تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75860 / تحميل: 9804
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

أمّا المياه فتأتيها من لبنان بأقنيةٍ قديمةٍ، يُظنّ أنّها من بقايا الصليبيّين، بدليل تسميتها حتّى الآن باسم قناطر البرنس، وتتوزّع في كلّ أنحاء البلدة وشوارعها، وتدخل دورها وبناياتها، وتتّصل إلى الطبقة الثالثة على ارتفاعٍ أكثر من خمسة عشر ذراعاً. ومخرج الماء من ينبوعٍ عذبٍ يُقال له رشعين في ناحية الزاوية من قائمقاميّة البترون التابعة لمتصرّفية لبنان.

(أمّا النهر فمخرجه من جبل لبنان فوق قرية بشري تحت الأرز الشهير، من مكان يُقال له الدواليب، ويجري إلى الجنوب الغربي قليلاً، فيتّحد معه جدولان يُقال لأحدهما رشعين وللآخر المخاضة، ومن ثمّ يدخل طرابلس ويخرقها من الشرق إلى الغرب فيشطرها شطرين غير متساويين ويخرج منها فيمرّ في أرضٍ كثيرة الجنائن والبساتين، ويصبّ في بحر الروم إلى الشمال من المينا على مسافة ميلٍ عنها.

وغزارة الماء وخصب تربة البلاد حملا الأهلين على الرغبة في حراثة الأرض، فأتقنوها حتّى صارت طرابلس أوّل بلدان سورية تقدّماً في الزراعة، وأمست أرضها ذات ثمار كثيرة مشهورة عنها أخصّها الليمون بأنواعه ؛ ذلك ما أصبح مصدراً لتجارةٍ متّسعةٍ فيه.

أمّا التجارة فهي متّسعة في تصدير الحاصلات ضيّقة في إيراد البضائع الأوروبية، وأخصّ الأصناف الصادرة: الحرير والحبوب والليمون والزيت والصابون وغير ذلك.

(أمّا الصناعة فقاصرة جداً، مع أنّها اشتهرت في الزمن السالف كما شهد بذلك مؤرّخو الافرنج الذين كتبوا وقائع الحرب الصليبيّة).

ثمّ وصف ترقّيها في العلم ومدارسه، وفضلها على أكثر المدن السورية في هذه الناحية، ولم يقصّر ومَن أولى به بإيفائها حقّها، وهو ابنها البار، وهي أوّل بلد مسّ جسمه ترابها.

وإذا عرفت أنّ هذا الوصف لها كان منذ سبع وخمسين سنة: أي في عهد مبدأ النهضة السورية العمرانية والعلمية في بلاد الشام، وبعد تراجعها العظيم يتبين لك أنّها قد بلغت في هذه الأيّام شأواً بعيداً في كلّ ناحيةٍ من نواحي العمران والاقتصاد والعلم والآداب والسياسة والوطنيّة الصحيحة، لمرافقتها النهضة التي شملت أكثر المدن السورية، دع ما أعان هذه النهضة من الوسائل التي كانت تكاد تكون مفقودة في ذلك العهد، ومنها صعوبة المواصلات وقلّة المطابع وندرة الكتب.

٣٠١

وطرابلس ضربت الرقم القياسي السوري الساحلي في جهادها الوطني والسياسي في سبيل إحقاق حقّها بالالتحاق في الوحدة السورية، وأبلت بلاءً حسناً في كلّ مرحلةٍ من مراحل القضيّة السورية الخاصّة والعربية العامّة، منذ بدء الاحتلال وإلقاء الحرب العامّة أوزارها إلى يومنا هذا.

ولولا أن التبسّط في تاريخ هذا البلد الراقي قديماً وحديثاً يطول به الخطب ويخرجنا عن صدد موضوع كتابنا، لما اقتصرنا على إيراد هذه الجملة غير الوافية بقدرها، وبما لها من المكانة في نفوسنا، وبما نضمره لها من إجلال وإكبار، ولرجالها المخلصين المجاهدين من إعجابٍ وإعظام.

تاريخها القديم:

قال المؤرّخ جرجي يني الطرابلسي في تاريخ سوية:

(أمّا تاريخ البلدة فقديم جدّاً، ومع أنّ ذكرها لم يرد في الكتاب المقدّس يعتقد بعض المدقّقين بكيانها منذ حين قديم.

أمّا ما يعلم عنها تاريخاً فهو أنّه بعد أن أخذت بلاد فينيقية بالتقدّم الحي والمعنوي، وكانت ولايات مستقلّة تنضمّ إلى بعضها برباط الدين والجنسيّة، على أنّها منفصلة عن بعضها في الأحكام الداخلية والخارجية، خلا الحلقة الوطنية بالدفاع والهجوم، رأت أمّهات الممالك وهي: صيدا وصور وارواد وجوباً لإقامة دار شورى ترى في المصالح العامّة للبلاد. فأُنشئ المجلس المذكور في مدينة طرابلس، ومع أنّ التاريخ لم يذكر زمان إنشائه، ولا أوّل زمان عُرفت به طرابلس بلدة ؛ نرى أنّ المجلس لم يقم يومئذٍ في بلدةٍ معروفةٍ بل إنّ عدم قبول تلك الدول الكبيرة قيام ندوتها في بلدة إحداهن لمغايرة الأخرى، وتحذّراً من استبدادها بالقوة وعدم رغبة جميعها بإعطاء تلك المنحة العظيمة للدول الثانوية، حمل القوم على انتخاب أرض محايدة أو قرية صغيرة يشيدون فيها مجلسهم، فكانت حينئذٍ نشأة طرابلس وهي غير ذات اسم عام، بل ربّما أطلق على قسمٍ منها، ومع أنّه عرف تماماً أنّ هذا المجلس كان مركّباً من أعضاء صوريّين وصيدونيّين وارواديّين، لم يعرف إن كانت الولايات الأُخرى الفينيقية قد اشتركت بالعضويّة، كاشتراكها بقبول أحكامه ممّا برهنته بعض الحوادث التاريخية.

وهذا التخمين يقارب الواقع ؛ لأنّه حتّى الآن لم يُعرف للبلدة اسم فينيقي، مع أنّ دار الشورى قد ذُكرت

٣٠٢

مراراً في تاريخ تلك البلاد، ولو وجدت أقل مشابهة بين الكلمة اليونانية التي تركّب منها اسم طرابلس وهي تريبوليس، واللغة الفينيقية لحكم القوم المدقّقون بالاشتقاق، ولا جرم أنّ التاريخ يقول إن أعضاء ذلك المجلس كانوا مئة عضو من الصيدونيين، وبما أنّ صيدا لم تكن أكثر أهمّيّة وإشغالاً من معاصرتيها صور وارواد، لا يظن أنّ أعضاء تينك البلدتين كانوا أقلّ عدداً.

ولا يخفى أنّ وجود ثلاثمئة عضو كافٍ لبناء ثلاث حلل ؛ لأنّ أكثر الأعضاء كانوا يلتزمون بإحضار نسائهم معهم. وكرّ الزمان فكثرت الذكور والمهاجرون فعمرت البلدة بهم.

والظاهر أنّ حكومتها استمرّت بيد الثلاث الدول ؛ ذلك أنّ كلاًّ منها كانت تحكم حلّتها بشرائعها الخصوصيّة ؛ فكان بين كلّ حلّة وأُخرى مسافة ستاديا وهي نحو فرسخ، يؤيّد ذلك الآثار المستمرّة حتّى يومنا، دليلاً على مواقع الحلل حيث كانت الأُولى في محل الميناء الحالية، والثانية في السلفتانية، وهي الآن مدفن للروم الأرثوذكس.

وهنالك بقايا قناة ماء، يظهر أنّها كانت تأتي تلك الحلّة من الضنية حيثما تمرّ في أراضي مجدليا، فتظهر آثارها عند طواحين السكر، والثالثة غربيّ المدينة الحاليّة عند البحصاص.

(ولقد قلنا إنّ التاريخ لم يكشف لنا عن زمان بنائها، إلاّ أنّ من الأدلّة ما يُظهر شيئاً من ذلك، فنقول:

إنّ تشكيل المجلس لم يتم إلاّ بعد مجيء نبوخذ نصّر لسورية، ولا يخفى أنّ ذلك الفاتح أتى البلاد غازياً في سنة (٦٠٦ ق. م) وأخذ أورشليم وجلا اليهود، فاستمرّوا في الأسر سبعين سنة.

وسنة (٥٧٣ ق. م) أخذ صور بعد أن حصرها ثلاث عشرة سنة، فإن كان تشكيل الديوان في تلك الأثناء فيكون بناؤها إذاً في أوساط الجيل السادس قبل المسيح، على أنّنا لا نجزم في ذلك حكماً ؛ لأنّنا ضمَّنا المقدّمات فأنتجنا هذه النتيجة.

أمّا الأدلّة التاريخية فقاصرة في هذا الصدد، ولم نعثر على ذكر لطرابلس إلاّ في أواسط الجيل الرابع قبل الميلاد، ولا يستبعد عدم امتداد قديمتها لأكثر من ذلك، على أنّ المجلس الذي عقد سنة ٣٠٢ ق. م للمفاوضة في أعمال الفرس المغايرة، وتسلّطهم على البلاد بعنفٍ كان في مدينة طرابلس، وعليه قر القرار على رفع راية العصيان ضد الفرس الظالمين.

(ووجود المجلس في ذلك دليل يدحض رأي مَن زعم بأنّ الإسكندر

٣٠٣

المكدوني هو الذي أمر ببنائها، حال كونها قد ذكرت بصراحة قبل زمانه بعشرين سنة كما تقدّم.

ولم يكن لطرابلس موقع مهم في التاريخ ؛ ولذلك كان يمرّ عليها مرّ السحاب، على أنّه بزوال دار شورى الفينيقيين منها حطّت أهمّيّتها إلى أن تداولت عليها الدول.

فلمّا صارت سورية مملكة يونانية مستقلّة بعد وفاة الإسكندر، واستبدّ السلوقيّون بالسلطة حتّى جرت بين انتيغونوس وسولوقس بعض الملاحم والمعارك الشديدة، فأخذ انتيغونوس وسولوقس بعض الملاحم والمعارك الشديدة، فأخذ انتغونوس يهتم ببناء السفن، فكانت طرابلس أيضاً من المدن التي رَمّمها ولذلك أمر بالأخشاب فجيء بها من لبنان على ألف نير كناية عن ألفين من الثيران.

وبنيت السفن فيها لخدمته على أنّه لم يحز نصراً فتسلّط السلوقيّون على البلاد.

ولم يكن لطرابلس أهمّيّة تذكر غير أنّها بعد حين ذكرت في أخبار المكابيين، حيث قيل إنّ ديمتريوس بن سولوقس باتر العاشر من الملوك السلوقيين (جلس سنة ١٦٢ ق. م) كان في رومية ففرّ عن حدوث المشاغب في سورية بعد أن أبت ندوة رومية (السناتو) أن تسمح له بالرجوع ليتبوّأ تخت ملكه. وأتى بجمعٍ عظيمٍ وسفن ميناء طرابلس وسار إلى المحلاّت الواجبة (٢ مك - ص ٨ و ١٤ عدد ١)، وقد ذكر صاحب سفر الأخبار قوله:

(وروى بونتانوس أن طرابلس سجدت في أيّام السلوقيين للمشتري الاطرابلسي. ذكره مؤلّف كتاب سورية المقدّسة، وروى لاكوبان في مجلد ٣ صحيفة ٩٩ أنّه توجد معاملات عديدة لأنطونيوس مع قلوبطرة ثمّ لاغوسطس وينرون وتريانوس عليها اسم طرابلس.

وفي دائرة المعارف للبستاني من مقالة للأستاذ جرجي يني في تاريخ هذا البلد: (وفي الفتح الروماني مرّ عليها بومبيوس وكان فيها قوم من الأيطوريين، فخضد شوكتهم وقتل زعيمهم حتّى دانت للرومان، وظلّت على ولائهم إلى أن فتحها المسلمون بخدعة يوقنا، ولكن تردّدت عليها غزوات الروم ومردة لبنان، وتقلّبت على السيادة فيها الدول الإسلامية).

