تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75898 / تحميل: 9809
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.

هجرة الخليل عليه‌السلام :

لقد حكمت محكمة « بابل » على « إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّعليه‌السلام ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى « هاجر ».

وكانت زوجته « سارة » لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق(١) .

وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى « إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة » ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٨ و ١١٩.

١٤١

الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم.

لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : « إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ».

ثمّ قال في ضراعة خاصة : «ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »(١) .

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : «رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »(٢) .

إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة ، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٦.

٢ ـ إبراهيم : ٣٧.

١٤٢

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر « إبراهيم »عليه‌السلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل » ، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ، فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ».

فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها.

١٤٣

ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ، وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى « هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه ، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم.

تجديد اللقاء :

كان إبراهيمعليه‌السلام بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.

وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له : فَلْيغيّر عتبة بابه ».

١٤٤

وذهب إبراهيمعليه‌السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه « إسماعيل » له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيلعليه‌السلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة(١) .

وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيمعليه‌السلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.

ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة » قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيمعليه‌السلام ، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام »(٢) على حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً »(٣) .

وهذا يكشف عن ان مكة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٢ نقلا عن قصص الأنبياء.

٢ ـ إبراهيم : ٣٥.

٣ ـ البقرة : ١٢٦.

١٤٥

عليه‌السلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير ذي زرع.

* * *

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التاريخ.

٢ ـ قُصَيُّ بنُ كلاب :

إن أسلاف الرَّسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ، قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ، كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان(١) .

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيلعليه‌السلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : « إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا »(٢) هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين ، ومشهورين في تاريخ

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٢ ـ ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ١٠٥ عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج ١ ، ص ١٥.

١٤٦

العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة(١) .

أمّا « قُصَيّ » وهو الجدّ الرابع لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة » و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ » يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى إرجاعه إلى « مكة ».

وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفي « قصيّ » في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما :

« عبد الدار » و « عبد مناف ».

٣ ـ عبد مناف :

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه « المغيرة » ولقبه

__________________

١ ـ لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج ٢ ، ص ١٥ ـ ٢١.

١٤٧

« قمر البطحاء » ، وكان أصغر من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام(١) .

٤ ـ هاشم :

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس » توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ».

هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس » وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك(٢) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

__________________

١ ـ لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن :

١ ـ سدانة الكعبة.

٢ ـ سقاية الحجيج.

٣ ـ رفادتهم وضيافتهم.

٤ ـ زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٣.

١٤٨

( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية ( وهم من اولاد عبد شمس )(١) .

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء عليعليه‌السلام في حين أن تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ، وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم ـ مثلا ـ توفي في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن(٢) .

وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا :

« يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً.

يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ، فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »(٣) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٤٩

ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة » حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ، وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.

اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :

ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى

١٥٠

دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :

١ ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

٢ ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين(١) .

وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى ١٣٠ عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ١٠ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

١٥١

إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب‍ « عبد المطلب ».

وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».

وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب(١) .

وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٦ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨ و ٩ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٥٢

« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

٥ ـ عبدُ المطّلب :

عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.

فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.

١٥٣

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته »(١) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.

حَفرُ زَمزَم :

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة(٢) .

ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : ٩٦.

١٥٤

واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.

ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك.

وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا

١٥٥

يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح(١) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك »(٢) .

فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.

__________________

١ ـ ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ، ص ٢٠٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٧.

١٥٦

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.

ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.

ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة(١) .

وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

__________________

١ ـ هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

١٥٧

فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل.

فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.

ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٥٣ ، وبحار الانوار : ج ١٦ ، ص ٧٤ ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيلعليه‌السلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيلعليه‌السلام .

١٥٨

حادثة عام الفيل :

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.

فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام ٥٧٠ وأتفقت فيه

١٥٩

ولادة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل‍ « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود(١) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل

__________________

١ ـ وفاء الوفا : ج ١ ، ص ١٥٧ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢١ و ٢٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

أمّا المياه فتأتيها من لبنان بأقنيةٍ قديمةٍ، يُظنّ أنّها من بقايا الصليبيّين، بدليل تسميتها حتّى الآن باسم قناطر البرنس، وتتوزّع في كلّ أنحاء البلدة وشوارعها، وتدخل دورها وبناياتها، وتتّصل إلى الطبقة الثالثة على ارتفاعٍ أكثر من خمسة عشر ذراعاً. ومخرج الماء من ينبوعٍ عذبٍ يُقال له رشعين في ناحية الزاوية من قائمقاميّة البترون التابعة لمتصرّفية لبنان.

(أمّا النهر فمخرجه من جبل لبنان فوق قرية بشري تحت الأرز الشهير، من مكان يُقال له الدواليب، ويجري إلى الجنوب الغربي قليلاً، فيتّحد معه جدولان يُقال لأحدهما رشعين وللآخر المخاضة، ومن ثمّ يدخل طرابلس ويخرقها من الشرق إلى الغرب فيشطرها شطرين غير متساويين ويخرج منها فيمرّ في أرضٍ كثيرة الجنائن والبساتين، ويصبّ في بحر الروم إلى الشمال من المينا على مسافة ميلٍ عنها.

وغزارة الماء وخصب تربة البلاد حملا الأهلين على الرغبة في حراثة الأرض، فأتقنوها حتّى صارت طرابلس أوّل بلدان سورية تقدّماً في الزراعة، وأمست أرضها ذات ثمار كثيرة مشهورة عنها أخصّها الليمون بأنواعه ؛ ذلك ما أصبح مصدراً لتجارةٍ متّسعةٍ فيه.

أمّا التجارة فهي متّسعة في تصدير الحاصلات ضيّقة في إيراد البضائع الأوروبية، وأخصّ الأصناف الصادرة: الحرير والحبوب والليمون والزيت والصابون وغير ذلك.

(أمّا الصناعة فقاصرة جداً، مع أنّها اشتهرت في الزمن السالف كما شهد بذلك مؤرّخو الافرنج الذين كتبوا وقائع الحرب الصليبيّة).

ثمّ وصف ترقّيها في العلم ومدارسه، وفضلها على أكثر المدن السورية في هذه الناحية، ولم يقصّر ومَن أولى به بإيفائها حقّها، وهو ابنها البار، وهي أوّل بلد مسّ جسمه ترابها.

وإذا عرفت أنّ هذا الوصف لها كان منذ سبع وخمسين سنة: أي في عهد مبدأ النهضة السورية العمرانية والعلمية في بلاد الشام، وبعد تراجعها العظيم يتبين لك أنّها قد بلغت في هذه الأيّام شأواً بعيداً في كلّ ناحيةٍ من نواحي العمران والاقتصاد والعلم والآداب والسياسة والوطنيّة الصحيحة، لمرافقتها النهضة التي شملت أكثر المدن السورية، دع ما أعان هذه النهضة من الوسائل التي كانت تكاد تكون مفقودة في ذلك العهد، ومنها صعوبة المواصلات وقلّة المطابع وندرة الكتب.

٣٠١

وطرابلس ضربت الرقم القياسي السوري الساحلي في جهادها الوطني والسياسي في سبيل إحقاق حقّها بالالتحاق في الوحدة السورية، وأبلت بلاءً حسناً في كلّ مرحلةٍ من مراحل القضيّة السورية الخاصّة والعربية العامّة، منذ بدء الاحتلال وإلقاء الحرب العامّة أوزارها إلى يومنا هذا.

