تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 486
المشاهدات: 67112
تحميل: 7638


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 67112 / تحميل: 7638
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 2

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

وفي كتاب تتبعات (بيروت ) بعد ذكره غلبة المسلمين للرومان على طرابلس، وازدهارها في أيّامهم زراعةً وتجارةً وعلماً، قال: ولكن لم يطل هذا الفيض العلمي، بل رمت أوروبا هذه البلاد بشرذمةٍ من جهلائها الصليبيّين الذين هم أعداء العلم والمعرفة، فكانوا المانعين لبقاء تلك النعمى العظمى، وقد كان موجوداً في طرابلس إبّان هجومهم زهاء أربعة آلاف من مصانع الحرير والصوف، فلم يدرك أولئك الإفرنجيّون قيمة تلك الثروة البشريّة والطبيعيّة، بل كانوا يخرّبون كلّ ما وصلت أيديهم إليه من آثار العمران، فقطعوا أشجار الزيتون بقصد نكاية المسلمين، ثمّ عمدوا إلى الرياض المحيطة بالبلدة على مسافة بضعة كيلومترات، فأبادوها قطعاً وقلعاً وجعلوها خاويةً على عروشها ؛ ولذلك فإنّ الزراعة والصناعة تقهقرت بعد استيلائهم على البلدة حتى أشفت على العدم.

ازدهارها بعد استيلاء الفرنج عليها

قال المؤرّخ جرجي يني في مباحثه م ٢:

ولمّا امتلك الفرنجة البلد حصّنوها وزادوها منعةً، بما بنوا فيها من الأسوار والأبراج، وبمَن جعلوا على حراستها مِن قومهم. ولم يمض على المدينة بعد فتحها إلاّ زمنٌ قصير حتّى عادت إلى الازدهار بتجارتها وغِناها وعظم مبانيها، حتّى أنّها امتدت واتصلت من الساحل حتّى تلّ الغرباء والمرتَفع الآخر على العدوة اليمنى من النهر (القبّة)، وأُقيم بينهما جسرٌ أُطلق عليه يومئذٍ: جسر تلّ الغرباء، وهو المعروف حتّى اليوم بالجسر العتيق.

[ الأحداث المتجدّدة عليها في العهد الصليبي ]

وجاء في تاريخ سورية لجرجي يني:

(ومذ صارت طرابلس بلدة صليبيّة ضمّ إليها بعض المدن المجاورة: كجبيل وعرقا وطرطوس وما بينها، فتشكّلت إمارة باسمها، كان يتأمّرها أوّلاً برتران بن رايموندكونت دوتولوس، ثمّ نسله من بعده: وكانت تلك الأميريّة متعلقة رأساً بحكومة ملك بيت المقدس).

لم يغفل أمراء المسلمين عن هذه المدينة، فلم تستتبّ لأمرائها الفرنج راحة وهي تُغزى من المسلمين المرّة بعد المرّة، فكانت حالها كحال البلاد

٤٠١

الشاميّة - التي غلب الفرنج عليها المسلمين - عُرضةً للهجوم المتواصل، ولكنّها ثبتت على كلّ هجومٍ استهدفها وهي مستعصمة بأسوارها وأبراجها، وتستمدّ إلى قوّتها قوّة مِن ملك بيت المقدس، ومِن قوى البحر التي كانت منها على قاب قوسين أو أدنى. وبعد فكان لأمراء الفرنج الذين تقاسموا ما افتتحوه من البلاد الشاميّة الساحليّة عناية خاصّة بإنجادها، وهي ثغرٌ من أهمّ الثغور التي وقعت في سلطانهم، ففي حفظها حفظ ما بأيديهم ممّا غلبوا عليه المسلمين.

في سنة ٥٠٣ هـ جرت الموادعة بين بغدوين ملك بيت المقدس وظهير الدين أتابك، حين عزم بغدوين على العيث والإفساد في ناحية البقاع، ولكنّ بغدوين نقض الهدنة في سنة ٥٠٤، وكتب إلى ابن صنجيل صاحب طرابلس يلتمس منه الوصول إليه في عسكره ليجتمع معه في طبرية.

وجمع وحشد ووصل إلى ناحية بيت المقدس لتقرير أمرٍ كان في نفسه، فحدث له في طريقه مرضٌ أقام به أيّاماً ثمّ أبلّ منه، ولم يبق في عينه أمرٌ مهمٌ يحفل به من جهتهم، فنهض ظهير الدين عند معرفته قصده في عسكره ونزل في المنزل المعروف برأس الماء، ثمّ رحل عنه إلى اللجاة.

ونهض الإفرنج في أثره إلى الضمين، ففرّق أتابك العسكر عليهم من عدّة جهات، وبثّ في المعابر والمسالك خيلاً يمنع من حمل الميرة إليهم، وضايقهم مضايقةً ألجأتهم إلى الدخول في حكم المسالمة والموادعة إلى أن استقرّت بينهما الحال على شروط ؛ ورحل كلٌّ منهما منكفئاً إلى عمله.

وقد كان تقرّر مع السلطان غياث الدين والدنيا على إنهاض العساكر عقيب تلك الاستغاثة للجهاد، فتأهّبوا لذلك، وكان أوّل مَن نهض منهم إلى أعمال الإفرنج: الأمير الاسفهلاّر شرف الدين مودود صاحب الموصل في عسكره، وافتتح عدّة حصون، وانضمّ إليه الأمير أحمد بك في عسكرٍ كثيفٍ، وتلاه الأمير قطب الدين سقمان القطبي من بلاد ارمينية وديار بكر، فاجتمعوا في أرض حرّان، وكتب إليهم سلطان بن علي بن منقذ صاحب شيزر يعلمهم نزول طنكري صاحب أنطاكية أرض شيزر وشروعه في بناء تل باشر، وحمل الغلال إليهم، ويستصرخهم ويبعثهم على الوصول إلى جهته، فحين عرفوا ذلك رحلوا إلى الشام وقطعوا الفرات في النصف من المحرّم سنة ٥٠٥، ونزلوا على تلّ باشر وأقاموا

٤٠٢

ينتظرون وصول الأمير برسق بن برسق صاحب همذان.

وجرت أُمورٌ أدّت إلى تفرّق الأمراء ورحيل العساكر، وعدم جدوى تحريض أتابك على قصد طرابلس، ولم يتخلّف معه إلاّ الأمير مودود، فرحلا عن المعرّة ونزلا على العاصي.

ولمّا عرف الإفرنج رحيل العساكر وتفرّقهم اجتمعوا ونزلوا أفامية بأسرهم: بغدوين وطنكري وابن صنجيل، بعد التباين والمنافرة والخلف، وصاروا يداً واحدةً وكلمة متّفقةً على الإسلام وأهله، ورجفوا إلى البلاد التي لم تقع بعد في حوزتهم، فقصدوا ثغر صور وحاصروه حصاراً شديداً، ودافع الصوريّون دفاعاً ردّ عن ثغرهم الغزاة.

وكان لمقدّم من مقدّمي البحريّة عارف بالصنعة من أهل طرابلس يدٌ مشكورةٌ في الدفاع ؛ فترك الإفرنج صور إلى عكاء.

