تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني16%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75897 / تحميل: 9809
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.

هجرة الخليل عليه‌السلام :

لقد حكمت محكمة « بابل » على « إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّعليه‌السلام ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى « هاجر ».

وكانت زوجته « سارة » لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق(١) .

وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى « إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة » ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٨ و ١١٩.

١٤١

الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم.

لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : « إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ».

ثمّ قال في ضراعة خاصة : «ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »(١) .

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : «رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »(٢) .

إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة ، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٦.

٢ ـ إبراهيم : ٣٧.

١٤٢

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر « إبراهيم »عليه‌السلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل » ، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ، فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ».

فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها.

١٤٣

ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ، وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى « هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه ، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم.

تجديد اللقاء :

كان إبراهيمعليه‌السلام بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.

وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له : فَلْيغيّر عتبة بابه ».

١٤٤

وذهب إبراهيمعليه‌السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه « إسماعيل » له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيلعليه‌السلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة(١) .

وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيمعليه‌السلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.

ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة » قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيمعليه‌السلام ، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام »(٢) على حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً »(٣) .

وهذا يكشف عن ان مكة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٢ نقلا عن قصص الأنبياء.

٢ ـ إبراهيم : ٣٥.

٣ ـ البقرة : ١٢٦.

١٤٥

عليه‌السلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير ذي زرع.

* * *

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التاريخ.

٢ ـ قُصَيُّ بنُ كلاب :

إن أسلاف الرَّسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ، قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ، كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان(١) .

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيلعليه‌السلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : « إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا »(٢) هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين ، ومشهورين في تاريخ

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٢ ـ ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ١٠٥ عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج ١ ، ص ١٥.

١٤٦

العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة(١) .

أمّا « قُصَيّ » وهو الجدّ الرابع لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة » و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ » يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى إرجاعه إلى « مكة ».

وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفي « قصيّ » في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما :

« عبد الدار » و « عبد مناف ».

٣ ـ عبد مناف :

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه « المغيرة » ولقبه

__________________

١ ـ لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج ٢ ، ص ١٥ ـ ٢١.

١٤٧

« قمر البطحاء » ، وكان أصغر من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام(١) .

٤ ـ هاشم :

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس » توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ».

هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس » وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك(٢) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

__________________

١ ـ لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن :

١ ـ سدانة الكعبة.

٢ ـ سقاية الحجيج.

٣ ـ رفادتهم وضيافتهم.

٤ ـ زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٣.

١٤٨

( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية ( وهم من اولاد عبد شمس )(١) .

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء عليعليه‌السلام في حين أن تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ، وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم ـ مثلا ـ توفي في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن(٢) .

وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا :

« يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً.

يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ، فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »(٣) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٤٩

ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة » حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ، وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.

اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :

ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى

١٥٠

دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :

١ ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

٢ ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين(١) .

وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى ١٣٠ عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ١٠ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

١٥١

إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب‍ « عبد المطلب ».

وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».

وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب(١) .

وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٦ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨ و ٩ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٥٢

« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

٥ ـ عبدُ المطّلب :

عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.

فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.

١٥٣

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته »(١) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.

حَفرُ زَمزَم :

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة(٢) .

ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : ٩٦.

١٥٤

واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.

ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك.

وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا

١٥٥

يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح(١) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك »(٢) .

فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.

__________________

١ ـ ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ، ص ٢٠٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٧.

١٥٦

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.

ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.

ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة(١) .

وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

__________________

١ ـ هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

١٥٧

فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل.

فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.

ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٥٣ ، وبحار الانوار : ج ١٦ ، ص ٧٤ ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيلعليه‌السلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيلعليه‌السلام .

١٥٨

حادثة عام الفيل :

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.

فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام ٥٧٠ وأتفقت فيه

١٥٩

ولادة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل‍ « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود(١) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل

__________________

١ ـ وفاء الوفا : ج ١ ، ص ١٥٧ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢١ و ٢٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

٣٨١

امتلاك الفرنج بعض أعمال طرابلس ومصير فخر الملك

لمّا فرغ الفرنج من طرابلس، سار طنكري صاحب أنطاكية إلى بانيس وحصرها وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك ابن عمّار الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجّة من السنة بالأمان.

وخرج فخر الملك بن عمّار سالماً، ووصل عقيب ملك طرابلس الأسطول المصري بالرجال والمال والغلال وغيرها ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيّام، للقضاء النازل بأهلها، وفرّقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور وصيداء وبيروت.

وأمّا فخر الملك ابن عمّار فإنّه قصد شيزر ؛ فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني واحترمه، وسأله أن يقيم عنده فلم يفعل، وسار إلى دمشق فأنزله طغتكين صاحبها وأجزل له في الحمل والعطيّة وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرّم سنة اثنتين وخمسمئة.

وفي ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي: كان ذلك في محرّم سنة ٥٠٣، وكان سفر فخر الملك بن عمّار مع ظهير الدين اتابك إلى بغداد في جمادى الأُولى من هذه السنة، أي بعد امتلاك الفرنج لطرابلس.

ولم يرد ذكرٌ لفخر الملك بن عمّار من هذه السنة إلى سنة ٥١٤ في المصادر التي نعتمدها، فقد جاء في الجزء العاشر من كامل ابن الأثير في أحداث هذه السنة:

٣٨٢

وفي هذه السنة سار أبو علي بن عمّار - الذي كان صاحب طرابلس - مع سديد الدولة ابن الأنباري إلى إيلغازي، وكان قد أرسل المسترشد بالله خلعاً معه إليه، وشكره على ما فعله من غزو الفرنج، ليقيم عنده يعبر الأوقات بما ينقم به عليه، وكان إيلغازي هذا صاحب حلب توفّي سنة ٥١٦.

وجاء قبل هذا في الجزء العاشر من كامل ابن الأثير في حوادث سنة ٥١٤ ما يتعلّق بابن عمّار ما يلي:

واتّصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيّد محمد بن أبي إسماعيل يكتب الطغراء مع الملك، فلمّا وصل والده استوزره مسعود بعد أن عزل أبا علي بن عمّار - صاحب طرابلس - سنة ثلاث عشرة بباب خوي.

وبعد هذا لم نجد لابن عمّار ذكراً، وانقطعت أخباره، والظاهر أنّه صرف أُخريات أيّامه في حلب، وقد لجأ إلى صاحبها نجم الدين إيلغازي بصحبة سديد الدولة بن الأنباري، الذي أوفده المسترشد بالله إليه كما سبق بيانه.