تاريخ طرابلس الإسلامي:

لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق وسار إلى فحل، سار يزيد إلى مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وهي سواحل

٣٠٤

دمشق على مقدّمته أخوه معاوية ففتحها فتحاً يسيراً، وجلا كثيراً من أهلها.

وتولّى معاوية بنفسه في ولاية يزد. ثمّ إنّ الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأوّل خلافة عثمان، فقصدهم معاوية ففتحها ثمّ رمّمها وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع.

ولمّا ولي عثمان الخلافة وجمع لمعاوية الشام، وجّه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وهي ثلاث مدن مجتمعة.

ثمّ بنى في مرج على أميال منها حصناً سُمّي حصن سفيان، وقطع المادة عن أهلها من البرّ والبحر وحاصرهم، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدّهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم.

فوجه إليهم بمراكب كثيرة، ركبوا فيها ليلاً وهربوا، فلمّا أصبح سفيان، وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه ثمّ يغدو على العدو، فوجد الحصن خالياً فدخله وكتب بالفتح إلى معاوية، فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم، ثمّ بناه عبد الملك بن مروان وحصّنه، ثم نقض أهله أيّام عبد الملك ففتحه ابنه الوليد في زمانه.

دخلت طرابلس في السلطان الإسلامي مع المدن الساحليّة التي افتتحت، ولما خاف عليها معاوية من غزوات الروم استدعى قوماً من الفرس ليستوطنوا تلك السواحل ويحموها من اعتداء الغازين، يؤيّد ذلك ما ذكره اليعقوبي في كتابه البلدان ؛ فقال عند ذكره جند دمشق:

(ولجند دمشق من الكور على الساحل كورة عرقة فيها قوم من الفرس.

ومدينة اطرابلس وأهلها قوم من الفرس.

وجبيل وصيداء وبيروت وأهل هذه الكور كلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان).

وقال البلاذري في فتوح البلدان: (نقل معاوية في سنة ٤٩ أو سنة ٥٠ إلى السواحل قوماً من زُط البصرة والسباتجة وأنزل بعضهم أنطاكية).

وفي تاريخ ملوك الروم(١) : (في السنة العاشرة لملك قسطنطينوس بن قسطنطين (٣٢٧) جاء إلى نواحي طرابلس فينيقية وبنى بلاداً سمّاها باسمه.

وجاء الإسلام، ففتحوا أنطاكية، وهرب القيصر هراكليوس منها فلم يقتصر

____________________

(١) تاريخ سورية الجرجي بني ص ٣٧٧.

٣٠٥

يوكنا الذي أسلم واتّحد مع الفاتحين على الحيل الأُولى التي سلم بها المدن الحصينة، بل إنّه أتى مدينة طرابلس الشام ولم تكن قد أُخذت مع بعض الثغور، فلمّا دنا من البلدة بفرقته، وكانوا من الرومان الذين أسلموا، خرج لملاقاته الرومان الذين في طرابلس ظانّين أنّه لم يزل مخلصاً لدولتهم غير عارفين بالذي جرى، وفتحوا له أبواب المدينة فدخلها، وأقام فيها منتظراً الزمان المسمّى لمجيء الإسلام. فلمّا حان الأجل حمل على القلعة فأخذها بلا ممانعة).

على أنّا لا نعلم المقصود بالقلعة ؛ لأنّ القلعة الحالية إنّما هي من بناء الصليبيين، فلا يبعد أن تكون القلعة المأخوذة يومئذٍ من حصون الرومان.

وأقام يوكنا فيها ناشراً راية الصليب الرومانية، إلاّ أنّه أرسل خبراً إلى أبي عبيدة بما كان. وبعد حين وصلت ميناء طرابلس سفن كثيرة، من قبرص وكريت مشحونة بالسلاح والمؤن لنجدة جنود قسطنطين، وهي غير عالمة بحالة طرابلس. فلمّا رست أقبل يوكنا عليها واعتقلها وأخذ رجالها أُسراء حرب، وكان أبو عبيدة قد بعث شرذمة من جنده إلى طرابلس فسلّمها يوكنا إلى العسكر، وركب السفن بمن معه ورفع الراية الرومانية وسار إلى صور).

وقامت الحكومة الإسلامية في طرابلس، إلاّ أنّ صاحب سفر الأخبار يقول إنّ الدولة الإسلامية لم تستقرّ فيها، والظاهر أنّ ذلك كان لأنّ مردة لبنان كانوا يتملّكونها.

(ولمّا ولي عثمان الخلافة(١) وجمع لمعاوية الشام، وجّه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وهي ثلاث مدن مجتمعة.

ثمّ بنى في مرج على أميال منها حصن سُمّي حصن سفيان، وقطع المادّة عن أهلها من البرّ والبحر، وحاصرهم، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدّهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجّه إليهم بمراكب كثيرة ركبوا فيها ليلاً وهربوا، فلمّا أصبح سفيان وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه، ثمّ يغدو على العدو، وجد الحصن خالياً فدخله، وكتب بالفتح إلى معاوية فأسكنه معاوية، جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم. ثمّ بناه

____________________

(١) تاريخ الدبس مجلد ٥ ص ٩.

٣٠٦

عبد الملك بن مروان وحصّنه، ثمّ نقض أهله أيّام عبد الملك، ففتحه ابنه الوليد في زمانه)(١) .

وقد ذكر طرابلس أبو القاسم عبيد الله بن ضرداويه من رجال أوائل القرن العاشر في كتابه المسالك والممالك، فيما ذكره من إقليم في جملة كور دمشق، فذكر كورة جونيه وكورة طرابلس وكورة جبيل، ثمّ بيروت وصيداء.

والمقدسي ذكر من المدن الساحلية بيروت وطرابلس وعرقة ؛ قال:

(وصيداء وبيروت مدينتان على الساحل حصينتان وكذلك طرابلس إلاّ أنّها أجل).

وذكرها الاصطخري وابن حوقل، ووصفها كلاهما بأنّها: فرضة دمشق في زمنهما، وأنّها وافرة الغلات، يقيم فيها جند الشام ومنها يخرجون لغزو الروم، ويثنيان على لين عريكة أهلها ووفرة مرافقها.

وقال ابن رسته:

ومدينة اطرابلس وأهلها قوم من الفرس، كان معاوية بن أبي سفيان نقلهم إليها، ولها مينا عجيب يحتمل ألف مركب.

وفي شعبان سنة ٤٣٨ هـ ١٠٠٤م تجوّل في سواحل الشام ناصر خسرو الفارسي فوصف المدن الساحليّة في رحلته وصفاً مستجاداً، وقال:

(إنّه مرّ أوّلاً بطرابلس سائراً إليها من حلب، فوصف حدائقها ومزارعها من قصب السكّر والنارنج والموز والنخيل. وكان مروره فيها يوم عصرهم قصب السكر.

وتوسّع في وصف أسوارها من نحيت الحجارة ذات بابٍ واحدٍ في شرقيّها وخنادقها ومناجيقها لردّ غارات الروم، وأسواقها شبه القصور غاية في النظافة، ودورها ذات أربعة إلى ستة طوابق.

ثمّ وصف فواكهها اللذيذة المتوفّرة وجامعها الجميل الهندسة، ومياهها النميرة.

وكان أهلها حينئذٍ على مذهب الشيعة ٢٠٠٠٠ ومن معاملهم: معمل لورق الكتابة كمعمل كاغد سمرقند.

وكانت في ذلك الوقت في حوزة ملوك مصر الفاطميّين أعفوها عن أداء الضرائب لأمانة أهلها في واقعة سابقة انهزم فيها الروم).

____________________

(١) عن ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٠.

٣٠٧

منيت طرابلس كما منيت المدن الساحلية بغزوات الروم المتتابعة.

ففي سنة ٣٥٧ هـ ٩٦٨م حاصرها نيقيفور ملك الروم ليلةً واحدةً وأحرق ربضها.

كما ذكر ذلك يحيى بن سعيد الأنطاكي ؛ وقال في حوادث سنة ٣٦٤هـ ذاكراً غزوة الملك يوحنّا زيميسيس الذي يدعوه العرب ابن الشمشقيق، إنّه نزل على طرابلس وقاتلها ولم يتمّ له فيها شيء.

وقال ابن القلانسي:

(إنّه نزل عليها وأقام حاصراً لها تقديراً أربعين يوماً يقاتل أهلها ويقاتلونه، فبينما هو في ذلك إذ دس إليه خال بسيل وقسطنطين سمّاً، فاعتلّ منه وتوجّه إلى القسطنطينية وتوفّي).

وذكرها الشريف الإدريسي المتوفّى سنة ١١٨٧م حيث قال في وصفها:

(مدينة عظيمة عليها سور من حجرٍ منيع ولها رساتيق وكور وضياع جليلة، وبها من شجر الزيتون والكروم وقصب السكّر وأنواع الفواكه وضروب الغلاّت الشيء الكثير.

والوارد والصادر إليها كثير، والبحر يأخذها من ثلاثة أوجه، وهي معقل من معاقل الشام مقصود إليها لضروب التجارات، ينضاف إليها عدّة حصون ومنها في جهة الجنوب حصن بناه ابن صنجيل الافرنجي ومنه افتتح أطرابلس، وبينهما أربعة أميال وهو حصن منيع جدّاً وهو بين واديين).

إنّ المدن الساحليّة وهي باب المدن الداخلية، كانت معرّضةً لغزوات الروم، ومَن يتغلّب عليها يسهل عليه امتداد يده إلى داخل البلاد، فكان من المحتّم أنّ على مَن يمتلك البلاد الشاميّة: ساحلها وداخلها وسهلها وجبلها، أن تحصّن بالقلاع وتصان بالأسوار وتُشحن بالرجال لتقيها تلك الغزوات المتتابعة، وتحمي بها البلاد كافّة.

ولم يهمل هذا الأمر ملوك العرب والمسلمين الذين تعاقبوا على حكمها من عهد الخلفاء الراشدين ؛ فالأمويّين والعبّاسيّين وعمّالهم الذين استقلّوا بحكمها، ولم يبقوا للخلفاء العبّاسيّين سوى الخطبة والسكّة والتقليد والخلع للمستأثر بالحكم.

فكانت مدينة طرابلس وهي ثغرٌ من أهمّ الثغور البحرية الشامية، وهي منفذ لأهمّ الأعمال والكور من جند دمشق من المدن التي امتدّ إليها التحصين، وقد أصبحت في حوزة بني طولون أُمراء مصر، وقسم كبير من الديار الشامية، ثمّ انتقلت إلى خلفاء الفاطميين المصريين الذين استولوا على بلاد الشام، وكان يليها عمّالهم.

وأكثر مَن وليها في عهدهم من الأمراء رجال من كتامة الذين ابلوا

٣٠٨

البلاء الحسن في تأسيس دولتهم في المغرب، وكانوا سيوفهم في الاستيلاء على الديار المصرية والشامية، وفاتحها جعفر بن فلاح من شيوخ كتامة، إلى أن انتهت النوبة في حكمها إلى قضاة بني عمر من كتامة.

قبيلة كتامة:

لقد سبق في الصفحة الأُولى من هذا المؤلّف بحثنا عن إغفال المؤرّخين البحث عن قضاة بني عمّار حكام طرابلس، كما أهملوا سلسلة اتصال نسبهم بكتامة، حتّى لقد أدّى هذا الإهمال إلى توهّم بعض الباحثين أنّهم وبدر بن عمّار ممدوح المتنبّي، وحاكم طبرية من قبيل واحد، مع أنّ بدر بن عمّار هو أبو الحسن محمد بدر بن عمّار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، وكان عاملاً على طبرية لأبي بكر بن رائق حسام المتّقي لله الخليفة العبّاسي، وهو أسديٌّ منسوبٌ إلى طبرستان. وبنو عمّار من المغاربة، وقد أنشده أبو الطيّب المتنبّي لمّا قصده قصيدته:

أحلماً نرى أم زماناً جديدا

وهو يومئذٍ يتولّى حرب طبرية من قبل ابن رائق(١) سنة ٣٢٨ هـ.