ولولا أن التبسّط في تاريخ هذا البلد الراقي قديماً وحديثاً يطول به الخطب ويخرجنا عن صدد موضوع كتابنا، لما اقتصرنا على إيراد هذه الجملة غير الوافية بقدرها، وبما لها من المكانة في نفوسنا، وبما نضمره لها من إجلال وإكبار، ولرجالها المخلصين المجاهدين من إعجابٍ وإعظام.

تاريخها القديم:

قال المؤرّخ جرجي يني الطرابلسي في تاريخ سوية:

(أمّا تاريخ البلدة فقديم جدّاً، ومع أنّ ذكرها لم يرد في الكتاب المقدّس يعتقد بعض المدقّقين بكيانها منذ حين قديم.

أمّا ما يعلم عنها تاريخاً فهو أنّه بعد أن أخذت بلاد فينيقية بالتقدّم الحي والمعنوي، وكانت ولايات مستقلّة تنضمّ إلى بعضها برباط الدين والجنسيّة، على أنّها منفصلة عن بعضها في الأحكام الداخلية والخارجية، خلا الحلقة الوطنية بالدفاع والهجوم، رأت أمّهات الممالك وهي: صيدا وصور وارواد وجوباً لإقامة دار شورى ترى في المصالح العامّة للبلاد. فأُنشئ المجلس المذكور في مدينة طرابلس، ومع أنّ التاريخ لم يذكر زمان إنشائه، ولا أوّل زمان عُرفت به طرابلس بلدة ؛ نرى أنّ المجلس لم يقم يومئذٍ في بلدةٍ معروفةٍ بل إنّ عدم قبول تلك الدول الكبيرة قيام ندوتها في بلدة إحداهن لمغايرة الأخرى، وتحذّراً من استبدادها بالقوة وعدم رغبة جميعها بإعطاء تلك المنحة العظيمة للدول الثانوية، حمل القوم على انتخاب أرض محايدة أو قرية صغيرة يشيدون فيها مجلسهم، فكانت حينئذٍ نشأة طرابلس وهي غير ذات اسم عام، بل ربّما أطلق على قسمٍ منها، ومع أنّه عرف تماماً أنّ هذا المجلس كان مركّباً من أعضاء صوريّين وصيدونيّين وارواديّين، لم يعرف إن كانت الولايات الأُخرى الفينيقية قد اشتركت بالعضويّة، كاشتراكها بقبول أحكامه ممّا برهنته بعض الحوادث التاريخية.

وهذا التخمين يقارب الواقع ؛ لأنّه حتّى الآن لم يُعرف للبلدة اسم فينيقي، مع أنّ دار الشورى قد ذُكرت

٣٠٢

مراراً في تاريخ تلك البلاد، ولو وجدت أقل مشابهة بين الكلمة اليونانية التي تركّب منها اسم طرابلس وهي تريبوليس، واللغة الفينيقية لحكم القوم المدقّقون بالاشتقاق، ولا جرم أنّ التاريخ يقول إن أعضاء ذلك المجلس كانوا مئة عضو من الصيدونيين، وبما أنّ صيدا لم تكن أكثر أهمّيّة وإشغالاً من معاصرتيها صور وارواد، لا يظن أنّ أعضاء تينك البلدتين كانوا أقلّ عدداً.

ولا يخفى أنّ وجود ثلاثمئة عضو كافٍ لبناء ثلاث حلل ؛ لأنّ أكثر الأعضاء كانوا يلتزمون بإحضار نسائهم معهم. وكرّ الزمان فكثرت الذكور والمهاجرون فعمرت البلدة بهم.

والظاهر أنّ حكومتها استمرّت بيد الثلاث الدول ؛ ذلك أنّ كلاًّ منها كانت تحكم حلّتها بشرائعها الخصوصيّة ؛ فكان بين كلّ حلّة وأُخرى مسافة ستاديا وهي نحو فرسخ، يؤيّد ذلك الآثار المستمرّة حتّى يومنا، دليلاً على مواقع الحلل حيث كانت الأُولى في محل الميناء الحالية، والثانية في السلفتانية، وهي الآن مدفن للروم الأرثوذكس.

وهنالك بقايا قناة ماء، يظهر أنّها كانت تأتي تلك الحلّة من الضنية حيثما تمرّ في أراضي مجدليا، فتظهر آثارها عند طواحين السكر، والثالثة غربيّ المدينة الحاليّة عند البحصاص.

(ولقد قلنا إنّ التاريخ لم يكشف لنا عن زمان بنائها، إلاّ أنّ من الأدلّة ما يُظهر شيئاً من ذلك، فنقول:

إنّ تشكيل المجلس لم يتم إلاّ بعد مجيء نبوخذ نصّر لسورية، ولا يخفى أنّ ذلك الفاتح أتى البلاد غازياً في سنة (٦٠٦ ق. م) وأخذ أورشليم وجلا اليهود، فاستمرّوا في الأسر سبعين سنة.

وسنة (٥٧٣ ق. م) أخذ صور بعد أن حصرها ثلاث عشرة سنة، فإن كان تشكيل الديوان في تلك الأثناء فيكون بناؤها إذاً في أوساط الجيل السادس قبل المسيح، على أنّنا لا نجزم في ذلك حكماً ؛ لأنّنا ضمَّنا المقدّمات فأنتجنا هذه النتيجة.

أمّا الأدلّة التاريخية فقاصرة في هذا الصدد، ولم نعثر على ذكر لطرابلس إلاّ في أواسط الجيل الرابع قبل الميلاد، ولا يستبعد عدم امتداد قديمتها لأكثر من ذلك، على أنّ المجلس الذي عقد سنة ٣٠٢ ق. م للمفاوضة في أعمال الفرس المغايرة، وتسلّطهم على البلاد بعنفٍ كان في مدينة طرابلس، وعليه قر القرار على رفع راية العصيان ضد الفرس الظالمين.

(ووجود المجلس في ذلك دليل يدحض رأي مَن زعم بأنّ الإسكندر

٣٠٣

المكدوني هو الذي أمر ببنائها، حال كونها قد ذكرت بصراحة قبل زمانه بعشرين سنة كما تقدّم.

ولم يكن لطرابلس موقع مهم في التاريخ ؛ ولذلك كان يمرّ عليها مرّ السحاب، على أنّه بزوال دار شورى الفينيقيين منها حطّت أهمّيّتها إلى أن تداولت عليها الدول.

فلمّا صارت سورية مملكة يونانية مستقلّة بعد وفاة الإسكندر، واستبدّ السلوقيّون بالسلطة حتّى جرت بين انتيغونوس وسولوقس بعض الملاحم والمعارك الشديدة، فأخذ انتيغونوس وسولوقس بعض الملاحم والمعارك الشديدة، فأخذ انتغونوس يهتم ببناء السفن، فكانت طرابلس أيضاً من المدن التي رَمّمها ولذلك أمر بالأخشاب فجيء بها من لبنان على ألف نير كناية عن ألفين من الثيران.

وبنيت السفن فيها لخدمته على أنّه لم يحز نصراً فتسلّط السلوقيّون على البلاد.

