تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75876 / تحميل: 9808
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

ذكر وفاة سعد الدولة بن حمدان:

(وفي هذه السنة (٣٨١): لمّا برز سعد الدولة ليسير إلى دمشق لحقه (قُولنج)، فعاد إلى حلب ليتداوى، فزال ما به وعُوفي، وعزم على العود إلى معسكره، وحضر عند إحدى سراريه فواقعها فسقط عنها وقد فُلِج وبطل نصفه، فاستدعى الطبيب، فقال له: أعطني يدك لآخُذ مجسّك ؛ فأعطاه اليُسرى، فقال: أعطني اليمين، فقال: لا تركت لي اليمين يميناً، يعني نكثه بأولاد بكجور هو الذي أهلكه، وقد ذُكر ذلك، وندم عليه حيث لم تنفعه الندامة، وعاش بعد ذلك ثلاثة أيّام ومات بعد أن عهد إلى ولده أبي الفضائل، ووصّى إلى لؤلؤ به وبسائر أهله.

فلمّا تُوفّي قام أبو الفضائل، وأخذ له لؤلؤ العهد على الأجناد، وتراجعت العساكر إلى حلب.

وكان الوزير أبو الحسن المغربيُّ قد سار من مشهد علي (عليه السلام) إلى العزيز بمصر، وأطمعه في حلب، فسيّر جيشاً وعليهم منجوتكين أحد أمرائه إلى حلب، فسار إليها في جيشٍ كثيفٍ فحصرها، وبها أبو الفضائل ولؤلؤ، فكتبا إلى (بَسِيل) ملك الروم يستنجدانه، وهو يقاتل البلغار، فأرسل بسيل إلى نائبه بأنطاكية يأمره بإنجاد أبي الفضائل، فسار في خمسين ألفاً، حتّى نزل على الجسر الجديد بالعاصي، فلمّا سمع منجوتكين الخبر سار إلى الروم ليلقاهم قبل اجتماعهم بأبي الفضائل، وعبر إليهم العاصي، وأوقعوا بالروم فهزموهم وولّوا الأدبار إلى أنطاكية، وكثر القتل فيهم.

وسار منجوتكين إلى أنطاكية، فنهب بلدها وقُراها وأحرقها، وأنفذ أبو الفضائل إلى بلد حلب، فنقل ما فيه من الغلال، وأحرق الباقي إضراراً بعساكر مصر، وعاد منجوتكين إلى حلب فحصرها، فأرسل لؤلؤ إلى أبي الحسن المغربيّ وغيره، وبذل لهم مالاً ليردّوا منجوتكين عنهم، هذه السنة ؛ بعلّة تعذّر الأقوات، ففعلوا ذلك، وكان منجوتكين قد ضجر من الحرب، فأجابهم إليه وسار إلى دمشق.

ولمّا بلغ الخبر إلى العزيز غضب وكتب بعود العسكر إلى حلب، وإبعاد المغربيّ، وأنفذ الأقوات من مصر في البحر إلى طرابلس، ومنها إلى العسكر، فنازل العسكر حلب، وأقاموا عليها ثلاثة عشر شهراً، فقلّت الأقوات بحلب.

١٤١

وعاد إلى مراسلة ملك الروم والاعتضاد به، وقال له: متى أُخذت حلب أُخذت أنطاكية وعظم عليك الخطب.

وكان قد توسّط بلاد البلغار، فعاد وجدّ في السير، وكان الزّمان ربيعاً، وعسكر مصر قد أرسل إلى منجوتكين يعرّفه الحال، وأتته جواسيسه بمثل ذلك، فأخرب ما كان بناه من سوقٍ وحمّامٍ وغير ذلك، وسار كالمنهزم عن حلب، ووصل ملك الروم فنزل على باب حلب، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ، وعاد إلى حلب، ورحل بَسيل إلى الشام، ففتح حمص وشيزر ونهبهما، وسار إلى طرابلس فنازلها، فامتنعت عليه، وأقام عليها نيّفاً وأربعين يوماً، فلمّا أيس منها عاد إلى بلاد الروم.

ولمّا بلغ الخبر إلى العزيز عظم عليه، ونادى في الناس بالنفير لغزو الروم، وبرز من القاهرة، وحدثت به أمراض منعتْه، وأدركه الموت)(١) .

(وفي حوادث سنة ٤٠٢):

أسر صالح بن مرداس وملكه حلب وملك أولاده

(ثمّ إنّ لؤلؤاً من موالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان قوي على ولد سعد الدولة، وأخذ البلد منه، وخطب للحاكم صاحب مصر، ولقّبه الحاكم مرتضى الدولة، ثمّ فسد ما بينهما، فطمع فيه ابن مرداس، وبنو كلاب)(٢) ، واستولوا على حلب، (وتنقَّلتْ فيهم وفي غيرهم إلى أن صارت بيد إنسان من الحمدانيَّة يُعرف بعزيز الملك، فقدّمه الحاكم واصطنعه وولاّه حلب، فلمّا قُتل الحاكم ووليَ الظاهر عصى عليه)(٣) ، وقُتل بسعيٍ أخت الحاكم.

(وكان أبو علوان ثمال بن صالح بن مرداس الملقّب بمعزّ الدولة بالرحبة، فلمّا بلغه موت (الدزبريّ) جاء إلى حلب فملكها تسليماً من أهلها سنة ٤٣٤، وبقي فيها إلى سنة ٤٤٠، فأنفذ المصريّون إلى محاربته أبا عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان، فخرج أهل حلب إلى حربه، فهزمهم، ثمّ

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٨٥ - ٨٦ - ٨٧ - ٨٨ - ٨٩ - ٩٠.

(٢) م ٩ ص ٢٢٧ - ٢٢٨.

(٣) م ٩ ص ٢٣٠.

١٤٢

رحل عنها وعاد إلى مصر، ثمّ أنفذ المصريّون إلى قتال معزّ الدولة خادماً يُعرف برِفْق فخرج إليه في أهل حلب، فقاتلوه، فانهزم المصريّون، وأُسر رِفْق ومات عندهم.

ثمّ إنّ معزّ الدولة بعد ذلك أرسل الهدايا إلى المصريين، وأصلح أمره معهم، ونزل لهم عن حلب، فأنفذوا إليها أبا عليّ الحسن بن عليّ بن ملهم ولقّبوه مكين الدولة، فتسلّمها من ثمال في ذي القعدة سنة تسع وأربعين وأربعمئة.

وسار ثمال إلى مصر، وأقام ابن ملهم بحلب، فجرى بين بعض السودان وأحداث حلب حرب.

وسمع ابن ملهم أنّ بعض أهل حلب قد كاتب محمود بن شبل الدولة نصر بن صالح يستدعونه ليسلّموا البلد إليه، فقبض على جماعةٍ منهم....

ثمّ اجتمع أهل البلد، واشتدّوا، وراسلوا محموداً فجاء إلى حلب سنة ٤٥٢.

