تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75877 / تحميل: 9808
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

ولمّا تيقّن حياة عمه رحل إلى حران وامتنع بها. وبعث سيف الدولة غلامه، فجاء إلى حران في طلبه، فلحق هبة الله بأبيه بالموصل، ونزل نجا على حران آخر شوال من سنة اثنتين وخمسين وثلاثمئة وصادر أهلها على ألف ألف درهم وأخذها منهم في خمسة أيّام بالضرب والنكال، وباعوا فيها ذخائرهم حتّى أملقوا وصاروا إلى ميافارقين ونزلها شاغرة فتسلّط العيّارون على أهلها.

انتقاض نجا بميافارقين وأرمينة واستيلاء سيف الدولة عليها:

ولمّا فعل نجا بأهل حران واستولى على أموالهم فقوي بها وبطر، وسار إلى ميافارقين وقصد بلاد أرمينة، وكان قد استولى على أكثرها رجل من العراق يُعرف بأبي الورد، فغلبه نجا على ما ملك منها وأخذ قلاعه وبلاده، فملك خلاط وملاذكرد، وأخذ كثيراً من أموال أبي الورد وقتله، ثمّ انتقض على سيف الدولة، واتفق أنّ معزّ الدولة بن بويه استولى على الموصل ونصيبين، فكاتبه نجا يعده المساعدة على بني حمدان. ثمّ صالحه ناصر الدولة ورجع إلى بغداد، فسار سيف الدولة إلى نجا فهرب منه بين يديه، واستولى على جميع البلاد التي ملكها من أبي الورد، واستأمن إليه نجا وأخوه وأصحابه فأمنهم وأعاد نجا إلى مرتبته، ثمّ وثب عليه غلمانه وقتلوه في داره بميافارقين في ربيع سنة ثلاث وخمسين وثلاثمئة.

مسير معزّ الدولة إلى الموصل وحروبه مع ناصر الدولة:

كان الصلح قد استقر بين ناصر الدولة ومعزّ الدولة على ألف ألف درهم في كلّ سنة، ثمّ طلب ناصر الدولة دخول ولده أبي تغلب المظفر في اليمن على زيادةٍ بذلها.

وامتنع معزّ الدين من ذلك، وسار إلى الموصل منتصف ثلاث وخمسين وثلاثمئة ولحق ناصر الدولة بنصيبين، وملك معزّ الدين الموصل، وسار عنها في اتّباع ناصر الدولة بعد أن استخلف على الموصل في الجباية والحرب، فلم يثبت ناصر الدولة، وفارق نصيبين ملكها معزّ الدولة، وخالفه أبو تغلب إلى الموصل وعاث في نواحيها، وهزمه قوّاد معزّ الدولة بالموصل، فسكنت نفس معزّ الدولة وبقي يترقّب أخباره، وخالف ناصر

٢١

الدولة إلى الموصل فأوقع بأصحابه وقتلهم وأسر قوّاده، واستولى على مخلفه من المال والسلاح، وحمل ذلك كلّه إلى قلعة كواشي.

وبلغ الخبر إلى معزّ الدولة فلحق بالنوّاب، وأعيا معزّ الدولة أمرهم، ثمّ أرسلوا إليه في الصلح فأجاب، وعقد لناصر الدولة على الموصل ودير ربيعة، وجميع أعماله بمقرّها المعلوم وعلى أن يطلق الأسرى الذين عنده من أصحاب معزّ الدولة، ورجع معزّ الدولة إلى بغداد.

حصار المصيصة وطرسوس واستيلاء الروم عليها:

وفي سنة ثلاث وخمسين وثلاثمئة خرج الدمستق في جموع الروم فنازل المصيصة وشدّد حصارها وأحرق رساتيقها وبلغ إلى نقب السور، فدافعه أهلها أشدّ مدافعتهم.

ثمّ رحل إلى آذنة وطرسوس وطال عيثه في نواحيها، وأكثر القتل في المسلمين، وغلت الأسعار في البلاد وقلّت الأقوات، وعاود المرض سيف الدولة فمنعه من النهوض إليهم.

وجاء من خراسان خمسة آلاف رجل غزاة فبلغوا إلى سيف الدولة فارتحل بسببهم للمدافعة، فوجد الروم انصرفوا. ففرق هؤلاء الغزاة في الثغور من أجل الغلاء، وكان الروم قد انصرفوا بعد خمسة عشر يوماً.

وبعث الدمستق إلى أهل المصيصة وآذنة وطرسوس يتهدّدهم بالعود ويأمرهم بالرحيل من البلاد، ثمّ عاد إليهم وحاصر طرسوس فقاتلهم أشدّ قتال وأسروا بطريقاً من بطارقته. وسقط الدمستق إلى أهل المصيصة ورجعوا إلى بلادهم.

ثمّ سار يعفور ملك الروم من القسطنطينية سنة أربع وخمسين وثلاثمئة إلى الثغور، وبنى بقيسارية مدينة ونزلا وجهّز عليها العساكر، وبعث أهل مصيصة وطرسوس في الصلح فامتنع.

وسار بنفسه إلى المصيصة فدخلها عنوةً واستباحها ونقل أهلها إلى بلاد الروم، وكانوا نحواً من مئتي ألف، ثمّ سار إلى طرسوس واستنزل أهلها على الأمان وعلى أن يحملوا من أموالهم وسلاحهم ما قدروا عليه، وبعث معهم حامية من الروم يبلغونهم انطاكية.

٢٢

وأخذ في عمارة طرسوس وتحصينها، وجلب الميرة إليها، ثمّ عاد إلى القسطنطينة.

وأراد الدمستق بن شمسيق أن يقصد سيف الدولة في ميافارقين ومنعه الملك من ذلك.

انتقاض أهل أنطاكية وحمص:

ولمّا استولى الروم على طرسوس، لحق الرشيق الغيمي من قوّادهم، وألي الرأي فيهم بأنطاكية في عددٍ وقوّة، فاتّصل به ابن أبي الأهواز من الجباة بأنطاكية وحسن له العصيان وأراه أن سيف الدولة بميافارقين عاجز عن العود إلى الشام ما هو فيه من المرض، وأعانه بما كان عنده من مال الجباة، فأجمع رشيق الانتقاض وملك أنطاكية وسار إلى حلب وبها عرقوبة.

وجاء الخبر إلى سيف الدولة بأنّ رشيقاً أجمع الانتقاض، ونجا ابن الأهواز إلى أنطاكية فأقام في إمارتها رجلاً من الديلم اسمه وزير ولقبه الأمير، وأوهم أنّه عَلَويّ، وتسمّى هو بالأشاد، وأساء السيرة في أهل أنطاكية.

وقصدهم عرقوبة من حلب فهزموه. ثمّ جاء سيف الدولة من ميافارقين إلى حلب، وخرج إلى أنطاكية وقاتل وزيراً وابن الأهوازي أياماً. وجيء بهما إليه أسيرين، فقتل وزيراً وحبس ابن الأهوازي أياماً وقتله.

وصلح أمر أنطاكية، ثمّ ثار بحمص مروان القرمطي كان من متابعة القرامطة وكان يتقلّد السواحل لسيف الدولة، فلمّا تمكن ثار بحمص فملكها وملك غيرها في غيبة سيف الدولة بميافارقين.

وبعث إليه عرقوبة مولاه بدراً بالعساكر فكانت بينهما عدّة حروبٍ أُصيب فيها مروان بسهمٍ فأثبت وبقي أيّاماً يجود بنفسه والقتال بين أصحابه وبين بدر. وأُسر بدر في بعض تلك الحروب فقتله مروان وعاش بعده أيّاماً ثمّ مات وصلح أمرهم.

خروج الروم إلى الثغور على دارا:

وفي سنة خمس وخمسين وثلاثمئة خرجت جموع الروم إلى الثغور،

٢٣

فحاصروا آمد ونالوا من أهلها قتلاً وأسراً، فامتنعت عليهم، فانصرفوا إلى دارها قريباً من ميافارقين فأخذوها، وهرب الناس إلى نصيبين وسيف الدولة يومئذٍ فيها، فهمّ بالهروب وبحث عن العرب ليخرج معهم.

ثمّ انصرف الروم، وأقام هو بمكانه، وساروا إلى أنطاكية فحاصروها مدّة وعاثوا في جهاتها فامتنعت، فعاد الروم إلى طرسوس.

وفاة سيف الدولة ومحبس أخيه ناصر الدولة:

وفي صفر من سنة خمس وخمسين وثلاثمئة توفّي سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بحلب، وحُمل إلى ميافارقين فدفن بها. وولي مكانه بعده ابنه أبو المعالي شريف، ثمّ في جمادى الأولى منها حبس ناصر الدولة أخوه بقلعة الموصل، حبسه ابنه أبو تغلب فضل الله الغضنفر، وكان كبير ولده، وكان سبب ذلك أنّه كبر وساءت أخلاقه وخالف أولاده وأصحابه في المصالح وضيّق عليهم فضجروا منه.

ولمّا بلغهم خبر معزّ الدولة بن بويه اعتزم أولاده على قصد العراق، فنهاهم ناصر الدولة وقال لهم:

(اصبروا حتى ينفق بختيار ما خلف أبوه معز الدولة من الذخيرة فتظفروا به، وإلاّ استظهر عليكم وظفر بكم).

فلجّوا في ذلك، ووثب به أبو تغلب بموافقة البطانة وحبسه بالقلعة ووكل بخدمته. وخالفه بعض أخوته في ذلك، واضطرب أمره واضطرّ إلى مداراة بختيار بن معزّ الدولة، وأرسل له في تجديد الضمان ليحتجّ به على أخوته، فضمنه بألفي ألف درهم في كل سنة.

ولاية أبي المعالي بن سيف الدولة بحلب ومقتل أبي فراس:

ولمّا مات سيف الدولة وولي بعده ابنه أبو المعالي شريف، وكان سيف الدولة قد ولّى أبا فراس بن أبي العلاء سعد بن حمدان عندما خلّصه من الأسر الذي أسره الروم في منبج، فاستفداه في الفداء الذي بينه وبين الروم سنة خمس وخمسين وثلاثمئة، وولاّه على حمص.

٢٤

فلمّا مات سيف الدولة استوحش من أبي المعالي بعده، ففارق حمص ونزل في صدد قريته في طرف البرية قريباً من حمص.

فجمع أبو المعالي الأعراب من بني كلاب وغيرهم، وبعثهم مع عرقوبة في طلبه، فجاء إلى صدد واستأمن له أصحاب أبي فراس وكان في جملتهم، فأمر به عرقوبة فقتل واحتمل رأسه إلى أبي المعالي، وكان أبو فراس خاله.