ولم يكن لطرابلس أهمّيّة تذكر غير أنّها بعد حين ذكرت في أخبار المكابيين، حيث قيل إنّ ديمتريوس بن سولوقس باتر العاشر من الملوك السلوقيين (جلس سنة ١٦٢ ق. م) كان في رومية ففرّ عن حدوث المشاغب في سورية بعد أن أبت ندوة رومية (السناتو) أن تسمح له بالرجوع ليتبوّأ تخت ملكه. وأتى بجمعٍ عظيمٍ وسفن ميناء طرابلس وسار إلى المحلاّت الواجبة (٢ مك - ص ٨ و ١٤ عدد ١)، وقد ذكر صاحب سفر الأخبار قوله:

(وروى بونتانوس أن طرابلس سجدت في أيّام السلوقيين للمشتري الاطرابلسي. ذكره مؤلّف كتاب سورية المقدّسة، وروى لاكوبان في مجلد ٣ صحيفة ٩٩ أنّه توجد معاملات عديدة لأنطونيوس مع قلوبطرة ثمّ لاغوسطس وينرون وتريانوس عليها اسم طرابلس.

وفي دائرة المعارف للبستاني من مقالة للأستاذ جرجي يني في تاريخ هذا البلد: (وفي الفتح الروماني مرّ عليها بومبيوس وكان فيها قوم من الأيطوريين، فخضد شوكتهم وقتل زعيمهم حتّى دانت للرومان، وظلّت على ولائهم إلى أن فتحها المسلمون بخدعة يوقنا، ولكن تردّدت عليها غزوات الروم ومردة لبنان، وتقلّبت على السيادة فيها الدول الإسلامية).

تاريخ طرابلس الإسلامي:

لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق وسار إلى فحل، سار يزيد إلى مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وهي سواحل

٣٠٤

دمشق على مقدّمته أخوه معاوية ففتحها فتحاً يسيراً، وجلا كثيراً من أهلها.

وتولّى معاوية بنفسه في ولاية يزد. ثمّ إنّ الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأوّل خلافة عثمان، فقصدهم معاوية ففتحها ثمّ رمّمها وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع.

ولمّا ولي عثمان الخلافة وجمع لمعاوية الشام، وجّه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وهي ثلاث مدن مجتمعة.

ثمّ بنى في مرج على أميال منها حصناً سُمّي حصن سفيان، وقطع المادة عن أهلها من البرّ والبحر وحاصرهم، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدّهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم.

فوجه إليهم بمراكب كثيرة، ركبوا فيها ليلاً وهربوا، فلمّا أصبح سفيان، وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه ثمّ يغدو على العدو، فوجد الحصن خالياً فدخله وكتب بالفتح إلى معاوية، فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم، ثمّ بناه عبد الملك بن مروان وحصّنه، ثم نقض أهله أيّام عبد الملك ففتحه ابنه الوليد في زمانه.

دخلت طرابلس في السلطان الإسلامي مع المدن الساحليّة التي افتتحت، ولما خاف عليها معاوية من غزوات الروم استدعى قوماً من الفرس ليستوطنوا تلك السواحل ويحموها من اعتداء الغازين، يؤيّد ذلك ما ذكره اليعقوبي في كتابه البلدان ؛ فقال عند ذكره جند دمشق:

(ولجند دمشق من الكور على الساحل كورة عرقة فيها قوم من الفرس.

ومدينة اطرابلس وأهلها قوم من الفرس.

وجبيل وصيداء وبيروت وأهل هذه الكور كلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان).

وقال البلاذري في فتوح البلدان: (نقل معاوية في سنة ٤٩ أو سنة ٥٠ إلى السواحل قوماً من زُط البصرة والسباتجة وأنزل بعضهم أنطاكية).

وفي تاريخ ملوك الروم(١) : (في السنة العاشرة لملك قسطنطينوس بن قسطنطين (٣٢٧) جاء إلى نواحي طرابلس فينيقية وبنى بلاداً سمّاها باسمه.

وجاء الإسلام، ففتحوا أنطاكية، وهرب القيصر هراكليوس منها فلم يقتصر

____________________

(١) تاريخ سورية الجرجي بني ص ٣٧٧.

٣٠٥

يوكنا الذي أسلم واتّحد مع الفاتحين على الحيل الأُولى التي سلم بها المدن الحصينة، بل إنّه أتى مدينة طرابلس الشام ولم تكن قد أُخذت مع بعض الثغور، فلمّا دنا من البلدة بفرقته، وكانوا من الرومان الذين أسلموا، خرج لملاقاته الرومان الذين في طرابلس ظانّين أنّه لم يزل مخلصاً لدولتهم غير عارفين بالذي جرى، وفتحوا له أبواب المدينة فدخلها، وأقام فيها منتظراً الزمان المسمّى لمجيء الإسلام. فلمّا حان الأجل حمل على القلعة فأخذها بلا ممانعة).

على أنّا لا نعلم المقصود بالقلعة ؛ لأنّ القلعة الحالية إنّما هي من بناء الصليبيين، فلا يبعد أن تكون القلعة المأخوذة يومئذٍ من حصون الرومان.

وأقام يوكنا فيها ناشراً راية الصليب الرومانية، إلاّ أنّه أرسل خبراً إلى أبي عبيدة بما كان. وبعد حين وصلت ميناء طرابلس سفن كثيرة، من قبرص وكريت مشحونة بالسلاح والمؤن لنجدة جنود قسطنطين، وهي غير عالمة بحالة طرابلس. فلمّا رست أقبل يوكنا عليها واعتقلها وأخذ رجالها أُسراء حرب، وكان أبو عبيدة قد بعث شرذمة من جنده إلى طرابلس فسلّمها يوكنا إلى العسكر، وركب السفن بمن معه ورفع الراية الرومانية وسار إلى صور).

وقامت الحكومة الإسلامية في طرابلس، إلاّ أنّ صاحب سفر الأخبار يقول إنّ الدولة الإسلامية لم تستقرّ فيها، والظاهر أنّ ذلك كان لأنّ مردة لبنان كانوا يتملّكونها.

(ولمّا ولي عثمان الخلافة(١) وجمع لمعاوية الشام، وجّه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وهي ثلاث مدن مجتمعة.

ثمّ بنى في مرج على أميال منها حصن سُمّي حصن سفيان، وقطع المادّة عن أهلها من البرّ والبحر، وحاصرهم، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدّهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجّه إليهم بمراكب كثيرة ركبوا فيها ليلاً وهربوا، فلمّا أصبح سفيان وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه، ثمّ يغدو على العدو، وجد الحصن خالياً فدخله، وكتب بالفتح إلى معاوية فأسكنه معاوية، جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم. ثمّ بناه

____________________

(١) تاريخ الدبس مجلد ٥ ص ٩.

٣٠٦

عبد الملك بن مروان وحصّنه، ثمّ نقض أهله أيّام عبد الملك، ففتحه ابنه الوليد في زمانه)(١) .

وقد ذكر طرابلس أبو القاسم عبيد الله بن ضرداويه من رجال أوائل القرن العاشر في كتابه المسالك والممالك، فيما ذكره من إقليم في جملة كور دمشق، فذكر كورة جونيه وكورة طرابلس وكورة جبيل، ثمّ بيروت وصيداء.