قرأت في الجزء ١٨٢ من مجلّة الجديد مقالاً تحت عنوان: ابن عمّار أبي علي بطل طرابلس، بقلم لحد خاطر، فرأيت الإفادة بضمّه إلى سلسلة تاريخه.. قال:

(كان أبو علي فخر الملك ابن عمّار حاكماً لطرابلس من قِبَل ظهير الدين طغتكين نائب الدولة السلجوقية في دمشق، وهذه الدولة من الترك ظهرت في العجم واستولت على العراق ودمشق، ولم تلبث أن استولت على بعض المدن الساحليّة والإقطاعات الجنوبيّة من لبنان، منتزعة إيّاها من الدولة الفاطميّة التي نشأت في المغرب، وجعلت قاعدة حكمها القاهرة، وبسطت سلطانها على أنحاء كثيرة من الشرق الأدنى منها: سورية وبعض جهات لبنان.

كانت طرابلس في ذلك العهد أهم عمل على الشاطىء اللبناني، وقد أسند طغتكين ولايتها إلى ابن عمّار، لما كان قد خبره فيه من الألمعيّة

٣٨٣

والدهاء، وقوّة الشكيمة، عاهداً إليه في أن يواصله بالتقارير عن حالة لبنان، يشبعها درساً ويبثّ إليه بالخطّة الواجب سلوكها لتطهيره من أحلاف الفاطميّين، ووضعه نهائيّاً تحت السيطرة السلجوقيّة.

وكان لبنان بلداً مقسّماً لا حدود ثابتة له ؛ لوفرة ما كان يحيط به من المطامع، وقصارى ما يمكن قوله عنه: إنّه كان يتألّف من عدّة إقطاعات، على كلٍّ منها أمير أو مقدّم يكاد يكون مستقلاًّ تمام الاستقلال في أعماله.

ومن أخصّ الإقطاعات في الساحل اللبناني بذلك العهد: طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور، وهي إقطاعات كان يتنازعها يومئذٍ السلجوقيّون والفاطميّون، فبينا هي اليوم لهؤلاء إذا بها في اليوم الثاني لأولئك.

وكان السلجوقيّون يتقوّون عليها بجيشهم البرّي، بينما كان الفاطميّون يحرزونها بقوّة أسطولهم البحريّ المؤلّف من مئات المراكب الحسنة التنظيم المشحونة بالمقاتلة وأنواع الأسلحة والذخائر.

أمّا الإقطاعات الجبليّة، فكانت الشماليّة منها من أقصى لبنان إلى حمانا ونهر الجعماني، فكانت بأيدي أمراء الموارنة وبني فوارس جدود آل أبي اللمع المعروفين بالأمراء الجرديّين.

وأمير النصيريّين الملقّب بشيخ الجبل، فكان هؤلاء على تباينهم في الدين، يؤلّفون حلفاً قوميّاً فيما بينهم يعمل بكلّ وسيلةٍ على صيانة استقلالهم، والوقوف في وجه كلّ طامعٍ يبسط أيّة سيطرةٍ عليهم.

أمّا الإقطاعات الجنوبيّة من حمانا وما حاذاها شرقاً وغرباً فقد كانت بأيدي أمراء الغرب التنوخيين، وكان هؤلاء نزلوا مواطنهم بأمر العبّاسيين، فاضطرّوا إلى مماشاتهم، ثمّ ماشوا من بعدهم الفاطميّين والسلجوقيّين، على أنّ تلك المماشاة كانوا يقصرونها على ما يرون فيه منفعتهم وتقوية نفوذهم.

وممّا يُؤسف له أنّهم أطاعوهم مراراً في مهاجمة الشماليّين وقتالهم لنزع استقلالهم، فنشأت بسبب ذلك بين اللبنانيين دهراً عصبيّة ممقوتة دهتهم بالفواجع وزادت في تخاذلهم وإيهان قوّتهم.

درس أبو علي حالة لبنان تلك، ورفع عنها التقارير إلى مولاه طغتكين،

٣٨٤

فوردته الأوامر بالاستعداد لتدويخ لبنان برمّته، وطرد الأحزاب الفاطميّة منه، وإرغامه على الخضوع للدولة السلجوقيّة وجعله عملاً من أعمالها، على أن يكون هو العامل الأعلى من قِبَلها، ولكن حدث له حينئذٍ ما صرفه عن نيّته تلك واضطرّه إلى تحويل جهوده إلى ناحيةٍ أُخرى بُلي فيها بالخذلان على ما أبداه من البطولة والشدّة في المقاومة، وكان خذلانه ذلك وسيلة علويّة لصيانة لبنان.

ذلك أنّ جموع الإفرنج المستنفرين إلى الشرق من جميع ممالك أوروبة إثر ما سمعوه عنه من الأحاديث ذات الشجون، تحوّلوا عن بعلبك والبقاع في طريقهم إلى بيت المقدس، ومالوا إلى الغرب وساروا على سيف البحر جنوباً، يكتسحون البلدان ويفتحون المدن، ممّا دلّ على الصولة والبطش.

وكان أبو علي حادّ الذهن ذكيّاً ؛ فعرف أنّهم واصلون إليه، ولا ريب، وشيكاً فلم يجبن إزاء هذا الاستنتاج، ولا تردّد بل نهض في الحال - بما عُرف به من همّةٍ عاليةٍ ونيّرة وقّادة - إلى حشد الجنود وجمع المؤن وترميم الحصون والأسوار، ولكنّ الفرنجة فاجأُوه قبل أن يستكمل معدّات دفاعه، وفيما كان يفكّر في أمره جاءه مَن أخبره أنّ أُمراء الجبال الشمالية لاقوا الفرنجة مرحبين، وقد نالوا لديهم حظوة، وكانت له صلة ولاء بأحد نبلائهم الأمير موسى حاكم بشراي، فرأى توسيطه في صرفهم بالحسنى عن المدينة، ريثما يتيّسر له إنجاز ما بدأ به.

وكان الأمير موسى يحب في أبي عليٍّ شجاعته وسموّ مؤهّلاته، ولكنّه كان ينكر عليه أشياء منها: تضييقه أحياناً على بعض الضعفاء من سكّان المدينة، وتسامحه في إرهاق بعض العامّة من اللبنانيين المختلفين إليها، فلمّا جاء يكلّفه التوسّط، وعده بإجابة طلبه على أن يرجع عمّا كان يؤاخذه عليه من أعماله، فأسمعه هو أيضاً أحسن المواعد.