أخبار أبي ثعلب مع أخوته بالموصل:

كان لناصر الدولة بن حمدان زوجة تُسمّى فاطمة بنت أحمد الكرديّة وهي أم أبي ثعلب، وهي التي دبّرت مع ابنها أبي ثعلب على أبيه.

فلمّا حبس ناصر الدولة كاتب ابنه حمدان يستدعيه ليخلّصه ممّا هو فيه، وظفر أبو ثعلب بالكتاب، فنقل أباه إلى قلعة كواشي.

واتصل ذلك بحمدان وكان قد سار عند وفاة عمّه سيف الدولة من الرحبة إلى الرقّة فملكها. ولمّا اتصل به شأن الكتاب سار إلى نصيبين وجمع الجموع وبعث إلى أخوته في الإفراج عن أبيهم. فسار أبو ثعلب لحربه وانهزم حمدان قبل اللقاء للرقة، فحاصره أبو ثعلب أشهراً ثمّ اصطلحا وعاد كل منهما إلى مكانه.

ثمّ مات ناصر الدولة في محبسه سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة ودُفن بالموصل.

وبعث أبو ثعلب أخاه أبا البركات إلى حمدان بالرحبة، فافترق عنه أصحابه، وقصد العراق مستجيراً ببختيار فدخل بغداد في شهر رمضان من سنته وحمل إليه الهدايا، وبعث بختيار إلى أبي ثعلب النقيب أبا أحمد والد الشريف الرضي في الصلح مع أخيه حمدان فصالحه، وعاد إلى الرحبة منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمئة، وفارقه أبو البركات، ثمّ استقدمه أبو ثعلب فامتنع عن القدوم عليه، فبعث إليه أخاه أبا البركات ثانياً في العساكر. فخرج حمدان إلى البريّة وترك الرحبة فملكها أبو البركات، واستعمل عليها وسار إلى الرقّة ثمّ إلى عرابان، وخالفه حمدان إلى الرحبة فملكها أبو البركات، واستعمل عليها وسار إلى الرقّة ثمّ إلى عرابان، وخالفه حمدان إلى الرحبة فكبسها وقتل أصحاب أبي ثعلب بها، فرجع إليه أبو البركات وتقاتلا فضرب أبا البركات على رأسه فشجّه، ثمّ ألقاه إلى الأرض وأسره ومات من يومه، وحُمل إلى الموصل فدُفن بها عند أبيه.

٢٥

وجهز أبو ثعلب إلى حمدان وقدّم أخاه أبا فراس محمّداً إلى نصيبين، ثمّ عزله عنها ؛ لأنّه داخل حمدان ومالأه عليه، فاستدعاه وقبض عليه وحبسه بقلعة ملاشي من بلاد الموصل، فاستوحش أخوه إبراهيم والحسن ولحقا بأخيهما حمدان في شهر رمضان، وساروا جميعاً إلى سنجار ؛ وسار أبو ثعلب من الموصل في أثرهم في شهر رمضان سنة ستّين وثلاثمئة ؛ فخاموا عن لقائه، واستأمن إليه أخوه إبراهيم والحسن خديعة ومكراً، فأمنهما ولم يعلم، وتبعهما كثير من أصحاب حمدان.

وعاد حمدان من سنجار إلى عرابان، واطلع أبو ثعلب على خديعة أخويه، فهربا منه. ثمّ استأمن الحسن ورجع إليه، وكان حمدان أقام نائباً بالرحبة غلامه نجا، فاستولى على أمواله وهرب بها إلى حران وبها سلامة البرقعيدي من قبل أبي ثعلب، فرجع حمدان إلى الرحبة.

وسار أبو ثعلب إلى قرقيسيا وبعث العساكر إلى الرحبة فعبروا الفرات واستولوا عليها. ونجا حمدان بنفسه ولحق بسنجار مستجيراً به ومعه أخوه إبراهيم فأكرمهما ووصلهما، وأقاما عنده.

ورجع أبو ثعلب إلى الموصل وذلك آخر سنة ستّين وثلاثمئة.

خروج الروم إلى الجزيرة والشام:

وفي سنة خمس وثمانين وثلاثمئة دخل ملك الروم الشام وعاث فيها كما عاث في الجزيرة، ولم يجد مقاومة من أبي ثعلب، وقاومه قرعويه مولى سيف الدولة، فلم يمكّن له من امتلاك حلب وسواها ما هو تحت ولايته.

وقرعويه هذا هو الذي أخذ البيعة لابن مولاه أبي المعالي بعد موت أبيه.

ولمّا كانت سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة انتقض عليه وأخرجه من حلب واستبدّ بملكها.

وسار أبو المعالي إلى حران فمنعه أهلها، فسار إلى والدته بميافارقين وهي بنت سعيد بن حمدان أخت أبي فراس.

ولحق أصحابه بأبي ثعلب وقد بلغها أنّه يريد القبض عليها، فمنعته أيّاماً من الدخول حتّى استوثقت لنفسها، وأذنت له ولمن رضيته وأطلقت لهم الأرزاق، ومنعت الباقين.

٢٦

ثمّ سار أبو المعالي لقتال قرعويه بحلب فامتنع عليه. ثمّ لحق أبو المعالي بحماة وأقام بها. وبقيت الخطبة بحران له ولا والي عليهم من قبله، فقدموا عليهم من يحكم بينهم.

مسير أبي ثعلب من الموصل إلى ميافارقين:

ولمّا سمع أبو ثعلب بخروج أبي المعالي من ميافارقين إلى حلب لقتال قرعويه سار إليها. وامتنعت زوجة سيف الدولة منه، واستقرّ الأمر بينهما على أن تحمل إليه مئتي ألف درهم، ثمّ نمي إليها أنّه يحاول على ملك البلد فكبسته ليلاً، ونالت من معسكره ؛ فبعث إليها يلاطفها، فأعادت إليه بعض ما نُهب، وحملت إليه مئة ألف درهم، وأطلقت الأسارى، فرجع عنها.

استيلاء الروم على أنطاكية ثمّ حلب وسواها:

وفي سنة تسع وخمسين وثلاثمئة خرج الروم إلى أنطاكية فنزلوا بجبلها ؛ وبعد شهرين أمدّهم أخو يعفور ملك الروم في أربعين ألفاً، فنازلوها وامتلكوها وسبوا منها عشرين ألفاً.

ثمّ أنفذ ملك الروم جيشاً كثيفاً إلى حلب، وأبو المعالي بن سيف الدولة قائم على حصارها، ففارقها وقصد البريّة.

وملك الروم حلب، وتحصّن قرعويه وأهل البلد بالقلعة، فحاصروها مدّةً ثمّ عقدوا الهدنة بينهم على مالٍ يحمله قرعويه، وعلى أنّ الروم إذا أرادوا الميرة من قرى الفرات لا يمنعونهم منها.

ودخل في هذه الهدنة كثير من أعمال حلب.

استيلاء أبي ثعلب على حران:

وفي منتصف سنة تسع وخمسين وثلاثمئة سار أبو ثعلب إلى حران وحاصرها نحواً من شهر، ثمّ جنح أهلها إلى مصالحته، واضطربوا في ذلك ثمّ توافقوا عليه.

وخرجوا إلى أبي ثعلب وأعطوه الطاعة. ودخل في إخوانه وأصحابه، فصلّى الجمعة ورجع إلى معسكره، واستعمل عليهم سلامة البرقعيدي وكان من أكابر أصحاب بني حمدان.

٢٧

وبلغه الخبر بأنّ نميراً عاثوا في بلاد الموصل وقتلوا العامل ببرقعيد، فأسرع العود.

مصالحة قرعويه لأبي المعالي:

قد تقدّم خبر استبداد قرعويه بحلب سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة على ابن مولاه أبي المعالي وخروج أبي المعالي ولحاقه بأمّه بميافارقين، ثمّ رجوعه لحصار قرعويه بحلب ثمّ رجوعه إلى حمص ونزوله بها.

ثمّ بعد ذلك تمّ الاتفاق بين أبي المعالي وقرعويه على أن يخطب له بحلب ويخطبان جميعاً للمعزّ العلوي صاحب مصر.

مسير الروم إلى بلاد الجزيرة:

وفي سنة إحدى وستّين وثلاثمئة سار الدمستق في جموع الروم إلى الجزيرة، فأغار على الرها ونواحيها، ثمّ تنقّل في نواحي الجزيرة، ثمّ بلغ نصيبين واستباحها ودخلها، ثمّ سار في ديار بكر ففعل مثل ذلك.

ولم يكن لأبي ثعلب في مدافعتهم أكثر من حمل المال إليهم. واستفزّ ذلك مسلمي بغداد وراجعوا الطائع وبختيار، وبينما تعدّ العدّة لمقاومة أولئك الغزاة جرت أُمورٌ في بغداد حالت دون الغرض، ولما فعل الدمستق ما فعل في ديار مضر والجزيرة ولم يلاق مقاومة، طمع في فتح آمد. فسار إليه أبو ثعلب، وقدّم أخاه أبا القاسم هبة الله واجتمعا على حرب الدمستق، ولقياه في رمضان سنة اثنتين وستّين وثلاثمئة.

وكانت الجولة في مضيق لا تتحرك فيه الخيل، وكان الروم على غير أُهبة، فانهزموا وأُخذ الدمستق أسيراً، فلم يزل محبوساً عند أبي ثعلب إلى أن مرض سنة ثلاث وستّين وثلاثمئة. وبالغ في علاجه وجمع له الأطباء فلم ينتفع بذلك ومات.

استيلاء بختيار على الموصل وما كان بينه وبين أبي ثعلب:

قد تقدّم ما كان بين أبي ثعلب وأخويه حمدان وإبراهيم من الحروب، وأنّهما سارا إلى بختيار بن معزّ الدولة مستصرخين فوعدهما بالنصرة، وشغل عن ذلك بما كان فيه فأبطأ عليهما أمره.

٢٨

وهرب إبراهيم ورجع إلى أخيه أبي ثعلب، فتحرك عزم بختيار على قصد الموصل، وأغراه وزيره ابن بقيّة لتقصيره في خطابه، فسار ووصل إلى الموصل في ربيع سنة ثلاث وستّين وثلاثمئة.

ولحق أبو ثعلب بسنجار وأخلى الموصل من الميرة ومن الدواوين. وخالف بختيار إلى بغداد ولم يحدث فيها حدثاً من نهبٍ ولا غيره، وإنّما قاتل أهل بغداد، فحدثت فيها الفتنة بسبب ذلك بين عامّتها، واضطرب أمرهم وخصوصاً الجانب الغربي.