والمقدسي ذكر من المدن الساحلية بيروت وطرابلس وعرقة ؛ قال:

(وصيداء وبيروت مدينتان على الساحل حصينتان وكذلك طرابلس إلاّ أنّها أجل).

وذكرها الاصطخري وابن حوقل، ووصفها كلاهما بأنّها: فرضة دمشق في زمنهما، وأنّها وافرة الغلات، يقيم فيها جند الشام ومنها يخرجون لغزو الروم، ويثنيان على لين عريكة أهلها ووفرة مرافقها.

وقال ابن رسته:

ومدينة اطرابلس وأهلها قوم من الفرس، كان معاوية بن أبي سفيان نقلهم إليها، ولها مينا عجيب يحتمل ألف مركب.

وفي شعبان سنة ٤٣٨ هـ ١٠٠٤م تجوّل في سواحل الشام ناصر خسرو الفارسي فوصف المدن الساحليّة في رحلته وصفاً مستجاداً، وقال:

(إنّه مرّ أوّلاً بطرابلس سائراً إليها من حلب، فوصف حدائقها ومزارعها من قصب السكّر والنارنج والموز والنخيل. وكان مروره فيها يوم عصرهم قصب السكر.

وتوسّع في وصف أسوارها من نحيت الحجارة ذات بابٍ واحدٍ في شرقيّها وخنادقها ومناجيقها لردّ غارات الروم، وأسواقها شبه القصور غاية في النظافة، ودورها ذات أربعة إلى ستة طوابق.

ثمّ وصف فواكهها اللذيذة المتوفّرة وجامعها الجميل الهندسة، ومياهها النميرة.

وكان أهلها حينئذٍ على مذهب الشيعة ٢٠٠٠٠ ومن معاملهم: معمل لورق الكتابة كمعمل كاغد سمرقند.

وكانت في ذلك الوقت في حوزة ملوك مصر الفاطميّين أعفوها عن أداء الضرائب لأمانة أهلها في واقعة سابقة انهزم فيها الروم).

____________________

(١) عن ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٠.

٣٠٧

منيت طرابلس كما منيت المدن الساحلية بغزوات الروم المتتابعة.

ففي سنة ٣٥٧ هـ ٩٦٨م حاصرها نيقيفور ملك الروم ليلةً واحدةً وأحرق ربضها.

كما ذكر ذلك يحيى بن سعيد الأنطاكي ؛ وقال في حوادث سنة ٣٦٤هـ ذاكراً غزوة الملك يوحنّا زيميسيس الذي يدعوه العرب ابن الشمشقيق، إنّه نزل على طرابلس وقاتلها ولم يتمّ له فيها شيء.

وقال ابن القلانسي:

(إنّه نزل عليها وأقام حاصراً لها تقديراً أربعين يوماً يقاتل أهلها ويقاتلونه، فبينما هو في ذلك إذ دس إليه خال بسيل وقسطنطين سمّاً، فاعتلّ منه وتوجّه إلى القسطنطينية وتوفّي).

وذكرها الشريف الإدريسي المتوفّى سنة ١١٨٧م حيث قال في وصفها:

(مدينة عظيمة عليها سور من حجرٍ منيع ولها رساتيق وكور وضياع جليلة، وبها من شجر الزيتون والكروم وقصب السكّر وأنواع الفواكه وضروب الغلاّت الشيء الكثير.

والوارد والصادر إليها كثير، والبحر يأخذها من ثلاثة أوجه، وهي معقل من معاقل الشام مقصود إليها لضروب التجارات، ينضاف إليها عدّة حصون ومنها في جهة الجنوب حصن بناه ابن صنجيل الافرنجي ومنه افتتح أطرابلس، وبينهما أربعة أميال وهو حصن منيع جدّاً وهو بين واديين).

إنّ المدن الساحليّة وهي باب المدن الداخلية، كانت معرّضةً لغزوات الروم، ومَن يتغلّب عليها يسهل عليه امتداد يده إلى داخل البلاد، فكان من المحتّم أنّ على مَن يمتلك البلاد الشاميّة: ساحلها وداخلها وسهلها وجبلها، أن تحصّن بالقلاع وتصان بالأسوار وتُشحن بالرجال لتقيها تلك الغزوات المتتابعة، وتحمي بها البلاد كافّة.

ولم يهمل هذا الأمر ملوك العرب والمسلمين الذين تعاقبوا على حكمها من عهد الخلفاء الراشدين ؛ فالأمويّين والعبّاسيّين وعمّالهم الذين استقلّوا بحكمها، ولم يبقوا للخلفاء العبّاسيّين سوى الخطبة والسكّة والتقليد والخلع للمستأثر بالحكم.

فكانت مدينة طرابلس وهي ثغرٌ من أهمّ الثغور البحرية الشامية، وهي منفذ لأهمّ الأعمال والكور من جند دمشق من المدن التي امتدّ إليها التحصين، وقد أصبحت في حوزة بني طولون أُمراء مصر، وقسم كبير من الديار الشامية، ثمّ انتقلت إلى خلفاء الفاطميين المصريين الذين استولوا على بلاد الشام، وكان يليها عمّالهم.

وأكثر مَن وليها في عهدهم من الأمراء رجال من كتامة الذين ابلوا

٣٠٨

البلاء الحسن في تأسيس دولتهم في المغرب، وكانوا سيوفهم في الاستيلاء على الديار المصرية والشامية، وفاتحها جعفر بن فلاح من شيوخ كتامة، إلى أن انتهت النوبة في حكمها إلى قضاة بني عمر من كتامة.

قبيلة كتامة:

لقد سبق في الصفحة الأُولى من هذا المؤلّف بحثنا عن إغفال المؤرّخين البحث عن قضاة بني عمّار حكام طرابلس، كما أهملوا سلسلة اتصال نسبهم بكتامة، حتّى لقد أدّى هذا الإهمال إلى توهّم بعض الباحثين أنّهم وبدر بن عمّار ممدوح المتنبّي، وحاكم طبرية من قبيل واحد، مع أنّ بدر بن عمّار هو أبو الحسن محمد بدر بن عمّار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، وكان عاملاً على طبرية لأبي بكر بن رائق حسام المتّقي لله الخليفة العبّاسي، وهو أسديٌّ منسوبٌ إلى طبرستان. وبنو عمّار من المغاربة، وقد أنشده أبو الطيّب المتنبّي لمّا قصده قصيدته:

أحلماً نرى أم زماناً جديدا

وهو يومئذٍ يتولّى حرب طبرية من قبل ابن رائق(١) سنة ٣٢٨ هـ.

وأمّا نسبة بدر هذا إلى بني أسد فتظهر من قول أبي الطيّب فيه مادحاً له:

حسامٌ لابن رائقٍ المرجّى حـسام المتّقي أيّام صالا

سـنان في قناة بني معدٍّ بني أسدٍ إذا دعوا النزالا

وقال مادحاً له لمّا أضاف ابن رائق إلى عمله الساحل:

تُـهـنّا بـصور أم نـهنئها بـكا وقـلّ الـذي صور وأنت له لكا

ومـا صغر الأردّن والساحل الذي رجـيت بـه إلاّ إلى جنب قدركا

تـحاسدت الـبلدان حتّى لو أنها نفوسٌ لسار الشرق والغرب نحوكا

وأصـبح مـصرٌ لا تكون أميره ولـو أنّـه ذو مـقلةٍ وفـمٍ بكى

____________________

(١) انتزع محمد بن رائق دمشق سنة (٣٢٨) من بدر الأخشيدي الذي كان نائباً عليها من قبل الأخشيد محمد بن طغج بن جف، الذي كان والياً عليها من قِبَل الراضي سنة ٣٢٣ هـ.

