تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني8%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75864 / تحميل: 9806
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

والشافعي في أحد أقواله(١) - لأنّ سفره لأجل المال ، فكانت نفقته منه ، كأجر الحمّال ، ولأنّه في السفر قد سلّم نفسه وجرّدها لهذا الشغل ، فأشبه الزوجة تستحقّ النفقة إذا سلّمت نفسها ، ولا تستحقّ إذا لم تُسلّمْ.

ولما رواه عليّ بن جعفر عن أخيه موسى الكاظمعليه‌السلام قال في المضاربة : « ما أنفق في سفره فهو من جميع المال ، وإذا قدم بلده فما أنفق فمن نصيبه »(٢) .

وظاهر مذهب الشافعي أنّه لا نفقة للعامل بحالٍ - وبه قال ابن سيرين وحمّاد بن أبي سليمان وأحمد - كما في الحضر ؛ لأنّ نفقته تخصّه ، فكانت عليه ، كما في الحضر وأجر الطبيب وثمن الطيب ، ولأنّه دخل على أنّه يستحقّ من الربح الجزء المسمّى ، فلا يكون له غيره ، ولأنّه لو استحقّ النفقة أفضى إلى أن يختصّ بالربح إذا لم يربح سوى ما أنفقه ، فيخلّ بمقصود العقد(٣) .

____________________

(١) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٧ ، المغني ٥ : ١٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٤ ، المدوّنة الكبرى ٥ : ٩٧ ، الاستذكار ٢١ : ١٧٠ / ٣٠٩٢٤ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٦ / ١١٢٦ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٤٠ ، التفريع ٢ : ١٩٤ ، التلقين : ٤٠٨ ، الذخيرة ٦ : ٥٩ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٨٦ / ١٢٥١ ، المعونة ٢ : ١١٢٣ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٣ ، الاختيار لتعليل المختار ٣ : ٣٤ ، المبسوط - للسرخسي - ٢٢ : ٦٢ - ٦٣ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤٣ / ١٧١٢ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١١ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٤ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٩ و ٢٠٠ ، الوجيز ١ : ٢٢٤ ، الوسيط ٤ : ١٢٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٦ ، البيان ٧ : ١٨٤ و ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٦.

(٢) الكافي ٥ : ٢٤١ / ٥ ، التهذيب ٧ : ١٩١ / ٨٤٧.

(٣) الإشراف على مذاهب أهل العلم ٢ : ٤٧ ، المغني ٥ : ١٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : =

١٠١

والقول الثالث للشافعي : إنّه يُنفق في السفر من ماله قدر نفقة الحضر ، والزائد من مال القراض ؛ لأنّ الزيادة إنّما حصلت بواسطته ، وهو الأصحّ عندهم ، وهو منقول عن مالك أيضاً(١) .

مسألة ٢٥٩ : ولو شرط له النفقة في الحضر ، لزم الشرط ، ووجب له ما يحتاج فيه إليه من المأكول والمشروب والمركوب والملبوس.

وكذا لو شرطها في السفر على قول مَنْ لا يوجبها على المال إجماعاً ؛ عملاً بالشرط.

وينبغي أن يعيّن قدر النفقة وجنسها ، فلا يجوز له التخطّي.

ولو أطلق ، رجع إلى العادة ، وكان صحيحاً.

وبعض الشافعيّة اشترط تعيين النفقة(٢) .

وليس شيئاً ؛ لأنّ الأسعار قد تختلف وتقلّ وتكثر.

وقال أحمد : لا كسوة له مع الإطلاق إذا شرط له النفقة(٣) .

إذا عرفت هذا ، فإنّ الكسوة يستحقّها للاستمتاع بها على جهة الملك‌

____________________

= ١٦٤ ، الحاوي الكبير ٧ : ٣١٨ ، المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٤ ، بحر المذهب ٩ : ١٩٩ و ٢٠٠ ، الوسيط ٤ : ١٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٣٩ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٦ ، البيان ٧ : ١٨٤ - ١٨٥ ، الإفصاح عن معاني الصحاح ٢ : ٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٤٤ / ١٧١٢ ، الاستذكار ٢١ : ١٧٠ / ٣٠٩٢٧ و ٣٠٩٣٠ ، بداية المجتهد ٢ : ٢٤٠ ، عيون المجالس ٤ : ١٧٨٦ / ١٢٥١.

(١) المهذّب - للشيرازي - ١ : ٣٩٤ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٠ ، الوسيط ٤ : ١٢١ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤٠ ، البيان ٧ : ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٣١٩ ، بحر المذهب ٩ : ٢٠٠ ، البيان ٧ : ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٥.

(٣) المغني ٥ : ١٥٢ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٤.

١٠٢

الصريح ، فلو رجع إلى البلد من سفره وعليه كسوة أو دابّة ركوبٍ كانت مردودةً إلى القراض.

وإذا قلنا : له النفقة في السفر ولم يعيّن المالك واختلفا في قدرها ، رجع إلى الإطعام في الكفّارة ، وفي الكسوة إلى أقلّ ملبوسٍ مثله.

وهذا كلّه في السفر المباح ، أمّا لو خالف المالك فسافر إلى غير البلد الذي أمره بالسفر إليه ، فإنّه لا يستحقّ النفقة ، سواء قلّ الربح أو كثر عن البلد المأمور به.

ولو احتاج في السفر إلى خُفٍّ وإداوة وقِرْبة وشبهها ، أخرج من أصل المال ؛ لأنّه من جملة المؤونة ، ثمّ يردّه بعد رجوعه إلى مال القراض.

مسألة ٢٦٠ : لو استردّ المالك ماله وقد نضّ إمّا في الطريق أو في البلد الذي سافر إليه ، فأراد العامل أن يرجع إلى بلده ، لم يستحق نفقة الرجوع ، كما لو مات العامل لم يكن على المالك تكفينه ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة ، كما لو خالع زوجته في السفر ، والثاني : إنّ له ذلك ، قاله الشافعي ، ثمّ تردّد فقال : قولان(١) .

ولا فرق بين الذهاب والعود.

وعن أحمد رواية كالثاني ؛ لأنّه بإطلاقه كأنّه قد شرط له نفقة ذهابه وعوده ، وغرّه بتنفيذه إلى الموضع الذي أذن له فيه ، معتقداً أنّه يستحقّ النفقة ذاهباً وراجعاً ، فإذا قطع عنه النفقة تضرّر بذلك(٢) .

والصحيح ما قلناه.

____________________

(١) بحر المذهب ٩ : ٢٠٢ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٧ ، البيان ٧ : ١٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤.

(٢) المغني ٥ : ١٥٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٥.

١٠٣

وإذا رجع العامل وبقي معه فضل زاد وآلات أعدّها للسفر كالمطهرة والقِرْبة وغير ذلك ، ردّها إلى مال القراض ؛ لأنّها من عينه ، وإنّما ساغ له التصرّف فيها للحاجة ؛ قضاءً للعادة ، وقد زالت الحاجة ، وهو أحد قولَي الشافعيّة.

والثاني : إنّها تكون للعامل(١) .

وليس شيئاً.

مسألة ٢٦١ : لو كان مع العامل مال(٢) لنفسه للتجارة واستصحبه معه في السفر ليعمل فيه وفي مال القراض ، قُسّطت النفقة على قدر المالين ؛ لأنّ السفر إنّما كان لماله ومال القراض ، فالنفقة اللازمة بالسفر تكون مقسومةً على قدر المال(٣) ، وهو قول بعض الشافعيّة(٤) .

ويحتمل النظر إلى مقدار العمل على المالين وتوزيع النفقة على أُجرة مثلهما ، وهو قول بعض الشافعيّة(٥) .

وقال بعضهم : إنّما تُوزّع إذا كان ماله قدراً يقصد السفر له ، فإن كان لا يقصد ، فهو كما لو لم يكن معه مال سوى مال القراض(٦) .

أمّا لو كان معه قراض لغير صاحب الأوّل ، فإنّ النفقة تُقسّط عليهما على قدر رأس المالين ، أو قدر العمل فيهما ، والأخير أقرب.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤.

(٢) في النُّسَخ الخطّيّة والحجريّة : « مالاً ». وهو خطأ.

(٣) الظاهر : « المالين ».

(٤) الحاوي الكبير ٧ : ٣٢٠ ، الوسيط ٤ : ١٢١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٧ ، البيان ٧ : ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٢ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤.

(٦) البيان ٧ : ١٨٥ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤.

١٠٤

مسألة ٢٦٢ : كلّ موضعٍ يثبت له النفقة فإنّ المالك إن عيّن له قدراً ، لم يجز له التجاوز ولو احتاج إلى أزيد منه ، ولو نهاه عن الإنفاق من مال القراض في السفر ، لم يجز له الإنفاق ، سواء احتاج أو لا ، بل يُنفق من خاصّ ماله.

وإذا أطلق القراض ، كان له الإنفاق في السفر بالمعروف من غير إسرافٍ ولا تقتير ، والقدر المأخوذ في النفقة يُحسب من الربح ، فإن لم يكن هناك ربح فهو خسران لحق المال.

ولو أقام في طريقه فوق مدّة المسافرين في بلدٍ للحاجة ، كجباية المال أو انتظار الرفقة ، أو لغير ذلك من المصالح لمال القراض ، كانت النفقة على مال القراض أيضاً ؛ لأنّه في مصلحة القراض(١) ، أمّا لو أقام للاستراحة أو للتفرّج أو لتحصيل مالٍ له أو لغير مال القراض فإنّه لا يستحقّ عن تلك المدّة شيئاً من مال القراض في النفقة.

مسألة ٢٦٣ : قد بيّنّا أنّ العامل يستحقّ النفقة بالمعروف في السفر وإن لم يشترط ، فلو شرطها في عقد القراض فهو تأكيد وزيادة توثّقٍ ، وبه قال الشافعي على تقدير الوجوب(٢) .

أمّا على تقدير عدم استحقاقه للنفقة فله وجهان :

أحدهما : إنّ القراض يفسد ، كما لو شرط نفقة الحضر.

والثاني : لا يفسد ؛ لأنّه من مصالح العقد من حيث إنّه يدعوه إلى السفر ، وهو مظنّة الربح غالباً(٣) .

____________________

(١) في « ج » : « مال القراض ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤.

(٣) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٧ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٤ - ٢١٥.

١٠٥

وعلى هذا فهل يشترط تقديره؟ فيه للشافعيّة وجهان(١) .

وهذا القول يشعر بأنّه ليس له أن يشترط النفقة في الحضر.

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّه سائغ تدعو الحاجة إليه ، فجاز اشتراطه ولزم ؛ لقولهعليه‌السلام : « المسلمون عند شروطهم »(٢) .

مسألة ٢٦٤ : لو كان معه مال قراضٍ لغير المالك الأوّل ، فقد قلنا : إنّ النفقة تُقسّط إمّا على المالين أو على العملين.

فإن شرط صاحب المال الأوّل النفقةَ من مال القراض مع علمه بالقراض الثاني ، جاز ، وكانت نفقته على الأوّل.

ولو لم يعلم بالقراض الثاني ، بُسطت النفقة وإن كان قد شرطها الأوّل ؛ لأنّه إنّما أطلق له النفقة بناءً على اختصاص عمله به ؛ لأنّه الظاهر.

ولو كان معه مالٌ لنفسه يعمل به أو بضاعة لغيره ، فالحكم كما تقدّم.

