تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75874 / تحميل: 9808
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ولمّا تيقّن حياة عمه رحل إلى حران وامتنع بها. وبعث سيف الدولة غلامه، فجاء إلى حران في طلبه، فلحق هبة الله بأبيه بالموصل، ونزل نجا على حران آخر شوال من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة وصادر أهلها على ألف ألف درهم وأخذها منهم في خمسة أيّام بالضرب والنكال، وباعوا فيها ذخائرهم حتّى أملقوا وصاروا إلى ميافارقين ونزلها شاغرة فتسلّط العيّارون على أهلها.

انتقاض نجا بميافارقين وأرمينة واستيلاء سيف الدولة عليها:

ولمّا فعل نجا بأهل حران واستولى على أموالهم فقوي بها وبطر، وسار إلى ميافارقين وقصد بلاد أرمينة، وكان قد استولى على أكثرها رجل من العراق يُعرف بأبي الورد، فغلبه نجا على ما ملك منها وأخذ قلاعه وبلاده، فملك خلاط وملاذكرد، وأخذ كثيراً من أموال أبي الورد وقتله، ثمّ انتقض على سيف الدولة، واتفق أنّ معزّ الدولة بن بويه استولى على الموصل ونصيبين، فكاتبه نجا يعده المساعدة على بني حمدان. ثمّ صالحه ناصر الدولة ورجع إلى بغداد، فسار سيف الدولة إلى نجا فهرب منه بين يديه، واستولى على جميع البلاد التي ملكها من أبي الورد، واستأمن إليه نجا وأخوه وأصحابه فأمنهم وأعاد نجا إلى مرتبته، ثمّ وثب عليه غلمانه وقتلوه في داره بميافارقين في ربيع سنة ثلاث وخمسين وثلاثمئة.

مسير معزّ الدولة إلى الموصل وحروبه مع ناصر الدولة:

كان الصلح قد استقر بين ناصر الدولة ومعزّ الدولة على ألف ألف درهم في كلّ سنة، ثمّ طلب ناصر الدولة دخول ولده أبي تغلب المظفر في اليمن على زيادةٍ بذلها.

وامتنع معزّ الدين من ذلك، وسار إلى الموصل منتصف ثلاث وخمسين وثلاثمئة ولحق ناصر الدولة بنصيبين، وملك معزّ الدين الموصل، وسار عنها في اتّباع ناصر الدولة بعد أن استخلف على الموصل في الجباية والحرب، فلم يثبت ناصر الدولة، وفارق نصيبين ملكها معزّ الدولة، وخالفه أبو تغلب إلى الموصل وعاث في نواحيها، وهزمه قوّاد معزّ الدولة بالموصل، فسكنت نفس معزّ الدولة وبقي يترقّب أخباره، وخالف ناصر

٢١

الدولة إلى الموصل فأوقع بأصحابه وقتلهم وأسر قوّاده، واستولى على مخلفه من المال والسلاح، وحمل ذلك كلّه إلى قلعة كواشي.

وبلغ الخبر إلى معزّ الدولة فلحق بالنوّاب، وأعيا معزّ الدولة أمرهم، ثمّ أرسلوا إليه في الصلح فأجاب، وعقد لناصر الدولة على الموصل ودير ربيعة، وجميع أعماله بمقرّها المعلوم وعلى أن يطلق الأسرى الذين عنده من أصحاب معزّ الدولة، ورجع معزّ الدولة إلى بغداد.

حصار المصيصة وطرسوس واستيلاء الروم عليها:

وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمئة خرج الدمستق في جموع الروم فنازل المصيصة وشدّد حصارها وأحرق رساتيقها وبلغ إلى نقب السور، فدافعه أهلها أشدّ مدافعتهم.

ثمّ رحل إلى آذنة وطرسوس وطال عيثه في نواحيها، وأكثر القتل في المسلمين، وغلت الأسعار في البلاد وقلّت الأقوات، وعاود المرض سيف الدولة فمنعه من النهوض إليهم.

وجاء من خراسان خمسة آلاف رجل غزاة فبلغوا إلى سيف الدولة فارتحل بسببهم للمدافعة، فوجد الروم انصرفوا. ففرق هؤلاء الغزاة في الثغور من أجل الغلاء، وكان الروم قد انصرفوا بعد خمسة عشر يوماً.

وبعث الدمستق إلى أهل المصيصة وآذنة وطرسوس يتهدّدهم بالعود ويأمرهم بالرحيل من البلاد، ثمّ عاد إليهم وحاصر طرسوس فقاتلهم أشدّ قتال وأسروا بطريقاً من بطارقته. وسقط الدمستق إلى أهل المصيصة ورجعوا إلى بلادهم.

ثمّ سار يعفور ملك الروم من القسطنطينية سنة أربع وخمسين وثلاثمئة إلى الثغور، وبنى بقيسارية مدينة ونزلا وجهّز عليها العساكر، وبعث أهل مصيصة وطرسوس في الصلح فامتنع.

وسار بنفسه إلى المصيصة فدخلها عنوةً واستباحها ونقل أهلها إلى بلاد الروم، وكانوا نحواً من مئتي ألف، ثمّ سار إلى طرسوس واستنزل أهلها على الأمان وعلى أن يحملوا من أموالهم وسلاحهم ما قدروا عليه، وبعث معهم حامية من الروم يبلغونهم انطاكية.

٢٢

وأخذ في عمارة طرسوس وتحصينها، وجلب الميرة إليها، ثمّ عاد إلى القسطنطينة.

وأراد الدمستق بن شمسيق أن يقصد سيف الدولة في ميافارقين ومنعه الملك من ذلك.

انتقاض أهل أنطاكية وحمص:

ولمّا استولى الروم على طرسوس، لحق الرشيق الغيمي من قوّادهم، وألي الرأي فيهم بأنطاكية في عددٍ وقوّة، فاتّصل به ابن أبي الأهواز من الجباة بأنطاكية وحسن له العصيان وأراه أن سيف الدولة بميافارقين عاجز عن العود إلى الشام ما هو فيه من المرض، وأعانه بما كان عنده من مال الجباة، فأجمع رشيق الانتقاض وملك أنطاكية وسار إلى حلب وبها عرقوبة.

وجاء الخبر إلى سيف الدولة بأنّ رشيقاً أجمع الانتقاض، ونجا ابن الأهواز إلى أنطاكية فأقام في إمارتها رجلاً من الديلم اسمه وزير ولقبه الأمير، وأوهم أنّه عَلَويّ، وتسمّى هو بالأشاد، وأساء السيرة في أهل أنطاكية.

وقصدهم عرقوبة من حلب فهزموه. ثمّ جاء سيف الدولة من ميافارقين إلى حلب، وخرج إلى أنطاكية وقاتل وزيراً وابن الأهوازي أياماً. وجيء بهما إليه أسيرين، فقتل وزيراً وحبس ابن الأهوازي أياماً وقتله.

وصلح أمر أنطاكية، ثمّ ثار بحمص مروان القرمطي كان من متابعة القرامطة وكان يتقلّد السواحل لسيف الدولة، فلمّا تمكن ثار بحمص فملكها وملك غيرها في غيبة سيف الدولة بميافارقين.

وبعث إليه عرقوبة مولاه بدراً بالعساكر فكانت بينهما عدّة حروبٍ أُصيب فيها مروان بسهمٍ فأثبت وبقي أيّاماً يجود بنفسه والقتال بين أصحابه وبين بدر. وأُسر بدر في بعض تلك الحروب فقتله مروان وعاش بعده أيّاماً ثمّ مات وصلح أمرهم.

خروج الروم إلى الثغور على دارا:

وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمئة خرجت جموع الروم إلى الثغور،

٢٣

فحاصروا آمد ونالوا من أهلها قتلاً وأسراً، فامتنعت عليهم، فانصرفوا إلى دارها قريباً من ميافارقين فأخذوها، وهرب الناس إلى نصيبين وسيف الدولة يومئذٍ فيها، فهمّ بالهروب وبحث عن العرب ليخرج معهم.

ثمّ انصرف الروم، وأقام هو بمكانه، وساروا إلى أنطاكية فحاصروها مدّة وعاثوا في جهاتها فامتنعت، فعاد الروم إلى طرسوس.

وفاة سيف الدولة ومحبس أخيه ناصر الدولة:

وفي صفر من سنة خمس وخمسين وثلاثمئة توفّي سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بحلب، وحُمل إلى ميافارقين فدفن بها. وولي مكانه بعده ابنه أبو المعالي شريف، ثمّ في جمادى الأولى منها حبس ناصر الدولة أخوه بقلعة الموصل، حبسه ابنه أبو تغلب فضل الله الغضنفر، وكان كبير ولده، وكان سبب ذلك أنّه كبر وساءت أخلاقه وخالف أولاده وأصحابه في المصالح وضيّق عليهم فضجروا منه.

ولمّا بلغهم خبر معزّ الدولة بن بويه اعتزم أولاده على قصد العراق، فنهاهم ناصر الدولة وقال لهم:

(اصبروا حتى ينفق بختيار ما خلف أبوه معز الدولة من الذخيرة فتظفروا به، وإلاّ استظهر عليكم وظفر بكم).

فلجّوا في ذلك، ووثب به أبو تغلب بموافقة البطانة وحبسه بالقلعة ووكل بخدمته. وخالفه بعض أخوته في ذلك، واضطرب أمره واضطرّ إلى مداراة بختيار بن معزّ الدولة، وأرسل له في تجديد الضمان ليحتجّ به على أخوته، فضمنه بألفي ألف درهم في كل سنة.

ولاية أبي المعالي بن سيف الدولة بحلب ومقتل أبي فراس:

ولمّا مات سيف الدولة وولي بعده ابنه أبو المعالي شريف، وكان سيف الدولة قد ولّى أبا فراس بن أبي العلاء سعد بن حمدان عندما خلّصه من الأسر الذي أسره الروم في منبج، فاستفداه في الفداء الذي بينه وبين الروم سنة خمس وخمسين وثلاثمئة، وولاّه على حمص.

