حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

حياة الإمام الرضا (عليه السلام)21%

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
تصنيف: الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام
الصفحات: 375

الجزء ١ الجزء ٢
  • البداية
  • السابق
  • 375 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 200678 / تحميل: 8164
الحجم الحجم الحجم
حياة الإمام الرضا (عليه السلام)

حياة الإمام الرضا (عليه السلام) الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: انتشارات سعيد بن جبير
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

يكون الركوع والسجود بالوجه واليدين لا بالرأس والرجلين.

ومنها: أنّ الخلق لا يطيقون في كل وقت غسل الرأس والرجلين ويشتد ذلك عليهم في البرد والسفر والمرض وأوقات من الليل والنهار وغسل الوجه واليدين أخف من غسل الرأس والرجلين، وإذا وضعت الفرايض على قدر أقل الناس طاعة من أهل الصحة ثم عم فيها القوي والضعيف.

ومنها: أن الرأس والرجلين ليسا في كل وقت باديين ظاهرين كالوجه واليدين لموضع العمامة والخفين وغير ذلك(١) .

الوضوء عند أهل البيتعليهم‌السلام غسل الوجه واليدين ومسح الرأس والرجلين وقد ذكر الإمامعليه‌السلام علل هذه الأفعال وهي:

أ - إنّ الصلاة التي من أجلها شُرّع الوضوء قوامها: الركوع والسجود، وهما يقومان بالوجه واليدين فالغسل يكون لهما لا لغيرهما.

ب - إنّ في غسل الرأس والرجلين مشقّة عظيمة وحرجاً شديداً، خصوصاً في أيام البرد والسفر والمرض فاكتفى الشارع بالمسح لها.

ج - إنّ الأعضاء البارزة في جسم الإنسان هي الوجه واليدان دون غيرهما فالغسل يكون لها.

وعلّل الإمامعليه‌السلام فيما كتبه لمحمد بن سنان بتعليل آخر يقرب من هذا التعليل قالعليه‌السلام : وعلّة الوضوء التي من أجلها صار غسل الوجه والذراعين ومسح الرأس والرجلين فلقيامه بين يدي الله عزّ وجل، واستقباله إيّاه بجوارحه الظاهرة وملاقاته بهما الكرام الكاتبين.

فغسل الوجه للسجود والخضوع وغسل اليدين ليقبلهما ويرغب بهما ويرهب ويتبتل ومسح الرأس والقدمين لأنّهما ظاهران مكشوفان يستقبل بهما في كل حالاته وليس فيهما من الخضوع والتبتّل ما في الوجه والذراعين(٢) .

وهذا التعليل قريب من التعليل الأول وهو ظاهر لا يحتاج لإيضاح.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٠٤.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ٨٩.

٢١

الصلاة:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم أمروا بالصلاة؟

قيل: لأنّ في الصلاة الإقرار بالربوبية وهو صلاح عام لأنّ فيه خلع الأنداد والقيام بين يدي الجبّار بالذل والاستكانة والخضوع والخشوع والاعتراف وطلب الإقالة من سالف الذنوب، ووضع الجبهة على الأرض كل يوم وليلة ليكون العبد ذاكراً لله غير ناسٍ له ويكون خاشعاً وجلاً متذللاً طالباً راغباً في الزيادة للدين والدنيا مع ما فيه من الانزجار عن الفساد، وصار ذلك عليه في كل يوم وليلة لئلاّ ينسى العبد مدبره وخالقه والقيام بين يدي ربه زاجراً له عن المعاصي وحاجزاً ومانعاً له عن أنواع الفساد(١) .

الصلاة معراج المؤمن وقربان كل تقي، وقد أدلى الإمامعليه‌السلام ببعض المصالح والحكم في تشريعها وهي:

أ - من فوائد الصلاة وثمراتها: الإقرار بالعبودية المطلقة لله تعالى الخالق العظيم الذي ليس كمثله شيء، وعلى المصلّي أن يزداد في خشوعه وخضوعه وتذلّله أمام الله ويطلب منه العفو والغفران من ذنوبه التي اقترفها في حياته.

ب - إنّ الصلاة إذا وقعت صحيحة جامعة للشرائط فإنها تقي الإنسان من المعاصي وتزجره عن المنكر وتوجهه نحو الخير.

ج - إنّ تكرار الصلاة في كل يوم من حكمته أن يكون الإنسان على صلة وثيقة ودائمة بخالقه ومدبّر شؤونه ومضافاً لهذه الثمرات التي أدلى بها الإمام عليه السلام فإنّها من أقوى الأسباب التي تمد المجتمع الإنساني بالقوى الروحية الخلاّقة.

إنّ الإنسان إذا لم تتصل روحه بخالقها فإنّه تظهر عليه مظاهر الوحشة والاكتئاب والصلاة تتيح له الاتصال بالمبدأ الفيّاض فتزيل عنه ما ألمّ به من الهلع والوحشة والاكتئاب وتودع فيه قوّة نفسية يستطيع بها أن يقف أمام الأحداث التي يُمنى بها.

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٠٣ - ١٠٤.

٢٢

أذان الصلاة:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: أخبرني عن الأذان لم أمروا به؟ قيل: لعلل كثيرة منها: أن يكون تذكيراً للساهي، وتنبيهاً للغافل، وتعريفاً لـمَن جهل الوقت واشتغل عن الصلاة، وليكون ذلك داعياً إلى عبادة الخالق مرغباً فيها مقرّاً له بالتوحيد مجاهراً بالإيمان معلناً بالإسلام مؤذناً لمن نسيها(١) .

وإنّما يقال: مؤذن لأنّه يؤذن بالصلاة(٢) .

وتحدّث الإمامعليه‌السلام عن الحكمة في تشريع أذان الإعلام وهي:

أ - تذكير الساهي للصلاة وتنبيه الغافل ليقوم بتأدية هذه الفريضة.

ب - التعريف بدخول وقت الصلاة ليستعد المسلمون لأدائها جماعة وفرادى.

ج - إن الأذان دعوة لعبادة الخالق العظيم وإقرار له بالتوحيد.

فصول الأذان:

وحكى الإمامعليه‌السلام العلل في فصول الأذان وهي:

أ - البدء بالتكبير:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم بدأ فيه - أي في الأذان بالتكبير - وهو الله أكبر - قبل التهليل - وهو لا اله إلاّ الله.

قيل: لأنّه أراد أن يبدأ بذكره واسمه لأنّ اسم الله تعالى في التكبير في أول الحرف وفي التهليل في آخر الحرف، فبدأ بالحرف الذي اسم الله في أوّله لا في آخره(٣) .

عرض الإمامعليه‌السلام إلى الحكمة في افتتاح الأذان ب‍ (الله أكبر) من دون أن يفتتح بـ (لا إله إلاّ الله)؛ وذلك ليبتدأ الأذان ويفتتح باسمه تعالى بخلاف التهليل فإنّ اسمه تعالى يكون في الآخر وهذا غير مناسب لافتتاح الأذان.

ب - التكبير أربعاً:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل التكبير في أول الأذان أربعاً؟

____________________

(١) في العلل (لمن يتساهى).

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٠٥.

(٣) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٠٥.

٢٣

قيل: لأنّ أول الأذان إنّما يبدأ غفلة وليس قبله كلام ينبّه المستمع له فجعل ذلك تنبيها للمستمعين لما بعده في الأذان(١) .

الغاية من الأذان هي تنبيه المسلمين للاستعداد للصلاة، وجعل فيه التكبير أربعاً لهذه الغاية كما يقول الإمامعليه‌السلام .

ج - فصول الأذان مثنى:

قالعليه‌السلام : فلم جعل - أي الأذان - مثنى، مثنى؟

قيل: لأن يكون مكرّراً في آذان المستمعين مؤكّداً عليهم إن سها أحد عن الأول لم يسه عن الثاني، ولأنّ الصلاة ركعتان، ركعتان، ولذلك جعل الأذان مثنى مثنى(٢) .

إنّ في كل فصل من فصول الأذان دعوة إلى الخير ودعوة إلى الفلاح والنجاح فتكرارها إنّما هو لأجل تثبيت هذه المفاهيم في أذهان السامعين.

د - الشهادتان:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل بعد التكبير شهادتين؟

قيل: لأنّ أول الإيمان إنّما هو التوحيد والإقرار لله عزّ وجل بالوحدانية، والثاني الإقرار للرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة وإنّ طاعتهما ومعرفتهما مقرونتان، وإنّ أصل الإيمان إنّما هو الشهادة فجعل الشهادتين في الأذان كما جعل في سائر الحقوق شهادتين، فإذا أقر لله بالوحدانية وأقر للرسول بالرسالة فقد أقرّ بجملة الإيمان؛ لأنّ أصل الإيمان إنّما هو الإقرار بالله وبرسوله(٣) .

ويفتتح الأذان بعد التكبير بالشهادتين: الشهادة لله تعالى بالوحدانية والشهادة للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بالرسالة، وهما أصل الإسلام وشعاره، فمَن قال بهما فتترتب عليه آثار الإسلام فيحقن دمه وماله، كما أنّ سائر الحقوق تثبت بشهادتين فكذلك الإسلام يثبت بالشهادتين.

د - الدعاء للصلاة:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل بعد الشهادتين الدعاء إلى

____________________

(١) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٠٥.

(٢) عيون أخبار الرضا ٢ / ١٠٥.

(٣) عيون أخبار الرضا.

٢٤

الصلاة؟

قيل: لأنّ الأذان إنّما وضع لموضع الصلاة، وإنّما هو النداء إلى الصلاة فجعل النداء إلى الصلاة في وسط الأذان فقدّم المؤذّن قبلها أربعاً التكبيرتين والشهادتين وأخّر بعدها أربعاً يدعو إلى الفلاح حثّاً على البر والصلاة ثم دعا إلى خير العمل مرغباً فيها وفي عملها وفي أدائها ثم نادى بالتكبير والتهليل ليتم بعدها أربعاً كما أتمّ قبلها أربعاً وليختم كلامه بذكر الله كما فتحه بذكر الله تعالى(١) .

واهتمّ الإسلام اهتماماً بالغاً بالصلاة فجعلها في طليعة طقوسه الدينية، وشرّع الأذان للإعلام بدخول الوقت حتى يتهيأ المسلمون لأداء هذه الفريضة الكبرى، وقد جعل في الأذان بحد الشهادتين وحي على الصلاة وهي دعوة لإقامتها كما أنّ الدعوة إلى الفلاح والى خير العمل في فصول الأذان شاملتان للصلاة فهي من الفلاح كما أنّها من خير الأعمال.