ولو شرط الأوّل له النفقةَ ، وشرطها الثاني أيضاً ، لم يحصل له بذلك زيادة الترخّص في الإسراف في النفقة ولا تعدّدها ، بل له نفقة واحدة عليهما على قدر المالين أو العملين.

مسألة ٢٦٥ : لو احتاج في السفر إلى زيادة نفقةٍ ، فهي من مال القراض أيضاً.

ولو مرض فافتقر إلى الدواء ، فإنّه محسوب عليه.

وكذا لو مات كُفّن من ماله خاصّةً ؛ لأنّ النفقة وجبت للقراض ، وقد بطل بموته ، فلا يُكفَّن من مال القراض.

وكذا لو أبطل القراض وفسخه هو أو المالك ، فلا نفقة ، كما لو أخذ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٣ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٥.

(٢) تقدّم تخريجه في ص ٣٥ ، الهامش (٣)

١٠٦

المالك ماله ؛ لأنّه إنّما استحقّ النفقة ما داما في القراض ، وقد زال فزالت النفقة.

ولو قتّر على نفسه في الإنفاق ، لم يكن له أخذ الفاضل ممّا لا يزيد على المعروف ؛ لأنّ هذه النفقة مواساة.

وكذا لو أسرف في النفقة ، حُسب عليه الزائد على قدر المعروف.

البحث الرابع : في وقت ملك الربح.

مسألة ٢٦٦ : العامل يملك حصّته المشروطة له من الربح بظهور الربح قبل القسمة - وبه قال أبو حنيفة والشافعي في أحد القولين ، وأحمد في إحدى الروايتين(١) - لأنّ الشرط صحيح ، فيثبت مقتضاه ، وهو أن يكون له جزء من الربح ، فإذا حصل وجب أن يملكه بحكم الشرط ، كما يملك عامل المساقاة حصّته من الثمرة بظهورها ، وقياساً على كلّ شرطٍ صحيحٍ في عقدٍ.

ولأنّ هذا الربح مملوك ، فلا بدّ له من مالكٍ ، وربّ المال لا يملكه اتّفاقاً ، ولا تثبت أحكام الملك في حقّه ، فيلزم أن يكون للعامل ؛ إذ لا مالك غيرهما إجماعاً.

ولأنّ العامل يملك المطالبة بالقسمة ، فكان مالكاً ، كأحد شريكي العنان ، ولو لم يكن مالكاً لم يكن له مطالبة ربّ المال بالقسمة.

____________________

(١) الوسيط ٤ : ١٢١ - ١٢٢ ، الوجيز ١ : ٢٢٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٩ ، البيان ٧ : ١٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٣١٥ ، المغني ٥ : ١٦٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٦ ، الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٥ / ١١٢٥.

١٠٧

ولأنّه لو لم يملك بالظهور ، لم يعتق عليه نصيبه من أبيه لو اشتراه ، والتالي باطل ؛ لحديث محمّد بن قيس عن الصادقعليه‌السلام ، قال : قلت له : رجل دفع إلى رجلٍ ألف درهم مضاربةً فاشترى أباه وهو لا يعلم ، قال : « يُقوّم فإن زاد درهماً واحداً أُعتق واستسعى في مال الرجل »(١) والشرطيّة ظاهرة ؛ إذ المقتضي للإعتاق دخوله في ملكه.

وقال مالك : إنّما يملك العامل حصّته من الربح بالقسمة - وهو القول الثاني للشافعي ، والرواية الثانية عن أحمد - لأنّه لو مَلَك بالظهور لكان شريكاً في المال ، ولو كان شريكاً لكان النقصان الحادث بعد ذلك شائعاً في المال ، فلـمّا انحصر في الربح دلّ على عدم الملك.

ولأنّه لو مَلَكه لاختصّ بربحه.

ولأنّه لم يسلّم إلى ربّ المال رأس ماله ، فلا يملك العامل شيئاً من الربح ، كما لو كان رأس المال ألفاً فاشترى به عبدين كلّ عبدٍ يساوي ألفاً ، فإنّ أبا حنيفة قال : لا يملك العامل شيئاً منهما(٢) ، وإذا أعتقهما ربّ المال ، عُتقا ، ولا يضمن للعامل شيئاً ، قال المزني : لو مَلَك العامل حصّته بالظهور ، لكانا شريكين في المال ، وإذا تلف منه شي‌ء ، كان بينهما كالشريكين شركة العنان ، ولأنّ القراض معاملة جائزة ، والعمل فيها غير مضبوطٍ ، فوجب أن لا يستحقّ العوض فيها إلّا بتمام العمل ، كما في الجعالة(٣) .

____________________

(١) الفقيه ٣ : ١٤٤ / ٦٣٣ ، التهذيب ٧ : ١٩٠ / ٨٤١.

(٢) بدائع الصنائع ٦ : ٩٣.

(٣) الإشراف على نكت مسائل الخلاف ٢ : ٦٤٥ / ١١٢٥ ، المغني ٥ : ١٦٩ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٦ ، الوسيط ٤ : ١٢٢ ، الوجيز ١ : ٢٢٤ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤١ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٨٩ ، البيان ٧ : ١٨٦ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٥.

١٠٨

والجواب : لا امتناع في أن يملك العامل ، ويكون ما يملكه وقايةً لرأس المال ، كما أنّ المالك يملك حصّته من الربح ، ومع ذلك فإنّها وقاية لرأس المال أيضاً ، ومن هنا امتنع اختصاصه بربحه ، ولأنّه لو اختصّ بربح نصيبه لاستحقّ من الربح أكثر ممّا شرط له ، ولا يثبت بالشرط ما يخالف مقتضاه ، ومع ظهور الربح يحصل تمام العمل.

وكذا لو أوصى لرجلٍ بألفٍ من ثلث ماله ، ولآخَر بما يبقى من الثلث ومات وله أربعة آلاف ، فقد مَلَك كلّ واحدٍ منهما حصّته ، وإذا تلف من ذلك شي‌ء كان من نصيب الموصى له بالباقي.

مسألة ٢٦٧ : ليس لأحدٍ من العامل ولا المالك استحقاق شي‌ءٍ من الربح استحقاقاً تامّاً حتى يستوفي المالك جميع رأس ماله.

وإن كان في المال خسران وربح ، جُبرت الوضيعة من الربح ، سواء كان الخسران والربح في مرّةٍ واحدة ، أو الخسران في صفقةٍ والربح في أُخرى ، أو الخسران في سفرةٍ والربح في سفرةٍ أُخرى ؛ لأنّ معنى الربح هو الفاضل عن رأس المال ، وإذا لم يفضل شي‌ء فلا ربح ، ولا نعلم في هذا خلافاً.

مسألة ٢٦٨ : ملكُ كلّ واحدٍ من العامل والمالك حصّتَه من الربح بالظهور غير مستقرٍّ ، فليس للعامل أن يتسلّط عليه ، ولا يتصرّف فيه ؛ لأنّ الربح وقاية لرأس المال عن الخسران ما دامت المعاملة باقية ، حتى لو اتّفق خسران كان محسوباً من الربح دون رأس المال ما أمكن ، ولهذا نقول : ليس لأحد المتعاملين قسمة الربح قبل فسخ القراض قسمة إجبارٍ ، بل يتوقّف على رضاهما معاً ، فلا يُجبر أحدهما لو امتنع.

أمّا العامل : فإنّه لا يُجبر لو طلب المالك القسمة ؛ لأنّه لا يأمن أن‌

١٠٩

يخسر المال بعد ذلك ، ويكون قد أخرجه ، فيحتاج إلى غُرْم ما حصل له بالقسمة ، وفي ذلك ضرر عليه ، فلا تلزمه الإجابة إلى ما فيه ضرر عليه.

وأمّا المالك : فلا يُجبر على القسمة لو طلبها العامل ؛ لأنّ الربح وقاية لرأس ماله ، فله أن يقول : لا أدفع إليك شيئاً من الربح حتى تسلّم إلَيَّ رأس المال.

أمّا إذا ارتفع القراض والمال ناضّ واقتسماه ، حصل الاستقرار ، ومَلَك كلّ واحدٍ منهما ما حصل له بالقسمة ملكاً مستقرّاً عليه.

وكذا لو كان قدر رأس المال ناضّاً فأخذه المالك واقتسما الباقي.

وهل يحصل الاستقرار بارتفاع العقد وإنضاض المال من غير قسمةٍ؟

الأقرب عندي ذلك ؛ لأنّ العقد قد ارتفع ، والوثوق بحصول رأس المال قد حصل ، وهو أصحّ وجهي الشافعيّة.

وفي الثاني : لا يستقرّ إلّا بالقسمة ؛ لأنّ القسمة الباقية من تتمّة عمل العامل(١) .

وليس شيئاً.

ولو كان بالمال عروض ، فإن قلنا : إنّ العامل يُجبر على البيع والإنضاض ، فلا استقرار ؛ لأنّ العمل لم يتم ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

وإن قلنا بعدم الإجبار ، فلهم وجهان ، كما لو كان المال ناضّاً(٢) .

مسألة ٢٦٩ : لو اقتسما الربح بالتراضي قبل فسخ العقد ، لم يحصل الاستقرار ، بل لو حصل خسران بعده ، كان على العامل جَبْره بما أخذ.

ولو قلنا : إنّه لا يملك إلّا بالقسمة ، فإنّ له فيه حقّاً مؤكّداً ، حتى لو‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٤ - ٣٥ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٥.

١١٠

مات وهناك ربح ظاهر ، انتقل إلى ورثته ؛ لأنّه وإن لم يثبت له الملك لكن قد ثبت له حقّ التملّك ، ويتقدّم على الغرماء ؛ لتعلّق حقّه بالعين.

وله أن يمتنع عن العمل بعد ظهور الربح ، ويسعى في إنضاض المال ليأخذ حقّه منه.

ولو أتلف المالك المالَ ، غرم حصّة العامل ، وكان الإتلاف بمنزلة ما لو استردّ جميع المال ، فإنّه يغرم حصّة العامل ، فكذا إذا أتلفه.

ولو أتلف الأجنبيّ مالَ القراض ، ضمن بدله ، وبقي القراض في بدله كما كان.

مسألة ٢٧٠ : إذا اشترى العامل جاريةً للقراض ، لم يجز له وطؤها ؛ لأنّها ملكٌ لربّ المال إن لم يكن هناك ربح ، وإن كان هناك ربح فهي مشتركة على أحد القولين ؛ إذ له حقٌّ فيه.

وليس لأحد الشريكين وطؤ الجارية المشتركة.

فإن وطئها العامل ولا ربح فيها وكان عالماً ، حُدّ ، ويؤخذ منه المهر بأسره ، ويجعل في مال القراض ؛ لأنّه ربما وقع خسران فيحتاج إلى الجبر.

ولو كان هناك ربح ( يُحطّ منه بقدر حقّه ، ويؤخذ )(١) بقدر نصيب المالك مع يساره ، وقُوّمت عليه إن حملت منه ، وثبت لها حكم الاستيلاد ، ودفع إلى المالك نصيبه منها ومن الولد.

ولو كان جاهلاً ، فلا حدّ عليه.

هذا إن قلنا : يملك بالظهور ، وإن قلنا : لا يملك إلّا بالقسمة ، لم تصر أُمَّ ولدٍ لو استولدها ، فإن أذن له المالك في وطئها جاز.

____________________

(١) بدل ما بين القوسين في النُّسَخ الخطّيّة : « حُدّ ».