ووصلت الأخبار إلى مصر، فسيّروا ناصر الدولة أبا عليّ بن ناصر الدولة بن حمدان في عسكرٍ بعد اثنين وثلاثين يوماً من دخول محمود حلب، فلمّا قارب البلد خرج محمود عن حلب إلى البرّيّة، واختفى الأحداث جميعهم، وكان عطية بن صالح نازلاً بقرب البلد، وقد كره فعل محمود ابن أخيه، فقبض ابن ملهم على مئةٍ وخمسين من الأحداث، ونهب وسط البلد، وأخذ أموال الناس.

وأمّا ناصر الدولة فلم يمكّن أصحابه من دخول البلد ونهْبه، وسار في طلب محمود فالتقيا بالغُنَيْدق في رجب، فانهزم ابن حمدان، وثبت هو فجُرح وحُمل إلى محمد أسيراً، فأخذه وسار إلى حلب فملكها، وملك القلعة في شعبان سنة اثنتين وخمسين وأربعمئة، وأطلق ابن حمدان، فسار هو وابن ملهم إلى مصر)(١) .

ثمّ جرت هنالك عدّة معارك انتهت بتسلّم ثمال حلب، ثمّ أخيراً بخروجها من ملك بني مرداس.

____________________

(١) الكامل، م ٩ ص ٢٣١ - ٢٣٢ - ٢٣٣.

١٤٣

(وفي حوادث سنة ٤٥٢): ملك محمود بن شبل الدولة حلب

(لمّا حصر محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس الكلابيُّ مدينةً حلب، كتب أهلها إلى مصر يستنجدون عليه المستنصر بالله، فأمر ناصر الدولة أبا محمّد الحسين بن الحسن بن حمدان الأمير بدمشق، أن يسير بمَن عنده من العساكر إلى حلب يمنعها من محمود، فسار إلى حلب)(١) .

وانتهى الأمر بانهزام ناصر الدولة.

(وفي حوادث سنة ٤٦٥): ذكر قتل ناصر الدولة بن حمدان

(في هذه السنة قُتل ناصر الدولة أبو عليّ الحسن بن حمدان، وهو من أولاد ناصر الدولة بن حمدان، بمصر، وكان قد تقدّم فيها تقدّماً عظيماً)(٢) .

(والأسباب الموجبة لقتله تُلخص عن الكامل بأُمور:

أ - انحلال أمر الخلافة، وفساد أحوال المستنصر بالله، وسببه غلبة والدته على أمره، وقد اصطنعت أبا سعيد إبراهيم التُّستَريّ اليهوديّ، وصار وزيراً لها، فأشار عليها بوزارة أبي نصر الفلاحيّ، فولته الوزارة، واتّفقا مدّةً، ثمّ صار الفلاحيُّ ينفرد بالتدبير، فوقع بينهما وحشة، فخاف الفلاحيّ أن يفسد أمره مع أمّ المستنصر، فاصطنع الغلمان الأتراك، واستمالهم، وزاد في أرزاقهم، فلمّا وثق بهم وضعهم على قتل اليهوديّ، فقتلوه، فعظم الأمر على أمّ المستنصر، وأغرت به ولدها، فقبض عليه، وأرسلت من قتله تلك الليلة)(٣) .

وأخذت تـنقل الوزارة من رجلٍ إلى آخر، واستكثرت من العبيد لتضرب بهم الأتراك، حتّى أدّى الحال ببعضهم أن ضرب المستنصر فجرحه، فعظم ذلك على الأتراك، ونشبت بينهم وبين العبيد الحرب، واستحكمت بين الفريقين العداوة، ونشطهم على الأتراك الوزير أبو عبد الله

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ١١ - ١٢.

(٢) ص ١٠ ص ٨٠.

(٣) م ١٠ ص ٨٠ - ٨١.

١٤٤

الحسين بن البابليّ ؛ فاجتمع الأتراك إلى مقدّميهم، وقصدوا ناصر الدولة بن حمدان، وهو أكبر قائد بمصر، وشكوا إليه، واستمالوا المصامدة، وكتامة، وتعاهدوا وتعاقدوا فقوي الأتراك وضعف العبيد المحدثون، فخرجوا من القاهرة إلى الصعيد ليجتمعوا هناك، فانضاف إليهم خلقٌ كثير يزيدون على خمسين ألف فارسٍ وراجل، فخاف الأتراك وشكوا إلى المستنصر، فأعاد الجواب أنّه لا علم له بما فعل العبيد، وأنّه لا حقيقة له، فظنّوا قوله حيلة عليهم.

ثمّ قوي الخبر بقرب العبيد منهم بكثرتهم، فأجفل الأتراك وكتامة والمصامدة، وكانت عدّتهم ستّة آلاف، فالتقوا بموضعٍ يُعرف بكَوْمِ الرّيش، واقتتلوا فانهزم الأتراك ومَن معهم إلى القاهرة، وكان بعضهم قد كمن في خمسمئة فارس، فلمّا انهزم الأتراك خرج الكمين على ساقة العبيد ومَنْ معهم، وحملوا عليهم حملةً منكرة، وضُربت البوقات، فارتاع العبيد، وظنّوها مكيدةً من المستنصر، وأنّه قد ركب في باقي العسكر، فانهزموا، وعاد عليهم الأتراك وحكّموا فيهم السيوف، فقتل منهم وغرق نحو أربعين ألفاً، وكان يوماً مشهوداً.

وقويت نفوس الأتراك، وتجمّعوا وحشدوا، فتضاعفت عدّتهم، وزادت واجباتهم للإنفاق فيهم، فخلت الخزائن، واضطربت الأُمور، وتجمّع باقي العسكر من الشام وغيره إلى الصعيد، فاجتمعوا مع العبيد فصاروا خمسة عشر ألف فارسٍ وراجل، وساروا إلى الجيزة، فخرج عليهم الأتراك ومَنْ معهم، واقتتلوا في الماء عدّة أيّام، ثمّ عبر الأتراك النّيل إليهم مع ناصر الدولة بن حمدان، فاقتتلوا، فانهزم العبيد إلى الصعيد، وعاد ناصر الدولة والأتراك منصورين.

ثمّ إنّ العبيد اجتمعوا بالصعيد في خمسة عشر ألف فارسٍ وراجل، فقلق الأتراك لذلك، فحضر مقدّموهم دار المستنصر لشكوى حالهم، فأمرت أمّ المستنصر مَنْ عندها من العبيد بالهجوم على المقدّمين والفتك بهم، ففعلوا ذلك، وسمع ناصر الدولة بالخبر، فهرب إلى ظاهر البلد، واجتمع الأتراك إليه، ووقعت الحرب بينهم وبين العبيد، ومَن تبعهم من مصر، والقاهرة، وحلف الأمير ناصر الدولة بن حمدان أنّه لا ينزل عن فرسه ولا يذوق طعاماً، حتّى ينفصل الحال بينهم، فبقيت الحرب ثلاثة

١٤٥

أيّام، ثمّ ظفر بهم ناصر الدّولة، وأكثر القتل فيهم، ومن سلم هرب، وزالت دولتهم من القاهرة.

وكان بالإسكندرية جماعةٌ كثيرةٌ من العبيد، فلمّا كانت هذه الحادثة طلبوا الأمان، فأُمّنوا وأُخذت منهم الإسكندريّة، وبقي العبيد الذين بالصعيد.

