب بذلك شرعية حكومة المأمون وأنّها لم تكن قائمة على حكم الله تعالى، وقد عانى من أجل ذلك جميع ألوان الاضطهاد حتى قضى عليه المأمون.

رياء المأمون:

وأظهر المأمون الحزن، والجزع الكاذب، على وفاة الإمام فقد خرج حافياً، حاسراً، يضرب على رأسه، ويقبض على لحيته، ويبكي، وقد رفع عقيرته ليسمعه الناس قائلاً:

(ما أدري أي المصيبتين أعظم عليّ، فقدي لك، وفراقي إيّاك، أو تهمة الناس لي أنّي اغتلتك وقتلتك...)(١) .

لقد أظهر المأمون الأسى على وفاة الإمامعليه‌السلام لتبرير ساحته ودفع التهمة عنه بأنّه هو الذي اغتاله، ولكن سرعان ما انكشف رياؤه، واتضح للمجتمع بأنّه هو المسؤول عن اغتياله.

إخفاء موت الإمام:

وأخفى المأمون موت الإمامعليه‌السلام يوماً وليلة(٢) ، وفيما أحسب أنّه استعد لحالة الطوارئ، والخوف من الانتفاضة الشعبية عليه، فقد أوعز إلى رجال من أمنه، وقوّاته المسلحة بالاستعداد لكل حادث يحدث.

تشييع جثمان الإمام:

وشيّع جثمان الإمام تشييعاً حافلاً لم تشاهد مثله (خراسان) في جميع أدوار

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٤١.

(٢) مقاتل الطالبيين (ص ٥٦٧)، إرشاد المفيد (ص ٣١٦).

٣٥٣

تأريخها، فقد أغلقت الدوائر الرسمية، والمحلاّت التجارية، وهرع الناس بجميع طبقاتهم إلى تشييع الجثمان المقدّس، وهم ما بين باكٍ وواجم، ورفعت الأعلام السود، وسالت الدموع كل مسيل، وتعالى الصراخ من كل جانب على الفقيد العظيم الذي كان ملاذاً لهم، ويتقدّم النعش المأمون وهو حاسر، وخلفه الوزراء وكبار رجال الدولة، وقادة الجيش، وهم يذكرون فضائل الإمام، وما مُنيت به الأمة من الخسارة العظمى بفقده.

في مقرّه الأخير:

وجيء بالجثمان المقدّس تحت هالة من التكبير والتعظيم إلى مقرّه الأخير، فحفر له قبر بالقرب من قبر هارون قاتل أبي الإمام فواراه المأمون فيه، وقد وارى معه كل ما تسمو به الإنسانية من الصفات الرفيعة، والنزعات الكريمة.

وأقبلت الجماهير تعزّي المأمون، وسائر العلويين والعباسيين على مصابهم الأليم، وقد نخر الأسى والحزن قلوب الجميع، فقد فقدوا إمام المسلمين، وسيّد المتقين والمنيبين، ومن الجدير بالذكر أنّ المأمون سئل عن السبب في دفن الإمام إلى جانب قبر أبيه؟ فأجاب: ليغفر الله لهارون بجواره للإمام الرضاعليه‌السلام ، وقد فنّد ذلك الشاعر الملهم دعبل الخزاعي بقوله:

أربع بطوس على قبر الزكي بها

إن كنت تربع من دين على وطرِ

ما ينفع الرجس من قرب الزكي ولا

على الزكي بقرب الرجس من ضررِ

هيهات كل امرئ رهن بما كسبت

له يداه فخذ ما شئت أو فذرِ

قبران في طوس خير الناس كلهم

وقبر شرهم هذا من العبرِ

إقامة المأمون على قبر الإمام:

وأقام المأمون عند القبر الشريف ثلاثة أيام صائماً نهاره، قارئاً للقرآن الكريم، ويترحّم على الإمامعليه‌السلام ؛ وذلك لتنزيهه من اقتراف هذه الجريمة، وإظهار إخلاصه وحبه للإمام، إلاّ أنّ ثوب الرياء يشف عمّا تحته، فقد ظهر للجميع زيف ذلك، وأنّه لا واقع لحزنه المزعوم.

