تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني12%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 486

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 486 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 75896 / تحميل: 9809
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٢

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

كان قد نزله.

فلمّا بصر بهم خرج من الدير هارباً ومعه كاتبه، فألقيا نفسيهما في زورق وخلفا المال في الدير، فحمل إلى المعتضد.

وانحدر أصحاب السلطان في طلبه على الظهر وفي الماء فلحقوه، فخرج عن الزورق خاسراً إلى ضيعة له بشرقيّ دجلة، فركب دابّةً لوكيله وسار ليله أجمع إلى أن وافى مضرب إسحاق بن أيّوب في عسكر المعتضد مستجيراً به.

فأحضره إسحاق مضرب المعتضد وأمر بالاحتفاظ به، وبثّ الخيل في طلب أسبابه، فظفر بكاتبه وعدّة من قراباته وغلمانه.

وتتابع رؤساء الأكراد وغيرهم في الدخول في الأمان وذلك في آخر المحرّم من هذه السنة.

(وجاء فيه في حوادث سنة ٢٨٣)

فمن ذلك: ما كان من شخوص المعتضد لثلاث عشرة بقيت من المحرّم، منها بسبب الشاري هارون إلى ناحية الموصل فظفر به.

وورد كتاب المعتضد بظفره به إلى مدينة السلام يوم الثلاثاء لتسع خلون من شهر ربيع الأول.

وكان سبب ظفره أنّه وجّه الحسين بن حمدان بن حمدون في جماعة من الفرسان والرجّالة من أهل بيته وغيرهم من أصحابه إليه.

وذكر أنّ الحسين بن حمدان قال للمعتضد: إن أنا جئت به إلى أمير المؤمنين فلي ثلاث حوائج إلى أمير المؤمنين.

فقال: اذكرها... قال:

أوّلها إطلاق أبي، وحاجتان أسأله إيّاهما بعد مجيئي به إليه.

فقال له المعتضد: لك ذلك، فامض... فقال الحسين: أحتاج إلى ثلاثمئة فارس أنتخبهم.

فوجّه المعتضد معه ثلاثمئة فارس مع موشكير، فقال: أريد أن يأمر أمير المؤمنين أن لا يخالفن فيما آمره به.... فأمر المعتضد موشكير بذلك.

فمضى الحسين حتّى انتهى إلى مخاضة دجلة، فتقدّم إلى وصيف ومن معه بالوقوف على المخاضة وقال له:

٤١

ليس لهارون طريق إن هرب غير هذا... فلا تبرحنّ من هذا الموضع حتّى يمرّ بك هارون فتمنعه العبور، وأجيئك أنا أو يبلغك أنّي قد قتلت.

ومضى حسين في طلب هارون فلقيه وواقعه، وكانت بينهما قتلى. وانهزم الشاري هارون، وأقام وصيف على المخاضة ثلاثة أيام، فقال له أصحابه: قد طال مقامنا بهذا المكان القفر، وقد أضرّ ذلك بنا، ولسنا نأمن من أن يأخذ حسين الشاري فيكون له الفتح دوننا، والصواب أن نمضي في آثارهم فأطاعهم، ومضى، وجاء هارون الشاري منهزماً إلى موضع المخاضة فعبر، وجاء الحسين في أثره فلم ير وصيفاً وأصحابه بالموضع الذي تركهم فيه، ولا عرف لهارون خبراً ولا رأى له أثراً. وجعل يسأل عن خبر هارون حتّى وقف على عبوره، فعبر في أثره وجاء إلى حي من أحياء العرب فسألهم عنه، فكتموه أمره، فأراد أن يوقع بهم وأعلمهم أن المعتضد في أثره، فأعلموه أنّه اجتاز بهم فأخذ بعض دوابهم وترك دوابه عندهم وكانت قد كلّت وأعيت.

واتبع أثره فلحقه بعد أيّام في نحو من مئة. فناشده الشاري وتوعده، فأبى إلاّ محاربته، فحاربه. فذكر أنّ حسين بن حمدان رمى بنفسه عليه، فابتدره أصحاب حسين فأخذوه.

وجاء به إلى المعتضد سلماً بغير عقد ولا عهد، فأمر المعتضد بحلّ قيود حمدان بن حمدون والتوسعة عليه والإحسان إليه إلى أن يقدم فيطلقه ويخلع عليه.

فلمّا أسر الشاري وصار في يد المعتضد، انصرف راجعاً إلى مدينة السلام، فوافاها لثمانٍ بقين من شهر ربيع الأول، فنزل باب الشماسية وعبّأ الجيش هنالك.

وخلع المعتضد على الحسين بن حمدان وطوّقه بطوقٍ من ذهب، وخلع على جماعةٍ من رؤساء أهله، وزيّن الفيل بثياب الديباج، واتُّخذ للشاري على الفيل كالمحفة وأُقعد فيها، وأُلبس دُرّاعة ديباج، وجُعل على رأسه برنس حرير طويل.

(وجاء في حوادث سنة ٢٩١)

شخوص المكتفي من مدينة السلام نحو صاحب الشامة لحربه

٤٢

ومصيره إلى الرقّة وبثّه جيوشه فيما بين حلب وحمص، وتولّيه حرب صاحب الشامة محمّد بن سليمان الكاتب، وتصييره أمر جيشه وقوّاده إليه.

فلمّا دخلت هذه السنة، كتب وزير القاسم بن عبيد الله إلى محمّد بن سليمان، وقوّاد السلطان يأمرهم وإيّاه بمناهضة ذي الشامة وأصحابه.

فساروا إليه حتّى صاروا إلى موضعٍ بينهم وبين حماة، فيما قيل اثنا عشر ميلاً، فلقوا به أصحاب القرمطي، في يوم الثلاثاء لستّ خلون من المحرم، وجرت بينهم حروبٌ انتهت بفرار القرمطي بعدما عمل السيف في أصحابه.

وإنّا لنورد كتاب محمّد بن سليمان إلى الوزير بالفتح لتضمّنه بلاء حسين بن حمدان وعبد الله بن حمدان البلاء المشكور في هذه الموقعة:

(بسم الله الرحمن الرحيم: قد تقدّمت كتبي إلى الوزير أعزّه الله في خبر القرمطي اللعين وأشياعه بما أرجو أن يكون قد وصل إن شاء الله. ولمّا كان في يوم الثلاثاء لستّ ليالٍ خلون من المحرّم رحلت من الموضع المعروف بالقروانة نحو موضع يُعرف بالعليانة في جميع العسكر من الأولياء، وزحفنا به على مراتبهم في القلب والميمنة والميسرة وغير ذلك.

فلم أبعد أن وافاني الخبر بأنّ الكافر القرمطي أنفذ النعمان ابن أخي إسماعيل بن النعمان أحد دعاته في ثلاثة آلاف فارس وخلق من الرجّالة، وأنّه نزل بموضعٍ يُعرف بتمنع، بينه وبين حماة اثنا عشر ميلاً.

فاجتمع إليه جميع مَن كان بمعرّة النعمان وبناحية الفصيصي وسائر النواحي من الفرسان والرجّالة، فأسررت ذلك عن القوّاد والناس جميعاً ولم أظهره، وسألت الدليل الذي كان معي عن هذا الموضع وكم بينا وبينه... فذكر أنّه ستّة أميال.

فتوكّلت على الله (عزّ وجلّ) وتقدّمت إليه في المسير نحوه، فمال الناس جميعاً، وسرنا حتّى وافيت الكفرة، فوجدتهم على تعبئة، ورأينا طلائعهم.

فلمّا نظروا إلينا مقبلين زحفوا نحونا، وسرنا إليهم فافترقوا ستّة كراديس وجعلوا على ميسرتهم - على ما أخبرني مَن ظفرت به من رؤسائهم

٤٣

- مسروراً العُلَيصي وأبا الحمل وغلام هارون العُلَيصي وأبا العذاب ورجاء وصافي وأبا يعلى العلوي في ألف وخمسمائة فارس، وكمنوا كميناً في أربعمئة فارس خلف ميسرتهم بإزاء ميمنتنا.

وجعلوا في القلب النعمان العليصي والمعروف بابن الحطي والحماري، وجماعة من بطلانهم في ألف وأربعمئة فارس وثلاثة آلاف راجل، وفي ميمنتهم كليباً العليصي وحميد العليصي، وجماعة من نظرائهم في ألف وأربعمئة فارس، وكمنوا مئتي فارس، فلم يزالوا زفاً إلينا ونحن نسير نحوهم غير متفرّقين متوكّلين على الله (عزّ وجلّ).

وقد استحثّيت الأولياء والغلمان، وسائر الناس غِيَرَهم ووعدتهم، فلّما رأى بعضنا بعضاً حمل الكردوس الذي كان في ميسرتهم ضرباً بالسياط، فقصد الحسين بن حمدان وهو في جناح الميمنة، فاستقبلهم الحسين بارك الله عليه وأحسن جزاءه بوجهه وبموضعه من سائر أصحابه برماحهم فكسروها في صدورهم، فانفلّوا عنهم.

وعاود القرامطة الحمل عليهم، فأخذوا السيوف واعترضوا ضرباً للوجوه، فصرع من الكفار الفجرة ستمئة فارس في أوّل وقعة، وأخذ أصحاب الحسين خمسمئة فرس وأربعمئة طوق فضّة، وولوا مدبرين مغلولين.