وسمع بختيار بذلك فبعث في أثره وزيره ابن بقية وسبكتكين، فدخل ابن بقية بغداد، وأقام سبكتكين في الضحية، وتأخّر أبو ثعلب عن بغداد، وحاربه يسيراً ثمّ داخله في الانتقاض واستيلاء سبكتكين على الأمر. ثمّ أقصر سبكتكين عن ذلك، وخرج إليه ابن بقية، وراسلوا أبا ثعلب في الصلح على مالٍ يضمنه ويرد على أخيه حمدان أقطاعه ما سوى ماردين. وكتبوا بذلك إلى بختيار، وارتحل أبو ثعلب إلى الموصل، وأشار ابن بقية على سبكتكين باللحاق ببختيار فتقاعد، ثم سار وارتحل بختيار عن الموصل بعد أن جهد منه أهل البلد بما نالهم من ظلمه وعسفه. وطلب منه أبو ثعلب الإذن في لقب سلطاني وأن يحط عنه من الضمان فأجابه وسار، ثمّ بلغه في طريقه أنّ أبا ثعلب نقض وقتل بعضاً من أصحاب بختيار، عادوا إلى الموصل لنقل أهاليهم. فاستشاط بختيار واستدعى ابن بقية وسبكتكين في العساكر، وعادوا جميعاً إلى الموصل.

وفارقها أبو ثعلب وبعث أصحابه بالاعتذار والحلف على إنكار ما بلغه فقبل، وبعث الشريف أبا أحمد الموسوي لاستلحاقه. وتمّ الصلح ورجع بختيار إلى بغداد فجهز ابنته إلى أبي ثعلب وقد كان عقد له عليها من قبل.

عود أبي المعالي بن سيف الدولة إلى حلب:

تقدّم خبر إخراج قرعويه أبا المعالي من حلب سنة سبع وخمسين وثلاثمئة ومسيره إلى والدته بميافارقين ثمّ نزوله بحماة. وكانت الروم قد أمنت حمص وكثر أهلها. وكان قرعويه قد استناب بحلب مولاه يكجور، فقوي عليه وحبسه في قلعة حلب وملكها سنين. فكتب أصحاب قرعويه إلى أبي المعالي واستدعوه، فسار وحاصرها أربعة أشهر وملكها، وأصلح

٢٩

أحوالها وازدادت عمارتها حتّى انتقل إلى ولاية دمشق.

استيلاء عضد الدولة بن بويه على الموصل، وسائر ملوك بني حمدان:

ولمّا ملك عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد، وهزم بختيار أبن عمّه معزّ الدولة، سار بختيار في الفل إلى الشام ومعه حمدان بن ناصر الدولة أخو أبي ثعلب، فحسن له قصد الموصل على الشام. وقد كان عضد الدولة عاهده أن لا يتعرّض لأبي ثعلب لمودّةٍ بينهما، فنكث وقصدها. ولمّا انتهى إلى تكريت أتته رسل أبي ثعلب بالصلح وأن يسير إليه بنفسه وعساكره، ويعيده على ملك بغداد، على أن يسلّم إليه أخاه حمدان، فسلّمه إلى رسل أبي ثعلب فحبسه.

وسار بختيار إلى الحديثة، ولقي أبا ثعلب وسار معه إلى العراق في عشرين ألف مقاتل. وزحف نحوهما عضد الدولة، والتقوا بنواحي تكريت في شوّال سنة ستّ وستّين وثلاثمئة ؛ فهزمهما عضد الدولة وقتل بختيار ونجا أبو ثعلب إلى الموصل ؛ فأتبعه عضد الدولة وملك الموصل في ذي القعدة، وحمل معه الميرة والعلوفات للإقامة، وبثّ السرايا في طلب أبي ثعلب ومعه المرزبان بن بختيار وأخواله أبو إسحاق وظاهر ابنا معزّ الدولة ووالدتهم.

وسار لذلك أبو الوفاء ظاهر بن إسماعيل من أصحابه، وسار حاجبه أبو ظاهر ظعان إلى جزيرة ابن عمرو، ولحق أبو ثعلب بنصيبين ثمّ انتقل إلى ميافارقين فأقام بها. وبلغه مسير أبي الوفاء إليه ففارقها إلى بذليس ؛ وجاء أبو الوفاء إلى ميافارقين فامتنعت عليه ففارقها.

وطلب أبا ثعلب فخرج من أرزن الروم إلى الحسينية من أعمال الجزيرة، وصعد إلى قلعة كواشي وغيرها من قلاعه ونقل منها ذخيرته وعاد ؛ فعاد أبو الوفاء إلى يافارقين وحاصرها.

واتصل بعضد الدولة مجيئه إلى القلاع فسار إليه ولم يدركه، واستأمن إليه كثير من أصحابه. وعاد إلى الموصل وبعث قائده ظعان إلى بذليس، فهرب منها أبو ثعلب، واتصل بملكهم المعروف بورد الرومي وكان منازعاً لملكهم الأعظم في الملك. فوصل ورد يده بيد أبي ثعلب وصاهره ليستعين

٣٠

به، واتبعه في مسير عسكر عضد الدولة وأدركوه فهزمهم وأثخن فيهم، ونجا فلّهم إلى حصن زياد ويُسمّى خرت برت، وأرسل إلى ورد يستمدّه فاعتذر بما هو فيه ووعده بالنصر. ثمّ انهزم ورد أمام ملك الروم. فأيس أبو ثعلب من نصره وعاد إلى بلاد الإسلام ونزل بآمد حتّى جاء بر ميافارقين.

وكان أبو الوفاء لمّا رجع من طلب أبي ثعلب حاصر ميافارقين والوالي عليها هزار مرد، فضبط البلد ودافع أبو الوفاء ثلاث أشهر ثمّ مات.

وولّى أبو علب مكانه مؤنساً من موالي الحمدانية، ودسّ أبو الوفاء إلى بعض أعيان البلد فاستماله، فبعث له في الناس رغبة، وشعر بذلك مؤنس فلم يطق مخالفتهم، فانقاد واستأمن.

وملك أبو الوفاء البلد، وكان في أيّام حصاره قد افتتح سائر حصونه، فاستولى على سائر ديار بكر، وأمن أصحاب أبي ثعلب وأحسن إليهم، ورجع إلى الموصل.

وبلغ الخبر إلى أبي ثعلب منقلبه من دار الحرب، فقصد الرحبة، وبعث إلى عضد الدولة يستعطفه، فشرط عليه المسير إليه، فامتنع. ثمّ استولى عضد الدولة على ديار مضر، وكان عليها من قبل أبي ثعلب سلامة البرقعيدي من كبار أصحاب ابن حمدان.

وكان أبو المعالي بن سيف الدولة بعث إليها جيشاً من حلب فحاروها وامتنعت عليهم. وبعث أبو المعالي إلى عضد الدولة وعرض بنفسه عليه، فبعث عضد الدولة النقيب أبا أحمد الموسوي إلى سلامة البرقعيدي، وتسلّمها بعد حروب، وأخذ لنفسه منها الرقّة، وردّ باقيها على سعد الدولة، فصارت له.

ثمّ استولى عضد الدولة على الرحبة وتفرغ بعد ذلك لفتح قلاعه وحصونه، واستولى على جميع أعماله. واستخلف أبا الوفاء على الموصل، ورجع إلى بغداد في ذي القعدة سنة ثمان وستّين وثلاثمئة.

ثمّ بعث عضد الدولة جيشاً إلى الأكراد الهاكارية من أعمال الموصل، فحاصروهم حتى استقاموا وسلموا قلاعهم، ونزلوا إلى الموصل فحال الثلج بينهم وبين بلادهم فقتلهم قائد الجيش وصلبهم على جانبي طريق الموصل.

٣١

مقتل أبي ثعلب بن حمدان:

ولمّا أيس أبو ثعلب بن مدان من إصلاح عضد الدولة والرجوع إلى ملكه بالموصل سار إلى الشام، وكان على دمشق قسام داعية العزيز العلوي، غلب عليها بعد أفتكين وقد تقدم ذلك وكيف ولي أفتكين على دمشق فخاف قسام من أبي ثعلب ومنعه من دخول البلد؛ فأقام بظاهرها وكاتب العزيز، وجاءه الخبر بأنه يستقدمه، فرح إلى طبرية بعد مناوشة حرب بينه وبين قسام.

وجاء فلٌّ من العزيز لحصار قسام بدمشق، ومرّ بأبي ثعلب ووعده عن العزيز بكلِّ جميل.

ثمّ حدثت الفتنة بين دغفل وقسام وأخرجهم، وانتصروا بأبي ثعلب فنزل بجوارهم مخافة دغفل والقائد الذي يحاصر دمشق.

ثمّ ثار أبو ثعلب في بني عقيل إلى الرملة في محرّم سنة تسع وتسعين وثلاثمئة، فاستراب به الفضل ودغفل وجمعوا لحربه، ففرّ بنو عقيل عنه. وبقي في سبعمئة من غلمانه وغلمان أبيه، وولّى منهزماً، فلحقه الطلب، فوقف يقاتل، فضُرب وأُسر وحُمل إلى دغفل.

وأراد الفضل حمله إلى العزيز، فخاف دغفل أن يصطنعه كما فعل بأفتكين فقتله، وبعث الفضل بالرأس إلى مصر. وحمل بنو عقيل أخته جميلة وزوجته بنت سيف الدولة إلى أبي المعالي بحلب، فبعث بجميلة إلى الموصل، وبعث بها أبو الوفاء إلى عضد الدولة ببغداد فاعتقلها.

مخالفة بكجور لأبي المعالي:

وفي سنة ثلاث وسبعين وثلاثمئة استوحش بكجور من أبي المعالي، وأرسل إلى العزيز يستنجزه وعده بولاية دمشق جزاءً له على حمله الأقوات لمصر وقد وقع بها الغلاء، فحال ابن كلس دون ذلك وكان بها والياً للعزيز بلكين.

وجرت أُمورٌ منها قيام الكتاميين ضد كلس اضطرّت العزيز لاستقدام بلكين لإطفاء الفتنة، وعيّن خلفاً له بكجور، ثمّ تصرّفت الأُمور ببكجور فخرج من دمشق ورحل إلى الرقّة بعد انهزامه من منير وولاية هذا على دمشق.

٣٢

فاستولى بكجور على الرقّة ثمّ على الرحبة وغير ذلك، وراسل بهاء الدولة ابن عضد الدولة بالطاعة، وبادر الكردي المتغلّب على دار بكر والموصل بالمسير إليه، وأبا المعالي سعد الدولة صاحب حلب بالعود إلى طاعته، على أن يقطعه حمص، فلم يجبه أحد إلى شيء. فأقام بالرقّة يراسل موالي سعد الدولة أبي المعالي ويستميلهم في الغدر به، فأجابوه وأخبروه أنّ أبا المعالي مشغول بلذّاته.