١١١

ولا يجوز للمالك أن يطأها أيضاً ، سواء كان هناك ربح أو لا ؛ لأنّ حقّ العامل قد تعلّق بها ، والوطؤ يُنقّصها إن كانت بكراً ، أو يُعرّضها للخروج من المضاربة والتلف ؛ لأنّه ربما يؤدّي إلى إحبالها.

ولو ظهر فيها ربح ، كانت مشتركةً على أحد القولين ، فليس لأحدهما الوطؤ.

ولو لم يكن فيها ربح ، لم يكن أيضاً للمالك وطؤها ؛ لأنّ انتفاء الربح في المتقوّمات غير معلومٍ ، وإنّما يتيقّن الحال بالتنضيض للمال ، أمّا لو تيقّن عدم الربح ، فالأقرب : إنّه يجوز له الوطؤ.

قال بعض الشافعيّة : إذا تيقّن عدم الربح ، أمكن تخريجه على أنّ العامل لو طلب بيعها وأباه المالك ، فهل له ذلك؟ وفيه خلاف بينهم يأتي ، فإن أجبناه فقد ثبت له علقة فيها ، فيحرم الوطؤ بها(١) .

وإذا قلنا بالتحريم ووطئ ، فالأقرب : إنّه لا يكون فسخاً للقراض ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة(٢) .

وعلى كلّ تقديرٍ لا يلزمه الحدّ ، سواء ظهر ربح أو لا.

أمّا مع عدم ظهور الربح : فلأنّها ملك له خاصّةً.

وأمّا مع ظهوره : فلأنّ الشبهة حاصلة ؛ إذ جماعة يقولون بأنّه ليس للعامل فيها شي‌ء إلّا بعد البيع وظهور الربح والقسمة.

ولو وطئها وحملت ، صارت أُمَّ ولدٍ ؛ لأنّه وطئ جاريةً في ملكه فصارت أُمَّ ولده ، والولد حُرٌّ ، وتخرج من المضاربة ، وتُحتسب قيمتها ، ويضاف إليه بقيّة المال ، فإن كان فيه ربح فللعامل أخذ نصيبه منه.

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٥.

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٥.

١١٢

تذنيب : ليس للمالك ولا للعامل تزويج جارية القراض مستقلّاً عن صاحبه ؛ لأنّ القراض لا يرتفع بالتزويج ، وهو ينقّص قيمتها ، فيتضرّر به كلّ واحدٍ منهما ، فإن اتّفقا عليه جاز ؛ لأنّ الحقّ لهما لا يعدوهما ، وذلك بخلاف أمة المأذون له في التجارة إذا أراد السيّد تزويجها ، فإنّه إن لم يكن عليه دَيْنٌ جاز ؛ لأنّ العبد لا حقّ له مع سيّده ، فإن كان عليه دَيْنٌ لم يجز وإن وافقه العبد ؛ لأنّ حقوق الغرماء تعلّقت بما في يده ، والمضاربة لا حقّ فيها لغيرهما.

ولو أراد السيّد أن يكاتب عبده للقراض ، لم يكن له إلّا برضا العامل.

البحث الخامس : في الزيادة والنقصان.

مسألة ٢٧١ : إذا دفع إلى غيره مالَ قراضٍ ثمّ حصل فيه زيادة متّصلة ، كما لو سمنت دابّة القراض ، فإنّ الزيادة تُعدّ من مال القراض قطعاً.

وأمّا إن كانت منفصلةً ، كثمرة الشجرة المشتراة للقراض ، ونتاج البهيمة ، وكسب العبد والجارية ، وولد الأمة ومهرها إذا وُطئت للشبهة ، فإنّها مال القراض أيضاً ؛ لأنّها من فوائده.

وكذا بدل منافع الدوابّ والأراضي ، سواء وجبت بتعدّي المتعدّي باستعمالها ، أو وجبت بإجارةٍ تصدر من العامل ، فإنّ للعامل الإجارة إذا رأى فيها المصلحة ، وهو المشهور عند الشافعيّة(١) .

وقال بعضهم بالتفصيل ، فإن كان في المال ربح وملّكنا العامل حصّتَه بالظهور ، كان الأمر كما سبق من أنّها من مال القراض ، وإن لم يكن فيها‌

____________________

(١) الوسيط ٤ : ١٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٦.

١١٣

ربح أو لم نملّكه ، فقد اختلفوا.

فقال بعضهم : إنّها تُعدّ من مال القراض ، كالزيادات المتّصلة.

وأكثرهم قال : إنّها للمالك خاصّةً ؛ لأنّها ليست من فوائد التجارة(١) .

ولا بأس به.

ثمّ اختلفوا ، فقال بعضهم : إنّها محسوبة من الربح(٢) .

وقال بعضهم : إنّها لا تُعدّ من الربح خاصّةً ولا من رأس المال ، بل هي شائعة(٣) .

ولو وطئ المالكُ السيّدُ ، كان مستردّاً مقدار العُقْر حتى يستقرّ نصيب العامل فيه.

ولهم وجهٌ آخَر : إنّه إن كان في المال ربح وقلنا : إنّ العامل يملك نصيبه بالظهور ، وجب نصيب العامل من الربح ، وإلّا لم يجب(٤) .

واستيلاد المالك جارية القراض كإعتاقها.

وإذا أوجبنا المهر بالوطي الخالي عن الإحبال ، فالظاهر الجمع بينه وبين القيمة.

مسألة ٢٧٢ : لو حصل في المال نقصٌ بانخفاض السوق ، فهو خسران مجبور بالربح.

وكذا إن نقص المال بمرضٍ حادث أو بعيبٍ متجدّد.

وأمّا إن حصل نقصٌ في العين بأن يتلف بعضه ، فإن حصل بعد‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٦ - ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٦.

(٢) الوسيط ٤ : ١٢٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٦.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٦.

(٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٩٠ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٦.

١١٤

التصرّف في المال بالبيع والشراء ، فالأقرب : إنّه كذلك.

وأكثر الشافعيّة [ ذكروا ](١) أنّ الاحتراق وغيره من الآفات السماويّة خسران مجبور بالربح أيضاً(٢) ، وأمّا التلف بالسرقة والغصب ففيه لهم وجهان(٣) .

وفرّقوا بينهما بأنّ في الغصب والسرقة يحصل الضمان على الغاصب والسارق ، وهو يجبر النقص ، فلا حاجة إلى جبره بمال القراض(٤) .

وأكثرهم لم يفرّقوا بينهما ، وسوّوا بين التلف بالآفة السماويّة وغيرها ، فجعلوا الوجهين في النوعين ، أحدهما : المنع ؛ لأنّه نقصان لا تعلّق له بتصرّف العامل وتجارته ، بخلاف النقصان الحاصل بانخفاض السوق ، وليس هو بناشئ من نفس المال الذي اشتراه العامل ، بخلاف المرض والعيب ، فلا يجب على العامل جَبْره(٥) .

وكيفما كان فالأصحّ عندهم : إنّه مجبور بالربح(٦) .

وإن حصل نقص العين بتلف بعضه قبل التصرّف فيه بالبيع والشراء ، كما لو دفع إليه مائةً قراضاً فتلف منها قبل الاشتغال خمسون ، فالأقرب : إنّه من الربح أيضاً يُجبر به التالف ؛ لأنّه تعيّن للقراض بالدفع وقبض العامل له ، فحينئذٍ يكون رأس المال مائةً كما كان ، وهو أحد قولَي الشافعي ، وبه قال المزني(٧) .

____________________

(١) ما بين المعقوفين أثبتناه من « العزيز شرح الوجيز ».

(٢) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٦.

(٣ و ٤) التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٦.

(٥) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧.

(٦) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٦.

(٧) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٧.

١١٥

والأظهر عندهم : إنّه يتلف من رأس المال ، ويكون رأس المال الخمسين الباقية ؛ لأنّ العقد لم يتأكّد بالعمل(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ إذ العمل فرع كون المال مالَ القراض.

مسألة ٢٧٣ : لو تلف المال بأسره في يد العامل قبل دورانه في التجارة إمّا بآفةٍ سماويّة أو بإتلاف المالك له ، انفسخت المضاربة ؛ لزوال المال الذي تعلّق العقد به.

فإن اشترى بعد ذلك للمضاربة ، كان لازماً له ، والثمن عليه ، سواء علم بتلف المال قبل نقد الثمن أو جهل ذلك ، إلّا أن يجيز المالك الشراءَ ، فإن أجاز احتُمل أن يكون قراضاً ، كما لو لم يتلف المال ، وعدمه ، كما لو لم يأخذ شيئاً من المال.

أمّا لو أتلفه أجنبيٌّ قبل دورانه في التجارة وقبل تصرّف العامل فيه ، فإنّ العامل يأخذ بدله ، ويكون القراض باقياً فيه ؛ لأنّ القراض كما يتناول عين المال الذي دفعه المالك ، كذا يتناول بدله ، كأثمان السِّلَع التي يبيعها العامل ، والمأخوذ من الأجنبيّ عوضاً بدله.

وكذا لو أتلف بعضه.

ولو تعذّر أخذ البدل من الأجنبيّ ، فالأقرب : إنّه يُجبر بالربح ، وهو أحد قولَي الشافعيّة(٢) .

إذا عرفت هذا ، فإنّ للعامل النزاعَ مع الأجنبيّ والمخاصمة له والمطالبة بالبدل والمحاكمة عليه - وهو أحد وجهي الشافعيّة(٣) - لأنّ حفظ‌

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٧.

(٢ و ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٧.

١١٦

المال يقتضي ذلك ، ولا يتمّ إلّا بالخصومة والمطالبة خصوصاً مع غيبة ربّ المال ، فإنّه لو لم يطالبه العامل ، ضاع المال ، وتلف على المالك.

وفي الوجه الثاني : ليس له ذلك ؛ لأنّ المضاربة عقد على التجارة ، فلا يندرج تحته الحكومة(١) .

وليس بجيّدٍ ؛ لأنّه من توابعها.

فعلى هذا لو ترك الخصومة والطلب مع غيبة المالك ضمن ؛ لأنّه فرّط في تحصيله ، وإن كان حاضراً وعلم الحال لم يلزم العامل طلبه ولا يضمنه إذا تركه ؛ لأنّ ربّ المال أولى بذلك من وكيله.

وفصّل بعضهم ، فقال : الخصمُ المالكُ إن لم يكن في المال ربح ، وهُما جميعاً إن كان فيه ربح(٢) .

مسألة ٢٧٤ : لو أتلف العاملُ مالَ القراض قبل التصرّف فيه للتجارة ، احتُمل ارتفاعُ القراض ؛ لأنّه وإن وجب بدله عليه فإنّه لا يدخل في ملك المالك إلّا بقبضٍ منه ، فحينئذٍ يحتاج إلى استئناف القراض ، وبه قال الجويني(٣) ، وبقاءُ القراض في البدل ، كبقائه في أثمان المبيعات ، وفي بدله لو أتلفه الأجنبيّ ، وعلى هذا التقدير يكون حكم البدل في كونه قراضاً حكم البدل المأخوذ من الأجنبيّ الـمُتلف.

ولو كان مال القراض مائتين فاشترى بهما عبدين أو ثوبين بكلّ مائةٍ منهما عبداً أو ثوباً فتلف أحدهما ، فإنّه يُجبر التالف بالربح ، فيحسب المغروم من الربح ؛ لأنّ العامل تصرّف في رأس المال ، وليس له أن يأخذ شيئاً من جهة الربح حتى يردّ ما تصرّف فيه إلى المالك ، وهو أظهر وجهي الشافعيّة.