نجح الأمير موسى في مهمّته، وصالح الإفرنج ابن عمّار، على أن يقدّم لهم بعض المؤن والذخائر بثمنٍ عادل ؛ فتابعوا طريقهم في الساحل دون أن يدخلوا المدينة، وبعد رحيلهم عاد أبو علي إلى استعداداته، لا يعرف فيها ليناً ولا هوداة، وبعد مدّةٍ جعل يعتقل بعض الأبرياء، خصوصاً ممّن أصلهم من الجبال التابعة للأمير موسى بناءً على وشاياتٍ كاذبةٍ، ويودعهم السجن، وأمر بإقفال الأسوار.

وكان من المعتقلين أسرة بشراويّة

٣٨٥

الأصل فيها فتاة أحبّها الأمير موسى منذ صغره تُدعى جميلة، وكان ينوي الاقتران بها، فلمّا بلغه الخبر كتب إلى صديقه ابن عمّار يسأله إطلاق سراحها مع أُسرتها وإرسالهم إلى بشراي، فلم يردّ عليه الوالي جواباً ؛ فأظلمت الدنيا في عينيّ الأمير، وبينما كان يفكّر فيما يعمله لإنقاذ هذه الأسرة المسكينة، إذا بريموند كونت دي تولوز المعروف عند العرب بصنجيل الفرنجي يصل في سنة ١١٠٢م ويقيم عليها الحصار، وكانت جموعه قليلة، فاشتدّ ابن عمّار في مغالبته، فلم يفز من طرابلس بطائل، وبعث ابن عمّار مَن أقنعه أنّ طرابلس لا تُؤخذ وفيها أبو علي، فتحوّل صنجيل عنها لقاء مبلغ من المال، وسار يحاصر طرطوس وغيرها، وعاد الأمير موسى يكتب إلى ابن عمّار، ويذكّره بوعوده، طالباً الإفراج عن مَن سجنهم وفيهم من يحب، فلم يلق إلاّ إعراضاً.

وفتح ريموند طرطوس وحمص وعاد في سنة ١١٠٤م إلى طرابلس، فحاصرها ثانيةً برّاً وبحراً، مستعيناً ببعض النجدات من الإفرنج والوطنيّين الناقمين على ابن عمّار، لكنّ هذا الرجل الفولاذي العزيمة كان يحسن البلاء في الدفاع عنها، مستخدماً تارةً البطش وطوراً الحيلة في مماطلة الإفرنج، إلى أن أغراهم ببعض المال، فتركوه وساروا إلى جبيل، وكانت واهنة فتسلّموها سلماً، ولم يلبثوا أن عادوا إلى طرابلس، وكان صاحبها تنفّس الصعداء زمناً واستطرد التحصّن، فاشتدّ في قتالهم عهداً مديداً لا يقلّ عن خمس سنين، حتّى لقد أصبح اسمه (أبو علي) مثلاً ما زال يُضرب في لبنان حتّى اليوم لكلّ (قبضاي) متفوّق بشجاعته واستهتاره بالأخطار.

وبنى ريموند دي صنجيل على جبل الحجّاج وراء طرابلس حصناً دعي باسمه (حصن صنجيل) وأقام تحته ربضاً، فخرج فخر الملك أبو علي إليه فأحرق الربض، وكان صنجيل واقفاً على بعض سقوفه المحروقة، فانخسف به السطح ومات بعد عشرة أيّام، فحلّ ابنه برتران محلّه وواصل الحصار، وأظهر ابن عمّار صبراً عظيماً في مجالدته إلى أن قلّت الأقوات، ووفّرت الويلات فانسلّ من طرابلس ليلاً، وقصد إلى بغداد مستفزّاً صاحبها الملك السلجوقي لمعونته على إزاحة خصومه، حاملاً إليه الهدايا النفيسة، وذلك بعد أن استناب عنه ابن عمّه (أبا المناقب)، ورتّب معه الأجناد لمواصلة الحرب برّاً وبحراً، وأعطاهم (جامكية) ستّة أشهر سلفاً، فانقلب

٣٨٦

ابن عمّه في غيابه ونادى بشعار الفاطميّين، ولكنّ أصحاب أبي عليٍّ اعتقلوه وأودعوه السجن في حصن (الخوابي) حيث سُجنت الأميرة اللبنانية وأُسرتها.

ورأى أهل طرابلس أنّهم أضحوا بدون رئيس يتولّى قيادتهم، فراسلوا الأفضل أمير الجيوش في دولة المستعلي بالله ملك مصر الفاطمي، يلتمسون منه والياً يكون عليهم ومعه الميرة والذخيرة في البحر، فسيَّر إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيّب ومعه الأعتدة والمؤن، وغيرها ممّا يحتاجون إليه في الحصار، فلمّا صار بينهم قبض على جماعةٍ من أهل ابن عمّار وأصحابه، فقتل بعضهم وسجن آخرين، وأخذ ما وجد من ذخائره وآلاته، وحملها كلّها إلى مصر في البحر.

وشعر المحاصرون بضعف المدينة بعدما صارت إليه في غياب ابن عمّار، فساروا إليها من كلّ جهة، واضطرّ الأمير جرجس وأحلافه اللبنانيّون إلى نجدتهم لإنقاذ أسراهم.

وأرسل ملك مصر إليها أسطولاً، ولكنّ ريحاً عاصفاً ثارت على الأسطول فصدّته عن الوصول، فملكها الإفرنج بعد أن طلب أهلها الأمان فأمنوهم، وأذن لهم بالخروج منها حاملين من أموالهم وأمتعتهم ما أمكنهم حمله.

جعلت طرابلس بعد هذا الحصار الطويل عملاً رابعاً من أعمال الإفرنج في الشرق، وولّى عليها برتران بن ريموند صنجيل، ووُجدت الأسرة البشراوية في دهليز من دهاليز حصن الخوابي على آخر رمق من الحياة فزفّت فتاتها (جميلة) إلى الأمير موسى، واضطرّ ابن عمّار بعد عوده من بغداد وضياع منصبه أن يلجأ إلى لبنان، فارّاً من وجه الإفرنج مستجيراً بالأمير موسى، فأحلّه هذا الأمير عنده على الرحب والسعة.

٤ - ذو المناقب ابن عمّ فخر الملك بن عمّار:

وهو الذي استنابه على ولاية طرابلس سنة ٥٠١، حين سافر إلى بغداد يستنجد السلطان محمد بن ملك شاه على الفرنج، وقد عرفت عصيانه أمر ابن عمّه ومناداته بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش بمصر.

وهذا كلّ ما وقفنا عليه من خبره في المصادر التاريخية التي بأيدينا، ولعلّه هو أبو المناقب ممدوح بن الخيّاط.

