تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75905 / تحميل: 9809
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

لأهداف عليا.

وبعبارة اُخرى : إنَّ الافعال الخارقة للعادة ليست ظواهر عارية عن العلل ، بل إنَّ علتها غير طبيعيّة ، وافتقاد العلة الطبيعية ( وخاصة العلة الطبيعية غير المعروفة ) ليس دليلا على افتقاد مطلق العلة.

والخلاصة ؛ إن قوانين الخلقة ليست بحيث لا يمكن تبدُّلها ، وتغيّرها بارادة بارئها وخالقها.

إنهم يقولون : إنَّ جميع خوارق العادة ، وجميع أفعال الأنبياء العجيبة الّتي تتصف بصفة الاعجاز ، والخارجة عن اطار القوانين الطبيعية ، تتحقق من هذه الزاوية.

إنَّ هذا الفريق من الناس لا يسمَحُون لأنفسهم بان يرفضوا الأعمال الخارقة للعادة ، والكرامات الّتي جاء ذكرها في القرآن الكريم ، والاحاديث ، أو وردت في المصادر التاريخية الصحيحة المعتبرة ، أو يكشوا فيها بحجة أنها لا توافق الموازين الطبيعية ، والقوانين العلمية.

وها نحن نشير إلى قضيتين عجيبتين وقعتا في فترة الطفولة من حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومع اخذ ما قلناه بنظر الاعتبار لا يبقى أي مجال للترديد ، أو الاستبعاد :

١ ـ لقد نقَلَ المؤرخون عن « حليمة السعدية » قولها بأنها لمّا تكفلَّت إرضاع النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أرادت أن ترضعه في محضر اُمّها ، ففتحت جيبها وأخرجت ثديها الايسر ، وأخذت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فوضعته في حجرها ، ووضعت ثديها في فمه ، فترك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثديها ، ومالَ إلى ثديها الأيمن ، فاخذت « حليمة » ثديها الأيمن من يد النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووضعت ثديها الأيسر في فمه وذلك أنَّ ثديها الأيمن كان جهاماً ( أي خالياً من اللبن ولم يكن يدرُّ به ) ، وخافت ( حليمة ) أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا مصَّ الثدي ولم يجد فيه شيئاً لا يأخذ ـ بعده ـ الأيسر. ولكن النبيّ أصرَّ على أخذ الثدي الأيمن ، فلمّا مصَّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأيمن امتلأ فانفتح حتّى ملأ شدقيه

٢٢١

فادهش الجميع ذلك(١) .

٢ ـ وتقول « حليمة » أيضاً : إن البوادي أجدبت وحملنا الجُهد على دخول البلد ، فدخلتُ مكة مع نساء بني سعد فأخذتُ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فعرفنا به البركة والزيادة في معاشنا ورياشنا حتّى أثرينا ، وكثرت مواشينا ، وأموالنا(٢) .

إنَّ مَن المسلم أنَّ حكم الماديين ، أومن يحذو حذوهم ويتبع منهجهم في هذه المسائل يختلف عن حكم المؤمنين باللّه.

فان أتباع المنهج المادي إذ عجزوا عن تفسير هذا النوع من القضايا من زاوية العلوم الطبيعية ، نجدهم يبادرون إلى اعتبار هذه الحوادث من نسج الخيال ، ومن ولائد الاوهام ، واما إذا كانوا اكثر تأدباً لقالوا : إن رسول الإسلام ليس بحاجة إلى امثال هذه المعاجز :

ونحن نقول : لا نقاش في أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غني عن هذه المعاجز إلاّ أن عدم الحاجة شيء ، والحكم بصحة هذه الاُمور أو بطلانها شيء آخر.

وأما المؤمن باللّه الّذي يردُّ النظام الطبيعي ، إلى مشيئة اللّه خالق الكون وارادته العليا ، ويعتقد بأن كل الحركات والظواهر في العالم الطبيعي من اصغر اجزائه ( الذرة ) إلى اكبر موجوداته ( المجرة ) يجري تحت تدبيره ، ونظارته ، فانه بعد التحقق من مصادر هذه الحوادث والتأكد من وقوعها ينظر إليها بنظر الاحترام ، وأمّا إذا لم يطمئن إليها لم يرفضها رفضاً قاطعاً.

ولقد ورد في القرآن الكريم نظائر عديدة لهذه القصة حول « مريم » اُم عيسى فالقرآن يخبرنا عن تساقط الرطب الجَنيّ من جذع النخلة اليابسة كرامة لوالدة المسيح عندما لجأت إليه مريم عند المخاض إذ يقول : « ...ألاّ تَحزَني قَدْ جَعلَ رَبُّكِ تَحتك سَريّاً. وَهُزِّي إليْكِ بِجذْع النَخلةِ تُساقِط عَليْك رُطباً جَنِيّاً »(٣) .

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٣٤٥ و ٣٤٦.

٢ ـ المناقب لابن شهراشوب : ج ١ ، ص ٢٤.

٣ ـ مريم : ٢٤ و ٢٥.

٢٢٢

إنه وان كان الفرق بين « مريم » و « حليمة » شاسعاً وكبيراً من حيث الملكات الفاضلة والمكانة ، والمنزلة ، إلاّ أن منزلة « مريم »عليها‌السلام لو استوجبت مثل هذا اللطف الالهي ، ففي المقام استوجب نفسُ مقام الوليد العظيم ، ومكانته عند اللّه تعالى أن تشمله العناية الالهية.

كما انه قد جاء في القرآن الكريم حول مريمعليها‌السلام امور اُخرى مشابهة.

ان عصمة هذه المرأة الطاهرة ، وتقاها وطهرها البالغ كانت بحيث أن « زكريا » كلّما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقاً ، فاذا سألها : مِن أينَ لكِ هذا قالت : هو مِنْ عِند اللّه؟(١) .

وَعلى هذا الأساس يجب أن لا نتردَّد ولا نسمح لانفسنا بأن نشك في مثل هذه الكرامات ، أو نستبعدها.

خَمسَةُ أعوام في الصَحْراء :

أمضى وليدُ « عبد المطلب » في قبيلة « بني سعد » مدة خمسة أعوام ، بلغ فيها أشده.

وخلالَ هذه المدة اخذته « حليمة » إلى اُمّه مرتين أو ثلاث ، وقد سلّمته إلى اُمه في آخر مرة.

وكانت المرّة الاُولى من تلك المرات عند فطامه ، ولهذا السبب اتت بهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « حليمة » إلى مكة ولكنها عادت به إلى الصحراء باصرار منها ، وكان السبب وراء هذا الاصرار على اصطحابه معها إلى البادية هو أن هذا الوليد قد اصبح مبعث خير ورخاء ، وبركة في منطقتها ، وقد دفع شيوعُ مرض الوباء في « مكة » إلى أن تقبل امُّه الكريمة بهذا الطلب(٢) .

وأما المرةُ الثانيةُ من تلك المرات فكانت عندما قدم جماعة من نصارى

__________________

١ ـ «وَكَفَّلها زكريّا كُلَّما دَخلَ عَلَيْها زكَريّا المِحْرابَ وَجدَ عِنْدها رزْقاً قال يا مَريَمُ أنّى لَكِ هذا قالَتْ هُو مِنْ عِنْد اللّه » ( آل عمران : ٣٧ ).

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ٤٠١.

٢٢٣

الحبشة إلى الحجاز ، فوقع نظرهم على محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في « بني سعد » ، ووجدوا فيه جميع العلائم المذكورة في الكتب السماوية للنبي الّذي سيأتي بعد عيسى المسيحعليه‌السلام ، ولهذا عزموا على أخذه غيلة إلى بلادهم لما عرفوا ان له شأنا عظيماً ، لينالوا شرف احتضانه ويذهبوا بفخره(١) .

ولا مجال لاستبعاد هذه القضية لأن علائم النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذُكِرَت في الانجيل حسب تصريح القرآن الكريم ، فلا يبعد أن علماء النصارى قد تعرّفوا في ذلك الوقت على النبيّ من العلائم الّتي قرأوها ودرسوها في كتبهم.

يقول القرآن الكريم في هذا المجال : «وَإذْ قالَ عِيْسى بْنُ مرْيَم يا بَني إسْرائيلَ إنّي رَسُولُ اللّه إليْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْن يَديَّ مِنَ التوْراة وَمُبشِّراً بِرَسُول يأتْي مِنْ بَعْدي اسْمُهُ أَحمَد فَلمّا جَاءهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبيْنٌ »(٢) .

ثمّ انّ في هذا الصعيد آياتٌ اُخر صرَّحت بجلاء بأن علائم رسول الإسلام في الكتب السماوية الماضية في وضوح ، ومن غير إبهام ، وأن الامم السابقة كانت على علم بهذا الأمر(٣) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٢ ـ الصف : ٦.

٣ ـ «الذين يتَّبِعُونَ الرسول النبيّ الاُميَّ الَّذي يَجِدُونَهُ مكْتُوباً عِندَهُمْ في التوراة والإنْجيل » ( الأعراف : ١٥٧ ).

٢٢٤

٧

العَوْدة

إلى اَحضان العائلة

لقد خَلقَت يدُ القدرة الالهية كلَ فرد من أفراد النوع الانساني لأمر معين ، فهناك من خلق لا كتساب العلم والمعرفة ، وهناك من خُلقَ للاختراع والاكتشاف ، وثالثٌ خلق للسعي والعمل ، وبعض للتدبير والسياسة وفريق للتدريس والتربية وهكذا.

وإن المربِّين المخلصين الذين يهمّهم تقدم الأَفراد أو رقيّ مجتمعهم لا يعمدون إلى نَصب أحد في عمل من الاعمال ولا يعهدون إليه مسؤولية من المسؤوليات إلاّ بعد اختبار سليقته ومواهبه ، بغية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب ، إذ في غير هذه الحالة يتعرِّض المجتمع لضررين كبيرين : احدهما : أن لا يوكل إلى الفرد ما يستطيع القيام به ، والثاني : ان يبقى العمل الّذي قام به ناقصاً ، مبتوراً.

وقد قيل في المثل : لكل انسان موهبة ، والسعيد هو من اكتشف تلكم المواهب ، واصابها.

وقد ذكروا أن استاذاً كان ينصح تلميذاً له كسولا ، ويعدّد له مضارَّ الكسل والتواني ، ويصف له حال من ترك الاشتغال بالعلم ، وضيّع ربيع حياته في البطالة والغفلة.

وبينما الاستاذ ينصح تلميذه ـ وهو يسمع مواعظ اُستاذه ـ رأى تلميذه يرسم

٢٢٥

بقطعة من الجص صورة على المنضدة ، فادرك من فوره أن هذا الصبيّ لم يُخلق للدرس وتحصيل العلم ، بل خلقته يد القدرة للرسم ، فطلب منه أن يصطحب اباه إلى المدرسة في اليوم القادم ، ثم قال لوالد الصبيّ : إذا كان ولدك هذا كسولا في التعلم ، والتحصيل فانه يمتلك ذوقاً رفيعاً في الرسم ، ورغبة كبيرة في التصوير.

وقبل الوالد نصيحة المعلّم هذه ولم يمض زمانٌ طويل إلاّ وبرع الصبي وغدى قمة في هذا الفن ، بعد أن تابع هوايته بشغف وأكثر من ممارستها.

إن فترة الطفولة والصبا في حياة الأشخاص خير فرصة لأولياء الأطفال بأن يختبروا مواهب أبنائهم ، ويتعرفوا عليها من خلال تصرفاتهم ، وأفكارهم وردودهم ، لأن حركات الطفل وأقواله الجميلة والحلوة خير مرآة لما ينطوي عليه من مواهب وقابليات وصفات لوتوفرت لها ظروف التربية الصحيحة لأمكن الاستفادة منها على أفضل صورة ، وأحسن وجه.

إن مطالعة فاحصة لحياة النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأقواله وأفعاله إلى وقت البعثة المباكرة تُوقفنا على صورة كاملة لشخصيتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوضح لنا أهدافه العليا ، على أن مطالعة صفحات الطفولة في حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط لا تكشف لنا عن مستقبله المشرق ، بل ان دراسة الصورة الاجمالية لحياته وتاريخه إلى يوم مبعثه الشريف ، وإعلانه عن نبوَّته وقيادته للمجتمع ، تخبرنا عن ذلك المستقبل العظيم ، وبالتالي عن هذه الحقيقة وهي ان هذه الشخصية خُلِقَت لأيّ عمل ، وأن إدعاء الرسالة والقيادة له هل ينسجمُ مع سوابقه التاريخية أم لا؟؟

هل تُؤيّد تفاصيلُ حياتِه خلال أربعين سنة قبل الرسالة ، وهل تؤيّد أفعالُه واقوالُه ، وبالتالي : سلوكه مع الناس ومعاشرته الطويلة مع الآخرين رسالته أم لا؟؟

من هنا نعمدُ إلى عرض بعض الصفحات من حياة رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ايامها وسنواتها الاولى.