____________________

(١ - ٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٧.

١١٧

والثاني : البناء على تلف بعض العين قبل التصرّف بأن نقول : لو تلفت إحدى المائتين قبل التصرّف جبرناها بالربح ، فهنا أولى ، وإن قلنا بتلف رأس المال فهنا كذلك ؛ لأنّ العبدين بدل المائتين ، ولا عبرة بمجرّد الشراء ، فإنّه تهيئة محلّ التصرّف ، والركن الأعظم في التجارة البيع ؛ لأنّ ظهور الربح منه يحصل(١) .

والمعتمد ما قلناه.

مسألة ٢٧٥ : لو اشترى عبداً للقراض فقتله قاتلٌ ، فإن كان هناك ربح فالمالك والعامل غريمان مشتركان في طلب القصاص أو الدية ، وليس لأحدهما التفرّد بالجميع ، بل الحقّ لهما ، فإن تراضيا على العفو على مالٍ أو على القصاص جاز ، وإن عفا أحدهما على غير شي‌ءٍ سقط حقّه خاصّةً من القصاص والدية ، وكان للآخَر المطالبة بحقّه منهما معاً ، فإن أخذ الدية فذاك ، وإن طلب القصاص دفع الفاضل من المقتصّ منه واقتصّ.

وعند الشافعي يسقط حقّ القصاص بعفو البعض دون الدية(٢) .

وليس بشي‌ءٍ ، وسيأتي.

وهذا بناءً على ما اخترناه من أنّ العامل يملك بالظهور ، وإن لم يكن هناك ربح ، فللمالك القصاص والعفو على غير مالٍ.

وكذا لو أوجبت الجناية المالَ ولا ربح ، كان له العفو عنه مجّاناً ، ويرتفع القراض.

ولو أخذ المال أو صالح عن القصاص على مالٍ ، بقي القراض فيه ؛

____________________

(١) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٧ - ٣٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٧.

(٢) الحاوي الكبير ٧ : ٣٥١ ، بحر المذهب ٩ : ٢٣٣ ، البيان ٧ : ١٩٤ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٨ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٧.

١١٨

لأنّه بدل مال القراض ، فإن كان بقدر رأس المال أو دونه كان لربّ المال ، وإن كان أكثر كان الفضل بينهما.

ولو كان هناك ربح وقلنا : إنّ العامل لا يملك إلّا بالقسمة ، لم يكن للسيّد القصاص بغير رضا العامل ؛ لأنّه وإن لم يكن مالكاً للربح فإنّ حقّه قد تعلّق به ، فإن اتّفقا على القصاص كان لهما.

مسألة ٢٧٦ : إذا اشترى العامل شيئاً للقراض فتلف الثمن قبل دفعه إلى البائع ، فإن كان بتفريطٍ من العامل إمّا في عدم الحفظ أو في التأخير للدفع ، كان ضامناً ، ويكون القراض باقياً ، ويجب عليه الدفع إلى البائع ، فإن تعذّر كان حكمه بالنسبة إلى صاحب المال ما سيأتي في عدم التفريط.

فنقول : إذا تلف المال بغير تفريطٍ من العامل ، فلا يخلو إمّا أن يكون الشراء بالعين أو في الذمّة ، فإن كان قد اشترى بالعين بطل البيع ، ووجب دفع المبيع إلى بائعه ، وارتفع القراض.

وإن كان الشراء في الذمّة للقراض ، فإن كان بغير إذن المالك بطل الشراء إن أضاف إلى المالك أو إلى القراض ؛ لأنّه تصرّفٌ غير مأذونٍ فيه ، ولا يلزم الثمن أحدهما ، بل يردّ المبيع إلى بائعه ، وإن لم يُضف الشراء إلى المالك ولا إلى القراض ، بل أطلق ظاهراً ، حُكم بالشراء للعامل ، وكان الثمن لازماً له.

وإن كان بإذن المالك ، وقع الشراء للقراض ، ووجب على المالك دفع عوض الثمن التالف ، ويكون العقد باقياً.

وهل يكون رأس المال مجموع التالف والمدفوع ثانياً ، أم الثاني خاصّةً؟ الأقوى : إنّ المجموع رأس المال ، وبه قال أبو حنيفة ومحمّد ، وهو أحد قولَي الشافعيّة ، والثاني : إنّ رأس المال هو الثاني خاصّةً ؛ لأنّ‌

١١٩

التالف قد تلف قبل التصرّف فيه ، فلم يكن من رأس المال ، كما لو تلف قبل الشراء(١) .

وقال مالك : إنّ المالك يتخيّر بين أن يدفع ألفاً أُخرى ، ويكون هو رأس المال ، دون الأوّل ، وبين أن لا يدفع ، فيكون الشراء للعامل(٢) .

ويتخرّج هذا القول وجهاً للشافعيّة على ما قالوه في مداينة العبد فيما إذا سلّم إلى عبده ألفاً ليتّجر فيه فاشترى في الذمّة شيئاً ليصرفه إلى الثمن فتلف : إنّه يتخيّر السيّد بين أن يدفع إليه ألفاً أُخرى فيمضي العقد ، أو لا يدفع فيفسخ البائع العقد ، إلّا أنّ الفرق أنّ هنا يمكن صَرف العقد إلى المباشر إذا لم يخرج المعقود له ألفاً أُخرى ، وهناك لا يمكن فيصار إلى الفسخ(٣) .

واعلم أنّ الشافعي قال : لو قارض رجلاً ، فاشترى ثوباً وقبض الثوب ثمّ جاء ليدفع المال فوجد المال قد سُرق ، فليس على صاحب المال شي‌ء ، والسلعة للعامل ، وعليه ثمنها.

واختلف أصحابه هنا على طريقين :

منهم مَنْ قال : إنّما أراد الشافعي إذا كانت الألف تلفت قبل الشراء ، فأمّا إذا تلفت بعد الشراء ، كانت السلعة لربّ المال ، ووجب عليه ثمنها.

والفرق بينهما : إنّها إذا تلفت قبل الشراء فقد انفسخ القراض ، فإذا‌

____________________

(١) بحر المذهب ٩ : ٢٣٠ ، الوسيط ٤ : ١٢٤ - ١٢٥ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤٢ - ٣٤٣ ، التهذيب - للبغوي - ٤ : ٣٩٤ ، البيان ٧ : ١٩٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩ ، روضة الطالبين ٤ : ٢١٨ ، تحفة الفقهاء ٣ : ٢٤ ، الهداية - للمرغيناني - ٣ : ٢١٤ ، مختصر اختلاف العلماء ٤ : ٦٣ / ١٧٣٦ ، المغني ٥ : ١٨٣ ، الشرح الكبير ٥ : ١٦٩.

(٢) بحر المذهب ٩ : ٢٣٠ ، حلية العلماء ٥ : ٣٤٣ ، العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩.

(٣) العزيز شرح الوجيز ٦ : ٣٩.

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

٣٨١

امتلاك الفرنج بعض أعمال طرابلس ومصير فخر الملك

لمّا فرغ الفرنج من طرابلس، سار طنكري صاحب أنطاكية إلى بانيس وحصرها وافتتحها، وأمن أهلها، ونزل مدينة جبيل، وفيها فخر الملك ابن عمّار الذي كان صاحب طرابلس، وكان القوت فيها قليلاً، فقاتلها إلى أن ملكها في الثاني والعشرين من ذي الحجّة من السنة بالأمان.

وخرج فخر الملك بن عمّار سالماً، ووصل عقيب ملك طرابلس الأسطول المصري بالرجال والمال والغلال وغيرها ما يكفيهم سنة، فوصل إلى صور بعد أخذها بثمانية أيّام، للقضاء النازل بأهلها، وفرّقت الغلال التي فيه والذخائر في الجهات المنفذة إليها صور وصيداء وبيروت.

وأمّا فخر الملك ابن عمّار فإنّه قصد شيزر ؛ فأكرمه صاحبها الأمير سلطان بن علي بن منقذ الكناني واحترمه، وسأله أن يقيم عنده فلم يفعل، وسار إلى دمشق فأنزله طغتكين صاحبها وأجزل له في الحمل والعطيّة وأقطعه أعمال الزبداني، وهو عمل كبير من أعمال دمشق، وكان ذلك في المحرّم سنة اثنتين وخمسمئة.

وفي ذيل تاريخ دمشق لابن القلانسي: كان ذلك في محرّم سنة ٥٠٣، وكان سفر فخر الملك بن عمّار مع ظهير الدين اتابك إلى بغداد في جمادى الأُولى من هذه السنة، أي بعد امتلاك الفرنج لطرابلس.

ولم يرد ذكرٌ لفخر الملك بن عمّار من هذه السنة إلى سنة ٥١٤ في المصادر التي نعتمدها، فقد جاء في الجزء العاشر من كامل ابن الأثير في أحداث هذه السنة:

٣٨٢

وفي هذه السنة سار أبو علي بن عمّار - الذي كان صاحب طرابلس - مع سديد الدولة ابن الأنباري إلى إيلغازي، وكان قد أرسل المسترشد بالله خلعاً معه إليه، وشكره على ما فعله من غزو الفرنج، ليقيم عنده يعبر الأوقات بما ينقم به عليه، وكان إيلغازي هذا صاحب حلب توفّي سنة ٥١٦.

وجاء قبل هذا في الجزء العاشر من كامل ابن الأثير في حوادث سنة ٥١٤ ما يتعلّق بابن عمّار ما يلي:

واتّصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيّد محمد بن أبي إسماعيل يكتب الطغراء مع الملك، فلمّا وصل والده استوزره مسعود بعد أن عزل أبا علي بن عمّار - صاحب طرابلس - سنة ثلاث عشرة بباب خوي.

وبعد هذا لم نجد لابن عمّار ذكراً، وانقطعت أخباره، والظاهر أنّه صرف أُخريات أيّامه في حلب، وقد لجأ إلى صاحبها نجم الدين إيلغازي بصحبة سديد الدولة بن الأنباري، الذي أوفده المسترشد بالله إليه كما سبق بيانه.

قرأت في الجزء ١٨٢ من مجلّة الجديد مقالاً تحت عنوان: ابن عمّار أبي علي بطل طرابلس، بقلم لحد خاطر، فرأيت الإفادة بضمّه إلى سلسلة تاريخه.. قال:

(كان أبو علي فخر الملك ابن عمّار حاكماً لطرابلس من قِبَل ظهير الدين طغتكين نائب الدولة السلجوقية في دمشق، وهذه الدولة من الترك ظهرت في العجم واستولت على العراق ودمشق، ولم تلبث أن استولت على بعض المدن الساحليّة والإقطاعات الجنوبيّة من لبنان، منتزعة إيّاها من الدولة الفاطميّة التي نشأت في المغرب، وجعلت قاعدة حكمها القاهرة، وبسطت سلطانها على أنحاء كثيرة من الشرق الأدنى منها: سورية وبعض جهات لبنان.

كانت طرابلس في ذلك العهد أهم عمل على الشاطىء اللبناني، وقد أسند طغتكين ولايتها إلى ابن عمّار، لما كان قد خبره فيه من الألمعيّة

٣٨٣

والدهاء، وقوّة الشكيمة، عاهداً إليه في أن يواصله بالتقارير عن حالة لبنان، يشبعها درساً ويبثّ إليه بالخطّة الواجب سلوكها لتطهيره من أحلاف الفاطميّين، ووضعه نهائيّاً تحت السيطرة السلجوقيّة.