واتبعهم الحسين فرجعوا عليه، فلم يزالوا حملة وحملة وفي خلال ذلك يصرع منهم الجماعة بعد الجماعة حتّى أفناهم الله (عزّ وجلّ)، فلم يفلت منهم إلاّ أقلّ من مئتي رجل.

وحمل الكردوس الذي كان في ميمنتهم على القاسم بن سيما ويُمن الخادم ومن كان معهما من بني شيبان وبني تميم، فاستقبلوهم بالرماح حتّى كسروها فيهم.

واعتنق بعضهم بعضاً، فقتل من الفجرة جماعة كثيرة.

وحمل عليهم في وقت حملتهم خليفة بن المبارك ولؤلؤ، وكنت قد جعلته جناحاً لخليفة في ثلاثمئة فارس، وجميع أصحاب خليفة وهم يعاركون بني شيبان وتميم فقتل من الكفرة مقتلة عظيمة، واتبعوهم فأخذ بنو شيبان منهم ثلاثمائة فرس ومئة طوق، وأخذ أصحاب خليفة مثل ذلك.

٤٤

ورجف النعمان ومَن معه في القلب إلينا، فحملت ومن معي وكنت بين القلب والميمنة، وحمل خاقان ونصر القشوري ومحمّد بن كمشجور ومَن كان معهم في الميمنة ووصيف موشكير ومحمد بن إسحاق بن كنداجيق وابنا كيغلغ والمبارك القمي وربيعة بن محمد ومهاجر بن طليق والمظفر بن حاج وعبد الله بن حمدان وحي الكبير ووصيف البكتمري وبشر البكتمري ومحمد بن قراطُفان، وكان في جناح الميمنة جميع من حمل على مَن في القلب ومن انقطع ممّن كان حمل على الحسين بن حمدان.

فلم يزالوا يقتلون الكفّار فرسانهم ورجّالتهم حتّى قتلوا أكثر من خمسة أميال، ولمّا أن تجاوزت المصاف بنصف ميل خفت أن يكون من الكفّار مكيدة في الاحتيال على الرجّالة والسواد، فوقفت إلى أن لحقوني، وجمعتهم وجمعت الناس إليّ وبين يدي المطرد المبارك مطرد أمير المؤمنين، وقد حملت في الوقت الأوّل وحمل الناس.

ولم يزل عيسى النوشري ضابطاً للسواد من مصاف خلفهم مع فرسانه ورجّالته على ما رسمتُه له، ولم يَزُل من موضعه إلى أن رجع الناس إليّ من كلِّ موضع.

وضربت مضربي في الموضع الذي وقفت فيه حتّى نزل الناس جميعاً، ولم أزل واقفاً إلى أن صلّيت المغرب حتّى استقرّ العسكر بأهله، ووجّهت في الطلائع، ثمّ نزلت وأكثرت حمداً لله على ما هنّأنا به من النصر، ولم يبق أحد من قوّاد أمير المؤمنين وغلمانه ولا العجم وغيرهم غاية في نصر هذه الدولة المباركة في المناصحة لها إلاّ بلغوها بارك الله عليهم جميعاً.

ولمّا استراح الناس خرجت والقوّاد جميعاً لنقيم خارج العسكر إلى أن يصبح الناس خوفاً من حيلة تقع، وأسأل الله تمام النعمة وإيزاع الشكر. وأنا، أعزّ الله سيدنا الوزير، راحلٌ إلى حماة، ثمّ أشخص إلى سلمية بمنّ الله تعالى وعونه، فمَن بقي من هؤلاء الكفّار مع الكافر منهم بسلمية، فإنّه قد صار إليها منذ ثلاثة أيّام واحتاج إلى أن يتقدّم الوزير بالكتاب إلى جميع القوّاد وسائر بطون العرب من بني شيبان وتغلب وبني تميم يجزيهم جميعاً الخير على ما كان في هذه الوقعة. فما بقّى أحد منهم صغير ولا كبير غاية والحمد لله على ما تفضّل به وإيّاه أسأل تمام النعمة (الخ).

٤٥

(وجاء في حوادث سنة ٣٩٣)

وفي صفر ورد الخبر أنّ أخاً للحسين بن زكرويه المعروف بصاحب الشامة، ظهر بالدالية من طريق الفرات في نفر، وأنّه اجتمع إليه نفرٌ من الأعراب والمتلصّصة، فسار بهم نحو دمشق على طريق البر وعاث بتلك الناحية وحارب أهلها ؛ فندب للخروج إليه الحسين بن حمدان، فخرج في جماعةٍ كثيرةٍ من الجند، وكان مصير هذا القرمطي إلى دمشق في جمادى الأُولى من هذه السنة.

ثمّ ورد الخبر أنّ هذا القرمطي سار إلى طبرية، فامتنعوا من إدخاله فحاربهم حتّى دخلها، فقتل عامّة مَن بها من الرجال والنساء ونهبها وانصرف إلى ناحية البادية.

وملخص ما ذكره في استفحال شر القرامطة واعتدائهم على بعض بلاد الشام وقتلهم النساء والأطفال بلا رحمةٍ ولا شفقة، أنّهم لم ينالوا من دمشق نيلاً ولم يطمعوا فيها ؛ وكانوا قد صاروا إليها فدافعهم أهلها عنها، فقصدوا نحو طبرية مدينة جند الأردن.

ولحق بهم جماعة افتتنت من الجند بدمشق، فواقعهم يوسف بن إبراهيم بن بغامردي عامل أحمد بن كيغلغ على الأردن فكسروه وبذلوا الأمان له، ثمّ غدروا به فقتلوه، ونهبوا مدنية الأردن وسبوا النساء وقتلوا طائفةً من أهلها ؛ فأنفذ السلطان الحسين بن حمدان لطلبهم ووجوهاً من القوّاد.

فورد دمشق وقد دخل أعداء الله طبرية، فلمّا اتصل خبره بهم عطفوا نحو السماوة، وتبعهم الحسين يطلبهم في بريّة السماوة وهم ينتقلون من ماء إلى ماء ويعورونه حتّى لجأوا إلى المائين المعروفين بالدمعانة والحالة.

وانقطع الحسين من اتّباعهم لعدمه الماء، فعاد إلى الرحبة وأسرى القرامطة مع غاويهم المسمّى نصراً إلى قرية هيت، فصبحوها وأهلها غارون لتسع بقين من شعبان مع طلوع الشمس، فنهب ربضها وقتل من قدر عليه من أهلها، وأحرق المنازل وانتهب السفن التي في الفرات في غرضتها.

وقتل من أهل البلد فيما قيل زهاء مئتي نفس، ما بين رجلٍ وامرأةٍ وصبي، وأخذ ما قدر عليه من الأموال والمتاع، وأوقر فيما قيل ثلاثة آلاف راحلة، إلى أن قال:

٤٦

وذُكر عن محمد بن داود أنّه قال: إنّ القرامطة صبحوا هيت وأهلها غارّون، فحماهم الله منهم بسورها.

ثمّ عجّل السلطان محمد بن إسحاق بن كنداجيق نحوهم، فلم يقيموا بها إلاّ ثلاثاً، حتّى قرب محمد بن إسحاق منهم، فهربوا منه نحو المائين. فنهض محمد نحوهم فوجدهم قد عوروا المياه بينه وبينهم فأُنفذت إليه من الحضرة الإبل والروايا والزاد. وكتب إلى الحسين بن حمدان بالنفوذ من جهة الرحبة إليهم ؛ ليجتمع هو ومحمد بن إسحاق على الإيقاع بهم.

فلمّا أحسّ الكلبيّون بإشراف الجند عليهم ائتمروا بعدوِّ الله المسمّى نصراً، فوثبوا عليه وفتكوا به، وتفرّد بقتله رجلٌ منهم يُقال له الذئب بن القائم، وشخص إلى الباب متقرّباً بما كان منه ومستأمناً لبقيّتهم فأسنيت له الجائزة وعرف له ما أتاه وكفّ عن طلب قومه، فمكث أياماً ثمّ هرب.

وظفرت طلائع محمد بن إسحاق برأس المسمّى بنصر فاحتزّوه وأدخلوه مدينة السلام.

واقتتلت القرامطة بعده حتّى وقعت بينهما الدماء ؛ فسار مقام بن الكيال إلى ناحية طيئ مفلتاً بما احتوى عليه من الحطام، وصارت فرقة منهم كرهت أمورهم إلى بني أسد المقيمن بنواحي عين التمر فجاوروهم، وأرسلوا إلى السلطان وفداً يعتذرون ما كان منهم ويسألون إقرارهم في جوار بني أسد، فأُجيبوا إلى ذلك، وحصلت على المائين بقيّة الفسقة المستبصرة في دين القرامطة.