٢٤

فلمّا مات سيف الدولة استوحش من أبي المعالي بعده، ففارق حمص ونزل في صدد قريته في طرف البرية قريباً من حمص.

فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وبعثهم مع عرقوبة في طلبه، فجاء إلى صدد واستأمن له أصحاب أبي فراس وكان في جملتهم، فأمر به عرقوبة فقتل واحتمل رأسه إلى أبي المعالي، وكان أبو فراس خاله.

أخبار أبي ثعلب مع أخوته بالموصل:

كان لناصر الدولة بن حمدان زوجة تُسمّى فاطمة بنت أحمد الكرديّة وهي أم أبي ثعلب، وهي التي دبّرت مع ابنها أبي ثعلب على أبيه.

فلمّا حبس ناصر الدولة كاتب ابنه حمدان يستدعيه ليخلّصه ممّا هو فيه، وظفر أبو ثعلب بالكتاب، فنقل أباه إلى قلعة كواشي.

واتصل ذلك بحمدان وكان قد سار عند وفاة عمّه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقّة فملكها. ولمّا اتصل به شأن الكتاب سار إلى نصيبين وجمع الجموع وبعث إلى أخوته في الإفراج عن أبيهم. فسار أبو ثعلب لحربه وانهزم حمدان قبل اللقاء للرقة، فحاصره أبو ثعلب أشهراً ثمّ اصطلحا وعاد كل منهما إلى مكانه.

ثمّ مات ناصر الدولة في محبسه سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة ودُفن بالموصل.

وبعث أبو ثعلب أخاه أبا البركات إلى حمدان بالرحبة، فافترق عنه أصحابه، وقصد العراق مستجيراً ببختيار فدخل بغداد في شهر رمضان من سنته وحمل إليه الهدايا، وبعث بختيار إلى أبي ثعلب النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه حمدان فصالحه، وعاد إلى الرحبة منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمئة، وفارقه أبو البركات، ثمّ استقدمه أبو ثعلب فامتنع عن القدوم عليه، فبعث إليه أخاه أبا البركات ثانياً في العساكر. فخرج حمدان إلى البريّة وترك الرحبة فملكها أبو البركات، واستعمل عليها وسار إلى الرقّة ثمّ إلى عرابان، وخالفه حمدان إلى الرحبة فملكها أبو البركات، واستعمل عليها وسار إلى الرقّة ثمّ إلى عرابان، وخالفه حمدان إلى الرحبة فكبسها وقتل أصحاب أبي ثعلب بها، فرجع إليه أبو البركات وتقاتلا فضرب أبا البركات على رأسه فشجّه، ثمّ ألقاه إلى الأرض وأسره ومات من يومه، وحُمل إلى الموصل فدُفن بها عند أبيه.

٢٥

وجهز أبو ثعلب إلى حمدان وقدّم أخاه أبا فراس محمّداً إلى نصيبين، ثمّ عزله عنها ؛ لأنّه داخل حمدان ومالأه عليه، فاستدعاه وقبض عليه وحبسه بقلعة ملاشي من بلاد الموصل، فاستوحش أخوه إبراهيم والحسن ولحقا بأخيهما حمدان في شهر رمضان، وساروا جميعاً إلى سنجار ؛ وسار أبو ثعلب من الموصل في أثرهم في شهر رمضان سنة ستّين وثلاثمئة ؛ فخاموا عن لقائه، واستأمن إليه أخوه إبراهيم والحسن خديعة ومكراً، فأمنهما ولم يعلم، وتبعهما كثير من أصحاب حمدان.

وعاد حمدان من سنجار إلى عرابان، واطلع أبو ثعلب على خديعة أخويه، فهربا منه. ثمّ استأمن الحسن ورجع إليه، وكان حمدان أقام نائباً بالرحبة غلامه نجا، فاستولى على أمواله وهرب بها إلى حران وبها سلامة البرقعيدي من قبل أبي ثعلب، فرجع حمدان إلى الرحبة.

وسار أبو ثعلب إلى قرقيسيا وبعث العساكر إلى الرحبة فعبروا الفرات واستولوا عليها. ونجا حمدان بنفسه ولحق بسنجار مستجيراً به ومعه أخوه إبراهيم فأكرمهما ووصلهما، وأقاما عنده.

ورجع أبو ثعلب إلى الموصل وذلك آخر سنة ستّين وثلاثمئة.

خروج الروم إلى الجزيرة والشام:

وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمئة دخل ملك الروم الشام وعاث فيها كما عاث في الجزيرة، ولم يجد مقاومة من أبي ثعلب، وقاومه قرعويه مولى سيف الدولة، فلم يمكّن له من امتلاك حلب وسواها ما هو تحت ولايته.

وقرعويه هذا هو الذي أخذ البيعة لابن مولاه أبي المعالي بعد موت أبيه.

ولمّا كانت سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة انتقض عليه وأخرجه من حلب واستبدّ بملكها.

وسار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها، فسار إلى والدته بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس.

ولحق أصحابه بأبي ثعلب وقد بلغها أنّه يريد القبض عليها، فمنعته أيّاماً من الدخول حتّى استوثقت لنفسها، وأذنت له ولمن رضيته وأطلقت لهم الأرزاق، ومنعت الباقين.

٢٦

ثمّ سار أبو المعالي لقتال قرعويه بحلب فامتنع عليه. ثمّ لحق أبو المعالي بحماة وأقام بها. وبقيت الخطبة بحران له ولا والي عليهم من قبله، فقدموا عليهم من يحكم بينهم.

مسير أبي ثعلب من الموصل إلى ميافارقين:

ولمّا سمع أبو ثعلب بخروج أبي المعالي من ميافارقين إلى حلب لقتال قرعويه سار إليها. وامتنعت زوجة سيف الدولة منه، واستقرّ الأمر بينهما على أن تحمل إليه مئتي ألف درهم، ثمّ نمي إليها أنّه يحاول على ملك البلد فكبسته ليلاً، ونالت من معسكره ؛ فبعث إليها يلاطفها، فأعادت إليه بعض ما نُهب، وحملت إليه مئة ألف درهم، وأطلقت الأسارى، فرجع عنها.

استيلاء الروم على أنطاكية ثمّ حلب وسواها:

وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمئة خرج الروم إلى أنطاكية فنزلوا بجبلها ؛ وبعد شهرين أمدّهم أخو يعفور ملك الروم في أربعين ألفاً، فنازلوها وامتلكوها وسبوا منها عشرين ألفاً.

ثمّ أنفذ ملك الروم جيشاً كثيفاً إلى حلب، وأبو المعالي بن سيف الدولة قائم على حصارها، ففارقها وقصد البريّة.

وملك الروم حلب، وتحصّن قرعويه وأهل البلد بالقلعة، فحاصروها مدّةً ثمّ عقدوا الهدنة بينهم على مالٍ يحمله قرعويه، وعلى أنّ الروم إذا أرادوا الميرة من قرى الفرات لا يمنعونهم منها.

ودخل في هذه الهدنة كثير من أعمال حلب.

استيلاء أبي ثعلب على حران:

وفي منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمئة سار أبو ثعلب إلى حران وحاصرها نحواً من شهر، ثمّ جنح أهلها إلى مصالحته، واضطربوا في ذلك ثمّ توافقوا عليه.

وخرجوا إلى أبي ثعلب وأعطوه الطاعة. ودخل في إخوانه وأصحابه، فصلّى الجمعة ورجع إلى معسكره، واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي وكان من أكابر أصحاب بني حمدان.

٢٧

وبلغه الخبر بأنّ نميراً عاثوا في بلاد الموصل وقتلوا العامل ببرقعيد، فأسرع العود.

مصالحة قرعويه لأبي المعالي:

قد تقدّم خبر استبداد قرعويه بحلب سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة على ابن مولاه أبي المعالي وخروج أبي المعالي ولحاقه بأمّه بميافارقين، ثمّ رجوعه لحصار قرعويه بحلب ثمّ رجوعه إلى حمص ونزوله بها.

ثمّ بعد ذلك تمّ الاتفاق بين أبي المعالي وقرعويه على أن يخطب له بحلب ويخطبان جميعاً للمعزّ العلوي صاحب مصر.

مسير الروم إلى بلاد الجزيرة:

وفي سنة إحدى وستّين وثلاثمئة سار الدمستق في جموع الروم إلى الجزيرة، فأغار على الرها ونواحيها، ثمّ تنقّل في نواحي الجزيرة، ثمّ بلغ نصيبين واستباحها ودخلها، ثمّ سار في ديار بكر ففعل مثل ذلك.

ولم يكن لأبي ثعلب في مدافعتهم أكثر من حمل المال إليهم. واستفزّ ذلك مسلمي بغداد وراجعوا الطائع وبختيار، وبينما تعدّ العدّة لمقاومة أولئك الغزاة جرت أُمورٌ في بغداد حالت دون الغرض، ولما فعل الدمستق ما فعل في ديار مضر والجزيرة ولم يلاق مقاومة، طمع في فتح آمد. فسار إليه أبو ثعلب، وقدّم أخاه أبا القاسم هبة الله واجتمعا على حرب الدمستق، ولقياه في رمضان سنة اثنتين وستّين وثلاثمئة.

وكانت الجولة في مضيق لا تتحرك فيه الخيل، وكان الروم على غير أُهبة، فانهزموا وأُخذ الدمستق أسيراً، فلم يزل محبوساً عند أبي ثعلب إلى أن مرض سنة ثلاث وستّين وثلاثمئة. وبالغ في علاجه وجمع له الأطباء فلم ينتفع بذلك ومات.

استيلاء بختيار على الموصل وما كان بينه وبين أبي ثعلب:

قد تقدّم ما كان بين أبي ثعلب وأخويه حمدان وإبراهيم من الحروب، وأنّهما سارا إلى بختيار بن معزّ الدولة مستصرخين فوعدهما بالنصرة، وشغل عن ذلك بما كان فيه فأبطأ عليهما أمره.

