تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75862 / تحميل: 9805
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

دزبر ونهب سواده، وانهزم قرعويه وقد استأمن أكثر أصحابه إلى دزبر، فتحصّن بقلعة حلب، وتبعه دزبر فملكها في جمادى الأُولى سنة خمس وخمسين وثلاثمئة.

وأقام بها وابن الأهوازي بعسكره في حاضر قنّسرين، وجمع إليه بني كلاب وجبى الخراج من بلاد حلب وحمص، وفوّض إلى القضاة والولاة والشيوخ والعمّال الأعمال والولايات.

وجاء سيف الدولة فدخل حلب، وعسكره ضعيف، فبات بها، وخرج إلى دزبر وابن الأهوازي، وكان سيف الدولة قد فُلج وبطل شقّه الأيسر، فالتقوا شرقيّ حلب بسبعين، فغدرت بنو كلاب بدزبر وابن الأهوازي حين نظروا إلى سيف الدولة واستأمنوا إليه فآمنهم، ووضع السيف في عسكر دزبر وضع مُحْنَق مغيظ، فقتل جمعاً كثيراً وأسر خلقاً فقتله صبراً، وكان فيهم جماعة ممّن اشتراهم بماله من الروم فسبقوه إلى الشام وقبضوا الرزق من ابن الأهوازي وجعلوا يقاتلونه، فما أبقى على أحدٍ منهم.

وحصل دزبر وابن الأهوازي في أسره، فأمّا دزبر فقتله ليومه، وأمّا ابن الأهوازي فاستبقاه أيّاماً ثمّ قتله.

ثمّ إنّ سيف الدولة قويت علّته بالفالج وكان بشيْزَر فوصل إلى حلب فأقام بها يومين أو ثلاثة، وتوفّي يوم الجمعة العاشر من صفر سنة ست وخمسين وثلاثمئة، وقيل توفي بعسر البول، وحمل تابوته إلى ميافارقين فدفن بها في تربته، وكان على قضاء حلب إذ ذاك في غالب ظنّي أبو جعفر أحمد بن إسحاق بن محمد بن يزيد الحنفي، بعد أحمد بن محمد بن ماثل.

ويُنسب إلى سيف الدولة أشعار كثيرة لا يصح منها له غير بيتين، ذكر أبو القاسم الحسين بن علي المغربي كاتبه وهو جد الوزير أبي القاسم المغربي أنّهما لسيف الدولة، ولم يعرف له غيرهما وكتب بهما إلى أخيه ناصر الدولة، وقد مدّ يده إلى شيءٍ من بلاده المجاورة له من ديار بكر وكانت في يد أخيه:

لَسْتُ أَجْفُو وإن جُفِيتُ ولا أت رك حـقّاً عـليّ في كلِّ حالِ

إنّـما أنـت والدٌ والأب الجا في يُجازى بالصبرِ والاحتمالِ

ووزر لسيف الدولة أبو إسحاق القراريطي ثمّ صرفه، وولّى وزارته أبا

٢٤١

عبد الله محمد بن سليمان بن فهد، ثمّ غلب على أمره أبو الحسين علي بن الحسين المغربي أبو الوزير أبي القاسم ووزر له)(١) .

(حدّثني أبو يعلى محمد بن يعقوب البريدي الكاتب، قال: لمّا قصدتُ سيف الدولة أكرمني وأنس بي وأنعم عليّ، وكنت أحضر ليلاً في جملة مَن يحضر.

قال: فقال لي ليلة من الليالي: كان قتلُ أبيك أبرك الأشياء عليّ.

فقلت: كيف ذاك أطال الله بقاء مولانا.

قال: لمّا رجعنا من بغداد اقتصر بي أخي ناصر الدولة على نصيبين فكنت مقيماً فيها، ولم يكن ارتفاعها يكفيني فكن أدافع الأوقات وأصبر على مضض من الإضاقة مدّة.

ثمّ بلغتني أخبار الشام وخلوّها إلاّ من يانس المونسي، وكون ابن طغْج بمصر بعيداً منها ورضاه بأن يجعل يانس عليها، ويحمل إليه الشيء اليسير منها، ففكّرت في جمع جيشٍ وقصدها وأخذها وطرد يانس ومدافعة ابن طغْج إن سار إليّ بجهدي، فإن قدرت على ذلك وإلاّ كنت قد تعجلت من أموالها ما تزول به إضاقتي مدّة، ووجدت جمع الجيش لا يمكن إلاّ بالمال، وليس لي مال، فقلت أقصد أخي وأسأله أن يعاونني بألف رجلٍ من جيشه يزيح هو علّتهم، ويعطيني شيئاً من المال، وأخرج بهم، فيكون عملي زائداً في عمله وعزّه.

قال: وكانت تأخذني حمّى ربع، فرحلت إلى الموصل على ما بي ودخلت إلى أخي وسلّمت عليه، فقال: (ما أقدمك؟

فقلت: أمر أذكره بعد... فرحّب، وافترقنا ؛ فراسلته في هذا المعنى، وشرحت له، فأظهر من المنع القبيح واردّ الشديد غير قليل. ثمّ شافهته، فكان أشدّ امتناعاً، وطرحت عليه جميع مَن كان يتجاسر على خطابه في مثل هذا فيردّهم، قال: وكان لجوجاً إذا منع من الأوّل شيئاً يُلتمس منه أقام على المنع، قال: ولم يبق في نفسي مَن يجوز أن أطرحه عليه وأقدّر أنّه يجيبه إلاّ امرأته الكرديّة والدة أبي تغلب.

قال: فقصدتها وخاطبتها في حاجتي، وسألتها مسألته، فقالت: أنت تعلم خلقه وقد ردّك، وإن سألته عقيب ذلك ردّني أيضاً، فأخرق جاهي عنده، ولكن أقم أيّاماً حتّى أظفر منه في خلال ذلك بنشاطٍ أو سببٍ أجعله طريقاً للكلام والمشورة عليه والمسألة له.

قال: فعلمت صحّة قولها فأقمت، قال: فإنّي

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ٣٦٣ إلى ص ٤٠٢.

٢٤٢

جالس بحضرته يوماً إذ جاءه برّاج بكتاب طائر عرّفه سقوطه من بغداد. فلمّا قرأه اسودّ وجهه واسترجع، وأظهر قلقاً وغمّاً، وقال:

إنّا لله وإنّا إليه راجعون... يا قوم، المتعجرف الأحمق الجاهل المبذّر السخيف الرأي الرديء التدبير الفقير القليل الجيش يقتل الحازم المرتفق العاقل الوثيق الرأي الضابط الجيّد التدبير الغني الكثير الجيش.

فرمى الكتاب وقال: قف عليه، فإذا هو كتاب خليفته ببغداد بتاريخ يومين، يقول: إنّ في هذه الساعة تناحرت الأخبار وصحت بقتل أبي عبد الله البريدي أخاه أبا يوسف واستيلائه على البصرة.

قال: فلمّا قرأت ذلك مع ما سمعته من كلامه متّ جزعاً وفزعاً، ولم أشكّ أنّه يعتقدني كأنّي أبو عبد الله البريدي في الأخلاق التي وصفه بها، ويعتقد في نفسه أنّه كأبي يوسف، وقد جئتُه في أمر جيشٍ ومال، ولم أشكّ أنّ ذلك سيولّد له أمراً في القبض عليّ وحبسي، فأخذت أداريه وأسكّن منه وأطعن على أبي عبد الله البريدي، وأزد في الاستقباح لفعله وتعجيز رأيه إلى أن انقطع الكلام.

ثمّ أظهرت له أنّه ظهرت الحمّى التي تجيئني وأنّه وقتها، وقد جاءت، فقمت.

فقال: يا غلمان بين يده، فركبت دابتي وحركت إلى معسكري، وقد كنت منذ وردتُ وعسكري ظاهر البلد، ولم أنزل داراً.

قال: فحين دخلت إلى معسكري، وكان بالدير الأعلى، ولم أنزل، وقلت لغلماني: ارحلوا الساعة ولا تضربوا بوقاً، واتبعوني.

وحركت وحدي، فلحقني نفرٌ من غلماني، وكنت أركض على وجهي خوفاً، من مبادرة ناصر الدولة إليّ بمكروه. قال: فما عقلت حتّى وصلت إلى بلد في نفرٍ قليلٍ من أهل معسكري، وتبعني الباقون، فحين وردوا نهضت للرحيل، ولم أدعهم أن يريحوا وخرجنا.

فلمّا صرنا على فرسخ من البلد إذا بأعلام وجيش لاحقين بنا، فلم أشكّ أنّ أخي أنفذهم للقبض عليّ، فقلت لمن معي: تأهّبوا للحرب ولا تبدأوا وحثوا السير.

قال: فإذا بأعرابيّ يركض وحده حتى لحق بي، وقال: أيّها الأمير ما هذا السير المحث؟ خادمك (دَنْحا) قد وافى برسالة الأمير ناصر الدولة، ويسألك أن تتوقف عليه حتّى يلحقك.

قال: فلمّا ذكر دَنْحا، قلت: لو كان شرّاً ما ورد دنحا فيه، فنزلت وقد كان السير كدّني والحمّى قد أخذتني، فطرحت نفسي لما بي، ولحقني دنحا وأخذ يعاتبني على شدّة السير، فصدقته عمّا كان في نفسي. فقال: اعلم أنّ الذي ظننته انقلب وقد تمكّنت لك في نفسه هيبة بما

٢٤٣

جرى، وبعثني إليك برسالةٍ يقول لك: إنّك قد كنت جئتني تلتمس كيت وكيت فصادفت منّي ضجراً وأجبتك بالردّ. ثمّ علمت أنّ الصواب معك، فكنت منتظراً أن تعاودني في المسألة فأُجيبك ؛ فخرجت من غير معاودة ولا توديع.

والآن إن شئت فأقم بسِنْجار أو بنَصيبِين، فإنّي منفذٌ إليك ما التمست من المال والرجال لتسير إلى الشام.

قال فقلت لِدَنْحا: تشكره وتجزيه الخير وتقول كذا وكذا - أشياء وافقته عليها - وتقول: إنّي خرجت من غير وداع لخبرٍ بلغني في الحال من طروق الأعراب لعملي، فركبت لألحقهم وتركت معاودة المسألة تخفيفاً.

فإذا كان قد رأى هذا فأنا ولده وإن تمّ لي شيء فهو له، وأنا مقيمٌ بنصيبين لأنتظر وعده.

قال: وسررت ورجع دنحا، فما كان إلاّ أيّام يسيرة حتّى جاءني دنحا ومعه ألف رجلٍ، قد أزيحت عللهم وأعطوا أرزاقهم ونفقاتهم، وعرضت دوابّهم وبغالهم، ومعهم خمسون ألف دينار، فقال: هؤلاء الرجال وهذا الحال فاستخر الله وسر.

قال: فسرت إلى حلب وملكتها، وكانت وقائعي مع الاخشيدية - بعد ذلك - المعروفة.

ولم يزل بيني وبينهم الحرب إلى أن استقرّت الحال بيننا على أن أفرجوا لي عن هذه الأعمال، وأفرجت لهم عن دمشق واستغنيت عنه.

وكلّ ذلك فسببه قتل عمّك لأبيك)(١) .

____________________

(١) نُخب تاريخيّة وأدبيّة... من ص ٤٠٤ إلى ص ٤٠٩.