وكتب السلطان إلى حسين بن حمدان في معاودتهم باجتثاث أصولهم ؛ فأنفذ زكرويه إليهم داعيةً له من أكرة أهل السواد يُسمّى القاسم بن أحمد بن علي، ويُعرف بأبي محمد من رستاق نهر تلحانا، فأعلمهم أن فعل الذئب بن القائم قد أنفره عنهم وثقل قلبه عليهم، وأنّهم قد ارتدّوا عن الدين، وأنّ وقت ظهورهم قد حضر، وقد بايع له بالكوفة أربعون ألف رجل وفي سوادها أربعمئة ألف رجل، وأنّ موعدهم الذي ذكره الله في كتابه في شأن موسى كليمه (ع) وعدوّه فرعون إذ يقول موعدكم يوم الزينة، وأنّ محشر الناس ضحى، وأن زكرويه يأمرهم أن يخفوا أمرهم، ويظهروا الانقلاع نحو الشام، ويسيروا نحو الكوفة حتّى يصبحوها في غداة يوم النحر، وهو يوم الخميس لعشر تخلو من ذي الحجّة سنة ٢٩٣ هـ، فإنّهم لا يمنعون منها وأنّه يظهر لهم، وينجز لهم وعده الذي كانت رُسُله

٤٧

تأتيهم به، وأن يحملوا القاسم بن أحمد معهم، فامتثلوا أمره ووافوا باب الكوفة، وقد انصرف الناس عن مصلاّهم مع إسحاق بن عمران عامل السلطان بها.

وكان الذين وافوا باب الكوفة في هذا اليوم - فيما ذكر - ثمانمئة فارس أو نحوها، إلى آخر ما أطال به الطبري من أمرهم الذي انتهى بالإدانة من القرامطة في هذه الواقعة.

(وجاء في تاريخ الطبري في حوادث سنة ٢٩٥)

وفيها: وجّه الحسين بن حمدان من طريق الشام رجلاً يُعرف بالكيال مع ستّين رجلاً من أصحابه إلى السلطان، كانوا استأمنوا إليه من أصحاب زكرويه.

وفيها: كانت وقعة بين الحسين بن حمدان وأعراب كلب والنمر وأسد وغيرهم، اجتمعوا عليه في شهر رمضان منها فهزموه، حتّى بلغوا به باب حلب.

(وجاء فيه في حوادث سنة ٢٩٦ هـ)

بما يتعلّق بالاجتماع على خلع المقتدر واستخلاف عبد الله بن المعتز، قال:

وكان الرأس في ذلك محمد بن داود بن الجراح، وأبو المثنّى أحمد بن يعقوب القاضي، وواطأ محمد بن داود بن الجراح جماعةً من القوّاد على الفتك بالمقتدر والبيعة لعبد الله بن المعتز.

وكان العبّاس بن الحسن على مثل رأيهم، فلمّا رأى العبّاس أمره مستوثقاً له مع المقتدر، بدا له فيما كان عزم عليه من ذلك، فحينئذٍ وثب به الآخرون فقتلوه.

وكان الذي تولّى قتله بدر الأعجمي، والحسين بن حمدان، ووصيف بن صوارتكين، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الأوّل.

وفي هذا اليوم، كانت بين الحسين بن حمدان وبين غلمان الدار حرب شديدة من غدوّه إلى انتصاف النهار.

٤٨

وفيها: وجّه السلطان القاسم بن سيما مع جماعةٍ من القوّاد والجند في طلب حسين بن حمدان بن حمدون، فشخص لذلك حتّى صار إلى قرقيسيا والرحبة والدالية، وكتب إلى أخي الحسين عبد الله بن حمدان بن حمدون بطلب أخيه.

فالتقى هو وأخوه بموضعٍ يُعرف بالأعمى، بين تكريت والسودقانية بالجانب الغربي من دجلة، فانهزم عبد الله، وبعث الحسين يطلب الأمان فأُعطي ذلك.

ولسبع بقين من جمادى الآخرة منها وافى الحسين بن حمدان بغداد فنزل باب حرب، ثمّ سار إلى دار السلطان من غد ذلك اليوم، فخلع عليه وعقد له على قم وقاشان.

(وجاء فيه في حوادث سنة ٣٠١)

وفيها: غزا الصائفة الحسين بن حمدان بن حمدون، فورد كتاب من طرسوس يذكر فيه أنّه فتح حصوناً كثيرةً، وقتل من الروم خلقاً كثيراً.

(ما جاء عن بني حمدان قديماً وحديثاً في تاريخ أبي الفداء)

في الجزء الثاني في حوادث سنة ٢٨١ فيها: سار المعتضد إلى ماردين فهرب صاحبها حمدان، وخلّى ابنه بها فقاتله المعتضد فسلّمها إليه.

(وفي هذا الجزء في حوادث سنة ٣٢٣)

كان ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان هو أمير الموصل وديار ربيعة، وكان أوّل مَن تولّى الموصل منهم أبو ناصر الدولة المذكور، وهو عبد الله وكنيته أبو الهيجاء، ولاّه عليها المكتفي، وقيل أبو الهيجاء المذكور ببغداد في المدافعة عن القاهر لمّا قبض عليه، وكان ابنه ناصر الدولة المذكور نائباً عنه بالموصل، واستمرّ بها إلى هذه السنة، فضمن عمّه أبو العلاء بن حمدان ما بيد ابن أخيه من ديوان الخليفة بمالٍ يحمله.

وسار أبو العلاء إلى الموصل فقتله ابن أخيه ناصر الدولة، فلمّا بلغ الخليفة ذلك ؛ أرسل عسكراً إلى ناصر الدولة مع ابن مقلة الوزير، فلمّا وصل إلى الموصل هرب ناصر الدولة ولم يدركه ؛ فأقام ابن مقلة بالموصل

٤٩

مدّةً ثمّ عاد إلى بغداد، فعاد ناصر الدول إلى الموصل، وكتب إلى الخليفة يسأل الصفح، وضمن الموصل بمالٍ يحمله، فأُجيب إلى ذلك.

(وفي هذا الجزء في حوادث ٣٣٠)

في هذه السنة: عاد البريدي فاستولى على بغداد، وهرب ابن رائق والخليفة المقتفي إلى جهة الموصل، فخرج عنها ناصر الدولة إلى الجانب الآخر، فأرسل المقتفي (المتّقي) إليه ابنه أبا منصور وابن رائق، فأكرمهما ناصر الدولة ونثر على ابن الخليفة دنانير، ولمّا قاما لينصرفا أمر ناصر الدولة أصحابه بقتل ابن رائق فقتلوه.

ثمّ سار ابن حمدان إلى المتّقي فخلع المتّقي عليه، وجعله أمير الأمراء، وذلك في مستهلّ شعبان من هذه السنة، وخلع على أخيه أبي الحسن علي ولقّبه سيف الدولة.

ولمّا بلغ الإخشيد صاحب مصر قتل ابن رائق، صار إلى دمشق فاستولى عليها، ثمّ سار المتّقي وناصر الدولة إلى بغداد فهرب عنها ابن البريدي، ونهب الناس بعضهم بعضاً ببغداد ثلاثة أشهر وعشرين يوماً.

ودخل المتّقي إلى بغداد ومعه بنو حمدان في جيوشٍ كثيرةٍ في شوّال من هذه السنة.

ولمّا استقرّ ناصر الدولة ببغداد أمر بإصلاح الدنانير، وكان الدينار بعشرة دراهم فبيع الدينار بثلاثة عشر درهماً.

إنّك لترى من هذه الحالة وما سبقها وما يلحقها: كيف كان التنازع بين أمراء الدولة العبّاسيّة وولاتها، ومَن كان له من الأثر في إضعافها، وتسلُّط الغرباء الأبعدين والأقربين عليها من تُرك وديلم وفُرس وعرب، فكانت هذه الدولة كريشةٍ في مهابّ الأعاصير، ولم يبق للخلفاء سوى الاسم والرّسم، والأمر والنهي بيد غيرهم.

يقول أبو الفداء:

٥٠

(في حوادث سنة ٣٢٤)

ومن حين دخل ابن رائق بطلت الوزارة من بغداد، وبقي ابن رائق هو الناظر في الأُمور جميعها، وتغلّب عمّال الأطراف عليها، ولم يبق للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحكم فيها لابن رائق وليس للخليفة فيها حكم.

وأمّا باقي الأطراف: فكانت (البصرة) في يد ابن رائق المذكور، و (خوزستان) في يد البريدي، و(فارس) في يد عماد الدولة بن بويه، و (كرمان) في يد أبي علي محمد بن الياس، و (الري وأصفهان والجبل) في يد ركن الدولة بن بويه وشمكير بن زياد أخي مرداويج يتنازعان عليها، و (الموصل وديار بكر ومضر وربيعة) في يد بني حمدان، و (مصر والشام) في يد الإخشيد محمد ابن طغج، و (المغرب) و (أفريقية) في يد القائم العلوي ابن المهدي، و (الأندلس) في يد عبد الرحمان بن محمد الأموي الملقّب بالناصر، و (خراسان) و (ما وراء النهر) في يد نصر بن أحمد بن سامان الساماني، و (طبرستان) و (جرجان) في يد الديلم، و (البحرين) و (اليمامة) في يد أبي طاهر القرمطي.

(وفيه في حوادث سنة ٣٢٧)

فيها سار بجكم والراضي إلى الموصل، فهرب ناصر الدولة بن حمدان عنها، ثمّ حمل مالاً واستقرّ الصلح معه.