٢٨

وهرب إبراهيم ورجع إلى أخيه أبي ثعلب، فتحرك عزم بختيار على قصد الموصل، وأغراه وزيره ابن بقيّة لتقصيره في خطابه، فسار ووصل إلى الموصل في ربيع سنة ثلاث وستّين وثلاثمئة.

ولحق أبو ثعلب بسنجار وأخلى الموصل من الميرة ومن الدواوين. وخالف بختيار إلى بغداد ولم يحدث فيها حدثاً من نهبٍ ولا غيره، وإنّما قاتل أهل بغداد، فحدثت فيها الفتنة بسبب ذلك بين عامّتها، واضطرب أمرهم وخصوصاً الجانب الغربي.

وسمع بختيار بذلك فبعث في أثره وزيره ابن بقية وسبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد، وأقام سبكتكين في الضحية، وتأخّر أبو ثعلب عن بغداد، وحاربه يسيراً ثمّ داخله في الانتقاض واستيلاء سبكتكين على الأمر. ثمّ أقصر سبكتكين عن ذلك، وخرج إليه ابن بقية، وراسلوا أبا ثعلب في الصلح على مالٍ يضمنه ويرد على أخيه حمدان أقطاعه ما سوى ماردين. وكتبوا بذلك إلى بختيار، وارتحل أبو ثعلب إلى الموصل، وأشار ابن بقية على سبكتكين باللحاق ببختيار فتقاعد، ثم سار وارتحل بختيار عن الموصل بعد أن جهد منه أهل البلد بما نالهم من ظلمه وعسفه. وطلب منه أبو ثعلب الإذن في لقب سلطاني وأن يحط عنه من الضمان فأجابه وسار، ثمّ بلغه في طريقه أنّ أبا ثعلب نقض وقتل بعضاً من أصحاب بختيار، عادوا إلى الموصل لنقل أهاليهم. فاستشاط بختيار واستدعى ابن بقية وسبكتكين في العساكر، وعادوا جميعاً إلى الموصل.

وفارقها أبو ثعلب وبعث أصحابه بالاعتذار والحلف على إنكار ما بلغه فقبل، وبعث الشريف أبا أحمد الموسوي لاستلحاقه. وتمّ الصلح ورجع بختيار إلى بغداد فجهز ابنته إلى أبي ثعلب وقد كان عقد له عليها من قبل.

عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى حلب:

تقدّم خبر إخراج قرعويه أبا المعالي من حلب سنة سبع وخمسين وثلاثمئة ومسيره إلى والدته بميافارقين ثمّ نزوله بحماة. وكانت الروم قد أمنت حمص وكثر أهلها. وكان قرعويه قد استناب بحلب مولاه يكجور، فقوي عليه وحبسه في قلعة حلب وملكها سنين. فكتب أصحاب قرعويه إلى أبي المعالي واستدعوه، فسار وحاصرها أربعة أشهر وملكها، وأصلح

٢٩

أحوالها وازدادت عمارتها حتّى انتقل إلى ولاية دمشق.

استيلاء عضد الدولة بن بويه على الموصل، وسائر ملوك بني حمدان:

ولمّا ملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد، وهزم بختيار أبن عمّه معزّ الدولة، سار بختيار في الفل إلى الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة أخو أبي ثعلب، فحسن له قصد الموصل على الشام. وقد كان عضد الدولة عاهده أن لا يتعرّض لأبي ثعلب لمودّةٍ بينهما، فنكث وقصدها. ولمّا انتهى إلى تكريت أتته رسل أبي ثعلب بالصلح وأن يسير إليه بنفسه وعساكره، ويعيده على ملك بغداد، على أن يسلّم إليه أخاه حمدان، فسلّمه إلى رسل أبي ثعلب فحبسه.

وسار بختيار إلى الحديثة، ولقي أبا ثعلب وسار معه إلى العراق في عشرين ألف مقاتل. وزحف نحوهما عضد الدولة، والتقوا بنواحي تكريت في شوّال سنة ستّ وستّين وثلاثمئة ؛ فهزمهما عضد الدولة وقتل بختيار ونجا أبو ثعلب إلى الموصل ؛ فأتبعه عضد الدولة وملك الموصل في ذي القعدة، وحمل معه الميرة والعلوفات للإقامة، وبثّ السرايا في طلب أبي ثعلب ومعه المرزبان بن بختيار وأخواله أبو إسحاق وظاهر ابنا معزّ الدولة ووالدتهم.

وسار لذلك أبو الوفاء ظاهر بن إسماعيل من أصحابه، وسار حاجبه أبو ظاهر ظعان إلى جزيرة ابن عمرو، ولحق أبو ثعلب بنصيبين ثمّ انتقل إلى ميافارقين فأقام بها. وبلغه مسير أبي الوفاء إليه ففارقها إلى بذليس ؛ وجاء أبو الوفاء إلى ميافارقين فامتنعت عليه ففارقها.

وطلب أبا ثعلب فخرج من أرزن الروم إلى الحسينية من أعمال الجزيرة، وصعد إلى قلعة كواشي وغيرها من قلاعه ونقل منها ذخيرته وعاد ؛ فعاد أبو الوفاء إلى يافارقين وحاصرها.

واتصل بعضد الدولة مجيئه إلى القلاع فسار إليه ولم يدركه، واستأمن إليه كثير من أصحابه. وعاد إلى الموصل وبعث قائده ظعان إلى بذليس، فهرب منها أبو ثعلب، واتصل بملكهم المعروف بورد الرومي وكان منازعاً لملكهم الأعظم في الملك. فوصل ورد يده بيد أبي ثعلب وصاهره ليستعين

٣٠

به، واتبعه في مسير عسكر عضد الدولة وأدركوه فهزمهم وأثخن فيهم، ونجا فلّهم إلى حصن زياد ويُسمّى خرت برت، وأرسل إلى ورد يستمدّه فاعتذر بما هو فيه ووعده بالنصر. ثمّ انهزم ورد أمام ملك الروم. فأيس أبو ثعلب من نصره وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد حتّى جاء بر ميافارقين.

وكان أبو الوفاء لمّا رجع من طلب أبي ثعلب حاصر ميافارقين والوالي عليها هزار مرد، فضبط البلد ودافع أبو الوفاء ثلاث أشهر ثمّ مات.

وولّى أبو علب مكانه مؤنساً من موالي الحمدانية، ودسّ أبو الوفاء إلى بعض أعيان البلد فاستماله، فبعث له في الناس رغبة، وشعر بذلك مؤنس فلم يطق مخالفتهم، فانقاد واستأمن.

وملك أبو الوفاء البلد، وكان في أيّام حصاره قد افتتح سائر حصونه، فاستولى على سائر ديار بكر، وأمن أصحاب أبي ثعلب وأحسن إليهم، ورجع إلى الموصل.

وبلغ الخبر إلى أبي ثعلب منقلبه من دار الحرب، فقصد الرحبة، وبعث إلى عضد الدولة يستعطفه، فشرط عليه المسير إليه، فامتنع. ثمّ استولى عضد الدولة على ديار مضر، وكان عليها من قبل أبي ثعلب سلامة البرقعيدي من كبار أصحاب ابن حمدان.

وكان أبو المعالي بن سيف الدولة بعث إليها جيشاً من حلب فحاروها وامتنعت عليهم. وبعث أبو المعالي إلى عضد الدولة وعرض بنفسه عليه، فبعث عضد الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي إلى سلامة البرقعيدي، وتسلّمها بعد حروب، وأخذ لنفسه منها الرقّة، وردّ باقيها على سعد الدولة، فصارت له.

ثمّ استولى عضد الدولة على الرحبة وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه، واستولى على جميع أعماله. واستخلف أبا الوفاء على الموصل، ورجع إلى بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وستّين وثلاثمئة.

ثمّ بعث عضد الدولة جيشاً إلى الأكراد الهاكارية من أعمال الموصل، فحاصروهم حتى استقاموا وسلموا قلاعهم، ونزلوا إلى الموصل فحال الثلج بينهم وبين بلادهم فقتلهم قائد الجيش وصلبهم على جانبي طريق الموصل.

٣١

مقتل أبي ثعلب بن حمدان:

ولمّا أيس أبو ثعلب بن مدان من إصلاح عضد الدولة والرجوع إلى ملكه بالموصل سار إلى الشام، وكان على دمشق قسام داعية العزيز العلوي، غلب عليها بعد أفتكين وقد تقدم ذلك وكيف ولي أفتكين على دمشق فخاف قسام من أبي ثعلب ومنعه من دخول البلد؛ فأقام بظاهرها وكاتب العزيز، وجاءه الخبر بأنه يستقدمه، فرح إلى طبرية بعد مناوشة حرب بينه وبين قسام.

وجاء فلٌّ من العزيز لحصار قسام بدمشق، ومرّ بأبي ثعلب ووعده عن العزيز بكلِّ جميل.

ثمّ حدثت الفتنة بين دغفل وقسام وأخرجهم، وانتصروا بأبي ثعلب فنزل بجوارهم مخافة دغفل والقائد الذي يحاصر دمشق.

ثمّ ثار أبو ثعلب في بني عقيل إلى الرملة في محرّم سنة تسع وتسعين وثلاثمئة، فاستراب به الفضل ودغفل وجمعوا لحربه، ففرّ بنو عقيل عنه. وبقي في سبعمئة من غلمانه وغلمان أبيه، وولّى منهزماً، فلحقه الطلب، فوقف يقاتل، فضُرب وأُسر وحُمل إلى دغفل.

وأراد الفضل حمله إلى العزيز، فخاف دغفل أن يصطنعه كما فعل بأفتكين فقتله، وبعث الفضل بالرأس إلى مصر. وحمل بنو عقيل أخته جميلة وزوجته بنت سيف الدولة إلى أبي المعالي بحلب، فبعث بجميلة إلى الموصل، وبعث بها أبو الوفاء إلى عضد الدولة ببغداد فاعتقلها.