وكان لبنان بلداً مقسّماً لا حدود ثابتة له ؛ لوفرة ما كان يحيط به من المطامع، وقصارى ما يمكن قوله عنه: إنّه كان يتألّف من عدّة إقطاعات، على كلٍّ منها أمير أو مقدّم يكاد يكون مستقلاًّ تمام الاستقلال في أعماله.

ومن أخصّ الإقطاعات في الساحل اللبناني بذلك العهد: طرابلس وجبيل وبيروت وصيدا وصور، وهي إقطاعات كان يتنازعها يومئذٍ السلجوقيّون والفاطميّون، فبينا هي اليوم لهؤلاء إذا بها في اليوم الثاني لأولئك.

وكان السلجوقيّون يتقوّون عليها بجيشهم البرّي، بينما كان الفاطميّون يحرزونها بقوّة أسطولهم البحريّ المؤلّف من مئات المراكب الحسنة التنظيم المشحونة بالمقاتلة وأنواع الأسلحة والذخائر.

أمّا الإقطاعات الجبليّة، فكانت الشماليّة منها من أقصى لبنان إلى حمانا ونهر الجعماني، فكانت بأيدي أمراء الموارنة وبني فوارس جدود آل أبي اللمع المعروفين بالأمراء الجرديّين.

وأمير النصيريّين الملقّب بشيخ الجبل، فكان هؤلاء على تباينهم في الدين، يؤلّفون حلفاً قوميّاً فيما بينهم يعمل بكلّ وسيلةٍ على صيانة استقلالهم، والوقوف في وجه كلّ طامعٍ يبسط أيّة سيطرةٍ عليهم.

أمّا الإقطاعات الجنوبيّة من حمانا وما حاذاها شرقاً وغرباً فقد كانت بأيدي أمراء الغرب التنوخيين، وكان هؤلاء نزلوا مواطنهم بأمر العبّاسيين، فاضطرّوا إلى مماشاتهم، ثمّ ماشوا من بعدهم الفاطميّين والسلجوقيّين، على أنّ تلك المماشاة كانوا يقصرونها على ما يرون فيه منفعتهم وتقوية نفوذهم.

وممّا يُؤسف له أنّهم أطاعوهم مراراً في مهاجمة الشماليّين وقتالهم لنزع استقلالهم، فنشأت بسبب ذلك بين اللبنانيين دهراً عصبيّة ممقوتة دهتهم بالفواجع وزادت في تخاذلهم وإيهان قوّتهم.

درس أبو علي حالة لبنان تلك، ورفع عنها التقارير إلى مولاه طغتكين،

٣٨٤

فوردته الأوامر بالاستعداد لتدويخ لبنان برمّته، وطرد الأحزاب الفاطميّة منه، وإرغامه على الخضوع للدولة السلجوقيّة وجعله عملاً من أعمالها، على أن يكون هو العامل الأعلى من قِبَلها، ولكن حدث له حينئذٍ ما صرفه عن نيّته تلك واضطرّه إلى تحويل جهوده إلى ناحيةٍ أُخرى بُلي فيها بالخذلان على ما أبداه من البطولة والشدّة في المقاومة، وكان خذلانه ذلك وسيلة علويّة لصيانة لبنان.

ذلك أنّ جموع الإفرنج المستنفرين إلى الشرق من جميع ممالك أوروبة إثر ما سمعوه عنه من الأحاديث ذات الشجون، تحوّلوا عن بعلبك والبقاع في طريقهم إلى بيت المقدس، ومالوا إلى الغرب وساروا على سيف البحر جنوباً، يكتسحون البلدان ويفتحون المدن، ممّا دلّ على الصولة والبطش.

وكان أبو علي حادّ الذهن ذكيّاً ؛ فعرف أنّهم واصلون إليه، ولا ريب، وشيكاً فلم يجبن إزاء هذا الاستنتاج، ولا تردّد بل نهض في الحال - بما عُرف به من همّةٍ عاليةٍ ونيّرة وقّادة - إلى حشد الجنود وجمع المؤن وترميم الحصون والأسوار، ولكنّ الفرنجة فاجأُوه قبل أن يستكمل معدّات دفاعه، وفيما كان يفكّر في أمره جاءه مَن أخبره أنّ أُمراء الجبال الشمالية لاقوا الفرنجة مرحبين، وقد نالوا لديهم حظوة، وكانت له صلة ولاء بأحد نبلائهم الأمير موسى حاكم بشراي، فرأى توسيطه في صرفهم بالحسنى عن المدينة، ريثما يتيّسر له إنجاز ما بدأ به.

وكان الأمير موسى يحب في أبي عليٍّ شجاعته وسموّ مؤهّلاته، ولكنّه كان ينكر عليه أشياء منها: تضييقه أحياناً على بعض الضعفاء من سكّان المدينة، وتسامحه في إرهاق بعض العامّة من اللبنانيين المختلفين إليها، فلمّا جاء يكلّفه التوسّط، وعده بإجابة طلبه على أن يرجع عمّا كان يؤاخذه عليه من أعماله، فأسمعه هو أيضاً أحسن المواعد.

نجح الأمير موسى في مهمّته، وصالح الإفرنج ابن عمّار، على أن يقدّم لهم بعض المؤن والذخائر بثمنٍ عادل ؛ فتابعوا طريقهم في الساحل دون أن يدخلوا المدينة، وبعد رحيلهم عاد أبو علي إلى استعداداته، لا يعرف فيها ليناً ولا هوداة، وبعد مدّةٍ جعل يعتقل بعض الأبرياء، خصوصاً ممّن أصلهم من الجبال التابعة للأمير موسى بناءً على وشاياتٍ كاذبةٍ، ويودعهم السجن، وأمر بإقفال الأسوار.

وكان من المعتقلين أسرة بشراويّة

٣٨٥

الأصل فيها فتاة أحبّها الأمير موسى منذ صغره تُدعى جميلة، وكان ينوي الاقتران بها، فلمّا بلغه الخبر كتب إلى صديقه ابن عمّار يسأله إطلاق سراحها مع أُسرتها وإرسالهم إلى بشراي، فلم يردّ عليه الوالي جواباً ؛ فأظلمت الدنيا في عينيّ الأمير، وبينما كان يفكّر فيما يعمله لإنقاذ هذه الأسرة المسكينة، إذا بريموند كونت دي تولوز المعروف عند العرب بصنجيل الفرنجي يصل في سنة ١١٠٢م ويقيم عليها الحصار، وكانت جموعه قليلة، فاشتدّ ابن عمّار في مغالبته، فلم يفز من طرابلس بطائل، وبعث ابن عمّار مَن أقنعه أنّ طرابلس لا تُؤخذ وفيها أبو علي، فتحوّل صنجيل عنها لقاء مبلغ من المال، وسار يحاصر طرطوس وغيرها، وعاد الأمير موسى يكتب إلى ابن عمّار، ويذكّره بوعوده، طالباً الإفراج عن مَن سجنهم وفيهم من يحب، فلم يلق إلاّ إعراضاً.

وفتح ريموند طرطوس وحمص وعاد في سنة ١١٠٤م إلى طرابلس، فحاصرها ثانيةً برّاً وبحراً، مستعيناً ببعض النجدات من الإفرنج والوطنيّين الناقمين على ابن عمّار، لكنّ هذا الرجل الفولاذي العزيمة كان يحسن البلاء في الدفاع عنها، مستخدماً تارةً البطش وطوراً الحيلة في مماطلة الإفرنج، إلى أن أغراهم ببعض المال، فتركوه وساروا إلى جبيل، وكانت واهنة فتسلّموها سلماً، ولم يلبثوا أن عادوا إلى طرابلس، وكان صاحبها تنفّس الصعداء زمناً واستطرد التحصّن، فاشتدّ في قتالهم عهداً مديداً لا يقلّ عن خمس سنين، حتّى لقد أصبح اسمه (أبو علي) مثلاً ما زال يُضرب في لبنان حتّى اليوم لكلّ (قبضاي) متفوّق بشجاعته واستهتاره بالأخطار.

وبنى ريموند دي صنجيل على جبل الحجّاج وراء طرابلس حصناً دعي باسمه (حصن صنجيل) وأقام تحته ربضاً، فخرج فخر الملك أبو علي إليه فأحرق الربض، وكان صنجيل واقفاً على بعض سقوفه المحروقة، فانخسف به السطح ومات بعد عشرة أيّام، فحلّ ابنه برتران محلّه وواصل الحصار، وأظهر ابن عمّار صبراً عظيماً في مجالدته إلى أن قلّت الأقوات، ووفّرت الويلات فانسلّ من طرابلس ليلاً، وقصد إلى بغداد مستفزّاً صاحبها الملك السلجوقي لمعونته على إزاحة خصومه، حاملاً إليه الهدايا النفيسة، وذلك بعد أن استناب عنه ابن عمّه (أبا المناقب)، ورتّب معه الأجناد لمواصلة الحرب برّاً وبحراً، وأعطاهم (جامكية) ستّة أشهر سلفاً، فانقلب

٣٨٦

ابن عمّه في غيابه ونادى بشعار الفاطميّين، ولكنّ أصحاب أبي عليٍّ اعتقلوه وأودعوه السجن في حصن (الخوابي) حيث سُجنت الأميرة اللبنانية وأُسرتها.

ورأى أهل طرابلس أنّهم أضحوا بدون رئيس يتولّى قيادتهم، فراسلوا الأفضل أمير الجيوش في دولة المستعلي بالله ملك مصر الفاطمي، يلتمسون منه والياً يكون عليهم ومعه الميرة والذخيرة في البحر، فسيَّر إليهم شرف الدولة ابن أبي الطيّب ومعه الأعتدة والمؤن، وغيرها ممّا يحتاجون إليه في الحصار، فلمّا صار بينهم قبض على جماعةٍ من أهل ابن عمّار وأصحابه، فقتل بعضهم وسجن آخرين، وأخذ ما وجد من ذخائره وآلاته، وحملها كلّها إلى مصر في البحر.

وشعر المحاصرون بضعف المدينة بعدما صارت إليه في غياب ابن عمّار، فساروا إليها من كلّ جهة، واضطرّ الأمير جرجس وأحلافه اللبنانيّون إلى نجدتهم لإنقاذ أسراهم.

وأرسل ملك مصر إليها أسطولاً، ولكنّ ريحاً عاصفاً ثارت على الأسطول فصدّته عن الوصول، فملكها الإفرنج بعد أن طلب أهلها الأمان فأمنوهم، وأذن لهم بالخروج منها حاملين من أموالهم وأمتعتهم ما أمكنهم حمله.

جعلت طرابلس بعد هذا الحصار الطويل عملاً رابعاً من أعمال الإفرنج في الشرق، وولّى عليها برتران بن ريموند صنجيل، ووُجدت الأسرة البشراوية في دهليز من دهاليز حصن الخوابي على آخر رمق من الحياة فزفّت فتاتها (جميلة) إلى الأمير موسى، واضطرّ ابن عمّار بعد عوده من بغداد وضياع منصبه أن يلجأ إلى لبنان، فارّاً من وجه الإفرنج مستجيراً بالأمير موسى، فأحلّه هذا الأمير عنده على الرحب والسعة.