٣٨٧

٥ - أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمّار:

هو معاصر لأبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الملقّب بالرحّالة الإمامي، المتوفّى سنة ٤٤٩ هـ، وبأمره ألّف له كتاب: نهج البيان في مناسك النسوان، وكتاب: عدّة البصير في حجّ يوم الغدير.

٦ - القاضي أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمّار:

ألّف الكراجكي المذكور باسمه كتاب البستان في الفقه، وهو معنى لم يطرق وسبيل لم يُسلك، قسّم فيه أبواباً من الفقه وفرّع كلّ فنٍّ منها، حتّى حصل كلّ باب شجرة كاملة يكون نيّفاً وثلاثين شجرة.

٧ - شمس الملك أبو الفرج محمد بن أمين الدولة عبد الله بن عمّار، وهو كما يظهر ابن المترجَم له الخامس من أبناء عمار.

لم نجد له ذكراً في غير ديوان الشاعر ابن الخيّاط الدمشقي، وهو من ممدوحيه كما جاء في هذا الديوان.

وقال في مدح شمس الملك إلى آخر نسبه المصدّرة به (ترجمته) يهنّئه بولده وأنشده إيّاها بطرابلس، مستهلّها:

أترى الهلال أنار ضوء جبينه حـتّى أبان الليل عن مكنونه

٨ - شرف الدولة بن فخر الملك بن عمّار:

هو ابن فخر الملك أبي علي محمد بن عمّار المترجَم له الخامس، وهو الذي مرّت ترجمته مفصّلة، وما أبلاه في الدفاع عن طرابلس ونهاية أمره، ورد له ذكر في ديوان ابن الخيّاط الشاعر الدمشقي الآنف الذكر، وله فيه قصيدة يمدحه بها ويهنّئه بعيد الفطر والبرء، مستهلّها:

لنا كلّ يومٍ هناء جديد وعيد محاسنه لا تبيد

وهذا شرف الدولة هو الذي هنّأ أباه فخر الملك ارتجالاً بظهوره يوم ركوبه، مستهلّها:

ألا هكذا تستهلّ البدور محلٌ عليٌ ووجه منير

وقد جاء في مجلّة المباحث الطرابلسيّة للمؤرّخ المحقّق جرجي يني

٣٨٨

ذكر لقاضيين من قضاة بني عمّار لم نجده في المصادر التاريخية التي اعتمدناها في مباحث هذا الكتاب، ولعلّه استقى ذلك من مصادر تاريخية افرنجية، فرأينا أن نعتمده في ذكرهما حتّى لا يفوتنا شيءٌ ممّا يتعلّق بهؤلاء القضاة:

الأول: القاضي الحسن بن عمّار هو القاضي أبو طالب، وهو أوّل من استبدّ بإمرة طرابلس، وهو أوّل مَن ذكرناه مِن ولاة طرابلس، وقام بعده على إمارتها ابن أخيه جلال الملك الثاني أمين الدولة، فإنّه يقول:

كرّت على البلدة (طرابلس) العصور وتقلّبت الأحوال ؛ حتّى بدأ القرن الثاني عشر للمسيح فظهرت كأنّ الحيّين البحريّين قد انضمّا فصارا حيّاً ممتدّاً من الموضع المسمّى الآن فوق الريح إلى البحصاص، وثمّت حيٌ آخر عند سفح الأكمة على بعد نحو ميلين عن البحر، وبينهما مدى فسيح مملوء بالجنائن والحقول، وكان الأهلون يشغلون منه مقداراً عظيماً من قصب السكر، يقول بوركارد: إن ريعه ناهز ٣٠٠ ألف ذهب، ومنه نقل الزراعة إلى أوروبة، وكانت المدينة يومئذٍ منيعة الجانب ذات أسوار وخنادق وحصون، وقد قام فيها منذ القرن السابق قاضيها حسن بن عمّار، فامتلكها وحسّنها فارتقت واغتنت، وصارت مستودعاً كبيراً للتجارة، وداراً للعلم بمدارسها ومكاتبها، فلمّا مات سنة ١٠٧١م اختلف نسيباه جلال الملك وأمين الدولة، مع أنّ الإفرنج كانا على قرب وقد جاؤوا سورية يكتسحونها، وقد طمحت عيونهم لامتلاك طرابلس مدينة العلم والعلماء ومستودع التجارة والصناعة.

وإنّا لنستدرك هنا ما جاء في المباحث من أخبار مهاجمة الإفرنج لطرابلس، ومدافعة فخر الملك لهم، لما فيه من زيادة تفصيل عمّا أوردناه من فتح هذا البلد وانتهاء أمر حكم بني عمّار، قال: ولمّا اقترب ريمون سان جيل كونت دي تولوز، وهو المسمّى في التواريخ العربية باسم صنجيل خرج الطرابلسيّون، فحاربوه فما نال منهم إرباً بل ارتدّ عنهم ولكنّه عاد عليهم سنة ١١٠٢م فخاب - أيضاً - ولم يظفر بفتح البلد، فاكتفى بأن يضرب عليها مالاً، ثمّ ملك ذروة المرتفع من الأرض على عدوة نهر قاديشا، وأنشأ فيها محلّةً وحصّنها وأقام فيها برجاً له، فأطلق على الموضع اسم تل الغرباء أو الحجّاج، كأنّ التسمية مستفادة من الحال الذي صار إليه

٣٨٩

الموضع باحتلال قوم ريمون فيه، غير أنّ المرتفع فوق حي من البلدة وقريب منه، ولذلك أخذ ريمون بتحصينه حذراً وحيطةً، وجعل يزيد الحصن منعة حتّى صار قلعةً يأوي إليها رجاله فتشدّدت بها عزائمه، وشرع يعيد الكرّة على البلدة، ويعبث في أطرافها، ولكنّه لا يجدها إلاّ أعزّ مِن أن تُنال، وكان يستعين بسفن جنوا ولكن من غير طائل ؛ لأنّ المدد كان يأتي البلدة ويعين حماتها على دفع العدو.

وفي ذات مرّة تكاثر المدد في طرابلس فاشتدّ بهم ساعد فخر الدولة ابن عمّار، وخرج على الإفرنج في محلّتهم فامتلكها وهدم القلعة، ولكن لم يمض زمنٌ طويلٌ حتّى كرّ عليه ريمون، واسترجع الموقع وزاده تحصياً وأقام فيه يُواثب الطرابلسيين مرّةً بعد أُخرى ويزعجهم، حتّى أوشك ابن عمّار أن يعاقده على تسليم أرباض المدينة على أن تبقى المدينة له، ولكنّه قبل أن يتمّ الاتفاق حمل على الأعداء ليلاً، واعتلى تلّ الغرباء فأحرق منازل الإفرنج، فارتاعوا لاعتلاق النار في دورهم، وأسرع ريمون من القلعة بمَن معه من الرجال، وأجهدوا أنفسهم فردّوا الهاجمين على الأعقاب، إلاّ أنّ النار علقت بريمون فآذته وأفضت به إلى الموت متأثّراً منها.