مخالفة بكجور لأبي المعالي:

وفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمئة استوحش بكجور من أبي المعالي، وأرسل إلى العزيز يستنجزه وعده بولاية دمشق جزاءً له على حمله الأقوات لمصر وقد وقع بها الغلاء، فحال ابن كلس دون ذلك وكان بها والياً للعزيز بلكين.

وجرت أُمورٌ منها قيام الكتاميين ضد كلس اضطرّت العزيز لاستقدام بلكين لإطفاء الفتنة، وعيّن خلفاً له بكجور، ثمّ تصرّفت الأُمور ببكجور فخرج من دمشق ورحل إلى الرقّة بعد انهزامه من منير وولاية هذا على دمشق.

٣٢

فاستولى بكجور على الرقّة ثمّ على الرحبة وغير ذلك، وراسل بهاء الدولة ابن عضد الدولة بالطاعة، وبادر الكردي المتغلّب على دار بكر والموصل بالمسير إليه، وأبا المعالي سعد الدولة صاحب حلب بالعود إلى طاعته، على أن يقطعه حمص، فلم يجبه أحد إلى شيء. فأقام بالرقّة يراسل موالي سعد الدولة أبي المعالي ويستميلهم في الغدر به، فأجابوه وأخبروه أنّ أبا المعالي مشغول بلذّاته.

فاستمدّ حينئذٍ العزيز، فكتب إلى نزال بطرابلس وغيره من ولاة الشام أن يمدّوه ويكونوا في تصرفه. فكتب نزال إلى بكجور يواعده بذلك في يوم معوم، وأخلفه.

وسار بكجور من الرقّة إلى حمص فلم يقبل، وكتب أبو المعالي إلى صاحب انطاكية يستمده فأمدّه بجيش الروم، وكتب إلى العرب الذين مع يكجور يرغّبهم في الأموال والأقطاع، فوعدوه خذلان بكجور عند اللقاء.

فلمّا التقى العسكران وشُغل الناس بالحرب عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه ولحقوا بأبي المعالي ؛ فاستمات بكجور وحمل على موقف أبي المعالي يريده، وقد أزاله لؤلؤ عن موقفه ووقف مكانه خشيةً عليه وحمل ذلك، فلمّا انتهى بكجور لحملته برز إليه لؤلؤ وضربه فأثبته، وأحاط به أصحابه فولّى منهزماً.

وجاء بعضهم إلى أبي المعالي فشارطه على تسليمه إليه، فقبل شرطه وأحضره فقتله.

وسار إلى الرقّة وبها سلامة الرشقي مولى يكجور وأولاده وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزيره، فاستأمنوا إليه فأمنهم.

ونزلوا عن الرقّة فملكها، واستكثر ما مع أولاد بكجور، فقال له القاضي ابن أبي الحصين هو مالك وبكجور لا يملك شيئاً ولا حنث عليك، فاستصفى مالهم أجمع، وشفع فيهم العزيز فأساء إليه الرد.

وهرب الوزير المغربي إلى مشهد علي (عليه السلام).

وفي سنة أربع وسبعين وثلاثمئة كتب ابن سعدان وزير صمصام الدولة إلى أبي المعالي ابن حمدان صاحب حلب يومئذٍ بولاية ديار بكر وإدخالها في عمله ؛ فسيّر إليه أبو المعالي عسكره إلى ديار بكر فلم يكن لهم طاقة بأصحاب باد، فحاصروا ميافارقين أيّاماً ورجعوا إلى حلب.

٣٣

عود بني إلى الموصل ومقتل باد:

كان أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن ابنا ناصر الدولة بن حمدان قد لحقا بعد مهلك أخيهما أبي ثعلب، وكانا ببغداد واستقرّا في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة. فلمّا تولّى شرف الدولة وخواشاده في الموصل بعثهما إليها.

ثمّ أنكر ذلك عليه أصحابه، فكتب إلى خواشاده عامل الموصل فمنعهما، فكتب إليهما بالرجوع عنه، فلم يجيباه ؛ وأغذّا السير إلى الموصل حتّى نزلا بظاهرها.

وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك الذين عندهم، وخرجوا إلى بني حمدان. وزحف الديلم لقتالهم، فانهزموا وقُتل منهم خلقٌ كثير، وامتنع باقيهم بدار الإمارة، وأراد أهل الموصل استلحاقهم فمنعهم بنو حمدان، وأخرجوا خواشاده ومن معه على الأمان إلى بغداد، وملكوا الموصل.

وتسايل إليهم العرب من كلِّ ناحية، وبلغ الخبر إلى باد وهو بديار بكر بملك الموصل، وجمع فاجتمع إليه الأكراد البثنوية أصحاب قلعة فسك، وكان جمعهم كثيراً، واستمال أهل الموصل بكتبه فأجابه بعضهم، فسار ونزل على الموصل، وبعث أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان إلى أبي عبد الله محمّد بن المسيّب أمير بني عقيل يستنصرانه، وشرط عليهما جزيرة ابن عمرو ونصيبين فقبلا شرطه.

وسار أبو عبد الله صريخا، وأقام أخوه أبو طاهر بالموصل، وباد يحاصره.

وزحف أبو الراود في قومه مع أبي عبد الله بن حمدان، وعبروا دجلة عند بدر وجاؤوا إلى باد من خلفه. وخرج أبو طاهر والحمدانية من أمامه.

والتحم القتال، ونكب بباد فرس فوقع طريحاً، ولم يطق الركوب، وجهض العدو عنه أصحابه فتركوه، فقتله بعض العرب وحمل رأسه إلى بني حمدان.

ورجعوا ظافرين إلى الموصل وذلك سنة ثمانين وثلاثمئة.

مهلك أبي طاهر بن حمدان واستيلاء بني عقيل على الموصل:

لمّا هلك باد طمع أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان في استرجاع ديار بكر. وكان أبو علي بن مروان الكردي وهو ابن أخت باد قد خلص

٣٤

من المعركة ولحق بحصن كيفا وبه أهل باد وماله، وهو من أمنع المعاقل. فتزوج امرأة خاله واستولى على ماله وعلى الحصن، وسار في ديار بكر فملك ما كان لخاله فيها تليداً.

وبينما هو يحاصر ميافارقين زحف إليه أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان يحاربانه فهزمهما وأسر أبا عبد الله ثانية، إلى أن شفع فيه خليفة مصر فأطلقه، واستعمله الخليفة على حلب إلى أن هلك.

وأمّا أبو طاهر فلحق بنصيبين في فلّ من أصحابه وبها أبو الدرداء محمّد بن المسيب أمير بني عقيل.

وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وبعث إلى بهاء الدولة أن ينفذ إليها عاملاً من قِبَله، فبعث إليها قائداً كان تصرّفه عن أبي الدرداء ولم يكن له من الأمر شيء.

وانقرض ملك بني حمدان من الموصل.

موت سعد الدولة بن حمدان بحلب وولاية ابنه أبي الفضائل:

ولمّا هزم سعد الدولة مولاه بكجور وقتله حين سار إليه من الرقّة رجع إلى حلب، فأصابه فالج سنة إحدى وثمانين وثلاثمئة. وكان مولاه لؤلؤ كبير دولته فنصب ابنه أبا الفضائل وأخذ له العهد على الأجناد.

وتراجعت إليهم العساكر، وبلغ الخبر أبا الحسن المغربي وهو بمشهد علي (عليه السلام) فسار إلى العزيز بمصر وأغراه بملك حلب، فبعث إليه قائده منجوتكين في العساكر وحاصره. ثمّ ملك البلد واعتصم أبو الفضائل ولؤلؤ بالقلعة.

وبعث أبو الفضائل ولؤلؤ إلى ملك الروم يستنجدانه، وكان مشغولاً بقتال البلغار. فأرسل غلى نائبه بأنطاكية أن يسير إليهم، فسار في خمسين ألفاً ونزل جسر الحديد على وادي العاصي، فنفر إليه منجوتكين في عساكر المسلمين وهزم الروم إلى أنطاكية، واتبعهم فنهب بلادها وقراها وأحرقها. ونزل أبو الفضائل ولؤلؤ من القلعة إلى مدينة حلب فنقل ما فيها من الغلال وأحرق الباقي.

وعاد منجوتكين إلى حصارهم بحلب، وبعث لؤلؤ إلى أبي السن المغربي في الوساطة لهم، فصالحهم منجوتكين ورحل غلى دمشق ضجراً من الحرب وتعذر الأقوات. ولم يراجع العزيز في ذلك، فغضب العزيز

٣٥

وكتب إليه يوبّخه ويأمر بالعود وبحصار حلب، فعاد وأقام عليها ثلاثة عشر شهراً. فبعث أبو الفضائل ولؤلؤ مراسلة لملك الروم، وحرضوه على انطاكية وكان قد توسط بلاد البلغار فرجع عنها وأجفل في الحشد ورجع إلى حلب.

وبلغ الخبر إلى منوتكين فأجفل عنها بعد أن أحرق خيامه وهدم مبانيه. وجاء ملك الروم، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ فشكرا له ورجعا.

ورحل ملك الروم إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبهما، وحاصر طرابلس فامتنعت عليه فأقام بها أربعين ليلة، ثمّ رحل عائداً إلى بلده.

انقراض بني حمدان بحلب واستيلاء بني كلاب عليها:

ثمّ إنّ أبا نصر لؤلؤاً مولى سيف الدولة، عزل أبا الفضائل مولاه بحلب، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العباسيّة، وخطب للحاكم العلوي بمصر ولقبّه مرتضى الدولة.

ثمّ فسد حاله معه فطمع فيه بنو كلاب بن ربيعة، وأميرهم يومئذٍ صالح بن مرداس. وقبض لؤلؤ على جماعة منهم دخلوا إلى حلب كان فيهم صالح، فاعتقله مدّةً وضيّق عليه، ثمّ فرّ من محبسه ونجا إلى أهله.