٢٢٦

لقد حافظت مرضعةُ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليه خمس سنوات ، وقامت في هذه المدة برعاية شؤونه خير قيام ، وبالغت في كفالته والعناية به ، وفي خلال هذه المدة تعلّم النبي لغة العرب على احسن ما يكون ، حتّى انهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يفتخر بذلك في ما بعد إذ كان يقول :

أنا أعربكُمْ ( اي أفصحكم ) وارضعت في بني سعد »(١) .

ثم ان « حليمة » جاءت به إلى « مكة » ، وبقي عند امّه الحنون ردحاً من الزمن ، وفي كفالة جده العظيم : « عبد المطلب » ردحاً آخر منه ، وكان هو السلوة الوحيدة لاقاربه والبقية الباقية من ابيه : « عبد اللّه »(٢) .

سَفْرةٌ إلى يثرب :

منذ أن فقَدت كَنّة « عبد المطلب » وعروس ابنه : « آمنة » زوجها الشاب الكريم : « عبد اللّه » باتت تترقب الفرص لتذهب إلى « يثرب » وتزور قبر زوجها الحبيب الفقيد عن كثب ، وتزور اقاربها في يثرب في نفس الوقت.

وذات مرة فكَّرت بأن تلك الفرصة قد سنحت ، وأن ولدها « محمَّداً » قد كبُر ، ويمكنه أن يشاركها في حزنها ، فتهيأت هي واُمّ ايمن للسفر ، واتجهت نحو يثرب برفقه « محمَّد » ، ولبثت هناك شهراً.

ولقد انطوت ( وبالاحرى حملت ) هذه السفرة على بعض الآلام الروحية لوليد قريش « محمّد » لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأى فيها ولأوّل مرة البيت الّذي توفي فيه والده العزيز ، ودفن(٣) وكانت والدته قد حدَّثته بامور عن والده إلى ذلك الحين.

وكانت لا تزال سحابةُ الحزن تخيّم على روحه الشريفة إذ فوجئ بحادثة مقرحة اُخرى ، وغشيه موج آخر من الحزن لأنه عند عودته إلى مكة فقد اُمّه

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٨٩.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٧.

٣ ـ كان البيت الّذي يضمّ قبر « عبد اللّه »عليه‌السلام لا يزال موجوداً حتّى قُبيل توسعة الدائرة حول المسجد النبوي الطاهر ، ولكنه اُزيل بحجّة إيجاد تلك التوسعة.

٢٢٧

العزيزة في اثناء الطريق في منطقة تدعى ب‍ « الابواء »(١) .

إنَ هذه الحادثة قد عزَّزتْ مكانة الرسول الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عشيرته اكثر فأكثر ، وجعلته يتمتع بمحبّة أزيد منهم ، فهو الزهرة الوحيدة من تلك الجنينة المباركة ، كما انه صار منذ ذلك الحين يتمتع بعناية أكبر من قبل جده « عبد المطلب » ولهذا كان يحبُّه اكثر من أبنائه ، بل ويؤثره عليهم جميعاً.

ومن ذلك أنه كان يُمدُّ في فناء الكعبة المعظمة بساطٌ لزعيم قريش « عبد المطلب » فيجلس هو عليه ويتحلَّقُ حوله وجوهُ قريش وسادتها وأولادُه فإذا وقَعت عيناه على بقية عبد اللّه « محمَّد » أمر بأن يُفرَّجَ له حتّى يتقدم نحوه ثم يُجلِسُه إلى جنبه على ذلك البساط المخصوص به(٢) .

ان القرآن الكريم يُذكّر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بفترة يتمه ويقول : «ألمَ يجدْكَ يتيماً فآوى ».

إن الحكمة وراءيتم وليد قريش ليست واضحة لنا تمام الوضوح ، ولكننا نعلم إجمالا بأن سيل هذه الحوادث المؤلمة احيانا ، والمزعجة احيانا اخرى لم يك خالياً عن حكمة معقولة ومصلحة رشيدة ، بيد أننا مع كل هذا يمكن لنا الحدس بأن اللّه تعالى أراد أن يذوق قائد العالم البشري ومعلمه ، وإمام الإنسانية وهاديها ـ وقبل ان يتسلم مهامه ، ويزاول مسؤولياته العظمى ويبدأ قيادته ـ حُلو الحياة ومرَّها ، ويجرِّب سراء العيش وضرّاءه ، حتّى تتهيَّأ لديه تلك الروحُ الكبرى الصبورة الصامدة ، ويدّخر من تلك الحوادث الصعبة تجارب ودروساً ، ويعدّ نفسه لمواجهة مسلسل الشدائد والمصاعب ، والمشاق والمتاعب الّتي كانت تنتظره في المستقبل.

وربما أراد اللّه تعالى أن لا تكون في عنق نبيِّه طاعة لأحد ، ولهذا انشأه حراً خلياً من كل قيد ، منذ الايام الاُولى من حياته ، يصنع نفسَه بنفسِه ويقيّض لها موجبات الرشد ، واسباب الرقيّ ليتضح أن نبوغَهُ ليس نبوغاً بشرياً عادياً ومألوفاً

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ١٠٥.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٦٨.

٢٢٨

وانه لم يكن لوالديه اي دخل فيه وفي مصيره ، وبالتالي فان عظمته الباهرة نابعةٌ من مصدر الوحي ، وليست من العوامل العادية والاسباب المأنوسة المتعارفة.

وَفاة عبْدالمُطَّلب :

لقد جرت عادة الحياة ان تتعرض للمرء باستمرار ، وتستهدف سفينة حياته كالأمواج المتلاحقة مُوجِّهة ضرباتها القوية لروحه ، ونفسه.

أجل هذه هي طبيعة الحياة وسنتها مع أفراد النوع الانساني من دون استثناء.

ولم يكن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بمعزل عن هذ السنة المعروفة وهذه القاعدة الحياتية العامة.

فلم تكن أمواج الحزن تفارق قلب رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لوفاة والديه بعد حتّى فاجأته مصيبة كبرى.

إنه لم يكن يمض من عمر النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اكثر من ثمان سنوات إلا وفقد جدّه العظيم « عبد المطلب » ، وقد اعتصَرت وفاة « عبد المطلب » قلب رسول اللّه ألماً وحزناً ، وكان لها وقعٌ شديدٌ على نفسه المباركة ، حتّى أنه بكى لفقده بكاء شديداً وظلّت دموعُه تجري من أجله إلى أن وري في لحده ، ولم ينس ذكره أبداً!!(١) .

كفالة أبي طالب للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

سيكون لنا حديثٌ مفصَّل حول شخصيّة أبي طالب في فصل خاص(٢) وسنثبت هناك إيمانه برسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالوثائق والأدلة القاطعة ، ولكنَّ من المناسب الآن أن نستعرض بعض الحوادث المرتبطة بفترة كفالته للنبي

__________________

١ ـ كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ٢ ، ص ١٠ و ١١ من تاريخه حول سيرة عبد المطلب ، وأنه كان موحِّداً لاوثنياً ، وذكر أن الإسلام أمضى الكثير من سننه.

٢ ـ في حوادث السنة العاشرة.

٢٢٩

صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

لقد تكَفَّل أبو طالب ـ ولأَسباب خاصة ـ رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتقبل تحمُّل هذه المسؤولية بفخر واعتزاز ، ولأنّ أبا طالب ـ مضافاً إلى العلل المشار إليها ـ كان أخاً لوالد النبي من أُمٍّ واحدة أيضاً(١) كما أنّه كانَ معروفاً بجوده وكرمه ، ومن هنا أوكلّ « عبد المطلب » أمر كفالة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حفيده ، إليه ، وسوف نقص عليك تدريجاً سطوراً ذهبية من تاريخه ، تمثل شاهد صدق على خدماته القيمة ، وأياديه الجليلة.

يقولون : إن النبي شارك وهو في العاشرة من عمره جنباً إلى جنب مع عمّه في حرب من الحروب(٢) وحيث أن هذه الحرب وقعت في الأشهر الحُرم لذلك سُمّيت بحرب « الفجار » وقد وردت تفاصيل حروب « الفجار » في التاريخ بشكل مسهَب.

سَفرةٌ إلى الشام :

لقد جرت العادة ان يسافر تجار قريش إلى الشام كل سنة مرة واحدة.

فعزم « ابو طالب » على أن يشارك في رحلة قريش السنوية هذه ذات مرة ، وعالج مشكلة ابن اخيه « محمَّد » الّذي ما كان يقدر على مفارقته بأنه قرر أن يتركه في مكة في حراسة جماعة من الرجال ، ولكنه ساعة الرحيل واجه من ابن اخيه العزيز ما غيّر بسببه قراره المذكور فقد شاهد « محمَّداً » وقد اغرورقت عيناه بالدموع لفراق كفيله الحميم « ابي طالب » ، فاحدثت ملامح « محمَّد » الكئيبة طوفاناً من المشاعر العاطفية في قلب « أبي طالب » بحيث اضطرته إلى أن يرضى

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٧٩ ، وامهما هي فاطمة المخزومية.

٢ ـ لقد كتب اليعقوبي في تاريخه : ج ١ ، ص ١٥ طبعة النجف أنّ أبا طالب لم يشترك في هذه الحرب قط ، كما لم يسمح لبني هاشم بالمشاركة فيها أيضاً ، لأنه كان ظلماً وعدواناً وقطيعة رحم واستحلالا للشهر الحرام.

٢٣٠

بمشقة اصطحاب « محمَّد » في تلك الرحلة(١) .

لقد كانت سفرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الّتي قام بها بصحبة عمّه وكافله « ابي طالب » في الثانية عشرة من عمره ، من اجمل وأطرف اسفارهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عَبر فيها على : « مَديَن » و « وادي القرى » و « ديار ثمود » واطّلع على مشاهد الشام الطبيعية الجميلة.

ولم تكن قافلة قريش التجارية قد وَصلت إلى مقصدها حتّى حدثت في منطقة تدعى « بصرى » قضية غيرت برنامج « ابي طالب » وتسببت في عدوله عن المضي به في تلك الرحلة والقفول إلى مكة.

واليك فيما يلي مجمل هذه القضية :

كان يسكن في « بصرى » من نواحي الشام راهبٌ مسيحي يدعى « بحيرا » يتعبّد في صومعته ، يحترمه النصارى في تلك الديار.

وكانت القوافل التجارية إذا مرت على صومعته توقفت عندها بعض الوقت وتبركت بالحضور عنده.

وقد اتفق أن التقى هذا الراهبُ قافلة قريش الّتي كان فيها رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلفت نظره شخصيةُ « محمَّد » ، وراح يحدق في ملامحه ، وكانت نظراته هذه تحمل سراً عميقاً ينطوي عليه قلبه منذ زمن بعيد وبعد دقائق من

__________________

١ ـ ويذكر « أبو طالب » في ابيات له قصّة هذه السفرة وما جرى فيها من البدء إلى الختام نقتطف منها بعض الأبيات :

إنَّ ابنَ آمِنة النبي محمَّداً

عِندي يفوقُ منازل الأولاد

لما تعَلّق بالزمام رحمتُه

والعيسُ قد قلَّصْنَ بالازواد

فَارفضَّ من عينيّ دمع ذارفٌ

مثل الجمان مُفرّق الأفراد

راعيتُ فيه قرابة موصولة

وحفَظت فيه وصية الأجداد

وأمرتُه بالسير بين عمومة

بيض الوجوه مصالت أنجاد

حتّى إذا ما القومُ بُصرى عاينوا

لاقوا على شرك من المرصاد

حبراً فاخبرهم حديثاً صادقاً

عنه وردّ معاشر الحُسّاد

( تاريخ ابن عساكر : ج ١ ، ص ٢٦٩ ـ ٢٧٢ وديوان ابي طالب : ص ٣٣ ـ ٣٥ ).

٢٣١

النظرات الفاحصة ، والتحديق في وجه النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج عن صمته وانبرى سائلا : اُنشدكم باللّه أيّكم وليّه؟

فاشار جماعة منهم إلى « أبي طالب » وقالوا : هذا وليّه.

فقال « ابو طالب » : إنه ابن أخي ، سلني عمّا بدا لك.

فقال « بحيرا » : إنه كائن لابن أخيك هذا شأنٌ عظيمٌ ، نجده في كتبنا وما روينا عن آبائنا ، هذا سيّدُ العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، يبعثه رحمة للعالمين. إحذرْ عليه اليهود لئن رأوه وعرفوا منه ما أعرف ليقصدنَّ قتلَه(١) .

هذا وقد اتفق اكثر المؤرخين على أنَّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتعدَّ تلك المنطقة ، وليس من الواضح أن عمه « أبا طالب » بعثه إلى مكة مع أحد ، ( ويُستَبعد أن يكون عمُه قد رضي بمفارقته منذ أن سمع تلك التحذيرات من الراهب بحيرا ) ، أم أنه اصطحبه بنفسه إلى مكة ، وانثنى عن مواصلة سفره إلى الشام(٢) .