ه‍ـ - التهليل في آخر الأذان:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل آخرها التهليل ولم يجعل آخرها التكبير كما جعل في أوّلها التكبير؟

قيل: لأنّ التهليل اسم الله في آخره فأحبّ الله تعالى أن يختم الكلام باسمه كما فتحه باسمه.

إنّ التهليل في آخر الأذان هو نفي كل معبود وكل إله سوى الله تعالى مبدع الأكوان وخالق الحياة، وكما فتح الأذان بـ‍ (الله أكبر) فقد ختم بـ (لا إله إلاّ الله) فكانت فاتحة الأذان هو اسم الله تعالى وخاتمته كذلك.

و - التهليل دون التسبيح:

قالعليه‌السلام : فإن قائل: فلم لم يجعل بدل التهليل التسبيح والتحميد واسم الله في آخرهما؟ قيل: لأنّ التهليل هو إقرار لله تعالى بالتوحيد وخلع الأنداد من دون الله وهو أول الإيمان وأعظم من التسبيح والتحميد.

وعرض الإمامعليه‌السلام إلى الحكمة في جعل التهليل آخر الأذان دون

____________________

(١) عيون أخبار الرضا.

٢٥

التسبيح وهو (سبحان الله)، والتحميد وهو (الحمد لله)؛ لأنّ التهليل أعظم منهما فإنّه إقرار لله تعالى بالوحدانية ونفي كل معبود سواه، ولا يعطى التسبيح والتحميد هذا المعنى.

فصول الصلاة:

وتحدّث الإمامعليه‌السلام عن الحكمة الكافية في معظم أجزاء الصلاة وشرائطها وفيما يلي ذلك:

١ - التكبيرات السبع:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل التكبير في الاستفتاح سبع تكبيرات؟

قيل: إنّما جعل ذلك لأنّ التكبير في الركعة الأولى التي هي الأصل سبع تكبيرات تكبيرة الاستفتاح - وهي تكبيرة الإحرام التي يفتتح بها الصلاة - وتكبيرة الركوع - أي حين الهبوط للركوع - وتكبيرتان للسجود فإذا ذكر الإنسان أول الصلاة سبع تكبيرات فقد أحرز التكبير كله فإن سها في شيء منها أو تركها لم يدخل عليه نقص في صلاته...).

لهذه الغاية شرعت التكبيرات السبع حين الدخول في الصلاة وإحدى هذه التكبيرات تكبيرة الإحرام.

٢ - قراءة القرآن:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم أمروا بالقراءة - أي بقراءة القرآن - في الصلاة؟

قيل: لئلاّ يكون القرآن مهجوراً مضيعاً وليكون محفوظاً فلا يضمحل ولا يجهل.

ولهذه الحكمة فقد أمر بقراءة الفاتحة وسورة أخرى من القرآن في الصلاة في الركعة الأولى والثانية.

٣ - قراءة الفاتحة:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم بدأ بالحمد في كل قراءة دون سائر السور؟

قيل: لأنّه ليس شيء في القرآن والكلام جمع فيه جوامع الخير والحكمة ما

٢٦

جمع في سورة الحمد؛ وذلك أنّ قوله تعالى:( الحمد لله ) : إنّما هو أداء لما أوجب الله تعالى على خلقه من الشكر وشكر لما وفّق عبده للخير.

( ربّ العالمين ) تمجيد له وتحميد وإقرار وأنّه هو الخالق المالك لا غيره.

( الرحمن الرحيم ) : استعطاف وذكر لآلائه ونعمائه على جميع خلقه.

( مالك يوم الدين ) : إقرار له بالبعث والنشور والحساب والمجازات وإيجاب له ملك الآخرة كما أوجب له ملك الدنيا.

( إيّاك نعبد ) : رغبة وتقرّب إلى الله عزّ وجل وإخلاص بالعمل له دون غيره.

( وإيّاك نستعين ) استزادة من توفيقه وعبادته واستدامته لما أنعم الله عليه وبصّره.

( اهدنا الصراط المستقيم ) : استرشاد لأدبه واعتصام بحبله واستزادة في المعرفة بربّه وبعظمته وبكبريائه.

( صراط الذين أنعمت عليهم ) : توكيد في السؤال والرغبة وذكر لما تقدّم من أياديه ونعمه على أوليائه ورغبة في مثل تلك النعم.

( غير المغضوب عليهم ) : استعاذة من أن يكون من المعاندين الكافرين المستخفّين به وبأمره ونهيه.

( ولا الضآلين ) : اعتصام من أن يكون من الضالين الذين ضلّوا عن سبيله من غير معرفة وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعاً.

فقد اجتمع فيها من جوامع الخير والحكمة في أمر الآخرة والدنيا ما لا يجمعه شيء من الأشياء...).

ولهذه المطالب العظيمة والمعاني السامية فقد أمر الشارع بافتتاح الصلاة بها لا بغيرها من سور القرآن الكريم، فقد أثر عنه أنّه: لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب. وهذا النفي نفي للماهية لو جيء بغير الفاتحة في الصلاة.

٤ - التسبيح في الركوع والسجود:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل التسبيح في الركوع والسجود؟

٢٧

قيل: لعلل منها أن يكون العبد مع خضوعه وخشوعه وتعبّده وتورّعه واستكانته وتذلّله وتواضعه وتقرّبه إلى ربّه مقدّساً له ممجّداً مسبّحاً معظّماً شاكراً لخالقه ورازقه فلا يذهب به الفكر والأماني إلى غير الله).

ولهذه الجهات السامية فقد جعل التسبيح في الركوع والسجود دون غيره من سائر الأذكار.

٥ - الركوع والسجدتان:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل ركعة وسجدتان؟

قيل: لأنّ الركوع من فعل القيام والسجود من فعل القعود وصلاة القاعد على النصف من صلاة القائم فضوعف السجود ليستوي بالركوع فلا يكون بينهما تفاوت؛ لأنّ الصلاة إنّما هي ركوع وسجود.

ولهذه العلّة فقد جعل السجود ضعف الركوع ليتساويا من هذه الحيثية كما أفاد الإمامعليه‌السلام .

٦ - الدعاء في القنوت:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل الدعاء في الركعة الأولى قبل القراءة؟ ولم جعل في الركعة الثانية القنوت بعد القراءة؟

قيل لأنّه أحب أن يفتح قيامه - أي المصلّي - لربّه وعبادته بالتحميد والتقديس والرغبة والرهبة ويختمه بمثل ذلك، وليكون في القيام عند القنوت أطول).

عرض الإمامعليه‌السلام إلى الحكمة في استحباب الدعاء قبل الدخول في الصلاة؛ وذلك لإظهار العبودية المطلقة لله تعالى وإظهار الخضوع والتذلّل له، وليكون الدعاء في القنوت أطول؛ وذلك لإظهار الانقياد والطاعة لله تعالى.

٧ - الجهر والاخفات:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعل الجهر في بعض الصلوات ولم يجعل في بعض؟

قيل: لأنّ الصلاة التي يجهر فيها إنّما هي صلوات تصلّى في أوقات مظلمة فوجب أن يجهر فيها ليمر المار فيعلم أنّ هاهنا جماعة فإذا أراد أن يصلّي صلّى وإن لم

٢٨

ير جماعة تصلّي سمع وعلم ذلك من جهة السماع، والصلاتان اللتان لا يجهر فيهما إنّما هما بالنهار وفي أوقات مضيئة فهي تدرك من جهة الرؤية فلا يحتاج فيها إلى السماع).

الصلاة التي يجهر فيها بقراءة الفاتحة والسورة هي صلاة الصبح والعشاءين، وقد علّل الإمام ذلك لتنبيه المار في الظلام ليتحفّز لأداء الصلاة، وأمّا الصلاة التي يخفف بقراءتها فهي صلاة الظهر والعصر فلا موجب للجهر فيها؛ وذلك لعدم وجود ظلمة في الوقت.

٨ - رفع اليدين في التكبير:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم يرفع - أي المصلّي - اليدين في التكبير؟

قيل: لأنّ رفع اليدين هو ضرب من الابتهال والتبتّل والتضرّع فأحبّ الله عزّ وجل أن يكون العبد في وقت ذكره له متبتّلاً متضرّعاً مبتهلاً، ولأنّ في رفع اليدين إحضار النيّة وإقبال القلب على ما قاله وقصده.

أمّا رفع اليدين في التكبير فهو ضرب من ضروب العبودية المطلقة لله تعالى كما فيه إحضار للنيّة التي هي بداية الدخول في الصلاة.

٩ - أوقات الصلاة:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل الصلوات في هذه الأوقات ولم تقدَّم ولم تؤخَّر؟

قيل: لأنّ الأوقات المشهورة المعلومة التي تعم أهل الأرض فيعرفها الجاهل والعالم أربعة: غروب الشمس معروف مشهور يجب عنده المغرب، وسقوط الشفق مشهور معلوم يجب عنده العشاء الآخرة، وطلوع الفجر مشهور معلوم يجب عنده الغداة، وزوال الشمس مشهور معلوم يجب عنده الظهر، ولم يكن للعصر وقت معلوم مثل هذه الأوقات فجعل وقتها عند الفراغ من الصلاة التي قبلها.

ذكر الإمامعليه‌السلام الحكمة في جعل الأوقات الخاصة للصلاة وأنّها مشهورة معروفة عند جميع أهل الأرض على اختلاف لغاتهم فكما أنّها مضبوطة؛ ولذلك كان من الحكمة جعلها أوقاتاً للصلاة وأضاف الإمامعليه‌السلام لذلك

٢٩

علّة أخرى، قالعليه‌السلام :

وعلّة أخرى: (إنّ الله أحب أن يبدأ الناس في كل عمل أوّلاً بطاعته فأمرهم أوّل النهار أن يبدؤا بعبادته ثم ينتشروا فيما أحبوا من مرّمة دنياهم فأوجب صلاة الغداة عليهم فإذا كان نصف النهار وتركوا ما كانوا فيه من الشغل وهو وقت يضع الناس فيه ثيابهم ويستريحون ويشتغلون بطعامهم وقيلولتهم فأمرهم أن يبدؤا أولاً بذكره وعبادته فأوجب عليهم الظهر ثم يتفرّغون لما أحبوا من ذلك فإذا قضوا وطرهم وأرادوا الانتشار في العمل لآخر النهار بدؤا أيضاً بطاعته ثم صاروا إلى ما أحبوا من ذلك فأوجب عليهم العصر، ثم ينتشرون فيما شاؤوا من حرمة دنياهم فإذا جاء الليل ووضعوا زينتهم وعادوا إلى أوطانهم ابتدؤا أولاً بعبادة ربّهم ثم يتفرغون لما أحبوا من ذلك فأوجب عليهم المغرب فإذا جاء وقت النوم وفرغوا ممّا كانوا به مشتغلين أحب أن يبدؤا أولاً بعبادته وطاعته ثم يصيرون إلى ما شاؤوا أن يصيروا إليه من ذلك فيكونون قد بدؤا في كل عمل بطاعته وعبادته فأوجب عليهم العتمة(١) فإذا فعلوا ذلك لم ينسوه ولم يغفلوا عنه ولم تقس قلوبهم ولم تقل رغبتهم).