٣٠٩

على أنّ بدر بن عمّار كان عامل طبرية قبل استيلاء الفاطميين على مصر وبلاد الشام باثنتين وثلاثين سنة.

إنّ هذا الوهم وتقصير مؤرّخي عصر أولئك القضاة عن التعريف بهم كما جرت عادتهم بالتعريف بكلّ دولةٍ ناشئةٍ وبرجالٍ صنعوا بعض ما صنع هؤلاء في تأسيس الدول الناشئة، وأثّروا ما أثّروا في تأييد سلطان غالب أو في عمل نافع من أثر، قد يقلّ كثيراً عن آثار هذا القبيل، سواء في إقامتهم خلافة فاطميّة بين أمم برابرة، ثمّ بسط سلطان تلك الخلافة إلى أن تغلّبت على ديار مصر واليمن والحجاز، في بعض العصور، وديار الشام.

وكان ما كان لهم من خدمةٍ في رفع منار العلم، وفي مدافعة غزاة الصليبيين عن أمنع ثغرٍ من ثغور سواحل الشام، لا جرم أنّ ذلك كلّه حملنا على الاستقصاء والتتبّع والتوسّع والبحث، والرجوع إلى كتب المؤرّخين الذين أرّخوا الدولة الفاطمية، لعلّنا نعثر في زواياها على ما ينير بحثنا هذا وكلّ ما له علاقة في تاريخهم.

ومن أهم ما يصل بنا إلى اللباب: بحث نسبهم، والاستطراد إلى ذكر رجالٍ لهم صلةٌ بذلك النسب، وكانت لهم الخدمة الجليلة في تأسيس دولة الفاطميين.

اختلاف النسّابين في نسبهم، أهم عرب أم بربر؟

قال ابن خلدون:

(هذا القبيل (كُتامة) من قبائل البربر بالمغرب وأشدّهم بأساً وقوّة، وأطولهم باعاً في الملك عند نسّابة البربر من ولد كتام بن برنس).

ويقال كتم ونسّابة الغرب يقولون إنّهم من حِمْيَر ؛ ذكر ذلك ابن الكلبي والطبري.

وأوّل ملوكهم فريقش بن صيفي من ملوك التبابعة، وهو الذي افتتح افريقية، وبه سُمّيت، وقتل ملكها جرجير وسمّي البربر بهذا الاسم.

ويُقال أقام في البربر من حِمْيَر صنهاجة وكتامة، فهم إلى اليوم فيهم. وتشعّبوا في المغرب وانبثّوا في نواحيه، إلاّ أن جمهورهم كان لأوّل الملّة بعد تهييج الردّة.

وطفئت تلك الفتن بأرياف قسطنطينية إلى تخويف بجاية غرباً إلى جبل أوراس من ناحية القبلة.

وكانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكبرها لهم، وبين ديارهم ومجالات ثقلهم، مثل: ايكجان وسطيف وباغاية وفاس وتلزمة وتبكست وميلة وقسطنطينة والسنسكيرة والقل وجيجل، من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية ولوتة.

وكانت بطونهم كثيرة يجمعهم كلّها غرسن ويسودة بن كتم بن يوسف من يسودة فالسيّد

٣١٠

وذلهاجة ورسبن، كلّهم بنو يسودة بن كتم، وإلى ذلهاجة ينسب قصور كتامة بالمغرب لهذا العهد (عهد ابن خلدون) ومن غرسن، مصالة وقلات وما وطن ومعاذ بنو غرسن بن كتم وكهيفة وجيجلة وسالتة وبنو بناوة بن غرسن وملوسة من ايان غرسن بن غرسن، ومن ملوسة هؤلاء بنو زيدوي أهل الجبل المطل على قسطنطينة لهذا العهد.

وبعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن وهشتيوة ومصالة وبنو قنسيلة، وعدّ ابن حزم منهم زوادة بجمع بطونهم وهو الحق على ما تقدّم.

وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتبذون عن مواطنهم، وهم بها إلى اليوم، ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحال منذ لدن ظهور الملّة وملك المغرب إلى دولة الأغالبة، ولم تكن الدولة تسومهم بهضيمة، ولا ينالهم تعسّف لاعتزازهم بكثرة جموعهم، كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه، إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميين أثر دولة بني العبّاس.

وقد أطال الكلام في ما يتعلق بهذا القبيل وبطونهم مما يطول بنقله البحث وذكر انتساب بعض بطونهم إلى سليم من قبائل مضر، وأنكر ذلك وأرجع زوادة إلى كتامة وكتامة وصنهاجة إلى البرانس. وقال: ((إن بطون صنهاجة كما يذكر بعض مؤرخي البربر تبلغ سبعين بطناً وقال: إن لصنهاجة ولاء لعلي (عليه السلام) كما أن لمغراوة ولاء في عثمان (رض) وقال: إننا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها.

وقال ياقوت في معجم البلدان: (البربر اسم يشمل قبائل كثيرة في جبال المغرب، أوّلها برقة ثمّ إلى آخر المغرب والبحر المحيط، وفي الجنوب إلى بلاد السودان.

وهم أممٌ وقبائل لا تُحصى، نسب كلّ موضع إلى القبيلة التي تنزله، ويقال لمجموع بلادهم بلاد البربر.

وقد اختلف في أصل نسبهم، فأكثر البربر تزعم أنّ أصلهم من العرب، وهو بهتان منهم وكذب.

وأبو المنذر فإنّه قال: البربر من ولد فاران بن عمليق.

وقال الشرقي: هو عمليق بن بلعم بن عامر بن اشليخ بن لاود بن سام بن نوح، والأكثر الأشهر في نسبهم أنّهم بقيّة قوم جالوت لمّا قتله طالوت، هربوا إلى المغرب فتحصّنوا في جبالها، وقاتلوا أهل بلادها، ثمّ صالحوهم على شيءٍ يأخذونه من أهل البلاد، وأقاموا هم في الجبال الحصينة.

٣١١

وقال أحمد بن يحيى بن جابر: حدّثني بكر بن الهيثم، قال: سأل عبد الله بن صالح عن البربر، فقال: هم يزعمون أنّهم من ولد بر بن قيس بن عيلان. وما جعل الله لقيس من ولد اسمه بر. وإنّما هم من الجبّارين الذين قاتلهم داود وطالوت. وكانت منازلهم على الدهر ناحية فلسطين، وهم أهل عمود، فلّما أُخرجوا من أرض فلسطين أتوا المغرب فتناسلوا وأقاموا في جباله، وهذه من أسماء قبائلهم التي سُمّيت بها الأماكن التي نزلوا بها، وهي:

(١) هواره (٢) متاهة (٣) ضريسة (٤) مغيلة (٥) رفجومة (٦) لطَيَّة (٧) مطماطة (٨) صنهاجة (٩) نفزة (١٠) كتامة (١١) لواتة (١٢) مزانة (١٣) ربوحة (١٤) نفوسة (١٥) لمطة (١٦) صدنية (١٧) مصمودة (١٨) غُمارة (١٩) مكناسة (٢٠) قالبة (٢١) دارية (٢٢) أُتينة (٢٣) كومية (٢٤) سنحور (٢٥) أمكنة (٢٦) خرزبانة (٢٧) قططة (٢٨) جير (٢٩) براثن واكلان (٣٠) قصدران (٣١) زرنجي (٣٢) بَرغُواطة (٣٣) لُواطة (٣٤) زواوة (٣٥) كزولة.