٢٤٤

تاريخ بني زهرة الحلبيّين

تمهيد

قِدَم التشيّع في حلب

لمّا كان بنو زهرة - الذين أفردت للبحث عنهم هذا المقال - من سلالة البيت النبويّ الكريم، ومن عظماء أشراف حلب القدماء، الذين جمعوا إلى رئاسة الدين فيها نقابة أشرافها، وتوارثوها كابراً عن كابر.

وهم من أعلام الشيعة الإماميّة، ومنهم غير واحدٍ انتهت إليه رئاسة المذهب، فقد رأيت أن أتكلّم في هذا التمهيد عن قِدَم التشيّع في حلب قبل الدخول في الموضوع ؛ جمعاً بين بحثين لم يعقد لهما أحدٌ من الكتّاب - قديماً وحديثاً - فصلاً مستقلاًّ ؛ وما الغاية التي أتوخّاها إلاّ خدمة التاريخ.

كان القرن الرابع الهجري مبدأ هبوب ريح الشيعة بعد سكونها المستطيل حيث قامت لهم في هذا العهد بآجال متقاربة دول وإمارات نبه شأنها، وضخم سلطانها، وسما مكانها، فالدولة البويهيّة وعلويو طبرستان وإمارة بني حمدان وبني صدقة وغيرها في المشرق، ودولة الأدارسة والدولة الفاطميّة في المغرب ومصر وبعض ديار الشام.

فكانت حلب إحدى عواصم الإمارة الحمدانيّة الشيعيّة.

تنفّس الشيعة الصعداء في عهد تلك الدول والإمارات، بعد أن ضربها الدهر ضرباته الأليمة، وشرّدها في الآفاق، وفرّقها في بلدان الله الواسعة الشاسعة شذر مذر، محتجبة عن امتداد أيدي الظلمة إليها بحجب التقيّة.

٢٤٥

أصبحت حلب من بدء ذلك العهد وهي عاصمة الحمدانيّين، بعد أن غلبوا عليها الإخشيديين ملوك مصر والشام، مثابة الشيعيين ومختلف رجالاتهم ومستناخ رواحل الطارئين عليها من أمّهات البلدان القريبة والسحيقة ينسلون إليها من كلّ حدب، حيث يستمرئون المرعى الخصيب، وينتجعون نجعة الراحة، ويعتبقون عبق الحريّة المذهبيّة، فعمرت بهم بيوت العلم، وراجت فيهم سوقه، ونفدت سلعه.

ولم تكن الرحلة إلى حلب - وإن كانت قد أصبحت عاصمة الشيعة - وقفاً على الشيعيّين فقط، بل كانت مشرعاً عذباً عامّاً ومورداً مشاع المنهل بين الواردين إليه منهم ومن إخوانهم السنّيين بفضل ترفيه الأمير سيف الدولة الحمداني على العلماء كافّة من أيّ مذهبٍ كانوا ولأية ملّةٍ انتسبوا وانبساط كفّه إليهم بالأعطيات، واتساع صدره الرحيب إلى كلّ من يؤم حضرته، ويتوسّط فناءه لكسب مغنم أو فك مغرم ؛ فكانت أيّامه على الشيعة وعلى الخاصّة منها ومن غيرها، وعلى المملكة الحلبيّة غرّاً محجّلة، وعلى بلاد الإسلام معقلاً منيعاً، وعلى العلم والآداب العربية بيضاء نقيّة مباركة، لا كما زعمه بعض الكتّاب المتأخّرين إذ قال:

(ولم تكن حكومة سيف الدولة مباركة على حلب بقدر ما صوّرها شعراؤه الذين كان يغدق عليهم هباته ليقطع ألسنتهم ويشغلهم عنه).

وليس من الإنصاف أن ندفع المستفيض أو المتواتر من روايات مناقبه وأعماله الحسان، برواية الآحاد خبراً أو خبرين إن برّرناهما من التزوير والاختلاق ؛ فلا نراهما بمحبطين حسناته التي لا تحصى.

وهل من العدل أن نضرب بما كتبه الإمام أبو منصور الثعالبي من غرر آثاره وأخباره وغيره من الأئمّة عرض الجدار وجلّهم يكتب للتاريخ، وأن نصمَ الجمّ الغفير منهم ومن شعرائه بوصمة الدهان والرياء، ونتمسّك بخبرٍ إن صحّ فلم يكن ليسلم منه متآمر مهما كان محلّه من العدل.

ومَن يطلب الاستزادة من معرفة أيادي ذلك الأمير العربي الجليل البيضاء على حلب وعلى العلم والعلماء فما عليه إلاّ أن يتصفّح ما دوَّنه منها الإمام الثعالبي في يتيمته، وناهيك بها معرّفاً بفضله، ومنوّهاً بقدره، ولم نعقد هذا الفصل لهذا البحث الذي تخرجنا الإفاضة فيه عن الغرض المقصود.

وبعد فقد تمتّع الشيعة في هذا العهد بحريّتهم المذهبيّة، وأصحروا

٢٤٦

بمعتقدهم غير موجسين خيفة من سلطان قاهر، ولا متهيبين فتكة من ذي أبّهةٍ قادر، وحسبك أن يسيّر الأمير أبو فراس ابن عم سيف الدولة الحمداني قصيدته الميمية التي مستهلها:

الدين مخترم والحق مهتضم وفيء آل رسول الله مقتسمُ

يسيّرها في البلاد ردّاً على ابن سكرة الهاشمي العبّاسي وفيها من النعي على بني العبّاس مثالب أوائلهم وهو لا يتهيّب سلطان أواخرهم ولهم الخلافة والإمامة في بغداد، والبقيّة الباقية من السلطان والصولجان، وفيها من بيان مناقب العلويين والفاطميين ممّا لا يدانيهم فيه مدانٍ من العبّاسيين، ما تبهر حجّته، ويستطع برهانه، ويذر آخرهم متعثّراً بأذيال الخجل ممّا جناه أولهم، ويدع ابن سكرة المنحرف عن الفاطميين والمتهجّم بخطل قوله، وباطل شعره على ثلبهم قيد الإحجام والإفحام مسجّلاً عليه عار ذمّه أهل بيتٍ أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً.

وإذا لم تكن الإمارة الحمدانية السبب التام في ظهور أمر الشيعة في حلب وما إليها ؛ فهي ولا مراء من أقوى الأسباب التي أيّدت الشيعة ونشرت التشيّع.

قال بعض أفاضل كتّاب العصر:

(وكانت حلب في المذاهب الإسلامية تختلف باختلاف الدول عليها شأنها في ذلك شأن دمشق، فتارة توالي عليّاً وأصحابه وأُخرى توالي غيره.

وكان أهل حلب كلّهم سنيّة حنفيّة حتّى قَدِم شخصٌ إلى حلب فصار فيهم شيعيّة وشافعيّة وهو الشريف أبو إبراهيم الممدوح.

وكان بنو حمدان - وهم شيعة - من جملة الأسباب التي نشرت التشيّع في حلب وجوارها.

هذا ملخّص كلامه وفيه ما لا يخفى من التهافت.

هل كان الشريف أبو إبراهيم، وهو الذي ينتهي إليه نسب بني زهرة، وهو شيعي من دعاة مذهبي الشيعة والشافعية. فإن أراد هذا فذلك قول طريف وإن أراد أن في دعوته إلى التشيّع تمهيداً للدعوة الشافعية وظهورها فكأنّه بذلك كان داعية المذهبين فهو حسن إن ساعد عليه كلامه.

٢٤٧

وماذا يريد من اختلاف حلب في موالاة علي وغيره باختلاف الدول عليها، فهل يريد بذلك اتحاد الموالاة واندغام أحد المذهبين بالآخر واضمحلاله البتّة وانقلاب عقيدته إلى عقيدة صاحب مذهب المتغلّب فهذا ممّا نربأ بالكاتب عنه.

وإن أراد أنّ الكلمة النافذة والحريّة الكاملة والصراحة التامّة بإظهار تلك الموالاة كانت تكون في جانب أصحاب مذهب الغالب فذلك حق وإلاّ فإنّ حلب لم تتمحّض في عهد المتسلّطين عليها لموالاة مذهب أحدهم.

وسترى أنّ تلك الصراحة بالموالاة كانت لهم حتّى اليوم الذي لم تكن لهم فيه الإمارة الحلبيّة.

وأمّا قوله إنّ أهل حلب كانوا كلّهم سنيّة حنفيّة قبل قدوم الشريف أبي إبراهيم حلب فذلك ما لا نوافقه عليه ؛ لأنّ الشريف لم يقدم حلب إلاّ في عهد الإمارة الحمدانية الشيعية، وفيه ظهر أمر الشيعة وتقدّم قدومه إليها كما هو الظاهر والمعقول.

وإليك ما كتبه بعض علماء الشيعة عن قِدَم التشيّع في حلب.

قال صاحب رياض العلماء بعد كلامٍ عن حلب ووصفها:

وكانت من القديم محطّاً لرجال علماء الشيعة الإماميّة، وأهلها أيضاً من أسلم أهالي الشامات قلباً، وأجودهم ذكاءً وفضلاً وفهماً.

وقال المولى محمد طاهر القمّي الفاضل الثقة فيما نقل عن كتابه الموسوم بالفوائد الدينية:

(إنّ من البلاد القديمة التشيع مدينة حلب).

وقال العلاّمة المجلسي في أحد مجلّدات بحاره، في ترجمة الإمام رشيد الدين بن شهرآشوب السروي، من أعيان أعلام الشيعة في القرن السادس الهجري ومن الطارئين على حلب:

وكان انتقاله إلى حلب من جهة كونها في ذلك الزمان محطّ رحال علمائنا الأعيان، بل كون الغالب على عامّتها المماشاة مع الإماميّة الحقّة في طريقتهم وسلوكهم لكون مملكتهم إذ ذاك بأيدي آل حمدان.

وفي كلام المجلسي نظر ؛ فإنّه إن أراد أنّ المملكة الحلبيّة كانت حتّى عهد ابن شهرآشوب بأيديهم ففيه مخالفة صريحة لنص التاريخ ولإجماع المؤرّخين ؛ فإنّه لم يقل مؤرّخ بامتداد ملكهم إلى هذا العهد، بل المحقّق أنّ

٢٤٨

دولتهم في حلب انتهت قبل انتهاء القرن الرابع الهجري، وإن أراد غير ذلك فكلامه لا يفيده ولا يحتمله.

أمّا استفحال أمر الشيعة في حلب وما إليها فقد دام مؤيّداً بقوّة الاستمرار الطبيعية لا بتأييدِ دولة منهم، حتّى سنة تسع وسبعين وخمسمئة للهجرة، وهي السنة التي تسلّم فيها حلب سلماً السلطان صلاح الدين الأيّوبي من صاحبها عماد الدين زنكي بن مودود بن عماد الدين زنكي بن اقسنقر(١) .

بل كان للشيعة الكلمة النافذة في حلب وإمرتها بأيدي مخالفيهم ومناهضيهم.

إنّ صاحب حلب اضطرّ في مقاومته صلاح الدين يوم جاء حلب فاتحاً إلى إجابة ما شرطه عليه الشيعة.

قال ابن كثير الشامي لمّا جاء صلاح الدين إلى حلب ونزل بظاهره اضطرب واليه، وطلب أهل حلب إلى ميدان العراق، وأظهر لهم المودة والملائمة، وبكى بكاءً شديداً ورغّبهم في حرب صلاح الدين، فعاهده جميعهم في ذلك، وشرط عليه الروافض أُموراً، منها: إعادة حيّ على خير العمل، ومنها: أن يفوّض عقودهم وأنكحتهم إلى الشريف الطاهر أبي المكارم حمزة بن زهرة الحسيني الذي كان مقتدى شيعة حلب، فقبل منهم الوالي جميع تلك الشروط.