وفي الثاني من شعبان من هذه السنة، ورد الخبر بهلاك بدران بن صنجيل صاحب طرابلس، بعلّةٍ لحقته، وأقام ابنه في الأمر من بعده وهو طفل صغير، كفله أصحابه ودبّروا أمره مع طنكري صاحب أنطاكية، وجعلوه من قِبَله، وأقطعه انطرطوس وصافيتا ومرقية وحصن الأكراد.

وفي سنة ٥٠٦ انتقضت الموادعة بين ظهير الدين أتابك وبغدوين.

وحرص هذا وقد ضايقه على إعادتها، فلم يجبه أتابك، وكان الواسطة في مراسلة أتابك جوسلين الذي غاضب بغدوين الرويس صاحب الرُها واتفق مع بغدوين ملك القدس، وبذل جوسلين لأتابك المصافاة والمودّة، ورغبة في الموادعة والمسالمة وسلّم إليه حصن ثمانين وجبل عاملة، ويتعوّض عن ذلك بحصن الحبيس في السواد ونصف السواد، وتضمن عن بغدوين الوفاء بذلك والثبات، وترك التعرّض لشيءٍ من أعمال دمشق، ولا يعرض هو لشيء من أعمال الإفرنج فلم يجب إلى ذلك.

ولمّا يئس من إجابة أتابك واصل الغارات والفساد في الشام، إلى أن وصل عسكر السلطان إلى عمله، وبالغ أتابك فيما حمله إلى الأمير مودود وإعظامه وإكرامه وما حمله إليه وإلى مقدّمي عسكره وخواصّه، ثمّ نهضوا مُعلمين على النزول على الأقحوانة، ووصل إلى بغدوين (سرخاله) صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس، وأجمعوا رأيهم على النزول غربيّ جسر الضبرة، ثمّ يقطعون الأقحوانة للقاء المسلمين، وقد احتاطوا على أثقالهم وراء الجسر والمسلمون لا يعلمون بذلك، وأنّهم قد عارضوهم في المسير إلى هذا المنزل، فسبق الأتراك إلى

٤٠٣

نزولهم في الأقحوانة، وقُطع بعد عسكر الأتراك الجسر لطلب العلوفات والزرع، فصادفوا الإفرنج قد خرّبوا خيامهم، وقد تقدّم بغدوين للسبق إلى هذا المنزل، ونزل صاحب انطاكية وصاحب طرابلس وراءه يتبعونه إليه.

ونشبت الحرب بين المتعلّقة وبين الإفرنج، وصاح الصائح ونفر الناس، وقطعوا الجسر وهم يظنّون أنّه جوسلين ؛ لأنّه صاحب طبرية، فوقف أتابك على الجسر وتسرّع خلقٌ كثير من العسكر إلى قطع الجسر، وقطع الأمير تميراك بن أرسلانتاش في فريقٍ وافرٍ من العسكر.

ونشبت الحرب بين الفريقين من غير تأهّبٍ للقاء ولا ضرب خيام ولا استقرار في منزل ولا محالّ، واختلط الفريقان فمنح الله الكريم - وله الحمد - المسلمين النصر بعد ثلاث كرّات، فقُتل فيها من الإفرنج تقدير ألفي راجل من الأعيان ووجوه الأبطال والشجعان، وملكوا ما كان نصب من خيامهم والكنيسة المشهورة، وأفلت بغدوين بعد ما قُبض وأُخذ سلاحه ومُلكت دواب الرجّالة وما كان لهم، وغرق منهم خلقٌ كثيرٌ في البحيرة واختلط الدم والماء، وامتنع الناس من الشرب منها أيّاماً حتّى صفت منه وراقت، والتجأ مَن نجى مِن الإفرنج إلى طبرية وأكثرهم جرحى، وذلك في يوم السبت الحادي عشر من المحرّم سنة ٥٠٧.

وبعد انفصال الأمر وصل باقي الإفرنج أصحاب طنكري وابن صنجيل، فلاموه على التسرّع وفنّدوا رأيه (القلانسي).

وفي سنة ٥١٠ ورد الخبر بأنّ بدران بن صنجيل صاحب طرابلس جمع وحشد وبالغ واجتهد ونهض إلى ناحية البقاع لإضرابه بالعيث والفساد والإضرار والعناد. وكان الاصفهلاّر سبط الدين البرسقي صاحب الموصل قد وصل إلى دمشق في بعض عسكره لمعونة ظهير الدين أتابك على الإفرنج والغزو فيهم، وبالغ أتابك في الإكرام له والتعظيم لمحلّه، وصادف ورود هذا الخبر بنهضة الإفرنج إلى البقاع، فاجتمع رأيهما على القصد لهما جميعاً، وأغذّا السير ليلاً ونهاراً بحيث هجموا عليهم وهم غارّون في مخيّمهم قارّون لا يشعرون فأرهقهم العسكر فلم يتمكّنوا من ركوب خيلهم ولا أخذ سلاحهم ؛ فمنحهم الله النصر عليهم وأطلقوا السيف فيهم قتلاً وأسراً ونهباً فأتوا على الراجل وهم خلقٌ كثيرٌ قد جمعوا من أعمالهم وأسروا وجوه فرسانهم ومقدّميهم وأعيان شجعانهم وقتلوا الباقين منهم، ولم يفلت منهم غير مقدّميهم بدران بن صنجيل والمقدّم كند اصطبل ونفر

٤٠٤

يسير معهما ممّن نجا به جواده وحماه أجله. واستولى الأتراك على العُدد الجمة والخيول والكراع (القلانسي).

وفي ذي الحجّة من سنة ٥٢٧ وردت الأخبار بوصول عسكر وافر من التركمان إلى ناحية الشمال، وأنّهم غاروا على طرابلس وأعمالها من معاقل الإفرنج، فظفروا بخلقٍ كثيرٍ منهم قتلاً وأسراً، وحصل لهم من الغنائم والدواب الشيء الكثير، وإنّ صاحب طرابلس نبض طلولا بن بدران الصنجيلي خرج فيمن حشده من أعماله، ولقي عسكر التركمان فكسروه، وأظفرهم الله بحشده المفلول وجمعه المخذول، وقُتل أكثر رجاله وحمل حماته وأبطاله، وانهزم في نفرٍ قليلٍ من الحصن المعروف ببرين، فالتجأوا إليه وتحصّنوا به، ونزل عسكر الأتراك عليه وأقاموا محاصرين له أيّاماً كثيرةً حتى نفد ما فيه من القوت والماء بحيث هلك منهم ومِن خيلهم الأكثر، فأعملوا الحيلة واستغنموا الغفلة وانتهزوا الفرصة، وحرصوا في تقدير عشرين مع المقدّم، فنجوا ووصلوا إلى طرابلس.

وكاتب ملك نبض طلولا صاحبها ملك الإفرنج بعكّا يستصرخ به وبمَن في أعماله ويبعثهم على نصرته، فاجتمع إليه من الإفرنج خلقٌ كثير، ونهضوا إلى التركمان لترحيلهم عن حصن برين واستنقاذ مَن بقي فيه منهم. فلمّا عرفوا عزمهم وقصدهم زحفوا إلى لقائهم فقتلوا منهم جمعاً كثيراً، وأشرف التركمان على الظفر بهم والنكاية فيهم لولا أنّهم اندفعوا إلى ناحية رفتيه، فاتّصل بهم رحيلهم عنها وعودهم على طريق الساحل، فشقّ ذلك عليهم، وأسفوا على ما فاتهم من غنائمهم، وتفرّقوا في أعمالهم (القلانسي).