فلمّا خلت الدولة للأتراك طمعوا في المستنصر، وقلّ ناموسه عندهم، وطلبوا الأموال، فخلت الخزائن، فلم يبق فيها شيءٌ البتّة، واختلّ ارتفاع الأعمال، وهم يطالبون، واعتذر المستنصر بعدم الأموال عنده، فطلب ناصر الدولة العروض، فأُخرجت إليهم، وقوِّمت بالثمن البخس، وصُرفت إلى الجند، قيل إنّ واجب الأتراك كان في الشهر عشرين ألف دينار، فصار الآن في الشهر أربعمئة ألف دينار.

وأمّا العبيد بالصعيد فإنّهم أفسدوا، وقطعوا الطريق، وأضاقوا السبيل، فسار إليهم ناصر الدولة في عسكرٍ كثير، فمضى العبيد من بين يدَيْه إلى الصعيد الأعلى، فأدركهم، فقاتلهم، وقاتلوه، فانهزم ناصر الدولة منهم وعاد إلى الجيزة بمصر، واجتمع إليه مَن سلم من أصحابه، وشغبوا على المستنصر، واتّهموه بتقوية العبيد والميل إليهم، ثمّ جهّزوا جيشاً وسيّروه إلى طائفةٍ من العبيد بالصعيد، وقاتلوهم، فقُتلت تلك الطائفة من العبيد، فوهن الباقون، وزالت دولتهم.

وعظم أمر ناصر الدولة، وقويت شوكته، وتفرّد بالأمر دون الأتراك، فامتنعوا من ذلك، وعظم عليهم، وفسدت نيّاتهم له، فشكوا ذلك إلى الوزير، وقالوا: كلّما خرج من الخليفة مالٌ أخذ أكثره له ولحاشيته، ولا يصل إلينا منه إلاّ القليل.

فقال الوزير: إنّما وصل إلى هذا وغيره بكم، فلو فارقتموه لم يتمّ له أمر، فاتّفق رأيهم على مفارقة ناصر الدولة، وإخراجه من مصر، فاجتمعوا، وشكوا إلى المستنصر، وسألوه أن يخرج عنهم ناصر الدولة، فأرسل إليه يأمره بالخروج، ويتهدّده إن لم يفعل، فخرج من القاهرة إلى الجيزة، ونُهبت داره ودور حواشيه وأصحابه.

فلمّا كان الليل دخل ناصر الدولة مستخفياً إلى القائد المعروف بتاج الملوك (شاذي)، فقبّل رجله، وقال: اصطنعني! فقال: أفعل، فحالفه على

١٤٦

قتل مقدّم من الأتراك اسمه (الدكز)، والوزير الخطير، وقال ناصر الدولة لشاذي: تركب في أصحابك، وتسير بين القصرَيْن، فإذا أمكنتك الفرصة فيهما فاقتلهما.

وعاد ناصر الدولة إلى موضعه إلى الجيزة. وفعل شاذي ما أمره، فركب الدكز إلى القصر، فرأى شاذي في جمعه، فأنكره، وأسرع فدخل القصر، ففاته، ثمّ أقبل الوزير في موكبه، فقتله شاذي، وأرسل إلى ناصر الدولة يأمره بالركوب، فركب إلى باب القاهرة، فقال الدكز للمستنصر: إن لم تركب، وإلاّ هلكت أنت ونحن. فركب، ولبس سلاحه، وتبعه خلقٌ عظيمٌ من العامّة والجند، واصطفّوا للقتال، فحمل الأتراك على ناصر الدولة فانهزم، وقُتل من أصحابه خلقٌ كثير، ومضى منهزماً على وجهه لا يلوي على شيء، وتبعه فلُّ أصحابه، فوصل إلى (بني سِنبِس)، فأقام عندهم وصاهرهم فقوي بهم.

وتجهّزت العساكر إليه ليبعدوه، فساروا حتّى قربوا منه، وكانوا ثلاث طوائف، فأراد أحد المقدّمين أن يفوز بالظّفر وحده دون أصحابه، فعبر فيمن معه إلى ناصر الدولة، وحمل عليه فقاتله، فظفر به ناصر الدولة، فأخذه أسيراً، وأكثر القتل في أصحابه، وعبر العسكر الثاني، ولم يشعروا بما جرى على أصحابهم، فحمل ناصر الدولة عليهم، ورفع رؤوس القتلى على الرّماح، فوقع الرعب في قلوبهم، فانهزموا وقُتل أكثرهم، وقويت نفس ناصر الدولة.

وعبر العسكر الثالث، فهزمه وأكثر القتل فيهم وأسر مقدّمهم، وعظم أمره ونهب الرّيف فأقطعه، وقطع الميرة عن مصر برّاً وبحراً، فغلت الأسعار بها، وكثر الموت بالجوع، وامتدّت أيدي الجند بالقاهرة إلى النهب والقتل، وعظم الوباء حتّى إنّ البيت الواحد كانوا يموتون كلّهم في ليلةٍ واحدة)(١) .

إلى أن قال:

(وقطع ناصر الدولة الطريق برّاً وبحراً، فهلك العالم، ومات أكثر

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ٨١ - ٨٢ - ٨٣ - ٨٤ - ٨٥.

١٤٧

أصحاب المستنصر، وتفرّق كثيرٌ منهم، فراسل الأتراك من القاهرة ناصر الدولة في الصّلح، فاصطلحوا على أن يكون تاج الملوك شاذي نائباً عن ناصر الدولة بالقاهرة، يحمل المال إليه، ولا يبقى معه لأحدٍ حكم.

فلمّا دخل تاج الملوك إلى القاهرة تعيّر عن القاعدة، واستبدّ بالأموال دون ناصر الدولة، ولم يرسل إليه منها شيئاً، فسار ناصر الدولة إلى الجيزة، واستدعى إليه شاذي وغيره من مقدّمي الأتراك، فخرجوا إليه إلاّ أقلّهم، فقبض عليهم كلّهم، ونهب ناحيتَيْ مصر، وأحرق كثيراً منهما، فسيّر إليه المستنصر عسكراً فكبسوه، فانهزم منهم ومضى هارباً، فجمع جمعاً، وعاد إليهم فقاتلهم فهزمهم، وقطع خطبة المستنصر بالإسكندريّة ودمياط، وكانا معه، وكذلك جميع الرّيف، وأرسل إلى الخليفة ببغداد يطلب خِلعاً ليخطب له بمصر.

واضمحلّ أمر المستنصر، وبطل ذكره، وتفرّق الناس من القاهرة، وأرسل ناصر الدولة إليه - أيضاً - يطلب المال، فرآه الرسول جالساً على حصير، وليس حوله غير ثلاثة خدم، ولم ير الرسول شيئاً من آثار المملكة، فلمّا أدّى الرسالة قال: أما يكفي ناصر الدولة أن أجلس في مثل هذا البيت على مثل هذا الحصير؟... فبكى الرسول، وعاد إلى ناصر الدولة فأخبره الخبر، فأجرى له كلّ يومٍ مئة دينار، وعاد إلى القاهرة، وحكم فيها، وأذلّ السلطان وأصحابه.