ولمّا أراد بدر الدولة أبو الربيع سليمان بن عبد الجبّار بن ارتق صاحب حلب بناء أوّل مدرسةٍ للشافعيّة في هذه المدينة لم يمكّنه الحلبيون ؛ إذ كان الغالب عليهم حينئذ التشيع(٢) .

قال العلاّمة الفاضل محمد كرد علي في الجزء العاشر من المجلد السادس من مجلّة المقتبس:

____________________

(١) عن أبي الفدا.

(٢) وكان ابتداء إمرة سليمان بن عبد الجبّار على حلب سنة ٥١٥ وانتهاؤها سنة ٥١٧ ؛ وذلك بطريق الاستنابة من عمّه إيلغازي بن أرتق واستردّها منه لعجزه عن حفظ بلاده ؛ وذلك بتسليمه حصن الأتارب إلى الفرنج.

٢٤٩

(وقد أتى صلاح الدين يوسف بن أيّوب وخلفاؤه على التشيع في حلب وكان المؤذّنون في جوامعها يؤذّنون بحيّ على خير العمل.

وحاول السلجوقيون الأتراك مراتٍ القضاء على التشيّع في هذه الديار (الحلبيّة)، فلم يوفّق لذلك إلاّ الملك الناصر صلاح الدين، كما ضرب على التشيّع في مصر، وكان على أشدّه فيها على عهد الفاطميين بحيث لا يكاد عالمٌ مصريّ يصرّح بمذهبه إذ ذاك.

أمّا قول صديقنا:

(وكان على أشدّه فيها على عهد الفاطميين إلخ)

فإنّا لا نوافقه عليه، وحسبك برهاناً على تمكين الفاطميّين مخالفيهم من إظهار شعائرهم على اختلاف مذاهبهم ما جاء في الجزء الثالث من صبح الأعشى للعلاّمة القلقشندي:

وأمّا سيرتهم (الفاطميّين) في رعيّتهم واستمالة قلوب مخالفيهم، فكان لهم الإقبال على مَن يفد عليهم من أهل الأقاليم جلّ أو دقّ ويقابلون كلّ أحدٍ بما يليق به من الإكرام، ويعوّضون أرباب الهدايا بإضعافها.

وكانوا يتألّفون أهل السنّة والجماعة ويمكنونهم من إظهار شعائرهم على اختلاف مذاهبهم، ولا يمنعون من إقامة صلاة التراويح في الجوامع والمساجد على مخالفة معتقدهم في ذلك (بياض بالأصل) بذكر الصحابة (رضوان الله عليهم)، ومذهب مالك والشافعي وأحمد ظاهرة الشعار في مملكتهم بخلاف مذهب أبي حنيفة، وراعون مذهب مالك، ومَن سألهم الحكم به أجابوه.

وأمّا قوله: (بحيث لا يكاد عالم مصري يصرّح بمذهبه إذ ذاك) فيكفي في ردّه قول عمارة اليمني، وهو الذي قُتل في حبّهم، وفي سبيل الوفاء لهم بعد انقراض دولتهم:

أفاعيلهم في الجود أفعال سنة وإن خالفوني في اعتقاد التشيّعِ

وهل يطلب صديقنا برهاناً على منح الفاطميّين مخالفيهم حريّة التصريح بمذاهبهم أنصع من هذين البرهانين اللذين أوردهما القلقشندي في صبحه.

وأمّا السبب في استمرار قوّة التشيّع في حلب مع زوال دولتهم منها فالذي يظهر لي أنّه مستندٌ إلى أُمور:

٢٥٠

(الأوّل ): أنّ الإمرة الحلبيّة لم تتمحّض إلى متغلّبة مذهب دون مذهب، بل كانت بعد انقراض دولة بني حمدان مرة تقع في أيد خلفاء مصر الشيعيّين، وأُخرى في أيدي مخالفيهم، متداولة بينهم بأزمنة متقاربة، بحيث لا يتّسع المجال لواحدٍ منهما مناهضة أبناء المذهب الآخر.

(الثاني) : أنّ الحرب كانت عليها سجالاً بين المتغلّبين السنّيين، فلم يخل جوّها لمتغلّبٍ ليصرف إلى مناهضة أهل مذهبٍ هو أحوج إلى تألّفهم وضمّ قوّتهم إلى قوّته لردّ عادية الطامعين في الاستيلاء عليها.

(الثالث ): تخوّف المتغلّب من قوّات الدول الشيعيّة المحيطة بالمملكة الحلبية من المشرق والمغرب إذا امتدت يده بسوء إلى أهل مذهبهم.

وبعد، فإنّا نكتب ما نكتب لمحض العبرة وفلسفة التاريخ لا لغرضٍ آخر، وإنّه ليؤلمنا وأيم الحق تذكّر تلك المنازعات المذهبيّة التي لم يسلم منها بلد في تلك القرون الخالية، ولا كانت حربها الضروس محصورة بين الشيعة والسنّة.

وحسبنا ما يؤلم حديثه ما كان يقع من المشاحنة ؛ فإهراق الدماء بين أبناء السنّة أنفسهم من الشافعية والحنابلة في بغداد وغيرها من بلاد الإسلام، وبين المالكيّة وغيرهم في الديار المغربية.

إنّ تلك العصبيّة على المخالف هي التي خلّفت لنا إلى اليوم آثار الانحطاط وذهبت للمسلمين بكلّ ريحٍ وقوّةٍ، فصيّرتهم خولاً بعد أن كانوا دولاً، والله غالبٌ على أمره.

آل أبي شعبة الحلبيّون

اعلم أنّ آل أبي شعبة الحلبي من علماء الشيعة القدماء، لهم فضل الصحبة بأئمّة أهل البيت الذين عاصروهم من القرن الأوّل إلى القرن الثالث، منسوبون إلى حلب، وأبو شعبة مولى بني تيم الله بن ثعلبة أو مولى بني عجل في روايةٍ أُخرى.

وسبب نسبتهم إلى حلب ذكره غير واحدٍ من علماء الرجال الشيعة.

قال أبو العبّاس أحمد بن علي النجاشي(١) في ترجمة عبيد الله بن علي بن أبي شعبة(٢) :

____________________

(١) تخرّج بالشيخ المفيد (ره) عاصر شيخ الطائفة الطوسي (ره) والشريف المرتضى (رض) ولد سنة ٣٧٢ وتوفي سنة ٤٥٠.

(٢) في كتابه أسماء مصنّفي علماء الشيعة ص ١٥٩.

٢٥١

(أبو علي كوفيٌّ كان يتّجر هو وأبوه وإخوته إلى حلب فغلبت عليهم النسبة إلى حلب.

وآل أبي شعبة بالكوفة بيت مذكور في أصحابنا.

روى جدهم أبو شعبة عن الحسن والحسين (عليهما السلام).

وكانوا جميعهم ثقات مرجوعاً إليهم فيما يقولون).

وأورد ذلك بالحرف الواحد الميرزا محمد الاستربادي(١) في الجزء الثاني من كتابه: منهج المقال في تحقيق أحوال الرجال(٢) وإليك من التعريف بأسماء رجالهم المعروفين ما تكمل به الفائدة ولا يشذّ عن الموضوع:

١ - أبو شعبة الحلبي هو الجدّ الأعلى الذي تحدّر منه أولئك الرجال وعنه تسلسلوا وإليه انتسبوا.

وقد مرّ بك آنفاً أنّه روى عن الحسن والحسين (عليهما السلام).

٢ - ولده الأوّل علي، قال الأستراباي في منهج المقال: علي بن أبي شعبة ثقة صه (الخلاصة) وفي جش (النجاشي) وكش (الكشي) ما تقدّم في ابن ابنه أحمد بن عمر(٣) .

٣ - ولده الثاني عمر، قال الاسترابادي عمر بن أبي شعبة الحلبي ق (أي من أصحاب الإمام أبي جعفر الباقر (ع)).

٤ - أحمد بن عمر الحلبي، قال النجاشي:

(أحمد بن عمر بن أبي شعبة الحلبي ثقة، روى عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) وعن أبيه من قبل، وهو ابن عمّ عبيد الله وعبد الأعلى وعمران ومحمد الحلبيّين، روى أبوهم عن أبي عبد الله (عليه السلام)، وكانوا ثقات. لأحمد كتاب يرويه عنه جماعة... إلخ).

وذكره الكشّي في رجاله، وأورد خبراً له عن الرضا (عليه السلام) ونقل العلاّمة الاسترابادي في منهج المقال ما جاء في كتابي الكشي والنجاشي برمّته، واستظهر من الرواية التي ذكرها الكشي أنّه روى عن الرضا وأبي جعفر الجواد (عليهما السلام).

____________________

(١) المتوفّى سنة ١٠٣٣ بمكّة المكرّمة.

(٢) ص ١١٨.

(٣) لا يخفى أنّ أحمد بن عمر هو ابن أخي علي لا ابن ابنه فتأمّل.

٢٥٢

٥ - عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي.

قال النجاشي: (عبيد الله بن علي بن أبي شعبة الحلبي، مولى بني تيم اللاّت بن ثعلبة إلى أن قال:

(وكان عبيد الله كبيرهم ووجيههم. وصنف الكتاب المنسوب إليه. وعرضه على أبي عبد الله (عليه السلام) وصحّحه. قال عند قراءته أترى لهؤلاء مثل هذا، والنسخ مختلفة الأوائل والتفاوت فيها قريب.

وقد روى هذا الكتاب خلق من أصحابنا عن عبيد الله والطرق إليه كثيرة إلخ).

وذكره الاسترابادي في منهجه، ونقل أقوال علماء الرجال فيه، ومنهم العلاّمة الحلّي (ره) في خلاصته، وعقب روايته عرض كتابه على أبي جعفر (عليه السلام) بقوله وهو أوّل كتابٍ صنّفه الشيعة، ومنهم البرقي قال في حقّه: (كوفي، وكان متجره إلى حلب، فغلب عليه هذا اللقب، مولى ثقة صحيح، له كتاب وهو أوّل ما صنّفه الشيعة)(١) .

٦ - أخوه محمد بن علي بن أبي شعبة.

قال النجاشي (ره) في رجاله:

(محمد بن علي بن أبي شعبة. الحلبي أبو جعفر وجه أصحابنا وفقيههم والثقة الذي لا يطعن عليه هو وإخوته عبيد الله وعمران وعبد الأعلى له كتاب التفسير، قال: وله كتاب مبوّب في الحلال والحرام.

وجاء نحو هذا في الفهرست والخلاصة، وهو من أصحاب الإمام الباقر (عليه السلام).

٧ - أخوه عبد الأعلى بن علي بن أبي شعبة.

قال الاسترابادي: (عبد الأعلى بن علي بن أبي شعبة أخو محمد بن علي الحلبي، ثقة لا يطعن عليه صه (الخلاصة) وفي جش (النجاشي) في أخيه محمد).

وقد مرّ ما أورده النجاشي فيه وفي إخوته في أخيه محمد كما عرفت قريباً.

____________________

(١) جاء في فهرست النجاشي ما يستفاد منه أنّ في رجال الشيعة مَن سبق المترجم بالتصنيف، وجاء في كتاب الشيعة وفنون الإسلام في هذا الموضوع ما فيه زيادة للمستزيد.