وألم كلام الإمامعليه‌السلام بالحكم والمصالح التي من أجلها شرعت الصلاة في هذه الأوقات الخاصة ولم تشرع في غيرها.

١٠ - صلاة العصر:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم إذاً لم يكن للعصر وقت مشهور مثل تلك الأوقات أوجبها بين الظهر والمغرب، ولم يوجبها بين العتمة والغداة وبين الغداة والظهر؟

قيل: لأنّه ليس وقت على الناس أخف ولا أيسر ولا أحرى أن يعم فيه الضعيف والقوي بهذه الصلاة من هذا الوقت؛ وذلك أنّ الناس عامتهم يشتغلون في أول النهار بالتجارة والمعاملات والذهاب في الحوائج وإقامة الأسواق فأراد أن لا يشغلهم عن طلب معاشهم ومصلحة دنياهم وليس يقدر الخلق كلهم على قيام الليل ولا يشعرون به، ولا ينتبهون لوقته لو كان واجباً ولا يمكنهم ذلك فخفف

____________________

(١) العتمة: ثلث الليل الأول بعد غيبوبة الشفق والعشاء الآخرة.

٣٠

الله عنهم ولم يجعلها في أشد الأوقات عليهم، ولكن جعلها في أخف الأوقات عليهم، كما قال الله عزّ وجل:( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العـسر ) . ذكر الإمامعليه‌السلام الحكمة في امتداد وقت صلاة العصر من صلاة الظهر إلى آخر وقت النهار؛ وذلك للتخفيف على الناس وإن كان قد جعل وقتاً لفضيلة أداء صلاة العصر وهو صيرورة الظل مثل سبعي الشاخص ومنتهى وقت الفضيلة ذهاب أربعة أسباع الشاخص(١) .

١١ - صلاة الجماعة:

قالعليه‌السلام : فإن قائل: فلم جعل - أي الشارع - الجماعة؟

قيل: لئلاّ يكون الإخلاص والتوحيد والإسلام والعبادة لله إلاّ ظاهراً مكشوفاً مشهوراً؛ لأنّ في إظهاره حجّة على أهل الشرق والغرب لله وحده عزّ وجل، وليكون المنافق والمستخف لما أقرّ بظاهر الإسلام والمراقبة وليكون شهادة الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة مع ما فيه من المساعدة على البر والتقوى والذود عن كثير من معاصي الله عزّ وجل.

صلاة الجماعة من أهم العبادات في الإسلام؛ وذلك لما يترتّب عليها من المصالح والمنافع للمسلمين، ومن بينها تعارف المسلمين بعضهم ببعض وشيوع المحبّة والتآلف ببعض منافعها وحكمها في هذا المقطع من كلامه.

١٢ - صلاة السنّة:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل صلاة السنة أربعاً وثلاثين ركعة؟

قيل لأنّ الفريضة سبع عشرة ركعة فجعلت السنّة مثلي الفريضة كمالاً للفريضة.

أمّا صلاة السنّة فيراد بها الرواتب اليومية وهي ثمان ركعات للظهر قبلها وثمان بعدها قبل العصر للعصر وأربع بعد المغرب لصلاة المغرب وركعتان من

جلوس تعدان بركعة بعد صلاة العشاء وثمان ركعات لصلاة الليل وركعتا الشفع

____________________

(١) منهاج الصالحين ١ / ١١٣.

٣١

بعدها وركعة الوتر بعدها وركعتان لصلاة الصبح قبلها فمجموعها تكون أربعاً وثلاثين، وقد علّل الإمامعليه‌السلام ذلك بجعل السنّة مثلي الفريضة ليكون كمالاً لها.

١٣ - صلاة السنّة في أوقات مختلفة:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم جعل صلاة السنّة في أوقات مختلفة ولم يجعل في وقت واحد؟

قيل: لأنّ أفضل الأوقات ثلاثة: عند زوال الشمس وبعد المغرب وبالأسحار فأحب أن يصلّي له في كل هذه الأوقات الثلاثة؛ لأنّه إذا فرقت السنّة في أوقات شتّى كان أداؤها أيسر وأخف من أن تجمع كلها في وقت واحد.

لقد ذكر الإمامعليه‌السلام الحكمة في تفريق أوقات صلاة السنّة فقد جعلت في أفضل الأوقات وأحبّها عند الله تعالى مضافاً إلى أنّ أداءها في وقت واحد لا يخلو من حرج وصعوبة.

١٤ - تحليل الصلاة بالتسليم:

قال: (فإن قال قائل: فلم جعل التسليم تحليل الصلاة، ولم يجعل بدله تكبيراً أو تسبيحاً أو ضرباً آخر قيل: لأنّه لما كان في الدخول في الصلاة تحريم الكلام للمخلوقين والتوجّه إلى الخالق كان تحليلها كلام المخلوقين والانتقال عنها وابتداء المخلوقين في الكلام إنّما هو بالتسليم.

ولهذه الحكمة فقد جعل تحليل الصلاة بالتسليم فقد حرّم الشارع على المصلّي عند الشروع في الصلاة الكلام وغيره من سائر الأفعال وينتهي هذا التحريم بالتسليم.

صلاة الجمعة:

وأدلى الإمامعليه‌السلام ببعض الحكم والمصالح في صلاة الجمعة وفيما يلي ذلك:

أ - صلاة الجمعة ركعتين:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل: فلم صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع

٣٢

الإمام ركعتين وإذا كانت بغير إمام ركعتين وركعتين - يعني يصلّي صلاة الظهر -؟

قيل: لعلل شتّى، منها أن الناس يتخطون إلى الجمعة من بعد فأحب الله عزّ وجل أن يخفف عنهم لموضع التعب الذي صاروا إليه.

ومنها: إنّ الإمام يحبسهم للخطبة وهم منتظرون للصلاة ومَن انتظر الصلاة فهو في صلاة في حكم التمام.

ومنها: إنّ الصلاة مع الإمام أتم وأكمل لعلمه وفقهه وعدله وفضله.

وإنّما قصرت صلاة الجمعة فصارت ركعتين لهذه الحكم والعلل التي أدلى بها الإمامعليه‌السلام .

ب - حكمة الخطبة في صلاة الجمعة:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعلت الخطبة؟

قيل: لأنّ الجمعة مشهد عام فأراد أن يكون الإمام سبباً لموعظتهم وترغيبهم في الطاعة وترهيبهم عن المعصية وتوقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم ودنياهم، ويخبرهم بما ورد عليه من الأوقات ومن الأحوال التي لهم فيها المضرّة والمنفعة).

إنّ من أعظم الحكم والمصالح في صلاة الجمعة هي الخطبة التي يدلي بها الإمام فإنّها تستهدف نشر الوعي الديني والسياسي بين المسلمين كما تنمي في نفوسهم النزعات الخيرة وتهديهم إلى سواء السبيل.

ج - خطبتان في صلاة الجمعة:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعلت خطبتان؟

قيل: لتكون واحدة للثناء والتحميد والتقديس لله عزّ وجل، والأخرى للحوائج والأعذار والإنذار وما يريد أن يعلمهم من أمره ونهيه بما فيه الصلاح والفساد).

وأعرب الإمامعليه‌السلام عن الحكمة في تشريع الخطبتين في صلاة الجمعة فأولى الخطبتين تكون في الثناء على الله تعالى خالق الكون، وواهب الحياة وبيان عظمته فيما أبدعه من العجائب في مخلوقاته والخطبة الثانية تكون لبيان ما يصلح المسلمين في دنياهم، وآخرتهم.

٣٣

د - خطبة الجمعة قبل الصلاة:

قالعليه‌السلام : فإن قال قائل فلم جعلت الخطبة يوم الجمعة قبل الصلاة وجعلت في العيدين بعد الصلاة؟

قيل: لأنّ الجمعة أمر دائم يكون في الشهر مراراً وفي السنة كثيراً، فإذا كثر ذلك على الناس صلّوا وتركوه ولم يقيموا عليه وتفرّقوا عنه فجعلت قبل الصلاة ليحتسبوا على الصلاة ولا يتفرقوا ولا يذهبوا.

وأمّا العيدان فإنّما هما في السنة مرتان، وهما أعظم من الجمعة والزحام فيهما أكثر والناس منهم أرغب فإن تفرّق بعض الناس بقي عامتهم وليس هما بكثير فيملوا أو يستخفوا بهما).

وعلّق الشيخ الصدوق (نضر الله مثواه) على هذا الحديث بقوله:

جاء الخبر هكذا والخطبتان في الجمعة والعيد بعد الصلاة لأنّهما بمنزلة الركعتين الأخيرتين وأنّ أوّل مَن قدّم الخطبتين عثمان بن عفان؛ لأنّه لما أحدث ما أحدث لم يكن الناس يقفون على خطبته ويقولون: ما نصنع بمواعظه وقد أحدث ما أحدث: فقدم الخطبتين ليقف الناس انتظاراً للصلاة ولا يتفرقوا عنه.

ه‍ـ - تجب صلاة الجمعة على مَن كان على فرسخين:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم وجبت الجمعة على مَن يكون على فرسخين لا أكثر من ذلك؟

قيل: لأنّ ما يقصر فيه الصلاة بريدان ذاهب أو بريد ذاهب وجائي، والبريد: أربع فراسخ فوجبت الجمعة على مَن هو نصف البريد الذي يجب فيه التقصير؛ وذلك أنه يجيء على فرسخين ويذهب فرسخين فذلك أربعة فراسخ وهو نصف طريق المسافر).

ولهذه الجهة التي ذكرها الإمامعليه‌السلام وجبت الجمعة على مَن كان على فرسخين لا أكثر

و - نافلة الجمعة:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم زيد في صلاة السنة يوم الجمعة أربع ركعات؟

قيل: تعظيماً لذلك اليوم وتفرقة بينه وبين سائر الأيام، ويستحب التنفّل يوم

٣٤

الجمعة بعشرين ركعة وقد زاد أربع ركعات على الست عشرة التي هي نوافل سائر الأيام، ويستحب أن يصلّي ستاً منها عند انبساط الشمس وستاً عند ارتفاعها وستاً قبل الزوال وركعتين عند الزوال).