وفي رجب سنة ٥٣١ نهض الأمير (بزاوش) في فريقٍ وافرٍ من العسكر الدمشقي من التركمان إلى ناحية طرابلس، فظهر إليه قومصها في عسكره والتقيا، فكسره (بزاوش) وقتل منهم جماعةً وافرةً، وملك حصن وادي ابن الأحمر وغيره(١) .

وفي رجب - أيضاً - نهض (بزاوش) في العسكر ومَن حشده وجمعه من التركمان إلى ناحية طرابلس في الرابع منه، فظهر إليه صاحبها في خيله من

____________________

(١) القلانسي.

٤٠٥

الإفرنج، فكمن لهم في عدّة مواضع، فلمّا حصلوا بالموضع المعروف بالكورة ظهرت عليهم الكمناء فهزموهم، ووقع السيف في أكثرهم، ولم يفلت منهم إلاّ اليسير، وهجم على الحصن الذي هناك فنهبه وقتل مَن فيه من المقدّمين والأتباع، وأسر مَن بذل في نفسه المال الكثير، وحصل له ولعسكره القيمة الكثيرة. (القلانسي).

وفي سنة ٥٤٦ وفي هذه الأيّام ورد الخبر بوصول الأسطول المصري إلى الثغور: ثغور الساحل في غاية من القوّة وكثرة العُدّة والعدد، وذكر أنّ عدد مراكبه سبعون مركباً حربيّاً مشحونةً بالرجال، ولم يخرج مثله في السنين الخالية، وقد أنفق عليه على ما حُكي ثلاثمئة ألف دينار، وقرب من يافا من ثغور الإفرنج، فقتلوا وأسروا وأحرقوا ما ظفروا به، واستولوا على عدّةٍ وافرةٍ من مراكب الروم والإفرنج، ثمّ قصدوا ثغر عكّا وفعلوا فيه مثل ذلك، وحصل في أيديهم عدّة وافرة من المراكب الحربيّة الفرنجية، وقتلوا من حجاج وغيرهم خلقاً عظيماً، وأنفذوا ما أمكن إلى ناحية مصر، وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس وفعلوا فيها مثل ذلك.

ووعد نور الدين بمسيره إلى ناحية الأسطول المذكور لإعانته على تدويخ الإفرنج، واتّفق اشتغاله بأمر دمشق وعوده إليها لمضايقتها، وحدّث نفسه بملكها لعلمه بضعفها وميل الأجناد والرعيّة إليهم وإشارتهم لولايته وعدله. (القلانسي).

ما جاء بعد هذا التاريخ من حوادث طرابلس في العهد الصليبي من الجزء الحادي عشر من كامل ابن الأثير:

في رجب سنة ٥٥٢ كان بالشام زلازل كثيرة قويّة، خرّبت كثيراً من البلاد وهلك فيها ما لا يُحصى كثرةً ؛ فخرب منها بالمرّة: حماة وشيزر وكفر طاب والمعرّة وأفامية وحمص وحصن الأكراد وعرقة واللاذقية وطرابلس وأنطاكية.

وفي سنة ٥٥٨ انهزم نور الدين محمود بن زنكي من الفرنج، وهي الوقعة المعروفة بالبقيعة تحت حصن الأكراد، محاصراً لها وعازماً على قصد طرابلس ومحاصرتها. فبينما الناس يوماً في خيامهم وسط النهار لم يرعهم إلاّ ظهور صلبان الفرنج من وراء الجبل الذي عليه حصن الأكراد، وذلك

٤٠٦

أنّ الفرنج اجتمعوا واتّفق رأيهم على كبسة المسلمين نهاراً ؛ فإنّهم يكونون آمنين، فركبوا من وقتهم ولم يتوقّفوا، حتّى تجمّعت عساكرهم وساروا مجدّين، فلم يشعر بذلك المسلمون إلاّ وقد قربوا منهم، فأرادوا منعهم فلم يطيقوا ذلك، فأرسلوا إلى نور الدين يعرّفونه الحال، فرهقهم الفرنج بالجملة فلم يثبت المسلمون وعادوا يطلبون معسكر المسلمين والفرنج، فوصلوا معاً إلى العسكر النوري، فلم يتمكن المسلمون من ركوب الخيل وأخذ السلاح إلاّ وقد خالطوهم فأكثروا القتل والأسر. وكان أشدهم على المسلمين الدوقس الرومي، فإنّه كان قد خرج من بلاده إلى الساحل في جمعٍ كثيرٍ من الروم، فقاتلوا محتسبين في زعمهم فلم يبقوا على أحد، وقصّوا خيمة نور الدين، وقد ركب فيها فرسه ونجا بنفسه.

وفي سنة ٥٥٩ لمّا انهزم نور الدين في وقعة البقيعة - كما عرفت - وعاد بعسكره كأنّهم لم يصابوا، وأخذ في الاستعداد للجهاد والأخذ بثأره، واتّفق مسير بعض الفرنج مع ملكهم إلى مصر، أراد أن يقصد بلادهم ليعودوا عن مصر، فأرسل إلى أخيه قطب الدين مودود صاحب الموصل وديار الجزيرة، وإلى فخر الدين قرا إرسلان صاحب حصن كيفا، وإلى نجم الدين صاحب ماردين وغيرهم من أصحاب الأطراف يستنجدهم. وقد لبّى دعوته البعض وتخلّف البعض، ولمّا اجتمعت العساكر سار نحو حارم فحصرها، ونصب عليها المجانيق، وتابع الزحف إليها.

فاجتمع مَن بقي بالساحل من الفرنج فجاوا في حدّهم وحديدهم وملوكهم وفرسانهم وقسوسهم ورهبانهم، وأقبلوا إليه من كلّ حدبٍ ينسلون، وكان المقدّم عليهم الرئيس بيمند صاحب أنطاكية، وقمص صاحب طرابلس وأعمالها، وابن جوسلين وهو من مشاهير الفرنج، والدوك وهو مقدّم كبير من الروم.

وجمعوا الفارس والراجل، فلمّا قاربوه رحل عن حارم إلى (ارتاح) طمعاً بأن يتبعوه فيتمكّن منهم، ويبعدهم عن بلادهم إذا لقوه، فساروا فنزلوا على غمر ثمّ علموا عجزهم عن لقائه، فعادوا إلى حارم. فلمّا عادوا تبعهم نور الدين في أبطال المسلمين على تعبئة الحرب، فلمّا تقاربوا اصطفّوا للقتال، فبدأ الفرنج بالحملة على ميمنة المسلمين وفيها عسكر حلب وصاحب الحصن، فانهزم المسلمون وتبعهم الفرنج، فقيل كانت تلك الهزيمة من الميمنة على اتفاق ورأيٍ دبروه وهو: أن يتبعهم الفرنج فيبعدوا عن راجلهم

٤٠٧

فيميل عليهم مَن بقي مِن المسلمين بالسيوف، فإذا عاد فرسانهم لم يلقوا راجلاً يلجئون إليه، ولا وزيراً يعتمدون عليه، ويعود المنهزمون في آثارهم فيأخذهم المسلمون: من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم، فكان الأمر على ما دبّروه. فإنّ الفرنج لمّا تبعوا المنهزمين، عطف عليهم زين الدين علي في عسكر الموصل على راجل الفرنج فأفناهم قتلاً، وأسراً، وعاد خيّالتهم ولم يمعنوا في الطلب خوفاً على راجلهم.