المأمون مع هرثمة:

ودعا المأمون هرثمة بن أعين، وطلب منه أن يحدثه بما سمع من الإمام وما قاله له في سمّه بالعنب والرمان، وجعل هرثمة يحدثه بذلك والمأمون يصفر وجهه مرة،

٣٥٤

ويحمر أخرى وهو يقول بنبرات تقطر أسى وحسرات على ما اقترفه في حق الإمام قائلاً: (ويل للمأمون من الله، ويل له من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ويل له من علي بن أبي طالب، ويل للمأمون من فاطمة الزهراء، ويل للمأمون من الحسن والحسين، ويل للمأمون من علي بن الحسين، ويل للمأمون من محمد بن علي، ويل للمأمون من جعفر بن محمد، ويل له من موسى بن جعفر، ويل للمأمون من علي بن موسى الرضا... هذا والله الخسران المبين!

وأمر المأمون هرثمة بكتمان قول الإمام معه، وعدم إذاعته، وتلا قول الله تعالى:( يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ) (١) .

والويل للمأمون على ما اقترفه من عظيم الذنب، فقد اغتال سيد المسلمين، وإمام المتقين وفلذّة من كبد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

عمر الإمام:

أمّا عمر الإمامعليه‌السلام الحافل بالمكرمات والفضائل فقد اختلف المؤرّخون في مدّته، وهذه بعض الأقوال:

١ - ٤٧ سنة(٢) .

٢ - ٤٨ سنة(٣) .

٣ - ٤٩ سنة(٤) .

٤ - ٥٠ سنة(٥) .

٥ - ٥١ سنة(٦) .

٦ - ٥٥ سنة(٧) .

____________________

(١) أعيان أخبار الرضا ٢ / ٢٤٩.

(٢) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٣) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٤) عيون التواريخ ٣ / ورقة ٢٢٦ كشف الغمة ٣ / ٥٦.

(٥) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٦) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٧) أصول الكافي ١ / ٤٨٦ كفاية الطالب (ص ٤٥٨)، نور الأبصار (ص ١٤٤)، بحر الأنساب (ص ٢٨).

٣٥٥

٧ - ٥٧ - و ٤٩ يوماً أو ٧٩ يوماً(١) .

ومنشأ هذا الاختلاف هو الاختلاف في تأريخ ولادتهعليه‌السلام ويرى السيد الأمين أنّ منشأ هذا التضارب هو التسامح بعد السنة الناقصة سنة كاملة(٢) .

رثاء الإمام:

كان نبأ وفاة الإمام كالصاعقة على رؤوس المسلمين، فقد تلقوا النبأ المؤلم بأسى، وحزن عميق، فقد فقدوا بموته ما كانوا يأملونه، ويحلمون به من رجوع الخلافة الإسلامية إلى معدنها الأصيل، ويتخلّصون من ذئاب البشرية، وأئمّة الظلم والجور، ويقام في ربوعهم العدل السياسي والعدل الاجتماعي، لقد خابت الآمال بموت الإمام العظيم، وقد نخر الحزن القلوب، وسالت الدموع كل مسيل، وقد انبرت كوكبة من الشعراء فرثوا الإمام بذوب روحهم، وكان من بينهم ما يلي:

١ - أشجع بن عمرو السلمي:

ورثى أشجع بن عمرو السلمي الإمام بقصيدة عصماء حكت حزنه العميق على فقد إمام المسلمين، وصورت مدى الخسارة الكبرى التي مُني بها العالم الإسلامي، وهذا نصّها:

يا صاحب العيس يحدي في أزمّتها

اسمع وأسمع غداً يا صاحب العيسِ

إقر السلام على قبر بطوس ولا

تقر السلام، ولا النعمى على طوسِ

فقد أصاب قلوب المسلمين بها

روع وأفرخ فيها روع إبليسِ

وأخلست واحد الدنيا وسيّدها

فأيّ مختلس منّا ومخلوسِ

ولو بدا الموت حتى يستدير به

لاقى وجوه رجال دونه شوسِ

بؤساً لطوس فما كانت منازله

ممّا تخوّفه الأيام بالبؤسِ

معرّس حيث لا تعريس ملتبس

يا طول ذلك من نأي وتعريسِ

إنّ المنايا أنالته مخالبها

ودونه عسكر جمّ الكراديسِ

أوفى عليه الردى في خيس أشبله

والموت يلقى أبا الأشبال في الخيسِ

ما زال مقتبساً من نور والده

إلى النبي ضياء غير مقبوسِ

في منبت نهضت فيه فروعهم

بباسقٍ في بطاح الملك مغروسِ

____________________

(١) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

(٢) أعيان الشيعة ٤ / ق ٢ / ٧٨.