(وفيه في حوادث سنة ٣٣١)

في هذه السنة: سار ناصر الدولة عن بغداد إلى الموصل، وثارت الديلم ونهبت داره، وكان أخوه سيف الدولة بواسط، فثار عليه الأتراك الذين معه وكبسوه ليلاً في شعبان، فهرب سيف الدولة أبو الحسن علي إلى جهة أخيه ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن عبد الله بن حمدان، ولحق به.

ثمّ قَدِم سيف الدولة إلى بغداد، وطلب من المتّقي مالاً ليفرّقه في العسكر، ويمنع تورون والأتراك من دخول بغداد، فأرسل إليه المتّقي أربعمئة ألف دينار، ففرّقها في أصحابه.

ولمّا وصل توزون إلى بغداد هرب سيف الدولة عنها، ودخل توزون

٥١

بغداد في الخامس والعشرين من رمضان في هذه السنة، فخلع المتّقي عليه، وجعله أمير الأمراء.

(وفي حوادث سنة ٣٣٢)

فيها: سار المتّقي عن بغداد خوفاً من تورون وابن شيرزاد إلى جهة ناصر الدولة بالموصل، وانحدر سيف الدولة إلى ملتقى المتّقي بتكريت، ثمّ انحدر ناصر الدولة إلى تكريت، وأصعد الخليفة إلى الموصل.

ثمّ سار الخليفة وبنو حمدان إلى الرقّة، فأقاموا بها. وظهر للمتّقي تضجّر بني حمدان منه، وإيثارهم مفارقته، فكتب إلى توزون يطلب الصلح منه ليقدم إلى بغداد.

وفيه في حوادث هذه السنة وفي الصفحة نفسها:

وفيها: استعمل ناصر الدولة بن حمدان بن علي بن مقاتل على قنّسرين والعواصم وحمص، ثمّ استعمل بعده في السنة المذكورة ابن عمّه الحسين بن سعيد بن حمدان على ذلك.

(وفي في حوادث سنة ٣٣٣)

وفي هذه السنة: لمّا سار المتّقي عن الرقّة إلى بغداد، وسار عنها الإخشيد إلى مصر، (وكان قد حضر إليه إلى الرقّة حين خرج من بغداد مغاضباً لتورون، ليحمله معه إلى الذهاب إلى مصر، وحيث أبى ذلك أصلح الحال بينه وبين تورون)، سار سيف الدولة أبو الحسن علي بن أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان إلى حلب، وبها يانس المؤنسي، فأخذها منه سيف الدولة واستولى عليها.

ثمّ سار من حلب إلى حمص فاستولى عليها، ثمّ سار إلى دمشق فحصرها ثمّ رحل عنها.

وكان الإخشيد قد خرج من مصر إلى الشام بسبب قصد سيف الدولة دمشق، وسار إليه، فالتقيا بقنّسرين ولم يظفر أحد العسكرين بالآخر.

ورجع سيف الدولة إلى الجزيرة، فلمّا رجع الإخشيد إلى دمشق عاد سيف الدولة إلى حلب فملكها، فلمّا ملكها سارت الروم حتّى قاربت

٥٢

حلب، فخرج إليهم سيف الدول فهزمهم وظفر بهم.

(وفي حوادث سنة ٣٣٤)

في هذه السنة: سار ناصر الدولة إلى بغداد، وأرسل معز الدولة عسكراً لقتاله فلم يقدروا على دفعه، وسار ناصر الدولة من سامراء عاشر رمضان إلى بغداد، وأخذ معزّ الدولة المطيع معه، وسار إلى تكريت فنهبها ؛ لأنّها كانت لناصر الدولة.

وعاد معزّ الدولة بالخليفة إلى بغداد ونزل بالجانب الغربي، ونزل ناصر الدولة بالجانب الشرقي، ولم يخطب تلك الأيّام للمطيع ببغداد.

وجرى بينهم ببغداد قتال كثير آخره أن ناصر الدولة وعسكره انهزموا، واستولى معزّ الدولة على الجانب الشرقي، وأُعيد الخليفة إلى مكانه في المحرّم سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة.

واستقرّ معزّ الدولة ببغداد وناصر الدولة بعكبرا، ثمّ سار ناصر الدولة إلى الموصل، واستقرّ الصلح بين معزّ الدولة وناصر الدولة في المحرّم من سنة خمس وثلاثين وثلاثمئة.

(وفي حوادث السنة ٣٣٤)

بعد وفاة الإخشيد وولاية ابنه أبي القاسم ابنه أبي القاسم أنوجور (معناه محمود) وكان صغيراً.

واستولى على الأمر كافور الخادم الأسود، وبمسير كافور إلى مصر سار سيف الدولة إلى دمشق، وملكها وأقام بها.

واتّفق أنّ سيف الدولة ركب يوماً والشريف العقيقي معه، فقال سيف الدولة: (ما تصلح هذه الغوطة إلاّ لرجل واحد) فقال له العقيقي: (هي لأقوام كثير).

فقال سيف الدولة: (لو أخذتها القوانين السلطانيّة لتبرّأوا منها.

فأعلم العقيقي أهل دمشق بذلك، فكاتبوا كافوراً يستدعونه فجاءهم، فأخرجوا سيف الدول عنهم.

ثمّ استقرّ سيف الدولة بحلب، ورجع كافور إلى مصر، وولّى على دمشق بدراً الإخشيدي.

٥٣

وذكر غزاته الروم في (سنة ٣٣٨، الصفحة ٩٨) وإيغاله فيها وغنمه وقتله. فلمّا عاد أخذت الروم عليه المضايق ؛ فهلك غالب عسكره وما معه، ونجا سيف الدولة بنفسه في عددٍ يسير.

(وفي حوادث سنة ٣٤٣)

في هذه السنة في ربيع الأوّل: غزا سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم فغنم وقتل، ووقع بينه وبين الروم وقعة عظيمة قٌتل فيها من الفريقين عالمٌ كثير، وانتصر فيها سيف الدولة.

(وفي حوادث سنة ٣٤٥)

وفيها: سار سيف الدولة بن حمدان إلى بلاد الروم فغنم وسبى وفتح عدّة حصون، ورجع إلى آذنة فأقام بها، ثمّ ارتحل إلى حلب.

وفي سنة ٣٤٩ غزا سيف الدولة بن حمدان بلاد الروم في جمعٍ كثيرٍ ففتح وأحرق وقتل وغنم، وبلغ إلى خرشنة.

وفي عوده أخذت الروم عليه المضايق واستردّوا ما أخذه وأخذوا أثقاله وأكثروا القتل في أصحابه.

وتخلّص سيف الدولة في ثلاثمئة نفس، وكان قد أشار عليه أرباب المعرفة بأن لا يعود على الطريق، فلم يقبل.

وكان سيف الدولة معجباً بنفسه، يحب أن يستبدّ ولا يشاور أحداً ؛ لئلاّ يُقال إنّه أصاب برأي غيره.

(وفي حوادث سنة ٣٥١)

استولى الروم على مدينة حلب دون قلعتها، وكان قد سار إليها الدمستق، ولم يعلم به سيف الدولة إلاّ عند وصوله.

وجرت حربٌ انتهت بفوز الدمستق واستيلائه على أموال سيف الدولة وعلى أربعمئة بغل، ومن السلاح ما لا يُحصى. وجرت منهم أُمور عظيمة في حلب من قتلٍ ونهب، وحسبك أنّهم سبوا بضعة عشر ألف صبي وصبية، وغنموا ما لا يوصف كثرة.

وبعد امتلاء أيديهم من الغنائم والسبي وإعواز

٥٤

الظهر لحمل البقيّة الباقية أحرقوها.

وأقام الدمستق تسعة أيام، ثمّ ارتحل عائداً إلى بلاده، ولم ينهب قرايا حلب، وأمرهم بالزراعة ليعود من قابل إلى حلب في زعمه.

وفي هذه السنة (الصفحة ١٠٤ من تاريخ أبي الفداء) في شوّال: أسرت الروم أبا فراس الحارث بن سعيد بن حمدان من منبج، وكان متقلّداً بها.

(وفي حوادث سنة ٣٥٣)

سار معزّ الدولة واستولى على الموصل ونصيبين، بعد أن انهزم ناصر الدولة من بين يديه.

ثمّ وقع بينهما الاتفاق وضمن ناصر الدولة الموصل بمالٍ ارتضاه معزّ الدولة.

ورحل معزّ الدولة ورجع إلى بغداد.

(وفي سنة ٣٥٤)

أطاع أهل انطاكية بعض المقدّمين الذين حضروا من طرسوس، وخالفوا سيف الدولة.

وكان اسم المقدّم الذي أطاعوه رشيقاً، فسار إلى جهة حلب وقاتل عامل سيف الدولة قرعويه، وكان سيف الدولة بميافارقين، فأرسل سيف الدولة عسكراً مع خادمه بشارة، فاجتمع قرعويه العامل بحلب مع بشارة وقاتلا رشيقاً فقتل رشيق وهرب أصحابه ودخلوا انطاكية.

(وفي سنة ٣٥٥)

اسْتَفَكَّ سيف الدولة بن حمدان ابن عمّه أبا فراس بن حمدان من الأسر، وكان بينه وبين الروم الفداء فخلّص عدّةً من المسلمين من الأسر.