٢٥٣

٨ - عمران بن علي بن أبي شعبة الحلبي.

تقدّم ذكر النجاشي له مع إخوته في أخيه محمد، وأمّا الأسترابادي فقد قال في حقّه: (ثقة لا يطعن عليه، وكنيته أبو الفضل صه (الخلاصة)، وفي ق (أصحاب الإمام الصادق - عليه السلام -) عمران بن علي بن أبي شعبة الحلبي الكوفي انتهى).

٩ - ولده أحمد قال العلاّمة الاسترابادي في منهج المقال (أحمد بن عمران الحلبي (قر) ذكره في رجال الباقر (عليه السلام) ويحتمل أن يكون نشأ من الكنية بأبي جعفر (عليه السلام) فإنّ المعروف من عمران الحلبي أنّه من رجال الصادق (عليه السلام).

١٠ - يحيى بن عمران بن علي بن أبي شعبة، قال النجاشي (ره) (يحيى بن عمران بن علي بن أبي شعبة الحلبي، روى عن أبي عبد الله وأبي الحسن (عليه السلام)، ثقة صحيح الحديث له كتاب يرويه جماعة).

وذكر في أصحاب الصادق، والشيخ والأسترابادي ذكراه في كتابيهما الفهرست ومنهج المقال.

وبعد، فإنّا لم نستطرد الكلام إلى ذكر هؤلاء الأعلام إلاّ لمناسبة نسبتهم إلى حلب، وإن لم يكونوا حلبيين مغرساً ومنبتاً.

والنسبة كالإضافة تصدق بأقل مناسبة، مضافاً إلى إزالة ما لعلّه يعلق في بعض الأذهان من الأوهام من أنّهم حلبيو المغرس والمنبت، وأن يتّخذ عهدهم بدء تاريخ التشيّع الحلبي القديم، على أنّا إن كنّا لا نثبت ذلك لعدم وجود الدليل عليه، فإنّا لا ننفيه لجواز أن يكون قد دخل حلب في ذلك العهد أو قبله ولكن بطريقة الكتمان ؛ فإنّ الشيعة لم يكن لديهم من حريّة المجاهرة بمذهبهم ما يمكّنهم من الإصحار به، بل كانوا يكونون في كلّ بلادٍ إسلاميةٍ مستترين بحجب التقيّة ؛ وذلك يعمي على المؤرّخ تحقيق بدء دخول التشيّع حلب أو غيرها من بلاد الشام حاشى (جبل عامل الذي ثبت من بعض النصوص التاريخية الإماميّة دخول التشيّع فيه في عهد نفي الصحابي الجليل أبي ذر إلى الشام).

٢٥٤

استدراك

اعلم أنّ الحلبي في مصطلح أهل الرجال: هو الشيخ الفقيه الثقة الصدوق عبيد الله بن علي بن شعبة الحلبي، وهو الخامس من رجال آل أبي شعبة الذي ترجمناه في هذا الفصل. وإذا أطلق في كلام الشهيد الأوّل فالمراد منه أبو الصلاح لا غير، وهو الذي ستعرفه قريباً.

(العلماء المنسوبون إلى حلب من عهد دولة التشيّع فيها وما بعده من غير بني زهرة)

اعلم أنّ فريقاً من علماء الشيعة الحلبيّين الذين خدموا العلم والآداب والمذهب لم تحفل بهم معاجم إخوانهم السنيّين على كثرتها، وفيها العامّة التي لم توضع لرجالهم خاصّة، وهي لم تبخس كثيراً من غير الحلبيّين الشيعة حقّهم، وقد حفلت بهم كتب رجال الشيعة، فقد رأينا خدمةً للتاريخ والآداب وسدّاً لهذا النقص أن نلمّ بذكرهم بما يتّسع له المجال ولا نرى مع توخّي هذه الفائدة خروجاً عن موضوع المقال ؛ فنقول:

١ - أبو الصلاح تقيّ الدين بن نجم بن عبيد الله الحلبي.

قرأ على الشيخ الطوسي والمرتضى (ره)(١) وقد ذكره الأوّل في كتاب رجاله المسمّى بالفهرست، فقال:

(تقي الدين بن نجم الدين الحلبي، ثقة، له كتب قرأ علينا وعلى المرتضى، يكنّى بأبي الصلاح) وفي رياض العلماء أنّ ذكر الشيخ له هكذا

____________________

(١) هو كما قال فيه الأسترابادي:

(محمد بن الحسن بن علي بن الطوسي أبو جعفر (قدّس الله روحه) شيخ الإماميّة، ورئيس الطائفة، جليل القدر، عظيم المنزلة، ثقة عين صدوق عارف بالأخبار والرجال والفقه والأُصول والكلام والأدب، جميع الفضائل تُنسب إليه. صنّف في كلّ فنون الإسلام، وهو المهذِّب للعقائد في الأُصول والفروع، الجامع لكمالات النفس في العلم والعمل، وكان تلميذ الشيخ المفيد محمد بن محمد النعمان، ولد سنة ٣٨٠ وتوفّي سنة ٤٦٠ قال ابن الأثير في الكامل في حوادث هذه السنة، وفي المحرّم - أيضاً - توفّي أبو جعفر الطوسي فقيه الإماميّة بمشهد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وكان في بغداد وهاجر منها إلى النجف خوفاً من الفتن التي تجدّدت ببغداد، وأُحرقت كتبه وكرسيّ كان يجلس عليه للكلام.

٢٥٥

في كتابه مع كونه تلميذاً له دليل على غاية جلالة الرجل وعلوّ منزلته في العلم والدين.

وذكره الشيخ منتجب الدين في فهرسته، وابن شهراشوب في معالمه، وابن داود في رجاله، وقال الاسترابادي فيه في الجزء الأوّل من منهج المقال:

تقي بن نجم الحلبي أبو الصلاح (ره) ثقة عين، له تصانيف حسنة، ذكرناها في الكتاب الكبير.

قرأ على الشيخ الطوسي (ره) وعلى المرتضى (قدّس الله روحهما) صه (الخلاصة) وفي لم (معالم العلماء) تقي بن نجم الحلبي ثقة له كتب قرأ علينا وعلى المرتضى يُكنّى أبا الصلاح.

وفي أمل الآمل:

(تقي الدين بن نجم الحلبي أبو الصلاح يروي عنه ابن البراج معاصر للشيخ الطوسي.

كان ثقةً عالماً فاضلاً فقيهاً محدّثاً، له كتب رأيت منها كتاب: تقريب المعارف، حسن جيد.

وذكره الشيخ في رجاله (وأورد ما نقلناه عنه آنفاً) ونقله ابن داود وغيره.

ووثّقه العلاّمة في الخلاصة وأثنى عليه.

وقال ابن داود: تقي بن نجم الدين الحلبي أبو الصلاح عظيم الشأن من عظماء مشايخ الشيعة انتهى.

وقال منتجب الدين: الشيخ التقي بن النجم الحلبي فقيه عين ثقة قرأ على الأجلّ المرتضى علم الهدى، وعلى الشيخ أبي جعفر، وله تصانيف منها: الكافي، أخبرنا به غير واحدٍ من الثقات عن الشيخ المفيد عبد الرحمان بن أحمد النيسابوري انتهى.

(وقال ابن شهرآشوب في معالم العلماء تقي بن نجم الحلبي من تلامذة المرتضى، له البداية في الفقه، شرح الذخيرة للمرتضى (رض) انتهى.

وفي روضات الجنّات:

(الشيخ الفقيه النبيه الوجيه الشامي أبو الصلاح تقي الدين بن نجم بن عبيد الله الحلبي الثقة العين الفاضل الإمامي، كان من مشاهير فقهاء حلب، ومنعوتاً بخليفة المرتضى في علومه لكونه منصوباً في البلاد الحلبيّة من قِبَل أُستاذه السيّد المرتضى (رضي الله عنه) كما أنّ ابن البرّاد المتقدّم ذكره في باب الأحمدين كان خليفة الشيخ الطوسي (ره) في البلاد الشاميّة. ولنيابته عنه في التدريس حيث إنّ كليهما منصوص عليه.

٢٥٦

وفي رياض العلماء:

(وإذا أطلق الحلبي في كلام الشهيد يُراد منه أبو الصلاح لا غير، كما أنّ الحلبيّين بصيغة التثنية يراد منهما أبو الصلاح الحلبي إلى أن قال: (والشاميّين جمعاً عن الحلبيّين مع الشيخ محمود الحمصي وابن زهرة وابن البراج كالقاضي للأخير).

وفيه أيضاً: (أنّ الشاميّين مقيّداً بالثلاثة عبارة عن الحلبي، وابن البراج وابن زهرة، ومطلقاً عن الثلاثة مع الحمصي.

أمّا تاريخ وفاة المترجم، فلم نجد تصريحاً به في كلمات العلماء الذين نرجع إلى كتبهم في ترجمته وترجمة غيره في هذا المقال، ولا غرو فإنّهم جروا في ذلك على عادتهم من إغفال تاريخ الولادة والوفاة في أكثر كتب الرجال، اللّهمّ إلاّ القليل، ولعلّ عذرهم أنّهم في صدد الجرح والتعديل، ومقام ربط سليلة الرواة والمحافظة على عنعناتها وأسانيدها، وليسوا في صدد التاريخ والبحث عن السير.

وفي بيان محلّ الرجال من الوثاقة والعدالة والقوّة والضعف غنية عن الإفاضة في الترجمة والتعرّض لتاريخ ولادة المترجمين ووفاتهم، والبحث في أحوالهم دقيقها وجليلها، اللّهمّ إلاّ ما له علاقة في الجرح والتعديل.

إنّ عذرهم في ذلك مَن هو في موقف المحافظ على ربط سلسلة الرواة، فلا يعذرهم مَن هو في موقف المؤرّخ المنقِّب الذي يُعنى بأمر الرجال عنايةً لا يغادر بها من أُمورهم صغيرةً ولا كبيرةً إلاّ أحصاها.

وحسبك أنّ ابن خلكان قد جعل ضبط تاريخ الولادة والوفاة ركناً من أركان معجمه (الوفيات ).

وكيف كان، فإنّ المترجم هو من رجال القرن الخامس الهجري ومِن عليّة علمائه.

وقد ذكره الشيخ يوسف البحراني من أعيان العلماء في القرن الثاني عشر الهجري في لؤلؤة البحرين، ولم يزد على ما ذكرناه.

٢ - الحسن بن حمزة الحلبي.

قال صاحب أمل الآمل في حقه: (كان عالماً فاضلاً فقيهاً جليل القدر).

٢٥٧

وقال صاحب روضات الجنّات نقلاً عن رياض العلماء:

(ومنهم (فقهاء حلب) الشيخ العالم الفاضل الفقيه الجليل القدر الشيخ حسن بن حمزة الحلبي).

ولعلّه المذكور في بعض إجازات المحقّق الشيخ علي بن عبد العالي (ره) وقد ذكره صاحب الروضات بما هذا نصّه:

(فمن فقهاء حلب الشيخ الأجل الفقيه هبة الله بن حمزة صاحب الوسيلة، وقد رويت جميع مصنّفاته ومرويّاته بالأسانيد الكثيرة والطرق المتعدّدة.

٣ - الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن الحلبي.

في أمل الآمل: (محمد بن علي بن الحسن، فقيه صالح، أدرك الشيخ أبا جعفر الطوسي (ره) وروى عنه وعن ابن البراج.