٤ - ذو المناقب ابن عمّ فخر الملك بن عمّار:

وهو الذي استنابه على ولاية طرابلس سنة ٥٠١، حين سافر إلى بغداد يستنجد السلطان محمد بن ملك شاه على الفرنج، وقد عرفت عصيانه أمر ابن عمّه ومناداته بشعار الأفضل ابن أمير الجيوش بمصر.

وهذا كلّ ما وقفنا عليه من خبره في المصادر التاريخية التي بأيدينا، ولعلّه هو أبو المناقب ممدوح بن الخيّاط.

٣٨٧

٥ - أبو الكتائب أحمد بن محمد بن عمّار:

هو معاصر لأبي الفتح محمد بن علي بن عثمان الكراجكي الملقّب بالرحّالة الإمامي، المتوفّى سنة ٤٤٩ هـ، وبأمره ألّف له كتاب: نهج البيان في مناسك النسوان، وكتاب: عدّة البصير في حجّ يوم الغدير.

٦ - القاضي أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمّار:

ألّف الكراجكي المذكور باسمه كتاب البستان في الفقه، وهو معنى لم يطرق وسبيل لم يُسلك، قسّم فيه أبواباً من الفقه وفرّع كلّ فنٍّ منها، حتّى حصل كلّ باب شجرة كاملة يكون نيّفاً وثلاثين شجرة.

٧ - شمس الملك أبو الفرج محمد بن أمين الدولة عبد الله بن عمّار، وهو كما يظهر ابن المترجَم له الخامس من أبناء عمار.

لم نجد له ذكراً في غير ديوان الشاعر ابن الخيّاط الدمشقي، وهو من ممدوحيه كما جاء في هذا الديوان.

وقال في مدح شمس الملك إلى آخر نسبه المصدّرة به (ترجمته) يهنّئه بولده وأنشده إيّاها بطرابلس، مستهلّها:

أترى الهلال أنار ضوء جبينه حـتّى أبان الليل عن مكنونه

٨ - شرف الدولة بن فخر الملك بن عمّار:

هو ابن فخر الملك أبي علي محمد بن عمّار المترجَم له الخامس، وهو الذي مرّت ترجمته مفصّلة، وما أبلاه في الدفاع عن طرابلس ونهاية أمره، ورد له ذكر في ديوان ابن الخيّاط الشاعر الدمشقي الآنف الذكر، وله فيه قصيدة يمدحه بها ويهنّئه بعيد الفطر والبرء، مستهلّها:

لنا كلّ يومٍ هناء جديد وعيد محاسنه لا تبيد

وهذا شرف الدولة هو الذي هنّأ أباه فخر الملك ارتجالاً بظهوره يوم ركوبه، مستهلّها:

ألا هكذا تستهلّ البدور محلٌ عليٌ ووجه منير

وقد جاء في مجلّة المباحث الطرابلسيّة للمؤرّخ المحقّق جرجي يني

٣٨٨

ذكر لقاضيين من قضاة بني عمّار لم نجده في المصادر التاريخية التي اعتمدناها في مباحث هذا الكتاب، ولعلّه استقى ذلك من مصادر تاريخية افرنجية، فرأينا أن نعتمده في ذكرهما حتّى لا يفوتنا شيءٌ ممّا يتعلّق بهؤلاء القضاة:

الأول: القاضي الحسن بن عمّار هو القاضي أبو طالب، وهو أوّل من استبدّ بإمرة طرابلس، وهو أوّل مَن ذكرناه مِن ولاة طرابلس، وقام بعده على إمارتها ابن أخيه جلال الملك الثاني أمين الدولة، فإنّه يقول:

كرّت على البلدة (طرابلس) العصور وتقلّبت الأحوال ؛ حتّى بدأ القرن الثاني عشر للمسيح فظهرت كأنّ الحيّين البحريّين قد انضمّا فصارا حيّاً ممتدّاً من الموضع المسمّى الآن فوق الريح إلى البحصاص، وثمّت حيٌ آخر عند سفح الأكمة على بعد نحو ميلين عن البحر، وبينهما مدى فسيح مملوء بالجنائن والحقول، وكان الأهلون يشغلون منه مقداراً عظيماً من قصب السكر، يقول بوركارد: إن ريعه ناهز ٣٠٠ ألف ذهب، ومنه نقل الزراعة إلى أوروبة، وكانت المدينة يومئذٍ منيعة الجانب ذات أسوار وخنادق وحصون، وقد قام فيها منذ القرن السابق قاضيها حسن بن عمّار، فامتلكها وحسّنها فارتقت واغتنت، وصارت مستودعاً كبيراً للتجارة، وداراً للعلم بمدارسها ومكاتبها، فلمّا مات سنة ١٠٧١م اختلف نسيباه جلال الملك وأمين الدولة، مع أنّ الإفرنج كانا على قرب وقد جاؤوا سورية يكتسحونها، وقد طمحت عيونهم لامتلاك طرابلس مدينة العلم والعلماء ومستودع التجارة والصناعة.

وإنّا لنستدرك هنا ما جاء في المباحث من أخبار مهاجمة الإفرنج لطرابلس، ومدافعة فخر الملك لهم، لما فيه من زيادة تفصيل عمّا أوردناه من فتح هذا البلد وانتهاء أمر حكم بني عمّار، قال: ولمّا اقترب ريمون سان جيل كونت دي تولوز، وهو المسمّى في التواريخ العربية باسم صنجيل خرج الطرابلسيّون، فحاربوه فما نال منهم إرباً بل ارتدّ عنهم ولكنّه عاد عليهم سنة ١١٠٢م فخاب - أيضاً - ولم يظفر بفتح البلد، فاكتفى بأن يضرب عليها مالاً، ثمّ ملك ذروة المرتفع من الأرض على عدوة نهر قاديشا، وأنشأ فيها محلّةً وحصّنها وأقام فيها برجاً له، فأطلق على الموضع اسم تل الغرباء أو الحجّاج، كأنّ التسمية مستفادة من الحال الذي صار إليه

٣٨٩

الموضع باحتلال قوم ريمون فيه، غير أنّ المرتفع فوق حي من البلدة وقريب منه، ولذلك أخذ ريمون بتحصينه حذراً وحيطةً، وجعل يزيد الحصن منعة حتّى صار قلعةً يأوي إليها رجاله فتشدّدت بها عزائمه، وشرع يعيد الكرّة على البلدة، ويعبث في أطرافها، ولكنّه لا يجدها إلاّ أعزّ مِن أن تُنال، وكان يستعين بسفن جنوا ولكن من غير طائل ؛ لأنّ المدد كان يأتي البلدة ويعين حماتها على دفع العدو.

وفي ذات مرّة تكاثر المدد في طرابلس فاشتدّ بهم ساعد فخر الدولة ابن عمّار، وخرج على الإفرنج في محلّتهم فامتلكها وهدم القلعة، ولكن لم يمض زمنٌ طويلٌ حتّى كرّ عليه ريمون، واسترجع الموقع وزاده تحصياً وأقام فيه يُواثب الطرابلسيين مرّةً بعد أُخرى ويزعجهم، حتّى أوشك ابن عمّار أن يعاقده على تسليم أرباض المدينة على أن تبقى المدينة له، ولكنّه قبل أن يتمّ الاتفاق حمل على الأعداء ليلاً، واعتلى تلّ الغرباء فأحرق منازل الإفرنج، فارتاعوا لاعتلاق النار في دورهم، وأسرع ريمون من القلعة بمَن معه من الرجال، وأجهدوا أنفسهم فردّوا الهاجمين على الأعقاب، إلاّ أنّ النار علقت بريمون فآذته وأفضت به إلى الموت متأثّراً منها.

وفي روايةٍ أُخرى آثرها العلاّمة سوبرنهايم عن ريمون أنّه أصابته النار من نوافذ البيوت المحترقة، فأحدثت في جسمه حروقاً ذات شأن أفضت به إلى الموت بعد أيّام فقضى في ١٠ جمادى الآخرة سنة ٥٩٨ هـ - ٢٧ شباط سنة ١١٠٥م، عاهداً بالإمارة من بعده لابن أخيه الكونت كليوم جوردان دي سرداين، فأقام على مثاغرة البلدة وزادها ضغطاً وبلاءً سيّما إذ حاول منع أخذها الميرة والزاد من عرقة إلاّ أنّ حصانة البلدة وشدّة بأس أهليها حالا دون تمكّن الأعداء منها، ولم يضرّها إلاّ ما وقع بين زعمائها من التضغّن والخلاف، لأسباب لا يسعنا بسطها لضيق المجال، فأفضى بها ذلك إلى التخاذل وإلى الوهن، على أنّ المحاصرين لم يسلموا أيضاً من دبيب المطامع والتحاسد إليهم ؛ لأنّهم فيما كانوا على وشك أخذ طرابلس، جاءهم من أوروبة الكونت برتران دي تولوز وهو ابن ريمون مطالباً بالإمارة خلفاً لأبيه، فعارضه ابن عمّه بوصاية ريمون واعتصب لكلٍّ من الفريقين حزبٌ من قومهم، فكان أمير أنطاكية من أنصار كليوم، وكان ملك القدس طهيراً لابن ريمون، ولو لم يتدارك هؤلاء الأنصار الأمر لوقع الخلف والشقاق

٣٩٠

ولكنّهم اتفقوا على العهد بإمارة طرابلس وجبيل للكونت برتران بن ريمون وإعطاء طرطوس حتّى عرقة لابن عمّه كليوم.

وبهذا فضّ الخلاف واتّفق الجميع فشدّدوا الحصارعلى المدينة، واستطالوا عليها برّاً وبحراً، حتّى فازوا بفتحها صلحاً(١) في (٣ ذي الحجّة سنة ٥٠٢هـ) ٤ تموز سنة ١١٠٩م بعد إذ جرت على قتالهم سبعة أعوام أو تزيد.

____________________

(١) قد تقدّم فيما ذكر أكثر المؤرّخين فتحها عنوةً، وممّن ذكر ذلك ابن خِلّكان في ترجمة الأمير بأحكام الله الفاطمي، وأنّ فتحها كان لإحدى عشرة ليلة خلت من شعبان سنة ٥٠٢ وفي تاريخ فتحها خلاف سنعرض له في مكانٍ آخر إن شاء الله.

٣٩١

نكبة مكتبة بني عمّار من الفرنج وأقوال المؤرِّخين

رأينا أن نفرد فصلاً خاصّاً في هذا الكتاب للبحث عن مكتبة بني عمّار التي تُعد من أعظم آثارهم، إلى ما كان لهم من مآثر عمرانيّة في مدينة طرابلس، ونفي استبعاد محتوياتها كما أحصاها المؤرّخ ابن فرات، ونفي استبعاد وحرق الفرنج لها وهذا تتمّة ما سبق إجماله وما يليها من هذا الكتاب.