وربما قيل أنه تابع ـ بحذر شديد ـ سفرَهُ إلى الشام مع ابن اخيه « محمَّد ».

اُكذُوبَةُ المُسْتشرقيْن :

لقد آلينا على أنفسنا في هذا الكتاب ان نشير إلى أخطاء المستشرقين وغلطاتهم بل وربما أكاذيبهم ، واتهاماتهم الباطلة ، وشُبههُم الواهية ليتضح للقراء الكرام الى أي مدى يحاول هذا الفريق إرباك أَذهان البُسطاء من الناس ، وبلبلة عقولهم حول قضايا الإسلام!!

إن قضية اللقاء الّذي تم ـ في بصرى ـ بين النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والراهب « بحيرا » لم تكن سوى قضية بسيطة ، وحادثة عابرة وقصيرة ، إلا أنها وقعت في ما بعد ذريعة بايدي هذه الزمرة ( المستشرقون ) فراحوا يصرّون أشدّ اصرار على أنّ

__________________

١ ـ روى تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٣٢ و ٣٣ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٠ ـ ١٨٣ هذه القصّة بتفصيل اكبر وقد اختصرناها هنا تمشياً مع حجم هذا الكتاب.

٢ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٨٢ و ١٨٣.

٢٣٢

ما أظهره رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تعاليم رفيعة سامية بعد ٢٨ عاماً ، واستطاع بها أن يُحيي بها تلك الاُمة الميّتة قد تلقاها من الراهب « بحيرا » في هذه السفرة. ويقولون : إن « محمَّداً » بما تمتع به من قوة ذاكرة ، وصفاء نفس ودقة فكر ، وعظمة روح وهبته اياها يد القدر ، أخذ من الراهب « بحيرا » في لقائه به ، قصص الانبياء السالفين والاقوام البائدة مثل عاد وثمود ، وكثيراً من تعاليمه الحيوية.

ولا ريب في أن هذا الكلام ليس سوى تصور خيالي لا يتلاءم ولا ينسجم مع حياتهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بل وتكذبه الموازين العقلية ، واليك بعض الشواهد على هذا :

١ ـ لقد كان « محمَّد »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجماع المؤرخين اُميّاً ، لم يتعلم القراءة والكتابة ، وكان عند سفره إلى الشام ، ولقائه ب‍ « بحيرا » لم يتجاوز ربيعه الثاني عشر بعد ، فهل يصدق العقل ـ والحال هذه ـ أن يستطيع صبيٌ لم يدرس ولم يتعلّم القراءة والكتابة ولم يتجاوز ربيعه الثاني عشر ان يستوعب تلك الحقائق من « التوراة » و « الإنجيل » ، ثم يعرضها ـ في سن الاربعين ـ على الناس بعنوان الوحي الالهيّ والشريعة السماوية؟!

إن مثل هذا الأمر خارج عن الموازين العادية ، بل ربما يكون من الاُمور المستحيلة لو أخذنا بنظر الاعتبار حجم الإستعداد البشري.

٢ ـ إن مدة هذا اللقاء كان اقل بكثير من أن يستطيع محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مثل تلك الفترة الزمنية القصيرة أن يستوعب « التوراة » و « الانجيل » ، لأن هذه الرحلة كانت رحلة تجارية ولم يستغرق الذهاب والاياب والاقامة اكثر من أربعة أشهر ، لأن قريشاً كانت تقوم في كل سنة برحلتين ، في الصيف إلى « الشام » ، وفي الشتاء إلى « اليمن » ، ومع هذا لا يُظنّ أن تكون الرحلة برمتها قد استغرقت اكثر من اربعة أشهر ، ولا يستطيع اكبر علماء العالم واذكاهم من أن يستوعب في مثل هذه المدة القصيرة جداً محتويات ذينك الكتابين ، فضلا عن صبي لم يدرس ، ولم يتعلم القراءة والكتابة من احد.

٢٣٣

هذا مضافاً إلى أنه لم يكن يصاحبصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك الراهب كل تلك الاشهر الاربعة بل ان اللقاء الّذي وقع إتفاقاً في أحد منازل الطريق لم يستغرق سوى عدة ساعات لا اكثر.

٣ ـ إن النَص التاريخي يشهد بأن « ابا طالب » كان ينوي اصطحاب النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الشام ، ولم يكن مقصده الأصلي « بصرى » بل إن « بصرى » كان منزلا في أثناء الطريق تستريح عنده القوافل التجارية أحياناً ، ولفترة جداً قصيرة.

فكيف يمكن في مثل هذه الصورة ان يمكث رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تلك المنطقة ، ويشتغل بتحصيل علوم « التوراة » و « الانجيل » ومعارفهما؟ سواء قلنا بأن « ابا طالب » أخذه معه إلى الشام ، أو عاد به من تلك المنطقة إلى مكة أو أعاده بصحبة أحد إلى مكة؟!

وعلى كل حال فان مقصد القافلة ومقصد « ابي طالب » لم يكن « بصرى » ليقال : ان القافلة اشتغلت فيها بتجارتها ، بينما اغتنم « محمَّد » الفرصة واشتغل بتحصيل معارف العهدين.

٤ ـ إذا كان محمَّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد تلقى اُموراً ومعارف من الراهب المذكور اذن لاشتهر ذلك بين قريش حتماً ، ولتناقل الجميع خبر ذلك بعد العودة إلى مكة.

هذا مضافاً إلى أنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه ما كان يتسطيع أن يدعي امام قومه في ما بعد بأنه اُميُّ لم يدرس كتاباً ، ولا تلمذ على أحد ، في حين أن النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم افتتح رسالته بهذا العنوان ، ولم يقل أحدٌ ، يا محمَّد كيف تدعي بأنك لم تقرأ ولم تدرس عند احد وقد درست عند راهب « بصرى » وتلقيت منه هذه الحقائق الناصعة وانت في الثانية عشرة من عمرك؟

لقد وَجَّه مشركوا مكة جميع انواع الإتهام إلى رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبالغوا في البحث عن أيّة نقطة ضعف في قرآنه يمكن أن يتذرعوا بها لتفنيد دعوته ، حتّى أنهم عندما شاهدوا النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذات مرةْ عند

٢٣٤

« مروة » يجالس غلاماً نصرانياً استغلوا تلك الفرصة وقالوا : لقد أخذ « محمّد » كلامه من هذا الغلام ، ويروي القرآن الكريم مزعمتهم هذه بقوله : «ولَقدْ نَعلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إنَّما يُعَلِّمُهُ بَشرٌ لِسانُ الَّذي يُلْحدْونَ إليْه أَعجَمِيَّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيّ مُبيْنٌ »(١) .

ولكن القرآن الكريم لم يتعرض لذكر هذه الفرية قط كما أن قريشاً المجادلين المعاندين لم يتذرعوا بها أبداً ، وهذا هو بعينه دليلٌ قاطعٌ وقويٌ على أن هذه الفرية من افتراءات المستشرقين في عصرنا هذا ، ومن نسج خيالهم!!

٥ ـ إن قصص الانبياء والرسل الّتي جاءت في القرآن الكريم على وجه التفصيل تتعارض وتتنافى مع ما جاء في التوراة والانجيل.

فقد ذُكِرَت قصصُ الأنبياء واحوالهم في هذين الكتابين بصورة مشينة جداً ، وطُرحت بشكل لا يتفق مع المعايير العلمية والعقلية مطلقاً ، وان مقايسة عاجلة بين هذين الكتابين من جانب وبين القرآن الكريم من جانب آخر تثبت بأن قضايا القرآن الكريم ومعارفه لم تتخذ من ذينك الكاتبين بحال ، ولو أن النبيَ محمَّداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد اكتسب معارفه ومعلوماته حول الانبياء والرسل من العهدين لجاء كلامُه مزيجاً بالخرافات والأَوهام(٢) .

٦ ـ إذا كان راهب « بُصرى » يمتلك كل هذه الكمية من المعلومات الدينية والعلميّة الّتي عرضها رسولُ اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلماذا لم يحض هو بأي شيء من الشهرة ، ولماذا ترى لم يُربِّ غير « محمَّد » في حين أن معبَده كان مزار الناس ومقصدَ القوافل؟!

٧ ـ يعتبرُ الكتاب المسيحيّون « محمّداً »صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلا أميناً صادقاً ، والآيات القرآنية تصرح بأنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم مسبق

__________________

١ ـ النحل : ١٠٣.

٢ ـ تتجلى هذه الحقيقة أكثر فاكثر إذا ما قارنّا بين مواضيع القرآن الكريم ، وبين ما جاء في نصوص العهدين ( التوراة والأنجيل ) وقد تصدى بعض الكتاب الاسلاميين لمثل هذه المقارنة ، وقد تعرضنا لها ايضاً في بعض دراساتنا.

٢٣٥

أصلاً بقصص الأَنبياء والاُمم السابقين ، وأن معلوماته في هذا الصعيد لم تحصل لديه إلا عن طريق الوحي.

فقد جاء في سورة « القصص » الآية (٤٤) هكذا : «وما كُنْتَ بجانِب الغرْبيِّ إذْ قَضيْنا إلى مُوْسى الأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشّاهِديْن ».

وجاء في سورة « هود » الآية (٤٩) بعد نقل قصة نوح : «تِلْكَ مِنْ أَنباء الْغَيْبِ نُوحيها إليكَ ما كُنْتَ تَعلَمُها أَنْت وَلا قومُك مِنْ قَبْل هذا ».

إن هذه الآيات توضح أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن على علم أبداً بهذه الحوادث ، والوقائع.

وهكذا جاء في الآية (٤٤) من سورة « آل عمران » : «ذلِكَ مِنْ أنْباء الْغيْبِ نُوْحيه إلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيهِمْ إذْ يُلْقُوْنَ أقْلامهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ، وَما كُنْتَ لَديْهم إذْ يَخْتصِمُونَ ».

إن هذه الآية وغيرها من الآيات العديدة تصرح بأن هذه الأخبار الغيبيّة وصلت إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن طريق الوحي فقط ، وهو لم يكن على علم بها مطلقاً.

نَظْرةٌ إجْماليَّة إلى التَوْراة الحاضِرَة :

إنَّ هذا الكتاب السَماويّ تورَّط في تناقضات عجيبة في بيان قصص الأنبياء والمرسلين لا يمكن نسبتها إلى الوحي مطلقا ، وها نحن نأتي هنا بنماذج في هذا المجال من التوراة ليتضح لنا أن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو كان قد أخذَ قضايا القرآن الكريم من ذلك الراهب فلماذا لا يحتوي هذا الكتاب العظيم على تلك الأضاليل الّتي انطوى عليها « التوراة » و « الانجيل ».

واليك بعض ما جاء حول الأَنبياء والمرسلين في « التوراة » و « الانجيل » ونقارن ذلك بما جاء في القرآن الكريم ليتضح مدى الفرق بين الكتابين ( العهدين ، والقرآن ).

* * *

٢٣٦

١ ـ داودعليه‌السلام :

جاء في التوراة : « إن داود رأى من على السطح امرأة تستحمّ ، وكانت المرأة جميلة المنظر جداً ، فارسل داود وسأل عن المرأة ، فقال واحد : إنها امرأة اُوريّا فأرسل داود رسلا وأخذها فدخلت إليه فاضطجع معها وهي مطهَّرة من طمثها ثم رجعت إلى بيتها ، وحبلت المرأة ، فارسلت وأخبرت داود وقالت : إني حُبلى ، فارسل داود إلى يؤاب يقول : اجعلوا أوريّا في وجه الحرب الشديدة(١) ، وارجعوا من ورائه فيضرب ويموت فلما سمعت امرأة أوريّا أنه قدمات اُوريّا رجلُها ندبت بعلها ، ولمّا مضت المناحة أرسل داود وضمَّها إلى بيته وصارت له إمرأة ، وولدت له إبناً ، وامّا الأمرُ الّذي فعله داود فقبح في عينيّ الرب »!!(٢) .

هكذا تصف التوراة النبيّ الكريم داود ، وترميه بالزنا ، واكراه امرأة محصنة على خيانة زوجها!!

بينما يصف القرآن الكريم النبيّ داودعليه‌السلام بافضل الاوصاف إذ يقول ( في الآية ١٥ و ١٦ من سورة النمل ) : «وَلَقَدْ آتَيْنا داوود وسلَيْمانَ عِلْماً وَقالا ألحَمْدُ للّه الَّذيْ فَضَّلنا عَلى كثير مِنْ عِبادِهِ وَقالَ يا أيُّهَا الناسَ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَيْر وَاُوتيْنا مِنْ كُلِّ شَيء إنَّ هذا لَهُوَ الفَضْلِ الْمُبِيْنِ ».