وأمّا نسبة بدر هذا إلى بني أسد فتظهر من قول أبي الطيّب فيه مادحاً له:

حسامٌ لابن رائقٍ المرجّى حـسام المتّقي أيّام صالا

سـنان في قناة بني معدٍّ بني أسدٍ إذا دعوا النزالا

وقال مادحاً له لمّا أضاف ابن رائق إلى عمله الساحل:

تُـهـنّا بـصور أم نـهنئها بـكا وقـلّ الـذي صور وأنت له لكا

ومـا صغر الأردّن والساحل الذي رجـيت بـه إلاّ إلى جنب قدركا

تـحاسدت الـبلدان حتّى لو أنها نفوسٌ لسار الشرق والغرب نحوكا

وأصـبح مـصرٌ لا تكون أميره ولـو أنّـه ذو مـقلةٍ وفـمٍ بكى

____________________

(١) انتزع محمد بن رائق دمشق سنة (٣٢٨) من بدر الأخشيدي الذي كان نائباً عليها من قبل الأخشيد محمد بن طغج بن جف، الذي كان والياً عليها من قِبَل الراضي سنة ٣٢٣ هـ.

٣٠٩

على أنّ بدر بن عمّار كان عامل طبرية قبل استيلاء الفاطميين على مصر وبلاد الشام باثنتين وثلاثين سنة.

إنّ هذا الوهم وتقصير مؤرّخي عصر أولئك القضاة عن التعريف بهم كما جرت عادتهم بالتعريف بكلّ دولةٍ ناشئةٍ وبرجالٍ صنعوا بعض ما صنع هؤلاء في تأسيس الدول الناشئة، وأثّروا ما أثّروا في تأييد سلطان غالب أو في عمل نافع من أثر، قد يقلّ كثيراً عن آثار هذا القبيل، سواء في إقامتهم خلافة فاطميّة بين أمم برابرة، ثمّ بسط سلطان تلك الخلافة إلى أن تغلّبت على ديار مصر واليمن والحجاز، في بعض العصور، وديار الشام.

وكان ما كان لهم من خدمةٍ في رفع منار العلم، وفي مدافعة غزاة الصليبيين عن أمنع ثغرٍ من ثغور سواحل الشام، لا جرم أنّ ذلك كلّه حملنا على الاستقصاء والتتبّع والتوسّع والبحث، والرجوع إلى كتب المؤرّخين الذين أرّخوا الدولة الفاطمية، لعلّنا نعثر في زواياها على ما ينير بحثنا هذا وكلّ ما له علاقة في تاريخهم.

ومن أهم ما يصل بنا إلى اللباب: بحث نسبهم، والاستطراد إلى ذكر رجالٍ لهم صلةٌ بذلك النسب، وكانت لهم الخدمة الجليلة في تأسيس دولة الفاطميين.

اختلاف النسّابين في نسبهم، أهم عرب أم بربر؟

قال ابن خلدون:

(هذا القبيل (كُتامة) من قبائل البربر بالمغرب وأشدّهم بأساً وقوّة، وأطولهم باعاً في الملك عند نسّابة البربر من ولد كتام بن برنس).

ويقال كتم ونسّابة الغرب يقولون إنّهم من حِمْيَر ؛ ذكر ذلك ابن الكلبي والطبري.

وأوّل ملوكهم فريقش بن صيفي من ملوك التبابعة، وهو الذي افتتح افريقية، وبه سُمّيت، وقتل ملكها جرجير وسمّي البربر بهذا الاسم.

ويُقال أقام في البربر من حِمْيَر صنهاجة وكتامة، فهم إلى اليوم فيهم. وتشعّبوا في المغرب وانبثّوا في نواحيه، إلاّ أن جمهورهم كان لأوّل الملّة بعد تهييج الردّة.

وطفئت تلك الفتن بأرياف قسطنطينية إلى تخويف بجاية غرباً إلى جبل أوراس من ناحية القبلة.

وكانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكبرها لهم، وبين ديارهم ومجالات ثقلهم، مثل: ايكجان وسطيف وباغاية وفاس وتلزمة وتبكست وميلة وقسطنطينة والسنسكيرة والقل وجيجل، من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية ولوتة.

وكانت بطونهم كثيرة يجمعهم كلّها غرسن ويسودة بن كتم بن يوسف من يسودة فالسيّد

٣١٠

وذلهاجة ورسبن، كلّهم بنو يسودة بن كتم، وإلى ذلهاجة ينسب قصور كتامة بالمغرب لهذا العهد (عهد ابن خلدون) ومن غرسن، مصالة وقلات وما وطن ومعاذ بنو غرسن بن كتم وكهيفة وجيجلة وسالتة وبنو بناوة بن غرسن وملوسة من ايان غرسن بن غرسن، ومن ملوسة هؤلاء بنو زيدوي أهل الجبل المطل على قسطنطينة لهذا العهد.

وبعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن وهشتيوة ومصالة وبنو قنسيلة، وعدّ ابن حزم منهم زوادة بجمع بطونهم وهو الحق على ما تقدّم.

وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتبذون عن مواطنهم، وهم بها إلى اليوم، ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحال منذ لدن ظهور الملّة وملك المغرب إلى دولة الأغالبة، ولم تكن الدولة تسومهم بهضيمة، ولا ينالهم تعسّف لاعتزازهم بكثرة جموعهم، كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه، إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميين أثر دولة بني العبّاس.

وقد أطال الكلام في ما يتعلق بهذا القبيل وبطونهم مما يطول بنقله البحث وذكر انتساب بعض بطونهم إلى سليم من قبائل مضر، وأنكر ذلك وأرجع زوادة إلى كتامة وكتامة وصنهاجة إلى البرانس. وقال: ((إن بطون صنهاجة كما يذكر بعض مؤرخي البربر تبلغ سبعين بطناً وقال: إن لصنهاجة ولاء لعلي (عليه السلام) كما أن لمغراوة ولاء في عثمان (رض) وقال: إننا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها.

وقال ياقوت في معجم البلدان: (البربر اسم يشمل قبائل كثيرة في جبال المغرب، أوّلها برقة ثمّ إلى آخر المغرب والبحر المحيط، وفي الجنوب إلى بلاد السودان.

وهم أممٌ وقبائل لا تُحصى، نسب كلّ موضع إلى القبيلة التي تنزله، ويقال لمجموع بلادهم بلاد البربر.

وقد اختلف في أصل نسبهم، فأكثر البربر تزعم أنّ أصلهم من العرب، وهو بهتان منهم وكذب.

وأبو المنذر فإنّه قال: البربر من ولد فاران بن عمليق.

وقال الشرقي: هو عمليق بن بلعم بن عامر بن اشليخ بن لاود بن سام بن نوح، والأكثر الأشهر في نسبهم أنّهم بقيّة قوم جالوت لمّا قتله طالوت، هربوا إلى المغرب فتحصّنوا في جبالها، وقاتلوا أهل بلادها، ثمّ صالحوهم على شيءٍ يأخذونه من أهل البلاد، وأقاموا هم في الجبال الحصينة.

٣١١

وقال أحمد بن يحيى بن جابر: حدّثني بكر بن الهيثم، قال: سأل عبد الله بن صالح عن البربر، فقال: هم يزعمون أنّهم من ولد بر بن قيس بن عيلان. وما جعل الله لقيس من ولد اسمه بر. وإنّما هم من الجبّارين الذين قاتلهم داود وطالوت. وكانت منازلهم على الدهر ناحية فلسطين، وهم أهل عمود، فلّما أُخرجوا من أرض فلسطين أتوا المغرب فتناسلوا وأقاموا في جباله، وهذه من أسماء قبائلهم التي سُمّيت بها الأماكن التي نزلوا بها، وهي:

(١) هواره (٢) متاهة (٣) ضريسة (٤) مغيلة (٥) رفجومة (٦) لطَيَّة (٧) مطماطة (٨) صنهاجة (٩) نفزة (١٠) كتامة (١١) لواتة (١٢) مزانة (١٣) ربوحة (١٤) نفوسة (١٥) لمطة (١٦) صدنية (١٧) مصمودة (١٨) غُمارة (١٩) مكناسة (٢٠) قالبة (٢١) دارية (٢٢) أُتينة (٢٣) كومية (٢٤) سنحور (٢٥) أمكنة (٢٦) خرزبانة (٢٧) قططة (٢٨) جير (٢٩) براثن واكلان (٣٠) قصدران (٣١) زرنجي (٣٢) بَرغُواطة (٣٣) لُواطة (٣٤) زواوة (٣٥) كزولة.

وذكر هشام بن محمد أن جميع هؤلاء عمالقة، إلاّ صنهاجة وكتامة فإنّهم بنو افريقس بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر، كانوا معه لمّا قدم المغرب وبنى افريقية، فلمّا رجع إلى بلاده تخلّفوا عنه عمّالاً على تلك البلاد، فبقوا إلى الآن وتناسلوا.

ومَن حكم بعروبتهم وانتسابهم إلى حِمْيَر يرجعهم إلى كلب إحدى بطون قضاعة، فإنّ قضاعة كما ذكر النسّابون ابن مالك بن حِمْيَر بن سبأ.

قال ابن عبد ربّه في كتابه العقد الفريد:

(ومن بني صيفي بن سبأ الحرث بن قيس بن سبأ الأصغر، ومنهم حِمْيَر التبابعة، إلى أن قال: ومنهم أبو فريقيش بن قيس بن صيفي الذي افتتح افريقية، فسُمّيت به.

ويومئذ سُمّيت البرابرة وذلك أنّهم قالوا: أنّه قال لهم: ما أكثر بربرتكم).

وذكر قضاعة فقال: قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرّة بن زيد بن مالك بن حِمْيَر واسم قضاعة عمرو.

فمن قبائل قضاعة وبطونها وجماهيرها كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

٣١٢

وأمّا ابن قتيبة فقد قال في معارفه:

(فولد سبأ حِمْير بن سبأ وكهلان بن سبأ وعمرو بن سبأ والأشعر بن سبأ وانمار بن سبأ وعاملة ومر).

وحِمْير بن سبأ، ولد مالكاً وعامراً وعمراً وسعداً ووائلة.

ومالك بن حِمْير ولد قضاعة ومن قبائل قضاعة كلب بن وبرة.

وإنّك لترى ابن قتيبة يجعل مالكاً ابن حمير، بيتاً يجعله ابن عبد ربّه الجدّ الأعلى له.

ولسنا بصدد البحث عن اختلاف النسّابين في مَن أعقب حِمْير، فإنّ فيه اختلافاً يخرج بنا إن عرضنا له عن موضوع الكلام.

وسواءٌ أصحّ انتساب بني عمّار وذوي قرباهم من كتامة إلى العرب وإلى حِمْيَر منهم، وإلى قضاعة من قبائلهم، وإلى كلب من بطونهم، أم لم يصحّ، فإنّهم قد انتسبوا إلى كلب من قضاعة.

وجاراهم على هذا الانتساب مَن أرّخ بعض رجالاتهم، فتجد ابن خلدون ينسب أُمراء صقلية وولاتها عن الفاطميين إلى بني كلب، وكذلك المقريزي، تراه في تعليقه على خط قصر ابن عمّار يقول:

(هو أبو محمد الحسن بن عمّار بن علي بن الحسن الكلبي من بني أبي الحسن، أحد أمراء صقلية وأحد شيوخ كتامة).

وقال القلقشندي في صبح الأعشى:

إنّ افريقش هو ابن أبرهة ذي المنار بن الحارث بن ذي شدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن قطن بن عريب بن زهير بن الغوث بن أمن بن الهميسع بن حِمْيَر بن سبأ. وسُمّي الحارث بالرائش ؛ لأنّه لما ملك الناس راشهم بالعطاء. والطبري وصف سبأ بالأصغر.

والطبري يذكر البربر تارةً أنّهم من ولد حسام من معرايم الذي ولدهم وولد القبط ص ١٠٤، وتارةً من ولد سام حيث قال ص ١٠٥ وعمليق بعد أن ذكره في ولد سام هو أبو العمالقة ومنهم البربر، وهم بنو ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لوذ بن سام بن نوح، ما خلا صنهاجة وكتامة فإنّهما بنو فريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ.

وقال في ص ١٠٦:

(ولد حام القبط والسودان والبربر.