(وفي سنة ٣٥٦)

قبض ابن ناصر الدولة أبو تغلب على أبي ناصر الدولة وحبسه، وكان سبب قبضه أن ناصر الدولة كان قد كبر وساءت أخلاقه وضيّق على أولاده وأصحابه وخالفهم في أغراضهم، فضجروا منه، حتّى وثب عليه ابنه أبو تغلب فقبضه في هذه السنة في أواخر جمادى الأولى، ووكل به من يخدمه.

٥٥

ولمّا فعل أبو تغلب ذلك خالفه بعض أخوته، فاحتاج أبو تغلب إلى مداراة بختيار ليعضده، فضمن أبو تغلب البلاد لبختيار بألف ألف ومئتي ألف درهم.

وفاة سيف الدولة

(وفي سنة ٣٥٦)

مات سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان بن حَمْدون التَّغلبيّ الربعيّ. وكان موته بحلب في صفر، وحُمل تابوته إلى ميافارقين فدُفن بها.

وكان مولده في ذي الحجّة سنة ثلاث وثلاثمئة، وكان مرضه عسر البول.

وهو أوّل مَن ملك حلب من بني حمدان، أخذها من أحمد بن سعيد الكلابي نائب الإخشيد.

وقيل إنّ أوّل مَن ولي حلب من بني حمدان الحسين بن سعيد وهو أخو أبي فراس الحمداني.

وكان سيف الدولة شجاعاً كريماً وله شعر.

ولمّا توفّي سيف الدولة، ملك بلاده بعده ابنه سعد الدولة شريف، وكنيه أبو المعالي بن سيف الدولة ابن حمدان.

(وفي سنة ٣٥٧)

وفي هذه السنة في ربيع الآخر: قُتل أبو فراس، وكان مقيماً بحمص، فجرى بينه وبين أبي المعالي ابن سيف الدولة وحشة. وطلبه أبو المعالي فانحاز أبو فراس إلى صدد، فأرسل أبو المعالي عسكراً مع قرعويه أحد قوّاد عسكره، فكبسوا أبا فراس في صدد وقتلوه.

وكان أبو فراس خال أبي العلاء سعيد بن حمدان بن حمدون، وهو ابن عم ناصر الدولة وسيف الدولة، أُسر بِمَنْبِج وحُمل إلى القسطنطينة وأقام في الأسر أربع سنين.

وله في الأسر أشعارٌ كثيرة، وكانت منبج إقطاعه.

٥٦

وقال ابن خالَوَيْه:

لمّا مات سيف الدولة عزم أبو فراس على التغلّب على حمص، فاتصل خبره بأبي المعالي بن سيف الدولة وغلام أبيه قرعويه، فأرسله إليه وقاتله فقُتل في صدد.

وقيل بقي مجروحاً أيّاماً ومات، وكان مولده سنة عشرين وثلاثمئة، وفي مقتله في صدد يقول بعضهم:

وعـلّمني الـصدّ مِن بعده عن النوم مصرعه في صدد

فَسقْياً لها إذ حوت شخصه وبـعداً لها حيث فيها ابتعد

(وفي سنة ٣٥٨)

استولى قرعَوَيْه غلام سيف الدولة على حلب، وأخرج ابن أستاذه أبا المعالي شريف بن سيف الدولة بن حمدان منها ؛ فسار أبو المعالي إلى عند والدته بميافارقين وأقام عندها، ثمّ جرى بينهما وحشة ثمّ اتفقا بعدها.

ثمّ سار أبو المعالي فعبر الفرات وقصد حماة وأقام بها.

(وفي سنة ٣٥٩)

سار أبو تغلب إلى حرّان وحاصرها مدّةً وفتحها بالأمان، فاستعمل على حرّان البرقعيدي وهو من أكابر أصحاب بني حمدان، ثمّ عاد أبو تغلب إلى الموصل.

وفي هذه السنة: اصطلح قرعَوَيْه مع ابن أستاذه أبي المعالي وخطب له بحلب، وكان أبو المعالي حينئذٍ بحمص، وخطب أيضاً بحمص وحلب للمعزّ لدين الله الفاطمي صاحب مصر.

(وفي سنة ٣٦١)

ملك أبو تغلب بن ناصر الدولة بن حمدان قلعة ماردين، سلّمها إليه نائب أخيه حمدان، فأخذ أبو تغلب كلَّ ما لأخيه فيها من مالٍ وسلاح.

(وفي سنة ٣٦٢)

وصل الدمستق إلى جهة ميافارقين فنهب واستهان بالمسلمين، فجهّز

٥٧

أبو تغلب بن ناصر الدولة أخاه هبة الله بن ناصر الدولة في جيش، فالتقوا مع الدمستق فانهزم الروم وأُخذ الدمستقُ أسيراً، وبقي في الحبس عند أبي تغلب ومرض فعالجه أبو تغلب فلم ينجع فيه، ومات الدمستق في الحبس.

(وفي سنة ٣٦٦)

عاد أبو المعالي شريف بن سيف الدولة إلى ملك حلب، وسببه أنّه لمّا جرى بين قرعويه وبين أبي المعالي ما قدّمنا ذكره من استيلاء قرعويه على حلب، ومقام أبي المعالي بحماة، وصل إلى أبي المعالي وهو بحماة مارقطاش مولى أبيه من حصن برزية وخدمه وعمّر له مدينة حمص، بعد ما كان قد أخربها الروم.

وكان لقرعويه مولى يقال له بكجور، وقد جعله قرعويه نائبه.

فقوي بكجور واستفحل أمره وقبض على مولاه قرعويه وحبسه في قلعة حلب.

واستولى بكجور على حلب.

وكاتب أهلها أبا المعالي، فسار أبو المعالي إلى حلب، وأنزل بكجور بالأمان وحلف له أن يولّيه حمص، فنزل بكجور، وولاّه أبو المعالي حمص ؛ واستقرّ أبو المعالي مالكاً لحلب.

(وفي سنة ٣٦٧)

لماّ استولى عضد الدولة على العراق وأخرج منها بَخْتِيار سار معه حمدان بن ناصر الدولة، فأطمعه حمدان في مُلك الموصل وحسّن له ذلك وهوّن عليه أمر أخيه أبي تغلب ؛ فسار بختيار إلى جهة الموصل، فأرسل أبو تغلب يقول لبَخْتيار:

إن سلَّمت إليّ أخي حمدان صرت معك وقاتلت عضد الدولة وأخرجته من العراق.

فقبض بختيار على حمدان وسلّمه إلى أخيه أبي تغلب، وارتكب فيه من الغدر أمراً شنيعاً، فحبسه أخوه أبو تغلب.

واجتمع أبو تغلب بعساكره مع بختيار وقصدا عضد الدولة، فخرج عضد الدولة من بغداد نحوهما، والتقوا بقصر الجص من نواحي تكريت، ثامن عشر شوّال من هذه السنة. فهزمهما عضد الدولة وأمسك بختيار أسيراً فقتله.

٥٨

ثمّ سار عضد الدولة نحو الموصل فملكها، وهرب أبو تغلب إلى نحو ميافارقين، فأرسل عضد الدولة جيشاً في طلبه ومقدّمهم أبو الوفاء. فلمّا وصلوا إلى ميافارقين هرب أبو تغلب إلى بدليس، وتبعه عسكر عضد الدولة، فهرب إلى نحو بلاد الشام، فلحقه العسكر وجرى بينهم قتال، فانتصر أبو تغلب وهزم عسكر عضد الدولة.

ثمّ سار أبو تغلب إلى حصن زياد، ويُعرف ألآن بخرت برت، ثمّ سار إلى آمد وأقام بها.

(وفي سنة ٣٦٨)

لمّا فتح أبو الوفاء مقدّم عسكر عضد الدولة ميافارقين بالأمان، وسمع أبو تغلب بفتحها، سار عن آمد نحو الرحبة.

ولمّا سار عضد الدولة مع أبي الوفاء وفتحا آمد واستولى عضد الدولة على جميع ديار بكر، ثمّ على ديار مضر والرحبة وجميع مملكة أبي تغلب، واستخلف أبا الوفاء على الموصل وسار إلى بغداد.

سار أبو تغلب إلى دمشق، وكان قد تغلّب عليها قسام وهو شخص كان يثق إليه أفتكين.

فلمّا وصل أبو تغلب إلى دمشق قاتله قسام ومنعه من دخولها، فسار إلى طبرية.

(وفي سنة ٣٦٩)

كان أبو تغلب قد سار عن دمشق إلى طبريّة، ثمّ إلى الرملة في المحرّم من هذه السنة، وكان بتلك الجهة (دغفل بن مفرج الطائي) وقائد من قوّاد العزيز اسمه الفضل، ومعه عسكر قد جهّزه العزيز إلى الشام، فساروا لقتال أبي تغلب، ولم يبق مع أبي تغلب غير سبعمئة رجل من غلمانه وغلمان أبيه، فولّى أبو تغلب منهزماً فتبعوه، فأخذوه أسيراً، فقتله دغفل وبعث برأسه إلى العزيز بمصر، وكان معه أخته جميلة بنت ناصر الدولة وزوجته بنت عمّه سيف الدولة، فحملها بنو عقيل إلى حلب وبها ابن سيف الدولة، فترك أخته عنده وأرسل جميلة بنت ناصر الدولة إلى بغداد، فاعتُقلت في حجرةٍ في دار عضد الدولة.