٢ ـ النبيّ سليمانعليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن النبيّ العظيم سليمانعليه‌السلام :

١ ـ « وداود الملكُ ولد سليمان من الّتي لاُوريّا »(٣) .

أي ان سليمان النبيّ الكريم ـ والعياذ باللّه ـ هو ابن زنا!!

__________________

١ ـ أي في مقدمة الجيش المحارب.

٢ ـ العهد القديم ( التوراة ) : صموئيل ، الثاني الاصحاح الحادي عشر ٣ إلى ٢٧.

٣ ـ إنجيل مَتَّى : الاصحاح الأول ٦.

٢٣٧

٢ ـ وَأَحَبَّ المَلِكُ سُلَيمان نساء غريبة مِنَ الذين قالَ عَنْهُمْ الربُ لبنيّ اسرائيل : لا تدخلونَ إليهم ، وهُمْ لا يَدُخلونَ إليكم لأَنَّهُمْ يُميلونَ قلوبَكم وراء آلهتهم ، فالتصق سلَيمانُ بهؤلاء بالمحبَّة ، وكانت له سبع مئة من النساء السيدات ، وثلاث مئة من السراري فأمالت نساؤه قلبَهُ وكان في زمان شيخوخة سليمان ان نساءه أملن قلبه وراء آلهة اُخرى ، ولم يكن قلبُه كاملا مع الرب الهِهِ كقلب داود ابيه ، فذهب سليمان وراء عَشتُورت إلاهة الصيد ونين ، وملكوم رجس العمونيين ، وعمل سليمان الشرَّ في عيني الرب ، ولم يتبع الرب تماماً كداود أبيه ، فغضب الربُ على سليمان لأن قلبه مال عن الرب إله إسرائيل »!!!(١) .

إن سليمان ـ حسب هذه التعابير التوراتية ـ يعشق النساء الاجنبيات ، ويتقرب اليهن بصنع أصنام لَهُنَّ. ويعبدها معهن ، ويرتكب الشرور الّتي أغضبت الرب!!

بينما يقول القرآن الكريم عن سليمانعليه‌السلام «ولقد آتيْنا داودَ وَسُلَيْمانَ عِلماً »(٢) .

ويقول : «وَلِسُلَيْمان الرِّيْح عاصِفَة تَجْري بأَمْره إلى الأرض الَّتي باركْنا فيها ، وَكنا بِكُلِّ شَيء عالِمين »(٣) .

إنه نبي عظيم اختاره اللّه تعالى لوحيه ، وأصطفاه لأَداء رسالاته.

٣ ـ يعقوبعليه‌السلام :

إنَّ « التوراة » تصف النبي العظيم يعقوبعليه‌السلام بأنه رجل كذّاب مخادع ، أخذ النبوة من ابيه بالمكر والخداع ، « فعِند ما شاخَ اسحاقُ وكَلّت عيناهُ عن النظر دعا عيسو إبنه الاكبر ، وطلب منه أن يصطادله صيداً ، ويصنع له طعاماً جيداً حتّى يباركه ، ويعطيه النبوة ، ولكن يعقوب ( ابن إسحاق من رفقة

__________________

١ ـ التوراة : الملوك الأول الاصحاح : ١١ ، العبارات ١ : ١١.

٢٣٨

زوجته الأخرى ) بادر إلى صنع طعام لذيذ لأبيه وتظاهر بأنه عيسو ، لابساً ثياب عيسو ، وقطعاً من جلود جَدْيي المعزى على عنقه لأن عيسو كان مشعراً وكان يعقوب املس الجسد ، فبارك اسحاق ابنه يعقوب ومنحه النبوة ، وبعد ذلك قدم عيسو من الصيد ، فعرف اسحاقُ بانه خُدِع ، وأن يعقوب أخذ منه النبوة بالمكر ، فارتعد اسحاقٌ ارتعاداً عظيماً جداً وقال لعيسو متأسفاً : قد جاء أخوك بمكر ، وأخذ بركتك »!!(١) .

هذا هو حال يعقوب في لسان « التوراة » المحرفة!!

وأما القرآن الكريم فانه يقول عن هذا النبيّ الطاهر : «وَوَهبْنا لَهُ إسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاّ هَدَيْنا مِن قَبلُ وَمِنْ ذريّته داوود وَسُليمانَ وَأيّوبَ وَيُوسفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزي الُمحْسِنيْن »(٢) .

ويقول تعالى أيضاً : «وَاذْكُرْ عِبادنا إبْراهِيْمَ وَاسْحاقَ وَيَعْقُوبَ اُوْلى الأَيْدي والأَبْصار. انا أخلَصْناهُمْ بخالِصَة ذِكْرى الدّار. وإنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفيْنَ الأَخيار »(٣) .

٤ ـ إبْراهيمعليه‌السلام :

تقول « التوراة » عن إبراهيمعليه‌السلام إنّه لمّا اراد أن يدخلَ مصر قال لِزوجته سارة : إني قد علمتُ أنك إمرأة حسَنة المنظر ، فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون : هذه إمرأَته ، فيقتلونني ، ويَسْتَبْقونكِ ، قولي إنكِ اُختي ، ليكونَ لي خيرٌ بسببكِ وتحيا نفسي من أجلِكِ.

وكذلك فعَلتْ سارة واخِذت إلى بيت فرعون ، فصنع إلى إبرام خيراً

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح السابع والعشرون : ١ إلى ٤٦ ، وقد ذكرنا هذه القصّة من التوراة بتلخيص.

٢٣٩

بسببها ، وصار له غنم ، وبقر ، وحمير ، وعبيد ، وإماء ، واُتن ، وجمال ، ولما عرف فرعون ـ في ما بعد ـ ان سارة زوجة ابراهيم ، وليس اُخته عاتبه قائلا : لماذا لم تخبرني إنها إمرأتك ، لماذا قلت : هي اُختي حتّى أخذتها لي لتكونَ زوجتي والآن هو ذا إمرأتك ، خذْها واذهب »(١) .

إن ابراهيم الخليلعليه‌السلام في وصف التوراة رجلٌ كذابٌ ، يكذب ويحتال.

أما القرآن الكريم فيصف هذا النبي الجليل بأعظم الأوصاف ، ويعتبره أعظم الأنبياء إذ يقول عنه انه :

١ ـ حنيف مُوحِّدٌ للّه : «ولكِنْ كانَ حَنِيفاً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٢ ـ إمامُ الناس : «إنّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إماماً » ( البقرة : ١٣٤ ).

٣ ـ مُسْلِمٌ : «ولكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً » ( آل عمران : ٦٧ ).

٤ ـ حَليمٌ : «إنَّ إبراهيم لأوّاةٌ حَلِيْمٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٥ ـ امة كامِلَة بمفرده : «إنّ إبراهيم كانَ أُمَّة » ( النحل : ١٢٠ ).

٦ ـ أواهٌ يَخشى اللّه : «إنَّ إبراهِيْم لأوّاهٌ » ( التوبة : ٨٤ ).

٧ ـ مصطفى : «لمنَ المُصْطَفين الأَخْيار » ( ص : ٤٨ ).

٨ ـ ذو قلب سَليم : «إذ جاء رَبّه بِقَلْب سَلِيْم » ( الصافات : ٤٨ ).

٥ ـ المسيحعليه‌السلام :

إن عيسى ـ حسب رواية الإنجيل ـ يحتقر اُمه ، ويزدري بها ، فذات يوم جاء إخوته واُمه ووقفوا خارجاً وارسلوا يدعونه ، وكان الجمع جالساً حوله ، فقالوا له « هو ذا امُّك وإخوتك خارجاً يطلبونك ، فأجابَهُم قائلا : من اُميّ وإخوتي؟ ثم نظرَ حوله إلى الجالِسين وقال : ها اُمّي وإخوتي ، لأَنَّ مَنْ يصنع مشيئة اللّه هو أخي واُختي واُمّي »!!(٢)

__________________

١ ـ سفر التكوين : الاصحاح الثاني عشر ١ ـ ٢٠.

٢ ـ إنجيل مرقس : الاصحاح الثالث : ٣١ ـ ٣٥.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

أمّا المياه فتأتيها من لبنان بأقنيةٍ قديمةٍ، يُظنّ أنّها من بقايا الصليبيّين، بدليل تسميتها حتّى الآن باسم قناطر البرنس، وتتوزّع في كلّ أنحاء البلدة وشوارعها، وتدخل دورها وبناياتها، وتتّصل إلى الطبقة الثالثة على ارتفاعٍ أكثر من خمسة عشر ذراعاً. ومخرج الماء من ينبوعٍ عذبٍ يُقال له رشعين في ناحية الزاوية من قائمقاميّة البترون التابعة لمتصرّفية لبنان.

(أمّا النهر فمخرجه من جبل لبنان فوق قرية بشري تحت الأرز الشهير، من مكان يُقال له الدواليب، ويجري إلى الجنوب الغربي قليلاً، فيتّحد معه جدولان يُقال لأحدهما رشعين وللآخر المخاضة، ومن ثمّ يدخل طرابلس ويخرقها من الشرق إلى الغرب فيشطرها شطرين غير متساويين ويخرج منها فيمرّ في أرضٍ كثيرة الجنائن والبساتين، ويصبّ في بحر الروم إلى الشمال من المينا على مسافة ميلٍ عنها.

وغزارة الماء وخصب تربة البلاد حملا الأهلين على الرغبة في حراثة الأرض، فأتقنوها حتّى صارت طرابلس أوّل بلدان سورية تقدّماً في الزراعة، وأمست أرضها ذات ثمار كثيرة مشهورة عنها أخصّها الليمون بأنواعه ؛ ذلك ما أصبح مصدراً لتجارةٍ متّسعةٍ فيه.

أمّا التجارة فهي متّسعة في تصدير الحاصلات ضيّقة في إيراد البضائع الأوروبية، وأخصّ الأصناف الصادرة: الحرير والحبوب والليمون والزيت والصابون وغير ذلك.

(أمّا الصناعة فقاصرة جداً، مع أنّها اشتهرت في الزمن السالف كما شهد بذلك مؤرّخو الافرنج الذين كتبوا وقائع الحرب الصليبيّة).

ثمّ وصف ترقّيها في العلم ومدارسه، وفضلها على أكثر المدن السورية في هذه الناحية، ولم يقصّر ومَن أولى به بإيفائها حقّها، وهو ابنها البار، وهي أوّل بلد مسّ جسمه ترابها.

وإذا عرفت أنّ هذا الوصف لها كان منذ سبع وخمسين سنة: أي في عهد مبدأ النهضة السورية العمرانية والعلمية في بلاد الشام، وبعد تراجعها العظيم يتبين لك أنّها قد بلغت في هذه الأيّام شأواً بعيداً في كلّ ناحيةٍ من نواحي العمران والاقتصاد والعلم والآداب والسياسة والوطنيّة الصحيحة، لمرافقتها النهضة التي شملت أكثر المدن السورية، دع ما أعان هذه النهضة من الوسائل التي كانت تكاد تكون مفقودة في ذلك العهد، ومنها صعوبة المواصلات وقلّة المطابع وندرة الكتب.

٣٠١

وطرابلس ضربت الرقم القياسي السوري الساحلي في جهادها الوطني والسياسي في سبيل إحقاق حقّها بالالتحاق في الوحدة السورية، وأبلت بلاءً حسناً في كلّ مرحلةٍ من مراحل القضيّة السورية الخاصّة والعربية العامّة، منذ بدء الاحتلال وإلقاء الحرب العامّة أوزارها إلى يومنا هذا.

ولولا أن التبسّط في تاريخ هذا البلد الراقي قديماً وحديثاً يطول به الخطب ويخرجنا عن صدد موضوع كتابنا، لما اقتصرنا على إيراد هذه الجملة غير الوافية بقدرها، وبما لها من المكانة في نفوسنا، وبما نضمره لها من إجلال وإكبار، ولرجالها المخلصين المجاهدين من إعجابٍ وإعظام.

تاريخها القديم:

قال المؤرّخ جرجي يني الطرابلسي في تاريخ سوية:

(أمّا تاريخ البلدة فقديم جدّاً، ومع أنّ ذكرها لم يرد في الكتاب المقدّس يعتقد بعض المدقّقين بكيانها منذ حين قديم.