صلاة المسافر:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم قصرت الصلاة في السفر؟

قيل: لأنّ الصلاة المفروضة أولاً إنّما هي عشر ركعات والسبع إنّما زيدت عليها بعد فخفّف الله عنهم تلك الزيادة لموضع السفر وتعبه ونصبه واشتغاله بأمر نفسه وظعنه وإقامته لئلاّ يشتغل عمّا لا بد له من معيشته رحمة من الله عزّ وجل وتعطّفاً عليه، إلاّ صلاة المغرب فإنّها لم تقصر؛ لأنّها صلاة مقصورة في الأصل).

عرض الإمامعليه‌السلام إلى الحكمة في قصر صلاة المسافر وهي ما يعانيه من المتاعب والمصاعب من سفره، خصوصاً في تلك الأزمات التي كانت فيها وسائل النقل محصورة بالحيوانات وبالسفن وكلاهما يوجبان المشقّة والعناء، فتفضّل الشارع فأسقط عن المسافر نصف الصلاة الرباعية تفضّلاً منه ورحمة بالعباد.

المسافة الموجبة للقصر:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم وجب التقصير في ثمانية فراسخ لا أقل من ذلك ولا أكثر؟

قيل: لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يوم للعامة والقوافل والأثقال فوجب التقصير في مسيرة يوم).

بيّن الإمامعليه‌السلام الحكمة في جعل الشارع ثمانية فراسخ مسافة للتقصير ثم عقبعليه‌السلام ذلك بقوله: (فإن قال قائل: فلم وجب التقصير في مسيرة يوم لا أكثر؟

قيل: لأنّه لو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة سنة؛ وذلك لان كل يوم يكون بعد هذا اليوم، فإنّما هو نظير هذا اليوم فلو لم يجب في هذا اليوم لما وجب في نظيره إذا كان نظيره مثله ولا فرق بينهما).

أفاد الإمامعليه‌السلام أنّه لو لم تجعل المسافة في تقصير الصلاة ثمانية فراسخ التي هي مسيرة يوم للزم منه أن تكون مسافة التقصير في اليوم الثاني إذ هو نظير

٣٥

اليوم الأول ولا ميزة له عليه وهكذا في اليوم الثالث وما زاد عليه ولازمه التسلسل المجمع على بطلانه، وأردف الإمام كلامه هذا بقوله:

(فإن قال قائل: قد يختلف السير فلم جعلت مسيرة يوم ثمانية فراسخ؟

قيل: لأنّ ثمانية فراسخ مسير الجمال والقوافل وهو سير الذي يسيره الجمّالون والمكارون).

سقوط نوافل النهار:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم ترك تطوّع النهار - أي نوافل النهار - ولم يترك تطوّع الليل؟

قيل: لأنّ كل صلاة لا تقصير فيها فلا تقصير في تطوّعها؛ وذلك أنّ المغرب لا تقصير فيها، فلا تقصير فيما بعدها من التطوّع وكذلك الغداة لا تقصير فيما قبلها من التطوّع).

عرض الإمامعليه‌السلام إلى سقوط نافلة النهار وعدم سقوط نافلة الليل، وقد علّل ذلك بأنّ سقوط النافلة تابع لقصر الصلاة ولا تقصير في صلاة الليل وقد عقّب على هذا بقوله:

(فإن قال قائل: فما بال العتمة - أي صلاة العشاء - مقصورة وليس تترك ركعتاه؟

قيل: إنّ تلك الركعتين ليستا من الخمسين وإنّما هما زيادة في الخمسين تطوّعاً ليتم بها بدل كل ركعة من الفريضة ركعتين من التطوّع).

أفاد الإمامعليه‌السلام بأنّ صلاة العشاء تقصر في السفر فلم لا تسقط نافلتها وهي ركعتان من جلوس، فأجاب الإمامعليه‌السلام : إنّ نافلة العشاء عند الشارع تعادل ركعة من قيام والسبب في ذلك ليتم بدل كل ركعة من الفريضة ركعتين من النافلة ولهذه العلّة فلا تسقط نافلة العشاء عن المسافر فيصلّي صلاة الليل في أوله.

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جاز للمسافر والمريض أن يصلّيا صلاة الليل في أول الليل؟

قيل: لاشتغاله وضعفه ليحرز صلاته فيستريح المريض في وقت راحته ويشتغل المسافر بأشغاله وارتحاله وسفره).

٣٦

أمّا صلاة الليل فهي في الهزيع الأخير من الليل، وقد أباح الشارع للمسافر والمريض أن يصلّياها في أوّل الليل؛ وذلك تفضّل ومنّة منه عليهما كما أفاد الإمام (ع).

الصلاة على الميت:

وتحدّث الإمامعليه‌السلام عن بعض العلل في أحكام الأموات والتي منها الصلاة قالعليه‌السلام :

(فإن قال قائل: فلم أمروا بالصلاة على الميت؟

قيل: ليشفعوا له ويدعوا بالمغفرة؛ لأنّه لم يكن في وقت من الأوقات أحوج إلى الشفاعة فيه والطلب والاستغفار من تلك الساعة).

إنّ دعاء المؤمنين الذين يصلون على جنازة الميت بالمغفرة والرحمة له، من أهم ما يحتاج إليه الميت فلعل الله يستجيب الدعاء، ويعفو عنه ويمنحه المغفرة والرضوان.

التكبيرات الخمس على الميت:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعلت خمس تكبيرات دون أن يكبّر أربعاً أو ستاً؟

قيل: إنّ الخمس إنّما أخذت من الخمس صلوات في اليوم والليلة).

إنّ التكبيرات الخمس ترمز إلى الصلاة اليومية التي هي خمس صلوات.

الصلاة على الميت بغير وضوء:

قالعليه‌السلام : (فلم جوّز الصلاة على الميت بغير وضوء؟

قيل: لأنّه ليس فيها ركوع ولا سجود وإنّما هي دعاء ومسألة، وقد يجوز أن تدعو الله وتسأله على أي حال كنت وإنّما يجب الوضوء في الصلاة التي فيها الركوع والسجود).

ولهذا السبب فقد قيل بأنّ الصلاة على الميت دعاء وليست بصلاة حقيقية.

الصلاة على الميت في كل وقت:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جوّزتم الصلاة عليه قبل المغرب وبعد الفجر؟

٣٧

قيل: لأنّ هذه الصلاة إنّما تجب في وقت الحضور، والعلّة ليست هي مؤقتة كسائر الصلوات وإنّما هي صلاة تجب في وقت حدوث الحدث ليس للإنسان فيه اختيار وإنّما هو حق يؤدّى وجائز أن تؤدّى الحقوق في أي وقت إذا لم يكن الحق مؤقّتاً).

ولم يجعل الشارع وقتاً خاصاً لصلاة الميت وإنّما يصلّي عليه في جميع آنات الزمان؛ لأنّ الصلاة حق من حقوقه على الأحياء والحق يؤدّى في كل وقت.

تغسيل الأموات:

وقد تقدّم الكلام فيه تفصيلاً.

تكفين الأموات:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم أمروا بكفن الميت؟

قيل: ليلقى ربّه عزّ وجل طاهر الجسد، ولئلاّ تبدو عورته لـمَن يحمله ويدفنه، ولئلاّ يظهر الناس على بعض حاله وقبح منظره، وتغيّر ريحه، ولئلاّ يقسو القلب من كثرة النظر إلى مثل ذلك للعاهة والفساد، وليكون أطيب لأنفس الأحياء، ولئلاّ يبغضه حميم فيلغي ذكره ومودّته فلا يحفظه فيما خلف وأوصاه وأمره به واجباً كان أو ندباً).

ولهذه الحكم الوثيقة البالغة الأهمية فقد ألزم الشارع العظيم بتكفين الأموات احتراماً لهم وصيانة لأجسادهم التي إن بدت مجّها الأحياء، واحتقروها.

دفن الأموات:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم أمر بدفنه؟ قيل: لئلاّ يظهر الناس على فساد جسده وقبح منظره وتغيّر ريحه، ولا يتأذّى الأحياء بريحه وبما يدخل عليه من الآفة والفساد، وليكون مستوراً عن الأولياء والأعداء فلا يشمت عدوّه ولا يحزن صديقه).

ولهذه الحكم الوثيقة فقد أوجب مواراة الأموات ودفنهم للستر عليهم، فإنّه إذا تفسّخت أجسامهم وانتشرت جيفهم فإنهم يشكّلون خطراً على البيئة ويكونون مصدراً للأوبئة بالإضافة إلى قبح منظرهم وكراهة رائحتهم، وغير ذلك ممّا أفاده الإمام (ع).

٣٨

صلاة الكسوف:

(فإن قال قائل: فلم جعلت للكسوف صلاة؟

قيل: لأنّه آية من آيات الله عزّ وجل لا يدري لرحمة ظهرت أم لعذاب؟

فأحب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله أن تفزع أمته إلى خالقها وراحمها عند ذلك ليصرف عنهم شرها ويقيهم مكرها، كما صرف عن قوم يونس حين تضرّعوا إلى الله عزّ وجل).

لهذه الجهة فقد أمر الشارع بالصلاة عند كسوف الشمس وخسوف القمر وعند كل مخوف سماوي أو أرضي كالريح السوداء والحمراء والخسف وغير ذلك

ممّا ذكره الفقهاء.

الحكمة في كيفية صلاة الآيات:

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعلت عشر ركعات؟

قيل: لأنّ الصلاة التي نزل فرضها من السماء إلى الأرض أولاً في اليوم والليلة فإنّما هي عشر ركعات فجمعت تلك الركعات، وإنّما جعل فيها السجود؛ لأنّه لا يكون صلاة فيها ركوع إلاّ وفيها سجود، ولكي يختموا أيضاً صلاتهم بالسجود والخضوع، وإنّما جعلت أربع سجدات لأنّ كل صلاة نقص سجودها من أربع سجدات لا تكون صلاة؛ لأنّ أقل الفرض السجود في الصلاة لا يكون إلاّ على أربع سجدات).

صلاة الآيات ركعتان في كل واحدة خمسة ركوعات ينتصب بعد كل واحد فيها وسجدتان بعد الانتصاب من الركوع الخامس ويتشهد بعدهما ويسلم، وقد حكى الإمامعليه‌السلام الحكمة في جعل عشر ركوعات لهذه الصلة وهي أنّها ترمز إلى ما كلف به العباد من الصلاة أولاً وهي عشر ركعات.