وذكر هشام بن محمد أن جميع هؤلاء عمالقة، إلاّ صنهاجة وكتامة فإنّهم بنو افريقس بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر، كانوا معه لمّا قدم المغرب وبنى افريقية، فلمّا رجع إلى بلاده تخلّفوا عنه عمّالاً على تلك البلاد، فبقوا إلى الآن وتناسلوا.

ومَن حكم بعروبتهم وانتسابهم إلى حِمْيَر يرجعهم إلى كلب إحدى بطون قضاعة، فإنّ قضاعة كما ذكر النسّابون ابن مالك بن حِمْيَر بن سبأ.

قال ابن عبد ربّه في كتابه العقد الفريد:

(ومن بني صيفي بن سبأ الحرث بن قيس بن سبأ الأصغر، ومنهم حِمْيَر التبابعة، إلى أن قال: ومنهم أبو فريقيش بن قيس بن صيفي الذي افتتح افريقية، فسُمّيت به.

ويومئذ سُمّيت البرابرة وذلك أنّهم قالوا: أنّه قال لهم: ما أكثر بربرتكم).

وذكر قضاعة فقال: قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرّة بن زيد بن مالك بن حِمْيَر واسم قضاعة عمرو.

فمن قبائل قضاعة وبطونها وجماهيرها كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

٣١٢

وأمّا ابن قتيبة فقد قال في معارفه:

(فولد سبأ حِمْير بن سبأ وكهلان بن سبأ وعمرو بن سبأ والأشعر بن سبأ وانمار بن سبأ وعاملة ومر).

وحِمْير بن سبأ، ولد مالكاً وعامراً وعمراً وسعداً ووائلة.

ومالك بن حِمْير ولد قضاعة ومن قبائل قضاعة كلب بن وبرة.

وإنّك لترى ابن قتيبة يجعل مالكاً ابن حمير، بيتاً يجعله ابن عبد ربّه الجدّ الأعلى له.

ولسنا بصدد البحث عن اختلاف النسّابين في مَن أعقب حِمْير، فإنّ فيه اختلافاً يخرج بنا إن عرضنا له عن موضوع الكلام.

وسواءٌ أصحّ انتساب بني عمّار وذوي قرباهم من كتامة إلى العرب وإلى حِمْيَر منهم، وإلى قضاعة من قبائلهم، وإلى كلب من بطونهم، أم لم يصحّ، فإنّهم قد انتسبوا إلى كلب من قضاعة.

وجاراهم على هذا الانتساب مَن أرّخ بعض رجالاتهم، فتجد ابن خلدون ينسب أُمراء صقلية وولاتها عن الفاطميين إلى بني كلب، وكذلك المقريزي، تراه في تعليقه على خط قصر ابن عمّار يقول:

(هو أبو محمد الحسن بن عمّار بن علي بن الحسن الكلبي من بني أبي الحسن، أحد أمراء صقلية وأحد شيوخ كتامة).

وقال القلقشندي في صبح الأعشى:

إنّ افريقش هو ابن أبرهة ذي المنار بن الحارث بن ذي شدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن قطن بن عريب بن زهير بن الغوث بن أمن بن الهميسع بن حِمْيَر بن سبأ. وسُمّي الحارث بالرائش ؛ لأنّه لما ملك الناس راشهم بالعطاء. والطبري وصف سبأ بالأصغر.

والطبري يذكر البربر تارةً أنّهم من ولد حسام من معرايم الذي ولدهم وولد القبط ص ١٠٤، وتارةً من ولد سام حيث قال ص ١٠٥ وعمليق بعد أن ذكره في ولد سام هو أبو العمالقة ومنهم البربر، وهم بنو ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لوذ بن سام بن نوح، ما خلا صنهاجة وكتامة فإنّهما بنو فريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ.

وقال في ص ١٠٦:

(ولد حام القبط والسودان والبربر.

وإذا صح أن صنهاجة وكتامة ساميّان، وأنّهما من ولد لوذ بن سام، فكيف تنسبان إلى

٣١٣

حِمْيَر، بعد قوله إنّهما بنو فريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ؟

وأمّا بنو حمير ففي عدّهم اختلاف لا محلّ لذكره.

وقال ابن قتيبة ص ٢١٠:

(ثمّ ملك بعده (أبرهة) ابنه افريقيش بن أبرهة بن الرائش، فغزا نحو المغرب في أرض بربر، حتّى انتهى إلى طنجة، ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم، وكانت البربر بقيّة مَن قتل يوشع بن نون).

وترى ابن الخيّاط الشاعر المعروف، المتوفّى سنة ٥١٧ هـ ينسبهم إلى طيئ في إحدى قصائده في مدائحهم، يمدح بها فخر الملك أبا علي عمّار بن محمد بن عمّار فيقول:

زاكي العروق له من طيّءٍ حسبٌ لو كان لفظاً لكان النَّظْم والخُطَبا

رهـط السماح وفيهم طاب مولده إنّ الـسماح يـمانٍ كـلّما انتسبا

فإن صحّ هذا النسب، فلا تكون نسبتهم إلى حِمْيَر ولا إلى قضاعة ولا إلى كلب من قبائلها، بل إلى كهلان أخي حِمْير، فإنّ طيء هو ابن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ.

وقال في صبح الأعشى:

(طيء (أخذاً من الطاءة على وزن الطاعة، وهي الإيغال في المرعى) بن أُدَدَ بن زيد بن يشجب بن عَرِيب بن زيد بن كهلان).

وقال القلقشندي في صبح الأعشى ج ١ ص ٣٦٠:

(من العرب الموجودين المتردّد في عروبتهم البربر، وقد اختلف في نسبهم اختلافاً كثيراً ؛ فذهبت طائفة من الناسبين إلى أنّهم من العرب، ثمّ اختلف في ذلك، فقيل أوزاع من اليمن.

وقيل من غسّان وغيرهم وتفرقوا عند سيل العرم، قاله المسعودي.

وقيل خلّفهم أبرهة ذو المنار أحد تبابعة اليمن حين غزا المغرب.

وقيل من ولد لقمان بن حِمْيَر بن سبأ بعث سريّةً من بنيه إلى المغرب ليعمّروه فنزلوا وتناسلوا فيه.

وقيل من لخم وجّذام كانوا نازلين بفلسطين من الشام إلى أن أخرجهم منها بعض ملوك فارس فلجئوا إلى مصر، فمنعهم ملوكها من نزولها فذهبوا إلى المغرب فنزلوه.

وذهب قومٌ إلى أنّهم من ولد لقشان بن إبراهيم الخليل (عليه السلام).

وذكر الحمداني أنّهم من

٣١٤

ولد بربر بن قيذار بن إسماعيل (عليه السلام) وأنّه ارتكب ذنباً ؛ فقال له أبوه: البر البر اذهب بابر فما أنت ببر.

وقيل هم من ولد بربر بن ثميلا بن مازيع بن كنعان بن حام بن نوح (عليه السلام). وقيل من ولد بربر بن كسلاجيم بن حام بن نوح.