أمّا ما يعلم عنها تاريخاً فهو أنّه بعد أن أخذت بلاد فينيقية بالتقدّم الحي والمعنوي، وكانت ولايات مستقلّة تنضمّ إلى بعضها برباط الدين والجنسيّة، على أنّها منفصلة عن بعضها في الأحكام الداخلية والخارجية، خلا الحلقة الوطنية بالدفاع والهجوم، رأت أمّهات الممالك وهي: صيدا وصور وارواد وجوباً لإقامة دار شورى ترى في المصالح العامّة للبلاد. فأُنشئ المجلس المذكور في مدينة طرابلس، ومع أنّ التاريخ لم يذكر زمان إنشائه، ولا أوّل زمان عُرفت به طرابلس بلدة ؛ نرى أنّ المجلس لم يقم يومئذٍ في بلدةٍ معروفةٍ بل إنّ عدم قبول تلك الدول الكبيرة قيام ندوتها في بلدة إحداهن لمغايرة الأخرى، وتحذّراً من استبدادها بالقوة وعدم رغبة جميعها بإعطاء تلك المنحة العظيمة للدول الثانوية، حمل القوم على انتخاب أرض محايدة أو قرية صغيرة يشيدون فيها مجلسهم، فكانت حينئذٍ نشأة طرابلس وهي غير ذات اسم عام، بل ربّما أطلق على قسمٍ منها، ومع أنّه عرف تماماً أنّ هذا المجلس كان مركّباً من أعضاء صوريّين وصيدونيّين وارواديّين، لم يعرف إن كانت الولايات الأُخرى الفينيقية قد اشتركت بالعضويّة، كاشتراكها بقبول أحكامه ممّا برهنته بعض الحوادث التاريخية.

وهذا التخمين يقارب الواقع ؛ لأنّه حتّى الآن لم يُعرف للبلدة اسم فينيقي، مع أنّ دار الشورى قد ذُكرت

٣٠٢

مراراً في تاريخ تلك البلاد، ولو وجدت أقل مشابهة بين الكلمة اليونانية التي تركّب منها اسم طرابلس وهي تريبوليس، واللغة الفينيقية لحكم القوم المدقّقون بالاشتقاق، ولا جرم أنّ التاريخ يقول إن أعضاء ذلك المجلس كانوا مئة عضو من الصيدونيين، وبما أنّ صيدا لم تكن أكثر أهمّيّة وإشغالاً من معاصرتيها صور وارواد، لا يظن أنّ أعضاء تينك البلدتين كانوا أقلّ عدداً.

ولا يخفى أنّ وجود ثلاثمئة عضو كافٍ لبناء ثلاث حلل ؛ لأنّ أكثر الأعضاء كانوا يلتزمون بإحضار نسائهم معهم. وكرّ الزمان فكثرت الذكور والمهاجرون فعمرت البلدة بهم.

والظاهر أنّ حكومتها استمرّت بيد الثلاث الدول ؛ ذلك أنّ كلاًّ منها كانت تحكم حلّتها بشرائعها الخصوصيّة ؛ فكان بين كلّ حلّة وأُخرى مسافة ستاديا وهي نحو فرسخ، يؤيّد ذلك الآثار المستمرّة حتّى يومنا، دليلاً على مواقع الحلل حيث كانت الأُولى في محل الميناء الحالية، والثانية في السلفتانية، وهي الآن مدفن للروم الأرثوذكس.

وهنالك بقايا قناة ماء، يظهر أنّها كانت تأتي تلك الحلّة من الضنية حيثما تمرّ في أراضي مجدليا، فتظهر آثارها عند طواحين السكر، والثالثة غربيّ المدينة الحاليّة عند البحصاص.

(ولقد قلنا إنّ التاريخ لم يكشف لنا عن زمان بنائها، إلاّ أنّ من الأدلّة ما يُظهر شيئاً من ذلك، فنقول:

إنّ تشكيل المجلس لم يتم إلاّ بعد مجيء نبوخذ نصّر لسورية، ولا يخفى أنّ ذلك الفاتح أتى البلاد غازياً في سنة (٦٠٦ ق. م) وأخذ أورشليم وجلا اليهود، فاستمرّوا في الأسر سبعين سنة.

وسنة (٥٧٣ ق. م) أخذ صور بعد أن حصرها ثلاث عشرة سنة، فإن كان تشكيل الديوان في تلك الأثناء فيكون بناؤها إذاً في أوساط الجيل السادس قبل المسيح، على أنّنا لا نجزم في ذلك حكماً ؛ لأنّنا ضمَّنا المقدّمات فأنتجنا هذه النتيجة.

أمّا الأدلّة التاريخية فقاصرة في هذا الصدد، ولم نعثر على ذكر لطرابلس إلاّ في أواسط الجيل الرابع قبل الميلاد، ولا يستبعد عدم امتداد قديمتها لأكثر من ذلك، على أنّ المجلس الذي عقد سنة ٣٠٢ ق. م للمفاوضة في أعمال الفرس المغايرة، وتسلّطهم على البلاد بعنفٍ كان في مدينة طرابلس، وعليه قر القرار على رفع راية العصيان ضد الفرس الظالمين.

(ووجود المجلس في ذلك دليل يدحض رأي مَن زعم بأنّ الإسكندر

٣٠٣

المكدوني هو الذي أمر ببنائها، حال كونها قد ذكرت بصراحة قبل زمانه بعشرين سنة كما تقدّم.

ولم يكن لطرابلس موقع مهم في التاريخ ؛ ولذلك كان يمرّ عليها مرّ السحاب، على أنّه بزوال دار شورى الفينيقيين منها حطّت أهمّيّتها إلى أن تداولت عليها الدول.

فلمّا صارت سورية مملكة يونانية مستقلّة بعد وفاة الإسكندر، واستبدّ السلوقيّون بالسلطة حتّى جرت بين انتيغونوس وسولوقس بعض الملاحم والمعارك الشديدة، فأخذ انتيغونوس وسولوقس بعض الملاحم والمعارك الشديدة، فأخذ انتغونوس يهتم ببناء السفن، فكانت طرابلس أيضاً من المدن التي رَمّمها ولذلك أمر بالأخشاب فجيء بها من لبنان على ألف نير كناية عن ألفين من الثيران.

وبنيت السفن فيها لخدمته على أنّه لم يحز نصراً فتسلّط السلوقيّون على البلاد.

ولم يكن لطرابلس أهمّيّة تذكر غير أنّها بعد حين ذكرت في أخبار المكابيين، حيث قيل إنّ ديمتريوس بن سولوقس باتر العاشر من الملوك السلوقيين (جلس سنة ١٦٢ ق. م) كان في رومية ففرّ عن حدوث المشاغب في سورية بعد أن أبت ندوة رومية (السناتو) أن تسمح له بالرجوع ليتبوّأ تخت ملكه. وأتى بجمعٍ عظيمٍ وسفن ميناء طرابلس وسار إلى المحلاّت الواجبة (٢ مك - ص ٨ و ١٤ عدد ١)، وقد ذكر صاحب سفر الأخبار قوله:

(وروى بونتانوس أن طرابلس سجدت في أيّام السلوقيين للمشتري الاطرابلسي. ذكره مؤلّف كتاب سورية المقدّسة، وروى لاكوبان في مجلد ٣ صحيفة ٩٩ أنّه توجد معاملات عديدة لأنطونيوس مع قلوبطرة ثمّ لاغوسطس وينرون وتريانوس عليها اسم طرابلس.

وفي دائرة المعارف للبستاني من مقالة للأستاذ جرجي يني في تاريخ هذا البلد: (وفي الفتح الروماني مرّ عليها بومبيوس وكان فيها قوم من الأيطوريين، فخضد شوكتهم وقتل زعيمهم حتّى دانت للرومان، وظلّت على ولائهم إلى أن فتحها المسلمون بخدعة يوقنا، ولكن تردّدت عليها غزوات الروم ومردة لبنان، وتقلّبت على السيادة فيها الدول الإسلامية).

تاريخ طرابلس الإسلامي:

لما استخلف أبو عبيدة يزيد بن أبي سفيان على دمشق وسار إلى فحل، سار يزيد إلى مدينة صيدا وعرقة وجبيل وبيروت، وهي سواحل

٣٠٤

دمشق على مقدّمته أخوه معاوية ففتحها فتحاً يسيراً، وجلا كثيراً من أهلها.

وتولّى معاوية بنفسه في ولاية يزد. ثمّ إنّ الروم غلبوا على بعض هذه السواحل في آخر خلافة عمر وأوّل خلافة عثمان، فقصدهم معاوية ففتحها ثمّ رمّمها وشحنها بالمقاتلة وأعطاهم القطائع.

ولمّا ولي عثمان الخلافة وجمع لمعاوية الشام، وجّه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وهي ثلاث مدن مجتمعة.

ثمّ بنى في مرج على أميال منها حصناً سُمّي حصن سفيان، وقطع المادة عن أهلها من البرّ والبحر وحاصرهم، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدّهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم.

فوجه إليهم بمراكب كثيرة، ركبوا فيها ليلاً وهربوا، فلمّا أصبح سفيان، وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه ثمّ يغدو على العدو، فوجد الحصن خالياً فدخله وكتب بالفتح إلى معاوية، فأسكنه معاوية جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم، ثمّ بناه عبد الملك بن مروان وحصّنه، ثم نقض أهله أيّام عبد الملك ففتحه ابنه الوليد في زمانه.

دخلت طرابلس في السلطان الإسلامي مع المدن الساحليّة التي افتتحت، ولما خاف عليها معاوية من غزوات الروم استدعى قوماً من الفرس ليستوطنوا تلك السواحل ويحموها من اعتداء الغازين، يؤيّد ذلك ما ذكره اليعقوبي في كتابه البلدان ؛ فقال عند ذكره جند دمشق:

(ولجند دمشق من الكور على الساحل كورة عرقة فيها قوم من الفرس.

ومدينة اطرابلس وأهلها قوم من الفرس.

وجبيل وصيداء وبيروت وأهل هذه الكور كلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان).

وقال البلاذري في فتوح البلدان: (نقل معاوية في سنة ٤٩ أو سنة ٥٠ إلى السواحل قوماً من زُط البصرة والسباتجة وأنزل بعضهم أنطاكية).

وفي تاريخ ملوك الروم(١) : (في السنة العاشرة لملك قسطنطينوس بن قسطنطين (٣٢٧) جاء إلى نواحي طرابلس فينيقية وبنى بلاداً سمّاها باسمه.

وجاء الإسلام، ففتحوا أنطاكية، وهرب القيصر هراكليوس منها فلم يقتصر

____________________

(١) تاريخ سورية الجرجي بني ص ٣٧٧.

٣٠٥

يوكنا الذي أسلم واتّحد مع الفاتحين على الحيل الأُولى التي سلم بها المدن الحصينة، بل إنّه أتى مدينة طرابلس الشام ولم تكن قد أُخذت مع بعض الثغور، فلمّا دنا من البلدة بفرقته، وكانوا من الرومان الذين أسلموا، خرج لملاقاته الرومان الذين في طرابلس ظانّين أنّه لم يزل مخلصاً لدولتهم غير عارفين بالذي جرى، وفتحوا له أبواب المدينة فدخلها، وأقام فيها منتظراً الزمان المسمّى لمجيء الإسلام. فلمّا حان الأجل حمل على القلعة فأخذها بلا ممانعة).

على أنّا لا نعلم المقصود بالقلعة ؛ لأنّ القلعة الحالية إنّما هي من بناء الصليبيين، فلا يبعد أن تكون القلعة المأخوذة يومئذٍ من حصون الرومان.

وأقام يوكنا فيها ناشراً راية الصليب الرومانية، إلاّ أنّه أرسل خبراً إلى أبي عبيدة بما كان. وبعد حين وصلت ميناء طرابلس سفن كثيرة، من قبرص وكريت مشحونة بالسلاح والمؤن لنجدة جنود قسطنطين، وهي غير عالمة بحالة طرابلس. فلمّا رست أقبل يوكنا عليها واعتقلها وأخذ رجالها أُسراء حرب، وكان أبو عبيدة قد بعث شرذمة من جنده إلى طرابلس فسلّمها يوكنا إلى العسكر، وركب السفن بمن معه ورفع الراية الرومانية وسار إلى صور).

وقامت الحكومة الإسلامية في طرابلس، إلاّ أنّ صاحب سفر الأخبار يقول إنّ الدولة الإسلامية لم تستقرّ فيها، والظاهر أنّ ذلك كان لأنّ مردة لبنان كانوا يتملّكونها.

(ولمّا ولي عثمان الخلافة(١) وجمع لمعاوية الشام، وجّه معاوية سفيان بن مجيب الأزدي إلى طرابلس، وهي ثلاث مدن مجتمعة.

ثمّ بنى في مرج على أميال منها حصن سُمّي حصن سفيان، وقطع المادّة عن أهلها من البرّ والبحر، وحاصرهم، فلمّا اشتدّ عليهم الحصار اجتمعوا في أحد الحصون الثلاثة، وكتبوا إلى ملك الروم يسألونه أن يمدّهم أو يبعث إليهم بمراكب يهربون فيها إلى بلاد الروم، فوجّه إليهم بمراكب كثيرة ركبوا فيها ليلاً وهربوا، فلمّا أصبح سفيان وكان يبيت هو والمسلمون في حصنه، ثمّ يغدو على العدو، وجد الحصن خالياً فدخله، وكتب بالفتح إلى معاوية فأسكنه معاوية، جماعة كثيرة من اليهود، وهو الذي فيه المينا اليوم. ثمّ بناه

____________________

(١) تاريخ الدبس مجلد ٥ ص ٩.