عيد الفطر:

قال عليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعل يوم الفطر عيداً؟

قيل: لكي يكون للمسلمين مجمع يجتمعون فيه ويبرزون إلى الله عزّ وجل فيحمدونه على ما منّ عليهم فيكون يوم عيد ويوم اجتماع ويوم فطر ويوم زكاة، ويوم رغبة، ويوم تضرّع، ولأنّه أول يوم من السنة يحل فيه الأكل والشرب، لأنّ أول شهور السنة عند أهل الحق (شهر رمضان) فأحب الله عزّ وجل أن يكون لهم في ذلك اليوم مجمع يحمدونه فيه، ويقدسونه).

٣٩

لهذه العلل والحكم التي أدلى بها الإمامعليه‌السلام فقد جعل يوم الفطر عيداً للمسلمين يجتمعون فيه ويبارك بعضهم بعضاً على توفيق الله لهم بصيام شهر رمضان المبارك.

صلاة العيد:

قال عليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم جعل التكبير فيها أكثر منه في غيرها

من الصلاة؟

قيل: لأنّ التكبير إنّما هو لله، وتمجيد على ما هدى وعافى، كما قال الله عزّ وجل:( وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) (١) .

وأعرب الإمامعليه‌السلام عن الحكمة في جعل التكبير في صلاة العيد أكثر من غيره؛ وذلك للتدليل على عظم هذا اليوم الأغر عند الله تعالى.

الصوم:

وتحدث الإمامعليه‌السلام عن الحكمة في تشريع الصوم وعن بعض علل التشريع فيما يتعلّق بأحكام شهر رمضان المبارك.

قالعليه‌السلام : (فإن قال قائل: فلم أمر بالصوم؟

قيل: لكي يعرفوا ألم الجوع والعطش فيستدلوا على فقر الآخرة وليكون الصائم خاشعاً، ذليلاً مستكيناً مأجوراً محتبساً عارفاً صابراً على ما أصابه من

الجوع والعطش فيستوجب الثواب مع ما فيه من الانكسار عن الشهوات وليكون ذلك واعظاً لهم في العاجل ورايضاً لهم على ما كلّفهم ودليلاً لهم في الآجل وليعرفوا شدّة مبلغ ذلك على أهل الفقر والمسكنة في الدنيا فيؤدوا إليهم ما افترض الله لهم في أموالهم).

لقد تحدث الإمامعليه‌السلام عن الحكم والفوائد المترتبة على الصوم والتي منها العطف على الفقراء، فإنّ الصائم عندما يجوع يشعر بألم الجوع فيدفعه ذلك للعطف على الفقراء والمساكين، ومن حكم الصوم المساواة بين الأغنياء والفقراء في هذا الواجب.

ومن حكمة تقوية الإرادة في نفس الإنسان؛ وذلك بامتناعه عن الأكل

____________________

(١) سورة البقرة آية ١٨٥.

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

أرض مربعة حمراء من أدم

ما بين إلفين موصوفين بالكرمِ

تذاكرا الحرب فاحتلاّ لها شبهاً

من غير أن يسعيا فيها بسفك دمِ

هذا يغير على هذا وذاك على

هذا يغير وعين الحرب لم تنمِ

فانظر إلى الخيل قد جاشت بمعركةٍ

في عسكرين بلا طبلٍ ولا علمِ(1)

وألمّ هذا الشعر بوصف دقيق للشطرنج، وفيما أحسب أنّه أسبق من نظم فيه، وأحاط بأوصافه ودقائقه وقد تعلم هذه اللعبة من أبيه الرشيد الذي كان من الماهرين فيها، وقد أهدى إلى ملك (فرنسا) أدوات الشطرنج، ولم تكن معروفة فيها، وتوجد حاليا تلك الأدوات التي أهداها الرشيد في متاحف (فرنسا)(2) .

ب - ولعه بالموسيقى:

وكان المأمون مولعاً بالغناء والموسيقى، ويقول المؤرّخون أنّه كان معجباً كأشد ما يكون الإعجاب بأبي إسحاق الموصلي الذي كان من أعظم العازفين والمغنّين في العالم العربي وقال فيه: (كان لا يغني أبداً إلاّ وتذهب عنّي وساوسي المتزايدة من الشيطان)(3) .

وكان يحيي لياليه بالغناء والرقص والعزف على العود كأبيه الرشيد الذي لم يمر على قصره اسم الله تعالى، وإنّما كانت لياليه الليالي الحمراء.

ج - شربه للخمر:

وعكف المأمون على الإدمان على الخمر، فكان يشربها في وضح النهار وفي غلس الليل، ولم يتأثّم في اقتراف هذا المحرَّم الذي هو من أفحش المحرّمات في الإسلام.

إلى هنا ينتهي بنا الحديث عن بعض نزعات المأمون وصفاته.

التحف الثمينة التي أهديت للمأمون:

وقام الأُمراء والأشراف بتقديم الهدايا القيّمة والتحف الثمينة للمأمون تقرّباً إليه، وكان من بعض ما أُهدي إليه ما يلي:

____________________

(1) المستطرف 2 / 306.

(2) حياة الإمام محمد الجواد (ص 233).

(3) الحضارة العربية لجاك س. ريسلر (ص 108).

٢٢١

1 - أهدى أحمد بن يوسف للمأمون سفطاً من الذهب فيه قطعة عود هندي في طوله وعرضه، وكتب فيه هذا يوم جرت فيه العادة بإتحاف العبيد للسادة، وقد قلت:

على العبد حق وهو لا شك فاعله

وإن عظم المولى وجلّت فواضله

ألم ترنا نهدي إلى الله ماله

وإن كان عنه ذا غنى فهو قابله

ولو كان يهدي للجليل بقدره

لقصّر عنه البحر يوماً وساحله

ولكنّنا نهدي إلى مَن نجلّه

وإن لم يكن في وسعنا ما يشاكله(1)

2 - أهدى أبو دلف القاسم بن عيسى العجلي إلى المأمون في يوم مهرجان مائة حمل زعفران قد وضعت في أكياس من الإبريسم، وقد حملتها أتان شهب وحشية، فجاءت الهدايا والمأمون عند حرمه، فأخبر بالهدية، فسارع إلى النظر إليه، فلمّا رآها عجب بها وسأل عن الحمر التي حملت الزعفران هل هن ذكور أم إناث؟ فقيل له إنّها إناث فسُرّ بذلك، وقال: قد علمت أنّ الرجل أعقل من أن يوجه على غير أتن(2).

3 - أهدى ملك الهند جملة من الهدايا، وفيها جام ياقوت أحمر، ومعها رسالة جاء فيها: نحن نسألك أيّها الأخ أن تنعم في ذلك بالقبول، وتوسع عذراً في التقصير(3) .

هذه بعض الهدايا التي قدّمت للمأمون تقرّباً له، وطمعاً في الظفر ببعض الوظائف منه.

تظاهره بالتشيّع:

وذهب بعض المؤرخين والباحثين إلى أن المأمون قد اعتنق مذهب التشيع، وقد استندوا إلى ما يلي:

من علمه التشيع:

إنّه أعلن أمام حاشيته وأصحابه أنّه اعتنق مذهب التشيّع وذلك في الحديث التالي: روى سفيان بن نزار، قال: كنت يوماً على رأس المأمون، فقال لأصحابه: (أتدرون مَن علّمني التشيّع؟).

____________________

(1) صبح الأعشى 2 / 420.

(2) التحف والهدايا (ص 109).

(3) نفس المصدر.

٢٢٢

فقالوا جميعاً: لا والله ما نعلم؟.

فقال: علمنيه الرشيد فانبروا قائلين:

(كيف ذلك والرشيد كان يقتل أهل البيت؟).

قال: كان يقتلهم على الملك لان الملك عقيم، لقد حججت معه سنة، فلمّا صار إلى المدينة تقدم إلى حجاجه، وقال لهم: (لا يدخلن على رجل من أهل المدينة ومكة، ولا من المهاجرين والأنصار وبني هاشم، وسائر بطون قريش إلا نسب نفسه... وأمتثل الحجاب ذلك، فكان الرجل إذا أراد الدخول عليه عرف نفسه إلى الحجاب، فإذا دخل فيصله بحسب مكانته ونسبه، وكانت صلته خمسة آلاف دينار إلى مائتي دينار، يقول المأمون وبينما أنا واقف إذ دخل الفضل بن الربيع، فقال: (يا أمير المؤمنين، على الباب رجل يزعم أنّه موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب).

فاقبل الرشيد على أبنائه، وعلى سائر القواد، وقال لهم: احفظوا على أنفسكم، ثم قال للفضل ائذن له، ولا ينزل إلاّ على بساطي، يقول المأمون: ودخل شيخ مسخد(1) قد أنهكته العبادة كأنّه شنّ بال(2) قد كلم(3) السجود وجهه وأنفه فلمّا رأى الرشيد أنّه أراد أن ينزل من دابته، فصاح لا والله إلاّ

على بساطي فمنعه الحجّاب من الترجّل، ونظر إليه الجميع بإجلال وإكبار وتعظيم ووصل الإمام إلى البساط والحجّاب والقوّاد محدقون به، فنزل عن راحلته فقام إليه الرشيد واستقبله إلى آخر البساط، وقبّل وجهه وعينيه، وأخذ بيده حتى صيره في صدر المجلس وأجلسه معه، وأقبل عليه يحدثه، ويسأله عن أحواله، ثم قال له: (يا أبا الحسن ما عليك من العيال؟).

قال هارون: أولاد كلهم؟ قال الإمام: لا، أكثرهم موالي وحشم، أمّا الولد فلي نيف وثلاثون، وذكر عدد الذكور، وعدد الإناث، والتفت إليه هارون فقال له:

____________________

(1) المسخد: مصفر الوجه.

(2) الشن البالي: القربة البالية.

(3) كلم: أي جرح.

٢٢٣

- لم لا تزوج النسوان من بني عمومتهن وأكفائهن؟

- اليد تقصر عن ذلك.

- ما حال الضيعة؟

تعطي في وقت وتمنع في آخر!.

- هل عليك دين؟

- نعم.

- كم هو؟

- عشرة آلاف دينار.

- يا بن العم أنا أعطيك من المال ما تزوّج به الذكران والنسوان، وتقضي به الدين، وتعمر به الضياع.

فشكره الإمام على ذلك وقال له: (وصلتك رحم يا بن العم، وشكر الله هذه النية الجميلة والرحم ماسة، والقرابة واشجة، والنسب واحد، والعباس عم النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وصنو أبيه، وعمّ علي بن أبي طالبعليه‌السلام وصنو أبيه، وما أبعدك الله من أن تفعل ذلك، وقد بسط يدك، وأكرم عنصرك وأعلى محتدك(1)) .

فقال هارون: أفعل ذلك وكرامة.