وزحف إلى حلب ولؤلؤ، وكانت بيه وبينهم حروب هزمه صالح آخرها وأسره سنة ستّين وأربعمائة.

وخلص أخوه نجا إلى حلب فحفظها، وبعث إلى صالح في فدية أخيه وشرط له ما شاء فأطلقه ورجع إلى حلب، واتهم مولاه فتحاً وكان نائبه على القلعة بالمداخلة في هزيمته فأجمع نكبته، ونمي إليه الخبر، فكاتب الحاكم العلوي وأظهر دعوته، وانتقض على لؤلؤ، فأقطعه الحاكم صيدا وبيروت، ولحق لؤلؤ بالروم في أنطاكية فأقام عندهم، ولحق فتح بصيدا، واستعمل الحاكم على حلب من قبله.

وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة أجمع، وبقيت حلب في ملك العبيديين.

ثمّ غلب عليها صالح بن مرداس الكلابي، وكانت بها دولة له ولقومه ورثها عنهم بنوه.

٣٦

ذكر ما لأوّل بني حمدان من

المكانة في دولة العبّاسيّين

(ما جاء في وفيات الأعيان للقاضي ابن خِلّكان)

قال في ترجمة ناصر الدولة - بعد أن ذكر سلسلة نسبه - هكذا:

أبو محمّد الحسن الملقّب ناصر الدولة بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحرث بن لقمان بن راشد بن المثنى بن رافع بن الحرث بن غطيف بن محربة بن حارثة بن مالك بن عبيد بن عدي بن أسامة ابن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب التغلبي.

كان صاحب الموصل وما والاها، وتنقلت به الأحوال تارات إلى أن ملك الموصل بعد أن كان نائباً بها عن أبيه ؛ ثمّ لقّبه الخليفة المتّقي بالله ناصر الدولة وذلك في مستهلّ شعبان سنة ثلاثين وثلاثمئة ؛ ولقّب أخاه سيف الدولة في ذلك اليوم أيضاً، وعظم شأنهما.

وكان الخليفة المكتفي بالله قد ولّى أباهما عبد الله بن حمدان الموصل وأعمالها في سنة اثنتين وتسعين ومئتين، فسار إليها ودخلها في أوّل سنة ثلاث وتسعين ومئتين.

وكان ناصر الدولة أكبر سنّاً من أخيه سيف الدولة وأقدم منزلةً عند الخلفاء، وكان كثير التأدّب معه. وجرت بينهما يوماً وحشة، فكتب إليه سيف الدولة:

لست أجفو وإن جفوت ولا أت رك حـقّاً عـليَّ في كلِّ حالِ

٣٧

إنّـما أنـت والدٌ والأب الجا في يجازى بالصبر والاحتمالِ

وكتب إليه مرةً أُخرى:

رضـيت لك العليا وإن كنت أهلها وقـلت لـهم بيني وبين أخي فرقُ

ولـم يـك بـي عنها نكولٌ وإنّما تـجافيت عـن حقّي فتمّ لي الحقُّ

ولا بـدّ لـي من أن أكون مصلّياً إذا كنت أرضى أن يكون لك السبقُ

وكان ناصر الدولة شديد المحبّة لأخيه سيف الدولة ؛ فلمّا توفّي سيف الدولة تغيّرت أحوال ناصر الدولة وساءت أخلاقه وضعف عقله إلى أن لم يبق له حرمة عند أولاده وجماعته. فقبض عليه ولده أبو تغلب فضل الله الملقب عدّة الدولة المعروف بالغضنفر بمدينة الموصل باتفاق من إخوته، وسيّره إلى قلعة اردمشت في حصن السلامة.

وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أنّ هذه القلعة هي التي تُسمّى الآن قلعة كواشي، وذلك في يوم السبت الرابع والعشرين من جمادى الأُولى سنة ستّ وخمسين وثلاثمئة.

ولم يزل محبوساً بها إلى أن توفّي يوم الجمعة وقت العصر ثاني عشر شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، ونُقل إلى الموصل ودُفن في تل توبة شرقيّ الموصل. وقيل إنّه توفّي سنة سبع وخمسين وثلاثمئة.

وقال محمّد بن عبد الملك الهمداني في كتابه (عنوان السير ) في آخر ترجمة ناصر الدولة:

ولم يزل - يعني ناصر الدولة - مستولياً على ديار الموصل وغيرها حتّى قبض عليه ابنه الغضنفر في سنة ستّ وخمسين وثلاثمئة، وكانت إمارته هناك اثنتين وثلاثين سنة. وتوفي يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل سنة سبع وخمسين وثلاثمئة.

وقُتل أبوه ببغداد وهو يدافع عن الإمام القاهر بالله، لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمئة.

وأمّا الغضنفر بن ناصر الدولة، فإنّه جرت له مع عضد الدولة بن بويه لمّا ملك بغداد، بعد قتله بختيار ابن عمّه، وقد كان معه في الوقعة التي قُتل فيها قضايا يطول شرحها، وحاصلها: أنّ عضد الدولة قصده بالموصل فهرب

٣٨

منه إلى الشام، ونزل بظاهر دمشق والمستولي عليها قسام العيار، فكتب إلى العزيز بن المعز صاحب مصر يسأله تولية الشام، فأجابه إلى ذلك ظاهراً ومنعه باطناً. فتوجّه إلى الرملة في المحرّم سنة سبع وستّين وثلاثمئة وبها المفرّج بن الجرّاح البدوي الطائي، فهرب منه.

ثمّ جمع له جموعاً وعاد إليه، فالتقيا على بابها في يوم الاثنين لليلةٍ خلت من صفر في تلك السنة، فانهزم أصحابه وأُسر وقُتل يوم الثلاثاء ثاني صفر المذكور، ومولده يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة.

ما ورد في تاريخ الطبري في أوّل أمرهم:

(جاء فيه في حوادث ٢٧٢)

وفيها: ورد الخبر من مدينة السلام بدخول حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل. وصلّى الشاري بهم في مسجد الجامع.

(جاء فيه في حوادث سنة ٢٨١)

لستِّ ليالٍ بقين من ذي القعدة، خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل عامداً لحمدان بن حمدون ؛ وذلك أنّه بلغه أنّه مايل هارون الشاري الوازقي ودعا له، فورد المعتضد من كرخ جدّان على نجاح الحُرميّ الخادم بالوقعة بينه وبين الأعراب والأكراد، وكانت يوم الجمعة سلخ ذي القعدة:

(بسم الله الرحمن الرحيم: كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة، وقد نصر الله - وله الحمد - الأكراد والأعراب، وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم، ولقد رأيتنا ونحن نسوق البقر والغنم كما كنّا نسوقها عاماً أوّلا. ولم تزل الأسنّة والسيوف تأخذهم. وحال بيننا وبينهم الليل، وأوقدت النيران على رؤوس الجبال، ومن غد يومنا فيقع الاسقصاء، وعسكري يتبعني إلى الكرخ، وكان وقاعنا بهم وقتلنا إيّاهم خمسين ميلاً، فلم يبق منهم مخبرٌ والحمد لله كثيراً.

فقد وجب الشكر لله علينا والحمد له رب العالمين وصلّى الله على محمّدٍ نبيّه وآله وسلّم كثيراً، إلى أن قال:

٣٩

ثمّ خرج المعتضد إلى الموصل عامداً لقلعة ماردين، وكانت في يد حمدان بن حمدون، فلمّا بلغه مجيء المعتضد هرب وخلّف ابنه ؛ فنزل عسكر المعتضد على القلعة، فحاربهم مَن كان فيها يومهم ذلك. فلّما كان من الغد ركب المعتضد فصعد القلعة حتّى وصل إلى الباب، ثمّ صاح:

يابن حمدون!... فأجابه: لبيك.

فقال له: افتح الباب... ويلك... ففتحه.

فقعد المعتضد في الباب، وأمر من دخل، فنقل ما في القلعة من المال والأثاث، ثمّ أمر بهدمها فهُدمت.

ثمّ وجّه خلف حمدان فطلب أشدّ الطلب وأخذت أموال كانت له مودعة، وجيء بالمال إلى المعتضد ثمّ ظفر به بعد.

(وجاء فيه في حوادث سنة ٢٨٢)

وفيها: كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير إليه. فأمّا إسحاق بن أيوب فسارع إلى ذلك، وأمّا حمدان بن حمدون فتحصّن في قلاعه وغيّب أمواله وحرمه.

فوجّه إليه المعتضد الجيوش مع وصيف موشكير ونصر القشوري وغيرهما، فصادفوا الحسن بن علي كوره وأصحابه منيخين على قلعة حمدان بموضعٍ يُعرف بدير الزعفران من أرض الموصل، وفيها الحسين بن حمدان.

فلمّا رأى الحسين العسكر مقبلين طلب الأمان فأومن، وسار الحسين إلى المعتضد وسلّم القلعة، فأمر بهدمها.

وأغذّ وصيف موشكير السير في طلب حمدان، وكان قد صار في موضعٍ يُعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائداً، فعبر أصحاب وصيف إليه، ونذر بهم، فركب وأصحابه ودافعوا عن أنفسهم حتّى قتل أكثرهم ؛ فألقى حمدان نفسه في زورقٍ كان معدّاً له في دجلة ومعه كاتب له نصراني يسمّى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالاً وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة من أرض دار ربيعة ؛ وقدّر اللحاق بالأعراب لمّا حيل بينه وبين أكراده الذين في الجانب الشرقي.

وعبر في أثره نفرٌ يسيرٌ من الجند، فاقتصّوا أثره حتّى أشرفوا على دير

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

لا شك أنّ هذا الاختلاف لا يرتبط بذات الكون وذات الحوادث والظواهر، بل هو مرتبط بسعة رؤية الناظر إن كان محيطاً، تلك السعة التي تمكّنه من مشاهدة كل نقوش البساط وألوانه، وكل تموّجات النهر وتعرّجاته، وكل عربات القطار دفعة واحدة كما في الأمثلة السابقة.