وقرأ عليه السيّد الإمام أبو الرضا والشيخ الإمام قطب الدين أبو الحسين الراوندي (ره)، قاله منتجب الدين، وفي رياض العلماء كما نقله عنه صاحب الروضات ما هذا نصّه:

(ومنهم (فقهاء حلب) الشيخ أبو جعفر محمد بن علي بن الحسن الفقيه الصالح الراوي عن الشيخ وابن البراج كما نصّ على ذلك كلّه الشيخ منتجب الدين في فهرسته، وهو أحد رجال سلسلة الرواية للعلاّمة رشيد الدين ابن شهرآشوب المتصلة بشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ره) نصّ على ذلك في مقدّمة كتابهالمناقب.

٤ - الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الحلبي.

كان محقّقاً مدقّقاً فاضلاً صالحاً عابداً، يروي عن الشيخ الطوسي، وعن ابن البراج، هكذا جاء في أمل الآمل.

٥ - الشيخ وثاب بن سعد بن علي الحلبي.

(فقيه دين أديب قاله منتجب الدين) أورد ذلك صاحب أمل الآمل.

٦ - الشيخ أبو علي الحسن بن الحسين بن الحاجب الحلبي.

في أمل الآمل: (الحسن بن الحسين بن الحاجب فاضل جليل، روى عنه أبو المكارم حمزة بن زهرة).

٢٥٨

وفي الروضات نقلاً عن رياض العلماء ومنهم (فقهاء حلب) الشيخ العفيف الزاهد القاري أبو علي حسن بن حسين بن الحاجب الحلبي وهو الفاضل الذي يروي عنه ابن زهرة).

٧ - الشيخ ثابت بن أحمد بن عبد الوهّاب الحلبي.

(فقيه صالح قرأ على الشيخ التقي (ره)، قاله منتجب الدين) هكذا جاء في أمل الآمل.

٨ - عبد الملك بن الفذة الحلبي.

(فقيه ثقة، قاله منتجب الدين) عن أمل الآمل.

٩ - المظفّر بن طاهر بن محمد الحلبي.

قال في أمل الآمل: (فقيه صالح، قاله منتجب الدين).

١٠ - الشيخ أبو الحسن علي بن منصور بن أبي الصلاح الحلبي.

قال في الروضات: ثمّ إن من جملة علماء سلسلة صاحب الترجمة (أبي الصلاح، المصدَّر باسمه أسماء العلماء الحلبيين) هو سبطه ونافلته، الفاضل الفقيه الجليل إلخ، ولم يذكره صاحب أمل الآمل.

١١ - كتائب بن فضل الله بن كتائب الحلبي.

قال في أمل الآمل: فقيه دين ورع، قاله منتجب الدين.

١ - ثابت بن أسلم بن عبد الوهّاب أبو الحسن الحلبي النحوي.

قال السيوطي في الطبقات قال الذهبي كان من كبار النحاة شيعيّاً، صنّف كتاباً في تعليل قراءة عاصم. وتولّى خزانة الكتب بحلب لسيف الدولة، فقالت الإسماعيليّة هذا يفسد الدعوة ؛ لأنّه صنّف كتاباً في كشف عوارهم وابتداء دعوتهم، فحُمل إلى مصر فصُلب في حدود سنة ستّين وأربعمئة.

هكذا أورد ترجمته صاحب كتاب الشيعة وفنون الإسلام.

وأورد ذلك بعينه صاحب كتاب روضات الجنّات إلاّ أنّ تاريخ صلبه في الروضات هو في حدود سنة العشرين لا الستّين وهو الأصح كما لا يخفى.

وفي الروضات هذا التعقيب على ترجمته: (والعجب أنّ الشيعة لم يذكروا ترجمة هذا الرجل في شيءٍ من كتب رجالهم ولا يبعد كونه مِن

٢٥٩

جملة علماء حلب المشهورين في ذلك الزمان).

وجاء فيه - أيضاً - نقلاً عن رياض العلماء، ومنهم (فقهاء حلب) أيضاً في الظاهر الشيخ ثابت بن أسلم الحلبي النحوي الإمامي.

٢ - يحيى بن أبي طيّ الحلبي.

قال العلاّمة المحقّق السيّد حسن الصدر في كتاب الشيعة وفنون الإسلام:

ومنهم (النحاة) يحيى بن أبي طي أحمد بن ظاهر الطائي الكلبي الحلبي أبو الفضل النحوي.

قال ياقوت أحد من يتأدّب ويتفقّه على مذهب الإماميّة، وصاحب التصانيف في أقسام العلوم وكان في حدود ستمئة، قلت: قال في كشف الظنون (أخبار الشعراء السبعة) لابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي المتوفّى سنة ٣٣٥ خمس وثلاثين وثلاثمئة رتّب على الحروف انتهى.

وأظنّه وهم، والصحيح أنّ تولّده في شوّال سنة خمس وسبعين وخمسمئة.

قلت الذي رأيته في هذا المحل من كشف الظنون(١) هو ما يلي (أخبار الشعراء السبعة) لابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي المتوفّى سنة ٦٣٠ ثلاثين وستمئة، وهكذا أورد تاريخ وفاته تحت اسم كلّ كتاب أورده له، اللّهمّ إلاّ في مورد ذكره كتابه (معادن الذهب في الطب)(٢) فإنّه قال بعد ذكره (لابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي المتوفّى سنة ٢٣٠ ثلاثين ومئتين، وهو تاريخ كبير وذيله له أيضاً).

وفي هذا الكلام من الخلط والتهافت ما لا يخفى: -الأوّل - أنّ هذا التعريف بالكتاب لا ينطبق على المعرّف الذي هو كتاب طبي، والتعريف بكتاب تاريخي والتعريف يصدق على كتاب (معادن الذهب ) في تاريخ حلب وهو الذي أورده له في علم التاريخ حيث قال هناك(٣) (ومن تواريخه معادن الذهب لابن أبي طي يحيى بن حميدة الحلبي المتوفّى سنة ٦٣٠ ثلاثين وستمئة، وهو تاريخ كبير وذيله له أيضاً). -الثاني - الاختلاف العظيم بين

____________________

(١) ج ١ ص ٦١.

(٢) ج ٢ ص ٤٥٧.

(٣) ج ١ ص ٢٢٤.

٢٦٠

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

في يد الـمُستعير هل يكون الولد مضموناً في يده؟ إن قلنا : إنّ العارية مضمونة ضمانَ الغاصب(١) ، كان مضموناً عليه ، وإلّا فلا. وليس له استعماله إجماعاً.

وهذا الخلاف الجاري في العارية أنّها كيف تُضمن آتٍ في المأخوذ على وجه السوم.

لكنّ الأصحّ عند بعض الشافعيّة : إنّ الاعتبار في المستام بقيمته يوم القبض ؛ لأنّ تضمين أجزائه غير ممتنعٍ(٢) .

وقال غيره : الأصحّ كهو في العارية(٣) .

وهذا كلّه فيما إذا تلفت العين بغير الاستعمال.

مسألة ١١٨ : لو تلفت العين المستعارة المضمونة بالاستعمال‌ ، مثل أن ينمحق الثوب باللُّبْس ، فالوجه : ضمان العين وقت التلف ؛ لأنّ حقّ العارية أن تُردّ ، والإذن في الانتفاع إنّما ينصرف غالباً إلى استعمالٍ غير مُتلفٍ ، فإذا تعذّر الردّ لزم الضمان ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والأصحّ عندهم : إنّ العين لا تُضمن كالأجزاء ؛ لأنّه إتلاف استند إلى فعلٍ مأذونٍ فيه(٤) .

وعلى الأوّل لهم وجهان :

أحدهما : كما قلناه من أنّه تُضمن العين وقت التلف ، وهو آخر حالات التقويم.

____________________

(١) الظاهر : « ضمانَ الغصب ».

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ ، البيان ٦ : ٤٥٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٧.

٢٨١

والثاني : إنّه تُضمن العين بجميع أجزائها(١) .

مسألة ١١٩ : قد مضى البحث في ضمان العين‌ ، وأمّا ضمان الأجزاء فإن تلف منها شي‌ء بسبب الاستعمال المأذون فيه كانمحاق الثوب باللُّبْس المأذون فيه ، لم يلزم الـمُستعير ضمانه ؛ لحدوثه عن سببٍ مأذونٍ فيه ، وهو قول الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر ضعيف : إنّه يلزمه الضمان ؛ لأنّ العارية مؤدّاة ، فإذا تلف بعضها فقد فات ردّه ، فيضمن بدله(٣) .

والمعتمد : الأوّل.

وأمّا إن تلف من الأجزاء شي‌ء بغير الاستعمال ، فإن كانت العين مضمونةً كان الـمُستعير ضامناً للأجزاء ، وإلّا كانت أمانةً كالعين ، كما لو تلفت العين بأسرها ، وهو أصحّ قولَي الشافعي.

والثاني : إنّه لا يجب ضمانها على الـمُستعير ، كما لو تلفت بالاستعمال ، ويكتفى بردّ الباقي(٤) .

واعلم أنّ تلف الدابّة بسبب الركوب والحمل المعتاد كانمحاق الثوب ، وتعيّبها بالركوب أو الحمل وشبهه كالانسحاق.

ولو قرّح ظهرها بالحمل وتلفت منه ، قال بعض الشافعيّة : يضمن ، سواء كان متعدّياً بما حمل أو لا ؛ لأنّه إنّما أذن له في الحمل ، لا في الجراحة ، وردُّها إلى المالك لا يُخرجه عن الضمان ؛ لأنّ السراية تولّدت من مضمونٍ ، فصار كما لو قرّح دابّة الغير في يده(٥) .

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٠ - ٢٨١ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٢

وفيه نظر.

مسألة ١٢٠ : المستأجر يملك المنفعة ملكاً تامّاً‌ ، ولهذا جاز له أن يؤجر العين مدّة إجارته ، والمنفعة قابلة للنقل ، فجاز أن يعيرها ، فإذا استعار من المستأجر أو الموصى له بالمنفعة ، كان حكمها حكم العارية من المالك في الضمان وعدمه.

والشافعي القائل بالضمان في مطلق العارية له هنا قولان :

أحدهما : إنّه يضمن الـمُستعير هنا ، كما لو استعار من المالك.

والثاني - وهو الأصح عنده - : إنّه لا يضمن ؛ لأنّ المستأجر لا يضمن ، وهو نائب المستأجر ، ألا ترى أنّه إذا انقضت مدّة الإجارة ارتفعت العارية واستقرّت الإجارة على المستأجر بانتفاع الـمُستعير.

ومئونة الردّ في هذه الاستعارة على الـمُستعير إن ردّ على المستأجر ، وعلى المالك إن ردّ عليه ، كما لو ردّ عليه المستأجر(١) .

مسألة ١٢١ : إذا استعار من الغاصب العينَ المغصوبة وكان عالماً أو جاهلاً ثمّ قامت البيّنة بالغصب ، لم يجز له ردّها على الـمُعير‌ ؛ لأنّه ظالم ، ووجب عليه ردّها إلى مالكها ، فإن كان قد استعملها الـمُستعير مدّةً لمثلها أُجرة كان للمغصوب منه الرجوعُ بأُجرة مثلها على أيّهما شاء.

وكذا إن نقص شي‌ء من أجزائها ، فله الرجوع بقيمة ذلك ؛ لأنّ الغاصب ضمنها باليد المتعدّية ، والـمُستعير أتلف منافع الغير بغير إذنه ، وأتلف أجزاء عينه.