وأخذ الإمامعليه‌السلام يوصيه بالبر والإحسان إلى عموم الفقراء قائلاً:

(يا أمير المؤمنين إنّ الله قد فرض على ولاة العهد، أن ينعشوا فقراء الأمّة، ويقضوا عن الغارمين، ويؤدوا عن المثقل، ويكسوا العاري، ويحسنوا إلى العاني(2) ، فأنت أولى مَن يفعل ذلك...).

فانبرى هارون قائلاً: افعل ذلك يا أبا الحسن، ثم قام الإمامعليه‌السلام فقام الرشيد تكريما له، وقبل عينيه ووجهه ثم اقبل على أولاده فقال لهم: (يا عبد الله، ويا محمد، ويا إبراهيم امشوا بين يدي عمكم وسيدكم خذوا بركابه، وسووا عليه ثيابه وشيعوه إلى منزله).

وانصرف الإمامعليه‌السلام ، وفي نفس الطريق أسرّ إلى المأمون فبشره

____________________

(1) المحتد: الأصل.

(2) العاني: الغفير.

٢٢٤

بالخلافة، وقال له:

(إذا ملك هذا الأمر فأحسن إلى ولدي).

ومضى الإمام مشيَّعاً من قبل أبناء هارون إلى منزله، ورجع المأمون إلى منزله، فلما خلا المجلس من الناس التفت إلى أبيه قائلاً:

(يا أمير المؤمنين من هذا الرجل الذي قد أعظمته، وأجللته وقمت من مجلسك إليه، فاستقبلته، وأقعدته في صدر المجلس، وجلست دونه، ثم أمرتنا بأخذ الركاب له؟).

فقال هارون:

(هذا إمام الناس، وحجّة الله على خلقه، وخليفته على عباده...).

وبهر المأمون فقال لأبيه: (يا أمير المؤمنين أليست هذه الصفات لك وفيك؟).

فأجابه هارون بالواقع قائلاً: (أنا أمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر، وموسى بن جعفر إمام حق، والله يا بني إنّه لاحق بمقام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله منى ومن الخلق جميعاً، ووالله إن نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك، فإنّ الملك عقيم).

ولـمّا أراد الرشيد الانصراف من المدينة إلى بغداد أمر بصرة فيها مائتا دينار، وقال للفضل بن الربيع اذهب بها إلى موسى بن جعفر، وقل له: يقول لك أمير المؤمنين: نحن في ضيقة، وسيأتيك برنا بعد الوقت، فقام المأمون، وقال لأبيه: (تعطي أبناء المهاجرين والأنصار وسائر قريش، ومن لا تعرف حسبه ونسبه خمسة آلاف دينار ما دونها، وتعطي موسى بن جعفر، وقد عظمته، وجللته مائتي دينار أخسّ عطية أعطيتها أحدا من الناس).

فزجره هارون، وقال له:

(اسكت لا أُمّ لك، فإنّي لو أعطيت هذا ما ضمنته له، ما كنت آمنه أن يضرب وجهي غداً بمائة ألف سيف من شيعته ومواليه، وفقر هذا وأهل بيته أسلم لي ولكم من بسط أيديهم وأعينهم).

وأعرب هارون عن خشيته من الإمامعليه‌السلام ، وقضت سياسته في

٢٢٥

محاربته اقتصاديا لئلا يقوى على مناهضته وكان في المجلس مخارق المغني فتألم وانبرى إلى هارون قائلاً: (يا أمير المؤمنين، قد دخلت المدينة، وأكثر أهلها يطلبون مني شيئا، وإن خرجت ولم أقسم فيهم شيئا لم يتبيّن لهم فضل أمير المؤمنين علي، ومنزلتي عنده).

فأمر له هارون بعشرة آلاف دينار، فقال له مخارق: (يا أمير المؤمنين هذا لأهل المدينة، وعلى دين احتاج أن أقضيه).

فأمر له بعشرة آلاف دينار، ثم قال له: بناتي أريد أن أزوجهن فأمر له بعشرة آلاف دينار، وقال له: لا بد من غلّة تعطينيها ترد علي وعلى عيالي وبناتي فأمر له باقطاع(1) تبلغ وارداتها في السنة عشرة آلاف دينار، وأمر أن يعجل ذلك له، وقام مخارق مسرعا إلى بيت الإمام الكاظمعليه‌السلام ، فلمّا انتهى إليه استأذن على الإمام فأذن له فقال له: (قد وقفت على ما عاملك هذا الطاغية، وما أمر لك به، وقد احتلت عليه لك، وأخذت منه صلات ثلاثين ألف دينار وأقطاعا تغل في السنة عشرة آلاف دينار، ولا والله يا سيدي ما احتاج إلى شيء من ذلك، ما أخذته إلاّ لك وأنا اشهد لك بهذه القطاع، وقد حملت المال لك).

فشكره الإمامعليه‌السلام على ذلك، وقال له: (بارك الله لك في مالك، وأحسن جزاءك، ما كنت لآخذ منه درهماً واحداً، ولا من هذه الأقطاع شيئاً، وقد قبلت صلتك وبرّك، فانصرف راشداً ولا تراجعني في ذلك).

وقبل مخارق يد الإمامعليه‌السلام ، وانصرف عنه(2) .

وحكت هذه الرواية ما يلي:

1 - احتفاء الرشيد بالإمام الكاظمعليه‌السلام في حين أنّه لم يحفل بأي إنسان كان، فقد سيطر على أغلب أنحاء الأرض وسرى اسمه في الشرق والغرب.

2 - اعتراف هارون بأنّ الإمام الكاظمعليه‌السلام هو حجّة الله على

____________________

(1) الأقطاع: القطعة من الأرض الزراعية.

(2) عيون أخبار الرضا 1 / 88 - 93.

٢٢٦

العالمين وأنّه إمام هذه الأمة، وقائد مسيرتها الزمنية والروحية، وأنّ هارون زعيم هذه الأمة بالقهر والغلبة لا بالاستحقاق.

3 - حرمان الإمام الكاظم من العطاء الذي يستحقه؛ وذلك من أجل أن لا يقوى على مناهضة هارون والخروج على سلطانه.

4 - إعطاء المغني (مخارق) الأموال الطائلة، وحرمان أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله من حقوقهم التي نهبها هؤلاء البغاة... هذه بعض المعالم في هذه الرواية:

رد فدك للعلويين:

من الأمور التي يستند القائلون إلى تشيّع هارون ردّه لـ‍ (فدك) للعلويين بعد أن صادرتها الحكومات السابقة منهم، وكان الغرض من مصادرتها إشاعة الفقر والحرمان بين العلويين، وفرض الحصار الاقتصادي عليهم كي لا يتمكّنوا من مناهضة أولئك الحكّام، وقد قام المأمون بردّها عليهم، وقد رفع عنهم الضائقة الاقتصادية التي كانت آخذة بخناقهم، وقد مدحه شاعر أهل البيت دعبل الخزاعي على هذه المكرمة التي أسداها على العلويين بقوله:

أصبح وجه الزمان قد ضحكا

بردّ مأمون هاشم فدكا

واعتبر الكثيرون من الباحثين هذا الإجراء دليلاً على تشيّع المأمون.

إشادته بالإمام أمير المؤمنين:

وأشاد المأمون بالإمام أمير المؤمنين رائد الحق والعدالة في الإسلام، فقد كتب إلى جميع الآفاق بان علي بن أبي طالبعليه‌السلام أفضل الخلق بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (1) ، وقد روى الصولي أشعاراً له في فضل الإمام أمير المؤمنين عليه كان منها ما يلي:

لا تقبل التوبة من تائب

إلاّ بحب ابن أبي طالب

أخو رسول الله حلف المهدي

والأخ فوق الخل والصاحب

إن جمعا في الفضل يوماً فقد

فاق أخوه رغبة الراغب

فقدم الهادي في فضله

تسلم من اللائم والعائب

ومن شعره الذي يرد به على مَن عابه في قربه لأبناء النبي (ص) يقول:

____________________

(1) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٧

ومن غاو يغص عليّ غيظاً

إذا أدنيت أولاد الوصي

فقلت: أليس قد أوتيت علماً

وبان لك الرشيد من الغوي

وعرفت احتجاجي بالمثاني

وبالمعقول والأثر القوي

بأيّة خلّة وبأيّ معنى

تفضّل ملحدين على علي

علي أعظم الثقلين حقّاً

وأفضلهم سوى حق النبي(1)

ومن شعره قاله في أهل البيتعليهم‌السلام هذه الأبيات:

إن مال ذو النصب إلى جانب

ملت مع الشيعي في جانبِ

أكون في آل بني الهدى

خير بني من بني غالبِ

حبهم فرض نؤدّي به

كمثل حج لازم واجب(2)

وهذا الشعر صريح في ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام وتقديمه بالفضل على غيرهم.

وروى له الصولي هذه الأبيات في الإمام عليعليه‌السلام :

ألام على حب الوصي أبي الحسن

وذلك عندي من عجائب ذي الزمن

خليفة خير الناس والأول الذي

أعان رسول الله في السر والعلن

ولولاه ما عدت لهاشم إمرة

وكانت على الأيام تقضي وتمتهن

فولى بني العباس ما اختص غيرهم

ومن منه أولى بالتكرّم والمنن

فأوضح عبد الله بالبصرة الهدى

وفاض عبيد الله جوداً على اليمن

وقسم أعمال الخلافة بينهم

فلا زال مربوطاً بذا الشكر مرتهن(3)

وحكى هذا الشعر الأيادي البيضاء التي أسداها الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلى الأسرة العباسية حينما ولي الخلافة فقد قلد ولاية (البصرة) إلى عبد الله بن العباس، وكان وزيره ومستشاره الخاص، كما قلد عبيد الله بن العباس ولاية اليمن، ولكن الأسرة العباسية قد تنكرت لهذا المعروف فقابلت أبناء الإمام بالقتل والتنكيل وارتكبت معهم ما لم ترتكبه معهم الأسرة الأموية وقد أوضحنا في

____________________

(1) المحاسن والمساوئ 1 / 105 للبيهقي.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

(3) تذكرة الخواص (ص 366).

٢٢٨

هذا الكتاب جوانب كثيرة من اضطهادهم للسادة العلويين، فلم يرعوا فيهم أنّهم أبناء النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم وديعته في أمته، فعمدوا إلى قتلهم تحت كل حجر ومدر.