فاستمدّ حينئذٍ العزيز، فكتب إلى نزال بطرابلس وغيره من ولاة الشام أن يمدّوه ويكونوا في تصرفه. فكتب نزال إلى بكجور يواعده بذلك في يوم معوم، وأخلفه.

وسار بكجور من الرقّة إلى حمص فلم يقبل، وكتب أبو المعالي إلى صاحب انطاكية يستمده فأمدّه بجيش الروم، وكتب إلى العرب الذين مع يكجور يرغّبهم في الأموال والأقطاع، فوعدوه خذلان بكجور عند اللقاء.

فلمّا التقى العسكران وشُغل الناس بالحرب عطف العرب على سواد بكجور فنهبوه ولحقوا بأبي المعالي ؛ فاستمات بكجور وحمل على موقف أبي المعالي يريده، وقد أزاله لؤلؤ عن موقفه ووقف مكانه خشيةً عليه وحمل ذلك، فلمّا انتهى بكجور لحملته برز إليه لؤلؤ وضربه فأثبته، وأحاط به أصحابه فولّى منهزماً.

وجاء بعضهم إلى أبي المعالي فشارطه على تسليمه إليه، فقبل شرطه وأحضره فقتله.

وسار إلى الرقّة وبها سلامة الرشقي مولى يكجور وأولاده وأبو الحسن علي بن الحسين المغربي وزيره، فاستأمنوا إليه فأمنهم.

ونزلوا عن الرقّة فملكها، واستكثر ما مع أولاد بكجور، فقال له القاضي ابن أبي الحصين هو مالك وبكجور لا يملك شيئاً ولا حنث عليك، فاستصفى مالهم أجمع، وشفع فيهم العزيز فأساء إليه الرد.

وهرب الوزير المغربي إلى مشهد علي (عليه السلام).

وفي سنة أربع وسبعين وثلاثمئة كتب ابن سعدان وزير صمصام الدولة إلى أبي المعالي ابن حمدان صاحب حلب يومئذٍ بولاية ديار بكر وإدخالها في عمله ؛ فسيّر إليه أبو المعالي عسكره إلى ديار بكر فلم يكن لهم طاقة بأصحاب باد، فحاصروا ميافارقين أيّاماً ورجعوا إلى حلب.

٣٣

عود بني إلى الموصل ومقتل باد:

كان أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسن ابنا ناصر الدولة بن حمدان قد لحقا بعد مهلك أخيهما أبي ثعلب، وكانا ببغداد واستقرّا في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة. فلمّا تولّى شرف الدولة وخواشاده في الموصل بعثهما إليها.

ثمّ أنكر ذلك عليه أصحابه، فكتب إلى خواشاده عامل الموصل فمنعهما، فكتب إليهما بالرجوع عنه، فلم يجيباه ؛ وأغذّا السير إلى الموصل حتّى نزلا بظاهرها.

وثار أهل الموصل بالديلم والأتراك الذين عندهم، وخرجوا إلى بني حمدان. وزحف الديلم لقتالهم، فانهزموا وقُتل منهم خلقٌ كثير، وامتنع باقيهم بدار الإمارة، وأراد أهل الموصل استلحاقهم فمنعهم بنو حمدان، وأخرجوا خواشاده ومن معه على الأمان إلى بغداد، وملكوا الموصل.

وتسايل إليهم العرب من كلِّ ناحية، وبلغ الخبر إلى باد وهو بديار بكر بملك الموصل، وجمع فاجتمع إليه الأكراد البثنوية أصحاب قلعة فسك، وكان جمعهم كثيراً، واستمال أهل الموصل بكتبه فأجابه بعضهم، فسار ونزل على الموصل، وبعث أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان إلى أبي عبد الله محمّد بن المسيّب أمير بني عقيل يستنصرانه، وشرط عليهما جزيرة ابن عمرو ونصيبين فقبلا شرطه.

وسار أبو عبد الله صريخا، وأقام أخوه أبو طاهر بالموصل، وباد يحاصره.

وزحف أبو الراود في قومه مع أبي عبد الله بن حمدان، وعبروا دجلة عند بدر وجاؤوا إلى باد من خلفه. وخرج أبو طاهر والحمدانية من أمامه.

والتحم القتال، ونكب بباد فرس فوقع طريحاً، ولم يطق الركوب، وجهض العدو عنه أصحابه فتركوه، فقتله بعض العرب وحمل رأسه إلى بني حمدان.

ورجعوا ظافرين إلى الموصل وذلك سنة ثمانين وثلاثمئة.

مهلك أبي طاهر بن حمدان واستيلاء بني عقيل على الموصل:

لمّا هلك باد طمع أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان في استرجاع ديار بكر. وكان أبو علي بن مروان الكردي وهو ابن أخت باد قد خلص

٣٤

من المعركة ولحق بحصن كيفا وبه أهل باد وماله، وهو من أمنع المعاقل. فتزوج امرأة خاله واستولى على ماله وعلى الحصن، وسار في ديار بكر فملك ما كان لخاله فيها تليداً.

وبينما هو يحاصر ميافارقين زحف إليه أبو طاهر وأبو عبد الله ابنا حمدان يحاربانه فهزمهما وأسر أبا عبد الله ثانية، إلى أن شفع فيه خليفة مصر فأطلقه، واستعمله الخليفة على حلب إلى أن هلك.

وأمّا أبو طاهر فلحق بنصيبين في فلّ من أصحابه وبها أبو الدرداء محمّد بن المسيب أمير بني عقيل.

وسار إلى الموصل فملكها وأعمالها، وبعث إلى بهاء الدولة أن ينفذ إليها عاملاً من قِبَله، فبعث إليها قائداً كان تصرّفه عن أبي الدرداء ولم يكن له من الأمر شيء.

وانقرض ملك بني حمدان من الموصل.

موت سعد الدولة بن حمدان بحلب وولاية ابنه أبي الفضائل:

ولمّا هزم سعد الدولة مولاه بكجور وقتله حين سار إليه من الرقّة رجع إلى حلب، فأصابه فالج سنة إحدى وثمانين وثلاثمئة. وكان مولاه لؤلؤ كبير دولته فنصب ابنه أبا الفضائل وأخذ له العهد على الأجناد.

وتراجعت إليهم العساكر، وبلغ الخبر أبا الحسن المغربي وهو بمشهد علي (عليه السلام) فسار إلى العزيز بمصر وأغراه بملك حلب، فبعث إليه قائده منجوتكين في العساكر وحاصره. ثمّ ملك البلد واعتصم أبو الفضائل ولؤلؤ بالقلعة.

وبعث أبو الفضائل ولؤلؤ إلى ملك الروم يستنجدانه، وكان مشغولاً بقتال البلغار. فأرسل غلى نائبه بأنطاكية أن يسير إليهم، فسار في خمسين ألفاً ونزل جسر الحديد على وادي العاصي، فنفر إليه منجوتكين في عساكر المسلمين وهزم الروم إلى أنطاكية، واتبعهم فنهب بلادها وقراها وأحرقها. ونزل أبو الفضائل ولؤلؤ من القلعة إلى مدينة حلب فنقل ما فيها من الغلال وأحرق الباقي.

وعاد منجوتكين إلى حصارهم بحلب، وبعث لؤلؤ إلى أبي السن المغربي في الوساطة لهم، فصالحهم منجوتكين ورحل غلى دمشق ضجراً من الحرب وتعذر الأقوات. ولم يراجع العزيز في ذلك، فغضب العزيز

٣٥

وكتب إليه يوبّخه ويأمر بالعود وبحصار حلب، فعاد وأقام عليها ثلاثة عشر شهراً. فبعث أبو الفضائل ولؤلؤ مراسلة لملك الروم، وحرضوه على انطاكية وكان قد توسط بلاد البلغار فرجع عنها وأجفل في الحشد ورجع إلى حلب.

وبلغ الخبر إلى منوتكين فأجفل عنها بعد أن أحرق خيامه وهدم مبانيه. وجاء ملك الروم، وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ فشكرا له ورجعا.

ورحل ملك الروم إلى الشام ففتح حمص وشيزر ونهبهما، وحاصر طرابلس فامتنعت عليه فأقام بها أربعين ليلة، ثمّ رحل عائداً إلى بلده.

انقراض بني حمدان بحلب واستيلاء بني كلاب عليها:

ثمّ إنّ أبا نصر لؤلؤاً مولى سيف الدولة، عزل أبا الفضائل مولاه بحلب، وأخذ البلد منه ومحا دعوة العباسيّة، وخطب للحاكم العلوي بمصر ولقبّه مرتضى الدولة.

ثمّ فسد حاله معه فطمع فيه بنو كلاب بن ربيعة، وأميرهم يومئذٍ صالح بن مرداس. وقبض لؤلؤ على جماعة منهم دخلوا إلى حلب كان فيهم صالح، فاعتقله مدّةً وضيّق عليه، ثمّ فرّ من محبسه ونجا إلى أهله.

وزحف إلى حلب ولؤلؤ، وكانت بيه وبينهم حروب هزمه صالح آخرها وأسره سنة ستّين وأربعمائة.

وخلص أخوه نجا إلى حلب فحفظها، وبعث إلى صالح في فدية أخيه وشرط له ما شاء فأطلقه ورجع إلى حلب، واتهم مولاه فتحاً وكان نائبه على القلعة بالمداخلة في هزيمته فأجمع نكبته، ونمي إليه الخبر، فكاتب الحاكم العلوي وأظهر دعوته، وانتقض على لؤلؤ، فأقطعه الحاكم صيدا وبيروت، ولحق لؤلؤ بالروم في أنطاكية فأقام عندهم، ولحق فتح بصيدا، واستعمل الحاكم على حلب من قبله.

وانقرض أمر بني حمدان من الشام والجزيرة أجمع، وبقيت حلب في ملك العبيديين.

ثمّ غلب عليها صالح بن مرداس الكلابي، وكانت بها دولة له ولقومه ورثها عنهم بنوه.

٣٦

ذكر ما لأوّل بني حمدان من

المكانة في دولة العبّاسيّين

(ما جاء في وفيات الأعيان للقاضي ابن خِلّكان)

قال في ترجمة ناصر الدولة - بعد أن ذكر سلسلة نسبه - هكذا:

أبو محمّد الحسن الملقّب ناصر الدولة بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان بن حمدون بن الحرث بن لقمان بن راشد بن المثنى بن رافع بن الحرث بن غطيف بن محربة بن حارثة بن مالك بن عبيد بن عدي بن أسامة ابن مالك بن بكر بن حبيب بن عمرو بن غنم بن تغلب التغلبي.