فعاد المنهزمون في آثارهم، فلمّا وصل الفرنج رأوا رجالهم قتلى وأسرى، فسقط في أيديهم ورأوا أنّهم قد هلكوا، وبقوا في الوسط، قد أحدق بهم المسلمون من كلّ جانب، فاشتدّت الحرب وقامت على قدمٍ وساق، وكثر القتل في الفرنج، وتمّت عليهم الهزيمة، فعدل حينئذٍ المسلمون عن القتل إلى الأسر فاسروا ما لا يُحدّ ؛ وفي جملة الأسرى صاحب أنطاكية، والقمص صاحب طرابلس.

وكان شيطان الفرنج وأشدّهم شكيمةً على المسلمين الدوك مقدّم الروم وابن جوسلين، وكان عدّة القتلى تزيد على عشرة آلاف قتيل، وأشار المسلمون على نور الدين بالمسير إلى أنطاكية، وتملّكها لخلوّها مِن محامٍ يحميها ومقاتلٍ يذبّ عنها.

فلم يفعل وقال: أمّا المدينة فأمرها سهل، وأمّا القلعة فمنيعة، وربّما سلّموها إلى ملك الروم ؛ لأنّ صاحبها ابن أخيه، ومجاورة بيمند أحبّ إليّ من مجاورة صاحب قسطنطينية.

وبثّ السرايا في تلك الأعمال، فنهبوها وأسروا أهلها وقتلوهم، ثمّ إنّه فادى برنس بيمند صاحب أنطاكية، واشترى من المسلمين خلقاً كثيراً فأطلقهم.

وفي سنة ٥٦٧: في هذه السنة خرج مركبان من مصر إلى الشام، فأرسيا بمدينة اللاذقية، فأخذهما الفرنج وهما مملوءان من الأمتعة والتجارة.

وكان بينهم وبين نور الدين هدنة، فنكثوا وغدروا، فأرسل نور الدين إليهم في المعنى وإعادة ما أخذوه من أموال التجارة، فغالطوه واحتجّوا بأُمورٍ منها: أنّ المركبين كانا قد انكسرا ودخلهما الماء. وكان الشرط أنّ كلّ مركبٍ ينكسر ويدخله الماء يأخذونه.

فلم يقبل مغالطتهم، وجمع العساكر وبثّ السرايا في بلادهم: بعضها نحو أنطاكية وبعضها نحو طرابلس، وحصر هو حصن عرقة وخرّب ربضه، وأرسل طائفةً من العسكر إلى حصن صافيتا وعريمة فأخذهما عنوةً، ونهب وخرّب، وغنم المسلمون غنائم كثيرة، وعادوا إليه وهو

٤٠٨

بعرقة، فسار في العساكر جميعها إلى أن قارب طرابلس ينهب ويخرّب ويحرق ويقتل، وأمّا الذين ساروا إلى أنطاكية ففعلوا في ولايتها مثل ما فعل في ولاية طرابلس، فراجعه الفرنج وبذلوا جميع ما أخذوه من المركبين، وتجديد الهدنة معهم. فأجابهم إلى ذلك، وأعادوا ما أخذوا وهم صاغرون، وقد خُرّبت بلادهم وغُنمت أموالهم.

حضر إلى السلطان صلاح الدين وهو مقيم في بيروت بيمند الفرنجي صاحب طرابلس وأنطاكية، وكان حضوره إلى بيروت ثلاث مرّاتٍ، الأُولى: كانت على سبيل الغارة، والثانية: لما فتحها، والثالثة: هذه المرة.

أمّا بيمند، فيقول ناشر الكتاب في هامش هذه الصفحة: هو بوهيمند الثالث دي بواتيه وسيّد أنطاكية.

قال ابن الأثير في تاريخ سنة ٥٨١ هـ ١١٩٢م:

ولمّا وصل السلطان صلاح الدين إلى بيروت أتاه بيمند صاحب أنطاكية وأعمالها وطرابلس وأعمالها، واجتمع به وخدمه. فخلع عليه صلاح الدين، وعاد إلى بلاده، وزاد ابن شدّاد أنّه أقطعه العمق واغزرات ومزارع تعمل ١٥ ألف دينار.

ومنه افتتح السلطان الملك المنصور قلاوون الألفي في جملة ما افتتحه من السواحل طرابلس وما يليها، وأخرب طرابلس ونقلها إلى سفح الجبل، وكان فتوحها في أوّل ربيع الآخر سنة ٦٨٨ هـ ١٢٨٩م.

وفي سنة ٥٨٢ كان القمص صاحب طرابلس واسمه ريمند بن ريمند الصنجيلي، قد تزوّج بالقومصة صاحبة طبريّة، وانتقل إليها وأقام عندها بطبرية.

ومات ملك الفرنج بالشام، وكان مجذوماً، وأوصى بالملك إلى ابن أختٍ له وكان صغيراً فكفله القمص.

وقام بسياسة الملك وتدبيره ؛ لأنّه لم يكن للفرنج ذلك الوقت أكبر منه شأناً ولا أشجع ولا أجود رأياً منه، فطمع في الملك بسبب هذا الصغير، فاتّفق أنّ الصغير توفّي فانتقل المُلْك إلى أمّه، فبطل ما كان القمص يحدّث نفسه به. ثمّ إنّ هذه الملكة هويت رجلاً من الفرنج الذين قدموا الشام من الغرب اسمه كي، فتزوّجته ونقلت المُلْك إليه، وجعلت التاج على رأسه وأحضرت البطرك والقسوس والرهبان والاسبتارية والداوية والبارونية، وأعلمتهم أنّها قد ردّت الملك إليه وأشهدتهم عليها بذلك، فأطاعوه ودانوا له. فعظم ذلك على القمص وسقط في يديه، وطولب بحساب ما جبى من الأموال مدّة ولاية الصبي، فادّعى أنّه

٤٠٩

أنفقه عليه، وزاده ذلك نفوراً وجاهر بالمشاقّة والمباينة، وراسل صلاح الدين وانتمى إليه واعتضد به، وطلب منه المساعدة على بلوغ غرضه من الفرنج ؛ ففرح صلاح الدين والمسلمون بذلك، ووعده النصرة والسعي له في كلّ ما يريد، وضمن له أنّه يجعله ملكاً مستقلاًّ للفرنج قاطبة، وكان عنده جماعة من فرسان القمص فأطلقهم. فحل ذلك عنده أعظم محل وأظهر طاعة صلاح الدين ووافقه على ما فعل جماعة من الفرنج، فاختلفت كلمتهم وتفرّق شملهم.

وكان ذلك من أعظم الأسباب الموجبة لفتح بلادهم، واستنقاذ البيت المقدّس منهم.