في حين أنّ فقدان هذه السعة في رؤية الشخص الآخر يجعله لا يرى في كل لحظة إلّا حادثة واحدة فقط، وإلاّ تموّجاً واحداً من النهر، وإلاّ لوناً واحداً من ألوان البساط.

ومن هذا البيان يتبيّن أنّه ليس للعالم وجهان ونشأتان :

نشأة باسم الباطن.

وأُخرى باسم الظاهر.

وبعبارة أُخرى انّه ليس للظواهر والحوادث مرحلتان :

مرحلة الوجود الجمعي الدفعي.

ومرحلة الوجود التدريجي.

بل ليس للظاهرة ـ في الحقيقة ـ تحقّقان ووجودان إنّما هو وجود واحد، وتحقّق واحد، يرى تارة في صورة المجتمع، وأُخرى في صورة المتفرّق.

وأمّا الاختلاف ـ لو كان ـ فهو يرجع إلى قدرة الملاحظ وسعة نظرته وضيقها، وليس إلى ذات الحوادث والظواهر.

٢. انّ حضور الحوادث والظواهر عند الله دليل على علم الله بها جميعاً، لأنّ حقيقة العلم ليست إلّا حضور المعلوم عند العالم وحيث إنّ موجودات العالم من

١٠١

فعله سبحانه وقائمة به فهي إذن حاضرة لديه.

ونتيجة هذا الحضور ليست سوى علم الله بها ولكن لا يدل مثل هذا الحضور على علم الموجودات هي بالخالق الواحد سبحانه.

وبعبارة أُخرى لو كان هدف الآية هو بيان أنّ الله أخذ من بني آدم « الإقرار » بربوبيته والشهادة بها من جهة حضور هذه الموجودات لدى الله ـ كما تفيده هذه النظرية ـ يلزم علم الله بهذه الموجودات والحوادث لا علم هذه الحوادث والموجودات بالله تعالى، فلا يتحقّق معنى الشهادة والإقرار.

فإنّه ربّما يتصور إنّ حضور الأشياء عند الله كما يستلزم علمه بها، كذلك يستلزم علم تلك الموجودات بالله.

ولكن هذا وهم خاطئ وتصور غير سليم، لأنّ الحضور إنّما يكون موجباً للعلم إذا اقترن بقيام الشيء بالله وإحاطته سبحانه بذلك الشيء، ومثل هذا الملاك موجود في جانب الله حيث إنّه قيوم [ تقوم به الأشياء ]محيط بالكون في حين أنّه لا يوجد هذا الملاك في جانب الموجودات، لأنّها محاطة وقائمة بالله ( أي ليست محيطة بالله ولا أنّ الله سبحانه قائم بها حتى تعلم هي به تعالى ).

٣. انّ هذا التوجيه والتفسير لآية الميثاق بعيد عن الأذهان العامة، ولا يمكن إطلاق اسم التفسير عليه، بل هو للتأويل أقرب منه إلى التفسير.

نعم غاية ما يمكن قوله هو أنّ هذه النظرية تكشف عن أحد أبعاد هذه الآية، لكنَّه ليس البعد المنحصر والوحيد.

هذا مضافاً إلى أنّ ألفاظ هذه الآية مثل قوله:( وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ) ونظائره الذي هو بمعنى أخذ الشهادة والاعتراف والإقرار لا يتلاءم ولا ينسجم

١٠٢

مع هذا التفسير.

النظرية الرابعة

وتظهر هذه النظرية من الشريف المرتضى في أماليه، وإليك نص ما قاله الشريف بلفظه:(١)

إنّ الله تعالى إنّما عنى جماعة من ذرية بني آدم خلقهم وبلّغهم وأكمل عقولهم وقرّرهم على ألسن رسله: بمعرفته وما يجب من طاعته، فأقرّوا بذلك، وأشهدهم على أنفسهم به لئلاّ يقولوا يوم القيامة:( إِنَّا كُنَّا عَنْ هٰذَا غَافِلِينَ ) أو يعتذروا بشرك آبائهم.

وحاصل هذا الكلام وتوضيحه أنّ الله تعالى أخذ الاعتراف من جماعة خاصة، من البشر، وهم العقلاء الكاملون، لا من جميع البشر.

وقد أخذ هذا الاعتراف والميثاق حيث أخذ بواسطة الرسل والأنبياء الذين ابتعثهم الله إلى البشرية في هذه الدنيا.

وهذه النظرية مبنية على كون « من » في قوله سبحانه:( مِن بَنِي آدَمَ ) تبعيضية لا بيانية، ولأجل ذلك يختص بالمقتدين بالأنبياء.

ويمكن تأييد هذه النظرية بأنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله قد أخذ منهم الاعتراف في بعض المواضع على اختصاصه تعالى بالربوبية، كما يحدّثنا القرآن الكريم إذ يقول:( قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ *سَيَقُولُونَ لله قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ) (٢) ، وما يشابههما من الآيات التي أخذ فيها الاعتراف من الأشخاص ،

__________________

(١) الأمالي: ١ / ٢٩.

(٢) المؤمنون: ٨٦ ـ ٨٧.

١٠٣

وسيوافيك بعض هذه الآيات عند البحث في التوحيد الخالقي والربوبي.

ولكن ضعف هذه النظرية ظاهر، إذ مآلها انّ المؤمنين بكل نبي هم الذين اعترفوا ـ دون سواهم ـ بتوحيده سبحانه.

ولو كان مقصود الآية هو هذا، لكان ينبغي أن يكون التعبير عنه بغير ما ورد في الآية.

ثم إنّه يجب أن يكون تعبير القرآن عن المعاني الدقيقة بأوضح العبارات وأحسنها وأبلغها.

فلو كان مقصوده تعالى هو اعتراف جماعة خاصة ممَّن اقتدوا بالرسل، بتوحيده سبحانه، لوجب أن يبين ذلك بغير ما ورد في الآية من بيان.

هذه هي الآراء والنظريات التي أبداها المفسرون الكبار حول مفاد آية الميثاق والذر ونحن نأمل أن يستطيع المحقّقون ـ في المستقبل ـ من إيقافنا على معنى أوضح وأكثر انسجاماً مع ألفاظ هذه الآية الشريفة، وأن يوفقوا إلى توضيح حقيقتها ومغزاها.

* * *

ذكرنا فيما سبق أنّ النظرية الأُولى تستند إلى طائفة من الأحاديث الواردة في المجاميع الحديثية ولابد من دراستها والتوصل إلى حل مناسب لها.

فالعلاّمة المرحوم السيد هاشم البحراني نقل في تفسيره المسمّى ب‍ « البرهان » في ذيل تفسير آية الميثاق (٣٧) حديثاً(١) .

__________________

(١) البرهان: ٢ / ٤٦ ـ ٥١.

١٠٤

وكذا نقل نور الثقلين ـ وهو تفسير للقرآن على أساس الأحاديث على غرار تفسير البرهان ـ أيضاً (٢٧) حديثاً في ذيل تفسير هذه الآية(١) .

ولابد من الالتفات إلى أنّ هذه الأحاديث والأخبار تختلف في مفاداتها عن بعض، فليست بأجمعها ناظرة إلى النظرية الأُولى، فلا يمكن الاستدلال بها ـ جميعاً ـ على ذلك لوجوه :

أوّلاً: أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في القول الثاني، أو أنّها قابلة للانطباق على القول الثاني، مثل الأحاديث: ٦ و ٧ و ٢٠ و ٢٢ و ٣٥.

وإليك نص هذه الأحاديث :

أمّا الأحاديث ٦ و ٢٢ و ٣٥ وجميعها واحد راوياً ومروياً عنه وان اختلفت في المصدر، فهي :

عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللهعليه‌السلام : كيف أجابوا وهم ذر ؟ فقالعليه‌السلام :

« جعل فيهم ما إذا سألهم أجابوه ».

ففي هذه الأحاديث ـ كما نلاحظ ـ ليس هناك أي كلام عن الاستشهاد والشهادة اللفظيين بل قال الإمام: « جعل فيهم » وهي كناية عن وجود الإقرار التكويني في تكوينهم.

أما الحديث ٧ فقد روي عن عبد الله بن سنان قال: سألت أبا عبد الله ( الصادق )عليه‌السلام عن قول الله( فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ) ما تلك الفطرة ؟

__________________

(١) نور الثقلين: ٢ / ٩٢ ـ ١٠٢.

١٠٥

قال :

« هي الإسلام فطرهم الله حين أخذ ميثاقهم على التوحيد، قال: ألست بربكم، وفيه المؤمن والكافر ».

وهذا الحديث كما هو واضح يفسّر الميثاق المذكور في آية الذر بالفطرة ممّا يكون تصريحاً بأنّ الاستيثاق وأخذ الميثاق والإقرار أمر فطري جبلي تكويني.

وفي الحديث ٢٠ جاء عن المفضل بن عمر، عن الصادق جعفر بن محمدعليهما‌السلام في حديث طويل قال فيه :

« قال الله عزّ وجلّ لجميع أرواح بني آدم ألست بربكم ؟ قالوا: بلى، كان أوّل من قال بلى محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله فصار بسبقه إلى بلى سيد الأوّلين والآخرين وأفضل الأنبياء والمرسلين ».

وليس في هذا الحديث أي كلام عن اعتراف الذر وإقرار بني آدم وهم على هيئة ذرات صغيرة، ولذلك فهو وإن لم يكن صريحاً في النظرية الثانية « القائلة بالإقرار التكويني لا اللفظي من جانب الذرية » ولكنّه قابل للانطباق عليها.

ثانياً: أنّ بعض هذه الأحاديث صريحة في أنّ الإقرار والاعتراف بالربوبية جاء من جانب الأرواح كما لاحظنا في الحديث ٢٠.

أمّا ما يدل من تلك الأحاديث ( المنقولة في تفسير البرهان ) على النظرية الأُولى فهي ٣، ٤، ٨، ١١، ١٤، ١٧، ١٨، ٢٧، ٢٩.