كان صاحب الموصل وما والاها، وتنقلت به الأحوال تارات إلى أن ملك الموصل بعد أن كان نائباً بها عن أبيه ؛ ثمّ لقّبه الخليفة المتّقي بالله ناصر الدولة وذلك في مستهلّ شعبان سنة ثلاثين وثلاثمئة ؛ ولقّب أخاه سيف الدولة في ذلك اليوم أيضاً، وعظم شأنهما.

وكان الخليفة المكتفي بالله قد ولّى أباهما عبد الله بن حمدان الموصل وأعمالها في سنة اثنتين وتسعين ومئتين، فسار إليها ودخلها في أوّل سنة ثلاث وتسعين ومئتين.

وكان ناصر الدولة أكبر سنّاً من أخيه سيف الدولة وأقدم منزلةً عند الخلفاء، وكان كثير التأدّب معه. وجرت بينهما يوماً وحشة، فكتب إليه سيف الدولة:

لست أجفو وإن جفوت ولا أت رك حـقّاً عـليَّ في كلِّ حالِ

٣٧

إنّـما أنـت والدٌ والأب الجا في يجازى بالصبر والاحتمالِ

وكتب إليه مرةً أُخرى:

رضـيت لك العليا وإن كنت أهلها وقـلت لـهم بيني وبين أخي فرقُ

ولـم يـك بـي عنها نكولٌ وإنّما تـجافيت عـن حقّي فتمّ لي الحقُّ

ولا بـدّ لـي من أن أكون مصلّياً إذا كنت أرضى أن يكون لك السبقُ

وكان ناصر الدولة شديد المحبّة لأخيه سيف الدولة ؛ فلمّا توفّي سيف الدولة تغيّرت أحوال ناصر الدولة وساءت أخلاقه وضعف عقله إلى أن لم يبق له حرمة عند أولاده وجماعته. فقبض عليه ولده أبو تغلب فضل الله الملقب عدّة الدولة المعروف بالغضنفر بمدينة الموصل باتفاق من إخوته، وسيّره إلى قلعة اردمشت في حصن السلامة.

وذكر شيخنا ابن الأثير في تاريخه أنّ هذه القلعة هي التي تُسمّى الآن قلعة كواشي، وذلك في يوم السبت الرابع والعشرين من جمادى الأُولى سنة ستّ وخمسين وثلاثمئة.

ولم يزل محبوساً بها إلى أن توفّي يوم الجمعة وقت العصر ثاني عشر شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وثلاثمئة، ونُقل إلى الموصل ودُفن في تل توبة شرقيّ الموصل. وقيل إنّه توفّي سنة سبع وخمسين وثلاثمئة.

وقال محمّد بن عبد الملك الهمداني في كتابه (عنوان السير ) في آخر ترجمة ناصر الدولة:

ولم يزل - يعني ناصر الدولة - مستولياً على ديار الموصل وغيرها حتّى قبض عليه ابنه الغضنفر في سنة ستّ وخمسين وثلاثمئة، وكانت إمارته هناك اثنتين وثلاثين سنة. وتوفي يوم الجمعة الثاني عشر من شهر ربيع الأوّل سنة سبع وخمسين وثلاثمئة.

وقُتل أبوه ببغداد وهو يدافع عن الإمام القاهر بالله، لثلاث عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمئة.

وأمّا الغضنفر بن ناصر الدولة، فإنّه جرت له مع عضد الدولة بن بويه لمّا ملك بغداد، بعد قتله بختيار ابن عمّه، وقد كان معه في الوقعة التي قُتل فيها قضايا يطول شرحها، وحاصلها: أنّ عضد الدولة قصده بالموصل فهرب

٣٨

منه إلى الشام، ونزل بظاهر دمشق والمستولي عليها قسام العيار، فكتب إلى العزيز بن المعز صاحب مصر يسأله تولية الشام، فأجابه إلى ذلك ظاهراً ومنعه باطناً. فتوجّه إلى الرملة في المحرّم سنة سبع وستّين وثلاثمئة وبها المفرّج بن الجرّاح البدوي الطائي، فهرب منه.

ثمّ جمع له جموعاً وعاد إليه، فالتقيا على بابها في يوم الاثنين لليلةٍ خلت من صفر في تلك السنة، فانهزم أصحابه وأُسر وقُتل يوم الثلاثاء ثاني صفر المذكور، ومولده يوم الثلاثاء لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة.

ما ورد في تاريخ الطبري في أوّل أمرهم:

(جاء فيه في حوادث ٢٧٢)

وفيها: ورد الخبر من مدينة السلام بدخول حمدان بن حمدون وهارون الشاري مدينة الموصل. وصلّى الشاري بهم في مسجد الجامع.

(جاء فيه في حوادث سنة ٢٨١)

لستِّ ليالٍ بقين من ذي القعدة، خرج المعتضد الخرجة الثانية إلى الموصل عامداً لحمدان بن حمدون ؛ وذلك أنّه بلغه أنّه مايل هارون الشاري الوازقي ودعا له، فورد المعتضد من كرخ جدّان على نجاح الحُرميّ الخادم بالوقعة بينه وبين الأعراب والأكراد، وكانت يوم الجمعة سلخ ذي القعدة:

(بسم الله الرحمن الرحيم: كتابي هذا وقت العتمة ليلة الجمعة، وقد نصر الله - وله الحمد - الأكراد والأعراب، وأظفرنا بعالم منهم وبعيالاتهم، ولقد رأيتنا ونحن نسوق البقر والغنم كما كنّا نسوقها عاماً أوّلا. ولم تزل الأسنّة والسيوف تأخذهم. وحال بيننا وبينهم الليل، وأوقدت النيران على رؤوس الجبال، ومن غد يومنا فيقع الاسقصاء، وعسكري يتبعني إلى الكرخ، وكان وقاعنا بهم وقتلنا إيّاهم خمسين ميلاً، فلم يبق منهم مخبرٌ والحمد لله كثيراً.

فقد وجب الشكر لله علينا والحمد له رب العالمين وصلّى الله على محمّدٍ نبيّه وآله وسلّم كثيراً، إلى أن قال:

٣٩

ثمّ خرج المعتضد إلى الموصل عامداً لقلعة ماردين، وكانت في يد حمدان بن حمدون، فلمّا بلغه مجيء المعتضد هرب وخلّف ابنه ؛ فنزل عسكر المعتضد على القلعة، فحاربهم مَن كان فيها يومهم ذلك. فلّما كان من الغد ركب المعتضد فصعد القلعة حتّى وصل إلى الباب، ثمّ صاح:

يابن حمدون!... فأجابه: لبيك.

فقال له: افتح الباب... ويلك... ففتحه.

فقعد المعتضد في الباب، وأمر من دخل، فنقل ما في القلعة من المال والأثاث، ثمّ أمر بهدمها فهُدمت.

ثمّ وجّه خلف حمدان فطلب أشدّ الطلب وأخذت أموال كانت له مودعة، وجيء بالمال إلى المعتضد ثمّ ظفر به بعد.

(وجاء فيه في حوادث سنة ٢٨٢)

وفيها: كتب المعتضد من الموصل إلى إسحاق بن أيوب وحمدان بن حمدون بالمصير إليه. فأمّا إسحاق بن أيوب فسارع إلى ذلك، وأمّا حمدان بن حمدون فتحصّن في قلاعه وغيّب أمواله وحرمه.

فوجّه إليه المعتضد الجيوش مع وصيف موشكير ونصر القشوري وغيرهما، فصادفوا الحسن بن علي كوره وأصحابه منيخين على قلعة حمدان بموضعٍ يُعرف بدير الزعفران من أرض الموصل، وفيها الحسين بن حمدان.

فلمّا رأى الحسين العسكر مقبلين طلب الأمان فأومن، وسار الحسين إلى المعتضد وسلّم القلعة، فأمر بهدمها.

وأغذّ وصيف موشكير السير في طلب حمدان، وكان قد صار في موضعٍ يُعرف بباسورين بين دجلة ونهر عظيم، وكان الماء زائداً، فعبر أصحاب وصيف إليه، ونذر بهم، فركب وأصحابه ودافعوا عن أنفسهم حتّى قتل أكثرهم ؛ فألقى حمدان نفسه في زورقٍ كان معدّاً له في دجلة ومعه كاتب له نصراني يسمّى زكرياء بن يحيى، وحمل معه مالاً وعبر إلى الجانب الغربي من دجلة من أرض دار ربيعة ؛ وقدّر اللحاق بالأعراب لمّا حيل بينه وبين أكراده الذين في الجانب الشرقي.

وعبر في أثره نفرٌ يسيرٌ من الجند، فاقتصّوا أثره حتّى أشرفوا على دير

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الأمّة تجربة ، وأكبر منك سنا ، فأنت أحق أن تجيبني الى هذه المنزلة التي سألتني ، فادخل في طاعتي ، ولك الأمر من بعدي ، ولك ما في بيت مال العراق من مال بالغا ما بلغ ، تحمله الى حيث أحببت ، ولك خراج أي كور العراق شئت معونة لك على نفقتك يجبيها أمينك ويحملها لك في كل سنة ، ولك أن لا يستولى عليك بالإساءة ، ولا تقضى دونك الأمور ، ولا تعصى في أمر أردت به طاعة الله ، أعاننا الله وإياك على طاعته إنه سميع مجيب الدعاء والسلام »(1) .

واشتملت هذه الرسالة ـ بكلتا الروايتين ـ على دجل معاوية ومراوغته ، وأغاليطه كما يقول الدكتور « أحمد رفاعي »(2) ولا بد لنا من وقفة قصيرة للنظر فى محتوياتها وهي :

1 ـ جاء فيها « أن هذه الأمّة لما اختلفت بينها لم تجهل فضلكم ، ولا سابقتكم للإسلام ، ولا قرابتكم من نبيكم. الخ » إن من تتبع الأحداث التي وقعت بعد وفاة النبي (ص) عرف زيف هذا الكلام ومجافته للواقع ، فان العترة الطاهرة واجهت بعد النبي (ص) أشق المحن والخطوب ، فان الجرح لما يندمل والرسول لما يقبر استبد القوم بالأمر ، وعقدوا سقيفتهم متهالكين على الحكم ، وتغافلوا عترة نبيهم فلم يأخذوا رأيهم ولم يعتنوا بهم ولما تم انتخاب أبي بكر خفوا مسرعين الى بيت بضعته وريحانته وهم يحملون مشاعل النار لإحراقه ، وسحبوا أخا النبي ووصيه أمير المؤمنين مقادا بحمائل سيفه ليبايع قسرا ، وهو يستجير فلا يجار ، وخلد بعد ذلك الى العزلة يسامر همومه وشجونه ، وتتابعت عليهم منذ ذلك اليوم المصائب والخطوب فلم يمض على انتقال النبي (ص) الى دار الخلد خمسون عاما وإذا بالمسلمين

__________________

(1) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

(2) عصر المأمون 1 / 17.