وكان الذي حمله على ذلك أنّه كان يُظهر التسنّن من بين أهله، ويعيب المستنصر، وكان المغاربة كذلك فأعانوه على ما أراد، وقبض على أمّ المستنصر، وصادرها بخمسين ألف دينار، وتفرّق عن المستنصر أولاده وكثيرٌ من أهله إلى الغرب، وغيره من البلاد، فمات كثيرٌ منهم جوعاً.

وانقضت سنة أربع وستّين وأربعمئة، وما قبلها بالفتن، وانحطّ السعر سنة خمس وستّين وأربعمئة، ورخصت الأسعار، وبالغ ناصر الدولة في إهانة المستنصر، وفرّق عنه عامّة أصحابه، وكان يقول لأحدهم: إنّني أُريد أن أولّيك عمل كذا ؛ فيسير إليه، فلا يمكّنه من العمل ويمنعه من العود، وكان غرضه بذلك أن يخطب لخليفة القائم بأمر الله، ولا يمكنه مع وجودهم، ففطن لفعله قائدٌ كبيرٌ مِن الأتراك اسمه (الدكز)، وعلم أنّه متى

١٤٨

ما تمّ له ما أراد تمكّن منه ومن أصحابه، فأطْلع على ذلك غيره من قوّاد الأتراك، فاتّفقوا على قتل ناصر الدولة، وكان قد أمن لقوّته، وعدم قُوّةٍ عدوّه، فتواعدوا ليلةً على ذلك، فلمّا كان سَحَر الليلة التي تواعدوا فيها على قتله جاؤوا إلى باب داره، وهي التي تُعرف بمنازل العزّ، وهي على النيل، فدخلوا مِن غير استئذان، إلى صحن داره، فخرج إليهم ناصر الدولة في رداء ؛ لأنّه كان آمناً منهم، فلمّا دنا منهم ضربوه بالسيوف، فسبّهم وهرب منهم يريد الحرم، فلحقوه فضروه حتّى قتلوه، وأخذوا رأسه.

ومضى رجلٌ منهم، يُعرف بكوكب الدولة، إلى فخر العرب، أخي ناصر الدولة، وكان فخر العرب كثير الإحسان إليه، فقال للحاجب:

استأذن لي على فخر العرب، وقُل صنيعتك فلان على الباب، فاستأذن له ؛ فأذن له وقال: لعلّه قد دهمه أمر.

فلمّا دخل عليه أسرع نحوه كأنّه يريد السلام عليه. وضربه بالسيف على كتفه، فسقط إلى الأرض، فقطع رأسه، وأخذ سيفه، وكان ذا قيمةٍ وافرة، وأخذ جاريةً له أردفها خلفه، وتوجّه إلى القاهرة، وقُتل أخوهما تاج المعالي، وانقطع ذكر الحمدانيّة بمصر بالكلّيّة)(١) .

ما جاء عن بني حمدان في كتاب:

نخب تاريخية وأدبيّة جامعة لأخبار سيف الدولة الحمداني.

- لجامعه الشيخ ماريوس كانار الأستاذ بكلية الآداب بالجزائر - طبع بالجزائر سنة ١٩٣٤.

لمّا رأى الراضي وقوف الحال عنده، قلّد أبا بكر محمد بن رائق إمارة الجيش، وجعله أمير الأمراء، وولاّه الخراج والمعاون في جميع البلاد، والدواوين، وأمر بأن يُخطب له على المنابر، فأصعد ابن رائق إلى بغداد، وخلع الخليفة عليه أواخر ذي الحجّة، وبطلت الدواوين من ذلك الوقت، وبطلت الوزارة، فلم يكن الوزير ينظر في شيءٍ من الأُمور، إنّما كان ابن رائق وكاتبه ينظران في الأُمور جميعها، وكذلك كل مَن تولّى إمرة

____________________

(١) الكامل، م ١٠ ص ٨٥ - ٨٦ - ٨٧.

١٤٩

الأمراء بعده. وصارت الأموال تُحمل إلى خزائنهم فيتصرّفون فيها كما يريدون، وبطلت بيوت الأموال وتغلّب أصحاب الأطراف، وزالت عنهم الطاعة، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم في جميعها لابن رائق، ليس للخليفة حكم، وأمّا باقي الأطراف، فكانت البصرة في يد ابن رائق، وخوزستان في يد البريدي)(١) .

إلى غير ذلك من تغلّب عمّال الدولة على ما بأيديهم ممّا تقدّم ذكره.

(قال في سنة ٣٣٠:

سار البريديّون من واسط إلى بغداد، وبها المتّقي لله وابن رائق، فكتب المتّقي كتاباً، وأنفذ رسولاً إلى ناصر الدولة يعرّفه ما أظلّه من البريديين، ويسأله الانحدار لنصرته، فكتب ناصر الدولة إلى سيف الدولة وهو بنصيبين يحثّه على المسير، وإلى أن وافى بغداد وافى ابن البريدي وقد نشبت الحرب بينه وبين ابن رائق، وانهزم ابن رائق، وتحصّن في دار الخليفة، ثمّ خرج منها ومعه الخليفة وابنه على أقبح صورةٍ على دابّتين بغير غلام، وخرج عامّة الكتّاب والقوّاد على أقبح من هذه الصّورة.

وملك البريدي بغداد، وتحكّم فيها بما أراد من القتل والسلب واستخراج الأموال والتشفّي من الأعداء، واحتوى على دار الخلافة وجميع ما فيها.

وسار الخليفة وجماعةٌ من أرباب الدولة إلى تكريت عراةً بأسوأ حال، وأكثرهم رجّالة. فلمّا سار سيف الدولة ببعض الطريق، واتّصل به ما حلّ بالسلطان، أغذّ السير، وخرج ابن رائق إليه فتلقاه وسار معه حتّى وصل إلى الخليفة، فشكا إليه ما ناله، واستخبره عن ناصر الدولة فعرفه أنّه بالأثر، ولمّا خرج سيف الدولة من عند الخليفة حمل إليه من أصناف الأموال والثياب والدواب والطيب ما يَجلّ خطره ويعظم أمره، وكذلك إلى سائر القوّاد والجند والكتّاب حتّى استقلّوا وحسنت أحوالهم، وحمل إليهم من الدقيق والشعير والتبن وجميع آلات الدوابّ والسلاح ما كفاهم وفضل عنهم.

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني - لجامعه الشيخ ماريوس كانار - طُبع بالجزائر سنة ١٩٣٤ - ص ٩ و ١٠.

١٥٠

واجتمعت الألسن على شكره، وأمر الخليفة له ولناصر الدولة مع التكْنية والتلقيب أن تكتب أسماؤهم على الدنانير والدراهم، وهذه فضيلة لم يسبقهما أحدٌ إليها. ثمّ سارا مع الخليفة متوجّهين إلى بغداد، فلمّا سمع البريدي ذلك، انحدر عن بغداد، ثمّ كانت له مع سيف الدولة وقعة هزمه سيف الدولة فيها، واستبشر الناس بما وهب الله تعالى لهم على يديه من الراحة من فتنة البريدي، وأمنوا على أنفسهم وحرمهم وأموالهم، وأكثروا الدعاء له في المساجد والطرقات.