وعددها كما هو الظاهر (٩) أحاديث، ولكنّنا لو أمعنا النظر فيها لوجدنا أنّ عددها الحقيقي لا يتجاوز ٥ أحاديث لا أكثر، لأنّ خمسة من هذه الأحاديث رواها « زرارة بن أعين » بمعنى أنّ آخر راو في هذه الأحاديث من الإمام هو زرارة ،

١٠٦

ومن المسلم أنّ راوياً واحداً لا يسأل عن شيء من الإمام خمس مرات، وأمّا نقل رواية زرارة ( التي هي ـ في الحقيقة ـ رواية واحدة ) في خمس صور، فلتعدد من روى هذا الحديث عن « زرارة »، ولذلك اتّخذ الحديث الواحد طابع التعدّد والكثرة، وهذا لا يوجب أن يعد الحديث الواحد خمسة أحاديث.

وعلى هذا فإنّ الأحاديث ٣ و ٤ و ١١ و ٢٧ و ٢٩ التي تنتهي إلى راو واحد هو « زرارة » لا يمكن عدّها خمسة أحاديث، بل يجب اعتبارها حديثاً واحداً لا غير.

وفي هذه الحالة ينخفض عدد الأحاديث المؤيدة للنظرية الأُولى من ٩ إلى ٥.

يبقى أنّ الأحاديث الأربعة الأُخرى ( أعني: ٨ و ١٤ و ١٧ و ١٨ ) فهي مبهمة نوعاً ما، وليست صريحة في المقصود.

وبعض تلك الأحاديث تعتبر هذا الميثاق والميثاق الذي أخذه الله من خصوص النبيين وتحدّث عنه القرآن في الآية ٨١ ـ آل عمران:( وإذ أخَذَ الله ميثاقَ النّبِيِّينَ لَما آتَيْتكُمْ مِنْ كِتابٍ وحِكْمَةٍ ) تعتبر هذين الميثاقين واحداً مثل الحديث رقم ١٢.

وها نحن ننقل لك أيها القارئ نص حديث زرارة أوّلاً، وهذا الحديث هو ما جاء تحت رقم ٣ و ٤ و ١١ و ٢٧ و ٢٩.

وإليك نصها بالترتيب :

عن ابن أبي عمير، عن زرارة أنّ رجلاً سأل أبا جعفر الباقرعليه‌السلام عن قول الله عزّ وجل:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ) فقال، وأبوه

١٠٧

يسمع :

« حدثني أبي أنّ الله عزّ وجل قبض قبضة من تراب التربة التي خلق منها آدم فصب عليها الماء العذب الفرات، فخرجوا كالذر من يمينه وشماله، وأمرهم جميعاً أن يقعوا في النار، فدخل أصحاب اليمين فصارت عليهم برداً وسلاماً » إلى آخر الحديث.

وعن ابن أُذينة، عن زرارة، عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال: سألته عن قول الله عز وجل:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال :

« أخرج من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة، فخرجوا كالذر، فعرفهم وأراهم نفسه ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه ».

ومثل هاتين الصورتين بقية الصور لحديث زرارة حرفاً بحرف.

أمّا الروايات الأربع الأُخرى ( أعني: ٨ و ١٤ و ١٧ و ١٨ ) فهي بالترتيب :

عن حمران عن أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال :

« فقال الله لأصحاب اليمين وهم كالذر يدبون: إلى الجنة ولا أبالي، وقال لأصحاب الشمال: إلى النار ولا أبالي، ثم ؟ قال: ألست بربكم قالوا: بلى شهدنا أن تقولوا » الخ.

وعن ابن مسكان، عن أبي عبد اللهعليه‌السلام في قوله( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قلت: معاينة كان هذا ؟ قال :

« نعم، فثبتت المعرفة ونسوا الموقف وسيذكرونه، ولولا ذلك لم يدر أحد من خالقه ورازقه، فمنهم من أقرّ بلسانه في الذر ولم يؤمن بقلبه ».

١٠٨

وعن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد الله الصادقعليه‌السلام في قوله عزّ وجلّ:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال :

« أخذ الله من ظهر آدم ذريته إلى يوم القيامة وهم كالذر، فعرفهم نفسه، ولولا ذلك لم يعرف أحد ربه، وقال: ألست بربكم، قالوا: بلى ».

وفي حديث طويل عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليه‌السلام قال :

« قول الله عزّ وجلّ( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) أخبرك أنّ الله سبحانه لـمّا خلق آدم مسح ظهره فاستخرج ذرية من صلبه سيما في هيئة الذر فألزمهم العقل، وقرر بهم أنّه الرب وأنّهم العبد فأقروا له بالربوبية ».

هذه هي عمدة الأحاديث التي نقلها تفسير البرهان في ذيل الآية المبحوثة تؤيد النظرية الأُولى.

وكذا نقل صاحب تفسير الدر المنثور أحاديث تؤيد هذه النظرية نذكر بعضها :

فمنها ما أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن عباس في قوله:( وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ ) قال: خلق الله آدم وأخذ ميثاقه أنّه ربّه، وكتب أجله ورزقه ومصيبته، ثم أخرج ولده من ظهره كهيئة الذر فأخذ مواثيقهم أنّه ربهم وكتب آجالهم وأرزاقهم ومصائبهم ».

وغير ذلك كثير(١) .

__________________

(١) راجع الدر المنثور: ٣ / ١٤١ ـ ١٤٢.

١٠٩

ثالثاً: لقد بين أئمّة الشيعة المعصومون: معياراً خاصاً لمعرفة الصحيح من الأحاديث وتمييزه عن غير الصحيح، وأمرونا بأن نميز صحاح الأحاديث على ضوء هذه المعايير هذا المعيار هو اعتماد ما يوافق الحديث للقرآن وطرح ما يخالفه.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ هذا القسم من الأحاديث ( التي نقلناها عن البرهان ) يخالف ظاهر القرآن، ولذلك ينبغي التسليم أمامها، ورد علمها إلى الأئمّة أنفسهم على فرض صدورها منهم.

١١٠

الفصل الثالث

الله وبراهين وجوده في القرآن

١١١

الله وبراهين وجوده في القرآن

١. كثرة البراهين على وجود الله تعالى.

٢. دليل الفطرة.

٣. برهان الحدوث.

٤. برهان الإمكان.

٥. برهان الحركة.

٦. برهان النظم.

٧. برهان محاسبة الاحتمالات.

٨. برهان التوازن والضبط.

٩. الهداية الإلهية في عالم الحيوان.

١٠. برهان الصدّيقين.

١١. براهين أُخرى.

١١٢

كثرة البراهين على وجود الله تعالى

من الأقوال المشهورة في أوساط العلماء تلك الجملة التي تقول :

« الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق ».

فهذه الجملة المقتضبة تشير إلى أنّ الأدلة على وجود الله جل شأنه ليست واحداً ولا اثنين ولا عشر ولا مائة، بل هي بعدد أنفاس المخلوقات.

وهذا الكلام وإن كان مثار عجب ودهشة عند من ليس لديه دراسة مفصلة وتعمّق في العلوم الإلهية إذ كيف يمكن ـ في نظر هؤلاء غير المتعمّقين في الإلهيات وغير الملمّين بعلوم التوحيد ـ.

كيف يمكن أن تكون أدلّة وجود الله بعدد أنفاس الخلائق التي لا يحصيها عدد ولا يحصرها عد ؟!!

ولكن لو أُتيح لنا أن نطّلع على ما ورد في كتب العقائد والفلسفة من الأدلّة على وجود الله، لأدركنا أنّ هذا الكلام لم يكن مبالغاً فيه، بل هو عين الحقيقة.

لأنّ بعض هذه الأدلّة التي سنشير إلى « أُصولها » وأُمّهاتها ـ هنا ـ من السعة والشمولية بحيث يتّخذ من نظام كل ذرة في عالمنا دليلاً على وجود الله، وطريقاً إلى إثباته.

ومن المعلوم أنّه لا يعلم عدد ذرات هذا العالم إلّا الله تعالى.

وفيما يأتي نذكر أُصول وأُمهات هذه البراهين الرائجة :

١١٣

١. دليل الفطرة

دليل الفطرة ـ كما تحدّثنا عنه في الفصل الأوّل ـ طريق القلب ودليل الفؤاد لا العقل والاستدلال.

فكل فرد ينجذب إلى الله ويميل إليه قلبياً وبصورة لا إرادية، سواء في فترة من حياته، أم في كل فترات حياته دون انقطاع.

وهذا التوجّه القلبي العفوي الذي يكمن في وجود كل فرد فرد من أبناء البشر لهو إحدى الأدلّة القاطعة على وجود الله، وهذا هو ما يسمّى بدليل « الفطرة ».

٢. برهان الحدوث

برهان الحدوث هو البرهان الذي يعتمد على « حدوث » الكون وما فيه.

وملخّصه: أنّ لهذا الكون بداية، وأنّه لذلك فهو مسبوق بالعدم، ومن البديهي أنّ ما يكون مسبوقاً بالعدم ( أي كان حادثاً )، فإنّ له محدثاً بالضرورة، لامتناع وجود الحادث دون محدث.

ويعتمد المتكلّمون الإسلاميون ـ في الأغلب ـ على حدوث العالم لإثبات الصانع، ربما باعتباره أقرب الأدلة إلى متناول العقول، والأفهام.

٣. برهان الإمكان

يتوسّل الفلاسفة المسلمون ـ في الغالب ـ لإثبات وجود الله بتقسيم الأشياء إلى :

واجب

١١٤

وممكن

وممتنع

وذلك لأنّ أيّة ظاهرة وأي شيء نتصوّره في عالم الذهن لا يخرج عن إحدى حالتين عندما ننسب إليه الوجود الخارجي فهو :

إمّا أن يقتضي الوجود لذاته، أي ينبع الوجود من ذاته، فهو « واجب الوجود ».