٦١

في موكب جهير يجوب البيداء من بلد الى بلد وهم يحملون رءوس أبنائه على أطراف الرماح ، وبناته سبايا « يتصفح وجوههن القريب والبعيد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ». وبعد هذه المحن التي ألمّت بهم هل أدت الأمّة حقهم وعرفت مكانتهم ولم تجهل فضلهم.

2 ـ ومن محتوياتها : « ورأى صالحاء الناس من قريش والأنصار وغيرهم أن يولوا الأمر من قريش الخ ». إن صالحاء المسلمين وخيارهم كانوا مع أمير المؤمنين ولم يرتضوا بيعة أبي بكر ، وأقاموا على ذلك سيلا من الاحتجاج والإنكار ذكرناه بالتفصيل فى الجزء الأول من هذا الكتاب.

لقد كانت مغبة اختيار قريش أن يحكم رقاب المسلمين معاوية ويزيد ومروان والوليد وأمثالهم من أئمة الظلم والجور الذين أغرقوا البلاد في الماسي والشجون وأمعنوا فى إذلال المسلمين وإرهاقهم حتى بايعوا في عهد يزيد انهم خول وعبيد له هذا ما رآه صالحاء الناس من قريش في صرف الأمر عن عترة نبيهم كما قال معاوية وقد وفقت فى اختيارها ـ كما يقولون ـ فانا لله وإنا إليه راجعون.

3 ـ ومن غريب هذه الرسالة قوله : « فلو علمت أنك أضبط للرعية مني وأحوط على هذه الأمّة ، وأحسن سياسة. الخ » نعم تجلت حيطته على الإسلام وحسن سياسته حينما تم له الأمر ، وصفا له الملك ، فانه أخذ يتتبع صالحاء المسلمين وأبرارهم فيمعن في قتلهم ومطاردتهم وزجهم في السجون. ومن حيطته على الإسلام استلحاقه لزياد بن أبيه ، وسبه لأمير المؤمنين على المنابر ، وفي قنوت الصلاة ، ونصبه ليزيد حاكما على المسلمين وأمثال هذه الموبقات والجرائم التي سودت وجه التاريخ.

٦٢

مذكرة معاوية :

وأرسل معاوية الى الإمام مذكرة يحذره فيها من الخلاف عليه ، ويمنيه بالخلافة من بعده إن تنازل له عن الأمر وهذا نصها :

« أما بعد : فان الله يفعل في عباده ما يشاء لا معقب لحكمه ، وهو سريع الحساب ، فاحذر أن تكون منيتك على أيدي رعاع من الناس وأيس من أن تجد فينا غميزة ، وإن أنت أعرضت عما أنت فيه ، وبايعتني وفيت لك بما وعدت ، وأجريت لك ما شرطت وأكون في ذلك كما قال أعشى بني قيس بن ثعلبة :

وإن أحد أسدى إليك أمانة

فأوف بها تدعى إذا مت وافيا

ولا تحسد المولى إذا كان ذا غنى

ولا تجفه إن كان في المال فانيا

ثم الخلافة لك من بعدي ، فأنت أولى الناس بها والسلام ».

وأكبر الظن ان هذه الرسالة المشتملة على مثل هذا اللون من التهديد والتوعيد إنما بعثها معاوية الى الإمام بعد ما اتصل اتصالا وثيقا بزعماء الجيش العراقي وقادته فضمنوا له تنفيذ مخططاته ، فانه لم يكتب ذلك إلا بعد الاتصال بزعماء العراق وانقطاع أمله من إجابة الحسن له.

جواب الامام :

ولم يعتن الإمام بتهديد معاوية ، وأجابه بجواب يلمس فيه الحزم والإصرار منه على الحرب وهذا نصه :

« أما بعد : فقد وصل إليّ كتابك ، تذكر فيه ما ذكرت ، وتركت جوابك خشية البغي عليك ، وبالله أعوذ من ذلك ، فاتبع الحق تعلم أني

٦٣

من أهله ، وعليّ أثم أن أقول فأكذب والسلام ».

وكانت هذه الرسالة هي آخر الرسائل التي دارت بين الإمام ومعاوية وعلى أثرها علم معاوية أنه لا يجديه خداعه وأباطيله ، ولا تنفع مغالطاته السياسية ، وعرف أن الإمام مصمم على حربه فاتجه بعد ذلك الى الحرب وتهيئة أسبابه ومقتضياته.

٦٤

اعلان الحرب

٦٥
٦٦

وبعد ما فشلت أغاليط معاوية ومخططاته السياسية رأى أن خير وسيلة له للتغلب على الأحداث أن يبادر الى اعلان الحرب لئلا يتبلور الموقف ، وتفوت الفرصة وأكبر الظن ـ انه بالإضافة الى ذلك ـ إنما استعجل الحرب لأمور وهي :

1 ـ إنه اتصل اتصالا وثيقا بزعماء العراق ، وقادة الجيش ، ورؤساء القبائل فاشترى ضمائرهم الرخيصة بالأموال ومنّاهم بالوظائف ، فأجابوه سرا الى خيانة الإمام وتنفيذ أغراضه ، ويدل على ذلك مذكرته التي بعثها الى عماله وولاته يطلب منهم النجدة والالتحاق به فانه أعرب فيها عن اتصالهم به.

2 ـ علمه بتفكك الجيش العراقي وتفلله وعدم طاعته للإمام وذلك مسبب عن أمور نذكرها مشفوعة بالتفصيل عند عرض علل الصلح وأسبابه

3 ـ علمه بوجود الخطر الداخلي الذي مني به العراق ، وسلمت منه الشام ، وهي فكرة الخوارج التي انتشرت مبادئها بين الأوساط العراقية ومن أوليات مبادئهم اعلان التمرد والعصيان على الحكم القائم ، ونشر الفوضى في البلاد ليتسنى لهم الإطاحة به واستلام قيادة الأمّة.

4 ـ مقتل الإمام أمير المؤمنين (ع) الذي فقد به العراق قائدا وموجها وخطيبا ، يحملهم على الحق ويثيبهم الى الصواب ، وقد أصبح العراقيون بعد فقده يسيرون فى ظلام قاتم ، ويتخبطون خبط عشواء قد فقدوا الرائد والدليل.

هذه الأمور ـ فيما نعلم ـ هي التي حفزت معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله ، فان العراق لو لم يمن بمثل هذه الكوارث والفتن لما وجد معاوية الى الحرب سبيلا ، ولبذل جميع طاقاته في تأخير الحرب ، وعقد

٦٧

الهدنة المؤقتة ـ كما فعل ذلك مع ملك الروم ـ حتى يتبين له الأمر فانا لا ننسى كلماته التي تنم عن خوفه وفزعه من العراقيين حينما كانوا صفا واحدا غير مبتلين بالتفكك والانحلال فقد قال : « ما ذكرت عيونهم تحت المغافر(1) بصفين إلا لبس على عقلي » ووصف اتحادهم بقوله : « إن قلوبهم كقلب رجل واحد » فلولا اختلافهم وتشتتهم لما بادر معاوية الى اعلان الحرب واستعجاله.

مذكرة معاوية لعماله :

ورفع معاوية مذكرة ذات مضمون واحد الى جميع عماله وولاته ، يحثهم فيها على الخروج الى حرب الإمام ويأمرهم بالالتحاق به سريعا بأحسن هيئة ، وأتم استعداد وهذا نصها :

« من عبد الله معاوية أمير المؤمنين ، الى فلان ابن فلان ، ومن قبله من المسلمين ، سلام عليكم ، فاني أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مئونة عدوكم ، وقتلة خليفتكم ، إن الله بلطفه أتاح لعلي بن أبي طالب رجلا من عباده فاغتاله فقتله فترك أصحابه متفرقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا الي حين يأتيكم كتابي هذا بجاهدكم وجندكم ، وحسن عدتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته »(2) .

__________________

(1) المغافر : جمع ، مفرده : مغفر ومغفرة ، وهو زرد يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 13.

٦٨

ولما وصلت هذه الرسالة الى عماله وولاته قاموا بتحريض الناس وحثهم على الخروج والاستعداد لحرب ريحانة رسول الله وسبطه وفي أقرب وقت التحقت به قوى هائلة منظمة لا ينقصها شيء من حيث الكراع والسلاح ، والعدد والعدة.

ولما توفرت له القوة الهائلة من الجند والعسكر وأصحاب المطامع الذين لا يقدسون سوى المادة زحف بهم نحو العراق وتولى بنفسه القيادة العامة للجيش ، وأناب عنه في عاصمته الضحاك بن قيس الفهري ، وقد كان عدد الجيش الذي نزح معه ستين ألفا ، وقيل أكثر من ذلك ، ومهما كان عدده فقد كان مطيعا لقوله ، ممتثلا لأمره ، منفذا لرغباته ، مذعنا له لا يخالفه ولا يعصيه.

وطوى معاوية البيداء بجيشه الجرار فلما انتهى الى جسر منبج(1) .

__________________

(1) جسر منبج : بفتح الميم وسكون النون وكسر الباء بلد قديم ، المسافة بينه وبين حلب يومان ، أول من بناه كسرى ، وقد أنجب جماعة من الشعراء يعد فى طليعتهم البحتري ، وقد عناها المتنبي بقوله :

قيل بمنبج مثواه ونائله

فى الأفق يسأل عمن غيره سألا

ولها يتشوق ابراهيم بن المدبر ، وكان يهوى جارية بها في قوله :

وليلة عين المرج زار خياله

فهيّج لي شوقا وجدد أحزاني

فأشرقت أعلى الدير أنظر طامحا

بألمح آماقي وأنظر انساني

لعلي أرى أبيات منبج رؤية

تسكن من وجدي وتكشف أشجاني

جاء ذلك في معجم البلدان 8 / 169.

٦٩

فزع العراقيين :

وحينما أذيع خبر توجهه وبلوغه الى هذا المحل عم العراقيين الذعر والخوف ، ولما علم الإمام بتوجهه أمر بعض أصحابه أن ينادى فى العاصمة « الصلاة جامعة » ويقصد بذلك جمع الناس فى جامع البلد ، فنودي بذلك وما هي إلا فترة يسيرة من الزمن حتى اكتظ الجامع بالجماهير الحاشدة فخرج (ع) فاعتلى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال :

« أما بعد : فان الله كتب الجهاد على خلقه وسماه كرها ، ثم قال لأهل الجهاد : اصبروا إن الله مع الصابرين ، فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون ، انه بلغنى أن معاوية بلغه أنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك ، اخرجوا رحمكم الله الى معسكركم في النخيلة(1) حتى ننظر وتنظرون ، ونرى وترون »(2) .