فإن رجع على الـمُستعير ، فالأقرب : إنّه لا يرجع على الـمُعير ؛ لأنّ‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨١ - ٢٨٢ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٣

التلف وقع في يده ، ولأنّه ضمن ما أتلفه ، ولا يرجع به على غيره ، وهو القول الجديد للشافعي.

وقال في القديم : يرجع عليه - وبه قال أحمد - لأنّه غرّه بأنّه دخل في العارية على أنّه لا يضمن المنفعة والأجزاء(١) .

وإن رجع على الـمُعير ، فهل يرجع الـمُعير على الـمُستعير؟ يبنى على القولين ، إن قلنا : لو رجع على الـمُستعير رجع به على الـمُعير ، فإنّ الـمُعير لا يرجع به ، وإن قلنا : لو رجع على الـمُستعير لم يرجع به ، فإنّ الـمُعير يرجع به.

فأمّا إن تلفت العين في يد الـمُستعير ، فإنّ لصاحبها أن يرجع على مَنْ شاء منهما بقيمتها ، و [ قرار ](٢) الضمان على الـمُستعير ؛ لأنّ المال حصل في يده بجهةٍ مضمونة.

ثمّ إن تساوت القيمة في يده ويد الغاصب فلا بحث ، وإن تفاوتت فإن كانت قيمتها في يد الـمُستعير يوم التلف أكثر ، فإن رجع المالك بها على الـمُستعير لم يرجع الـمُستعير بها على الـمُعير قولاً واحداً ؛ لأنّ العارية مضمونة على الـمُستعير.

وإن كانت قيمتها في يد الـمُعير أكثر ، لم يطالب المالكُ الـمُستعير بالزيادة ؛ لأنّها تلفت في يد الـمُعير ولم يحصل في يده ، وإنّما يطالب بالزيادة الـمُعير ؛ لأنّها تلفت في يده.

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ١٩٤ ، البيان ٦ : ٤٥٧ - ٤٥٨ ، وانظر : المغني ٥ : ٤١٤ - ٤١٥ ، والشرح الكبير ٥ : ٤٢٣.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في « ث » : « من ». وفي « ج » والطبعة الحجريّة : « من أنّ ». وكلاهما ساقط في « خ ، ر ». والمثبت من العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٨ ، وروضة الطالبين ٤ : ٧٨.

٢٨٤

وإذا طالَب المالك بغرامة المنافع ، فإن طالَب الـمُستعير غُرْمها ، فالمنفعة التي تلفت تحت يده قرار ضمانها على الـمُعير ؛ لأنّ يد الـمُستعير الجاهل في المنافع ليست يدَ ضمانٍ ، والتي استوفاها بنفسه الأقوى : إنّ الضمان يستقرّ عليه ؛ لأنّه مباشر للإتلاف ، وهو أظهر قولَي الشافعي.

والثاني : إنّ الضمان على الـمُعير ؛ لأنّه غرّه(١) .

والـمُستعير من المستأجر من الغاصب حكمه حكم الـمُستعير من الغاصب إن قلنا بأنّ الـمُستعير من المستأجر ضامن ، وإلّا فيرجع بالقيمة التي غرمها على المستأجر ، ويرجع المستأجر على الغاصب.

مسألة ١٢٢ : لو أنفذ وكيله إلى موضعٍ وسلّم إليه دابّةً ليركبها إليه في شغله‌ فتلفت الدابّة في يد الوكيل من غير تعدٍّ ، لم يكن عليه ضمان ، وهو ظاهرٌ عندنا ؛ فإنّا لا نوجب الضمان على الـمُستعير.

وأمّا الشافعي القائل بالضمان فإنّه نفاه هنا أيضاً ؛ لأنّ الوكيل لم يأخذ الدابّة لغرض نفسه ، بل لنفع الموكّل ، فالـمُستعير في الحقيقة المالك(٢) .

وكذا لو سلّم الدابّة إلى الرائض ليروضها(٣) فتلفت ، لم يضمن ؛ لأنّه في مصلحة المالك.

وكذا لو كان له عليها متاع فأركب إنساناً غيره فوق ذلك المتاع ليحفظه ويحترز عليه ، فتلفت الدابّة ، لم يكن على الراكب ضمان ؛ لأنّه في شغل المالك.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٢) الوسيط ٣ : ٣٧١ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٣) راض الدابّة يروضها : وطّأها وذلّلها أو علّمها السير. لسان العرب ٧ : ١٦٤ « روض ».

٢٨٥

ولو وجد ماشياً في الطريق قد تعب من المشي فأركبه دابّته ، فعندنا لا ضمان إذا لم يتعدّ ؛ بناءً على أصلنا من عدم تضمين العارية.

وأمّا عند الشافعي فالمشهور أنّ الراكب يضمن ، سواء التمس الراكب الركوبَ للاستراحة ، أو ابتدأ المالك بإركابه ؛ لأنّها عارية محضة ، والعارية على أصله مضمونة(١) .

وقال الجويني من الشافعيّة : إنّه لا يضمن الراكب ؛ لأنّ القصد من هذه العارية التصدّق والقربة ، والصدقات في الأعيان تفارق الهبات ، ألا ترى أنّه يرجع في الهبة ولا يرجع في الصدقة ، فلذلك يجوز أن تفارق العارية التي هي صدقة سائر العواريّ في الضمان(٢) .

ولو أركبه مع نفسه ، فلا ضمان عندنا على الرديف. وعلى قول الشافعي إنّه يضمن النصف(٣) .

وقال الجويني : لا يلزمه شي‌ء ؛ تشبيهاً له بالضيف(٤) .

وعلى الأوّل لو وضع متاعه على دابّة غيره وأمره أن يسيّر بالدابّة ففعل ، كان صاحب المتاع مستعيراً من الدابّة بقسط متاعه ممّا عليها ، حتى لو كان عليها مثل متاعه وتلفت ضمن نصف الدابّة(٥) .

ولو لم يقل صاحب المتاع : سيِّرها ، ولكن سيَّرها المالك ، لم يكن صاحب المتاع مستعيراً ، وضمن صاحب الدابّة المتاعَ ؛ لأنّه كان من حقّه أن‌

____________________

(١) الوسيط ٣ : ٣٧١ ، الوجيز ١ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٧٩ - ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٣) الوسيط ٣ : ٣٧٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٧٩.

٢٨٦

يطرح المتاع.

ولو كان لأحد الرفيقين في السفر متاع وللآخَر دابّة ، فقال صاحب المتاع للآخَر : احمل متاعي على دابّتك ، ففَعَل ، فصاحب المتاع مستعير لها.

ولو قال صاحب الدابّة : أعطني متاعك لأضعه على الدابّة ، فهو مستودع للمتاع.

ولا تدخل الدابّة في ضمان صاحب المتاع في الصورتين عندنا ، وفي الثانية عند الشافعي(١) .

مسألة ١٢٣ : تجوز استعارة الدابّة للركوب والحمل‌ ، سواء أطلق أو قيّد بالزمان أو المنفعة ، وأن يستعيرها ليركبها ؛ لأنّه تجوز إجارتها لذلك ، والإعارة أوسع ؛ لجوازها فيما لا تجوز إجارته ، فإن استعارها إلى موضعٍ فتجاوزه فقد تعدّى في العارية من وقت المجاوزة ، وكان ضامناً من حين العدوان ، ومطلقاً عند الشافعي(٢) ، فإذا استعارها من بغداد إلى الحلّة فتجاوزها إلى الكوفة ، فعليه أُجرة ما بين الحلّة والكوفة ذهاباً وعوداً.

وهل تلزمه الأُجرة من ذلك الموضع الذي وقع فيه العدوان - وهو الحلّة - إلى أن يرجع إلى البلد الذي استعار منه ، وهو بغداد؟ الأقرب : العدم ؛ لأنّه مأذون فيه من جهة المالك ، وهو أحد وجهي الشافعيّة ، والثاني : اللزوم ؛ لأنّ ذلك الإذن قد انقطع بالمجاوزة(٣) . وهو ممنوع.

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

(٢) راجع الهامش (٤) من ص ٢٧٣.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٧

إذا عرفت هذا ، فلو شرط الضمان في العارية أو أطلق وقلنا بضمان العواري ، فإنّ الدابّة تكون مضمونةً عليه إلى الحلّة ضمانَ العارية ، ولا أُجرة عليه ؛ لأنّه مأذون له في ركوبها ، فإذا جاوز ضمنها ضمانَ الغصب ، ووجب عليه أُجرة منافعها ، فإذا ردّها إلى الحلّة لم يزل عنه الضمان ، وبه قال الشافعي(١) .

وأبو حنيفة يقول : إنّها أمانة إلى الحلّة ، فإذا جاوزها كانت مغصوبةً ، فإذا ردّها إلى الحلّة لم يزل ضمان الغصب ، بخلاف قوله في الوديعة إذا أخرجها من حرزها ثمّ ردّها إليه(٢) .

إذا ثبت هذا ، فعلى قول الشافعي بانقطاع الإذن من حين التعدّي ليس له الركوب من الحلّة إلى بغداد ، بل يسلّم الدابّة إلى حاكم الحلّة الذي استعار إليه(٣) .

مسألة ١٢٤ : إذا دفع إليه ثوباً وقال : إن شئت أن تلبسه فالبسه‌ ، فهو قبل اللُّبْس وديعة ، وبعده عارية ، وهو المشهور عند الشافعيّة(٤) .

ولهم وجهٌ آخَر مخرَّج من السوم ؛ لأنّه مقبوض على توقّع الانتفاع ، فكما أنّ المأخوذ على سبيل السوم مقبوض على توقّع عقد ضمانٍ ، كذا هنا.

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٣ / ٤٤٤ ، البيان ٦ : ٤٦٠.

(٢) بدائع الصنائع ٦ : ٢١٦ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٨٤ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٥ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٣٧ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٣ / ٤٤٤ ، بحر المذهب ٩ : ١٤ ، وراجع أيضاً الهامش (٢) من ص ١٦٠.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٨

قال هذا القائل : لو قيل : لا ضمان في السوم أيضاً تخريجاً ممّا نحن فيه ، لم يبعد(١) .

ولو استعار صندوقاً فوجد فيه شيئاً ، فهو أمانة عنده ، كما لو طيّر الريح الثوبَ في داره ، فلا ضمان فيه وإن كانت العارية مضمونةً ، إلّا مع التفريط أو التعدّي.

مسألة ١٢٥ : قد بيّنّا أنّه لا يجوز للمُحْرم أن يستعير الصيد‌ ، فإن استعاره من الـمُحلّ لم يجز ، فإن قبضه ضمنه لله تعالى بالجزاء ، ولصاحبه ضمان العارية.

فإن استعار مُحلٌّ من مُحْرمٍ صيداً كان يملكه قبل أن يُحرم ، كان ذلك مبنيّاً على القولين في زوال ملكه عنه بالإحرام.

فإن قلنا : لـمّا أحرم زال ملكه عنه بالإحرام ، فقد وجب عليه إرساله ، فإذا دفعه إلى الـمُحلّ لم يجز له ، إلّا أنّ الـمُحلّ لا يضمنه له ؛ لأنّه ليس يملكه ، ولا يضمنه لله تعالى ؛ لأنّه مأذون له في إتلاف الصيد ، إلّا أنّه إذا تلف ضمنه الـمُحْرم ؛ لأنّه تلف بسببٍ من جهته ، وهو تسليمه إلى الـمُحلّ.