وإمّا يقتضي العدم لذاته، بمعنى أنّ العقل يمنع الوجود عنه، فهو « ممتنع الوجود ».

وأمّا لو كان الوجود والعدم بالنسبة إليه على حد سواء ( أي لا يقتضي لا الوجود ولا العدم بذاته ) فحينئذ يحتاج اتصافه بأحد الأمرين، أعني: العدم والوجود إلى عامل خارجي حتماً، لكي يخرجه من حالة التوسط والتساوي ويضفي عليه طابع الوجود أو العدم، وهذا النوع هو ما اصطلح على تسميته ب‍ « ممكن الوجود ».

وعندما نتصور الأشياء والظواهر الكونية نجد أنّ العدم أو الوجود لم يكن جزءاً من ماهيتها ولا عينها ولا مزروعاً فيها في الأصل، فإذا وجدناها تلبس ثوب الوجود، فلابد أن يكون هناك عامل خارجي عن ذاتها هو الذي أسبغ عليها ذلك وهو الذي أخرجها من عالم المعدومات إلى حيز الموجودات، أو بالعكس.

وهذا العامل الخارجي إن كان هو أيضاً على غرار تلك الأشياء في كونها ممكنة الوجود إذن لاحتاج إلى عامل خارجي آخر يضفي عليه حلة الوجود ويطرد عن ساحته صفة العدم.

١١٥

وإن كان هذا العامل الثاني نظير العامل الأوّل « في صفة الإمكان » لاحتاج إلى عامل آخر، وهكذا دواليك بحيث يلزم « التسلسل ».

وأمّا لو كان العامل الخارجي الأوّل ـ في حين كونه موجداً وعلّة للأشياء ـ معلولاً وموجداً من قبل نفس تلك الأشياء لزم « الدور » المستحيل في منطق العقول.

ولما كان التسلسل والدور باطلين عقلاً(١) لزم أن نذعن بأنّ كل الحادثات الممكنات تنتهي إلى موجد « غني بالذات » « قائم بنفسه » غير قائم بغيره، وغير مفتقر في وجوده إلى أحد أو شيء على الإطلاق.

وذلك الغني بالذات هو « الواجب الوجود » هو الله العالم، القادر، القيوم القائم بذاته القائم به ما سواه.

وهذا هو دليل الإمكان.

٤. برهان الحركة

كان روّاد العلوم الطبيعية ـ في السابق ـ كأرسطوا وأتباعه، يستدلّون ب‍ « حركة الأجسام والأجرام الفلكية » على وجود المحرّك، وبذلك يثبتون وجود الله.

فكانوا يقولون ما خلاصته: إنّه لا بد لهذه الأجرام المتحرّكة من محرّك منزّه عن الحركة، وذلك استناداً إلى القاعدة العقلية المسلمة القائلة: « لابد لكل متحرّك من محرّك غير متحرّك ».

__________________

(١) سيوافيك بيان جهة بطلان التسلسل والدور في الأبحاث القادمة.

١١٦

٥. برهان النظم

لقد ظل النظام البديع العجيب الذي يسود كل أجزاء الكون من الذرة إلى المجرّة، أحد العوامل المهمة التي هدت ذوي الألباب والفكر والمتذكرين(١) من البشر إلى الله، إذ لم يكن من المعقول ـ أبداً ـ أن لا يخضع مثل هذا النظام البديع والمعقد لتدبير قوة عاقلة عليا، وتدبير مدبّر حكيم.

والآيات القرآنية المتعرضة لبيان آثار الله تعالى في عالم الخلق إن كانت تهدف إلى إثبات الصانع، فهي في الحقيقة إنّما تعتمد على « برهان النظم ».

فإذا كانت ورقة من أوراق الشجرة، أو ذرة من ذرات العالم، دليلاً على حكمة الله تعالى وبرهاناً على إرادته، فهي بطريق أولى دليل على « أصل وجوده ».

إذ الوجود مقدّم على الصفات، فما دلّ على الصفات فهو بالأحرى دال على الوجود.

وسيأتي الحديث المفصّل عن هذا القسم في المستقبل.

٦. برهان محاسبة الاحتمالات

وهو برهان ابتكره علماء الغرب وزاده نضجاً وتوضيحاً العالم المعروف « كريسي موريسون » صاحب كتاب « العلم يدعو للإيمان » الذي لم يهدف من كتابته إلّا بلورة وإيضاح هذا البرهان ـ أساساً ـ.

__________________

(١) هذه الأوصاف الثلاثة مقتبسة من القرآن الكريم، فهو عندما يذكر آثار قدرة الله وحكمته وعلمه تعالى يعقب كلامه بهذه العبارات:( أُولُو الأَلْبَابِ ) و( لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) و( لقوم يتذكّرون ) .

١١٧

وإليك ملخّص هذا البرهان :

يقول: لا شك أنّ ظهور الحياة بشكلها الحاضر على وجه الأرض ليس إلّا نتيجة تضافر شرائط وتوفر علل وعوامل كثيرة بحيث لو فقد واحد منها لامتنع ظهور الحياة على الأرض ولاستحالت حياة الأحياء عليها.

فلو أنّ ظهور الحياة كان نتيجة انفجار أو انفجارات في المادة الأُولى عن طريق المصادفة، لكان من الممكن أن تتحقّق ملياردات الصور والكيفيات ويكون احتمال ظهور هذه الصورة واحداً من مليارات الصور، وحيث إنّ صورة واحدة فقط هي التي تحققت دون بقية الصور ينطرح هذا السؤال :

كيف تحقّقت هذه الصورة الحاضرة دون بقية الصور عقيب الانفجار ؟

وكيف وقع الاختيار على هذه الصورة بالذات من بيان سائر الصور والحال كان المفروض أنّ جميعها متساوية في منطق المصادفة.

إنّنا لا نجد جواباً معقولاً في هذا المجال إلّا أن نعزي الأمر إلى غير المصادفة.

وبعبارة أُخرى: انّ كثرة الشروط اللازمة لظهور الحياة على الكرة الأرضية تكون بحيث إنّ احتمال اجتماع هذه الشرائط بمحض المصادفة مرة في بليون مرة، ولا يمكن لعاقل أن يفسّر ظاهرة من الظواهر بمثل هذا الاحتمال غير العقلائي وغير المنطقي جداً.

وننقل هنا نص ما قاله العالم المعروف تحت عنوان « المصادفة » :

« إنّ حجم الكرة الأرضية وبعدها عن الشمس، ودرجة حرارة الشمس وأشعتها الباعثة للحياة، وسمك قشرة الأرض وكمية الماء، ومقدار ثاني أوكسيد

١١٨

الكربون وحجم النتروجين وظهور الإنسان وبقاءه على قيد الحياة، كل أولاء تدلّ على خروج النظام من الفوضى، وعلى التصميم والقصد، كما تدلّ على أنّه طبقاً للقوانين الحسابية الصارمة ما كان يمكن حدوث كل ذلك مصادفة في وقت واحد على كوكب واحد مرة في بليون مرة، « كان يمكن أن يحدث هكذا » ولكن لم يحدث هكذا بالتأكيد !!

وحين تكون الحقائق هكذا قاطعة وحين نعترف ـ كما ينبغي لنا ـ بخواص عقولنا التي ليست مادية فهل في الإمكان أن نغفل البرهان، ونؤمن بمصادفة واحدة في بليون ونزعم أنّنا وكل ما عدانا، نتائج المصادفة.

لقد رأينا أنّ هناك ٩٩٩/٩٩٩/٩٩٩ فرصة ضد واحد، ضد الاعتقاد بأنّ جميع الأُمور تحدث مصادفة »(١) .

٧. برهان التوازن والضبط

وهذا البرهان من فروع برهان النظم، والمقصود منه هو ذلك « التعادل والتوازن والضبط » الذي يسود عالم الأحياء كلها من حيوانات ونباتات.

ونذكر نموذجاً لذلك من باب المثال فنقول :

يتبيّن لنا من دراسة عالم الحيوان والنبات أنّ كلاً منهما مكمّل للآخر، بحيث لو لم يكن في عالم الطبيعة إلّا الحيوانات فحسب لفنيت الحيوانات وزالت من صفحة الوجود، وهكذا لو لم يكن إلّا النباتات فحسب لفنيت النباتات وزالت هي أيضاً.

__________________

(١) العلم يدعو للإيمان: ١٩٥ ـ ١٩٦.

١١٩

وذلك لأنّ النباتات ـ على وجه العموم ـ تتنفس « ثاني أُكسيد الكاربون » فيما تطلق الأوكسجين في الفضاء.

فأوراق الشجر بمنزلة رئة الإنسان مهمّتها التنفس، في حين أنّ الحيوانات تستهلك الأوكسجين وتدفع الكربون.

وبهذا يبدو ـ جلياً ـ أنّ عمل كل واحد من هذين الصنفين من الأحياء مكمل لعمل الآخر ومتمم لوجوده، وأنّ حياة كل منهما قائمة على الأُخرى.

فلو كانت في الأرض: « النباتات » فقط لنفذ الكربون ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولو لم يكن في الأرض إلّا « الحيوانات » فقط لفني الأوكسجين ولم يكن لها ما تتنفسه.

ولكان معنى كل ذلك فناء النوعين بالمرة وزوالهما من وجه الأرض بسرعة.

٨. الهداية الإلهية في عالم الحيوانات

يعتبر « اهتداء » الحيوانات والحشرات إلى ما يضمن بقاءها، واستمرار حياتها، دليلاً آخر على وجود « هاد » لها فيما وراء الطبيعة هو الذي يقوم بهدايتها في مسيرة الحياة، ويلهمها كل ما يفيدها ويساعدها على العيش والبقاء إلهاماً أسماه القرآن ب « الوحي ».

ولهذا البرهان جذور وأُصول قرآنية، ولذلك سنتعرض له بالبحث ونتاوله بالتحقيق بنحو مبسوط في المستقبل، كما سنبرهن على أنّه غير البرهان المعروف ببرهان « النظم في عالم الوجود ».

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486