وفي روايةٍ أُخرى آثرها العلاّمة سوبرنهايم عن ريمون أنّه أصابته النار من نوافذ البيوت المحترقة، فأحدثت في جسمه حروقاً ذات شأن أفضت به إلى الموت بعد أيّام فقضى في ١٠ جمادى الآخرة سنة ٥٩٨ هـ - ٢٧ شباط سنة ١١٠٥م، عاهداً بالإمارة من بعده لابن أخيه الكونت كليوم جوردان دي سرداين، فأقام على مثاغرة البلدة وزادها ضغطاً وبلاءً سيّما إذ حاول منع أخذها الميرة والزاد من عرقة إلاّ أنّ حصانة البلدة وشدّة بأس أهليها حالا دون تمكّن الأعداء منها، ولم يضرّها إلاّ ما وقع بين زعمائها من التضغّن والخلاف، لأسباب لا يسعنا بسطها لضيق المجال، فأفضى بها ذلك إلى التخاذل وإلى الوهن، على أنّ المحاصرين لم يسلموا أيضاً من دبيب المطامع والتحاسد إليهم ؛ لأنّهم فيما كانوا على وشك أخذ طرابلس، جاءهم من أوروبة الكونت برتران دي تولوز وهو ابن ريمون مطالباً بالإمارة خلفاً لأبيه، فعارضه ابن عمّه بوصاية ريمون واعتصب لكلٍّ من الفريقين حزبٌ من قومهم، فكان أمير أنطاكية من أنصار كليوم، وكان ملك القدس طهيراً لابن ريمون، ولو لم يتدارك هؤلاء الأنصار الأمر لوقع الخلف والشقاق

٣٩٠

ولكنّهم اتفقوا على العهد بإمارة طرابلس وجبيل للكونت برتران بن ريمون وإعطاء طرطوس حتّى عرقة لابن عمّه كليوم.

وبهذا فضّ الخلاف واتّفق الجميع فشدّدوا الحصارعلى المدينة، واستطالوا عليها برّاً وبحراً، حتّى فازوا بفتحها صلحاً(١) في (٣ ذي الحجّة سنة ٥٠٢هـ) ٤ تموز سنة ١١٠٩م بعد إذ جرت على قتالهم سبعة أعوام أو تزيد.

____________________

(١) قد تقدّم فيما ذكر أكثر المؤرّخين فتحها عنوةً، وممّن ذكر ذلك ابن خِلّكان في ترجمة الأمير بأحكام الله الفاطمي، وأنّ فتحها كان لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ٥٠٢ وفي تاريخ فتحها خلاف سنعرض له في مكانٍ آخر إن شاء الله.

٣٩١

نكبة مكتبة بني عمّار من الفرنج وأقوال المؤرِّخين

رأينا أن نفرد فصلاً خاصّاً في هذا الكتاب للبحث عن مكتبة بني عمّار التي تُعد من أعظم آثارهم، إلى ما كان لهم من مآثر عمرانيّة في مدينة طرابلس، ونفي استبعاد محتوياتها كما أحصاها المؤرّخ ابن فرات، ونفي استبعاد وحرق الفرنج لها وهذا تتمّة ما سبق إجماله وما يليها من هذا الكتاب.

أمّا محتويات هذه المكتبة والاختلاف في عددها، فقد عرفت ممّا سبق أنّ هناك مَن يقول كابن الفرات بمناهزتها ثلاثة ملايين، ومَن يقول بنزولها إلى مئة ألف، وهما بين إفراط وتفريط، ونرجّح أنّ العدد هو دون ما يقول ابن الفرات، وأكثر ممّا يقوله الآخر، ولا نستبعد أن يكون عددها قد بلغ زهاء نصف المليون، وهذا العدد هو أقرب إلى المعقول، فإنّ عناية المسلمين في التأليف وجمع الكتب في عصر ازدهار العلوم والعرفان في البلاد الإسلامية بلغ مبلغاً عظيماً، فقد نقل المؤرّخون عن طائفةٍ من العلماء مَن جمعوا على انفرادهم ما يزيد على مئة ألف مجلّد، فقد رووا أنّ الشريف المرتضى احتوى مكتبةً كان عدد كتبها مئة ألف وعشرين ألف مجلّد، وأنّه تخلّف بعد إهداء ما أهداه منها عن ثمانين ألف مجلدٍ، وأنّ الصاحب بن عبّاد كان يحتاج إلى ثلاثمئة جمل لحمل كتبه، وقد استقرب صاحب خطط الشام أن يكون ما أحصاه ابن الفرات قريباً من الواقع، بأن تكون ثلاثة الملايين هو كلّ ما في مكاتب طرابلس مع مكتبة بني عمّار، كما نقلنا ذلك سابقاً، وقال دافعاً الاستبعاد:

(ولا ينبغي أن يذهب عن الخاطر أنّ ما كانوا يسمّونه جزءاً أو مجلداً

٣٩٢

أو مجلّدة لا يتجاوز بضع كراريس من كرّاساتنا، والكرّاسة قد لا تكون أكثر من ثمان صحائف، بمعنى أنّ ألف المجلّدة أو المجلّد لا تبلغ في مصطلحنا أكثر من خمسين أو ستّين أو سبعين كتاباً، فكان المجلّد في تلك العصور قليل الأوراق ؛ لأنّ الورق أو الرق غليظ، فإذا جعل كلّ مجلّد مئتين أو ثلاثمئة أو أربعمئة أو خمسمئة ورقة يصعب تناوله وحمله ونقله، ولا يصحّ ما قاله ابن الفرات من أنّه كان في دار العلم في طرابلس ثلاثة آلاف ألف يوم نكبتها، إلاّ على هذه الصورة، أي: أنّ كتبها كانت بين مئتين وثلاثمئة ألف، ومنها أجزاء صغيرة ورسائل، وقد يكون الجزء من كتاب لا تتجاوز سطوره سطور مقالةٍ من مقالاتنا، أو إملاءة من أمالينا، أو محاضرة أو مسامرة من محاضراتنا ومسامراتنا اليوم).