لمّا كان البرنس (ارناط) صاحب الكرك من أعظم الفرنج وأشدّهم عداوةً للمسلمين وأعظمهم ضرراً عليهم، ولمّا رأى صلاح الدين ذلك منه، قصده بالحصر مرّةً بعد مرّة، وبالغارة على بلاده كرةً بعد أُخرى، حتّى ذلّ وخضع وطلب الصلح من صلاح الدين، فأجابه إلى ذلك وهادنه.

وتحالفا وتردّدت القوافل من الشام إلى مصر ومن مصر إلى الشام، فلمّا كان هذه السنة اجتاز به قافلةً عظيمة غزيرة الأموال كثيرة الرجال، ومعها جماعة صالحة من الجند، غدر بهم وأخذهم عن آخرهم، وغنم أموالهم ودوابّهم وسلاحهم، وأودع السجون مَن أسره منهم.

فأرسل إليه صلاح الدين يلومه ويُقبّح فعله وغدره ويتوعّده إن لم يطلق الأسرى والأموال.

فلم يجب إلى ذلك، وأصرّ على الامتناع، فنذر صلاح الدين نذراً أن يقتله إن ظفر به. ولم يكتف (ارناط) بنقضه تلك المعاهدة حتّى حاول في سنة ٥٨٣ أمراً آخر، وهو أن يقصد الحُجّاج ليأخذهم من طريقهم، حتّى إذا فرغ من أخذهم يرجع إلى طريق العسكر المصري يصدهم عن الوصول إلى صلاح الدين.

وكان في هذه السنة قد كتب إلى جميع البلاد يستنفر الناس للجهاد، وكتب إلى الموصل وديار الجزيرة وإربل وغيرها من بلاد الشرق، وإلى مصر وسائر بلاد الشام، يدعوهم إلى الجهاد ويحثّهم عليه ويأمرهم بالتجهّز له بغاية الإمكان.

ثمّ خرج من دمشق أواخر المحرّم في عسكرها وحلقتها الخاص، فسار إلى رأس الماء وتلاحقت به العساكر الشاميّة، فلمّا اجتمعوا جعل عليهم ولده الملك الأفضل عليّاً ليجتمع إليه مَن يردّ إليه منها، وسار هو إلى بصرى جريدة ليمنع البرنس (ارناط) من طلب الحُجّاج، وكان من الحُجّاج جماعة من أقاربه منهم محمد بن لاجين وهو ابن أخت صلاح الدين وغيره. فلما

٤١٠

سمع (ارناط) بقرب صلاح الدين من بلده لم يفارقه، وانقطع عمّا طمع فيه ووصل الحُجّاج سالمين. فلمّا اطمأنّت نفسه إلى سلامتهم سار إلى الكرك، وبثّ سراياه من هناك على ولاية الكرك والشوبك وغيرهما، فنهبوا وخرّبوا وأحرقوا، والبرنس محصور لا يقدر على المنع عن بلده، وسائر الفرنج قد لزموا طريق بلادهم خوفاً من العسكر الذي مع ولده الأفضل.

وأرسل صلاح الدين إلى ولده الأفضل يأمره أن يرسل قطعةً صالحةً من الجيش إلى بلد عكّا ينهبونه ويخرّبونه، فسيّر مظفّر الدين كوكبري بن زين الدين، وهو صاحب حرّان والرُّها، وأضاف إليه قايماز النجمي ودلدرم الياقوتي وهما من أكابر الأمراء وغيرهما، وساروا ليلاً وصبّحوا صفورية أواخر صفر، فخرج إليهم الفرنج في جمعٍ من الداوية والاسبتارية وغيرهما، فالتقوا هناك، وجرت بينهم حرب تشيب لها المفارق السود، ثمّ أنزل الله نصره على المسلمين، فانهزم الفرنج وقُتل منهم جماعة وأُسر الباقون، وفيمن قُتل مقدّم الاسبتارية وكان من فرسان الفرنج المشهورين.

ونهب المسلمون ما جاورهم من البلاد، وغنموا وسبوا وعادوا سالمين، وكان عودهم على طبرية وبها القمص، فلم ينكر ذلك.

ولمّا أتت صلاح الدين البشارة بهزيمة الاسبتارية والداوية، وقتل مَن قُتل منهم وأسر من أُسر منهم، عاد عن الكرك إلى العسكر الذي مع ولده الملك الأفضل، وقد تلاحقت سائر الأمراء والعساكر، واجتمع بهم وساروا جميعاً، وعرض العسكر فبلغت عدّتهم اثني عشر ألف فارس ممّن له الإقطاع والجامكية سوى المتطوّعة.

فعبّى عسكره قلباً وجناحين وميمنةً وميسرةً وجاليشية وساقة، وعرف كلّ منهم موضعه وموقفه وأمره بملازمته وسار على تعبئة، فنزل بالأقحوانة بقرب طبرية، وكان القمص قد انتمى إلى صلاح الدين، وكتبه متّصلة إليه يعده النصرة ويمنّيه المعاضدة.

فلمّا رأى الفرنج العساكر الإسلامية، وتصميم العزم على قصد بلادهم، أرسلوا إلى القمص البطرك والقسوس والرهبان وكثيراً من الفرسان، فأنكروا عليه انتماءه إلى صلاح الدين وقالوا له: لا شكّ أسلمت وإلاّ لم تصبر على فعل المسلمين أمس بالفرنج: يقتلون الداوية والاسبتارية ويأسرونهم، ويجتازون بهم عليك وأنت لا تنكر ذلك ولا تمنع عنه، ووافقهم على ذلك مَن عنده من عسكر طبرية وطرابلس، وتهدّده البطرك أنّه يحرّمه ويفسخ عليه نكاح زوجته إلى غير

٤١١

ذلك من التهديد.

فلمّا رأى القمص شدّة الأمر عليه خاف واعتذر وتنصّل وتاب، فقبلوا عذره وغفروا زلّته، وطلبوا منه الموافقة على المسلمين والموآزرة على حفظ بلادهم، فأجابهم إلى المصالحة والانضمام إليهم والاجتماع بهم.

وسار معهم إلى ملك الفرنج، واجتمعت كلمتهم بعد فرقتهم وجمعوا فارسهم وراجلهم، ثمّ ساروا من عكّا إلى صفورية وهم يقدّمون رِجْلاً ويؤخّرون أُخرى قد ملئت قلوبهم رعباً.

لمّا اجتمع الفرنج وساروا إلى صفورية، جمع صلاح الدين أمراءه واستشارهم، فأشار أكثرهم بترك اللقاء وبعضهم بالمناجزة والمطاولة، ولكنّه رجّح هو لقاءهم بالمسلمين المجتمعين كلّهم، ونفّذ خطّته فتمّ له فتح طبرية.

ومثل ذلك فعل الفرنج في الاستشارة، وكان رأي القمص ترك لقاء المسلمين والرضى باستيلاء صلاح الدين على طبرية، ولكنّ البرنس ارناط خالفه، وعدّ رأيه بترك اللقاء خدمةً لصلاح الدين. ثمّ نشبت حرب انتهت بنصرة صلاح الدين في حطّين وبقتل ارناط وقد وفى بقتله نذره.