٣٠٦

عبد الملك بن مروان وحصّنه، ثمّ نقض أهله أيّام عبد الملك، ففتحه ابنه الوليد في زمانه)(١) .

وقد ذكر طرابلس أبو القاسم عبيد الله بن ضرداويه من رجال أوائل القرن العاشر في كتابه المسالك والممالك، فيما ذكره من إقليم في جملة كور دمشق، فذكر كورة جونيه وكورة طرابلس وكورة جبيل، ثمّ بيروت وصيداء.

والمقدسي ذكر من المدن الساحلية بيروت وطرابلس وعرقة ؛ قال:

(وصيداء وبيروت مدينتان على الساحل حصينتان وكذلك طرابلس إلاّ أنّها أجل).

وذكرها الاصطخري وابن حوقل، ووصفها كلاهما بأنّها: فرضة دمشق في زمنهما، وأنّها وافرة الغلات، يقيم فيها جند الشام ومنها يخرجون لغزو الروم، ويثنيان على لين عريكة أهلها ووفرة مرافقها.

وقال ابن رسته:

ومدينة اطرابلس وأهلها قوم من الفرس، كان معاوية بن أبي سفيان نقلهم إليها، ولها مينا عجيب يحتمل ألف مركب.

وفي شعبان سنة ٤٣٨ هـ ١٠٠٤م تجوّل في سواحل الشام ناصر خسرو الفارسي فوصف المدن الساحليّة في رحلته وصفاً مستجاداً، وقال:

(إنّه مرّ أوّلاً بطرابلس سائراً إليها من حلب، فوصف حدائقها ومزارعها من قصب السكّر والنارنج والموز والنخيل. وكان مروره فيها يوم عصرهم قصب السكر.

وتوسّع في وصف أسوارها من نحيت الحجارة ذات بابٍ واحدٍ في شرقيّها وخنادقها ومناجيقها لردّ غارات الروم، وأسواقها شبه القصور غاية في النظافة، ودورها ذات أربعة إلى ستة طوابق.

ثمّ وصف فواكهها اللذيذة المتوفّرة وجامعها الجميل الهندسة، ومياهها النميرة.

وكان أهلها حينئذٍ على مذهب الشيعة ٢٠٠٠٠ ومن معاملهم: معمل لورق الكتابة كمعمل كاغد سمرقند.

وكانت في ذلك الوقت في حوزة ملوك مصر الفاطميّين أعفوها عن أداء الضرائب لأمانة أهلها في واقعة سابقة انهزم فيها الروم).

____________________

(١) عن ابن الأثير ج ٢ ص ٢١٠.

٣٠٧

منيت طرابلس كما منيت المدن الساحلية بغزوات الروم المتتابعة.

ففي سنة ٣٥٧ هـ ٩٦٨م حاصرها نيقيفور ملك الروم ليلةً واحدةً وأحرق ربضها.

كما ذكر ذلك يحيى بن سعيد الأنطاكي ؛ وقال في حوادث سنة ٣٦٤هـ ذاكراً غزوة الملك يوحنّا زيميسيس الذي يدعوه العرب ابن الشمشقيق، إنّه نزل على طرابلس وقاتلها ولم يتمّ له فيها شيء.

وقال ابن القلانسي:

(إنّه نزل عليها وأقام حاصراً لها تقديراً أربعين يوماً يقاتل أهلها ويقاتلونه، فبينما هو في ذلك إذ دس إليه خال بسيل وقسطنطين سمّاً، فاعتلّ منه وتوجّه إلى القسطنطينية وتوفّي).

وذكرها الشريف الإدريسي المتوفّى سنة ١١٨٧م حيث قال في وصفها:

(مدينة عظيمة عليها سور من حجرٍ منيع ولها رساتيق وكور وضياع جليلة، وبها من شجر الزيتون والكروم وقصب السكّر وأنواع الفواكه وضروب الغلاّت الشيء الكثير.

والوارد والصادر إليها كثير، والبحر يأخذها من ثلاثة أوجه، وهي معقل من معاقل الشام مقصود إليها لضروب التجارات، ينضاف إليها عدّة حصون ومنها في جهة الجنوب حصن بناه ابن صنجيل الافرنجي ومنه افتتح أطرابلس، وبينهما أربعة أميال وهو حصن منيع جدّاً وهو بين واديين).

إنّ المدن الساحليّة وهي باب المدن الداخلية، كانت معرّضةً لغزوات الروم، ومَن يتغلّب عليها يسهل عليه امتداد يده إلى داخل البلاد، فكان من المحتّم أنّ على مَن يمتلك البلاد الشاميّة: ساحلها وداخلها وسهلها وجبلها، أن تحصّن بالقلاع وتصان بالأسوار وتُشحن بالرجال لتقيها تلك الغزوات المتتابعة، وتحمي بها البلاد كافّة.

ولم يهمل هذا الأمر ملوك العرب والمسلمين الذين تعاقبوا على حكمها من عهد الخلفاء الراشدين ؛ فالأمويّين والعبّاسيّين وعمّالهم الذين استقلّوا بحكمها، ولم يبقوا للخلفاء العبّاسيّين سوى الخطبة والسكّة والتقليد والخلع للمستأثر بالحكم.

فكانت مدينة طرابلس وهي ثغرٌ من أهمّ الثغور البحرية الشامية، وهي منفذ لأهمّ الأعمال والكور من جند دمشق من المدن التي امتدّ إليها التحصين، وقد أصبحت في حوزة بني طولون أُمراء مصر، وقسم كبير من الديار الشامية، ثمّ انتقلت إلى خلفاء الفاطميين المصريين الذين استولوا على بلاد الشام، وكان يليها عمّالهم.

وأكثر مَن وليها في عهدهم من الأمراء رجال من كتامة الذين ابلوا

٣٠٨

البلاء الحسن في تأسيس دولتهم في المغرب، وكانوا سيوفهم في الاستيلاء على الديار المصرية والشامية، وفاتحها جعفر بن فلاح من شيوخ كتامة، إلى أن انتهت النوبة في حكمها إلى قضاة بني عمر من كتامة.

قبيلة كتامة:

لقد سبق في الصفحة الأُولى من هذا المؤلّف بحثنا عن إغفال المؤرّخين البحث عن قضاة بني عمّار حكام طرابلس، كما أهملوا سلسلة اتصال نسبهم بكتامة، حتّى لقد أدّى هذا الإهمال إلى توهّم بعض الباحثين أنّهم وبدر بن عمّار ممدوح المتنبّي، وحاكم طبرية من قبيل واحد، مع أنّ بدر بن عمّار هو أبو الحسن محمد بدر بن عمّار بن إسماعيل الأسدي الطبرستاني، وكان عاملاً على طبرية لأبي بكر بن رائق حسام المتّقي لله الخليفة العبّاسي، وهو أسديٌّ منسوبٌ إلى طبرستان. وبنو عمّار من المغاربة، وقد أنشده أبو الطيّب المتنبّي لمّا قصده قصيدته:

أحلماً نرى أم زماناً جديدا

وهو يومئذٍ يتولّى حرب طبرية من قبل ابن رائق(١) سنة ٣٢٨ هـ.

وأمّا نسبة بدر هذا إلى بني أسد فتظهر من قول أبي الطيّب فيه مادحاً له:

حسامٌ لابن رائقٍ المرجّى حـسام المتّقي أيّام صالا

سـنان في قناة بني معدٍّ بني أسدٍ إذا دعوا النزالا

وقال مادحاً له لمّا أضاف ابن رائق إلى عمله الساحل:

تُـهـنّا بـصور أم نـهنئها بـكا وقـلّ الـذي صور وأنت له لكا

ومـا صغر الأردّن والساحل الذي رجـيت بـه إلاّ إلى جنب قدركا

تـحاسدت الـبلدان حتّى لو أنها نفوسٌ لسار الشرق والغرب نحوكا

وأصـبح مـصرٌ لا تكون أميره ولـو أنّـه ذو مـقلةٍ وفـمٍ بكى

____________________

(١) انتزع محمد بن رائق دمشق سنة (٣٢٨) من بدر الأخشيدي الذي كان نائباً عليها من قبل الأخشيد محمد بن طغج بن جف، الذي كان والياً عليها من قِبَل الراضي سنة ٣٢٣ هـ.

٣٠٩

على أنّ بدر بن عمّار كان عامل طبرية قبل استيلاء الفاطميين على مصر وبلاد الشام باثنتين وثلاثين سنة.

إنّ هذا الوهم وتقصير مؤرّخي عصر أولئك القضاة عن التعريف بهم كما جرت عادتهم بالتعريف بكلّ دولةٍ ناشئةٍ وبرجالٍ صنعوا بعض ما صنع هؤلاء في تأسيس الدول الناشئة، وأثّروا ما أثّروا في تأييد سلطان غالب أو في عمل نافع من أثر، قد يقلّ كثيراً عن آثار هذا القبيل، سواء في إقامتهم خلافة فاطميّة بين أمم برابرة، ثمّ بسط سلطان تلك الخلافة إلى أن تغلّبت على ديار مصر واليمن والحجاز، في بعض العصور، وديار الشام.

وكان ما كان لهم من خدمةٍ في رفع منار العلم، وفي مدافعة غزاة الصليبيين عن أمنع ثغرٍ من ثغور سواحل الشام، لا جرم أنّ ذلك كلّه حملنا على الاستقصاء والتتبّع والتوسّع والبحث، والرجوع إلى كتب المؤرّخين الذين أرّخوا الدولة الفاطمية، لعلّنا نعثر في زواياها على ما ينير بحثنا هذا وكلّ ما له علاقة في تاريخهم.

ومن أهم ما يصل بنا إلى اللباب: بحث نسبهم، والاستطراد إلى ذكر رجالٍ لهم صلةٌ بذلك النسب، وكانت لهم الخدمة الجليلة في تأسيس دولة الفاطميين.

اختلاف النسّابين في نسبهم، أهم عرب أم بربر؟

قال ابن خلدون:

(هذا القبيل (كُتامة) من قبائل البربر بالمغرب وأشدّهم بأساً وقوّة، وأطولهم باعاً في الملك عند نسّابة البربر من ولد كتام بن برنس).

ويقال كتم ونسّابة الغرب يقولون إنّهم من حِمْيَر ؛ ذكر ذلك ابن الكلبي والطبري.

وأوّل ملوكهم فريقش بن صيفي من ملوك التبابعة، وهو الذي افتتح افريقية، وبه سُمّيت، وقتل ملكها جرجير وسمّي البربر بهذا الاسم.

ويُقال أقام في البربر من حِمْيَر صنهاجة وكتامة، فهم إلى اليوم فيهم. وتشعّبوا في المغرب وانبثّوا في نواحيه، إلاّ أن جمهورهم كان لأوّل الملّة بعد تهييج الردّة.

وطفئت تلك الفتن بأرياف قسطنطينية إلى تخويف بجاية غرباً إلى جبل أوراس من ناحية القبلة.

وكانت بتلك المواطن بلاد مذكورة أكبرها لهم، وبين ديارهم ومجالات ثقلهم، مثل: ايكجان وسطيف وباغاية وفاس وتلزمة وتبكست وميلة وقسطنطينة والسنسكيرة والقل وجيجل، من حدود جبل أوراس إلى سيف البحر ما بين بجاية ولوتة.

وكانت بطونهم كثيرة يجمعهم كلّها غرسن ويسودة بن كتم بن يوسف من يسودة فالسيّد

٣١٠

وذلهاجة ورسبن، كلّهم بنو يسودة بن كتم، وإلى ذلهاجة ينسب قصور كتامة بالمغرب لهذا العهد (عهد ابن خلدون) ومن غرسن، مصالة وقلات وما وطن ومعاذ بنو غرسن بن كتم وكهيفة وجيجلة وسالتة وبنو بناوة بن غرسن وملوسة من ايان غرسن بن غرسن، ومن ملوسة هؤلاء بنو زيدوي أهل الجبل المطل على قسطنطينة لهذا العهد.

وبعد البرابرة من كتامة بنو يستيتن وهشتيوة ومصالة وبنو قنسيلة، وعدّ ابن حزم منهم زوادة بجمع بطونهم وهو الحق على ما تقدّم.

وكان من هذه البطون بالمغرب الأقصى كثير منتبذون عن مواطنهم، وهم بها إلى اليوم، ولم يزالوا بهذه المواطن وعلى هذه الحال منذ لدن ظهور الملّة وملك المغرب إلى دولة الأغالبة، ولم تكن الدولة تسومهم بهضيمة، ولا ينالهم تعسّف لاعتزازهم بكثرة جموعهم، كما ذكره ابن الرقيق في تاريخه، إلى أن كان من قيامهم في دعوة الشيعة ما ذكرناه في دولتهم عند ذكر دولة الفاطميين أثر دولة بني العبّاس.