وكتب المتّقي لله رقعةً إلى الأمير سيف الدولة عند خروجه إلى حرب البريدي نسختها:

بسم الله الرحمن الرحيم

عرفت - لا أخلاني الله منك - ما تقرّر عليه العزم في رواحك، قرنه الله بالخيرة التامّة، والمعونة الشاملة، والكافية الجامعة، ووصله بالنصر والفلح والظفر والفتح، فتعجّلت الاستيحاش لبعدك، والتحسّر لما يفوت من قربك، لا خلوت منك، وكنت أحبّ أن ألقاك وأُسرّ برؤيتك قبل نفوذك، ولمّا تعذّر ذلك دعوت الله لك بجميل الصحابة ولي عليك بحسن الخلافة، وأن يسعدنا بذلك سعادةً محمودة البدء والعاقبة ؛ إنّه سميع الدعاء لطيفٌ لما يشاء، ولا يزال قلبي متطلعاً لمعرفة خبرك إلى أن يَرِدَ عليَّ من مستقرك بما تَرُبُّه وتُمْضيه، وتُدَبِّرُه وتُمْشِيه ؛ فتعمل - لا أخلاني الله منك - على ملاحظتي من ذلك في كلِّ وقتٍ وساعةٍ بما تعلم حسن موقعه مني، والسلام.

وكتب إليه رقاعاً عدّة أمثالها.

لمّا وصل المتّقي لله وابناه ومحمّد بن رائق ومَن معهم إلى تَكْريت، وجدوا هناك، وهم مصعدون إلى الموصل بعد، أبا الحسن علي بن عبد الله بن حمدان ؛ وذلك أنّ ابن رائق لمّا قرب البريدي من بغداد كتب إلى أبي محمّد بن حمدان يسأله مدداً ومعاونة على قتاله، فأنفذ أبو محمّد أخاه، فلم يلحقهم إلاّ بتكريت، وقد انهزموا وأخذوا طريق الموصل.

فخلع عليه المتّقي وعقد له لواءً، ولقّبه ناصر الدولة، وجعله أمير الأمراء، وكنّاه، وكان ذلك مستهلّ شعبان.

وخلع على أخيه علي وعلى

١٥١

أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، ودخل المتّقي بغداد مع ناصر الدولة أبي محمّد وأخيه علي وجميع الجيوش، وعملت لهم العامّة القباب.

ونزل ناصر الدولة وأخوه في البستان الشفيعي، وخلع المتّقي لله على ناصر الدولة وأخيه، وطُوِّقا وسُوِّرا بطوقين طوقين، وأربعة إسورة ذهباً، وعلى أبي عبد الله الحسين بن حمدان، وطُوِّق بطوقٍ واحدٍ وسوارين ذهباً.

ورد الخبر بأنّ أبا الحسين علي بن محمّد البريدي قد أصعد من واسط يريد الحضرة، فاضطرب الناس ببغداد، وعبر المتّقي إلى الزبيديّة ليكون مع ناصر الدولة، وقد حرمه إلى (سُرّ مَنْ رأى)، وهرب جماعةٌ من وجوه أهل بغداد، وعبر جيش ناصر الدولة من الجانب الشرقي إلى الجانب الغربي منها.

وسار أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان في الجيش، وكان مع أبي الحسن البريدي لمّا أصعد من واسط أبو جعفر بن شيرزاد وأبو بكر بن قرابة والديلم وجيش عظيم، فكانت الوقعة بين أبي الحسن علي بن حمدان وبين البريدي يوم الثلاثاء انسلاخ ذي القعدة ويوم الأربعاء مستهل ذي الحجّة، ويوم الخميس ويوم الجمعة لثلاث وأربع خلون من ذي الحجّة في القرية المعروفة بـ (كِيل) أسفل المدائن بفرسخَيْن، ومع ابن حمدان توزُون وحَجْمج والأتراك، فكانت أوّلاً على علي بن عبد الله بن حمدان، وانهزم أصحابه فردّهم ناصر الدولة، وكان ناصر الدولة بالمدائن.

ثمّ صارت على أبي الحسين البريدي، فانهزم واستُؤسر من أصحابه يانس غلام البريدي أبي عبد الله، وأبو افتح بن أبي طاهر، ومحمد بن عبد الصمد، ومذكّر البريدي، والفرج كاتب جيش البريدي، واستأمن إلى ابن حمدان محمد بن يَنال الترجمان، وإبراهيم بن أحمد الخراساني، وحصل له جميع الديلم الذين كانوا في عسكر البريدي.

وقتل جماعة من قوّاد البريدي، وعاد البريدي إلى واسط مهزوماً مغلولاً، ولم يبق في علي ابن حمدان وأصحابه فضل لأتباعه لعظيم ما مرّ بهم ولكثرة الجراح فيهم.

ولسبع خلون من ذي الحجّة عاد المتّقي لله من الزُبَيْدِيَّة إلى دار الخلافة على ثلاث ساعات ونصف، وعاد الحرم من (سُرّ مَنْ رأى) ومَن كان هرب إليها من بغداد.

ودخل ناصر الدولة يوم الجمعة لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي الحجّة بغداد، وبين يديه يانِس غلام البريدي، وأبو الفتح بن أبي طاهر، والمذكّر البريدي مشهرين على جمال، وعلى رؤوسهم برانس،

١٥٢

وكُتب عن المتّقي كتاب الفتح إلى الدنيا، ولقّب المتّقي لله أبا الحسن علي ابن عبد الله بن حمدان، لمّا فتح هذا الفتح سيف الدولة، وأنفذ إليه خلعاً، وكتب فيه كتاباً.

وانحدر سيف الدولة إلى واسط، فوجد البريديين قد انحدروا منها إلى البصرة، وأقام بها ومع الديلم والأتراك وسائر الجيش.

كان سيف الدولة أبو الحسن مقيماً بواسط مفكّراً في أن يسير بالجيش والأتراك إلى البصرة ليفتحها، وكان أخوه ناصر الدولة يدافعه بحمل المال، ويضايق الأتراك خاصّة.

وكان تُوزُون وحجمج يُسيئان الأدب على سيف الدولة بواسط، ويتحكّمان عليه حتّى ضاق ذرعاً بهما.

وكان ناصر الدولة قد أنفذ أبا عبد الله الكوفيّ إلى سيف الدولة أخيه، ومعه ألفا ألف درهم وخمسون ألف دينار لينفق في الأتراك، فوثب توزون وحجمج به بحضرة سيف الدولة، وأسمعاه مكروهاً، فضمّه سيف الدولة إلى نفسه، ثمّ ستره في بيتٍ، وقال لهما: أما تستحيان منّي فتجاملاني في كاتبي. ثمّ وافق سيف الدولة كاتب حجحج أن يسير حجحج إلى المَذار ويسوغه ارتفاعها إذا حماها، ووافق أبا علي المسيحي كاتب توزون على المسير بتوزون إلى الجامدة، ويوهب له ارتفاعها، وعليه حمايتها.