وأمّا القمص صاحب طرابلس، فإنّه لمّا رأى شدّة الأمر، علم أنّهم لا طاقة لهم بالمسلمين، فاتّفق هو وجماعته وحملوا على مَن يليهم، وكان المقدّم من المسلمين في تلك الناحية تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين، فلمّا رأى حملة الفرنج حملة مكروب، علم أنّه لا سبب إلى الوقوف في وجوههم، فأمر أصحابه أن يفتحوا لهم طريقاً يخرجون منه.

ولمّا انهزم القمص سقط في أيديهم وكادوا يستسلمون، ولمّا نجا من المعركة وصل إلى صور، ثمّ قصد طرابلس ولم يلبث إلاّ أيّاماً قلائل حتّى مات غيظاً وحنقاً.

لمّا انهزم القمص صاحب طرابلس من حطّين إلى مدينة صور، أقام بها، وهي أعظم بلاد الشام حصانةً، وأشدّ امتناعاً على مَن رامها، فلمّا رأى السلطان قد ملك تبنين وصيدا وبيروت، خاف أن يقصد صلاح الدين صور، وهي فارغة ممّن يقاتل فيها ويحميها ويمنعها، فلا يقي على حفظها وتركها.

وسار إلى مدينة طرابلس فبقيت صور شاغرة. (الكامل، الجزء ١١).

سنة ٥٨٤ الصفحة الأُولى من الجزء الثاني عشر من الكامل:

رحل صلاح الدين في هذه السنة من دمشق إلى حمص، فنزل على بحيرة قدس،

٤١٢

وجاءته العساكر من مختلف البلاد الشاميّة والجزيرة والموصل، واجتمعت عليه وكثُرت عنده، فسار حتّى نزل حصن الأكراد من الجانب الشرقي فأقام يومين، وسار جريدة وترك أثقال العسكر موضعها تحت الحصن، ودخل إلى بلد الفرنج فأغار على صافيتا والعُريمة ويحمور وغيرها من البلاد والولايات، ووصل إلى قرب طرابلس، وأبصر البلاد وعرف من أين يأتيها.

لمّا أقام صلاح الدين تحت حصن الأكراد، وأتاه قاضي جبلة وهو منصور بن نبيل يستدعيه إليه ليسلّمها إليه، فسار صلاح الدين معه فنزل بأنطرطوس، فرأى الفرنج قد أخلوها، وبعد أن خرّبها رحل عنها، وأتى مرقية وقد أخلاها أهلها، وسار إلى المرقب وهي من حصونهم التي لا ترام، واتّفق صاحب صقلية من الفرنج قد سيّر نجدةً إلى فرنج الساحل في ستّين قطعة من الشواني، وكانوا بطرابلس، فلمّا سمعوا بمسير صلاح الدين جاؤوا ووقفوا في البحر تحت المرقب في شوانيهم ليمنعوا من يجتاز بالسهام، ولكنّ صلاح الدين اتّخذ خطّةً اجتاز بواسطتها المسلمون عن آخرهم، حتّى عبروا المضيق ودخلوا إلى جبلة، وتسلّمها واستسلم المحاصرون من الفرنج بالقلعة بعد الاستئمان.

في هذه السنة: لمّا فتح صلاح الدين بغراس، عزم على التوجّه إلى انطاكية وحصرها، فخاف البيمند صاحبها من ذلك وأشفق منه، فأرسل إلى صلاح الدين يطلب الهدنة، وبذل إطلاق كلّ أسيرٍ عنده من المسلمين، فأجابه إلى ذلك بعد موافقة مستشاريه من القوّاد على ذلك، واصطلحوا ثمانية أشهر أوّلها أوّل تشرين الأوّل وآخرها آخر أيّار، وسيّر رسوله إلى صاحب أنطاكية يستحلفه، ويطلق من عنده من الأسرى.

وكان صاحب أنطاكية في هذا الوقت أعظم الفرنج شأناً، وأكثرهم ملكاً فإنّ الفرنج كانوا قد سلّموا إليه طرابلس بعد موت القمص، وجميع أعمالها مضافاً إلى ما كان له ؛ لأنّ القمص لم يخلَّف ولداً. فلمّا سُلّمت إليه طرابلس جعل ولده الأكبر فيها نائباً عنه، وأمّا صلاح الدين فإنّه عاد إلى حلب ومنها إلى دمشق.

سنة ٥٩٧:

تزلزلت الأرض في هذه السنة بالموصل وديار الجزيرة كلّها والشام

٤١٣

ومصر وغيرها، فأثّرت في الشام آثاراً قبيحةً، وخرّبت كثيراً من الدور بدمشق وحمص وحماة، وانخسفت قريةٌ من قرى بصرى، وأثّرت في الساحل الشامي أثراً كثيراً، فاستولى الخراب على طرابلس وصور وعكّا ونابلس وغيرها من القلاع.

سنة ٦٠٤:

في هذه السنة: كثر الفرنج الذين بطرابلس وحصن الأكراد، وأكثروا الإغارة على بلد حمص وولاياتها، ونازلوا مدينة حمص.

وكان جمعهم كثيراً، فلم يكن لصاحبها أسد الدين شيركوه بن محمد بن شيركوه بهم قوّة، ولا يقدر على دفعهم ومنعهم، فاستنجد الظاهر غازي صاحب حلب وغيره من ملوك الشام، فلم ينجده أحد، إلاّ الظاهر فإنّه سيّر له عسكراً أقاموا عنده ومنعوا الفرنج عن ولايته، ثمّ إنّ الملك العادل خرج من مصر بالعساكر الكثيرة وقصد مدينة عكّا فصالحه صاحبها على قاعدة. ثمّ سار إلى حمص فنزل على بحيرة قدس، وجاءته عساكر الشرق وديار الجزيرة، ودخل إلى بلاد طرابلس وحاصر موضعاً يُسمّى القليعات وأخذه صلحاً وأطلق صاحبه وغنم ما فيه من دوابّ وأسلحة وخرَّبه، وتقدّم إلى طرابلس فنهب وأحرق وسبى وغنم وعاد إلى بحيرة قدس. وترددت الرسل بينه وبين الفرنج في الصلح، فلم تستقرّ قاعدة ودخل الشتاء.

وفي سنة ٦٣٣: جمع البرنس الفرنجي صاحب أنطاكية جموعاً كثيرةً وقصد الأرمن، وكانت بينهم حروب شديدة، وجرت أُمور أدّت إلى تدخّل البابا الذي أرسل إلى الفرنج بالشام، يعلمهم أنّه قد حرّم البرنس. فكان الداوية والاسبتارية وكثير من الفرنج لا يحضرون معه ولا يسمعون قوله، وكان أهل بلاده - وهي أنطاكية وطرابلس - إذا جاءهم عيد يخرج من عيدهم، فإذا فرغوا من عيدهم دخل البلد.

ثمّ إنّه استعطف البابا واعتذر له بقبض الأرمن ولده ؛ فكتب إليهم بإطلاق ولده وإلاّ فإنّه يبح له دخول بلادهم.

٤١٤

ما جاء في تاريخ أبي الفدا ملك حماة من أخبار طرابلس بعد وفاة ابن الأثير

- وهو ما تنتظم به سلسلة تاريخها -

سنة ٦٦٤:

خرج في هذه السنة الملك الظاهر بعساكره المتوافرة من الديار المصريّة، وسار إلى الشام، وجهّز عسكراً إلى ساحل طرابلس، ففتحوا القليعات وحلباً وعرقة.