٣٥٦

والفرع لا يرتقي إلاّ على ثقةٍ

من القواعد والدنيا بتأسيسِ

لا يوم أولى بتخريق الجيوب ولا

لطم الخدود ولا جدع المعاطيسِ

من يوم طوس الذي نادت بروعته

لنا النعاة وأفواه القراطيسِ

حقّاً بأنّ الرضا أودى الزمان به

ما يطلب الموت إلاّ كل منفوسِ

ذا اللحظتين وذا اليومين، مفترش

رمسا كآخر في يومين مرموسِ

بمطلع الشمس وافته منيّته

ما كان يوم الردى عنه بمحبوسِ

يا نازلاً جدثاً في غير منزله

ويا فريسة يوم غير مفروسِ

صلّى عليك الذي قد كنت تعبده

تحت الهواجر في تلك الأماليسِ

لولا مناقضة الدنيا محاسنها

لما تقايسها أهل المقاييسِ

أحلّك الله داراً غير زائلة

في منزل برسول الله مأنوسِ(١)

أرأيتم هذه الأحزان الموجعة التي حلت بالعالم الاسلامي على فقد واحد الدنيا وسيدها الامام العظيم؟!

لقد صور أشجع السلمي برائعته مدى الخسارة العظمى التي مني بها المسلمون، والتي هي جديرة بشق الجيوب ولطم الخدود، فقد أودى الزمان بقائد الأمة، وسيدها وإمامها.

وقد ذاعت هذه القصيدة، وحفظها الناس فخاف أشجع فغير ألفاظها وجعلها في الرشيد(٢).

٢ - دعبل الخزاعي:

وبكي دعبل الخزاعي شاعر أهل البيت الإمام الرضاعليه‌السلام أمر البكاء ورثاه بذوب روحه، وكان مما قاله في رثائه له هذه القصيدة:

هو النفس إلاّ أنّ آل محمّدٍ

لهم دون نفسي في الفؤاد كمين

أضرّ بهم إرث النبي فأصبحوا

يساهم فيه ميتة ومنون

دعتهم ذئاب من أميّة وانتحت

عليهم دراكاً أزمة وسنون

وعاثت بنو العباس في الدين عيثة

تحكّم فيه ظالم وظنين

وسمّوا رشيداً ليس فيهم لرشده

وها ذاك مأمون وذاك أمين

____________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٥٦٨ - ٥٧٠).

(٢) مقاتل الطالبيين (ص ٥٦٨).

٣٥٧

فما قبلت بالرشد منهم رعاية

ولا لولي بالإمامة دين

رشيدهم غاو، وطفلاه بعده

لهذا رزايا دون ذاك مجون

ألا أيّها القبر الغريب محلّه

بطوس عليك الساريات هتون

شككت فما أدري أمسقى شربة

فأبكيك أم ريب الردى فيهون

وأيهما ما قلت: إن قلت شربة

وإن قلت موت إنّه لقمين

أتعجب للأجلاف أن يتخيّفوا

معالم دين الله وهو مبين

لقد سبقت فيهم بفضلك آية

لدي ولكن ما هناك يقين(١)

وقال في رثاء الإمام:

ألا ما لعيني بالدموع استهلّتِ

ولو فقدت ماء الشؤون لقرّتِ

على مَن بكته الأرض واسترجعت له

رؤوس الجبال الشامخات وذلّتِ

وقد أعولت تبكي السماء لفقده

وأنجمها ناحت عليه وكلّتِ

رزينا رضي الله سبط نبينا

فأخلفت الدنيا له وتولّتِ

فنحن عليه اليوم أجدر بالبكا

لمرزئة عزّت علينا وجلّتِ

وما خير دنيا بعد آل محمّدٍ

ألا لا نباليها إذا ما اضمحلّتِ

تجلت مصيبات الزمان ولا أرى

مصيبتنا بالمصطفين تجلّتِ(٢)

وممّا قاله في رثاء الإمام:

يا حسرة تتردد

وعبرة ليس تنفد

على علي بن موسى

بن جعفر بن محمّد

قضى غريباً بطوس

مثل الحسام المجرّد

يا طوس طوباك قد

صرت لابن أحمد مشهد

ويا جفوني استهلّي

ويا فؤادي توقّد(٣)

ومن رثائه للإمام هذه المقطوعة:

لقد رحل ابن موسى بالمعالي

وسار بسيره العلم الشريفُ

وتابعه والدين طرّاً

كما يتتبع الألف الأليفُ

____________________

(١) مقاتل الطالبيين (ص ٥٧١).