وإذا صح أن صنهاجة وكتامة ساميّان، وأنّهما من ولد لوذ بن سام، فكيف تنسبان إلى

٣١٣

حِمْيَر، بعد قوله إنّهما بنو فريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ؟

وأمّا بنو حمير ففي عدّهم اختلاف لا محلّ لذكره.

وقال ابن قتيبة ص ٢١٠:

(ثمّ ملك بعده (أبرهة) ابنه افريقيش بن أبرهة بن الرائش، فغزا نحو المغرب في أرض بربر، حتّى انتهى إلى طنجة، ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم، وكانت البربر بقيّة مَن قتل يوشع بن نون).

وترى ابن الخيّاط الشاعر المعروف، المتوفّى سنة ٥١٧ هـ ينسبهم إلى طيئ في إحدى قصائده في مدائحهم، يمدح بها فخر الملك أبا علي عمّار بن محمد بن عمّار فيقول:

زاكي العروق له من طيّءٍ حسبٌ لو كان لفظاً لكان النَّظْم والخُطَبا

رهـط السماح وفيهم طاب مولده إنّ الـسماح يـمانٍ كـلّما انتسبا

فإن صحّ هذا النسب، فلا تكون نسبتهم إلى حِمْيَر ولا إلى قضاعة ولا إلى كلب من قبائلها، بل إلى كهلان أخي حِمْير، فإنّ طيء هو ابن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ.

وقال في صبح الأعشى:

(طيء (أخذاً من الطاءة على وزن الطاعة، وهي الإيغال في المرعى) بن أُدَدَ بن زيد بن يشجب بن عَرِيب بن زيد بن كهلان).

وقال القلقشندي في صبح الأعشى ج ١ ص ٣٦٠:

(من العرب الموجودين المتردّد في عروبتهم البربر، وقد اختلف في نسبهم اختلافاً كثيراً ؛ فذهبت طائفة من الناسبين إلى أنّهم من العرب، ثمّ اختلف في ذلك، فقيل أوزاع من اليمن.

وقيل من غسّان وغيرهم وتفرقوا عند سيل العرم، قاله المسعودي.

وقيل خلّفهم أبرهة ذو المنار أحد تبابعة اليمن حين غزا المغرب.

وقيل من ولد لقمان بن حِمْيَر بن سبأ بعث سريّةً من بنيه إلى المغرب ليعمّروه فنزلوا وتناسلوا فيه.

وقيل من لخم وجّذام كانوا نازلين بفلسطين من الشام إلى أن أخرجهم منها بعض ملوك فارس فلجئوا إلى مصر، فمنعهم ملوكها من نزولها فذهبوا إلى المغرب فنزلوه.

وذهب قومٌ إلى أنّهم من ولد لقشان بن إبراهيم الخليل (عليه السلام).

وذكر الحمداني أنّهم من

٣١٤

ولد بربر بن قيذار بن إسماعيل (عليه السلام) وأنّه ارتكب ذنباً ؛ فقال له أبوه: البر البر اذهب بابر فما أنت ببر.

وقيل هم من ولد بربر بن ثميلا بن مازيع بن كنعان بن حام بن نوح (عليه السلام). وقيل من ولد بربر بن كسلاجيم بن حام بن نوح.

وقيل من ولد ثميلا بن مارا بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح.

وقيل من ولد قبط بن حام بن نوح.

وقيل اخلاط من كنعان والعماليق.

وقيل من حِمْيَر ومصر والقِبط.

وقيل من ولد جالوت ملك بني إسرائيل، وأنّه لمّا قتله داود تفرّقوا في البلاد، فلما غزا افريقش البلاد نقلهم من سواحل الشام إلى المغرب، وهو الذي رجّحه صاحب العبر.

وبالجملة: فأكثر الأقوال جانحة إلى أنّهم من العرب، وإن لم نتحقّق من أيّ عرب، وهم قبائل متشعّبة وبطون متفرّقة، وأكثرهم ببلاد المغرب، وبديار مصر منهم طائفة عظيمة، قال في العبر: وهي على كثرتها لاحقة إلى أصلين لا تخرج عنهما:

أحدهما: البَرانس وهم بنو برنس بن بربر.

والثاني: البُتْر، وهم بنو مادغش الأبتر بن بربر، وبعضهم يقول إنّهم يرجعون إلى سبعة أصول، وهي أردواحة ومصمودة، وأَوْرَبَّة، وعجيبة، وكُتَامَة، وصَنهاجة وأوريفة، وزاد بعضهم لمطة، وهسكورة، وكزولة، ثمّ ذكر منهم طوائف لخّصها عن عبر ابن خلدون، لا يتعلّق لنا غرض بنقلها.

ومن غريب ما ورد في نسب هنتاتة من مصمودة انتسابها إلى فارس، وذكر سلسلة النسب الراجع إليه، وذكر قولاً بانتسابها إلى حِمْير وهو زعم نسّابة زِناتة، وقولاً وكانت بها إلى العمالقة، وكلّ ذلك يخرج بنا عن الاستطراد الذي دعانا إليه التعريف بمَن أفردنا لهم هذا التأليف.

٣١٥

تأييدهم الدعوة الفاطميّة وتشيّعهم

ورد في الجزء الرابع الصفحة ٣٠ من العبر ما محصّله:

أنّ محمد الحبيب بن جعفر المصدّق، بعث داعيةً إلى اليمن أبا عبد الله الملقّب بالشيعي، فلمّا بلغه عن محمد بن يعفر ملك صنعاء أنّه أظهر التوبة والنسك، وتخلّى عن الملك، قَدِم اليمن ووجد بها شيعةً يُعرفون ببني موسى في عدن لاعة. وكان علي بن الفضل من أهل اليمن ومن كبار الشيعة، وظاهر بن حوشب على أمره، وكتب له الإمام محمد بالعهد لابنه عبد الله، وأذن له في الحرب، فقام بدعوته وبثها في اليمن، وجيّش الجيوش وفتح المدائن وملك صنعاء وأخرج منها بني سبعين، وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان يظهر الدعوة للرضا من آل محمد، ويبطن محمد الحبيب تستراً إلى أن استولى على اليمن.

وكان من دعاته أبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة، ومن عنده سار إلى إفريقية فوجد في كتامة من الباطنيّة خلقاً كثيراً، وكان هذا المذهب هنالك من لدن الدعاة الذين بعثهم جعفر المصدق إلى المغرب، أقاموا بإفريقية وبثوا فيها الدعوة وتناقله من البرابرة، وكان أكثرهم من كتامة. فلما جاء أبو عبد الله الشيعي داعية المهدي ووجد هذا المذهب في كتامة قام على تعليمه وبثّه وإحيائه حتّى تمّ الأمر وبويع لعبد الله.

وجاء في هذا الجزء من العبر ص ٥١:

(وكان أصل ظهورهم بإفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها أنفذهما إليها جعفر الصادق (عليه السلام) وقال لهما: بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتّى يجيء صاحب البذر. فنزل أحدهما ببلد مرغة والآخر ببلد سوق جمار

٣١٦

وكلاهما من أرض كتامة، ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي، وكان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص، وكان شيعتهم يتعاهدونهم بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين، فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه لإقامة دعوته باليمن، وأنّ المهدي خارج في هذا الوقت، فسار وأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عنده، واستولى على أكثر اليمن، وسُمّي بالمنصور، وفرّق الدعاة في اليمن والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب وكان محتسباً بالبصرة، وأبو عبد الله هذا يُعرف بالمعلم ؛ لأنّه كان يعلّم مذهب الإماميّة.

فاتّصل أبو عبد الله بمحمد الحبيب ورأى ما فيه من الأهليّة فأرسله إلى ابن حوشب باليمن ليأخذ عنه، ثمّ يذهب إلى المغرب ويقصد بلد كتامة فيظهر بينهم الدعوة.

فجاء أبو عبد الله إلى ابن حوشب ولزمه وشهد مجالسه وأفاد علمه، ثمّ خرج مع حاج اليمن إلى مكّة فلقي بالموسم رجالات كتامة ورؤساءهم، وفيهم من لقي الحلواني وابن بكار، وأخذوا عنهما فقصدهم أبو عبد الله في رحالهم، وكان منهم موسى بن حريث كبير بني سكان من جملة أحد شعوبهم، وأبو القاسم الورنجومي من أحلافهم، ومسعود بن عيسى بن ملاك المساكتي وموسى بن تكاد.

فجلس إليهم وسمعوا منه مذاهبهم ورأوا ما هو عليه من العبادة والزهد، فعلق بقلوبهم وصار تعهّدهم في رحالهم فاغتبطوا به واغتبط بهم.

ولمّا أرادوا الرحلة إلى بلادهم سألوه الصحبة فوفاقهم طاوياً وجه مذهبه عنهم بعد أن سألهم عن قومهم وعصابتهم وبلادهم وملكة السلطان فيهم، فكشفوا له علم ذلك وأنّهم إنّما يعطون السلطان طاعة معروفة، فاستيقن تمام أمره وخرج معهم إلى المغرب، وسلكوا طريق الصحراء وعدلوا عن القيروان إلى أن وصلوا إلى بلد سوماتة وبها محمد بن حمدون بن سماك الأندلسي من بجاية الأندلس نزلاً عندهم.

وكان قدارورك الحلواني وأخذ عنه، فنزل أبو عبد الله الشيعي عليه فأكرمه وفاوضه وتفرّس ابن حمدون فيه أنّه صاحب الدولة، ثمّ ارتحلوا وصحبهم ابن حمدون، ودخلوا بلد كتامة منتصف ربيع سنة ثمان وثمانين ومئتين،

٣١٧

فنزل على موسى بن حريث بلده اتكحان في بلد بني سكتان من جبيلة، وعيّن له مكان منزله بفجّ الأخيار، وأنّ النص عنده من المهدي بذلك وبهجرة المهدي، وأنّ أنصار الأخيار من أهل زمانه، وأنّ اسمهم مشتقٌّ من الكتمان، واجتمع إليه الكثير من أهل كتامة، ولقي علماءهم واشتمل عليه الكثير من أهوائهم، فجاهر مذهبه وأعلن بإمامة أهل البيت ودعا للرضا من آل محمد، واتبعه أكثر كتامة وكانوا يسمّونه بأبي عبد الله الشيعي والمشرقي، وانتهى أمره بفوز دعوته وتأسيس الدولة الفاطميّة في بلاد المغرب وما إلى ذلك ممّا فصّلنا حديثه، واستوعبنا خبره في تاريخ الدولة الفاطميّة من تاريخ دول الشيعة في القسم السياسي، فارجع إليه.

مساهمة كتامة قبيل بني عمّار في أعمال الدولة الفاطميّة في المغرب:

عرفت بلاء الكتاميين في تأسيس الدولة الفاطميّة في افريقية، وما كان لهم من الأثر العظيم في ظهورها، وهبوب ريحها، وهم أوّل مَن لبّى الدعوة، وهم أشدّ قبائل البربر مراساً وأكثرهم عدداً وأكبرهم نفوذاً، فلا جرم إذا قدّر لهم الخلفاء الفاطميّون هذا البلاء الحسن، وأشركوا كبار رجالاتهم في الجليل من أعمالهم والدولة في إبّان تنظيمها، وهي أحوج إليهم في هذا التنظيم.

إمارة الكلبيّين الكتاميّين أجداد بني عمّار في صقلية وتداولهم لها صقلية وموقعها:

قال ياقوت الحموي في معجم البلدان في التعليق على افريقية: اسمٌ لبلادٍ واسعةٍ ومملكةٍ كبيرةٍ قبالة جزيرة صقلية، وينتهي آخرها إلى قبالة جزيرة الأندلس، والجزيرتان في شماليّها، فصقلية منحرفة إلى الشرق، والأندلس عنها إلى جهة المغرب.

وفي مراصد الاطلاع: (صقلية) من جزائر بحر المغرب مقابلة افريقية مثلثة الشكل، بين كلّ زاويةٍ والأُخرى مسيرة سبعة أيّام.