وقد عرفت فيما سبق في مبحث تاريخ طرابلس، أنّ الرحّالة الفارسي ناصر خسرو قد ذكر في رحلته أنّه مرّ بها سنة ٤٣٨ هـ، ووصفها في رحلته وصفاً دقيقاً، وذكر من معاملها الكثيرة لمختلف الصناعات معمل لورق الكتابة كمعمل كاغد سمرقند، وكانت في ذلك العهد في حوزة ملوك مصر الفاطميّين، وأنّهم أعفوها من أداء الضرائب ؛ لأمانة أهلها في واقعة سابقة، انهزم فيها الروم، وفي وجود مثل هذا المعمل للورق ما يسهل على المؤلّفين والناسخين: التأليف والنسخ وصناعة الوراقة، التي كانت تشبه مهنة الصحافة والطباعة في هذه الأيّام، أضف إلى ذلك انصراف الهمم في تلك العصور إلى الرغبة في العلم والتعليم، وتوفّر العزائم على جمع الكتب، وإذا علمت أنّ بلاد الشام كانت في ذلك العهد من البلاد التي كان يرتحل إليها في طلب العلم، وكانت طرابلس من قواعد البلاد الشامية، وكان لها شأو رفيع في العمران، وقد دخلت في حكم الفاطميّين سنة ٣٦٠.

وقد كان عصرهم منذ افتتحوا الديار المصريّة والشاميّة عصر علم وعصر منافسة في العلم، وحسبهم في ذلك أثرهم الخالد (الجامع الأزهر) الذي كان وما يزال إلى اليوم الجامعة الكبرى للعلوم الإسلامية، وغيرها من مختلف العلوم والفنون، فلا يستبعد والحالة هذه أن تكون طرابلس وقد أصبحت قاعدةً من قواعد مدنهم الساحليّة، ولها مكانها من حيث الموقع ومن حيث تهيئة أسباب استبحار العمران فيها، أن تساهم مساهمةً عظيمةً في هذه الناحية من نواحي الحياة، وأن يكون لبني عمّار قضاتها منذ حلوّها وأقاموا فيها، وأصبحوا

٣٩٣

أمراءها والمستبدّين بأحكامها، وقد امتدّت سكناهم فيها مدّةً طويلةً منذ سنة ٤٤٠ أو ما يتقدّم هذا التاريخ إلى أن سقطت من أيديهم.

وهل يُستبعد، وقد أصبحت بلداً علميّاً، أن تحتوي مكاتبها العدد الذي أحصى ابن الفرات به كتبها، أو ما يزيد على تقدير مَن قدّره بمئة ألف.

وكيف ينكر على بلدٍ بلغ ما بلغ من العمران والترفيه، وحوى من معامل الحرير خاصّةً، دون دخول الإفرنج إليها أربعة آلاف معمل دع المعامل الأُخرى، وأصبح محجّة للعلماء يغشونه من كلّ صوب، فقد قيل إنّ أبا العلاء المعرّي كان ممّن قصدوه للاستفادة من مكاتبه، وعرفت أنّ الرحّالة الكراجكي كان ممّن غشيه وألف عدّة مؤلّفات باسم بعض قضاته وأهله، وكان ذلك في العقد الرابع والخامس من القرن الخامس الهجري، كيف نكر على مثل هذا البلد، وهو على الحال التي وصفناها، أن تحتوي مكتباته العامّة ومكتبة بني عمّار العدد الكثير من الكتب.

إنّ غير ابن الفرات من المؤرّخين إن لم يعرض لإحصاء عدد ما حوته مكتبة بني عمّار من الكتب وغيرها من المكتبات، فقد جاء في عرض كلامهم عند استيلاء الفرنج على طرابلس عنوةً ما يدلّ على الكثرة التي تتجاوز أقلّ الإحصاء الذي اعتمده بعض المؤرّخين وهو مئة ألف مجلد، فيقول ابن الأثير:

ونهبوا (الإفرنج) ما فيها (طرابلس) وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونبهوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يُحد ولا يُحصى.

وقال ابن القلانسي:

(وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يُحد عدده ولا يُحصر فيُذكر).

وقال ابن خِلّكان في ترجمة الآمر بأحكام الله:

(وأخذوا طرابلس الشام بالسيف، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة سنة ٥٠٢، وكان أخذهم لها بالسيف، ونهبوا ما فيها واسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيدهم من أمتعتها وذخائرها وكتب دار علمها، وما كان في خزائن أربابها ما لا يُحد ولا يُحصى).

جاء في خطط الشام:

وكان الحسن بن عمّار قاضي طرابلس للفاطميّين والمتغلّب عليها، أقام في طرابلس دار حكمة أو شبه مدرسة جامعة، على نحو دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله في مصر سنة ٤٠٠.

٣٩٤

وفيه: ولم تعهد الشام دار حكمةٍ إلاّ في القرن الخامس، أنشأها بنو عمّار في طرابلس.

وكان في كلّ من كفر طاب والمعرّة، في زمن أبي العلاء المعري، خزانة كتب، وقد زارهما كما زار خزانة طرابلس. وهذه الخزانة كانت قبل بني عمّار خلافاً لما وهم بعض المؤرّخين المعاصرين ؛ لأنّ القضاة بني عمّار لم يستولوا على طرابلس إلاّ بعد الأربعين وأربعمئة، وكان أبو العلاء المعرّي زار طرابلس قبل هذا التاريخ، أي في أواخر القرن الرابع، وانتفع بخزانتها وكتبها الموقوفة، وأوّل مَن حكم من قضاة بني عمّار: أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمّار في دولة المستنصر الفاطمي، في حدود سنة ٤٤٠.

وقد تقدّم سابقاً عن أوّل مَن وقف مكتبة بني عمّار من قضاة بني عمّار هو أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمّار ثمّ تجديد الأمير علي بن محمد بن عمّار لدار العلم سنة ٤٧٢، ثمّ طبع الأمير فخر الملك عمّار بن محمد بن عمّار على غرارهم.

وقد تقدّم ما نقلناه عن المؤرّخ جرجي يني ما احتوته هذه المكتبة من مختلف العلوم والفنون.

أمّا حرق الإفرنج لهذه المكتبة ن فقد أنكره البعض من متأخّري المؤرّخين، وحجّتهم أنّ متقدّمي مؤرّخي المسلمين لم يذكروه، وأنّه قد تفرّد بذكره ابن طي، وأنّ مؤرّخي الفرنج لم يعرضوا له، ولكنّ شيئاً من ذلك لا ينهض بحجّة النافي، وما كان سكوت مَن سكت عن ذكر حرق هذه المكتبة من مؤرّخي المسلمين دليلاً على العدم، وأمّا سكوت مؤرّخي الصليبيّين فلعلّه كان كما استظهر المؤرّخ يني ستراً لزلة قومهم، ولعلّ ذكر ابن طي خبر الحرق الذي لم يذكره مَن تقدّمه من المؤرّخين، مبنيٌّ على اطّلاعه من خبره ما لا يطلع عليه أولئك، ومََن يعرف سيرة مؤرّخي المسلمين مِن البحث والتحرّي عمّا يدوّنونه، لا يرمي هذا المؤرّخ الثبت بالاختلاق والافتراء.