سنة ٦٦٦:

في هذه السنة في مستهلّ جمادى الآخرة توجّه الملك الظاهر بيبرس بعساكره المتوافرة إلى الشام، وفتح يافا وأخذها من الفرنج، ثمّ سار إلى أنطاكية ونازلها مستهلّ رمضان، وزحفت العساكر الإسلامية على أنطاكية، فملكوها بالسيف في يوم السبت رابع شهر رمضان من هذه السنة، وقتلوا أهلها وسبوا ذراريهم وغنموا منهم أموالاً جليلة.

وكانت أنطاكية للبرنس بيمند بن بيمند وله معها طرابلس، وكان مقيماً بطرابلس لمّا فُتحت أنطاكية.

سنة ٦٨٨:

طرابلس في حكم المماليك الترك

في أوّل ربيع الآخر فُتحت طرابلس الشام، وصورة ما جرى: أنّ السلطان الملك المنصور خرج بالعساكر المصريّة في المحرّم من هذه السنة، وسار إلى الشام، ثمّ سار بالعساكر المصريّة والشاميّة، ونازل طرابلس الشام يوم الجمعة مستهلّ ربيع الأوّل من هذه السنة، ويحيط البحر بغاب هذه المدينة، وليس عليها قتال في البرّ إلاّ من جهة الشرقي، وهو مقدار قليل.

ولمّا نازلها السلطان نصب عليها عدّةً كثيرةً من المجانيق الكبار والصغار ولازمها بالحصار، واشتدّ عليها القتال حتّى فتحها يوم الثلاثاء رابع ربيع الآخر من هذه السنة بالسيف، ودخل العسكر عنوةً فهرب أهلها إلى المينا، فنجا أقلّهم في المراكب، وقٌتل غالب رجالها وسُبيت ذراريهم، وغنم منهم المسلمون غنيمةً عظيمةً.

وحصار طرابلس هو ممّا شاهدْتُه (أبو الفداء)

٤١٥

وكنتُ حاضراً فيه مع والدي الملك الأفضل وابن عمّي الملك المظفّر صاحب حماة.

ولمّا فرغ المسلمون مِن قتل أهل طرابلس ونهبهم، أمر السلطان فهُدمت ودُكّت إلى الأرض، وكان في البحر قريباً من طرابلس جزيرة وفيها كنيسة تُسمّى كنيسة سنطمان، وبينها وبين طرابلس المينا.

فلمّا أُخذت طرابلس هرب إلى الجزيرة المذكورة وإلى الكنيسة التي فيها عالَمٌ عظيمٌ من الفرنج والنساء، فاقتحم العسكر الإسلامي البحر وعبروا بخيولهم سباحةً إلى الجزيرة المذكورة فقتلوا جميع مَن فيها من الرجال، وغنموا ما بها من النساء والصغار.

ولمّا فرغ السلطان من فتح طرابلس وهدمها، عاد إلى الديار المصريّة، وأعطى صاحب حماة الدستور فعاد إلى بلده.

وكان الفرنج قد استولوا على طرابلس في سنة ٥٠٣ في (ذي الحجّة، فبقيت بأيديهم إلى أوائل هذه السنة أعني: سنة ٦٨٨، فتكون مدّة لبثها مع الفرنج نحو مئة سنة وخمس وثمانين سنة وشهور.

ولم يطل العهد على هدمها بعد الاستيلاء عليها حتّى أُعيد إليها عمرانها ومركزها من الولايات ؛ فقد جاء في تاريخ أبي الفداء في حوادث سنة ٧١٦:

في هذه السنة: مرض الأمير سيف الدين كستاي نائب السلطنة بطرابلس والقلاع، في يوم الأربعاء تاسع عشر ربيع الآخر الموافق لثامن أيلول، فولّى السلطان موضعه الأمير شهاب الدين قرطاي الذي كان نائباً بحمص.

ويظهر أنّها جُعلت قاعدةً من قواعد الجيوش الإسلامية، كما يظهر أنّ مَن كان يليها من نوّاب السلطان، كان يحكم البلاد الساحلية. فإنّ أبا الفداء يذكر في حوادث هذه السنة خروج رجلٍ ادّعى أنّه محمد بن الحسن ثاني عشر الأئمّة عند الإماميّة، وتبعه من النصيريّة تقدير ثلاثة آلاف نفر، وهاجم مدينة جبلة ونُهبت أموال أهلها وسلبهم ما عليهم.

وجُرّد إليه عسكر من طرابلس، فلمّا قاربوه تفرّق جمعه، وهرب واختفى في تلك الجبال، فتُتبّع وقُتل.

ويذكر في حوادث سنة ٧٢٠ في هذه السنة تقدّمت مراسيم السلطان

٤١٦

بإغارة العساكر على بلاد سيس، ورسم لمَن عيّنه من العساكر الإسلامية الشاميّة، فسار من دمشق تقدير ألفي فارس، وسار شهاب الدين قرطاي (نائب السلطنة بطرابلس) بعساكر الساحل.

ولمّا اجتمع العسكر بحلب خرج بصحبة نائب الشام، وبلغوا نهر جيحون، وقد تغلّب العسكر على سيس، وغنموا وخرّبوا وعادوا.

في أوائل جمادى الآخرة من هذه السنة، عزل السلطان الأمير شهاب الدين قرطاي من نيابة السلطنة بالسواحل، وولّى مكانه الأمير سيف الدين طنيال الحاجب، ومن ذلك ترى أنّ نائب السلطنة بطرابلس كان يُطلق عليه نائب سلطنة بالسواحل أيضاً.

سنة ٧٣٤:

مات بطرابلس نائبها الأمير شهاب الدين قرطاي المنصوري من كبار الأمراء، حجّ وأنفق كثيراً في سبيل الخير.

ومن ذلك يظهر أنّه أُعيد إلى نيابة طرابلس بعد عزله عنها، وبقي فيها إلى هذا العهد، وفي هذه السنة ص ١١١ في ربيع الآخر، وصل جمال الدين أقوش نائب الكرك إلى طرابلس نائباً بها عِوَضاً عن قرطاي.

سنة ٧٣٥:

وفيها قدّم على نيابة طرابلس سيف الدين طنيال الناصري عوضاً عن أقوش الكركي، وحبس الكركي بقلعة دمشق، ثمّ نُقل إلى الإسكندريّة.

سنة ٧٤٢:

وفيها جهّز قوصون مع الأمر قطلبغا الفخري الناصري عسكراً لحصار السلطان أحمد بن الملك الناصر بالكرك.

وسار الطنبغا نائب دمشق والحاج ارقطاي نائب طرابلس بإشارة قوصون إلى قتال طشتمر بحلب ؛ لكونه أنكر على قوصون ما اعتمده في حقّ أخيه المنصور بن أبي بكر.

سنة ٧٤٤:

وفي ربيع الأوّل من هذه السنة وصل عسكران من حماة وطرابلس للدخول إلى بلاد السيس لتمرّد صاحبها كنداصطبل ولمنعه الحمل، ومقدّم

٤١٧

عسكر طرابلس الأمير صلاح الدين يوسف الدواندار. وفي شعبان من هذه السنة توفّي طرغاي نائب طرابلس.