٥٩

(وفي سنة ٣٧٣)

سار أبو المعالي سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان فأخذ حلب من بكجور، وولاّه حمص إلى هذه السنة.

(وفي سنة ٣٧٩)

كان ابنا ناصر الدولة وهما أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين في خدمة شرف الدولة بن عضد الدولة ببغداد. فلمّا توفّي شرف الدولة وملك أخوه بهاء الدولة، استأذناه في المسير إلى الموصل، فأذن لهما بذلك.

فسارا إلى الموصل، فقاتلهما العامل بها واجتمع إليهما المواصلة، فاستوليا على الموصل وطردا عاملها والعسكر الذي قاتلهما إلى بغداد واستقرّا في الموصل.

(وفي سنة ٣٨٠)

طمع باد صاحب ديار بكر في ابني ناصر الدولة وهما: أبو طاهر إبراهيم وأبو عبد الله الحسين المستوليان على الموصل، فقصدهما وجرى بينهم قتال شديد، قُتل فيه باد وحُمل رأسه إليهما.

وكان باد المذكور، خال أبي علي بن مروان، فلمّا قُتل باد سار أبو علي ابن أخته إلى حصن كيفا، وكان بالحصن امرأة خاله باد المذكور وأهله، فقال لامرأة باد: قد أنفذني خالي إليك في مهمّة، فلمّا صعد إليها أعلمها بهلاك خاله وأطمعها في التزويج بها، فوافقته على ملك الحصن وغيره.

ونزل أبو علي بن مروان وملك بلاد خاله حصناً حصناً، حتّى ملك ما كان لخاله، وجرى بينه وبين أبي طاهر وأبي عبد الله العزيز ناصر الدولة حروب.

(وفي سنة ٣٨٠)

سار بكجور إلى قتال سعد الدولة بن سيف الدولة بحلب، واقتتلا قتالاً شديداً، وهرب بكجور وأصحابه وكثر القتل فيهم، ثمّ أُمسك بكجور

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

اجل إن اللّه الّذي منح الحرارة للنّار والاضاءة للقمر ، والاشعاع للشمس لقادر على سلب هذه الآثار وانتزاعها من تلك الاشياء وتجريدها ، ولهذا صحَّ وصفُه بمسبب الاسباب ، ومعطلها.

غير ان جميع هذه الحوادث الخارقة والآيات الباهرة لم تستطع ان توفر لابراهيم الحرية الكاملة في الدعوة والتبليغ ، فقد قررت السلطة الحاكمة وبعد مشاورات ومداولات إبعاد « إبراهيم » ونفيه ، وقد فتح هذا الأَمرُ صفحة جديدة في حياة ذلك النبيّ العظيم ، وتهيأت بذلك اسبابُ رحلته إلى بلاد الشام وفلسطين ومصر وارض الحجاز.

هجرة الخليل عليه‌السلام :

لقد حكمت محكمة « بابل » على « إبراهيم » بالنفي والإبعاد من وطنه ، ولهذا اضطرّعليه‌السلام ان يغادر مسقط رأسه ، ويتوجه صوبَ فلسطين ومصر ، وهناك واجه استقبال العمالقة الذين كانوا يحكمون تلك البقاع وترحيبهم الحار به ونعم بهداياهم الّتي كان من جملتها جارية تدعى « هاجر ».

وكانت زوجته « سارة » لم تُرزق بولد إلى ذلك الحين ، فحركت هذه الحادثة عواطافها ومشاعرها تجاه زوجها الكريم إبراهيم ولذلك حثته على نكاح تلك الجارية عله يُرْزَقُ منها بولد ، تقرّ به عينه وتزدهر به حياته.

فكان ذلك ، وولدت « هاجر » لإبراهيم ولداً ذكراً سمي باسماعيل ، ولم يمض شيء من الزمان حتّى حبلت سارة هي أيضاً وولدت ـ بفضل اللّه ولطفه ـ ولداً سمي باسحاق(١) .

وبعد مدة من الزمان أمر اللّه تعالى « إبراهيم » بان يذهب بإسماعيل واُمه « هاجر » إلى جنوب الشام « أي ارض مكة » ويُسكِنهما هناك في واد غير معروف إلى ذلك الحين واد لم يسكنه أحدٌ بل كانت تنزل فيه القوافل التجارية

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٨ و ١١٩.

١٤١

الذاهبة من الشام إلى اليمن ، والعائدة منها إلى الشام ، بعض الوقت ثم ترحل سريعاً ، وأما في بقية أوقات السنة فكانت كغيرها من أراضي الحجاز صحراء شديدة الحرارة ، خالية عن أي ساكن مقيم.

لقد كانت الاقامة في مثل تلك الصحراء الموحشة عملية لا تطاق بالنسبة لأمرأة عاشت في ديار العمالقة والفت حياتهم وحضارتهم ، وترفهم وبذخهم.

فالحرارة اللاهبة والرياح الحارقة في تلك الصحراء كانت تجسّد شبح الموت الرهيب امام ابصار المقيمين.

وإبراهيم نفسه قد انتابته كذلك حالةٌ من التفكير والدهشة لهذا الامر ، ولهذا فإنّه فيما كان عازماً على ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ذلك الواد قال لزوجته « هاجر » وعيناه تدمعان : « إن الّذي أمرني أن أضعَكُمْ في هذا المكان هو الّذي يكفيكم ».

ثمّ قال في ضراعة خاصة : «ربِّ اجْعِلْ هذا بَلَداً آمِناً وَاْرزُقْ أهْلَهُ مِنَ الَثمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّه وَالْيَوْمِ الآخِر »(١) .

وعندما انحدر من ذلك الجانب من الجبل التفت اليهما وقال داعياً : «رَبَّنا إنّي أسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَتي بِواد غَيْر ذِيْ زَرْع عِنْد بَيْتكَ الُمحَرَّم رَبَّنا لِيُقيْمُوا الصّلاة فَاجْعَلْ أفْئدَةً مِنَ النّاسِ تَهْويْ إلَيْهِمْ وَاْرزُقْهُمْ مِنَ الَّْثمراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُون »(٢) .

إنَ هذا السفرة والهجرة وإن كانت في ظاهرها امراً صعباً ، وعملية لا تطاق ، إلا أن نتائجها الكبرى الّتي ظهرت في ما بعد أوضحت وبيّنت أهميّة هذا العمل ، لأنّ بِناء الكعبة ، وتأسيس تلك القاعدة العظمى لأهل التوحيد ، ورفع راية التوحيد في تلك الربوع ، وخلق نواة نهضة ، عميقة ، دينية ، انبثقت على يد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشعّت من تلك الديار إلى أنحاء العالم ، كلُ ذلك كان من ثمار تلك الهجرة.

__________________

١ ـ البقرة : ١٢٦.

٢ ـ إبراهيم : ٣٧.

١٤٢

عين زمزم كيف ظهرت؟

لقد غادر « إبراهيم »عليه‌السلام أرض مكة تاركاً زوجته وولده « إسماعيل » بعيون دامعة ، وقلب يملأوه الرضا بقضاء اللّه والامل بلطفه وعنايته.

فلم تمض مدة إلا ونفد ما ترك عندهما من طعام وشراب ، وجف اللبن في ثديي « هاجر » ، وتدهورت أحوال الرضيع « إسماعيل » ، وكانت دموع الام الحزينة تنحدر على حجره ، وهي تشاهد حال وليدها الّذي قد أخذ العطش والجوع منه مأخذاً.

فانطلقت من مكانها فجأة تبحث عن الماء حتّى وصلت إلى جبل « الصفا » فرأت من بعيد منظر ماء عند جبل « مروة » ، فاسرعت إليه مهرولة ، غيران الّذي رأته وظنته ماء لم يكن الاّ السراب الخادع ، فزادها ذلك جزعاً وحزناً على وليدها ممّا جعلها تكرر الذهاب والاياب إلى الصفا والمروة أملا في أن تجد الماء ولكن بعد هذا السعي المتكرر ، والذهاب والاياب المتعدد بين الصفا والمروة عادت إلى وليدها قانطةً يائسةً.

كانت أنفاس الرضيع الظامئ ودقّات قلبه الصغير قد تباطأت بل واشرفت على النهاية ، ولم يعد ذلك الرضيع الظامئ قادراً على البكاء ولا حتّى على الانين.

ولكن في مثل هذه اللحظة الحرجة الصعبة استجاب اللّه دعاء خليله وحبيبه « إبراهيم » ، إذ لاحظت هاجر الماء الزلال وهو ينبع من تحت اقدام « اسماعيل ».

فسرت تلك الام المضطربة ـ الّتي كانت تلاحظ وليدها وهو يقضي اللحظات الاخيرة من حياته ، وكانت على يقين بانه سرعان ما يموت عطشاً ، وجهداً ـ سروراً عظيما بمنظر الماء ، وبرق في عينيها بريق الحياة ، بعد ان اظلمت الدنيا في عينيها قبل دقائق ، فشربت من ذلك الماء العذب ، وسقت منه رضيعها الظامئ ، وتقشعت بلطف اللّه وعنايته وبما بعثه من نسيم الرحمة الربانية كل غيوم اليأس ، وسحُب القنوط الّتي تلبدت وخيمت على حياتها.