ولما أنهى (ع) خطابه وجم الحاضرون ، وأخرست ألسنتهم ، واصفرّت ألوانهم كأنهم قد سيقوا الى الموت ، فلم يجب الإمام أحد منهم كل ذلك لخوفهم من أهل الشام ، وحبهم للسلم ، وإيثارهم للعافية ، وكان هذا التخاذل في بداية الدعوة الى جهاد العدو ينذر بالخطر ويدعو الى التشاؤم واليأس من صلاحهم.

__________________

(1) النخيلة : تصغير نخلة موضع قريب من الكوفة على سمت الشام وبه قتل معاوية الخوارج لما ورد الى الكوفة وفيهم يقول ابن الأصم راثيا :

إني أدين بما دان الشراة به

يوم النخيلة عند الجوسق الحرب

جاء ذلك فى معجم البلدان 8 / 276.

(2) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 13.

٧٠

ولما رأى الصحابي العظيم والحازم اليقظ عدي بن حاتم(1) سكوت الجماهير وعدم اجابتهم للإمام غاظه ذلك والتاع أشد اللوعة ، فانبرى إليهم

__________________

(1) عدي بن حاتم الطائي كان أبوه حاتم مضرب المثل في الجود والسخاء ، يكنى عدي بأبي طريف ، وفد على النبي (ص) فى السنة التاسعة من الهجرة وكان نصرانيا فاسلم ، ولإسلامه حديث طريف طويل ، ذكره ابن الأثير في أسد الغابة ، روى عن النبي (ص) أحاديث كثيرة ، كان جوادا شريفا في قومه عظيما عندهم ، وعند غيرهم ، وكان حاظر الجواب ، ومن أهل الدين والتقى ، وهو القائل : ما دخل عليّ وقت الصلاة إلا وأنا مشتاق إليها ، ودخل يوما على عمر بن الخطاب فرأى منه تكبرا واستخفافا بحقه ، فالتفت إليه قائلا : أتعرفني؟ فأجابه عمر ، بلى والله أعرفك ، أكرمك الله بأحسن المعرفة ، أعرفك والله أسلمت إذ كفروا ، وعرفت إذ أنكروا ، ووفيت إذ غدروا ، وأقبلت إذ أدبروا فقال عدي : حسبي حسبي. شهد فتوح العراق ، ووقعة القادسية ، ووقعة النهروان ، ويوم الجسر مع أبي عبيدة وغير ذلك ، ومن كرمه ونبله أن الأشعث ابن قيس أرسل إليه شخصا يستعير منه قدور حاتم ، فملأها عدي طعاما وحملها إليه فأرسل إليه الأشعث إنما أردناها فارغة ، فأجابه عدي ، إنا لا نعيرها فارغة ، وكان يفت الخبز للنمل ويقول : إنهن جارات ولهن حق ، كان من المنحرفين عن عثمان ، وشهد مع الامام وقعة الجمل ففقئت عينه بها ، وله ولدان ، قتل أحدهما مع الامام علي ، والآخر مع الخوارج ، وشهد صفين أيضا وكان له بها مواقف مشهورة توفي سنة سبع وستين من الهجرة ، وقيل غير ذلك ، كان له من العمر مائة وعشرون سنة ، قيل توفى بالكوفة ، وقيل بقرقيسيا والأول أصح ، جاء ذلك فى أسد الغابة 3 / 392 ، وقريب منه جاء فى كل من الاصابة والاستيعاب وتهذيب التهذيب.

٧١

منكرا سكوتهم وتخاذلهم المفضوح قائلا بنبرات تقطر حماسا وعزما :

« أنا عدي بن حاتم ، سبحان الله ما أقبح هذا المقام!!! ألا تجيبون إمامكم ، وابن بنت نبيكم؟ أين خطباء المصر الذين ألسنتهم كالمخاريق في الدعة ، فاذا جد الجد راوغوا كالثعالب ، أما تخافون مقت الله ، ولا عيبها وعارها ».

ثم التفت الى الإمام مظهرا له الطاعة والامتثال قائلا :

« أصاب الله بك المراشد ، وجنبك المكاره ، ووفقك لما يحمد ورده وصدره ، قد سمعنا مقالتك ، وانتهينا الى أمرك ، وسمعنا لك ، وأطعنا فيما قلت ورأيت ».

ثم أظهر الى المجتمع عزمه على الخروج لحرب معاوية فورا قائلا :

« وهذا وجهي الى معسكرنا ، فمن أحب أن يوافي فليواف ».

ثم خرج من المسجد وكانت دابته بالباب فركبها وخرج وحده من دون أن يلتحق به أحد وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه ، فانتهى الى النخيلة فعسكر بها وحده(1) .

وهكذا اضطرب غيظا وموجدة كل من الزعيم قيس بن سعد بن عبادة ، ومعقل بن قيس الرياحي(2) ، وزياد بن صعصعة التميمي لما رأوا

__________________

(1) شرح النهج ابن أبي الحديد 4 / 14.

(2) معقل بن قيس الرياحي : أدرك النبي (ص) ، قال ابن عساكر : أوفد عمار معقلا على عمر يخبره بفتح تستر ، كما وجهه الى بني ناجية حين ارتدوا وكان من امراء الإمام علي (ع) يوم الجمل ومدير شرطته ، وذكر خليفة بن الخياط أن المستورد بن علقمة اليربوعي الخارجي بارزه لما خرج بعد علي فقتل كل منهما الآخر وكان ذلك سنة 42 هجرية في خلافة معاوية وقيل سنة 39 في خلافة علي جاء ذلك في الاصابة 3 / 475 ،

٧٢

سكوت الجماهير وعدم إجابتهم بشيء ، فلاموهم على هذا التخاذل وبعثوا فيهم روح النشاط الى حرب عدوهم ومناجزته ثم التفتوا الى الامام وكلموه بمثل كلام عدي فى الانقياد والطاعة والامتثال لأمره فشكرهم الامام على موقفهم المشرف ، وأثنى على شعورهم الطيب قائلا :

« ما زلت أعرفكم بصدق النية والوفاء والنصيحة فجزاكم الله خيرا ».

وخرج الامام (ع) من فوره لرد العدوان الأموي ، واستخلف فى عاصمته المغيرة بن نوفل بن الحرث(1) وأمره بحثّ الناس الى الجهاد واشخاصهم إليه فى النخيلة ، وطوى (ع) البيداء بجيشه الجرار المتخاذل ـ وسيأتي وصفه بعد قليل ـ حتى انتهى الى النخيلة فاستقام فيها فنظم جيشه(2) ثم ارتحل عنها وسار حتى انتهى الى ( دير عبد الرحمن ) فأقام

__________________

(1) المغيرة بن نوفل بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي ولد على عهد الرسول (ص) بمكة قبل الهجرة ، وقيل لم يدرك من حياة رسول الله (ص) إلا ست سنين يكنى بأبي يحيى تزوج بامامة بنت أبي العاص بن الربيع ، وكانت امامة زوجا للإمام علي ، فلما قتل أوصى (ع) أن يتزوجها المغيرة من بعده ، فلما مات (ع) تزوج بها المغيرة. وهو ممن شهد مع الامام صفين ، وكان في أيام عثمان قاضيا ، وقد روى عن النبي (ص) حديثا واحدا وهو قوله (ص) : « من لم يحمد عدلا ولم يذم جورا ، فقد بات لله بالمحاربة » جاء ذلك في أسد الغابة 4 / 407.

(2) جاء في الخرائج والجرائح ص 228 أنه نزح مع الامام من أراد الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا ، وغرّوه كما غرّوا الامام عليا من قبل وعسكر (ع) في النخيلة عشرة أيام فلم يحضر معه إلا أربعة آلاف فرجع الى الكوفة ليستنفر الناس وخطب خطبته التي يقول فيها : « قد غررتموني كما غررتم من كان قبلي ».

٧٣

به ثلاثة أيام ليلتحق به المتخلفون من جنده ، وعنّ له أن يرسل مقدمة جيشه للاستطلاع على حال العدو وإيقافه فى محله لا يتجاوزه الى آخر ، واختار الى مقدمته خلّص أصحابه من الباسلين والماهرين ، وكان عددهم اثنى عشر الفا ، واعطى القيادة العامة الى ابن عمه عبيد الله بن العباس ، وقبل أن تتحرك هذه الفصيلة من الجيش دعا الامام قائدها العام عبيد الله فزوده بهذه الوصية القيّمة وهي :

« يا ابن العم! إني باعث معك اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر ، الرجل منهم يزيد الكتيبة ، فسر بهم ، وألن لهم جانبك ، وابسط لهم وجهك ، وافرش لهم جناحك ، وادنهم من مجلسك ، فانهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، وسر بهم على شط الفرات ، ثم امضي حتى تستقبل بهم معاوية ، فان أنت لقيته فاحتبسه حتى آتيك ، فاني على أثرك وشيكا ، وليكن خبرك عندي كل يوم ، وشاور هذين ـ قيس بن سعد وسعيد بن قيس ـ وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فان فعل فقاتله ، وإن أصبت ، فقيس بن سعد على الناس ، فان اصيب ، فسعيد بن قيس على الناس ». وحفلت هذه الوصية بما يلي :

1 ـ إنها دلت على اطلاعه الوافر في تدبير شئون الدولة ، فان التوصية بالجيش بهذا اللون المشتمل على العطف والحنان ، والاطراء عليه بمثل هذا الثناء ، من أنهم بقية ثقات أمير المؤمنين ، والزام القيادة العامة باللين والبسط مما يزيد الجيش اخلاصا وإيمانا بدولته ، ومن الطبيعى ان الجيش إذا أخلص لحكومته ، وآمن بسياستها ثبتت قواعدها ، وظفرت بسياج حصين يمنع عنها العدوان الخارجي ، ويقيها من الشر والفتن الداخلية ، ويوجب لها المزيد من الهدوء والاستقرار.

٧٤

2 ـ وأما أمره أن لا يعتدي عبيد الله على معاوية ، ولا يناجزه الحرب حتى يكون هو المبتدي فليس ذلك لأن معاوية من مصاديق قوله تعالى : « وقاتلوا فى سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين »(1) فان معاوية لم يبق وليجة للاعتداء إلا سلكها ، فقد اعتدى في تخلفه عن بيعة أمير المؤمنين ، ومحاربته له في صفين ، وفي بعثه السفاح بسر بن أبي أرطاة وفعله بأمره ما فعل من المنكرات ، ولم يزل معتديا وخارجا على الاسلام الى حين وفاة أمير المؤمنين ، ولكن إنما أمر الحسن (ع) أن لا يبتدي عبيد الله بحربه لسد مراوغاته حتى لا يستطيع أن يدعي أنه ما جاء للحرب وإنما جاء للتداول في اصلاح أمر المسلمين.