وانتظم هذا التدبير، وعاد الكوفيّ إلى مجلسه بحضرة سيف الدولة، ورهب أن يعود إلى منزله، وعبر حجمج إلى غربيّ واسط للمسير.

واستعدّ توزون أيضاً للمسير إلى الجامدة، فوافى أبو عمرو المسيحيّ وقت الظهر لثلاث بقين من شوّال هارباً من ناصر الدولة إلى أخيه أبي علي المسيحيّ، وكان معه توقيع من ناصر الدولة بخطّه إليه يقول فيه:

(قد اتّصل طمعك فيّ وانبساطك عليّ، وأنا مُحتمل، وأنت مُغترّ، وبلغني إدخالك يدك في وقف فلان، ووالله إن لم تخلّصها وتقصِرعن فعلك المذموم لأقطعنّ يديك ورجليك).

فزعم أبو عمرو المسيحيّ أنّه قرأه وانحدر، وذكر أنّه قال قبل ذلك بأيّام: يا مسيحيّ، أنت مجتهد في أن تجعل توزون أميراً، وعلى رأسك تحثو التراب. إن بلغ ما تؤمّله له لم يرضك كاتباً لنفسه، وطلب ابن شيرزاد أو مثله وشبهَه، فاستكتبه وأنفَ منك فصادرك، فتلافى سيف الدولة أبا عمرو

١٥٣

المسيحي وداراه، وراسل توزون وسكنه ؛ وكان سيف الدولة كثيراً يزهّد الأتراك في العراق ويحملهم على قصد الشام معه والاستيلاء عليه وعلى مصر، ويخرّب بينهم وبين أخيه، فكانوا يصدّقونه في أخيه، ويأبون عليه في البعد من العراق، وكانوا يتسحبون على سيف الدولة ويطالبونه باستحقاقاتهم، وينصّون على أن يوفيّهم يوم الستّين من أيّام استحقاقهم، ويستصغرونه وأخاه. فلمّا وافى أبو عمرو المسيحي قالوا له: نحتاج أن تحمل مال قائد ورجال وتوفّينا ذلك بالقَبّان وزنةً مالاً مالاً. فأجاب إلى ذلك قطعاً للحُجَّة، وساموه أن يكون الوزن بالليل والنهار، فصبر على ذلك كلِّه وأذن فيه.

وأخرج سيف الدولة أبا عبد الله الكوفيّ ليلاً، وضمّ إليه ابن عمّه أبا وليد في جماعةٍ من العرب، وأصعد معه بنفسه إشفاقاً عليه، ثمّ وصّى العرب حتّى بلغوا به المدائن، فلمّا كان ليلة الأحد انسلاخ شعبان، كبس الأتراك سيف الدولة بالليل، وهرب من معسكره، ولزم نهراً بقرب معسكره فأدّاه إلى قريةٍ تُعرف (ببُرقة)، ولزم البرّيّة حتّى وافى بغداد، وأضرم الأتراك النار في معسكره، وقد كان باقياً من المال المحمول إليه مع الكوفيّ من عند أخيه شيء لم يفرّق فيهم فنهبوه، ونهب جميع سواده)(١) .

(لمّا بلغ سيف الدولة خلاف توزون وحجحج بواسط، طمع في بغداد، فوافى (المِزْرَفَة)، وظهر المستترون من أصحابه من الجند، وخرجوا إليه.

وانحدر أبو عمرو المسيحيّ كاتب توزون إلى واسط مستتراً هارباً إلى صاحبه، وانحدر أيضاً الترجمان.

وأرجف الناس بانحدار المتّقي، واضطرب الناس وأصبحوا على خوفٍ شديد.

وجاء سيف الدولة في يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان إلى باب حرب، فنزل في المضارب، وعليه وعلى أصحابه أثر الضرّ الشديد لما لحقهم في البرّيّة. وخرج إليه أصحابه ومن يريد الإثبات، وجرت بينه وبين المتّقي لله رسائل على يد أبي زكرياء السوسي، وطالب بأن يُحملَ إليه مال، ووعد أن يقاتل توزون إن ورد الحضرة، فحمل إليه المتّقي أربعمئة

____________________

(١) نخب تاريخية وأدبية... من ص ١١ إلى ص ٢١.

١٥٤

ألف درهم في دفعات، وانضمّ إليه كلُّ مَن بقي بالحضرة من القوّاد، وما زال يقول في مجلسه:

ما أنصفنا أبو الوفاء توزون حيث كبسنا في الليل ونحن نيام، وإلاّ فَلْيحضرْ نهاراً ونحن مستيقظون! ونحو هذا الكلام.

ولمّا بلغ توزون وصول سيف الدولة إلى بغداد خلّف بواسط (كَيْغَلَغ) في ثلاثمئة غلام، وأصعد مبادراً من واسط إلى بغداد، ولمّا اتّصل بسيف الدولة خبر إصعاده رحل من باب حرب مع مَن انضمّ إليه من قوّاد الحضرة، ومضى على وجهه.

كان المتّقي قد أنفذ إلى ناصر الدولة يطلب منه إنفاذ جيشٍ إليه ليصحبوه إلى الموصل، فأنفذهم مع ابن عمّه أبي عبد الله الحسين بن سعيد بن حمدان، فلمّا وصلوا إلى بغداد نزلوا بباب حرب، واستتر ابن شِيرْزَاد، وخرج إليهم المتّقي في حرمه وأهله ووزيره وأعيان بغداد.

وانحدر سيف الدولة وحده إلى المتّقي لله بتكريت، فأرسل المتّقي إلى ناصر الدولة يستدعيه، ويقول له:

(لم يكن الشرط معك إلاّ أن تنحدر إلينا).

فانحدر، فوصل إلى تكريت في الحادي والعشرين من ربيع الآخر.

وركب المتّقي إليه فلقيه بنفسه، وأكرمه، وأصعد الخليفة إلى الموصل، وأقام ناصر الدولة بتكريت، وصار توزون نحو تكريت، فالتقى هو وسيف الدولة بن حمدان تحت تكريت بفرسخَيْن، فاقتتلوا ثلاثة أيام، ثمّ انهزم سيف الدولة يوم الأربعاء لثلاث بقين من ربيع الآخر، وغنم توزون والأعراب سواده وسواد أخيه ناصر الدولة، وعادا من تكريت إلى الموصل ومعهما المتّقي لله.

وشغب أصحاب توزون فعاد إلى بغداد، وعاد سيف الدولة وانحدر فالتقى هو وتوزون بِحَرْبَى في شعبان، فانهزم سيف الدولة مرّةً ثانية، وتبعه توزون.

ولمّا بلغ سيف الدولة إلى الموصل، سار عنها هو وأخوه ناصر الدولة والمتّقي لله ومَن معه إلى نصيبين، ودخل توزون الموصل، فسار المتّقي إلى الرَّقّة، ولحقه سيف الدولة.

ولمّا انصرف الإخشيد من حضرة المتّقي، سار سيف الدولة بن

١٥٥

حمدان إلى حلب وقنّسرين والثغور الشاميّة وحمص وأنطاكية وسائر الأعمال، فأخذها وأقام الدعوة فيها للمستكفي ولأخيه ولنفسه، ثمّ عزل وولّى واستخرج الأموال، وكتب الإخشيد إلى المستكفي يخبره بما سارع من إقامة الدعوة وأخذ البيعة، ويعرّفه ما عمله سيف الدولة بن حمدان، فكتب إليه المستكفي ومع الكتاب خلع الإخشيد ولابنه (أنور جور).