وقد أطال الكلام في ما يتعلق بهذا القبيل وبطونهم مما يطول بنقله البحث وذكر انتساب بعض بطونهم إلى سليم من قبائل مضر، وأنكر ذلك وأرجع زوادة إلى كتامة وكتامة وصنهاجة إلى البرانس. وقال: ((إن بطون صنهاجة كما يذكر بعض مؤرخي البربر تبلغ سبعين بطناً وقال: إن لصنهاجة ولاء لعلي (عليه السلام) كما أن لمغراوة ولاء في عثمان (رض) وقال: إننا لا نعرف سبب هذه الولاية ولا أصلها.

وقال ياقوت في معجم البلدان: (البربر اسم يشمل قبائل كثيرة في جبال المغرب، أوّلها برقة ثمّ إلى آخر المغرب والبحر المحيط، وفي الجنوب إلى بلاد السودان.

وهم أممٌ وقبائل لا تُحصى، نسب كلّ موضع إلى القبيلة التي تنزله، ويقال لمجموع بلادهم بلاد البربر.

وقد اختلف في أصل نسبهم، فأكثر البربر تزعم أنّ أصلهم من العرب، وهو بهتان منهم وكذب.

وأبو المنذر فإنّه قال: البربر من ولد فاران بن عمليق.

وقال الشرقي: هو عمليق بن بلعم بن عامر بن اشليخ بن لاود بن سام بن نوح، والأكثر الأشهر في نسبهم أنّهم بقيّة قوم جالوت لمّا قتله طالوت، هربوا إلى المغرب فتحصّنوا في جبالها، وقاتلوا أهل بلادها، ثمّ صالحوهم على شيءٍ يأخذونه من أهل البلاد، وأقاموا هم في الجبال الحصينة.

٣١١

وقال أحمد بن يحيى بن جابر: حدّثني بكر بن الهيثم، قال: سأل عبد الله بن صالح عن البربر، فقال: هم يزعمون أنّهم من ولد بر بن قيس بن عيلان. وما جعل الله لقيس من ولد اسمه بر. وإنّما هم من الجبّارين الذين قاتلهم داود وطالوت. وكانت منازلهم على الدهر ناحية فلسطين، وهم أهل عمود، فلّما أُخرجوا من أرض فلسطين أتوا المغرب فتناسلوا وأقاموا في جباله، وهذه من أسماء قبائلهم التي سُمّيت بها الأماكن التي نزلوا بها، وهي:

(١) هواره (٢) متاهة (٣) ضريسة (٤) مغيلة (٥) رفجومة (٦) لطَيَّة (٧) مطماطة (٨) صنهاجة (٩) نفزة (١٠) كتامة (١١) لواتة (١٢) مزانة (١٣) ربوحة (١٤) نفوسة (١٥) لمطة (١٦) صدنية (١٧) مصمودة (١٨) غُمارة (١٩) مكناسة (٢٠) قالبة (٢١) دارية (٢٢) أُتينة (٢٣) كومية (٢٤) سنحور (٢٥) أمكنة (٢٦) خرزبانة (٢٧) قططة (٢٨) جير (٢٩) براثن واكلان (٣٠) قصدران (٣١) زرنجي (٣٢) بَرغُواطة (٣٣) لُواطة (٣٤) زواوة (٣٥) كزولة.

وذكر هشام بن محمد أن جميع هؤلاء عمالقة، إلاّ صنهاجة وكتامة فإنّهم بنو افريقس بن قيس بن صيفي بن سبأ الأصغر، كانوا معه لمّا قدم المغرب وبنى افريقية، فلمّا رجع إلى بلاده تخلّفوا عنه عمّالاً على تلك البلاد، فبقوا إلى الآن وتناسلوا.

ومَن حكم بعروبتهم وانتسابهم إلى حِمْيَر يرجعهم إلى كلب إحدى بطون قضاعة، فإنّ قضاعة كما ذكر النسّابون ابن مالك بن حِمْيَر بن سبأ.

قال ابن عبد ربّه في كتابه العقد الفريد:

(ومن بني صيفي بن سبأ الحرث بن قيس بن سبأ الأصغر، ومنهم حِمْيَر التبابعة، إلى أن قال: ومنهم أبو فريقيش بن قيس بن صيفي الذي افتتح افريقية، فسُمّيت به.

ويومئذ سُمّيت البرابرة وذلك أنّهم قالوا: أنّه قال لهم: ما أكثر بربرتكم).

وذكر قضاعة فقال: قضاعة بن مالك بن عمرو بن مرّة بن زيد بن مالك بن حِمْيَر واسم قضاعة عمرو.

فمن قبائل قضاعة وبطونها وجماهيرها كلب بن وبرة بن ثعلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة.

٣١٢

وأمّا ابن قتيبة فقد قال في معارفه:

(فولد سبأ حِمْير بن سبأ وكهلان بن سبأ وعمرو بن سبأ والأشعر بن سبأ وانمار بن سبأ وعاملة ومر).

وحِمْير بن سبأ، ولد مالكاً وعامراً وعمراً وسعداً ووائلة.

ومالك بن حِمْير ولد قضاعة ومن قبائل قضاعة كلب بن وبرة.

وإنّك لترى ابن قتيبة يجعل مالكاً ابن حمير، بيتاً يجعله ابن عبد ربّه الجدّ الأعلى له.

ولسنا بصدد البحث عن اختلاف النسّابين في مَن أعقب حِمْير، فإنّ فيه اختلافاً يخرج بنا إن عرضنا له عن موضوع الكلام.

وسواءٌ أصحّ انتساب بني عمّار وذوي قرباهم من كتامة إلى العرب وإلى حِمْيَر منهم، وإلى قضاعة من قبائلهم، وإلى كلب من بطونهم، أم لم يصحّ، فإنّهم قد انتسبوا إلى كلب من قضاعة.

وجاراهم على هذا الانتساب مَن أرّخ بعض رجالاتهم، فتجد ابن خلدون ينسب أُمراء صقلية وولاتها عن الفاطميين إلى بني كلب، وكذلك المقريزي، تراه في تعليقه على خط قصر ابن عمّار يقول:

(هو أبو محمد الحسن بن عمّار بن علي بن الحسن الكلبي من بني أبي الحسن، أحد أمراء صقلية وأحد شيوخ كتامة).

وقال القلقشندي في صبح الأعشى:

إنّ افريقش هو ابن أبرهة ذي المنار بن الحارث بن ذي شدد بن الملطاط بن عمرو بن ذي يقدم بن الصوار بن عبد شمس بن وائل بن الغوث بن حيدان بن قطن بن عريب بن زهير بن الغوث بن أمن بن الهميسع بن حِمْيَر بن سبأ. وسُمّي الحارث بالرائش ؛ لأنّه لما ملك الناس راشهم بالعطاء. والطبري وصف سبأ بالأصغر.

والطبري يذكر البربر تارةً أنّهم من ولد حسام من معرايم الذي ولدهم وولد القبط ص ١٠٤، وتارةً من ولد سام حيث قال ص ١٠٥ وعمليق بعد أن ذكره في ولد سام هو أبو العمالقة ومنهم البربر، وهم بنو ثميلا بن مارب بن فاران بن عمرو بن عمليق بن لوذ بن سام بن نوح، ما خلا صنهاجة وكتامة فإنّهما بنو فريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ.

وقال في ص ١٠٦:

(ولد حام القبط والسودان والبربر.

وإذا صح أن صنهاجة وكتامة ساميّان، وأنّهما من ولد لوذ بن سام، فكيف تنسبان إلى

٣١٣

حِمْيَر، بعد قوله إنّهما بنو فريقيش بن قيس بن صيفي بن سبأ؟

وأمّا بنو حمير ففي عدّهم اختلاف لا محلّ لذكره.

وقال ابن قتيبة ص ٢١٠:

(ثمّ ملك بعده (أبرهة) ابنه افريقيش بن أبرهة بن الرائش، فغزا نحو المغرب في أرض بربر، حتّى انتهى إلى طنجة، ونقل البربر من أرض فلسطين ومصر والساحل إلى مساكنهم اليوم، وكانت البربر بقيّة مَن قتل يوشع بن نون).

وترى ابن الخيّاط الشاعر المعروف، المتوفّى سنة ٥١٧ هـ ينسبهم إلى طيئ في إحدى قصائده في مدائحهم، يمدح بها فخر الملك أبا علي عمّار بن محمد بن عمّار فيقول:

زاكي العروق له من طيّءٍ حسبٌ لو كان لفظاً لكان النَّظْم والخُطَبا

رهـط السماح وفيهم طاب مولده إنّ الـسماح يـمانٍ كـلّما انتسبا

فإن صحّ هذا النسب، فلا تكون نسبتهم إلى حِمْيَر ولا إلى قضاعة ولا إلى كلب من قبائلها، بل إلى كهلان أخي حِمْير، فإنّ طيء هو ابن أدد بن زيد بن كهلان بن سبأ.

وقال في صبح الأعشى:

(طيء (أخذاً من الطاءة على وزن الطاعة، وهي الإيغال في المرعى) بن أُدَدَ بن زيد بن يشجب بن عَرِيب بن زيد بن كهلان).

وقال القلقشندي في صبح الأعشى ج ١ ص ٣٦٠:

(من العرب الموجودين المتردّد في عروبتهم البربر، وقد اختلف في نسبهم اختلافاً كثيراً ؛ فذهبت طائفة من الناسبين إلى أنّهم من العرب، ثمّ اختلف في ذلك، فقيل أوزاع من اليمن.

وقيل من غسّان وغيرهم وتفرقوا عند سيل العرم، قاله المسعودي.

وقيل خلّفهم أبرهة ذو المنار أحد تبابعة اليمن حين غزا المغرب.

وقيل من ولد لقمان بن حِمْيَر بن سبأ بعث سريّةً من بنيه إلى المغرب ليعمّروه فنزلوا وتناسلوا فيه.

وقيل من لخم وجّذام كانوا نازلين بفلسطين من الشام إلى أن أخرجهم منها بعض ملوك فارس فلجئوا إلى مصر، فمنعهم ملوكها من نزولها فذهبوا إلى المغرب فنزلوه.

وذهب قومٌ إلى أنّهم من ولد لقشان بن إبراهيم الخليل (عليه السلام).

وذكر الحمداني أنّهم من

٣١٤

ولد بربر بن قيذار بن إسماعيل (عليه السلام) وأنّه ارتكب ذنباً ؛ فقال له أبوه: البر البر اذهب بابر فما أنت ببر.

وقيل هم من ولد بربر بن ثميلا بن مازيع بن كنعان بن حام بن نوح (عليه السلام). وقيل من ولد بربر بن كسلاجيم بن حام بن نوح.

وقيل من ولد ثميلا بن مارا بن عمرو بن عملاق بن لاوذ بن إرم بن سام بن نوح.

وقيل من ولد قبط بن حام بن نوح.

وقيل اخلاط من كنعان والعماليق.

وقيل من حِمْيَر ومصر والقِبط.

وقيل من ولد جالوت ملك بني إسرائيل، وأنّه لمّا قتله داود تفرّقوا في البلاد، فلما غزا افريقش البلاد نقلهم من سواحل الشام إلى المغرب، وهو الذي رجّحه صاحب العبر.

وبالجملة: فأكثر الأقوال جانحة إلى أنّهم من العرب، وإن لم نتحقّق من أيّ عرب، وهم قبائل متشعّبة وبطون متفرّقة، وأكثرهم ببلاد المغرب، وبديار مصر منهم طائفة عظيمة، قال في العبر: وهي على كثرتها لاحقة إلى أصلين لا تخرج عنهما:

أحدهما: البَرانس وهم بنو برنس بن بربر.

والثاني: البُتْر، وهم بنو مادغش الأبتر بن بربر، وبعضهم يقول إنّهم يرجعون إلى سبعة أصول، وهي أردواحة ومصمودة، وأَوْرَبَّة، وعجيبة، وكُتَامَة، وصَنهاجة وأوريفة، وزاد بعضهم لمطة، وهسكورة، وكزولة، ثمّ ذكر منهم طوائف لخّصها عن عبر ابن خلدون، لا يتعلّق لنا غرض بنقلها.

ومن غريب ما ورد في نسب هنتاتة من مصمودة انتسابها إلى فارس، وذكر سلسلة النسب الراجع إليه، وذكر قولاً بانتسابها إلى حِمْير وهو زعم نسّابة زِناتة، وقولاً وكانت بها إلى العمالقة، وكلّ ذلك يخرج بنا عن الاستطراد الذي دعانا إليه التعريف بمَن أفردنا لهم هذا التأليف.