وقيل من ولد ثميلا بن مارا بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح.

وقيل من ولد قبط بن حام بن نوح.

وقيل اخلاط من كنعان والعماليق.

وقيل من حِمْيَر ومصر والقِبط.

وقيل من ولد جالوت ملك بني إسرائيل، وأنّه لمّا قتله داود تفرّقوا في البلاد، فلما غزا افريقش البلاد نقلهم من سواحل الشام إلى المغرب، وهو الذي رجّحه صاحب العبر.

وبالجملة: فأكثر الأقوال جانحة إلى أنّهم من العرب، وإن لم نتحقّق من أيّ عرب، وهم قبائل متشعّبة وبطون متفرّقة، وأكثرهم ببلاد المغرب، وبديار مصر منهم طائفة عظيمة، قال في العبر: وهي على كثرتها لاحقة إلى أصلين لا تخرج عنهما:

أحدهما: البَرانس وهم بنو برنس بن بربر.

والثاني: البُتْر، وهم بنو مادغش الأبتر بن بربر، وبعضهم يقول إنّهم يرجعون إلى سبعة أصول، وهي أردواحة ومصمودة، وأَوْرَبَّة، وعجيبة، وكُتَامَة، وصَنهاجة وأوريفة، وزاد بعضهم لمطة، وهسكورة، وكزولة، ثمّ ذكر منهم طوائف لخّصها عن عبر ابن خلدون، لا يتعلّق لنا غرض بنقلها.

ومن غريب ما ورد في نسب هنتاتة من مصمودة انتسابها إلى فارس، وذكر سلسلة النسب الراجع إليه، وذكر قولاً بانتسابها إلى حِمْير وهو زعم نسّابة زِناتة، وقولاً وكانت بها إلى العمالقة، وكلّ ذلك يخرج بنا عن الاستطراد الذي دعانا إليه التعريف بمَن أفردنا لهم هذا التأليف.

٣١٥

تأييدهم الدعوة الفاطميّة وتشيّعهم

ورد في الجزء الرابع الصفحة ٣٠ من العبر ما محصّله:

أنّ محمد الحبيب بن جعفر المصدّق، بعث داعيةً إلى اليمن أبا عبد الله الملقّب بالشيعي، فلمّا بلغه عن محمد بن يعفر ملك صنعاء أنّه أظهر التوبة والنسك، وتخلّى عن الملك، قَدِم اليمن ووجد بها شيعةً يُعرفون ببني موسى في عدن لاعة. وكان علي بن الفضل من أهل اليمن ومن كبار الشيعة، وظاهر بن حوشب على أمره، وكتب له الإمام محمد بالعهد لابنه عبد الله، وأذن له في الحرب، فقام بدعوته وبثها في اليمن، وجيّش الجيوش وفتح المدائن وملك صنعاء وأخرج منها بني سبعين، وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان يظهر الدعوة للرضا من آل محمد، ويبطن محمد الحبيب تستراً إلى أن استولى على اليمن.

وكان من دعاته أبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة، ومن عنده سار إلى إفريقية فوجد في كتامة من الباطنيّة خلقاً كثيراً، وكان هذا المذهب هنالك من لدن الدعاة الذين بعثهم جعفر المصدق إلى المغرب، أقاموا بإفريقية وبثوا فيها الدعوة وتناقله من البرابرة، وكان أكثرهم من كتامة. فلما جاء أبو عبد الله الشيعي داعية المهدي ووجد هذا المذهب في كتامة قام على تعليمه وبثّه وإحيائه حتّى تمّ الأمر وبويع لعبد الله.

وجاء في هذا الجزء من العبر ص ٥١:

(وكان أصل ظهورهم بإفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها أنفذهما إليها جعفر الصادق (عليه السلام) وقال لهما: بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتّى يجيء صاحب البذر. فنزل أحدهما ببلد مرغة والآخر ببلد سوق جمار

٣١٦

وكلاهما من أرض كتامة، ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي، وكان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص، وكان شيعتهم يتعاهدونهم بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين، فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه لإقامة دعوته باليمن، وأنّ المهدي خارج في هذا الوقت، فسار وأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عنده، واستولى على أكثر اليمن، وسُمّي بالمنصور، وفرّق الدعاة في اليمن والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب وكان محتسباً بالبصرة، وأبو عبد الله هذا يُعرف بالمعلم ؛ لأنّه كان يعلّم مذهب الإماميّة.

فاتّصل أبو عبد الله بمحمد الحبيب ورأى ما فيه من الأهليّة فأرسله إلى ابن حوشب باليمن ليأخذ عنه، ثمّ يذهب إلى المغرب ويقصد بلد كتامة فيظهر بينهم الدعوة.

فجاء أبو عبد الله إلى ابن حوشب ولزمه وشهد مجالسه وأفاد علمه، ثمّ خرج مع حاج اليمن إلى مكّة فلقي بالموسم رجالات كتامة ورؤساءهم، وفيهم من لقي الحلواني وابن بكار، وأخذوا عنهما فقصدهم أبو عبد الله في رحالهم، وكان منهم موسى بن حريث كبير بني سكان من جملة أحد شعوبهم، وأبو القاسم الورنجومي من أحلافهم، ومسعود بن عيسى بن ملاك المساكتي وموسى بن تكاد.

فجلس إليهم وسمعوا منه مذاهبهم ورأوا ما هو عليه من العبادة والزهد، فعلق بقلوبهم وصار تعهّدهم في رحالهم فاغتبطوا به واغتبط بهم.

ولمّا أرادوا الرحلة إلى بلادهم سألوه الصحبة فوفاقهم طاوياً وجه مذهبه عنهم بعد أن سألهم عن قومهم وعصابتهم وبلادهم وملكة السلطان فيهم، فكشفوا له علم ذلك وأنّهم إنّما يعطون السلطان طاعة معروفة، فاستيقن تمام أمره وخرج معهم إلى المغرب، وسلكوا طريق الصحراء وعدلوا عن القيروان إلى أن وصلوا إلى بلد سوماتة وبها محمد بن حمدون بن سماك الأندلسي من بجاية الأندلس نزلاً عندهم.

وكان قدارورك الحلواني وأخذ عنه، فنزل أبو عبد الله الشيعي عليه فأكرمه وفاوضه وتفرّس ابن حمدون فيه أنّه صاحب الدولة، ثمّ ارتحلوا وصحبهم ابن حمدون، ودخلوا بلد كتامة منتصف ربيع سنة ثمان وثمانين ومئتين،

٣١٧

فنزل على موسى بن حريث بلده اتكحان في بلد بني سكتان من جبيلة، وعيّن له مكان منزله بفجّ الأخيار، وأنّ النص عنده من المهدي بذلك وبهجرة المهدي، وأنّ أنصار الأخيار من أهل زمانه، وأنّ اسمهم مشتقٌّ من الكتمان، واجتمع إليه الكثير من أهل كتامة، ولقي علماءهم واشتمل عليه الكثير من أهوائهم، فجاهر مذهبه وأعلن بإمامة أهل البيت ودعا للرضا من آل محمد، واتبعه أكثر كتامة وكانوا يسمّونه بأبي عبد الله الشيعي والمشرقي، وانتهى أمره بفوز دعوته وتأسيس الدولة الفاطميّة في بلاد المغرب وما إلى ذلك ممّا فصّلنا حديثه، واستوعبنا خبره في تاريخ الدولة الفاطميّة من تاريخ دول الشيعة في القسم السياسي، فارجع إليه.