وبلغ الإخشيد أن سيف الدولة سار إلى حمص يريد دمشق، فجرّد الإخشيد عسكراً كبيراً، وجعل عليه أربعة، فساروا إلى دمشق وعبَّئوا عساكرهم، ثمّ ساروا إلى حمص، فالتقوا مع سيف الدولة بالرَّسْتَن من أرض حمص، فهزمهم سيف الدولة، فعادوا إلى دمشق يريدون الرملة ثمّ إلى مصر.

ثمّ سار سيف الدولة في أثرهم يريد دمشق، وكتب إلى أهل دمشق كتاباً قُرئ على منبر جامع دمشق، وحُملت نسخته إلى الإخشيد، وهو:

(بسم الله الرحمن الرحيم - من سيف الدولة أبي الحسن إلى جماعة الأشراف والعلماء والأعيان والمستورين بمدينة دمشق، أطال الله بقاكم وأدام عزّكم وسعادتكم وكفايتكم ونعمتكم، كتابنا إليكم من المعسكر المنصور بظاهر عين الجرّ عن سلامة وجميل كفاية لمولاها خالص الدعاء والشكر، وقد علمتم - أسعدكم الله - تشاغلي بجهاد أعدائي وأعداء الله الكفرة وسبيلهم، وقتلي فيهم، وأخذي أموالهم، وتخريبي ديارهم، وقد بلغكم خبر القوانين في هذه السنة، وما أولانا الله وخوَّلنَاه، وأظفرنا به، واستعملت فيهم السنّة في قتال أهل الله، فما اتّبعت مدبراً، ولا داففت على جريح، حتّى سلم من قد رأتم، وقد تقدّمنا إلى وَشّاح بن تمّام بصيانتكم وحفظكم، وحوط أموالكم، وفتح الدكاكين، وإقامة الأسواق، والتصرّف في المعاش، إلى حين موافاتنا إن شاء الله).

فلمّا وصلت نسخة هذا الكتاب للإخشيد قلق لذلك، واستخلف على مصر ابنه أبا القاسم، واستخلف له عمّه أبا المظفّر، ثمّ سار الإخشيد لا يلوي على شيء.

وحصل سيف الدولة بدمشق، ودخلها معه سائر أهله من شيخٍ وكهل، وكتب الإخشيد من الرّملة إلى عيسى كِيل وهو بدمشق مع سيف الدولة، يعده الأموال والتقليد والخلع وأضعاف الرزق، ومع الرسول خاتم الإخشيد، فوصل الرسول إلى عيسى كِيل وهو مع سيف الدولة

١٥٦

بالشَّماسِيَّة، فاستأذنه في الركوب إلى دمشق لدخول الحمّام، فأذن له ؛ وشرب وسكر وثار مع العصر بدمشق، ودعا الناس إلى الإخشيد، وخاتم الإخشيد في يده، وغلّق أبواب دمشق، وأفاق عيسى كِيل من سكره بالليل، وتبيّن أمره، فهرب في جوف الليل إلى الإخشيد وهو بِطبريَّة، فخلع عليه وجازاه وحمله وقاد إليه فرساً أدهم وعليه سرج ولجام مطلّىً فيه أربعة عشر ألف درهم، ما يقدر الفرس يتحرّك من ثقل ما عليه.

وسار عيسى كِيل بين يدي الإخشيد، فلمّا قرب من دمشق رفع سيف الدولة وحرق أخصاصاً كانت قد عُملت، وسار إلى نواحي حمص، ودخل الإخشيد إلى دمشق، والأمراء والقوّاد بين يديه، ثمّ سار إلى حمص، ثمّ سار غلى قنّسرين، والتقى مع سيف الدولة واقتتلا، واستظهر عليه سيف الدولة، فحسده ابن عمّه الحسين بن أبي العلاء، فانهزم، فاستظهر الإخشيد وقتل وأسر جماعةً من وجوه العجم، ولم ينصرف سيف الدولة، بل عسكر مواجهاً للإخشيد، فاختار الإخشيد المسالمة، وراسله بالحسن بن طاهر على مالٍ يحمله إليه وأن يكون لسيف الدولة من (جُوسِيَّة) إلى حمص إلى سائر أعمالها وما وراءه، ويكون للإخشيد من دمشق وما بين يدها إلى آخر أعمالها، وزوّجه ابنته فاطمة، وكان الوليّ الحسن بن طاهر بتوكيل الإخشيد ؛ فسرّ سيف الدولة بذلك، وأجاب إلى السلم، وعقد النكاح، ونثر سيف الدولة، في مضربه للحاضرين ثلاثين ألف دينار، ونثر خارج المضرب أربعمئة ألف درهم، وحمل إلى الحسن بن طاهر مالاً كثيراً وخِلَعاً.

حدّثني بعض شيوخ دمشق ممّن كان الإخشيد يأنس به ويحادثه، قال:

(سألني جماعةٌ من وجوه غلمان الإخشيد توبيخ الإخشيد على ما عمله من الصلح والمصاهرة.

فقلت له: أيّها الإخشيد؟ أيش(١) حملك على مصالحة ابن حمدان ومسالمته ومصاهرته؟... فقال: الغلمان، سألوك مسألتي.

فقلت: نعم.

قال: عليهم لعنة الله، أتراهم يعلمون من الأمر أكثر ممّا أعلم.

اعلم أنّ عليّ بن حمدان كاتبناه من الرّملة، فبذلنا له، فلم يفعل، وكاتبناه من طبريّة، فامتنع، ثمّ سرنا إليه ورزقنا الله تعالى النصر عليه وعلى أصحابه الظفر، فلم ينصرف، وخيّم حذاءنا بوجهٍ صفيق وقلّة حياء،

____________________

(١) هكذا وردت في النص.

١٥٧

فتوقفت عنه. فقال لي الغلمان: دعنا نمضي تلقاءه، ففكرت في قولهم، ولم أخلُ من أحد وجهين، إمّا أن يهزمنا ويُرزق علينا النصر فتكون الفضيحة، وإمّا أن نُرزق عليه النصر فنأخذه، فأيش(١) أعمل به! هلاّ هو أكثر من أن أُنزله في مضرب يشبهه، وأُنفق عليه ما يصلح له، ثمّ أُجهّزه وأردّه لأخيه وأهله ؛ لأنّهم لا يتركونه، وأقلّ ما كان يكفينا له مئتا ألف دينار. ثمّ لا أُطيق غلماني من إدلالهم والتسحّب عليّ بما عمله، ويطلبون منّي الأعمال والولايات، فرأيت أنّ مسالمته ومصالحته أفضل وأصلح ؛ وأرسلت إليه الحسن بن طاهر أعده بالأموال والخروج من أعماله ؛ فلمّا رأوا الحسن بن طاهر قد مضى ازدحموا عليه يسبّوني ويشتموني، ويسألون الله الراحة منّي).