ونسب إلى المأمون هذان البيتان:

إذا المرجّى سرّك أن تراه

يموت لحينه من قبل موته

فجدّد عنده ذكرى عليٍّ

وصلِّ على النبي وآل بيته

فردّ عليه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة:

إذا الشيعي جمجم في مقال

فسرّك أن يبوح بذات نفسه

فصلّ على النبي وصاحبيه

وزيريه وجاريه برمسه(1)

ومن الطريف ما ذكره الصولي أنّه كان مكتوباً على سارية من سواري جامع البصرة:

(رحم الله عليّا

إنّه كان تقيّا)

وكان يجلس إلى تلك السارية حفص أبو عمر الخطابي وكان أعور فعمد إلى محو ذلك، وكتب بعض المجاورين إلى الجامع إلى المأمون يخبره بمحو الخطابي للكتابة، فشقّ على المأمون ذلك، وأمر بإشخاصه إليه، فلمّا مثل عنده قال له:

(لم محوت اسم أمير المؤمنين من السارية؟).

فقال الخطابي: (وما كان عليها؟).

قال المأمون: كان عليها:

(رحم الله عليّا

انه كان تقيّا)

فقال: إنّ المكتوب رحم الله عليا إنّه كان نبيّا، فقال المأمون كذبت، بل كانت القاف أصح من عينك الصحيحة، ولولا أن أزيدك عند العامة نفاقاً لأدبتك، ثم أمر بإخراجه(2) .

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 329.

(2) تذكرة الخواص (ص 367).

٢٢٩

انتقاصه لمعاوية:

واستدلّ القائلون بتشيّع المأمون إلى أنّه أمر بسب معاوية بن هند وانتقاصه في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فقد أمر أن ينادي المنادي (أن برئت الذمّة من أحد من الناس ذكر معاوية بخير أو قدمه على أحد من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله )(1) .

وهذا لا يصلح دليلاً على تشيّع المأمون؛ لأنّ معاوية قد انكشف، وظهر واقعه، فقد تسالمت على قدحه جميع الأوساط، وأنّه الخصم اللدود للإسلام، وأنّه صاحب الأحداث والموبقات.

استدلاله على إمامة الإمام علي:

ومن أهم ما استدل به القائلون على تشيّع المأمون عقده للمؤتمرات العلمية، واستدلاله ببالغ الحجة على إمامة الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام وانه القائد الأول للمسيرة الإسلامية بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وهو أولى بمقامه، وأحق بمركزه من غيره.

ومن أروع المؤتمرات التي أقامها المأمون في بلاطه، ومن أكثرها أهمية هذا المؤتمر الذي حضره أربعون من علماء الحديث، وعلماء الكلام انتخبهم يحيى بن أكثم من بين علماء بغداد، وقد أدلوا بحججهم على ما يذهبون إليه من تفضيل الخلفاء على الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام إلاّ أنّ المأمون فنّد حججهم بأدلة حاسمة دلّت على براعته واطلاعه الواسع في البحوث الكلامية، ونحن ننقل النص الكامل لهذه المناظرة الرائعة لما لها من الأهمية البالغة، وفيما يلي ذلك:

المأمون:

ولـمّا مثل العلماء أمام المأمون، التفت إليهم بعد ترحيبه بهم، فقال لهم: (إنّي أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي حجّة، فمن كان حاقناً(2) أو له حاجة فليقم إلى قضاء حاجته، وانبسطوا، وسلوا خفافكم، وضعوا أرديتكم).

____________________

(1) مروج الذهب 3 / 361.

(2) الحاقن: الذي يضايقه البول.

٢٣٠

ففعلوا ما أمرهم به، والتفت المأمون لهم قائلاً: (أيّها القوم إنّما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله تعالى، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم، وإمامكم، ولا يمنعكم جلالتي، ومكاني من قول الحق حيث كان، ورد الباطل، على من أتى به، وأشفقوا على أنفسكم من النار، وتقرّبوا إلى الله تعالى، برضوانه، وإيثار طاعته، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق، إلاّ سلّطه الله عليه، فناظروني بجميع عقولكم.

إنّي رجل أزعم أنّ عليّاًعليه‌السلام خير البشر بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فإن كنت مصيباً فصوّبوا قولي، وإن كنت مخطئاً فردّوا عليّ وهلمّوا، فإن شئتم سألتكم، وإن شئتم سألتموني...).

وليس في هذا الكلام أي التواء، أو خروج عن المنطق، وإنّما صاحبه يريد الحقيقة الناصعة.

علماء الحديث:

وسارع علماء الحديث قائلين: (بل نحن نسألك...).

وانبرى المأمون فأرشدهم إلى طريق الحوار قائلاً: (هاتوا وقلدوا كلامكم رجلاً واحداً منكم، فإذا تكلّم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزده وإن أتى بخلل فسدّدوه...)

الدليل الأوّل:

وأدلى عالم من علماء الحديث بحجّته على أنّ أبا بكر هو خير هذه الأمة بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله قائلاً:

(نحن نزعم أنّ خير الناس بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أبو بكر، من قبل الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول (ص) قال: (اقتدوا بالذين من بعدي أبو بكر وعمر) فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما، علمنا أنّه لم يأمر بالاقتداء إلاّ بخير الناس...).

جواب المأمون:

وناقش موضوع الحديث المنسوب إلى النبي (ص) نقاشاً موضوعياً فقال: (الروايات كثيرة، ولا بد من أن تكون كلها حقاً، أو كلها باطلاً، أو بعضها

٢٣١

حقاً، وبعضها باطلاً، فلو كانت كلها حقاً، كانت كلها باطلاً من قبل أن بعضها ينقض بعضها، ولو كانت كلها باطلاً كان في بطلانها بطلان الدين، ودرس الشريعة(1) فلمّا بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار، وهو أنّ بعضها حق، وبعضها باطل، فإذا كان كذلك فلا بد من دليل على ما يحق منها، ليعتقد، أو ينفي خلافه، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقاً كان أولى ما اعتقده، وأخذ به.

وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها، وذلك أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أحكم الحكماء، وأولى الخلق بالصدق، وأبعد الناس من الأمر بالمحال، وحمل الناس على التدين بالخلاف، وذلك أنّ هذين الرجلين لا يخلو من أن يكونا متفقين من كل جهة كانا واحداً في العدد والصفة والصورة والجسم، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة.

وإن كانا مختلفين فكيف يجوز الاقتداء بهما، وهذا تكليف بما لا يطاق؛ لأنّك إذا اقتديت بواحد خالفت الآخر، والدليل على اختلافهما، أنّ أبا بكر سبى أهل الردة، وردّهم عمر أحراراً، وأشار عمر بعزل خالد لقتله مالك بن نويرة فأبى أبو بكر عليه، وحرم عمر المتعتين ولم يفعل ذلك أبو بكر، ووضع عمر ديوان العطية، ولم يفعله أبو بكر، واستخلف أبو بكر ولم يفعل ذلك عمر، ولهذا نظائر كثيرة...).

وردّ المأمون وثيق للغاية، فقد زيف الحديث، وأثبت أنّه من الموضوعات، ولا نصيب له من الصحّة.

الدليل الثاني:

وانبرى عالم آخر من علماء الحديث فاستدل على أفضلية الشيخين وتقدّمهما على الإمام أمير المؤمنين بالحديث المنسوب إلى النبي (ص).

قال: (إنّ النبي (ص) قال: لو كنت متخذاً خليلا لاتخذت أبا بكر خليلاً...).

جواب المأمون:

وزيف المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل من قبل أنّ رواياتكم قد صرّحت أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، آخى بين أصحابه، وأخّر عليّاً

____________________

(1) أي إماتة الشريعة.

٢٣٢

عليه‌السلام ، فقال له: في ذلك فقال: وما أخرّتك إلاّ لنفسي، فأيّ الروايتين ثبتت بطلت الأخرى...).

إنّ مناقشة المأمون للحديث مناقشة موضوعية ليس فيها أي تحيّز، وإنّما كانت خاضعة للدليل الحاسم.

الدليل الثالث:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ عليّاًعليه‌السلام قال على المنبر: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر...).

مناقشة المأمون:

وناقش المأمون هذا الحديث قائلاً: هذا مستحيل لأنّ النبي (ص) لو علم أنّهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد، وممّا يكذب هذه الرواية قول علي لـمّا قبض النبي (ص): وأنا أولى بمجلسه منّي بقميصي، ولكن أشفقت أن يرجع الناس كفّاراً، وقولهعليه‌السلام : أنّى يكونان خيراً مني؟ وقد عبدت الله قبلهما، وعبدته بعدهما، وأبطل المأمون الحديث، وبين زيفه، فلم يصلح لأن يكون دليلاً للخصم.

الدليل الرابع:

وقال عالم من علماء الحديث: إنّ أبا بكر أغلق بابه وقال: هل من مستقيل فأقيله، فقالعليه‌السلام : قدّمك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله فمَن ذا يؤخرك؟).

ردّ المأمون للحديث:

ورد المأمون الحديث قائلاً: هذا باطل لأنّ عليّاًعليه‌السلام قعد عن بيعة أبي بكر، ورويتم أنّه قعد عنها حتى قبضت فاطمةعليها‌السلام ، وأنّها أوصت أن تدفن ليلاً لئلاّ يشهدا جنازتها.

ووجه آخر وهو أنّ النبي (ص) لو كان استخلفه فكيف كان له أن يستقيل، وهو يقول للأنصار: قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أبا عبيدة وعمر...).

الدليل الخامس:

وقال عالم آخر: إنّ عمرو بن العاص قال: يا نبي الله مَن أحب الناس إليك

٢٣٣

من النساء؟ قال: عائشة، فقال: من الرجال؟ فقال: أبوها...).

ردّ المأمون:

ورد المأمون هذا الحديث فقال: هذا باطل لأنّكم رويتم أن النبي (ص) وضع بين يديه طائر مشوي، فقال: اللّهمّ ايتني بأحبّ خلقك إليك، فكان عليّاً، فأي رواياتكم تقبل؟).

إنّ حديث الطائر المشوي مجمع عليه، وهو يدل بوضوح على أنّ الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام أحبّ الخلق عند الله، وأقربهم إليه.

الدليل السادس:

وانبرى عالم آخر فقال: (إنّ عليّاً قال: مَن فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري...).

جواب المأمون:

وأجاب المأمون عن هذا الحديث المنسوب إلى الإمام أمير المؤمنينعليه‌السلام بقوله:

(كيف يجوز أن يقول علي: أجلد الحد على مَن لا يجب حد عليه، فيكون متعدّياً لحدود الله، عاملاً بخلاف أمره، وليس تفضيل من فضله عليهما فرية، وقد رويتم عن إمامكم أنّه قال: وليتكم ولست بخيركم، فأي الرجلين أصدق عندكم أبو بكر على نفسه، أو علي على أبي بكر، مع تناقض الحديث في نفسه، ولا بد له من أن يكون صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً فأنّى عرف ذلك بوحي؟ فالوحي منقطع أو بالتظنين فالمتظنّي متحيّر، أو بالنظر، فالنظر بحث وإن كان غير صادق، فمن المحال أن يلي أمر المسلمين، ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم كذاب...).