١٤٣

ولقدادى ظهور هذه العين الّتي تدعى بزمزم في ان تتجمع الطيور في تلك المنطقة وتحلق فوق تلك البقعة الّتي لم يُعهد أن حلَّقت عليها الطيور ، وارتادتها الحمائم ، وهذا هو ما دفع بجرهم وهي قبيلة كانت تقطن في منطقة بعيدة عن هذه البقعة ان تتنبه إلى ظهور ماء فيها لما رأت تساقط الطيور وتحليقها ، فأرسلت واردين ليتقصيا لها الخبر ويعرفا حقيقة الأمر ، وبعد بحث طويل وكثير ، انتهيا إلى حيث حلت الرحمة الالهية ، وعندما اقتربا إلى « هاجر » وشاهدا بام عينيهما « امرأة » و « طفلا » عند عين من الماء الزلال الّذي لم يعهداه من قبل عادا من فورهما من حيث أتيا ، وأخبرا كبار القبيلة بما شاهداه ، فاخذت الجماعة تلو الجماعة من تلك القبيلة الكبيرة تفد إلى البقعة المباركة ، وتخيم عند تلك العين لتطرد عن « هاجر » وولدها مرارة الغربة ، ووحشة الوحدة ، وقد سبب نمو ذلك الوليد المبارك ورشده في رحاب تلك القبيلة في ان يتزوج إسماعيل هذا من تلك القبيلة ، ويصاهرهم ، وبذلك يحظى بحمايتهم له ، وينعم بدفاعهم ورعايتهم ومحبتهم له. فانه لم يمض زمانٌ حتّى أختار « إسماعيل » زوجة من هذه القبيلة ، ولهذا ينتمي ابناء « إسماعيل » إلى هذه القبيلة من جهة الاُم.

تجديد اللقاء :

كان إبراهيمعليه‌السلام بعد أن ترك زوجته « هاجر » وولده « إسماعيل » في ارض « مكة » بأمر اللّه ، يتردد على ولده بين فينة واُخرى.

وفي احدى سفراته ولعلّها السفرة الاُولى دخل « مكة » فلم يجد ولده « إسماعيل » في بيته ، وكان ولده الّذي أصبح رجلا قوياً ، قد تزوج بامرأة من جرهم.

فسأل « إبراهيم » زوجته قائلا : اين زوجك؟ فقالت : خرج يتصيَّد ، فقال لها : هل عندك ضيافة؟ قالت : ليس عندي شيء وما عندي أحد ، فقال لها إبراهيم : « إذا جاء زوجك فأَقرئيه السلام وقولي له : فَلْيغيّر عتبة بابه ».

١٤٤

وذهب إبراهيمعليه‌السلام منزعجاً من معاملة زوجة ابنه « إسماعيل » له وقد قال لها ما قال.

ولمّا جاء إسماعيلعليه‌السلام وجد ريح ابيه فقال لامرأته : هل جاءك احد؟ قالت : جاءني شيخ صفته كذا وكذا كالمستخّفِة بشأنه ، قال : فماذا قال لك : قالت : قال لي أقْرئي زوجك السلام وقولي له : فليغيّر عتبة بابه!!

فطلقها وتزوج اُخرى ، لأن مثل هذه المرأة لا تصلح ان تكون زوجة وشريكة حياة(١) .

وقد يتساءل أحد : لماذا لم يمكث إبراهيمعليه‌السلام هناك قليلا ليرى ولده إسماعيل بعد عودته من الصيد ، وقد قطع تلك المسافة الطويلة ، وكيف سمح لنفسه بان يعود بعد تلك الرحلة الشاقة من دون ان يحظى برؤية ابنه العزيز؟!

يجيب ارباب التاريخ على ذلك بان إبراهيم انما استعجل في العودة من حيث اتى لوعد اعطاه لزوجته سارة بأن يعود اليها سريعاً ، ففعل ذلك حتّى لا يخلف. وهذا من اخلاق الانبياء.

ثمّ إن « إبراهيم » سافر مرة اُخرى إلى أرض مكة بأمر اللّه ، وليبني الكعبة الّتي تهدمت في طوفان « نوح » ، ليوجّه قلوب المؤمنين الموحدين إلى تلك النقطة.

إن القرآن الكريم يشهد بأن أرض « مكة » قد تحولت إلى مدينة بعد بناء الكعبة قبيل وفاة إبراهيمعليه‌السلام ، لأن إبراهيم دعا بُعَيد فراغه من بناء الكعبة قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا البَلَد آمِناً وَاجْنُبْني وَبَنِيِّ أنْ نَعْبُدَ الأَصْنام »(٢) على حين دعا عند نزوله مع زوجته ، وابنه إسماعيل في تلك الأَرض قائلا :

«رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً »(٣) .

وهذا يكشف عن ان مكة تحولت إلى مدينة عامرة في حياة الخليل

__________________

١ ـ بحار الأنوار : ج ١٢ ، ص ١١٢ نقلا عن قصص الأنبياء.

٢ ـ إبراهيم : ٣٥.

٣ ـ البقرة : ١٢٦.

١٤٥

عليه‌السلام ، بعد ان كانت صحراء قاحلة ، وواد غير ذي زرع.

* * *

ولقد كان من المُستحْسَن اسْتكمالا لهذا البحث أن نشرح هنا كيفية بناء الكعبة المعظمة ، ونستعرض التاريخ الاجمالي لذلك ، بيد أننا لكي لا نقصر عن الهدف المرسوم لهذا الكتاب اعرضنا عن ذلك وعمدنا إلى ذكر بعض التفاصيل عن أبرز واشهر أجداد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في التاريخ.

٢ ـ قُصَيُّ بنُ كلاب :

إن أسلاف الرَّسول العظيمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هم على التوالي : عَبْدُ اللّه ، عَبْد الْمُطَّلِبْ ، هاشِم ، عبدُ مَناف ، قُصّيّ ، كِلابٌ ، مُرَّة ، كَعْب ، لُؤيّ ، غالِب ، فِهْر ، مالِك ، النَضر ، كِنانة ، خُزيمَة ، مدُركة ، إلياس ، مُضَر ، نَزار ، مَعدّ ، عَدنان(١) .

من المسلّم أنّ نسب النبي الاكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى عدنان هو ما ذُكر ، فلا خلاف فيه ، إنما وقع الخلاف في عدد ، واسماء من هم بعد عدنان إلى إسماعيلعليه‌السلام ، ولذلك لم يجز التجاوز عنه لحديث رواه ابن عباس عن رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ قال : « إذا بَلَغَ نَسَبي إلى عَدْنان فأَمْسِكُوا »(٢) هذا مضافاً إلى أَن النبيّ نفسه كان إذا عدّد أجداده فبلغ إلى عدنان أمسك ، ونهى عن ذكر من بعده إلى إسماعيل ، وقد روي عنهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : كَذِبَ النَسّابُونَ.

ولهذا فإننا نكتفي بذكر من اُتفِق عليه ، ونعمد إلى الحديث عن حياة كلِ واحد منهم.

ولقد كان كلُ من ذكرنا أسماءهم هنا معروفين ، ومشهورين في تاريخ

__________________

١ ـ التاريخ الكامل : ج ٢ ، ص ٢ ـ ٢١.

٢ ـ بحار الأنوار : ج ١٥ ، ص ١٠٥ عن مناقب ابن شهرآشوب ، وكشف الغمّة : ج ١ ، ص ١٥.

١٤٦

العرب ، بيد أن حياة طائفة منهم ترتبط بتاريخ الإسلام ، ولهذا فاننا نقف عند حياة « قصيّ » ومَن لحقه إلى والد النبيّ « عبد اللّه » ونعرض عن ذكر حياة غيرهم من أجداده وأسلافهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن لا علاقة له بهذه الدراسة(١) .

أمّا « قُصَيّ » وهو الجدّ الرابع لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاُمّة « فاطمة » الّتي تزوجت برجل من بني كلاب ورزقت منه بولدين هما : « زهرة » و « قصي » إلاّ أن زوج فاطمة قد توفي ، وهذا الاخير لم يزل في المهد ، فتزوجت بزوج آخر يدعى ربيعة ، وسافرت معه إلى الشام ، وبقي « قصيّ » يحظى برعاية أبوية من ربيعة حتّى وقع خلاف بين قصيّ وقوم ربيعة ، واشتد ذلك الخلاف حتّى انتهى إلى طرده من قبيلتهم ، ممّا أحزن ذلك أُمّه ، واضطرت إلى إرجاعه إلى « مكة ».

وهكذا اتت به يد القدر إلى « مكة » ، وسبّبت قابلياته الكامنة الّتي برزت في تلك المدينة في تفوقه على أهل مكة وبخاصة قريش.

وسرعان ما احتلَّ قصيّ هذه المقامات العالية ، وشغل المناصب الرفيعة ، مثل حكومة « مكة » وزعامة قريش ، وسدانة الكعبة المعظمة ، وصار رئيس تلك الديار دون منازع.