على أنّ مِن مؤرّخي الإفرنج وبعض أهل الاستشراق، منهم مَن ذكر خبر حرق الصليبيين لهذه المكتبة ؛ فقد جاء في كتاب لغة التاريخ والجغرافية الذي نشره مسيو بويه أن الصليبيين أحرقوا تلك المكتبة الثمينة.

وذكر المستشرق (رونه دوسو) في مقالته التي كتبها برسم انسيقلوبه دي الكبير، وبحث فيه عن أحوال طرابلس الشام العامّة: (أنّ مستخلصي

٣٩٥

القدس من النصارى أحرقوا تلك المكتبة العربية الطائرة الصيت).

ثمّ إنّنا لا نعرف وجهاً لاستبعاد حرق الصليبيين لهذه المكتبة، وهم كانوا كما وصف روبرنسون المؤرّخ الإنكليزي، وغير أهل أوروبا بما هذا خلاصته:

(هو أنّه في الزمن الذي كان يتدارس به العرب هذه العلوم، وينشرونها في بلادهم، كانت أهالي أوروبا في حالة لا زالوا هم ذواتهم يندبونها حتى اليوم، ولم يستفيقوا من ذلك الجهل المفرط، والنوم العميق إلاّ بواسطة شروعهم في تلك الغزوات الصليبية الوحشيّة، التي أجروها مع المسلمين، بقصد استخلاص الأراضي المقدّسة من أيديهم، حيث مرّوا في غزواتهم هذه، وسيرهم جهة بلاد أورشليم بأراض نضرة ؛ لحسن زراعتها أكثر من أراضيهم، وبدول متمدّنة أكثر من تمدّن دولهم)(١) .

وما يمنع قوماً هذه صفتهم، وهم لا يعرفون قيمة الكتب وقيمة هذه المكتبة، وقد دخلوا طرابلس بعد محاولة دخولها بضع سنين دخول الثائر المنتقم، وهو لا يتحرّج عن قتل النفوس البريئة، وهدم معالم العمران ودك القصور على الحضيض، وإعفاء ما في هذا البلد من آثار عمرانيّة، أن ينتقم غمار جيشه المتغلّب في جملة ما انتقم من تلك المكتبة بحرقها، وهو لا يعرف قيمتها، بل قد يرى في حرقها وهي عزيزة على أهلها أبرز آثار إرواء غليل المنتقم الحاقد، يقول صاحب صنّاجة الطرب:

أمّا العرب، فإنّه لم يبق عندهم من تلك المكاتب التي أشرنا إليها بأنّهم جمعوها، والمدارس التي شيّدوها، حتّى ولا ذكرها، فكأنّ دولة علومهم كانت مرتبطةً بدولهم السياسيّة، التي منذ أضاعوها أضاعوا كلّ هذه العلوم والمعارف معها ؛ إذ إنّه لم تسقط دولة من دولهم، سواء كانت في المغرب أو في المشرق، إلاّ وهدمت جيوش أعدائهم مدارسها، وأشعلوا نيران حقدهم في مكاتبها.

وفي مجلّة المقتطف:

لمّا افتتح الأسبانيّون تلاد البلاد (الأندلس) واستخلصوها من يد العرب على ما رواه بعض المؤلّفين، فإنّ كردينالهم المسمّى شيمنز أمر بحرق ثمانين ألف كتاب في ساحات مدينة غرناطة بعد

____________________

(١) صنّاجة الطرب.

٣٩٦

استظهارهم عليهم في سنة ٨٩٨ للهجرة سنة ١٤٩٢م، إلى أن قال نقلاً عن مؤرّخ إسباني يُقال له ربلس: بأنّ الأسبانيّين أفنوا ألف ألف وخمسة آلاف مجلّد، كلّها خطّتها أقلام العرب، وأنّهم ظفروا بثلاث سفن كانت مشحونةً بالمجلّدات العربية الضخمة طالبة ديار سلطان مراكش، فسلبوها وألقوا كتبها في قصر الأسكوريال إلى سنة ١٦٧١م ١٠٨٢هـ حيث لعبت بها النيران فأكلت ثلاثة أرباعها، ولم يستخلصوا منها إلاّ الربع الأخير، حين استفاقوا من غفلتهم، ففوّضوا إلى رجلٍ ماروني من أهالي طرابلس يُقال له ميخائيل القيصري، فكتب لهم أسماء ألف وثمانمئة وإحدى وخمسين كتاباً منها.

هذا ما جرى من الأسبان في عصر بدء يقظة أوروبا من غفلتها، وفي زمن تطلّعها إلى الأخذ من علوم العرب واحتذاء مدنيّة العرب، فما بالك فيما سبق هذا العصر بقرون على غفلة أوروبا وتسكّعها في مجاهل جهلها، فلا جرم أن يكون ما نُقل عن حرق مكتبة بني عمّار ومكتبات طرابلس صحيحاً.

على أنّ تناول أيدي الفاتحين المتغلبين ولا سيّما مَن كانوا على شاكلة الإفرنج ين غزواتهم البلاد الإسلامية، من حيث الانغماس في الجهل والارتطام في حمأة الحقد والانتقام، إلى تدمير معالم العمران وثل صروح العلم وإتلاف محتويات مكتباتها، ممّا درج عليه أولئك المتغلّبون، وكان عظيم بلائهم منصبّاً على العلم، انصبابه على مَن أوقعه القدر في قبضة سلطانهم وتحت حكم سيفه، فكان أمثال هذا البلاء منصبّاً على مدارس بغداد وكتب علومها، من هولاكو وتيمورلنك ومَن سلفه جنكيزخان على مدارس سمرقند وبخارى وإيران.

وهكذا الحال في كلّ بلدٍ تمكّن منه الغالب، من حيث الجناية على العلوم وكتبها ومدارسها، وحسبنا فيما ذكرناه من هذه الجملة - وهي غيضٌ من فيض وقطر من بحر - ما يكفي في التدليل على عدم استبعاد حرق الإفرنج لمكتبة بني عمّار ومكتبات طرابلس، بل وعلى وقوع ذلك كما يذكره ابن طي.

٣٩٧

حدود إمارة طرابلس في عهد القضاة بني عمّار

أمّا تحديد هذه الإمارة في عهد قضاتها بني عمّار، فلم نجد فيه كلاماً واضحاً تطمئنّ إليه نفس الباحث، فهو كغيره من الأبحاث المتعلّقة بالأمراء بني عمّار من عدم الوضوح، إلاّ أنّه يمكننا الاستنتاج من تضاعيف كلمات المؤرّخين أنّها كانت على شيءٍ من الاتّساع، وإن لم تحدّد تخومها.