وإن قلنا ببقاء ملك الـمُحْرم فيه ، جاز له إعارته ، ويكون مضموناً على الـمُحلّ ضمانَ العارية لصاحبه.

ولو كان الـمُحْرم في الحرم والصيد فيه ، لم يجز له إعارته ، ولا للمُحلّ استعارته.

مسألة ١٢٦ : إذا ردّ الـمُستعير العاريةَ إلى مالكها أو إلى وكيله ، برئ من ضمانها.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٨٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٠.

٢٨٩

وإن ردّها إلى ملك مالكها بأن حمل الدابّةَ إلى اصطبل المالك وأرسلها فيه ، أو ردّ آلةَ الدار إليها ، لم يزل عنه الضمان ، وبه قال الشافعي(١) ، بل عندنا إن لم تكن العارية مضمونةً فإنّها تصير بهذا الردّ مضمونةً ؛ لأنّه لم يدفعها إلى مالكها ، بل فرّط بوضعها في موضعٍ لم يأذن له المالك بالردّ إليه ، كما لو ترك الوديعة في دار صاحبها فتلفت قبل أن يتسلّمها المالك ؛ لأنّه لم يردّها إلى صاحبها ولا إلى مَنْ ينوب عنه ، فلم يحصل به الردّ ، كما لو ردّها إلى أجنبيٍّ.

وقال أبو حنيفة : إذا ردّها إلى ملك المالك ، صارت كأنّها مقبوضة ؛ لأنّ ردّ العواري في العادة يكون إلى أملاك أصحابها ، فيكون ذلك مأذوناً فيه من طريق العادة(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه يبطل بالسارق إذا ردّ المسروق إلى الحرز ، ولا نعرف العادة التي ذكرها ، فبطل ما قاله.

المبحث الثالث : في التنازع.

مسألة ١٢٧ : إذا اختلف المالك والـمُستعير ، فقال المالك : آجرتك هذه العين مدّة كذا بكذا‌ ، وقال الـمُستعير : بل أعرتنيها ، والعين باقية بعد انقضاء المدّة بأسرها أو بعضها ممّا له أُجرة في العادة ، قال الشيخرحمه‌الله في الخلاف :

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٢ - ٢٧٣ / ٤٤٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٣١ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٩٣ ، البيان ٦ : ٤٦٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٩١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٥ / ٣١٧٣.

(٢) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٨٣ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٥ / ٣١٧٢ ، الفقه النافع ٣ : ٩٤٩ / ٦٧٥ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢٢٣ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٣١ ، البيان ٦ : ٤٦٠.

٢٩٠

القول قول الـمُستعير - وبه قال أبو حنيفة(١) - لأنّهما اتّفقا على أنّ تلف المنافع كان على ملك الـمُستعير ؛ لأنّ المالك يزعم أنّه ملَّكها بالإجارة ، والـمُستعير يزعم أنّه مَلَكها بالاستيفاء ؛ لأنّ الـمُستعير يملك بذلك ، وقد ادّعي عليه عوض ما تلف على ملكه ، والأصل عدم وجوبه ، فكان القولُ قولَه ، ولأنّ الأصل براءة الذمّة ، والمالك يدّعي شغلها ، فيحتاج إلى البيّنة(٢) .

وقال مالك : القول قول المالك مع اليمين ؛ لأنّ المنافع جارية مجرى الأعيان ، وقد ثبت أنّه لو كان أتلف عليه عيناً كما لو أكل طعامه وقال : كنتَ أبحتَه لي ، وأنكر المالك ، فإنّ القول قول المالك ، أو كانت في يده وادّعى أنّه وهبها منه وأنكر صاحبها ذلك وادّعى أنّه باعها منه : إنّ القول قول صاحبها ، كذا هنا ، ولأنّ المنافع تابعة للأعيان في الملك ، فهي بالأصالة لمالك العين ، فادّعاء الـمُستعير التفرّدَ بالملكيّة لها على خلاف الأصل ، فيحتاج إلى البيّنة(٣) .

وأمّا الشافعي فقد قال في كتاب العارية : إنّه إذا اختلف مالك الدابّة وراكبها ، فقال صاحبها : آجرتكها بكذا ، وقال الراكب : أعرتنيها ولا أُجرة لك علَيَّ ، فالقول قول الراكب(٤) .

____________________

(١) روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣١٩٨ ، المبسوط - للسرخسي - ١١ : ١٤٩ ، فتاوى قاضيخان - بهامش الفتاوى الهنديّة - ٣ : ٣٨٥ ، بحر المذهب ٩ : ١٦ ، البيان ٦ : ٤٧٤ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١ ، الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٦ / ٤٥٤.

(٢) الخلاف ٣ : ٣٨٨ ، المسألة ٣ من كتاب العارية.

(٣) النوادر والزيادات ١٠ : ٤٦٢ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١.

(٤) الأُم ٣ : ٢٤٥ ، مختصر المزني : ١١٦ و ١٣٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ ، =

٢٩١

وقال في كتاب المزارعة : ولو اختلف الزارع وصاحب الأرض ، وادّعى صاحب الأرض أنّه آجره إيّاها ، وادّعى الزارع أنّه أعاره إيّاها : إنّ القولَ قولُ صاحب الأرض(١) .

واختلف أصحابه في ذلك :

فقال أبو إسحاق وجماعة : إنّه لا فرق بين المسألتين ، وإنّ فيها قولين ، ونقلوا جوابه من كلّ واحدةٍ منهما إلى أُخرى(٢) .

ومنهم مَنْ قال : إنّ المسألتين مختلفتان ، وفرّق بينهما بأنّ العادة جارية بأنّ الدوابّ تُعار ، فكان الظاهر مع الراكب ، ولم تَجْر العادة بإعارة الأرضين ، فكان الظاهر مع صاحبها(٣) .

قال الأوّلون : هذا ليس بصحيحٍ ؛ لأنّ مثل هذه العادة لا اعتبار بها في التداعي ، ولهذا لو اختلف العطّار والدبّاغ في آلة العطر لا يُرجّح قول العطّار‌

____________________

= الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٢٧٦ / ٤٥٤ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، الوجيز ١ : ٢٠٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ٣٧١ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣١٩٩.

(١) مختصر المزني : ١٣٠ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، الوجيز ١ : ٢٠٥ ، الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٨ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨ ، روضة القُضاة ٢ : ٥٣٩ / ٣٢٠٠.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١٢١ و ٤٧٢ - ٤٧٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

(٣) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٢ و ٤٧٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، بحر المذهب ٩ : ١٥ ، حلية العلماء ٥ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٠.

٢٩٢

وإن كانت العادة جاريةً بأنّ آلة العطّار لا تكون للدبّاغ.

وفرّقوا بين هذه المسألة وبين ما إذا غسل ثوبه غسّال أو خاطه خيّاط ثمّ قال : فعلتُه بالأُجرة ، وقال المالك : بل فعلتَ ذلك مجّاناً ، فإنّ القول قول المالك مع يمينه قولاً واحداً ؛ لأنّ الغسّال فوّت منفعة نفسه ثمّ ادّعى لها عوضاً على الغير ، وهناك المتصرّف فوّت منفعة مال الغير وأراد إسقاط الضمان عن نفسه ، فلم يُقبل(١) .

إذا عرفت هذا ، فإن قلنا : القول قول الـمُستعير ، فحلف على نفي الإجارة ، كفاه ، وسقط عنه المطالبة ، وردّ العين ، وإن نكل حلف المالك ، واستحقّ بيمينه المسمّى ؛ لأنّ اليمين مع النكول إمّا أن تكون بمنزلة البيّنة أو الإقرار ، وأيّهما كان يثبت به المسمّى ، وهو قول أكثر الشافعيّة(٢) .

ولهم وجهٌ آخَر ضعيف : إنّه يستحقّ أُجرة المثل ؛ لأنّ الناكل ينفي أصل الإجارة ، فتقع يمين المدّعي على إثباته(٣) .

وليس هذا الوجه عندي بعيداً من الصواب.

وإن قلنا : القول قول المالك مع يمينه ، فإنّه يحلف على نفي الإعارة التي تدّعى عليه ، ولا يتعرّض لإثبات الإجارة ؛ لأنّه مدّعٍ فيها ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

فحينئذٍ إذا حلف على نفي الإعارة ، فالأقوى عندي : إنّ الـمُستعير يحلف على نفي الإجارة ، فإذا حلف ثبت للمالك أقلّ الأمرين من أُجرة‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ١٢٢ ، بحر المذهب ٩ : ١٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، البيان ٦ : ٤٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢.

(٣) البيان ٦ : ٤٧٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٤) الوسيط ٣ : ٣٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

٢٩٣

المثل والمسمّى ؛ لأنّه إن كانت أُجرة المثل أقلَّ فهو لم يُقم حجّةً على الزيادة ، وإن كان المسمّى أقلَّ فقد أقرّ بأنّه لا يستحقّ الزيادة.

وقال بعض الشافعيّة : إذا حلف المالك على نفي الإعارة ، استحقّ أقلَّ الأمرين من أُجرة المثل والمسمّى إن لم يحلف الـمُستعير.

قال : وإن قلنا : إنّ المالك يحلف على إثبات الإجارة ونفي الإعارة ويجمع بينهما في يمينه ، ففيما يستحقّه وجهان :

أحدهما : المسمّى إتماماً لتصديقه.

وأظهرهما - وهو مقتضى منصوص الشافعي في الأُم(١) - أُجرة المثل ؛ لأنّهما لو اتّفقا على الإجارة واختلفا في الأُجرة كان الواجب أُجرة المثل ، فإذا اختلفا في أصل الإجارة كان أولى(٢) .

والجويني حكى الوجه الثاني على غير ما ذكر ، بل حكى بدله : إنّه يستحقّ أقلَّ الأمرين ؛ لما(٣) تقدّم.

قال : والتعرّض للإجارة على هذا ليس لإثبات المال الذي يدّعيه ، لكن لينتظم كلامه من حيث إنّه اعترف بأصل الإذن ، فحصل فيما يستحقّه ثلاثة أوجُه(٤) .

ولو نكل المالك عن اليمين المعروضة عليه ، لم تُردّ اليمين على الراكب والزارع ؛ لأنّهما لا يدّعيان حقّاً على المالك حتى يُثبتاه باليمين ، وإنّما يدّعيان الإعارة ، وليست حقّاً لازماً على الـمُعير.

____________________

(١) الأُم ٣ : ٢٤٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٣) الظاهر : « كما » بدل « لما ».

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١.

٢٩٤

وقال بعض الشافعيّة : إنّها تُردّ ؛ ليتخلّص من الغرم(١) .

مسألة ١٢٨ : لو وقع هذا الاختلاف عقيب العقد قبل انقضاء مدّةٍ لمثلها أجر‌ ، فالقول هنا قول الـمُستعير مع اليمين ، فإذا حلف على نفي الإجارة سقط عنه دعوى الأُجرة ، واستردّ المالك العين ، وإن نكل حلف المالك اليمينَ المردودة ، واستحقّ الأُجرة.

وهذا قول الشافعي أيضاً ، ولا قول له سواه ؛ لأنّ الراكب هنا لا يدّعي لنفسه حقّاً ولا أتلف المنافع على المالك ، والمدّعي في الحقيقة هنا هو المالك ، وإذا تمحّضت الدعوى له لم يتعدّد قوله كما يتعدّد في الصورة الأُولى ؛ لأنّ المنافع هناك تلفت تحت يد الراكب ، وكان القول بسقوطها مجّاناً بعيداً ، فلهذا كان له في الصورة الأُولى قولان(٢) .