وقيل دورها خمسة عشر يوماً بينها وبين ريو، وهي مدينة في البرّ الشمالي الشرقي الذي عليه

٣١٨

مدينة قسطنطينة بحار (٤) تُسمّى القار، وفي طول جهة الساعة عرض ميلين، وعليه من جهتها مدينة تُسمّى مسيبي، وبين الجزيرة وافريقية مئة وأربعون ميلاً إلى أقرب المواضع بإفريقية، وهو الموضع المسمّى قليلية وهو يومان للريح الطيبة إذا قل، وهي جزيرة حصينة كثيرة البلدان والقرى والأمطار، قيل إنّ لها ثلاثاً وعشرين مدينة وثلاثة عشر حصناً.

وفي صبح الأعشى، الجزء الخامس في ذكر جزائر بحر الروم:

وهو البحر الشامي والمعروف بالبحر المتوسط والأبيض - السابعة - (جزيرة صقلية) قال في (اللباب): بفتح الصاد المهملة والقاف ولام وياء مثناة من تحتها وهاء في الآخر. وموقعها في الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة، وبين ذينها الغربي وبين تونس مجرىً وستّون ميلاً، ودورها خمسمئة ميل وهي على صورة شكل مثلّث حادّ الزوايا، فالزاوية الأُولى شماليّة وهناك المجاز الضيّق إلى الأرض الكبيرة (يعني التي وراء الأندلس) وهو نحو ستّة أميال، والزاوية الثانية جنوبيّة، وهي تقابل بر طرابلس من افريقية من بلاد الغرب، والزاوية الثالثة غربيّة. وهناك (بركان النار) في جزيرة صغيرة منقطعة شمالي الزاوية المذكورة. وشمالي صقلية بلاد قلفرية.

قال في تقويم البلدان:

وصاحب صقلية في زماننا هذا فَرَنجي من الكيتلان اسمه الريدا فريك، وقاعدتها مدينة (بَلْزْم) بفتح الباء الموحدة واللام وسكون الزاي المعجمة وميم في الآخر.

قال ابن سعيد:

وهي حيث الطول خمس وثلاثون درجة، والعرض ستّ وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة.

وبها عدّة مدن غير هذه القاعدة منها مدينة (مازَر) ومنها قَصْريانَّة بلفظ قصر المعروف ويانة بفتح الياء المثنّاة تحت وألف ونون مشدّدة، وهي مدنية كبيرة على سن جبل.

وفي معجم لاروس سنة ١٩٢٥ سيسيلة (صقلية) جزيرة كبيرة في البحر المتوسط، مساحتها (٢٥٧٤٠) كيلو متراً مربعاً ونفوسا ٣٧٩٣٠٠٠، أرضها خصبة، عاصمتها بليرم، وأهمّ مدنها كاتان ومسينا وليباري (ترانبي)(١) .

____________________

(١) وهي اليوم من أجزاء المملكة الإيطالية امتلكتها سنة ١٨٦٠.

٣١٩

وفي الجغرافية العمومية للأُستاذ الصباغ: أرضها جبلية، تتخللها الأودية والسهول المخصبة، التي يجود فيها البرتقال والزيتون والعنب والحبوب، وفيها بركان (اتنا) الذي تكسو سطحه حدائق البرتقال والحامض, فتكسبه منظراً بديعاً يفوق منظر (فيزوف) جمالاً. وأكبر مدنها بالرمو بليرم. وجاء فيدائرة المعارف للبستاني عنأتْنا ما يلي:

(يسمّيه أهل الجزيرة مونجيبلُّو, وهي مركبة من مونتي بالإيطالية معناها جبل. وجبل بالعربية ؛ لأنّ العرب كانوا يدعونه الجبل أو جبل النار، يرتفع عن شاطئ الجزيرة الشرقي، وهو متوسط بين طرفها الشمالي وطرفها الجنوبي بين ٣٧ درجة و٤٣ دقيقة و٣١ ثانية من العرض الشمالي، و١٥ درجة من الطول الشرقي ومحيط أسفله ١٨ كيلومتراً، ومعدل ارتفاعه نحو ٣٢٥٠ متراً.

وكانت صقلية عمالة من عملات مراكش التي هي إلى جنوبي الأوقيانوس الاتلانتيكي وبوغاز جبل طارق والبحر المتوسط، وإلى غربي تلمسان وشمالي الصحراء وشرقي الأوقيانوس المذكور, وهي عبارة عن ثلاثمئة ألف ميل مربع، وتقسّم إلى أربع عمالات وصقلية الرابعة منها كما عرفت.

هذا ما جاء في كتب التقاويم القديمة والحديثة عنها.

تاريخ فتح المسلمين لصقلية وملكهم لها إلى أن وقعت في نوبة الكلبيين

بعد أن افتتح المسلمون بلاد الشام ومصر غزوا في سنة ٢٥ هـ في خلافة عثمان بن عفان أفريقية، واُفتتحت على يد عبد الله بن أبي سرح، ثمّ أغزى معاوية بن أبي سفيان ابن خديج السكوني افريقية سنة أربع وثلاثين , وكان عاملاً على مصر ونازل جلولاء وقاتل مدد الروم الذي جاءها في قسطنطينية , لقيهم بقصر الأحمر فغلبهم أقلعوا إلى بلادهم , وافتتح جلولاء وغنم وأثخن وقفل.

ثمّ ولى معاوية سنة خمس وأربعين عقبة بن نافع بن عبد الله بن قيس الفهري عليها، واقتطعها عن معاوية بن خديج , فبنى القيروان وقاتل البربر وتوغل في أرضهم، ثمّ تعاقب عليها الولاة إلى أن ولي الخلافة الوليد بن عبد الملك , فكتب إلى عمه عبد الله

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

اندفعت المطالبة عنه ، وبرئ المشتري من الحقّين ؛ لأنّ البائع قد ثبت بالبيّنة أنّه قبض ، والآذن قد ثبت أنّ وكيله - وهو البائع - قد قبض.

ولو شهد له الشريك الآذن ، لم تُقبل شهادته في نصيبه ؛ لأنّه لو ثبت ذلك لطالَب المشهود عليه بحقّه ، وذلك جرّ نفعٍ ظاهر ، فلا تُقبل ؛ للتهمة.

وهل تُقبل شهادته في نصيب البائع؟ قال بعض علمائنا : نعم(١) .

وللشافعيّة قولان مبنيّان على أنّ الشهادة إذا رُدّت في بعض ما شهدت به ؛ للتهمة ، فهل تردّ في الباقي؟(٢) .

ولو لم يكن للمشتري بيّنة بالقبض ، كان القولُ قولَ البائع مع يمينه ؛ لأنّه منكر ، والأصل عدم القبض ، فيحلف البائع أنّه لم يقبض ، فإذا حلف أخذ نصيبه من المشتري ، ولا يشاركه الآذن ؛ لإقراره أنّ البائع قبض أوّلاً ما هو الحقّ ، ويزعم أنّ الذي قبضه ثانياً بيمينه ظلم ، فلا يستحقّ مشاركته فيه ، فإن نكل البائع عن اليمين رُدّت اليمين على المشتري ، فإذا حلف أنّه أقبض البائع جميع الثمن انقطعت المطالبة عنه ، ولو نكل المشتري أيضاً أُلزم بنصيب البائع.

وقال بعض الشافعيّة : لا يُلزم بنصيب البائع أيضاً ؛ لأنّا لا نحكم بالنكول(٣) .

وهو غلط ؛ لأنّ هذا ليس حكماً بالنكول ، وإنّما هو مؤاخذة له بإقراره بلزوم المال بالشراء ابتداءً.

____________________

(١) لم نهتد إلى القائل به ، وراجع المبسوط - للطوسي - ٢ : ٣٥٣.

(٢) الحاوي الكبير ٦ : ٤٩٠ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٥٤ ، بحر المذهب ٨ : ١٤١ ، الوسيط ٣ : ٢٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٤ ، البيان ٦ : ٣٤٦ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٥ : ١٩٩ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

٣٦١

فإذا انفصلت(١) [ خصومة ](٢) البائع و(٣) المشتري فلو جاء الشريك الآذن وطالَب البائعَ بحقّه ؛ لزعمه أنّه قبض جميع الثمن ، فعليه البيّنة ، ويُقدَّم قول البائع مع اليمين أنّه لم يقبض إلّا نصيبه بعد الخصومة الجارية بينهما ، فإن نكل البائع حلف الآذن وأخذ منه نصيبه ، ولا يرجع البائع به على المشتري ؛ لأنّه يزعم أنّ شريكه ظَلَمه بما فَعَل ، ولا يمنع البائعَ من الحلف نكولُه عن اليمين في الخصومة مع المشتري ؛ لأنّها خصومة أُخرى مع خصمٍ آخَر.

هذا إذا تقدّمت خصومة البائع والمشتري وتبعتها خصومة الشريكين ، وأمّا إن تقدّمت خصومة الشريكين فادّعى الذي لم يبع قبضَ الثمن على البائع وطالَبه بحقّه وأنكر البائع ، قُدّم قوله مع اليمين ، وكان على الشريك الآذن البيّنة بأنّ البائع قبض الثمن ، ولا تُقبل شهادة المشتري له بحالٍ البتّة ؛ لأنّه يدفع عن نفسه ، فإن فُقدت البيّنة حلف البائع على أنّه ما قبض ، فإن نكل حلف الآذن على أنّه قبض ، وأخذ نصيبه من البائع.

ثمّ إذا انفصلت الخصومة بين الشريكين ، فلو طالَب البائع المشتري بحقّه ، وادّعى المشتري الأداءَ ، فعليه البيّنة ، فإن لم تكن بيّنة حلف البائع ، وقبض حقّه ، فإن نكل حلف المشتري وبرئ ، ولا يمنع البائعَ من أن يحلف ويطلب من المشتري حقَّه نكولُه في الخصومة الأُولى مع شريكه.

وللشافعيّة وجهٌ : إنّه يمنع ؛ بناءً على أنّ يمين الردّ كالبيّنة أو كإقرار المدّعى عليه؟ إن كانت كالبيّنة فكأنّه قامت البيّنة على قبضه جميعَ الثمن ،

____________________

(١) في « خ » : « انقضت » بدل « انفصلت ».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « حكومة ». والظاهر ما أثبتناه.

(٣) في « ث ، خ ، ر » : « مع » بدل « و».

٣٦٢

وإن كانت كالإقرار فكأنّه أقرّ بقبض جميع الثمن ، وعلى التقديرين يمنع عليه مطالبة المشتري(١) .

وضعّفه باقي الشافعيّة ؛ لأنّ اليمين إنّما تجعل كالبيّنة أو كالإقرار في حقّ المتخاصمين وفيما فيه تخاصمهما لا غير ، ومعلومٌ أنّ الشريك إنّما يحلف على أنّه قبض نصيبه ، فإنّه الذي يطالب به ، فكيف تؤثّر يمينه في غيره!؟(٢) .

وعلى ضعفه فقد قال الجويني : [ القياس ](٣) طرده فيما إذا تقدّمت خصومة البائع والمشتري ونكل البائع وحلف المشتري اليمينَ المردودة حتى يقال : تثبت للّذي لم يبع مطالبة البائع بنصيبه من غير تجديد خصومةٍ ؛ لكون يمين الردّ بمنزلة البيّنة أو الإقرار(٤) .

مسألة ١٧٩ : لو باع الشريك - المأذون له في البيع - العبدَ ، ثمّ اختلف الشريكان‌ ، فادّعى البائع على الآذن بأنّه قبض الثمن بأسره من المشتري ، فأنكر الآذن القبضَ ، وصدّق المشتري المدّعي ، فإن كان الآذن في البيع مأذوناً له في القبض للثمن من جهة البائع ، برئ المشتري من حصّة البائع ؛ لأنّه قد اعترف بأنّ وكيله قد قبض.

ثمّ تُفرض حكومتان كما تقدّم.

فإن تخاصم الذي لم يبع والمشتري ، فالقول قول الذي لم يبع في عدم القبض ، فيحلف ويأخذ نصيبه ويسلّم إليه المأخوذ.

وإن تخاصم البائع والذي لم يبع ، حلف الذي لم يبع ، فإن نكل‌

____________________

(١ و ٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

(٣) ما بين المعقوفين أثبتناه من المصدر.

(٤) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ ، روضة الطالبين ٣ : ٥١٩.