مساهمة كتامة قبيل بني عمّار في أعمال الدولة الفاطميّة في المغرب:

عرفت بلاء الكتاميين في تأسيس الدولة الفاطميّة في افريقية، وما كان لهم من الأثر العظيم في ظهورها، وهبوب ريحها، وهم أوّل مَن لبّى الدعوة، وهم أشدّ قبائل البربر مراساً وأكثرهم عدداً وأكبرهم نفوذاً، فلا جرم إذا قدّر لهم الخلفاء الفاطميّون هذا البلاء الحسن، وأشركوا كبار رجالاتهم في الجليل من أعمالهم والدولة في إبّان تنظيمها، وهي أحوج إليهم في هذا التنظيم.

إمارة الكلبيّين الكتاميّين أجداد بني عمّار في صقلية وتداولهم لها صقلية وموقعها:

قال ياقوت الحموي في معجم البلدان في التعليق على افريقية: اسمٌ لبلادٍ واسعةٍ ومملكةٍ كبيرةٍ قبالة جزيرة صقلية، وينتهي آخرها إلى قبالة جزيرة الأندلس، والجزيرتان في شماليّها، فصقلية منحرفة إلى الشرق، والأندلس عنها إلى جهة المغرب.

وفي مراصد الاطلاع: (صقلية) من جزائر بحر المغرب مقابلة افريقية مثلثة الشكل، بين كلّ زاويةٍ والأُخرى مسيرة سبعة أيّام.

وقيل دورها خمسة عشر يوماً بينها وبين ريو، وهي مدينة في البرّ الشمالي الشرقي الذي عليه

٣١٨

مدينة قسطنطينة بحار (٤) تُسمّى القار، وفي طول جهة الساعة عرض ميلين، وعليه من جهتها مدينة تُسمّى مسيبي، وبين الجزيرة وافريقية مئة وأربعون ميلاً إلى أقرب المواضع بإفريقية، وهو الموضع المسمّى قليلية وهو يومان للريح الطيبة إذا قل، وهي جزيرة حصينة كثيرة البلدان والقرى والأمطار، قيل إنّ لها ثلاثاً وعشرين مدينة وثلاثة عشر حصناً.

وفي صبح الأعشى، الجزء الخامس في ذكر جزائر بحر الروم:

وهو البحر الشامي والمعروف بالبحر المتوسط والأبيض - السابعة - (جزيرة صقلية) قال في (اللباب): بفتح الصاد المهملة والقاف ولام وياء مثناة من تحتها وهاء في الآخر. وموقعها في الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة، وبين ذينها الغربي وبين تونس مجرىً وستّون ميلاً، ودورها خمسمئة ميل وهي على صورة شكل مثلّث حادّ الزوايا، فالزاوية الأُولى شماليّة وهناك المجاز الضيّق إلى الأرض الكبيرة (يعني التي وراء الأندلس) وهو نحو ستّة أميال، والزاوية الثانية جنوبيّة، وهي تقابل بر طرابلس من افريقية من بلاد الغرب، والزاوية الثالثة غربيّة. وهناك (بركان النار) في جزيرة صغيرة منقطعة شمالي الزاوية المذكورة. وشمالي صقلية بلاد قلفرية.

قال في تقويم البلدان:

وصاحب صقلية في زماننا هذا فَرَنجي من الكيتلان اسمه الريدا فريك، وقاعدتها مدينة (بَلْزْم) بفتح الباء الموحدة واللام وسكون الزاي المعجمة وميم في الآخر.

قال ابن سعيد:

وهي حيث الطول خمس وثلاثون درجة، والعرض ستّ وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة.

وبها عدّة مدن غير هذه القاعدة منها مدينة (مازَر) ومنها قَصْريانَّة بلفظ قصر المعروف ويانة بفتح الياء المثنّاة تحت وألف ونون مشدّدة، وهي مدنية كبيرة على سن جبل.

وفي معجم لاروس سنة ١٩٢٥ سيسيلة (صقلية) جزيرة كبيرة في البحر المتوسط، مساحتها (٢٥٧٤٠) كيلو متراً مربعاً ونفوسا ٣٧٩٣٠٠٠، أرضها خصبة، عاصمتها بليرم، وأهمّ مدنها كاتان ومسينا وليباري (ترانبي)(١) .

____________________

(١) وهي اليوم من أجزاء المملكة الإيطالية امتلكتها سنة ١٨٦٠.

٣١٩

وفي الجغرافية العمومية للأُستاذ الصباغ: أرضها جبلية، تتخللها الأودية والسهول المخصبة، التي يجود فيها البرتقال والزيتون والعنب والحبوب، وفيها بركان (اتنا) الذي تكسو سطحه حدائق البرتقال والحامض, فتكسبه منظراً بديعاً يفوق منظر (فيزوف) جمالاً. وأكبر مدنها بالرمو بليرم. وجاء فيدائرة المعارف للبستاني عنأتْنا ما يلي:

(يسمّيه أهل الجزيرة مونجيبلُّو, وهي مركبة من مونتي بالإيطالية معناها جبل. وجبل بالعربية ؛ لأنّ العرب كانوا يدعونه الجبل أو جبل النار، يرتفع عن شاطئ الجزيرة الشرقي، وهو متوسط بين طرفها الشمالي وطرفها الجنوبي بين ٣٧ درجة و٤٣ دقيقة و٣١ ثانية من العرض الشمالي، و١٥ درجة من الطول الشرقي ومحيط أسفله ١٨ كيلومتراً، ومعدل ارتفاعه نحو ٣٢٥٠ متراً.

وكانت صقلية عمالة من عملات مراكش التي هي إلى جنوبي الأوقيانوس الاتلانتيكي وبوغاز جبل طارق والبحر المتوسط، وإلى غربي تلمسان وشمالي الصحراء وشرقي الأوقيانوس المذكور, وهي عبارة عن ثلاثمئة ألف ميل مربع، وتقسّم إلى أربع عمالات وصقلية الرابعة منها كما عرفت.

هذا ما جاء في كتب التقاويم القديمة والحديثة عنها.

تاريخ فتح المسلمين لصقلية وملكهم لها إلى أن وقعت في نوبة الكلبيين

بعد أن افتتح المسلمون بلاد الشام ومصر غزوا في سنة ٢٥ هـ في خلافة عثمان بن عفان أفريقية، واُفتتحت على يد عبد الله بن أبي سرح، ثمّ أغزى معاوية بن أبي سفيان ابن خديج السكوني افريقية سنة أربع وثلاثين , وكان عاملاً على مصر ونازل جلولاء وقاتل مدد الروم الذي جاءها في قسطنطينية , لقيهم بقصر الأحمر فغلبهم أقلعوا إلى بلادهم , وافتتح جلولاء وغنم وأثخن وقفل.

ثمّ ولى معاوية سنة خمس وأربعين عقبة بن نافع بن عبد الله بن قيس الفهري عليها، واقتطعها عن معاوية بن خديج , فبنى القيروان وقاتل البربر وتوغل في أرضهم، ثمّ تعاقب عليها الولاة إلى أن ولي الخلافة الوليد بن عبد الملك , فكتب إلى عمه عبد الله

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486