مسألة ١٢٩ : لو حصل هذا الاختلاف بعد تلف العين‌ ، فإن تلفت عقيب الأخذ قبل أن يثبت لمثلها أُجرة وشرط في العارية الضمان أو قلنا به على مذهب القائلين بضمان العارية ، فلا معنى للاختلاف ؛ لأنّ صاحبها يدّعي الإجارة وقد انفسخت بتلفها ، والـمُستعير يُقرّ بالقيمة ويعترف باستحقاقها في ذمّته ، والمالك ينكرها ، فليس للمالك حينئذٍ المطالبة بها.

ولو لم نقل بالضمان في العارية ولا شرطه المالك ، فلا بحث هنا ؛ لأنّ كلّ واحدٍ منهما يعترف ببراءة ذمّة الـمُستعير.

وإن تلفت بعد مضيّ مدّةٍ لمثلها أُجرة مع شرط الضمان أو القول به ، فالـمُستعير يُقرّ بالقيمة ، والمالك ينكرها ويدّعي الأُجرة ، فيبنى على الخلاف بين العامّة في أنّ اختلاف الجهة هل يمنع الأخذ؟

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩١ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

(٢) البيان ٦ : ٤٧٣ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٨.

٢٩٥

إن قلنا : نعم ، سقطت القيمة بردّه ، والقول في الأُجرة قول المالك أو الـمُستعير على الخلاف الذي تقدّم في الحالة الأُولى.

وإن قلنا : إنّ اختلاف الجهة لا يمنع الأخذ ، فإن كانت الأُجرة مثلَ القيمة أو أقلَّ أخذها بغير يمينٍ ، وإن كانت أكثر أخذ قدر القيمة ، وفي المصدّق في الزيادة الخلافُ المتقدّم(١) .

مسألة ١٣٠ : لو انعكس هذا الاختلاف ، فادّعى المالكُ الإعارةَ ، والمتصرّفُ الإجارةَ‌ ، فإن كانت العين باقيةً وكان الاختلاف عقيب التسليم قبل مضيّ مدّةٍ لمثلها أُجرة ، كان القولُ قولَ المالك ؛ لأنّ المتصرّف يدّعي عليه عقداً واستحقاق منفعةٍ ، والمالك ينكره ، وإذا لم تكن بيّنة كان القولُ قولَ المنكر مع اليمين ، ثمّ تُستردّ العين.

وإن نكل حلف المتصرّف ، واستحقّ المنفعة المدّة والإمساك طولها.

وإن كان بعد مضيّ مدّة الإجارة ، فلا معنى للاختلاف ؛ لأنّهما اتّفقا على وجوب ردّها ، والمتصرّف يُقرّ للمالك بالأُجرة ، والمالك ينكرها.

وإن كان بعد مضيّ بعض المدّة ، فالقول قول المالك ؛ لأنّ الأصل عدم استحقاق الغير منفعة مال الغير ، فإذا حلف على نفي الإجارة أخذ العين ، وليس له مطالبته بالأُجرة عمّا مضى من المدّة ؛ لأنّه ينكرها والمتصرّف معترف له بها.

هذا إذا كان الاختلاف والعين باقية ، وأمّا إن اختلفا والعين تالفة ، فإن كان الاختلاف عقيب القبض قبل انقضاء مدّةٍ لمثلها أُجرة ، فالمالك هنا يدّعي قيمتها على المتصرّف مع شرط الضمان عندنا ، ومطلقاً عند‌

____________________

(١) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٨٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٢٩٦

الشافعي(١) ، والمتصرّف ينكرها ، فيُقدَّم هنا قول المالك مع اليمين ؛ لأنّهما اختلفا في صفة القبض ، والأصل فيما يقبضه الإنسان من مال غيره الضمانُ ؛ لقولهعليه‌السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّيه »(٢) .

وإن كان الاختلاف بعد مضيّ المدّة ، فالمتصرّف يُقرّ بالأُجرة ، والمالك يدّعي عليه القيمة في المضمونة ، فإن كانت القيمة بقدر الأُجرة دفع إليه من غير(٣) يمينٍ ؛ لاتّفاقهما على استحقاق ذلك المقدار ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

وقال بعضهم : لا تثبت الأُجرة ؛ لأنّه لا يدّعيها ، ويكون القولُ قولَه في وجوب القيمة(٥) .

وإن كانت أقلَّ ، كان في قدرها الوجهان.

وإن كانت أكثر ، كان قدر الأُجرة منهما على الوجهين ، والباقي يستحقّه بيمينه.

وإن كان التلف في أثناء المدّة ، فقد أقرّ له ببعض الأُجرة ، وهو يدّعي القيمة ، والحكم في ذلك على ما ذكر.

مسألة ١٣١ : لو ادّعى المالكُ الغصبَ ، والمتصرّفُ الإعارةَ والعين باقية قائمة ، ولم تمض مدّة لمثلها أُجرة ، فلا معنى لهذا الاختلاف‌ ؛ إذ لم تفت العين ولا المنفعة ، ويردّ المتصرّفُ العينَ إلى المالك.

وإن مضت مدّة لمثلها أُجرة ، فالأقوى : إنّ القولَ قولُ المالك مع‌

____________________

(١) راجع الهامش (٤) من ص ٢٧٣.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٢٧١ ، الهامش (٢)

(٣) في « ج » : « بغير » بدل « من غير ».

(٤ و ٥) البيان ٦ : ٤٧٦.

٢٩٧

يمينه ؛ لما تقدّم(١) من أصالة تبعيّة المنافع للأعيان في التملّك ، فالقول قول مَنْ يدّعيها مع اليمين وعدم البيّنة ؛ لأنّ المتصرّف يدّعي انتقال المنفعة إليه بالإعارة وبراءة ذمّته من التصرّف في مال الغير ، فعليه البيّنة.

وقال الشيخرحمه‌الله في الخلاف : القول قول المتصرّف - وهو أحد أقوال الشافعي نقله المزني عنه(٢) - لأنّ المالك يدّعي عليه عوضاً ، والأصل براءة ذمّته منه ، ولأنّ الظاهر من اليد أنّها بحقٍّ ، فكان القولُ قولَ صاحبها(٣) .

وليس بجيّدٍ ؛ لما بيّنّا من أصالة تبعيّة المنافع للأعيان ، ولأصالة عدم الإذن ، وكما أنّ الظاهر أنّ اليد بحقٍّ ، كذا الظاهر التبعيّة.

ولأصحاب الشافعي هنا ثلاثة طُرق :

أظهرها : إنّ الحكم هنا على ما تقدّم في المسألة السالفة ، فيُفرّق بين الدابّة والأرض على طريقٍ ، ويُجعلان على قولين في طريقٍ ؛ لأنّ المالك ادّعى أُجرة المثل هنا ، كما ادّعى المسمّى في الإجارة هناك ، والأصل براءة الذمّة.

والثاني : القطع بأنّ القول قول المالك ، بخلاف تلك المسألة ؛ لأنّهما متّفقان على الإذن هناك ، وهنا المالك منكر له ، والأصل عدمه. ومَنْ قال بهذا خطّأ المزني في النقل.

قال أبو حامد : لكنّه ضعيف ؛ لأنّ الشافعي نصّ في الأُمّ على ما رواه‌

____________________

(١) في ص ٢٩٠.

(٢) مختصر المزني : ١١٦ ، الحاوي الكبير ٧ : ١٢٣ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٧٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٩٠ ، البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩ ، المغني ٥ : ٣٧٣ ، الشرح الكبير ٥ : ٣٧٤.

(٣) الخلاف ٣ : ٣٨٩ ، المسألة ٥ من كتاب العارية.

٢٩٨

المزني(١) .

والثالث : القطع بأنّ القول قول المتصرّف ؛ لأنّ الظاهر من حال المسلم أنّه لا يتصرّف إلّا على وجهٍ جائز(٢) .

هذا إذا تنازعا والعين باقية.

مسألة ١٣٢ : لو وقع هذا الاختلاف وقد تلفت العين‌ ، فإن هلكت بعد انقضاء مدّةٍ لمثلها أُجرة ، فالمالك يدّعي أُجرة المثل والقيمة بجهة الغصب ، والمتصرّف يُنكر الأُجرة ويُقرّ بالقيمة بجهة العارية إن كانت مضمونةً ، فالحكم في الأُجرة على ما تقدّم عند بقاء العين.

وأمّا القيمة فإنّه يُحكم فيها بقول المتصرّف ؛ لأصالة براءة ذمّته من الزائد عن القيمة وقت التلف إن أوجبنا على الغاصب أعلى القِيَم.

وقال بعض الشافعيّة : إن قلنا : إنّ اختلاف الجهة يمنع الأخذ ، فلا يأخذ المالك إلّا باليمين. وإن قلنا : لا يمنع فإن قلنا : العارية تُضمن ضمانَ الغصب ، أو لم نقل به لكن كانت قيمته يوم التلف أكثر ، أخذها باليمين ، وإن كانت قيمته يوم التلف أقلَّ ، أخذها بغير يمينٍ ، وفي الزيادة يحتاج إلى اليمين(٣) .

وإن هلكت عقيب القبض قبل مضيّ وقتٍ يثبت لمثله أُجرة ، لزمه القيمة.

ثمّ قياس القول الأوّل أن يقال : إن جعلنا اختلاف الجهة مانعاً من

____________________

(١) البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩ ، وراجع الأُم ٣ : ٢٤٥ ، ومختصر المزني : ١١٦.

(٢) البيان ٦ : ٤٧٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٢٩٩

الأخذ ، حلف ، وإلّا أخذ بغير يمينٍ.

وقضيّة ما قاله الجويني في مسألة التنازع بين الإجارة والعارية : إنّه لا يُخرّج على ذلك الخلاف لا هذه الصورة ولا ما إذا كان الاختلاف بعد مضيّ مدّةٍ يثبت لمثلها أُجرة.

قال : لأنّ العين متّحدة ، ولا وَقْع للاختلاف في الجهة مع اتّحاد العين(١) .

والظاهر : الأوّل عندهم(٢) .

وإن كانت العارية غيرَ مضمونةٍ ، فإنّ القولَ قولُ المالك في عدم الإعارة ، وقولُ المتصرّف في عدم الغصب لئلّا يضمن ضمانَ الغصب ، ثمّ يثبت على المتصرّف بعد حلف المالك على نفي الإعارة قيمتُها وقت التلف.

مسألة ١٣٣ : لو انعكس الفرض ، فقال المالك : أعرتُكها ، وقال المتصرّف : بل غصبتُها ، فلا فائدة في هذا الخلاف‌ ؛ لأنّ المتصرّف يُقرّ بالضمان ، والمالك يُنكره إن كانت العارية غير مضمونةٍ ، وإن كانت مضمونةً فإنّه يُنكر ضمان الغصب.

وإن مضت مدّة لمثلها أُجرة ، فالمالك ينفي استحقاق العوض عنها ، والمتصرّف يعترف له بها.

ولو قال المالك : غصبتَها ، وقال المتصرّف : بل آجرتني ، فإن كانت العين باقيةً ولم تمض مدّة لمثلها أُجرة ، فالأقوى : التحالف.

أمّا حلف المتصرّف على نفي الغصب : فلنفي زيادة الضمان إن‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٣٩٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٨٩.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486