٣٦٣

حلف البائع ، وأخذ منه نصيبه ، ولا رجوع له على المشتري.

ولو شهد البائع للمشتري على القبض ، لم تُقبل ؛ لأنّه يشهد لنفسه على الذي لم يبع.

وإن لم يكن الآذن في البيع مأذوناً له في القبض من جهة البائع ، لم تبرأ ذمّة المشتري عن شي‌ءٍ من الثمن.

أمّا عن حقّ الذي لم يبع : فلأنّه منكر للقبض ، والقول قوله في إنكاره مع اليمين.

وأمّا عن حقّ المباشر للبيع : فلأنّه لم يعترف بقبضٍ صحيح.

ثمّ لا يخلو إمّا أن يكون البائع مأذوناً من جهة الذي لم يبع في القبض ، أو لا يكون هو مأذوناً أيضاً.

فإن كان مأذوناً ، فله مطالبة المشتري بنصيبه من الثمن ، ولا يتمكّن من مطالبته بنصيب الذي لم يبع ؛ لأنّه لـمّا أقرّ بقبض الذي لم يبع نصيب نفسه فقد صار معزولاً عن وكالته.

ثمّ إذا تخاصم الذي لم يبع والمشتري ، فعلى المشتري البيّنة على القبض ، فإن لم تكن بيّنة فالقول قول الذي لم يبع.

فإذا حلف ، ففي مَنْ يأخذ حقّه منه للشافعيّة وجهان :

قال المزني منهم : إن شاء أخذ تمام حقّه من المشتري ، وإن شاء شارك البائع في المأخوذ ، وأخذ الباقي من المشتري ؛ لأنّ الصفقة واحدة ، وكلّ جزءٍ من الثمن شائع بينهما ، فإن أخذ بالخصلة الثانية لم يبق مع البائع إلّا ربع الثمن(١) .

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٤٣ ، الوسيط ٣ : ٢٧٠ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب =

٣٦٤

و [ يفارق ](١) هذا ما إذا كان الذي لم يبع مأذوناً في القبض حيث لا يشاركه البائع فيما أخذه من المشتري ؛ لأنّ زعمه أنّ الذي لم يبع ظالمٌ فيما أخذه ، فلا يشاركه فيما ظلم به(٢) .

وقال آخَرون منهم ابن سريج : ليس له إلّا أخذ حقّه من المشتري ، ولا يشارك البائع فيما أخذه ؛ لأنّ البائع قد انعزل عن الوكالة بإقراره : إنّ الذي لم يبع قَبَض حقَّه ، فما يأخذه بعد الانعزال يأخذه لنفسه خاصّةً(٣) .

وقال آخَرون : إنّه وإن انعزل فالمسألة تحتمل وجهين بناءً على أنّ مالكَي السلعة إذا باعاها صفقةً واحدة هل ينفرد أحدهما بقبض حصّته من الثمن؟ فيه وجهان :

أحدهما : لا ، بل إذا انفرد بأخذ شي‌ءٍ شاركه الآخَر فيه ، كما أنّ الحقّ الثابت للورثة لا ينفرد بعضهم باستيفاء حصّته منه ، ولو فَعَل شاركه الآخَرون فيه ، وكذا لو كاتبا عبداً صفقةً واحدةً ، لم ينفرد أحدهما بأخذ حقّه من النجوم.

والثاني : نعم ، كما لو باع كلّ واحدٍ منهما نصيبَه بعقدٍ مفرد ، بخلاف الميراث والكتابة ، فإنّهما لا يثبتان في الأصل بصفة التجزّي ؛ إذ لا ينفرد‌

____________________

= - للبغوي - ٤ : ٢٠٥ ، البيان ٦ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٠ - ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يقارب ». والصحيح ما أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١.

(٣) بحر المذهب ٨ : ١٤٤ ، الوسيط ٣ : ٢٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٦ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٥ - ٢٠٦ ، البيان ٦ : ٣٤٨ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

٣٦٥

بعض الورثة ببعض أعيان التركة ، ولا تجوز كتابة البعض من العبد ، فلذلك لم يجز التجزّي في القبض(١) .

ولو شهد البائع للمشتري على أنّ الذي لم يبع قد قبض الثمن ، فعلى قول المزني لا تُقبل شهادته ؛ لأنّه يدفع بها شركة صاحبه فيما أخذه(٢) ، وعلى قول ابن سريج تُقبل(٣) .

وإن لم يكن البائع مأذوناً في القبض ، قال بعض الشافعيّة : للبائع مطالبة المشتري بحقّه هنا ، وما يأخذه يسلم له ، وتُقبل هنا شهادة البائع للمشتري على الذي لم يبع(٤) .

وقال آخَرون : ينبغي ثبوت الخلاف في مشاركة صاحبه فيما أخذه ، ويُخرَّج قبول الشهادة على الخلاف(٥) .

مسألة ١٨٠ : لو غصب واحد نصيبَ أحد الشريكين بأن نزّل نفسه منزلته‌ ، فأزال يده ولم يُزل يدَ صاحبه الآخَر ، بل استولى على العبد ومَنَع أحدَهما الانتفاع به دون الآخَر ، فإنّه يصحّ من الذي لم يغصب نصيبه بيع نصيبه ، ولا يصحّ من الآخَر بيع نصيبه ، إلّا من الغاصب ، أو ممّن يتمكّن من انتزاعه من يد الغاصب.

ولو باع الغاصب والذي لم يغصب نصيبه جميعَ العين في عقدٍ واحد ، صحّ في نصيب المالك ، ووقف نصيب الآخَر إن أمضاه المغصوب منه صحّ ، وإلّا فلا.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١.

(٢ و ٣) الوسيط ٣ : ٢٧١ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٧ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٦ ، البيان ٦ : ٣٤٩ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

(٤ و ٥) العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠١ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢٠.

٣٦٦

وقالت الشافعيّة : يصحّ في نصيب مَنْ لم يغصب منه ، ويبطل في الآخَر ، ولا يُخرَّج على الخلاف في تفريق الصفقة عندهم ؛ لأنّ الصفقة تتعدّد بتعدّد البائع(١) .

ومنهم مَنْ قال : يبنى القول في نصيب المالك على أنّ أحد الشريكين إذا باع نصفَ العبد مطلقاً ينصرف إلى نصيبه أو يشيع؟ وجهان ، فإن قلنا : ينصرف إلى نصيبه ، صحّ بيع المالك في نصيبه ، وإن قلنا بالشيوع ، بطل البيع في ثلاثة أرباع العبد ، وفي ربعه قولان.

ولا يُنظر إلى هذا البناء فيما إذا باع المالكان معاً وأطلقا ، ولا يُجعل كما إذا أطلق كلّ واحدٍ منهما بيعَ نصف العبد ؛ لأنّ هناك تناول العقد الصحيح جميعَ العبد(٢) .

مسألة ١٨١ : قد بيّنّا(٣) أنّ شركة الأبدان باطلة ، سواء اشترك العمل أو اختصّ بأحدهما وتقبّل الآخَر.

فلو قال واحد لآخَر : أنا أتقبّل العمل وأنت تعمل والأُجرة بيننا بالسويّة أو على نسبة أُخرى ، لم يصح عند علمائنا - وبه قال زفر(٤) - ولا يستحقّ العامل المسمّى ، بل له أُجرة المثل.

وقال أحمد : تصحّ الشركة ؛ لأنّ الضمان يستحقّ به الربح بدليل شركة الأبدان ، وتقبّل العمل يوجب الضمان على المتقبّل ، ويستحقّ به الربح ،

____________________

(١) بحر المذهب ٨ : ١٤٥ ، حلية العلماء ٥ : ١٠٨ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٧ ، البيان ٦ : ٣٤٥ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٢ - ٢٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢١.

(٢) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٢٠٧ ، العزيز شرح الوجيز ٥ : ٢٠٣ ، روضة الطالبين ٣ : ٥٢١.

(٣) في ص ٣١٢ ، المسألة ١٤٢.

(٤) المغني ٥ : ١١٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٧.

٣٦٧

فصار كتقبّله المالَ في المضاربة ، والعمل يستحقّ به العامل الربح كعمل المضاربة ، فينزَّل منزلة المضاربة(١) .

والحكم في الأصل ممنوع.

مسألة ١٨٢ : الربح في شركة الأبدان على نسبة العملين ، لا على الشرط الذي شرطاه‌ ، عند علمائنا ؛ لأنّ الشركة باطلة على ما تقدّم(٢) بيانه.

وقال أحمد : إنّها صحيحة ، والشركة على ما اتّفقوا عليه من مساواةٍ أو تفاضلٍ ، ولكلٍّ منهما المطالبة بالأُجرة ، وللمستأجر دفعها إلى كلّ واحدٍ منهما ، وإلى أيّهما دفع برئ منها ، وإن تلفت في يد أحدهما من غير تفريطٍ فهي من ضمانهما معاً ؛ لأنّهما كالوكيلين في المطالبة ، وما يتقبّله كلّ واحدٍ منهما من عملٍ فهو من ضمانهما يطالب به كلّ واحدٍ منهما ، ويلزمه عمله ؛ لأنّ هذه الشركة لا تنعقد إلّا على الضمان ، ولا شي‌ء منها تنعقد عليه الشركة حال الضمان ، فكأنّ الشركة تتضمّن ضمان كلّ واحدٍ منهما عن الآخَر ما يلزمه.

ولو أقرّ أحدهما بما في يده ، قُبِل عليه وعلى شريكه ؛ لأنّ اليد له ، فيُقبل إقراره بما فيها ، ولا يُقبل إقراره بما في يد شريكه ولا بدَيْنٍ عليه(٣) .

وهذا كلّه عندنا باطل.

ولو عمل أحدهما دون صاحبه ، فالكسب للعامل خاصّةً عندنا ، وإن حصل من الآخَر سفارة فله أُجرته عليها.

وقال أحمد : إذا عمل أحدهما خاصّةً ، كان الكسب بينهما على‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١١٣ و ١١٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٧ و ١٨٨.

(٢) في ص ٣١٢ - ٣١٣ ، المسألة ١٤٢.

(٣) المغني ٥ : ١١٤ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٨.

٣٦٨

ما شرطاه ، سواء ترك العمل لمرضٍ أو غيره ، ولو طالَب أحدهما الآخَر أن يعمل معه ، أو يقيم مقامه مَنْ يعمل ، فله ذلك ، فإن امتنع فللآخَر الفسخ(١) .

وهو باطل عندنا على ما سلف(٢) .

ولو كان لقصّارٍ أداةٌ ولآخَر بيتٌ ، فاشتركا على أن يعملا بأداة هذا في بيت هذا والكسب بينهما ، جاز ، والأجر بينهما على ما شرطاه ، عند أحمد ؛ لأنّ الشركة وقعت على عملهما ، والعمل يستحقّ به الربح في الشركة ، والآلة والبيت لا يستحقّ بهما شي‌ء(٣) .

وعندنا أنّ هذه الشركة باطلة ، وقد سلف(٤) .

مسألة ١٨٣ : إذا كانت الشركة باطلةً ، قسّما الربح على قدر رؤوس أموالهما‌ ، ويرجع كلٌّ منهما على الآخَر بأجر عمله - وبه قال أبو حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين(٥) - لأنّ المسمّى يسقط في العقد الفاسد ، كالبيع الفاسد إذا تلف المبيع في يد المشتري ، والنماء فائدة مالهما ، فيكون تابعاً للأصل ، كالثمرة.

والرواية الأُخرى لأحمد : إنّهما يقتسمان الربح على ما شرطاه ، ولا يستحقّ أحدهما على الآخَر أجر عمله ، وأجراها مجرى الصحيحة ؛ لأنّه عقد يصحّ مع الجهالة ، فيثبت المسمّى في فاسده ، كالنكاح(٦) .

____________________

(١) المغني ٥ : ١١٤ و ١١٥ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٩.

(٢) في ص ٣٤٠ - ٣٤١ ، المسألة ١٦١.

(٣) المغني ٥ : ١١٦ ، الشرح الكبير ٥ : ١٩١.

(٤) في ص ٣٤٥ ، المسألة ١٦٥.