في هذه السنة، في ذي الحجّة(٢) : مات الإخشيد أبو بكر محمّد بن طُغْج صاحب ديار مصر، وكان مولده سنة ثمانٍ وستين ومئتين ببغداد، وكان موته بدمشق، وقيل مات سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة، وولي الأمر بعده ابنه أبو القاسم أُنوجور، فاستولى على الأمر كافور الخادم الأسود، وهو من خدم الإخشيد، وغلب أبا القاسم واستضعفه، وتفرّد بالولاية، وكان أبو القاسم صغيراً، وكان كافور أَتابَكه، فلهذا استضعفه وحكم عليه ؛ فسار كافور إلى مصر. فقصد سيف الدولة دمشق فملكها، وأقام بها، فاتّفق أنّه كان يسير هو والشريف العقيقيّ بنواحي دمشق، فقال سيف الدولة:

ما تصلح هذه الغوطة إلاّ لرجلٍ واحد.

فقال له العقيقيّ: هي لأقوام كثيرة.

فقال سيف الدولة: لئن أخذتها القوانين السلطانيّة لتبرّأوا منها.

فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه، فجاءهم، فأخرجوا سيف الدولة عنهم سنة ستة وثلاثين وثلاثمئة. وكان أنوجور مع كافور، فتبعوا سيف الدولة إلى حلب، فخافهم سيف الدولة، فعبر إلى الجزيرة، وأقام أنوجور على حلب، ثمّ استقرّ الأمر بينهما، وعاد أنوجور إلى مصر، وعاد سيف الدولة إلى حلب)(٣) .

____________________

(١) هكذا وردت في النص.

(٢) في ٢١ ذي الحجّة سنة ٣٣٤ هـ.

(٣) نخب تاريخية وأدبية جامعة لأخبار الأمير سيف الدولة الحمداني، من ص ٢٢ إلى ص ٣٤.

١٥٨

أحوال الشّام

(أمّا (الشام) فإنّ غربيَّها بحر الروم، وشرقيّها البادية من أيْلة إلى الفرات، ثمّ من الفرات إلى حدّ الروم، وشماليّها بلاد الروم أيضاً، وجنوبيّها حدّ مصر وتيه بني إسرائيل، وآخر حدودها مِمّا يلي مصر رَفَح وممّا يلي الروم الثغور المعروفة، كانت قديماً بالجزيرة وهي:

مَلَطْية والحدث ومَرعش والهارونيّة والكَنِيسة وعين زَرْبة والمِصّيصة وأَذَنة وطَرَسُوس.

قد جمعت الثغور إلى الشام، وبعض الثغور يُعرف بثغور الشام، وبعضها يُعرف بثغور الجزيرة، وكلّها من الشام، وذلك أنّ كلّ ما كان وراء الفرات فمِن الشام ؛ وإنّما سُمّي من ملطية إلى مرعش ثغور الجزيرة ؛ لأنّ أهل الجزيرة بها كانوا يرابطون ويغزون منها، لا لأنّها من الجزيرة.

وكور الشام إنّما هي: جند فلسطين، وجند الأردنّ، وجند دمشق، وجند حمص، وجند قنّسرين، والعواصم والثغور. وبين ثغور الشام وثغور الجزيرة جبل اللُّكام وهو الفاصل بن الثّغرين، وجبل اللّكام جبل داخل في بلد الروم ويُقال إنّه ينتهي إلى حد مئتيْ فرسخ، ويظهر في الإسلام بين مرعش والهارونيّة وعين زربة فيُسمّى اللكام إلى أن يجاوز اللاذقيّة، ثمّ يُسمّى جبل بَهْراء وتَنوخ إلى حمص، ثمّ يُسمى جبل لبنان، ثمّ يمتدّ على الشام حتّى ينتهي إلى بحر (القُلْزُم) من جهة، ويتّصل بالمُقطَّم من جهةٍ أُخرى.

أمّا جند حِمص فإنّ مدينتها (حمص)، وهي مدينة في مستواة خصبة، صحيحة الهواء من أصح بلدان الإسلام، ودخلها الروم في وقتنا هذا، وأتوا على سوادها وأخربوها، وجميع طرق حمص من أسواقها، وسككها مفروشة بالحجارة والبلاط.

١٥٩

وأمّا (أَنْطَرْسُوس) فحصن على البحر ثغر لأهل حمص، وعليه سور من حجارةٍ يمنع أهلها من بادرة، ولقد أنجوا من الروم في حيننا هذا عند قصد نِقْفُور ساحل الشام.

وأمّا (شَيْزَر وحماة) فإنّهما مدينتان صغيرتان نزهتان كثيرتا المياه والشجر والزّروع والفواكه.

وأمّا جند قِنَّسرين فمدينتها (حلب)، وكانت عامرةً جدّاً غاصّةً بأهلها كثيرة الخيرات على طريق العراق إلى الثغور وسائر الشامات، فافتتحها الروم، وكان لها سورٌ من حجارةٍ لم يغن عنهم مِن العدوّ شيئاً، فخرّب جامعها، وسبى ذراري أهلها، وأحرقها.

وكان بها قلعةٌ غير طائلةٍ ولا حسنة العمارة، فلجأ إليها قومٌ من أهلها، فنجوا وهلك بها من المتاع والجهاز للغرباء وأهل البلد، وسبى بها وقتل من أهل سوادها ما في إعادته إرماض لمَن سمعه، ووهن على الإسلام وأهله.

وكان لها أسواق حسنة وحمّامات وفنادق ومحالّ وعِراص فسيحة، وهي الآن كالمتماسكة ولها وادٍ يعرف بأبي الحسن قوَيْق، وشرب أهلها منه، وفيه قليل طفس، ولم تزل أسعارهم في الأغذية وجميع المآكل قديماً واسعة رخيصة، وعليهم الآن للروم في كلِّ سنةٍ قانون يؤدّونه، وضريبة تُستخرج من كلّ دارٍ وضيعةٍ معلومة، وكأنّهم معهم في هدنةٍ وليست - وإن كانت أحوالها متماسكة وأمورها راضية - بحال جزءٍ من عشرين ممّا كانت عليه في قديم أوقاتها وسالف أيّامها.

(وقِنَّسرين) مدينة نسبت الكورة إليها، وهي من أضيق تلك النواحي بناءً، وإن كانت نزهة الظاهر، مغوثة في موضعها بما كان بها من الرخص، فاكتسحتها الروم، فكأنّها لم تكن إلاّ بقايا دِمَن فديتُها مِنْ دِمَن.

(ومَعَرَّةُ النُّعمان) مدينة هي وما حولها من القرى أعذاء(١) ليس بنواحيها ماءٌ جارٍ ولا عين، وكذلك جميع جند قنّسرين شربهم من السماء. وهي مدينة كثيرة الخير والسعة والتين والفستق وما شاكل ذلك من الكروم.

وأمّا (الخُناصِرة) فهي حصنٌ يُحاذي قنّسرين إلى ناحية البادية وعلى

____________________

(١) أعذاء: مفردها (عِذْيُ) الزّرع لا يسقيه إلاّ المطر.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486