فقد عرفت ممّا سبق في ما نقلناه عن الشريف الإدريسي المتوفّى سنة ١١٨٧، حيث وصفها بقوله: مدينة عظيمة، عليها سور من حجرٍ منيع، ولها رساتيق وأكوار وضياع جليلة.

ولعلّ ما يذكره القلقشندي في صبحه في تحديدها ما يمكننا معه استصحاب أنّها كانت في عهد الأمراء بني عمّار مشتملة على ذلك التحديد أو ما يقرب منه، فقد قال:

(وحدُّها من القبلة جبل لبنان، ممتدّاً على ما يليه من مرج الأسد، حيث يمتد النهر العاصي، وحدُّها من الشمال قلاع الدعوة، وحدُّها من الغرب البحر الرومي.

وأعمالها على قسمين (الأعمال الكبار ) التي يكاتب نوّابها من الأبواب السلطانية، وهي على ضربين:

الضرب الأوّل: مضافاتها نفسها، وهي ستّ نيابات:

الأوّل: حصن الأكراد

الثاني: عمل حصن عكار

الثالث: عمل بلاطُنُس

الرابع: عمل صهيون

الخامس: عمل اللاذقية

السادس: عمل المرقب.

(الضرب الثاني : قلاع الدعوة، وهي سبع قلاع عظيمة الشأن، رفيعة المقدار، لا تُسامى منعةً ولا تُرام حصانةً، وكانت أوّلاً كلّها مضافة إلى طرابلس، ثمّ نُقلت مصياف منها إلى دمشق، والبقيّة على ما كانت عليه من إضافتها إلى طرابلس، وهي ستّة أعمال.

٣٩٨

(الأوّل: عمل الرُصافة.الثاني: عمل الخوابي.الثالث: عمل القَدَمُوس.الرابع: عمل الكهف.الخامس: عمل المنَقة.السادس : عمل العُلّيقة.

(القسم الثاني: الأعمال الصغار.

الأوّل: عمل انطرطوس. الثاني: عمل جُبة المنِيطَرة. الثالث: عمل الظنيين. الرابع: عمل بَشَرّيه. الخامس: عمل جَبَلة. السادس: عمل أَنَفة).

ولا مراء أنّ هذه الحدود كانت تضيق وتتّسع، وكان يُضاف إليها بعض الأعمال، ويتغلّب على البعض الآخر تبعاً لتقلّبات ذلك الزمن، الذي كان الاستبداد فيه بالأعمال من ذوي الأعمال سنّة متّبعة، وقوّة الغالب هي كلّ شيءٍ في عرف متغلّبي تلك الأيّام، والبلاد كالأُكرة في يد اللاعب، والخلافة الفاطميّة في أدوار التقهقر، والغزوات على بلادها متدفقة من هنا وهناك. ومثلها كانت الخلافة العبّاسية، مقطّعة الأوصال، تقوم سلطنةٌ على أنقاض أُخرى وإمارة على تقليص ظلّ إمارة، ووراء ذلك طموح الروم إلى اجتياح البلاد، ثمّ الغزو الصليبي، قال ابن الأثير في كامله الجزء العاشر ص ٢٠٩ / ١:

(على أنّ إمارة طرابلس التي استطاعت في عهد بعض قضاتها، وخاصّةً في عهد آخرهم فخر الملك: أن تقف في أتي الغزو الصليبي سبع سنين وما يزيد، وتنفق ما تنفق من الأموال والأعتدة في سبيل ذلك الموقف، من المستبعد حقّاً إن لم يكن من المستحيل عادةً وعرفاً، أن تقوم بتلك المقاومة، وسلطانها محصور في البلد وأرباضها منها فحسب، وقد عرفت من تضاعيف هذه المباحث: أنّ انطرطوس وجبلة والخوابي وجبيل وعرقة(١) ، كانت داخلةً في سلطان إمارتها في عهد بني عمّار(٢) .

وكيف كان، فإنّا لا نستبعد أن يكون ما حدّده صاحب صبح الأعشى هو القريب من الواقع في عهدة إمارة بني عمّار.

____________________

(١) قال المؤرّخ جرجي يني: والظاهر من بعض الروايات أنّ عرقة وجبيل كانتا إذ ذاك من أميريتها (طرابلس).

(٢) ويظهر أنّ حصن أوتاج قد ضُمّ إلى إمارة طرابلس في عهد فخر الملك سنة ٤٩٧ (القلانسي ص ١٤٨) ينظر تاريخ ابن الأثير ج ١٠ ص ١٦٤.

٣٩٩

تاريخ طرابلس بعد استيلاء الفرنج عليها إلى العصر الحاضر

قد رأينا بعد كتابة هذه الفصول، وقد احتوت مع تاريخ بني عمّار قسماً كبيراً من تاريخ طرابلس، أن نستوفي تاريخها من العهد الصليبي، فتخليصها منهم إلى العصر الحاضر، ليجيء تاريخنا هذا تاريخاً لبني عمّار، وتاريخاً لهذا البلد الخالد ؛ لتكون الفائدة أعم والبحث أتم.

تراجع مدينة طرابلس في عهد حصار الفرنج لها واستيلائهم عليها

كانت طرابلس في عهد بني عمّار مشهورة: بغنى طبيعتها، وحسن رونقها، ونجاحها، وكانت حاصلاتها غزيرة جدّاً، حتّى أنّ السهول والتلال والأكم المجاورة كانت مصدر الكثير من الغلال الفاخرة والزيتون والحرير، بالإضافة إلى ما كان هنالك من قصب السكّر والكرْم وأنواع الفاكهة والأشجار.

وحسبنا بذلك شهادة المؤرّخ ميشود الذي تبع قوله بقوله:

إنّ في المدينة أكثر من أربعة آلاف نول لنسج الأقمشة الصوفية والحريرية والقطنية، غير أنّ قسماً كبيراً من هذا الغنى بات طعاماً لانتقام الإفرنج، أو معطّلاً من جرّاء حروبهم وحصارهم الطويل، فإنّهم كانوا في زمان الحصار قد أضرّوا بجوار البلدة، ولمّا تملّكوها لم يعتنوا بما فيها من المعامل الصناعية، فانحطّت انحطاطاً عظيماً.

ولم يكن ما ذكر لكلّ ما اشتهرت به طرابلس من الغنى في ذلك الزمن، فإنّ خزائنها كانت قد مُلئت من الكتب المفيدة، التي أحالها الإفرنج رماداً(١) .

____________________

(١) تاريخ سورية ليني.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486