(٥) الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٢٦ ، الفقه النافع ٣ : ٩٩٦ / ٧٢١ ، البيان ٦ : ٣٣٣ ، المغني والشرح الكبير ٥ : ١٢٨.

(٦) المغني ٥ : ١٢٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٨.

٣٦٩

إذا عرفتَ هذا ، فلو كان مال كلّ واحدٍ منهما متميّزاً ، وكان ربحه معلوماً ، كان لكلٍّ ربحُ ماله ، ولا يشاركه الآخَر فيه.

ولو ربح في جزءٍ منه ربحاً متميّزاً وباقيه مختلطاً ، كان له تمام ما تميّز(١) من ربح ماله ، وله بحصّة باقي ماله من الربح.

مسألة ١٨٤ : ليس لأحد الشريكين أن يكاتب الرقيق ، ولا يعتق على مالٍ ولا غيره ، ولا يزوّج الرقيق‌ ؛ لأنّ الشركة منعقدة على التجارة ، وليست هذه الأنواع تجارةً ، لا سيّما تزويج العبد ؛ فإنّه محض ضررٍ.

وليس له أن يُقرض ولا يحابي ؛ لأنّه تبرّع.

وليس له أن يشارك بمال الشركة ولا يدفعه مضاربةً ؛ لأنّ ذلك يُثبت في المال حقوقاً ، ويستحقّ غير المالك ربحه ، وليس له ذلك إلّا بإذن ربّ المال.

وليس له أن يمزج مال الشركة بماله ، ولا مال غيره ؛ لأنّه تعيّب في المال.

وليس له أن يستدين على مال الشركة ، فإن فَعَل فربحه له ، وعليه خسرانه.

وقال بعض العامّة : إذا استدان شيئاً ، لزم الشريكين معاً ، وربحه لهما وخسرانه عليهما ؛ لأنّ ذلك تملّك مالٍ بمالٍ ، فأشبه الصرف(٢) .

وهو غلط ؛ لأنّه أدخل في الشركة أكثر ممّا رضي الشريك أن يشاركه فيه ، فلم يجز ، كما لو ضمّ إلى مال الشركة شيئاً من ماله ، ويفارق الصرف ؛ لأنّه بيع وإبدال عينٍ بعينٍ ، فهو كبيع الثياب بالدراهم.

____________________

(١) في « ج » والطبعة الحجريّة : « يتميّز ».

(٢) المغني ٥ : ١٣٠ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٣.

٣٧٠

وليس له أن يُقرّ على مال الشركة ، فإن فَعَل لزم في حقّه دون صاحبه ، سواء أقرّ بدَيْنٍ أو عينٍ ؛ لأنّ شريكه إنّما أذن له في التجارة ، والإقرار ليس منها.

ولو أقرّ بعيبٍ في عينٍ باعها أو أقرّ الوكيل على موكّله بالعيب ، لم يُقبَل ، خلافاً لأحمد(١) .

ولو أقرّ بقبض ثمن المبيع أو أجر المكاري والحمّال وأشباه ذلك ، فالأقرب : القبول ؛ لأنّه من توابع التجارة ، فكان له ذلك كتسليم المبيع وأداء ثمنه.

ولو رُدّت السلعة عليه بعيبٍ ، قَبِلها ، أو أعطى أرشها.

ولو حطّ من الثمن شيئاً أو أسقط دَيْناً لهما عن [ غريمهما ](٢) لزم في حقّه ، وبطل في حقّ شريكه ؛ لأنّ ذلك تبرّع ، والتبرّع يمضى في حصّته دون شريكه.

ولو كان لهما دَيْنٌ حالّ فأخّر أحدهما حصّته من الدَّيْن ، جاز - وبه قال أبو يوسف ومحمّد(٣) - لأنّه أسقط حقّه من التعجيل ، فصحّ أن ينفرد به أحدهما ، كالإبراء.

وقال أبو حنيفة : لا يجوز(٤) .

مسألة ١٨٥ : قد بيّنّا أنّ الشركة تتضمّن نوع وكالةٍ ، ولا يتعدّى الشريك حدّ الوكالة ، فليس له أن يبيع نَسْأً.

____________________

(١) المغني ٥ : ١٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٠.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « غيرهما ». والمثبت كما في المغني ٥ : ١٣١.

(٣ و ٤) المغني ٥ : ١٣١ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٤.

٣٧١

وإذا اشترى بجنس ما عنده دَفَعه ، وإن اشترى بغير جنسه لم يكن له أن يستدين الجنس ويصرفه في الثمن ؛ لأنّا منعناه من الاستدانة ، لكن له أن يبيع بثمنٍ من النقد الذي عيّنه ويدفع.

وليس له أن يودع إلّا مع الحاجة ؛ لأنّه ليس من الشركة ، وفيه غرور ، أمّا مع الحاجة فإنّه من ضرورة الشركة ، فأشبه دفع المتاع إلى الحمّال ، وهو إحدى الروايتين عن أحمد.

والثانية : يجوز ؛ لأنّه عادة التجّار ، وقد تدعو الحاجة إلى الإيداع(١) .

والعادة لا تقضي على الشرع ، والحاجة مسوّغة كما قلنا.

وليس له أن يوكّل فيما يتولّاه بنفسه ، كالوكيل.

وفي إحدى الروايتين عن أحمد : الجواز(٢) .

فإن وكّل أحدهما بإذن صاحبه جاز ، وكان لكلٍّ منهما عزله.

وليس لأحدهما أن يرهن بالدَّيْن الذي عليهما إلّا بإذن صاحبه أو مع الحاجة.

وعن أحمد روايتان(٣) .

وليس لأحدهما السفر بالمال المشترك إلّا بإذن صاحبه. والأقرب : إنّ له الإقالة ؛ لأنّها إمّا بيعٌ عند جماعةٍ من العامّة(٤) ، وهو يملك البيع ، أو فسخٌ عندنا ، وهو يملك الفسخ ، ويردّ بالعيب ، كلّ ذلك مع المصلحة.

ولو قال له : اعمل برأيك ، جاز أن يعمل كلّ ما يصلح في التجارة من الإبضاع والمضاربة بالمال والمشاركة وخلطه بماله والسفر والإيداع والبيع نسيئةً والرهن والارتهان والإقالة ونحو ذلك ؛ لأنّه فوّض إليه الرأي في‌

____________________

(١ - ٣) المغني ٥ : ١٣٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٢.

(٤) راجع ج ١٢ - من هذا الكتاب - ص ١١٧ ، الهامش (٣)

٣٧٢

التصرّف الذي تقتضيه الشركة ، فجاز له كلّ ما هو من التجارة ، فأمّا ما يكون تمليكاً بغير عوضٍ - كالهبة والحطيطة لغير فائدةٍ والقرض والعتق ومكاتبة الرقيق وتزويجه - فلا يفعله إلّا بإذنه ؛ لأنّه إنّما فوّض إليه العمل برأيه في التجارة ، وليس ذلك منها.

ولو أخذ أحد الشريكين مالاً مضاربةً ، فربحه له دون صاحبه ؛ لأنّه يستحقّ ذلك في مقابلة عمله ، وليس ذلك من المال الذي اشتركا فيه.

مسألة ١٨٦ : قد بيّنّا أنّ الشركة من العقود الجائزة لكلٍّ منهما فسخها والرجوع في الإذن والمطالبة بالقسمة‌ ؛ لأنّ الإنسان مسلّط على ماله ، فكان له المطالبة بإفرازه من مال غيره وتمييزه عنه ، وليس لأحدهما مطالبة الآخَر بإقامة رأس المال ، بل يقتسمان الأعواض إذا لم يتّفقا على البيع ، ولا يصحّ التأجيل في الشركة.

ولو كان بعض المال في أيديهما والآخَر غائب عنهما فاقتسما الذي في أيديهما والغائب عنهما ، صحّت في المقبوض ، دون الغائب [ عن ](١) الناس ؛ لأنّ الباقرعليه‌السلام سُئل عن رجلين بينهما مال منه بأيديهما ومنه غائب عنهما ، فاقتسما الذي بأيديهما وأحال كلّ واحدٍ منهما بنصيبه من الغائب ، فاقتضى أحدهما ولم يقتض الآخَر ، قال : « ما اقتضى أحدهما فهو بينهما ، وما يذهب بماله!؟ »(٢) .

وسأل [ عبد الله بن سنان ](٣) الصادقَعليه‌السلام : عن رجلين بينهما مال منه‌

____________________

(١) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « على ». والصحيح ما أثبتناه.

(٢) التهذيب ٧ : ١٨٥ - ١٨٦ / ٨١٨.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والطبعة الحجريّة : « معاوية بن عمّار » وهو في سند الحديث ٨٢٠ من التهذيب ٧ : ١٨٦ ، والمثبت من المصدر.

٣٧٣

دَيْنٌ ومنه عينٌ ، فاقتسما العين والدَّيْن فتوى(١) الذي كان لأحدهما من الدَّيْن أو بعضه وخرج الذي للآخَر [ أيردّ ](٢) على صاحبه؟ قال : « نعم ، ما يذهب بماله!؟ »(٣) .

مسألة ١٨٧ : لو كان لرجلين دَيْنٌ بسببٍ واحد إمّا عقد أو ميراث أو استهلاك أو غيره ، فقبض أحدهما منه شيئاً ، فللآخَر مشاركته فيه - وهو ظاهر مذهب أحمد بن حنبل(٤) - لما تقدّم(٥) في المسألة السابقة في رواية [ عبد الله بن سنان ](٦) عن الصادق(٧) .

ولأنّ تمليك القابض ما قبضه يقتضي قسمة الدَّيْن في الذمّة من غير رضا الشريك ، وهو باطل ، فوجب أن يكون المأخوذ لهما والباقي بينهما.

ولغير القابض الرجوعُ على القابض بنصفه ، سواء كان باقياً في يده أو أخرجه عنها ، وله أن يرجع على الغريم ؛ لأنّ الحقّ ثبت في ذمّته لهما على وجهٍ سواء ، فليس له تسليم حقّ أحدهما إلى الآخَر ، فإن أخذ من الغريم لم يرجع على الشريك بشي‌ءٍ ؛ لأنّ حقّه ثابت في أحد المحلّين ، فإذا اختار أحدهما سقط حقّه من الآخَر.

وليس للقابض منعه من [ الرجوع على ](٧) الغريم بأن يقول : أنا‌

____________________

(١) راجع الهامش (١) من ص ٣٩.

(٢) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « يراد ». والمثبت من المصدر.

(٣) التهذيب ٧ : ١٨٦ / ٨٢١.

(٤) المغني ٥ : ١٩٧ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨١.

(٥) آنفاً.

(٦) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « معاوية بن عمّار ». والصحيح ما أثبتناه من المصدر.

(٧) ما بين المعقوفين يقتضيه السياق.

٣٧٤

أُعطيك نصف ما قبضت ، بل الخيرة إليه من أيّهما شاء قبض ، فإن قبض من شريكه شيئاً رجع الشريك على الغريم بمثله.

وإن هلك المقبوض في يد القابض ، تعيّن حقّه فيه ، ولم يضمنه للشريك ؛ لأنّه قدر حقّه فيما تعدّى بالقبض ، وإنّما كان لشريكه مشاركته ؛ لثبوته في الأصل مشتركاً.

ولو أبرأ أحد الشريكين الغريمَ من حقّه ، برئ منه ؛ لأنّه بمنزلة قبضه منه ، وليس لشريكه الرجوعُ عليه بشي‌ءٍ ؛ لأنّه لم يقبض شيئاً من حقّ الشريك.

ولو أبرأ أحدهما من جزءٍ مشاع ، سقط من حقّه ، وبسط ما يقبضانه من الغريم على النسبة ، فلو أبرأ أحدهما الغريمَ من عُشْر الدَّيْن ثمّ قبضا من الدَّيْن شيئاً ، قسّماه على قدر حقّهما في الباقي ، للمُبرئ أربعة أتساعه ، ولشريكه خمسة أتساعه.

وإن قبض(١) نصف الدَّيْن ثمّ أبرأ أحدهما من عُشْر الدين كلّه ، نفذت البراءة في خُمس الباقي ، وما بقي بينهما على ثمانية ، للمُبرئ ثلاثة أثمانه ، وللآخَر خمسة أثمانه ، فما قبضاه بعد ذلك اقتسماه على هذا.