أمّا محتويات هذه المكتبة والاختلاف في عددها، فقد عرفت ممّا سبق أنّ هناك مَن يقول كابن الفرات بمناهزتها ثلاثة ملايين، ومَن يقول بنزولها إلى مئة ألف، وهما بين إفراط وتفريط، ونرجّح أنّ العدد هو دون ما يقول ابن الفرات، وأكثر ممّا يقوله الآخر، ولا نستبعد أن يكون عددها قد بلغ زهاء نصف المليون، وهذا العدد هو أقرب إلى المعقول، فإنّ عناية المسلمين في التأليف وجمع الكتب في عصر ازدهار العلوم والعرفان في البلاد الإسلامية بلغ مبلغاً عظيماً، فقد نقل المؤرّخون عن طائفةٍ من العلماء مَن جمعوا على انفرادهم ما يزيد على مئة ألف مجلّد، فقد رووا أنّ الشريف المرتضى احتوى مكتبةً كان عدد كتبها مئة ألف وعشرين ألف مجلّد، وأنّه تخلّف بعد إهداء ما أهداه منها عن ثمانين ألف مجلدٍ، وأنّ الصاحب بن عبّاد كان يحتاج إلى ثلاثمئة جمل لحمل كتبه، وقد استقرب صاحب خطط الشام أن يكون ما أحصاه ابن الفرات قريباً من الواقع، بأن تكون ثلاثة الملايين هو كلّ ما في مكاتب طرابلس مع مكتبة بني عمّار، كما نقلنا ذلك سابقاً، وقال دافعاً الاستبعاد:

(ولا ينبغي أن يذهب عن الخاطر أنّ ما كانوا يسمّونه جزءاً أو مجلداً

٣٩٢

أو مجلّدة لا يتجاوز بضع كراريس من كرّاساتنا، والكرّاسة قد لا تكون أكثر من ثمان صحائف، بمعنى أنّ ألف المجلّدة أو المجلّد لا تبلغ في مصطلحنا أكثر من خمسين أو ستّين أو سبعين كتاباً، فكان المجلّد في تلك العصور قليل الأوراق ؛ لأنّ الورق أو الرق غليظ، فإذا جعل كلّ مجلّد مئتين أو ثلاثمئة أو أربعمئة أو خمسمئة ورقة يصعب تناوله وحمله ونقله، ولا يصحّ ما قاله ابن الفرات من أنّه كان في دار العلم في طرابلس ثلاثة آلاف ألف يوم نكبتها، إلاّ على هذه الصورة، أي: أنّ كتبها كانت بين مئتين وثلاثمئة ألف، ومنها أجزاء صغيرة ورسائل، وقد يكون الجزء من كتاب لا تتجاوز سطوره سطور مقالةٍ من مقالاتنا، أو إملاءة من أمالينا، أو محاضرة أو مسامرة من محاضراتنا ومسامراتنا اليوم).

وقد عرفت فيما سبق في مبحث تاريخ طرابلس، أنّ الرحّالة الفارسي ناصر خسرو قد ذكر في رحلته أنّه مرّ بها سنة ٤٣٨ هـ، ووصفها في رحلته وصفاً دقيقاً، وذكر من معاملها الكثيرة لمختلف الصناعات معمل لورق الكتابة كمعمل كاغد سمرقند، وكانت في ذلك العهد في حوزة ملوك مصر الفاطميّين، وأنّهم أعفوها من أداء الضرائب ؛ لأمانة أهلها في واقعة سابقة، انهزم فيها الروم، وفي وجود مثل هذا المعمل للورق ما يسهل على المؤلّفين والناسخين: التأليف والنسخ وصناعة الوراقة، التي كانت تشبه مهنة الصحافة والطباعة في هذه الأيّام، أضف إلى ذلك انصراف الهمم في تلك العصور إلى الرغبة في العلم والتعليم، وتوفّر العزائم على جمع الكتب، وإذا علمت أنّ بلاد الشام كانت في ذلك العهد من البلاد التي كان يرتحل إليها في طلب العلم، وكانت طرابلس من قواعد البلاد الشامية، وكان لها شأو رفيع في العمران، وقد دخلت في حكم الفاطميّين سنة ٣٦٠.

وقد كان عصرهم منذ افتتحوا الديار المصريّة والشاميّة عصر علم وعصر منافسة في العلم، وحسبهم في ذلك أثرهم الخالد (الجامع الأزهر) الذي كان وما يزال إلى اليوم الجامعة الكبرى للعلوم الإسلامية، وغيرها من مختلف العلوم والفنون، فلا يستبعد والحالة هذه أن تكون طرابلس وقد أصبحت قاعدةً من قواعد مدنهم الساحليّة، ولها مكانها من حيث الموقع ومن حيث تهيئة أسباب استبحار العمران فيها، أن تساهم مساهمةً عظيمةً في هذه الناحية من نواحي الحياة، وأن يكون لبني عمّار قضاتها منذ حلوّها وأقاموا فيها، وأصبحوا

٣٩٣

أمراءها والمستبدّين بأحكامها، وقد امتدّت سكناهم فيها مدّةً طويلةً منذ سنة ٤٤٠ أو ما يتقدّم هذا التاريخ إلى أن سقطت من أيديهم.

وهل يُستبعد، وقد أصبحت بلداً علميّاً، أن تحتوي مكاتبها العدد الذي أحصى ابن الفرات به كتبها، أو ما يزيد على تقدير مَن قدّره بمئة ألف.

وكيف ينكر على بلدٍ بلغ ما بلغ من العمران والترفيه، وحوى من معامل الحرير خاصّةً، دون دخول الإفرنج إليها أربعة آلاف معمل دع المعامل الأُخرى، وأصبح محجّة للعلماء يغشونه من كلّ صوب، فقد قيل إنّ أبا العلاء المعرّي كان ممّن قصدوه للاستفادة من مكاتبه، وعرفت أنّ الرحّالة الكراجكي كان ممّن غشيه وألف عدّة مؤلّفات باسم بعض قضاته وأهله، وكان ذلك في العقد الرابع والخامس من القرن الخامس الهجري، كيف نكر على مثل هذا البلد، وهو على الحال التي وصفناها، أن تحتوي مكتباته العامّة ومكتبة بني عمّار العدد الكثير من الكتب.

إنّ غير ابن الفرات من المؤرّخين إن لم يعرض لإحصاء عدد ما حوته مكتبة بني عمّار من الكتب وغيرها من المكتبات، فقد جاء في عرض كلامهم عند استيلاء الفرنج على طرابلس عنوةً ما يدلّ على الكثرة التي تتجاوز أقلّ الإحصاء الذي اعتمده بعض المؤرّخين وهو مئة ألف مجلد، فيقول ابن الأثير:

ونهبوا (الإفرنج) ما فيها (طرابلس) وأسروا الرجال، وسبوا النساء والأطفال، ونبهوا الأموال، وغنموا من أهلها من الأموال والأمتعة، وكتب دور العلم الموقوفة ما لا يُحد ولا يُحصى.

وقال ابن القلانسي:

(وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يُحد عدده ولا يُحصر فيُذكر).

وقال ابن خِلّكان في ترجمة الآمر بأحكام الله:

(وأخذوا طرابلس الشام بالسيف، يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجّة سنة ٥٠٢، وكان أخذهم لها بالسيف، ونهبوا ما فيها واسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها، وحصل في أيدهم من أمتعتها وذخائرها وكتب دار علمها، وما كان في خزائن أربابها ما لا يُحد ولا يُحصى).

جاء في خطط الشام:

وكان الحسن بن عمّار قاضي طرابلس للفاطميّين والمتغلّب عليها، أقام في طرابلس دار حكمة أو شبه مدرسة جامعة، على نحو دار الحكمة التي أنشأها الحاكم بأمر الله في مصر سنة ٤٠٠.

٣٩٤

وفيه: ولم تعهد الشام دار حكمةٍ إلاّ في القرن الخامس، أنشأها بنو عمّار في طرابلس.

وكان في كلّ من كفر طاب والمعرّة، في زمن أبي العلاء المعري، خزانة كتب، وقد زارهما كما زار خزانة طرابلس. وهذه الخزانة كانت قبل بني عمّار خلافاً لما وهم بعض المؤرّخين المعاصرين ؛ لأنّ القضاة بني عمّار لم يستولوا على طرابلس إلاّ بعد الأربعين وأربعمئة، وكان أبو العلاء المعرّي زار طرابلس قبل هذا التاريخ، أي في أواخر القرن الرابع، وانتفع بخزانتها وكتبها الموقوفة، وأوّل مَن حكم من قضاة بني عمّار: أبو طالب عبد الله بن محمد بن عمّار في دولة المستنصر الفاطمي، في حدود سنة ٤٤٠.

وقد تقدّم سابقاً عن أوّل مَن وقف مكتبة بني عمّار من قضاة بني عمّار هو أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمّار ثمّ تجديد الأمير علي بن محمد بن عمّار لدار العلم سنة ٤٧٢، ثمّ طبع الأمير فخر الملك عمّار بن محمد بن عمّار على غرارهم.

وقد تقدّم ما نقلناه عن المؤرّخ جرجي يني ما احتوته هذه المكتبة من مختلف العلوم والفنون.

أمّا حرق الإفرنج لهذه المكتبة ن فقد أنكره البعض من متأخّري المؤرّخين، وحجّتهم أنّ متقدّمي مؤرّخي المسلمين لم يذكروه، وأنّه قد تفرّد بذكره ابن طي، وأنّ مؤرّخي الفرنج لم يعرضوا له، ولكنّ شيئاً من ذلك لا ينهض بحجّة النافي، وما كان سكوت مَن سكت عن ذكر حرق هذه المكتبة من مؤرّخي المسلمين دليلاً على العدم، وأمّا سكوت مؤرّخي الصليبيّين فلعلّه كان كما استظهر المؤرّخ يني ستراً لزلة قومهم، ولعلّ ذكر ابن طي خبر الحرق الذي لم يذكره مَن تقدّمه من المؤرّخين، مبنيٌّ على اطّلاعه من خبره ما لا يطلع عليه أولئك، ومََن يعرف سيرة مؤرّخي المسلمين مِن البحث والتحرّي عمّا يدوّنونه، لا يرمي هذا المؤرّخ الثبت بالاختلاق والافتراء.

على أنّ مِن مؤرّخي الإفرنج وبعض أهل الاستشراق، منهم مَن ذكر خبر حرق الصليبيين لهذه المكتبة ؛ فقد جاء في كتاب لغة التاريخ والجغرافية الذي نشره مسيو بويه أن الصليبيين أحرقوا تلك المكتبة الثمينة.

وذكر المستشرق (رونه دوسو) في مقالته التي كتبها برسم انسيقلوبه دي الكبير، وبحث فيه عن أحوال طرابلس الشام العامّة: (أنّ مستخلصي

٣٩٥

القدس من النصارى أحرقوا تلك المكتبة العربية الطائرة الصيت).

ثمّ إنّنا لا نعرف وجهاً لاستبعاد حرق الصليبيين لهذه المكتبة، وهم كانوا كما وصف روبرنسون المؤرّخ الإنكليزي، وغير أهل أوروبا بما هذا خلاصته:

(هو أنّه في الزمن الذي كان يتدارس به العرب هذه العلوم، وينشرونها في بلادهم، كانت أهالي أوروبا في حالة لا زالوا هم ذواتهم يندبونها حتى اليوم، ولم يستفيقوا من ذلك الجهل المفرط، والنوم العميق إلاّ بواسطة شروعهم في تلك الغزوات الصليبية الوحشيّة، التي أجروها مع المسلمين، بقصد استخلاص الأراضي المقدّسة من أيديهم، حيث مرّوا في غزواتهم هذه، وسيرهم جهة بلاد أورشليم بأراض نضرة ؛ لحسن زراعتها أكثر من أراضيهم، وبدول متمدّنة أكثر من تمدّن دولهم)(١) .