(٢) ديوان دعبل (ص ٩٩).

(٣) ديوان دعبل (ص ١٠١).

٣٥٨

فيا وفد الندى عودوا خفاف ال‍

حقائب لا تليد ولا طريفُ

وقد كنّا نؤمّل أن سيبقى

إمام هدى له رأي حصيفُ

ترى سكناته فتقول: عز

وتحت سكونه الفضل المنيفُ

له سمحاء تغدو كل يومٍ

بنائلة وسارية تطوفُ

فأهدى ريحه قدر المنايا

مزار دونه نأي قذوفُ

فقل للشامتين به رويداً

فما تبقي امرأ يمشي الحتوفُ

سررتم بافتقاد فتىً بكاه

رسول الله والدين الحنيفُ(١)

وقال في رثائه:

يا نكبة جاءت من الشرق

لم تتركن منّي ولم تبقِ

موت علي بن موسى الرضا

من سخط الله على الخلقِ

وأصبح الإسلام مستعبراً

لثلمة باينة الرتقِ

سقى الغريب المبتنى قبره

بأرض طوس مسبل الودقِ

أصبح عيني مانعاً للكرى

وأولع الأحشاء بالخفقِ(٢)

وحكى هذا الرثاء لوعة دعبل، وحزنه العميق على وفاة إمام المسلمين وسيد المتقين الإمام الرضاعليه‌السلام الذي ترك فقده ثلمة في الإسلام.

٣ - ابن المشيع المدني:

وممّن اكتوى بنار الحزن على فقد الإمامعليه‌السلام ابن المشيع المدني قال في رثاء الإمام:

يا بقعة بها سيدي

ما مثله في الناس من سيّدِ

مات الهدى من بعده والندى

وشمر الموت به يقتدي(٣)

لا زال غيث الله يا قبره

عليك منه رائحاً مغتدي

كان لنا غيثاً به نرتوي

وكان كالنجم به نهتدي

إنّ عليّ بن موسى الرضا

قد حلّ والسودد في ملحدِ

____________________

(١) ديوان دعبل (ص ١٠٨).

(٢) ديوان دعبل (ص ١٠٨ - ١٠٩).

(٣) قال المجلسي: في البحار: (وشمر الموت) لعلّ المعنى أنّ الموت شمر ذيلة وتهيأ لإماتة سائر الأخلاق الحسنة، أو الخلائق.

٣٥٩

يا عين فابكي بدمٍ بعده

على انقراض المجد والسودد(١)

٤ - الخوافي:

ومن الشعراء الذي رثوا الإمامعليه‌السلام علي بن أبي عبد الله الخوافي قال:

يا أرض طوس سقاك الله رحمته

ماذا حويت من الخيرات يا طوس

طابت بقاعك في الدنيا وطيبها

شخص ثوى بسناآباد مرموس(٢)

شخص عزيز على الإسلام مصرعه

في رحمة الله مغمور ومغموس

يا قبره أنت قبر قد تضمّنه

حلم وعلم وتطهير وتقديس

فخراً فإنّك مغبوط بجثّته

وبالملائكة الأبرار محروس(٣)

٥ - الضبي:

ومن جيّد ما رثى به الإمام هذه القصيدة للشاعر الضبي قال الشيخ الصدوق وجدتها في كتاب لمحمد بن حبيب الضبي، وأكبر الظن أنّها له كما أعلن ذلك في آخر القصيدة:

قبر بطوس به أقام إمامُ

حتم إليه زيارة ولمامُ

قبر أقام به السلام وإن غدا

تهدى إليه تحية وسلامُ

قبر سنا أنواره تجلو العمى

وبتربه قد تدفع الأسقامُ

قبر يمثّل للعيون محمد

ووصيه والمؤمنون قيامُ

خشع العيون لذا وذاك مهابة

في كنهها تتحيّر الأفهامُ

قبر إذا حلّ الوفود بربعه

رحلوا وحطت عنهم الآثامُ

وتزوّدوا أمن العقاب وأومنوا

من أن يحل عليهم الإعدام

الله عنه به لهم متقبل

وبذاك عنهم جفّت الأقلامُ

إن يغن عن سقي الغمام فإنّه

لولاه لم تسق البلاد غمامُ

قبر علي بن موسى حلّه

بثراه يزهو الحل والإحرامُ

فرض إليه السعي كالبيت الذي

من دونه حق له الإعظامُ

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٣ / ٢٥٠.

(٢) المرموس: المدفون.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ٢٥١.

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375