ولو اشترى أحدهما بنصيبه من الدَّيْن ثوباً ، قال بعض العامّة : كان للآخَر إبطال الشراء ، فإن بذل له المشتري نصف الثوب ولا يبطل البيع ، لم يلزمه(٢) ذلك(٣) .

وإن أجاز البيع ليملك [ نصف ] الثوب جاز ، ويبنى على بيع الفضولي

____________________

(١) الظاهر : « قبضا ».

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « لم يلزم ». والمثبت من المصدر.

(٣) المغني ٥ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢.

٣٧٥

هل يقف على الإجازة أو لا؟ فعندنا نعم ، وبين العامّة خلاف(١) .

ولو أجّل أحدهما نصيبه من الدَّيْن جاز ، فإنّه لو أسقط حقّه جاز فتأخيره أولى ، فإن قبض الشريك بعد ذلك [ شيئاً ] لم يكن لشريكه الرجوعُ عليه بشي‌ءٍ.

هذا إذا أجّله في عقدٍ لازم ، وإن لم يكن في عقدٍ لازم كان له الرجوعُ ؛ لأنّ الحالّ لا يتأجّل بالتأجيل ، فوجوده كعدمه.

وعن أحمد رواية أُخرى : إنّ ما يقبضه أحدهما له ، دون صاحبه ؛ لأنّ ما في الذمّة لا ينتقل إلى العين إلّا بتسليمه إلى غريمه أو وكيله ، وما قبضه أحدهما فليس لشريكه فيه قبض ولا لوكيله ، فلا يثبت له فيه حقٌّ ، وكان لقابضه(٢) ؛ لثبوت يده عليه بحقٍّ ، فأشبه ما لو كان الدَّيْن بسببين ، ولأنّ هذا يشبه الدَّيْن في الذمّة ، وإنّما يتعيّن حقّه بقبضه ، فأشبه تعيينه بالإبراء ، ولأنّه لو كان لغير القابض حقٌّ في المقبوض لسقط بتلفه كسائر الحقوق ، ولأنّ هذا القبض إن كان بحقٍّ لم يشاركه غيره فيه ، كما لو كان الدَّيْن بسببين ، وإن كان بغير حقٍّ لم يكن له مطالبته ؛ لأنّ(٣) حقّه في الذمّة لا في العين ، فأشبه ما لو أخذ غاصب منه مالاً ، فعلى هذا ما قبضه القابض يختصّ به ، دون شريكه ، وليس لشريكه الرجوعُ عليه ، فإن اشترى بنصيبه ثوباً أو غيره صحّ ، ولم يكن لشريكه إبطال الشراء ، وإن قبض أكثر‌

____________________

(١) المغني ٥ : ١٩٨ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢.

(٢) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « له قبضه » بدل « لقابضه ». والصواب ما أثبتناه من المصدر.

(٣) في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « ولأنّ ». والصحيح ما أثبتناه بدون الواو ، كما في المصدر.

٣٧٦

من حقّه بغير إذن شريكه لم يبرأ الغريم ممّا زاد على حقّه(١) .

والمشهور ما قلناه أوّلاً.

ولا تصحّ قسمة ما في الذمم ؛ لأنّ الذمم لا تتكافأ ولا تتعادل ، والقسمة تقتضي التعديل ، والقسمة من غير تعديلٍ بيعٌ ، ولا يجوز بيع الدَّيْن بالدَّيْن ، فلو تقاسما ثمّ تَوى(٢) بعض المال ، رجع مَنْ تَوى ماله على مَنْ لم يَتْو ، وبه قال ابن سيرين والنخعي وأحمد في إحدى الروايتين ، وفي الأُخرى : يجوز ذلك ؛ لأنّ الاختلاف لا يمنع القسمة ، كما لو اختلفت الأعيان ، وبه قال الحسن وإسحاق(٣) .

وهذا إذا كان في ذممٍ متعدّدة ، فأمّا في ذمّةٍ واحدة فلا يمكن القسمة ؛ لأنّ معنى القسمة إفراز الحقّ ، ولا يتصوّر ذلك في ذمّةٍ واحدة.

مسألة ١٨٨ : قد بيّنّا أنّه إذا تساوى المالان تساوى الشريكان في الربح‌ ، وإن تفاوت المالان تفاوتا في الربح على النسبة ، فإن شرطا خلاف ذلك جاز عندنا ، وصحّت الشركة ، وبه قال أبو حنيفة(٤) ، خلافاً للشافعي(٥) .

فلو كان لأحدهما ألف وللآخَر ألفان فأذن صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرّف فيهما على أن يكون الربح بينهما نصفين فإن كان صاحب الألفين شرط على نفسه العمل فيهما أيضاً ، صحّ عندنا.

وقال الشافعي : تفسد الشركة ، ويكون الربح على قدر المالين ،

____________________

(١) المغني ٥ : ١٩٨ - ١٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٨٢ - ١٨٣.

(٢) راجع الهامش (١) من ص ٣٩.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ١ : ٦٨ / ٥٠ ، المغني ٥ : ١٩٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٢٤.

(٤) راجع الهامش (٢) من ص ٣٥٣.

(٥) راجع الهامش (٢) من ص ٣٥٢.

٣٧٧

ويجب لكلّ واحدٍ منهما على الآخَر أُجرة عمله في نصيبه(١) .

وقال أبو حنيفة : إذا كانت الشركة فاسدةً لم يجب لواحدٍ منهما أُجرة ؛ لأنّ العمل لا يقابله عوض في الشركة الصحيحة فكذلك الفاسدة(٢) .

والمعتمد عندنا : إنّ الشركة إذا فسدت كان لكلٍّ منهما أُجرة مثل عمله - كما هو قول الشافعي - لأنّ المتشاركين إذا شرطا في مقابلة عملهما ما لم يثبت ، يجب أن يثبت عوض المثل ، كما لو شرطا في الإجارة شرطاً فاسداً.

وما ذكره في الصحيحة فإنّما لم يستحق في مقابلة العمل عوضاً ؛ لأنّه لم يشترط في مقابلته شيئاً ، وفي مسألتنا بخلافه.

ولو شرط صاحب الألفين العمل على صاحب الألف خاصّةً ، صحّت الشركة ، وكانت شركةً وقراضاً عند الشافعي ، ويكون لصاحب الألف ثلث الربح بحقّ ماله ، والباقي - وهو ثلثا الربح - بينهما ، لصاحب المال ثلاثة أرباعه ، وللعامل ربعه ، وذلك لأنّه جعل النصف له ، فجعلنا الربح ستّة أسهم منها ثلاثة شرط حصّة ماله منها سهمان ، وسهم هو ما يستحقّه بعمله على مال شريكه [ و ](٣) حصّة مال شريكه أربعة أسهم ، للعامل سهم ، وهو الربع(٤) .

وعندنا أنّه يكون شركةً صحيحة ؛ عملاً بالشرط.

ولو كان لرجلين ألفا درهم فأذن أحدهما لصاحبه أن يعمل في ذلك‌

____________________

(١) حلية العلماء ٥ : ٩٦ ، البيان ٦ : ٣٣٣.

(٢) حلية العلماء ٥ : ٩٦ و ٩٧ ، البيان ٦ : ٣٣٣.

(٣) بدل ما بين المعقوفين في النسخ الخطّيّة والحجريّة : « من ». والظاهر ما أثبتناه.

(٤) بحر المذهب ٨ : ١٣٢ - ١٣٣ ، البيان ٦ : ٣٣٤ ، المغني ٥ : ١٣٦ - ١٣٧.

٣٧٨

ويكون الربح بينهما نصفين ، فإنّ هذا ليس بشركةٍ ولا قراض ؛ لأنّ شركة العنان تقتضي أن يشتركا في المال والعمل ، والقراض يقتضي أن يكون للعامل نصيب من الربح في مقابلة عمله ، وهنا لم يشرط له ، فإذا عمل كان الربح بينهما نصفين على قدر المالين ، وكان عمله في نصيب شريكه معونةً له منه وتبرّعاً ؛ لأنّه لم يشترط لنفسه في مقابلته عوضاً.

مسألة ١٨٩ : لو اشتريا عبداً وقبضاه فأصابا به عيباً فأراد أحدهما الإمساكَ والآخَر الردَّ ، لم يجز‌ ، وبه قال أبو حنيفة(١) .

وقال الشافعي : يجوز(٢) .

وقد سلف(٣) ذلك في كتاب البيوع(٤) .

إذا تقرّر هذا ، فإذا اشترى أحد الشريكين عبداً فوجد به عيباً ، فإن أرادا الردَّ كان لهما.

وإن أراد أحدهما الردَّ والآخَر الإمساك ، فإن كان قد أطلق الشراء ولم يذكر أنّه يشتريه له ولشريكه لم يكن له الردّ ؛ لأنّ الظاهر أنّه يشتريه لنفسه ، فلم يلزم البائع حكماً بخلاف الظاهر.

وإن كان قد أعلمه أنّه يشتريه بمال الشركة أو له ولشريكه ، لم يكن لأحدهما الردّ وللآخَر الأرش على ما تقدّم.

وللشافعيّة وجهان :

أحدهما : ليس له الردّ ؛ لأنّه إنّما أوجب إيجاباً واحداً ، فلا يبعّض‌

____________________

(١) البيان ٦ : ٣٤٢ ، وراجع ج ١١ - من هذا الكتاب - ص ١٧٢ ، الهامش (٣)

(٢) البيان ٦ : ٣٤٢ ، وراجع ج ١١ - من هذا الكتاب - ص ١٧٢ ، الهامش (٤)

(٣) في ج ١١ ، ص ١٧٢ ، المسألة ٣٤٠.

(٤) في النسخ الخطّيّة : « البيع ».

٣٧٩

عليه.

والثاني : له الردّ ؛ لأنّه إذا كان يقع الشراء لاثنين ، كان بمنزلة أن يوجب لهما ، ولو أوجب لهما كان في حكم العقدين ، كذا هنا(١) .

وإذا باع أحد الشريكين عيناً من أعيان الشركة وأطلق البيع ثمّ ادّعى بعد ذلك أنّه باع ماله ومال شريكه بغير إذنه ، لم تُسمع دعواه ؛ لأنّه يخالف ظاهر قوله ، فإن ادّعى ذلك شريكه ، كان عليه إقامة البيّنة أنّه شريكه فيه ، فإذا قامت البيّنة به وادّعى المشتري أنّه أذن للبائع في البيع ، كان القولُ قولَه : إنّه لم يأذن ، مع يمينه ، فإذا حلف فسخ البيع في نصيبه إن لم يجز البيع ، ولا ينفسخ في الباقي إلّا برضا المشتري.

وللشافعي قولان مبنيّان على تفريق الصفقة(٢) .

مسألة ١٩٠ : إذا كان لكلٍّ من الرجلين عبد بانفراده ، صحّ بيعهما معاً صفقةً واحدة ومتعدّدة‌ ، اتّفقت قيمتهما أو اختلفت ، عندنا.

وللشافعي قولان :

أحدهما : يصحّ مطلقاً ؛ لأنّ جملة الثمن معلومة في العقد.

والثاني - وهو الأصحّ عندهم - : إنّ البيع فاسد ؛ لأنّ العقد إذا كان في أحد طرفيه عاقدان كان بمنزلة العقدين ، فتكون حصّة كلّ واحدٍ منهما مجهولةً ؛ لأنّ ما يخصّ كلّ واحدٍ من العبدين من الثمن غير معلومٍ في العقد ، بخلاف ما لو كان العبدان لواحدٍ ؛ لوحدة العقد(٣) .

وهو غلط ؛ إذ مجموع الثمن في مقابلة مجموع الأجزاء ، وهُما‌

____________________

(١) الحاوي الكبير ٦ : ٤٨٦ ، بحر المذهب ٨ : ١٣٧ ، البيان ٦ : ٣٤٢.

(٢) راجع بحر المذهب ٨ : ١٣٨.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٣ : ٤٩٩ ، العزيز شرح الوجيز ٤ : ١٤٥ ، روضة الطالبين ٣ : ٩٢.

٣٨٠

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486