الدليل السابع:

وقال عالم آخر: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قال: أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا الحديث محال لأنّه لا يكون في الجنة كهل، ويروى أن (أشحمية) كانت عند النبي (ص) فقال: لا يدخل الجنة عجوز فبكت، فقال لها

٢٣٤

النبي (ص): إنّ الله تعالى يقول:( أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُباً أَتْرَاباً ) (1) فإن زعمتم أنّ أبا بكر ينشأ شاباً إذا دخل الجنة، فقد رويتم أنّ النبي (ص) قال للحسن والحسين: إنّهما سيّدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين وأبوهما خير منهما).

ومناقشة المأمون للحديث مناقشة منطقية غير خاضعة للأهواء والتيارات المذهبية.

الدليل الثامن:

وقال عالم آخر من علماء الحديث: (إنّ النبي (ص) قال: لو لم أكن أبعث فيكم لبعث عمر...).

جواب المأمون:

قال المأمون في تفنيد هذا الحديث: هذا محال لأنّ الله تعالى يقول:( إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ) (2) ، وقال تعالى:( وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ) (3) ، فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوّة مبعوثاً؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوّة مؤخراً؟...).

إنّ مناقشة المأمون لهذه الأحاديث مبنيّة على الفكر والمنطق وليس فيها ما يشذ عنهما.

الدليل التاسع:

وانبرى عالم آخر فأدلى بحجّته قائلاً: (إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم، فقال: إنّ الله تبارك وتعالى باهى بعباده عامة، وبعمر خاصة...).

جواب المأمون:

وقال المأمون في ردّه على هذا الحديث: هذا مستحيل لأنّ الله تبارك وتعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة.

وليست هذه الروايات بأعجب من روايتكم أنّ النبي (ص) قال: دخلت الجنة

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 35 - 37.

(2) سورة النساء: آية 163.

(3) سورة الأحزاب آية 7.

٢٣٥

فسمعت خفق نعلين فإذا بلال مولى أبي بكر سبقني إلى الجنة، فقلتم: عبد أبي بكر خير من الرسول (ص) لأنّ السابق أفضل من المسبوق...).

الدليل العاشر:

وانبرى محدّث آخر فقال: إنّ النبي (ص) قال: لو نزل العذاب ما نجا إلاّ عمر بن الخطاب...).

جواب المأمون:

قال المأمون: هذا خلاف الكتاب أيضاً؛ لأنّ الله تعالى يقول لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ) (1) فجعلتم عمر مثل الرسول (ص)!!...).

الدليل الحادي عشر:

وقال محدث آخر: لقد شهد النبي (ص) لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة.

مناقشة المأمون:

قال المأمون: لو كان كما زعمتم لكان عمر لا يقول لحذيفة: نشدتك بالله أمن المنافقين أنا؟ فإن كان قد قال له النبي: أنت من أهل الجنة، ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة، فصدق حذيفة، ولم يصدق النبي (ص) فهذا على غير الإسلام، وإن كان قد صدق النبي (ص) فلم سأل حذيفة؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما).

الدليل الثاني عشر:

وقال عالم آخر: قال النبي (ص): (وضعت في كفّة الميزان ووضعت أمّتي في كفة أخرى فرجحت بهم، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم، ثم عمر فرجح بهم ثم رُفع الميزان).

جواب المأمون:

وفنّد المأمون هذا الحديث فقال: هذا محال لأنّه لا يخلو من أن يكون أجسامهما أو أعمالهما، فإن كانت الأجسام فلا يخفى على ذي روح أنّه محال؛ لأنّه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة، وإن كانت أفعالهما فلم تكن بعد فكيف بما ليس؟.

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم:

____________________

(1) سورة الأنفال: آية 33.

٢٣٦

(أخبروني بماذا يتفاضل الناس؟).

وانبرى بعض العلماء فقال: (يتفاضلون بالأعمال الصالحة).

وعلّق المأمون على هذا الكلام قائلاً: (أخبروني ممّن فضل صاحبه على عهد النبي (ص)، ثم إنّ المفضول عمل بعد وفاة الرسول (ص) بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي (ص) ثم أيلحق به؟ فإن قلتم: نعم أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهاداً، وحجّاً، وصوماً، وصلاة، وصدقة من أحدهم...).

فانبروا جميعاً قائلين: (صدقت لا يلحق فاضل دهرنا بفاضل عصر النبي (ص)).

فقال لهم المأمون: (انظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل عليعليه‌السلام وقيسوا إليها ما ورد في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة فإن كانت جزءاً من أجزاء كثيرة فالقول قولكم، وإن كانوا قد رووا في فضائل عليعليه‌السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تتعدّوه...).

وحار القوم في الجواب، فقد سدّ عليهم المأمون كل ثغرة يسلكون فيها للدفاع عمّا يذهبون إليه، والتفت إليهم المأمون قائلاً:

(ما لكم سكتّم؟...).

فقالوا: (قد استقصينا)، إذ لم تبق عندهم حجّة يتمسّكون بها، فقال لهم المأمون: (إنّي سائلكم، أخبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيهصلى‌الله‌عليه‌وآله ...).

فقالوا جميعاً: (السبق إلى الإسلام؛ لأنّ الله تعالى يقول:( وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ ) (1) ...).

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

٢٣٧

وسارع المأمون قائلاً: (فهل علمتم أحداً أسبق من علي إلى الإسلام؟...).

وارتفعت أصواتهم قائلين: (إنّه - أي علي - سبق حدثاً لم يجر عليه حكم، وأبو بكر أسلم كهلاً قد جرى عليه الحكم - أي التكليف - وبين هاتين الحالتين فرق...).

وأجاب المأمون قائلاً: (خبروني عن إسلام علي بالهام من قبل الله تعالى أم بدعاء النبي (ص)؟ فإن قلتم: بإلهام فقد فضلتموه على النبي (ص)؛ لأنّ النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عن الله تعالى داعياً، ومعرفاً، وإن قلتم بدعاء النبي (ص) فهل دعاه من قبل نفسه أو بأمر الله تعالى، فإن قلتم: من قبل نفسه فهذا خلاف ما وصف الله تعالى به نبيّه في قوله:( وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ) (1) وفي قوله تعالى:( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحَى ) (2) ، وإن كان من قبل الله تعالى فقد أمر الله تعالى نبيّه (ص) بدعاء علي من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم، فدعاه ثقة به، وعلماً بتأييد الله تعالى.

وخلّة أخرى: خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلّف خلقه ما لا يطيقون، فإن قلتم: نعم فقد كفرتم، وإن قلتم: لا، فكيف يجوز أن يأمر نبيه (ص) بدعاء من لا يمكنه قبول ما يؤمر به لصغره وحداثة سنّه، وضعفه عن القبول.

وعلّة أخرى هل رأيتم النبي (ص) دعا أحداً من صبيان أهله وغيرهم فيكونوا أسوة مع علي، فإن زعمتم أنّه لم يدع أحداً غيره، فهذه فضيلة لعلي على جميع صبيان الناس).

والتفت المأمون إلى العلماء فقال لهم: (أي الأعمال بعد السبق إلى الإيمان؟...).

فقالوا جميعاً: (الجهاد في سبيل الله...).

وانبرى المأمون يقيم عليهم الحجّة في تقديم الإمام علي غيره بالفضل قائلاً:

____________________

(1) سورة الواقعة: آية 10 - 11.

(2) سورة ص: آية 3 - 4.

٢٣٨

هل تجدون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعليعليه‌السلام في جميع مواقف النبي (ص) من الأثر؟ هذه (بدر) قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلاً، قتل علي منهم نيفاً وعشرين، وأربعون لسائر الناس...).

وانبرى عالم من علماء الحديث فقال: (كان أبو بكر مع النبي (ص) في عريشه يدبّرها).

فردّ عليه المأمون قائلاً: (لقد جئت بهذا عجيبة!! كان يدبّر دون النبي (ص) أو معه فيشركه، أو لحاجة النبي (ص) إلى رأي أبي بكر؟ أي الثلاث أحب إليك؟).

وأجاب العالم: (أعوذ بالله من أن أزعم أنّه يدبّر دون النبي (ص) أو يشركه أو بافتقار من النبي إليه).

(وردّ عليه المأمون قائلاً: فما الفضيلة في العريش؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلّفه عن الحرب، فيجب أن يكون كل متخلّف فاضلاً أفضل من المجاهدين والله عزّ وجل يقول:( لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ) (1) .

ووجّه المأمون خطابه إلى إسحاق بن حماد بن زيد، وهو من كبار علماء الحديث فقال له: (اقرأ سورة هل أتى).

وأخذ إسحاق في قراءة السورة فلمّا انتهى إلى قوله تعالى:( وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إلى قوله:وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً ) (2) .

قال له المأمون:

____________________

(1) سورة النساء: آية 95.

٢٣٩

(فيمَن نزلت هذه الآيات؟).

(في علي...).

وانبرى المأمون قائلاً: (هل بلغك أنّ عليّاًعليه‌السلام قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير( إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً ) (1) على ما وصف الله تعالى في كتابه.

(لا...).

(إنّ الله تعالى عرف سريرة علي ونيّته فاظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره...

هل علمت أنّ الله تعالى وصف في شيء ممّا وصف في الجنة، ما في هذه السورة:( قوارير من فضة... ) .

(لا...).

(فهذه فضيلة أخرى، كيف تكون القوارير من فضة؟).

(لا أدري).

(يريد كأنّها من صفائها من فضة يرى داخلها كما يرى خارجها، وهذا مثل قولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (يا إسحاق رويدا شوقك بالقوارير) وعنى به نساء كأنّها القوارير رقّة، وقولهصلى‌الله‌عليه‌وآله : (ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحراً) أي كأنّه بحر من كثرة جريه وعدوه، وكقول الله تعالى:( وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ) (2) أي كأنّه يأتيه الموت، ولو أتاه من مكان

واحد مات.

يا إسحاق ألست ممّن يشهد أنّ العشرة في الجنة؟).

(بلى...).

(أرأيت لو أنّ رجلاً قال: ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا أكان عندك

____________________

(1) سورة الدهر: آية 9.

(2) سورة إبراهيم: آية 17.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375