سنة ٧٤٥:

في جمادى الأُولى من هذه السنة توفّي بطرابلس الأمير الفاضل صلاح الدين يوسف بن الأسعد الدواندار أحد الأمراء بطرابلس، وهو واقف المدرسة الصلاحية، وكان من أكمل الأمراء، ذكيّاً فطناً، تقلّب في وظائف آخرها أميراً بطرابلس.

سنة ٧٤٦:

بعد وفاة الملك الصالح إسماعيل ابن الملك الناصر محمد بن قلاوون، وقيام أخيه السلطان الملك الكامل شعبان، أسند نيابة طرابلس إلى قمارى، ثمّ قبض عليه وولّى مكانه بيدمر البدري.

سنة ٧٤٧:

في هذه السنة في شعبان: وصل إلى حلب الأمير سيف الدين بيدمر البدري نُقل إليها من طرابلس ووُلِّي مكانه.

وهذا البدري عنده حدّة وفيه بدرة، ويكتب على كثيرٍ من القصص بخطّه وهو خطٌّ قويّ.

سنة ٧٤٨:

لما قتل السلطان الملك المظفّر، وأُقيم مكانه أخوه السلطان الملك الناصر، وكان الملك المظفّر قد أعدم أخاه الأشرف كجك، وفتك بالأمراء وقتل مِن أعيانهم نحو أربعين أميراً مثل: بيدمر البدري نائب حلب، ويلبغا نائب الشام، وطقتمر النجمي الدواندار، واقسنقر الذي كان نائب طرابلس.

هذا ما جاء من أخبار طرابلس في تاريخ أبي الفداء وذيله لابن الوردي.

ولاستفاء أخبارها وما تقلّب عليها من الحوادث بعد الذي دوّنه ذانك المؤرِّخان منها، ندوّن هنا ما جاء في تاريخ الأمير حيدر الشهابي من تاريخ هذا البلد، ليجيء مستكملاً منتظم العقد محكم السرد ومتقن النسج.

٤١٨

تتمّة أخبار طرابلس في عهد سلاطين المماليك الأتراك بمصر وديار الشام

سنة ٧٥٠ هـ ١٣٤٩م:

في هذه السنة حضر إلى دمشق الأمير سيف الدين نائب طرابلس وبيده أوامر، فقبض على أرغون شاه نائب دمشق، وضبط حواصله وأمواله ورجع به إلى طرابلس، فأرسل أعيان الشام يعرضون للسلطان في أمره، ويرجون رفع الحِجْر عنه، فحضر لهم الجواب أن لا علم له بما توقّع ؛ فاجتمع أمراء دمشق وسادات طرابلس، فقتلوا نائب طرابلس وخلّصوا سيف الدين أرغون منه.

سنة ٧٥٣ هـ ١٣٥٢م:

في هذه السنة اتّفق نوّاب الديار الشاميّة على السلطان للخروج عن طاعته، وبينهم تكماس نائب طرابلس، ولم يوافقهم أرغون نائب دمشق على الخروج، وكتب إلى السلطان يعلمه بما توقّع من الأمراء. ثمّ إنّ نائب دمشق جمع الأُمراء واستحلفهم بطاعة السلطان الملك الصالح صلاح الدين، فحلفوا واتّفقوا على الطاعة، ثمّ إنّ النوّاب اجتمعوا في جيوشٍ عظيمة وقصدوا دمشق. فلم يطق أرغون مقاومتهم، وخرج من دمشق وجرت أُمورٌ من جيوش النوّاب قبيحة. ثمّ تفرقوا بعد إرهاقهم دمشق وقد علموا بقدوم السلطان وانجلت الغمّة.

وعاد السلطان إلى مصر بعد أن قتل ستّة قوّاد، وأمير مقدّم ألف، ونائب صيدا، وتشفّع في الباقين.

سنة ٧٥٥ هـ ١٣٥٤م:

في هذه السنة اتفق جمهور الأمراء على عزل الملك الصالح، وأعادوا أخاه الملك الناصر حسناً، فولّى على طرابلس الأمير منجك.

سنة ٧٧٧ هـ ١٣٧٥ م:

توفّي الأمير سيف الدين منجك وهو نائب مصر، وكان وُلِّي على نيابة صفد وطرابلس وحلب ودمشق ومصر، وله آثارٌ كثيرةٌ من البنايات.

٤١٩

أخبار طرابلس في عهد ملوك المماليك الجراكسة سلاطين مصر والشام

سنة ٧٨٨ هـ ١٣٨٦ م:

في هذه السنة عصى يلبغا الناصري نائب حلب، وخرج عن طاعة السلطان برقوق الظاهر، فجهّز الملك برقوق العساكر المصريّة، وقدّم عليهم جركس الخليلي أمير ياخور، ووجّههم لمحاربة يلبغا الناصري والعربان والتركمان وأهل طرابلس وأهل كسروان والجرديين وأهل بلاد الغرب. وجرت بينهم حروبٌ كثيرة، فانتصر الناصري نائب حلب ومنطاش نائب طرابلس على عساكر السلطان برقوق، وقتلوا جركس قائد الجيش، واستولوا على الديار المصريّة ؛ وذلك لخيانة الجيش المصري للسلطان. ولمّا تحقّق خيانة العسكر اختفى، ثمّ اتّفق النوّاب وأخرجوا الملك الصالح المخلوع، وولّوه على المُلْك ولقّبوه بالملك المنصور.

سنة ٧٩١ هـ ١٣٨٨ م:

في هذه السنة كان القتال بين أمراء الغرب التنوخيّة وبين أهل كسروان والتركمان، فإنّ الأمراء التنوخيّة كانوا من حزب الملك الظاهر برقوق، وأهل كسروان والتركمان من حزب منطاش نائب طرابلس وبيروت، فاستظهر أهل كسروان على أمراء الغرب وقتلوا منهم نحو تسعين رجلاً وأسروا عدداً غفيراً، ثمّ امتدت أيديهم إلى بيروت وبلاد الغرب بلاد التنوخيين، ولكنّهم استجمعوا أمرهم وردّوا الكسروانيين والتركمان والجرديين على الأعقاب.

وفي هذه السنة ظهر الملك الظاهر برقوق عند الطنبغا نائب دمشق، وجمع العساكر الشاميّة قاصداً دخول مصر، فلم يطاوعه الناصري نائب حلب لاتحاده مع الملك المنصور.

ثمّ إنّ الملك الظاهر سار إلى الكرك، ولمّا ظهر الملك الظاهر لم يعرف الناصري بظهوره، فوقع الاختلاف بينه وبين منطاش، وقبض منطاش على الناصري والجونالي وأرسلهما إلى الإسكندرية، وكتب إلى الكلكي نائب الكرك أن يقتل الملك الظاهر، فلم يرضَ بقتله، بل أفرج عنه، وخرج الملك الظاهر كدرويس يستعطي من الناس.

ثمّ اجتمع إليه مماليكه وعسكر الكرك، فركب قاصداً باكيش نائب غزة، فقتله ونهب داره

٤٢٠