وما يمنع قوماً هذه صفتهم، وهم لا يعرفون قيمة الكتب وقيمة هذه المكتبة، وقد دخلوا طرابلس بعد محاولة دخولها بضع سنين دخول الثائر المنتقم، وهو لا يتحرّج عن قتل النفوس البريئة، وهدم معالم العمران ودك القصور على الحضيض، وإعفاء ما في هذا البلد من آثار عمرانيّة، أن ينتقم غمار جيشه المتغلّب في جملة ما انتقم من تلك المكتبة بحرقها، وهو لا يعرف قيمتها، بل قد يرى في حرقها وهي عزيزة على أهلها أبرز آثار إرواء غليل المنتقم الحاقد، يقول صاحب صنّاجة الطرب:

أمّا العرب، فإنّه لم يبق عندهم من تلك المكاتب التي أشرنا إليها بأنّهم جمعوها، والمدارس التي شيّدوها، حتّى ولا ذكرها، فكأنّ دولة علومهم كانت مرتبطةً بدولهم السياسيّة، التي منذ أضاعوها أضاعوا كلّ هذه العلوم والمعارف معها ؛ إذ إنّه لم تسقط دولة من دولهم، سواء كانت في المغرب أو في المشرق، إلاّ وهدمت جيوش أعدائهم مدارسها، وأشعلوا نيران حقدهم في مكاتبها.

وفي مجلّة المقتطف:

لمّا افتتح الأسبانيّون تلاد البلاد (الأندلس) واستخلصوها من يد العرب على ما رواه بعض المؤلّفين، فإنّ كردينالهم المسمّى شيمنز أمر بحرق ثمانين ألف كتاب في ساحات مدينة غرناطة بعد

____________________

(١) صنّاجة الطرب.

٣٩٦

استظهارهم عليهم في سنة ٨٩٨ للهجرة سنة ١٤٩٢م، إلى أن قال نقلاً عن مؤرّخ إسباني يُقال له ربلس: بأنّ الأسبانيّين أفنوا ألف ألف وخمسة آلاف مجلّد، كلّها خطّتها أقلام العرب، وأنّهم ظفروا بثلاث سفن كانت مشحونةً بالمجلّدات العربية الضخمة طالبة ديار سلطان مراكش، فسلبوها وألقوا كتبها في قصر الأسكوريال إلى سنة ١٦٧١م ١٠٨٢هـ حيث لعبت بها النيران فأكلت ثلاثة أرباعها، ولم يستخلصوا منها إلاّ الربع الأخير، حين استفاقوا من غفلتهم، ففوّضوا إلى رجلٍ ماروني من أهالي طرابلس يُقال له ميخائيل القيصري، فكتب لهم أسماء ألف وثمانمئة وإحدى وخمسين كتاباً منها.

هذا ما جرى من الأسبان في عصر بدء يقظة أوروبا من غفلتها، وفي زمن تطلّعها إلى الأخذ من علوم العرب واحتذاء مدنيّة العرب، فما بالك فيما سبق هذا العصر بقرون على غفلة أوروبا وتسكّعها في مجاهل جهلها، فلا جرم أن يكون ما نُقل عن حرق مكتبة بني عمّار ومكتبات طرابلس صحيحاً.

على أنّ تناول أيدي الفاتحين المتغلبين ولا سيّما مَن كانوا على شاكلة الإفرنج ين غزواتهم البلاد الإسلامية، من حيث الانغماس في الجهل والارتطام في حمأة الحقد والانتقام، إلى تدمير معالم العمران وثل صروح العلم وإتلاف محتويات مكتباتها، ممّا درج عليه أولئك المتغلّبون، وكان عظيم بلائهم منصبّاً على العلم، انصبابه على مَن أوقعه القدر في قبضة سلطانهم وتحت حكم سيفه، فكان أمثال هذا البلاء منصبّاً على مدارس بغداد وكتب علومها، من هولاكو وتيمورلنك ومَن سلفه جنكيزخان على مدارس سمرقند وبخارى وإيران.

وهكذا الحال في كلّ بلدٍ تمكّن منه الغالب، من حيث الجناية على العلوم وكتبها ومدارسها، وحسبنا فيما ذكرناه من هذه الجملة - وهي غيضٌ من فيض وقطر من بحر - ما يكفي في التدليل على عدم استبعاد حرق الإفرنج لمكتبة بني عمّار ومكتبات طرابلس، بل وعلى وقوع ذلك كما يذكره ابن طي.

٣٩٧

حدود إمارة طرابلس في عهد القضاة بني عمّار

أمّا تحديد هذه الإمارة في عهد قضاتها بني عمّار، فلم نجد فيه كلاماً واضحاً تطمئنّ إليه نفس الباحث، فهو كغيره من الأبحاث المتعلّقة بالأمراء بني عمّار من عدم الوضوح، إلاّ أنّه يمكننا الاستنتاج من تضاعيف كلمات المؤرّخين أنّها كانت على شيءٍ من الاتّساع، وإن لم تحدّد تخومها.

فقد عرفت ممّا سبق في ما نقلناه عن الشريف الإدريسي المتوفّى سنة ١١٨٧، حيث وصفها بقوله: مدينة عظيمة، عليها سور من حجرٍ منيع، ولها رساتيق وأكوار وضياع جليلة.

ولعلّ ما يذكره القلقشندي في صبحه في تحديدها ما يمكننا معه استصحاب أنّها كانت في عهد الأمراء بني عمّار مشتملة على ذلك التحديد أو ما يقرب منه، فقد قال:

(وحدُّها من القبلة جبل لبنان، ممتدّاً على ما يليه من مرج الأسد، حيث يمتد النهر العاصي، وحدُّها من الشمال قلاع الدعوة، وحدُّها من الغرب البحر الرومي.

وأعمالها على قسمين (الأعمال الكبار ) التي يكاتب نوّابها من الأبواب السلطانية، وهي على ضربين:

الضرب الأوّل: مضافاتها نفسها، وهي ستّ نيابات:

الأوّل: حصن الأكراد

الثاني: عمل حصن عكار

الثالث: عمل بلاطُنُس

الرابع: عمل صهيون

الخامس: عمل اللاذقية

السادس: عمل المرقب.

(الضرب الثاني : قلاع الدعوة، وهي سبع قلاع عظيمة الشأن، رفيعة المقدار، لا تُسامى منعةً ولا تُرام حصانةً، وكانت أوّلاً كلّها مضافة إلى طرابلس، ثمّ نُقلت مصياف منها إلى دمشق، والبقيّة على ما كانت عليه من إضافتها إلى طرابلس، وهي ستّة أعمال.

٣٩٨

(الأوّل: عمل الرُصافة.الثاني: عمل الخوابي.الثالث: عمل القَدَمُوس.الرابع: عمل الكهف.الخامس: عمل المنَقة.السادس : عمل العُلّيقة.

(القسم الثاني: الأعمال الصغار.

الأوّل: عمل انطرطوس. الثاني: عمل جُبة المنِيطَرة. الثالث: عمل الظنيين. الرابع: عمل بَشَرّيه. الخامس: عمل جَبَلة. السادس: عمل أَنَفة).

ولا مراء أنّ هذه الحدود كانت تضيق وتتّسع، وكان يُضاف إليها بعض الأعمال، ويتغلّب على البعض الآخر تبعاً لتقلّبات ذلك الزمن، الذي كان الاستبداد فيه بالأعمال من ذوي الأعمال سنّة متّبعة، وقوّة الغالب هي كلّ شيءٍ في عرف متغلّبي تلك الأيّام، والبلاد كالأُكرة في يد اللاعب، والخلافة الفاطميّة في أدوار التقهقر، والغزوات على بلادها متدفقة من هنا وهناك. ومثلها كانت الخلافة العبّاسية، مقطّعة الأوصال، تقوم سلطنةٌ على أنقاض أُخرى وإمارة على تقليص ظلّ إمارة، ووراء ذلك طموح الروم إلى اجتياح البلاد، ثمّ الغزو الصليبي، قال ابن الأثير في كامله الجزء العاشر ص ٢٠٩ / ١:

(على أنّ إمارة طرابلس التي استطاعت في عهد بعض قضاتها، وخاصّةً في عهد آخرهم فخر الملك: أن تقف في أتي الغزو الصليبي سبع سنين وما يزيد، وتنفق ما تنفق من الأموال والأعتدة في سبيل ذلك الموقف، من المستبعد حقّاً إن لم يكن من المستحيل عادةً وعرفاً، أن تقوم بتلك المقاومة، وسلطانها محصور في البلد وأرباضها منها فحسب، وقد عرفت من تضاعيف هذه المباحث: أنّ انطرطوس وجبلة والخوابي وجبيل وعرقة(١) ، كانت داخلةً في سلطان إمارتها في عهد بني عمّار(٢) .

وكيف كان، فإنّا لا نستبعد أن يكون ما حدّده صاحب صبح الأعشى هو القريب من الواقع في عهدة إمارة بني عمّار.

____________________

(١) قال المؤرّخ جرجي يني: والظاهر من بعض الروايات أنّ عرقة وجبيل كانتا إذ ذاك من أميريتها (طرابلس).

(٢) ويظهر أنّ حصن أوتاج قد ضُمّ إلى إمارة طرابلس في عهد فخر الملك سنة ٤٩٧ (القلانسي ص ١٤٨) ينظر تاريخ ابن الأثير ج ١٠ ص ١٦٤.

٣٩٩

تاريخ طرابلس بعد استيلاء الفرنج عليها إلى العصر الحاضر

قد رأينا بعد كتابة هذه الفصول، وقد احتوت مع تاريخ بني عمّار قسماً كبيراً من تاريخ طرابلس، أن نستوفي تاريخها من العهد الصليبي، فتخليصها منهم إلى العصر الحاضر، ليجيء تاريخنا هذا تاريخاً لبني عمّار، وتاريخاً لهذا البلد الخالد ؛ لتكون الفائدة أعم والبحث أتم.

تراجع مدينة طرابلس في عهد حصار الفرنج لها واستيلائهم عليها

كانت طرابلس في عهد بني عمّار مشهورة: بغنى طبيعتها، وحسن رونقها، ونجاحها، وكانت حاصلاتها غزيرة جدّاً، حتّى أنّ السهول والتلال والأكم المجاورة كانت مصدر الكثير من الغلال الفاخرة والزيتون والحرير، بالإضافة إلى ما كان هنالك من قصب السكّر والكرْم وأنواع الفاكهة والأشجار.

وحسبنا بذلك شهادة المؤرّخ ميشود الذي تبع قوله بقوله:

إنّ في المدينة أكثر من أربعة آلاف نول لنسج الأقمشة الصوفية والحريرية والقطنية، غير أنّ قسماً كبيراً من هذا الغنى بات طعاماً لانتقام الإفرنج، أو معطّلاً من جرّاء حروبهم وحصارهم الطويل، فإنّهم كانوا في زمان الحصار قد أضرّوا بجوار البلدة، ولمّا تملّكوها لم يعتنوا بما فيها من المعامل الصناعية، فانحطّت انحطاطاً عظيماً.

ولم يكن ما ذكر لكلّ ما اشتهرت به طرابلس من الغنى في ذلك الزمن، فإنّ خزائنها كانت قد مُلئت من الكتب المفيدة، التي أحالها الإفرنج رماداً(١) .

____________________

(١) تاريخ سورية ليني.

٤٠٠

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486