٣١٥

تأييدهم الدعوة الفاطميّة وتشيّعهم

ورد في الجزء الرابع الصفحة ٣٠ من العبر ما محصّله:

أنّ محمد الحبيب بن جعفر المصدّق، بعث داعيةً إلى اليمن أبا عبد الله الملقّب بالشيعي، فلمّا بلغه عن محمد بن يعفر ملك صنعاء أنّه أظهر التوبة والنسك، وتخلّى عن الملك، قَدِم اليمن ووجد بها شيعةً يُعرفون ببني موسى في عدن لاعة. وكان علي بن الفضل من أهل اليمن ومن كبار الشيعة، وظاهر بن حوشب على أمره، وكتب له الإمام محمد بالعهد لابنه عبد الله، وأذن له في الحرب، فقام بدعوته وبثها في اليمن، وجيّش الجيوش وفتح المدائن وملك صنعاء وأخرج منها بني سبعين، وفرّق الدعاة في اليمن واليمامة والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان يظهر الدعوة للرضا من آل محمد، ويبطن محمد الحبيب تستراً إلى أن استولى على اليمن.

وكان من دعاته أبو عبد الله الشيعي صاحب كتامة، ومن عنده سار إلى إفريقية فوجد في كتامة من الباطنيّة خلقاً كثيراً، وكان هذا المذهب هنالك من لدن الدعاة الذين بعثهم جعفر المصدق إلى المغرب، أقاموا بإفريقية وبثوا فيها الدعوة وتناقله من البرابرة، وكان أكثرهم من كتامة. فلما جاء أبو عبد الله الشيعي داعية المهدي ووجد هذا المذهب في كتامة قام على تعليمه وبثّه وإحيائه حتّى تمّ الأمر وبويع لعبد الله.

وجاء في هذا الجزء من العبر ص ٥١:

(وكان أصل ظهورهم بإفريقية دخول الحلواني وأبي سفيان من شيعتهم إليها أنفذهما إليها جعفر الصادق (عليه السلام) وقال لهما: بالمغرب أرض بور فاذهبا واحرثاها حتّى يجيء صاحب البذر. فنزل أحدهما ببلد مرغة والآخر ببلد سوق جمار

٣١٦

وكلاهما من أرض كتامة، ففشت هذه الدعوة في تلك النواحي، وكان محمد الحبيب ينزل سلمية من أرض حمص، وكان شيعتهم يتعاهدونهم بالزيارة إذا زاروا قبر الحسين، فجاء محمد بن الفضل من عدن لاعة من اليمن لزيارة محمد الحبيب، فبعث معه رستم بن الحسن بن حوشب من أصحابه لإقامة دعوته باليمن، وأنّ المهدي خارج في هذا الوقت، فسار وأظهر الدعوة للمهدي من آل محمد بنعوته المعروفة عنده، واستولى على أكثر اليمن، وسُمّي بالمنصور، وفرّق الدعاة في اليمن والبحرين والسند والهند ومصر والمغرب، وكان أبو عبد الله الحسين بن محمد بن زكريا المعروف بالمحتسب وكان محتسباً بالبصرة، وأبو عبد الله هذا يُعرف بالمعلم ؛ لأنّه كان يعلّم مذهب الإماميّة.

فاتّصل أبو عبد الله بمحمد الحبيب ورأى ما فيه من الأهليّة فأرسله إلى ابن حوشب باليمن ليأخذ عنه، ثمّ يذهب إلى المغرب ويقصد بلد كتامة فيظهر بينهم الدعوة.

فجاء أبو عبد الله إلى ابن حوشب ولزمه وشهد مجالسه وأفاد علمه، ثمّ خرج مع حاج اليمن إلى مكّة فلقي بالموسم رجالات كتامة ورؤساءهم، وفيهم من لقي الحلواني وابن بكار، وأخذوا عنهما فقصدهم أبو عبد الله في رحالهم، وكان منهم موسى بن حريث كبير بني سكان من جملة أحد شعوبهم، وأبو القاسم الورنجومي من أحلافهم، ومسعود بن عيسى بن ملاك المساكتي وموسى بن تكاد.

فجلس إليهم وسمعوا منه مذاهبهم ورأوا ما هو عليه من العبادة والزهد، فعلق بقلوبهم وصار تعهّدهم في رحالهم فاغتبطوا به واغتبط بهم.

ولمّا أرادوا الرحلة إلى بلادهم سألوه الصحبة فوفاقهم طاوياً وجه مذهبه عنهم بعد أن سألهم عن قومهم وعصابتهم وبلادهم وملكة السلطان فيهم، فكشفوا له علم ذلك وأنّهم إنّما يعطون السلطان طاعة معروفة، فاستيقن تمام أمره وخرج معهم إلى المغرب، وسلكوا طريق الصحراء وعدلوا عن القيروان إلى أن وصلوا إلى بلد سوماتة وبها محمد بن حمدون بن سماك الأندلسي من بجاية الأندلس نزلاً عندهم.

وكان قدارورك الحلواني وأخذ عنه، فنزل أبو عبد الله الشيعي عليه فأكرمه وفاوضه وتفرّس ابن حمدون فيه أنّه صاحب الدولة، ثمّ ارتحلوا وصحبهم ابن حمدون، ودخلوا بلد كتامة منتصف ربيع سنة ثمان وثمانين ومئتين،

٣١٧

فنزل على موسى بن حريث بلده اتكحان في بلد بني سكتان من جبيلة، وعيّن له مكان منزله بفجّ الأخيار، وأنّ النص عنده من المهدي بذلك وبهجرة المهدي، وأنّ أنصار الأخيار من أهل زمانه، وأنّ اسمهم مشتقٌّ من الكتمان، واجتمع إليه الكثير من أهل كتامة، ولقي علماءهم واشتمل عليه الكثير من أهوائهم، فجاهر مذهبه وأعلن بإمامة أهل البيت ودعا للرضا من آل محمد، واتبعه أكثر كتامة وكانوا يسمّونه بأبي عبد الله الشيعي والمشرقي، وانتهى أمره بفوز دعوته وتأسيس الدولة الفاطميّة في بلاد المغرب وما إلى ذلك ممّا فصّلنا حديثه، واستوعبنا خبره في تاريخ الدولة الفاطميّة من تاريخ دول الشيعة في القسم السياسي، فارجع إليه.

مساهمة كتامة قبيل بني عمّار في أعمال الدولة الفاطميّة في المغرب:

عرفت بلاء الكتاميين في تأسيس الدولة الفاطميّة في افريقية، وما كان لهم من الأثر العظيم في ظهورها، وهبوب ريحها، وهم أوّل مَن لبّى الدعوة، وهم أشدّ قبائل البربر مراساً وأكثرهم عدداً وأكبرهم نفوذاً، فلا جرم إذا قدّر لهم الخلفاء الفاطميّون هذا البلاء الحسن، وأشركوا كبار رجالاتهم في الجليل من أعمالهم والدولة في إبّان تنظيمها، وهي أحوج إليهم في هذا التنظيم.

إمارة الكلبيّين الكتاميّين أجداد بني عمّار في صقلية وتداولهم لها صقلية وموقعها:

قال ياقوت الحموي في معجم البلدان في التعليق على افريقية: اسمٌ لبلادٍ واسعةٍ ومملكةٍ كبيرةٍ قبالة جزيرة صقلية، وينتهي آخرها إلى قبالة جزيرة الأندلس، والجزيرتان في شماليّها، فصقلية منحرفة إلى الشرق، والأندلس عنها إلى جهة المغرب.

وفي مراصد الاطلاع: (صقلية) من جزائر بحر المغرب مقابلة افريقية مثلثة الشكل، بين كلّ زاويةٍ والأُخرى مسيرة سبعة أيّام.

وقيل دورها خمسة عشر يوماً بينها وبين ريو، وهي مدينة في البرّ الشمالي الشرقي الذي عليه

٣١٨

مدينة قسطنطينة بحار (٤) تُسمّى القار، وفي طول جهة الساعة عرض ميلين، وعليه من جهتها مدينة تُسمّى مسيبي، وبين الجزيرة وافريقية مئة وأربعون ميلاً إلى أقرب المواضع بإفريقية، وهو الموضع المسمّى قليلية وهو يومان للريح الطيبة إذا قل، وهي جزيرة حصينة كثيرة البلدان والقرى والأمطار، قيل إنّ لها ثلاثاً وعشرين مدينة وثلاثة عشر حصناً.

وفي صبح الأعشى، الجزء الخامس في ذكر جزائر بحر الروم:

وهو البحر الشامي والمعروف بالبحر المتوسط والأبيض - السابعة - (جزيرة صقلية) قال في (اللباب): بفتح الصاد المهملة والقاف ولام وياء مثناة من تحتها وهاء في الآخر. وموقعها في الإقليم الرابع من الأقاليم السبعة، وبين ذينها الغربي وبين تونس مجرىً وستّون ميلاً، ودورها خمسمئة ميل وهي على صورة شكل مثلّث حادّ الزوايا، فالزاوية الأُولى شماليّة وهناك المجاز الضيّق إلى الأرض الكبيرة (يعني التي وراء الأندلس) وهو نحو ستّة أميال، والزاوية الثانية جنوبيّة، وهي تقابل بر طرابلس من افريقية من بلاد الغرب، والزاوية الثالثة غربيّة. وهناك (بركان النار) في جزيرة صغيرة منقطعة شمالي الزاوية المذكورة. وشمالي صقلية بلاد قلفرية.

قال في تقويم البلدان:

وصاحب صقلية في زماننا هذا فَرَنجي من الكيتلان اسمه الريدا فريك، وقاعدتها مدينة (بَلْزْم) بفتح الباء الموحدة واللام وسكون الزاي المعجمة وميم في الآخر.

قال ابن سعيد:

وهي حيث الطول خمس وثلاثون درجة، والعرض ستّ وثلاثون درجة وثلاثون دقيقة.

وبها عدّة مدن غير هذه القاعدة منها مدينة (مازَر) ومنها قَصْريانَّة بلفظ قصر المعروف ويانة بفتح الياء المثنّاة تحت وألف ونون مشدّدة، وهي مدنية كبيرة على سن جبل.

وفي معجم لاروس سنة ١٩٢٥ سيسيلة (صقلية) جزيرة كبيرة في البحر المتوسط، مساحتها (٢٥٧٤٠) كيلو متراً مربعاً ونفوسا ٣٧٩٣٠٠٠، أرضها خصبة، عاصمتها بليرم، وأهمّ مدنها كاتان ومسينا وليباري (ترانبي)(١) .

____________________

(١) وهي اليوم من أجزاء المملكة الإيطالية امتلكتها سنة ١٨٦٠.

٣١٩

وفي الجغرافية العمومية للأُستاذ الصباغ: أرضها جبلية، تتخللها الأودية والسهول المخصبة، التي يجود فيها البرتقال والزيتون والعنب والحبوب، وفيها بركان (اتنا) الذي تكسو سطحه حدائق البرتقال والحامض, فتكسبه منظراً بديعاً يفوق منظر (فيزوف) جمالاً. وأكبر مدنها بالرمو بليرم. وجاء فيدائرة المعارف للبستاني عنأتْنا ما يلي:

(يسمّيه أهل الجزيرة مونجيبلُّو, وهي مركبة من مونتي بالإيطالية معناها جبل. وجبل بالعربية ؛ لأنّ العرب كانوا يدعونه الجبل أو جبل النار، يرتفع عن شاطئ الجزيرة الشرقي، وهو متوسط بين طرفها الشمالي وطرفها الجنوبي بين ٣٧ درجة و٤٣ دقيقة و٣١ ثانية من العرض الشمالي، و١٥ درجة من الطول الشرقي ومحيط أسفله ١٨ كيلومتراً، ومعدل ارتفاعه نحو ٣٢٥٠ متراً.

وكانت صقلية عمالة من عملات مراكش التي هي إلى جنوبي الأوقيانوس الاتلانتيكي وبوغاز جبل طارق والبحر المتوسط، وإلى غربي تلمسان وشمالي الصحراء وشرقي الأوقيانوس المذكور, وهي عبارة عن ثلاثمئة ألف ميل مربع، وتقسّم إلى أربع عمالات وصقلية الرابعة منها كما عرفت.

هذا ما جاء في كتب التقاويم القديمة والحديثة عنها.

تاريخ فتح المسلمين لصقلية وملكهم لها إلى أن وقعت في نوبة الكلبيين

بعد أن افتتح المسلمون بلاد الشام ومصر غزوا في سنة ٢٥ هـ في خلافة عثمان بن عفان أفريقية، واُفتتحت على يد عبد الله بن أبي سرح، ثمّ أغزى معاوية بن أبي سفيان ابن خديج السكوني افريقية سنة أربع وثلاثين , وكان عاملاً على مصر ونازل جلولاء وقاتل مدد الروم الذي جاءها في قسطنطينية , لقيهم بقصر الأحمر فغلبهم أقلعوا إلى بلادهم , وافتتح جلولاء وغنم وأثخن وقفل.

ثمّ ولى معاوية سنة خمس وأربعين عقبة بن نافع بن عبد الله بن قيس الفهري عليها، واقتطعها عن معاوية بن خديج , فبنى القيروان وقاتل البربر وتوغل في أرضهم، ثمّ تعاقب عليها الولاة إلى أن ولي الخلافة الوليد بن عبد الملك , فكتب إلى عمه عبد الله

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486