3 ـ ونصت وصية الامام على الزام عبيد الله بمشاورة قيس بن سعد وسعيد بن قيس وترشيحهما للقيادة من بعده ، وفي ذلك الفات منه الى الجيش ان أمره المتبع هو المقرون بمشاورة الرجلين ، كما فيه توثيق لهما ، والحق انه لم يكن في جيش الامام من يضارعهما في نزعاتهما الخيرة وفي ولائهما لأهل البيت (ع) ، وأعظم بهما شأنا أنهما نالا ثقة الامام واهتمامه.

وقبل أن نطوي الحديث على هذا الموضوع نعرض بعض الجهات التي ترتبط فيه وهي :

1 ـ اختيار عبيد الله :

ويتساءل الكثير عن الحكمة التي رشح الامام من أجلها عبيد الله لقيادة مقدمة جيشه مع أنه كان في ذلك الجيش من هو أصلب منه إيمانا وأقوى عقيدة ، وأعظم اخلاصا كالزعيم قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس

__________________

(1) سورة البقرة آية 189.

٧٥

واضرابهما من الثقات والمؤمنين. « والجواب عن ذلك » ـ أولا ـ ان الامام (ع) أراد بذلك تشجيعه واخلاصه باسناد القيادة العامة إليه ـ وثانيا ـ ان له من الكفاءة والقدرة والحزم ما يجعله أهلا لهذا المنصب الرفيع ، فهو قد تربى فى مدرسة الامام أمير المؤمنين (ع) ولكفاءته وقدرته نصبه الامام (ع) واليا على اليمن. ـ وثالثا ـ إنه حري بأن يخلص ويبذل قصارى جهوده في المعركة لأنه موتور من قبل معاوية ، فلقد قتل ولديه بسر بن ارطاة. ـ ورابعا ـ ان الامام (ع) لم يجعل القيادة العامة بيده بل جعلها ثلاثية بينه وبين قيس بن سعد ، وسعيد بن قيس ، وقد أوفى المسألة حقها من جميع الوجوه سماحة المغفور له آل ياسين(1) .

2 ـ عدد الجيش :

واضطربت كلمة المؤرخين في تحديد الجيش الذي نزح مع الامام الى مظلم ساباط ، فابن أبي الحديد ذكر أنه نزح مع الامام جيش عظيم ولم يحدده إلا أنه حدد المقدمة التي تولى قيادتها عبيد الله فقال : « إن عددها كان اثنى عشر ألفا من فرسان العرب وقراء المصر(2) . وذكر الطبري وغيره انه كان اربعين ألفا(3) ، ويستفاد من مطاوي بعض الأحاديث التي دارت بين الامام وبعض أصحابه في أمر الصلح أن عدد الجيش كان مائة ألف كقول سليمان بن صرد للامام (ع) وهو في مقام التقريع له

__________________

(1) صلح الحسن ص 96.

(2) شرح ابن أبي الحديد 4 / 14.

(3) تأريخ الطبري 6 / 94.

٧٦

على امضائه وقبوله الصلح « أما بعد : فان تعجبنا لا ينقضي من بيعتك معاوية ومعك مائة ألف مقاتل من أهل العراق »(1) ، كما يستفاد أيضا أنه كان تسعين ألفا(2) ، وقيل أنه سبعون ألفا(3) الى غير ذلك ، والذي نذهب إليه أن عدد الجيش كان يربو على أربعين ألفا ، ويدل على ذلك ما حدث به نوف البكالي(4) قال : لما عزم الامام على العودة الى حرب معاوية قبيل وفاته باسبوع عقد للحسين على عشرة آلاف ، ولأبي أيوب على عشرة آلاف ، ولقيس بن سعد على عشرة آلاف ، ولغيرهم على أعداد أخر

__________________

(1) الإمامة والسياسة 1 / 151.

(2) تاريخ اليعقوبي 2 / 194 ذكر ذلك في جواب زياد الى معاوية حينما هدده وذلك قبل أن يستلحقه به ، فقال زياد : إن ابن آكلة الأكباد ، وكهف النفاق ، وبقية الأحزاب ، كتب يتوعدني ويتهددني وبيني وبينه ابنا رسول الله فى تسعين ألفا.

(3) البداية والنهاية 8 / 42 وجاء فيه أن رجلا دخل على الحسن بن علي وبيده صحيفة فقال له الرجل : ما هذه؟ فأجابه الامام ان معاوية يعدنيها ويتوعد ، فقال الرجل : قد كنت على النصف منه ، فأجابه الامام : إني خشيت أن يجيء يوم القيامة سبعون ألفا أو ثمانون أو أكثر أو أقل تنضح أوداجهم دما كلهم يستعدي الله فيم اهريق دمه ، وقريب من هذا ذكره ابن أبي الحديد فى شرح النهج 4 / 7.

(4) نوف البكالي : بفتح الباء وتخفيف الكاف ، كان من أصحاب أمير المؤمنين (ع) ، ونقل عن تغلب انه منسوب الى بكال قبيلة من همدان ، ويقال : بكيل وهو أكثر ، وقال ابن أبي الحديد : انه بكال بكسر الباء وهي قبيلة من حمير منهم هذا الشخص وهو نوف بن فضالة صاحب الامام علي (ع) جاء ذلك في التعليقات ص 354.

٧٧

وهو يريد الرجعة الى صفين ، فما دارت عليه الجمعة حتى ضربه ابن ملجم بالسيف(1) ، فهذا القول يروي لنا جيشا مسلحا كان متهيئا للحرب قد عدّ اسماء جماعة من قادته لهم السلطة على ثلاثين ألف جندي مسلح ولم يذكر لنا أسماء القادة الآخر الذين نصبهم الإمام على كتائب جيشه ولا كمية عدد الجيش الآخر ولا شك بأنهم كانوا يربون على عشرة آلاف ، هؤلاء جميعا قد بايعوا الحسن ونفروا معه الى حرب عدوه ، ويدل على ذلك ما رواه ( أبو الفداء ) ان الحسن تجهز الى حرب معاوية بالجيش الذي بايع أباه(2) ويؤيده أيضا ما ذكره ( ابن الأثير ) قال :

« كان أمير المؤمنين علي قد بايعه أربعون ألفا من عسكره على الموت لما ظهر ما كان يخبرهم به عن أهل الشام ، فبينما هو يتجهز للمسير قتلعليه‌السلام ، وإذا أراد الله أمرا فلا مرد له ، فلما قتل وبايع الناس ولده الحسن بلغه مسير معاوية في أهل الشام إليه فتجهز هو والجيش الذين كانوا بايعوا عليا وسار عن الكوفة الى لقاء معاوية »(3) .

ويؤكد ذلك حديث المسيب بن نجبة مع الامام في أمر الصلح قال له « ما ينقضي عجبي منك صالحت معاوية ومعك أربعون ألفا »(4) .

فعدد الجيش على هذه الروايات المتوافرة كان أربعين الفا ، وهو الذي يذهب إليه ، وقد ناقش سماحة الحجة المغفور له آل ياسين الروايات

__________________

(1) شرح النهج محمد عبده 2 / 132.

(2) تاريخ أبي الفداء 1 / 193.

(3) الكامل 3 / 61.

(4) شرح ابن أبي الحديد 4 / 6.

٧٨

المتقدمة واختار بعد التصفية والمناقشة ان عدده كان عشرين ألفا أو يزيد قليلا(1) .

ومهما كان الأمر فان الاختلاف في عدده ليس بذي خطر لأن الجيش مهما كان عدده كثيرا وخطيرا إذا كان مختلف الأهواء والنزعات لا بد وأن ينخذل ولا يحرز فتحا ونصرا ، لأن الاعتبار في النصر والظفر دائما إنما هو بالإخلاص والإيمان والعقيدة ووحدة الكلمة ، لا بالكثرة وضخامة العدد فكم فئة قليلة تضامنت فيما بينها ، واتحدت وتعاونت ، قد حازت النصر وفتحت فتحا مبينا ، وسحقت القوى المقابلة لها وإن كانت أكثر منها عدة وأعظم استعدادا أوفر قوة ، والجيش العراقي مهما بلغ عدده وبولغ في كثرته فانه مصاب بالاختلاف والتفكك والانحلال ومع ذلك فكيف يظفر بالنجاح وما ذا تفيده الكثرة؟ وضخامة العدد؟.

3 ـ وصف الجيش :

لا شك أن الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة ، ويبتنى عليه كيانها ، وهو السياج الواقي للحكومة والشعب من الاعتداء ، وعليه المعول فى حفظ النظام وسيادة الأمن ، لكن فيما إذا كان مخلصا فى دفاعه ومؤمنا بحكومته ، وأما إذا كان خائنا أو لا ينظر لدولته إلا بنظر العداء والانتقام ويترقب الفرص للفتك بها وتمكين العدو منها ، فانها حتما لا تنجح في أي ميدان من ميادين الصراع الداخلي والخارجي ولا تفوز بالنجاح حينما يتلبد جوّها السياسى بالغيوم القاتمة والأخطار الفاتكة ، وكان الجيش العراقي الذي زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس فى الفتنة وماج في الشقاء

__________________

(1) صلح الحسن ص 106.

٧٩

فكان خطره على الدولة أعظم من خطر معاوية ، وقد وصفه الشيخ المفيدرحمه‌الله وقسمه الى عناصر وقد أجاد فى وصفه وأبدع في تقسيمه ، قال طيب الله مثواه :

« واستنفر الناس للجهاد فتثاقلوا عنه ، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه ، وبعضهم محكمة يؤثرون قتال معاوية بكل حيلة ، وبعضهم أصحاب فتن وطمع بالغنائم ، وبعضهم شكاك ، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون الى دين »(1) .

وأعرب الشيخ المفيد نضّر الله مثواه في كلامه ـ أولا ـ عن كراهة الجيش للحرب ، وإيثاره للعافية ، ورغبته في السلم ، وأفاد ـ ثانيا ـ في تقسيمه ان الجيش ينقسم الى عناصر متباينة فى أفكارها ، مختلفة في عقائدها وهي كما يلي :

1 ـ الشيعة :

وهؤلاء فيما يظهر عدد قليل في الجيش العراقي ولو كانوا عددا كثيرا فيه ، لما أجبر أمير المؤمنين (ع) على التحكيم في صفين ولما صالح الحسن معاوية وهذا العنصر يخالف بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حقوق أهل البيت وانهم أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته ، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.

__________________

(1) الارشاد ص 169 ، وذكر هذا المعنى بعينه علي بن محمد الشهير بابن الصباغ في الفصول المهمة ص 143 ، والأربلي فى كشف الغمة ص 161 ، والمجلسي في البحار 10 / 110.

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486