ولقد ترك ( قصيّ ) من بعده آثاراً كثيرة وعديدة منها تشجيع الناس على بناء المساكن والبيوت حول الكعبة المعظمة ، وتأسيس مكان للشورى ليجتمع فيه رؤساء القبائل العربية من اجل التداول في الامور وحل المشاكل يدعى بدار الندوة.

وقد توفي « قصيّ » في القرن الخامس الميلادي وخلف من بعده ولدين هما :

« عبد الدار » و « عبد مناف ».

٣ ـ عبد مناف :

وهو الجدّ الثالث لرسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واسمه « المغيرة » ولقبه

__________________

١ ـ لقد بحث ابن الأثير في الكامل حول حياتهم فراجع : ج ٢ ، ص ١٥ ـ ٢١.

١٤٧

« قمر البطحاء » ، وكان أصغر من اخيه « عبد الدار » إلا أنه كان يحظى بمكانة خاصة عند الناس دون أخيه ، وكان شعاره التقوى ، ودعوة الناس إلى حسن السيرة وصلة الرحم ، بيد انه مع ما كان له من المكانة القوية لم ينافس اخاه « عبد الدار » في المناصب العالية الّتي كان يشغلها.

فقد كانت الزعامة لاخيه عبد الدار حسب وصيّة أبيهما « قصيّ ».

ولكن بعد وفاة هذين الأَخوين وقع الخصام والتنازع بين أَبنائهما على المناصب ، وانتهى ذلك بالصراع الطويل إلى اقتسام المناصب والمقامات ، وتقرر ان يتولى ابناء عبد الدار سدانة الكعبة ، وزعامة دار الندوة ، ويتولى ابناء عبد مناف سقاية الحجيج وضيافتهم ووفادتهم.

وقد بقي هذا التقسيم المتفق عليه ساري المفعول إلى زمن ظهور الإسلام(١) .

٤ ـ هاشم :

وهو الجدُّ الثاني لنبي الإسلام واسمه « عَمْرو » ولقبه « العُلاء » وهو الّذي وُلِدَ مع « عبد شمس » توأمين ، وأخواه الاخران هما : « المطلب » و « نوفل ».

هذا وثمة خلاف بين ارباب السيَر وكتاب التاريخ في أن هاشماً وعبد شمس كانا توأمين ، وأن هاشما ولد واصبعٌ واحدة من اصابع قدمه ملصقة بجبهة « عبد شمس » وقد نزعت بسيلان دم ، فتشاءم الناس لذلك(٢) يقول الحلبي في سيرته : فكانوا يقولون : سيكون بينهما دم فكان بين ولديهما اي بين بني العباس

__________________

١ ـ لم تكن هناك مناصب للكعبة يوم اُسّست ورُفعَ قواعدُها بل حدث كل ذلك تدريجاً بحكم المقتضيات والتطوّرات ، وكانت هذه المناصب التي استمرت إلى زمن ظهور الإسلام عبارة عن :

١ ـ سدانة الكعبة.

٢ ـ سقاية الحجيج.

٣ ـ رفادتهم وضيافتهم.

٤ ـ زعامة المكيين وقيادة جيشهم. ولم يكن هذا الأخير منصباً ذا صبغة دينية.

٢ ـ تاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ١٣.

١٤٨

( وهم من اولاد هاشم ) وبين بني امية ( وهم من اولاد عبد شمس )(١) .

وكأنّ كاتب السيرة قد تجاهل الحوادث المحزنة والمؤسفة الّتي وقعت بين بني امية وابناء عليعليه‌السلام في حين أن تلك الحوادث الدامية الّتي تسببها بنو امية واُهرقَت فيها دماء ذرية رسول الله وعترته الطاهرة ، اقوى شاهد على تلك العداوة بين هاتين الطائفتين ، ولكننا لا ندري لماذا تجاهل ذكرها مؤلف السيرة الحلبية ولم يشر اليها مطلقاً؟!

ثم ان من خصوصيات أبناء « عبد مناف » حسبما يُستفاد من الأدب الجاهلي ، وما جاء فيه من أشعار ، أنهم توفوا في مناطق مختلفة.

فهاشم ـ مثلا ـ توفي في « غزة » وعبد شمس مات في مكة ، ونوفل في ارض العراق ، والمطلب في ارض اليمن(٢) .

وكان من سجايا هاشم واخلاقه الفاضلة أنه كان كلّما هَلَّ هلال شهر ذي الحجة قام صبيحته ، وأسند ظهره إلى الكعبة المشرفة ، وخطب قائلا :

« يا معشر قريش إنكم سادة العرب وأحسنها وجوهاً ، وأعظمها احلاماً ( اي عقولا ) وأوسط العرب ( أي أشرَفها ) أنساباً ، واقرب العرب بالعرب أرحاماً.

يا معشر قريش إنكم جيرانُ بيت اللّه تعالى اكرمكُمُ اللّه تعالى بولايته ، وخصكم بجواره ، دون بني إسماعيل ، وانه ياتيكم زوّار اللّه يعظمون بيته فهم أضيافه وأحق من اكرم أضياف اللّه انتم ، فاكرموا ضيفه وزوّاره ، فانهم يأتون شعثاً غبراً من كل بلد على ضوامر كالقداح ، فاكرموا ضيفه وزوّار بيته ، فوربّ هذه البنية لو كان لي مال يحتمل ذلك لكفيتكموه ، وأنا مخرجٌ من طَيب مالي وحلاله ما لم يُقطعْ فيه رحم ، ولم يؤخذْ بظلم ، ولم يُدخل فيه حرامٌ ، فمن شاء منكم ان يفعل مثل ذلك فعلَ ، وأسألكم بحرمة هذا البيت أن لا يخرج رجلٌ منكم من ماله لكرامة زوّار بيت اللّه وتقويتهم إلا طيباً لم يؤخذ ظلماً ، ولم يقطع فيه رحمٌ ، ولم يؤخذ غصباً »(٣) .

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٥.

٣ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٤٩

ولقد كانت زعامة « هاشم » وقيادته نافعة للمكيّين من جميع النواحي ، وكان لها تأثيرٌ كبيرٌ في تحسين أوضاعهم.

ولقد سبّب كرمُه وما قام به من إطعام واسع في سنوات الجدب القاسية في تخفيف شدة الوطأة عن أهل مكة ، وبالتالي ادى إلى عدم احساسهم بالقحط ، وآثار الجدب.

كما أنّ من خطواته البارزة واعماله النافعة جداً لتحسين الحالة التجارية للمكيّين هو ما عقده مع أمير « غسان » من المعاهدة ، الأمر الّذي دفع بأخيه « عبد شمس » إلى أن يعاهد أمير الحبشة ، وبأخويه الآخرين « المطلب » و « نوفل » إلى ان يعاهدا أمير اليمن وملك ايران تكون القوافل التجارية بموجب تلك المعاهدات للجانبين في أمان ، من العدوان والتعرض.

وقد أزالت هذه المعاهداتُ الكثير من المشاكل ، وكانت وراء ازدهار التجارة في « مكة المكرمة » حتّى عهد بزوغ شمس الإسلام.

ثم ان من أعمال « هاشم » وخطواته النافعة تأسيسُه لرحلتي قريش اللتين يتحدث عنهما القرآن الكريم إذ يقول : « رحْلة الشتاء والصْيف » وهما رحلة إلى الشام ، وكانت في الصيف ، ورحلة إلى اليمن ، وكانت في الشتاء ، وقد استمرت هذه السيرة حتّى ما بعد ظهور الإسلام ايضاً.

اُميّة بن عبد شمس يحسد هاشماً :

ولقد حسد « اُمية بن عبد شمس » أبن أخي هاشم عمَّه « هاشماً » على ماحظي به من المكانة والعظمة ، والنفوذ إلى قلوب الناس وجذبها نحوه بسبب خدماته وأياديه ، وما كان يقوم به من بذل وانفاق ، وحاول جاهداً ان يقلده ويتشبه بهاشم في سلوكه ولكنه رغم كل ما قام به من جهود ومحاولات لم يستطع أن يتشبه به ويتخذ سيرته ، وكما لم يستطع بايقاعه وطعنه به ان يُقلل من شأنه بل زاده رفعة وعظمة.

لقد كان لهيب الحسد في قلب « اُمية » يزداد اشتعالا يوماً بعد يوم ، حتى

١٥٠

دفع به إلى ان يدعو عمَّه « هاشماً » للذهاب إلى كاهن من كهنة العرب للمنافرة عنده فتكون الرياسة والزعامة لمن يمدحه ذلك الكاهن ، وكانت عظمة « هاشم » وسموّ مقامه تمنع من منافرة ابن اخيه ( اُميّة ) إلاّ أنه رضي بالمنافرة هذه تحت اصرار ( اُميّة ) بشرطين :

١ ـ أن يعطي المغلوبُ خمسين من النيَاق سود الحدق تنحر بمكة.

٢ ـ جلاء المغلوب عن مكة عشر سنين.

ومن حسن الحظِّ أن ذلك الكاهن نَطق بمدح « هاشم » بمجرد أن وقعت عيناه عليه فقال : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر لقد سبق هاشمُ اُميّة إلى المآثر » إلى آخر كلامه. وهكذا قضى لهاشم بالغلبة فأخذ الابل فنحرها وأطعمها واضطر أُمية إلى الجلاء عن مكة والعيش بالشام عشر سنين(١) .

وقد استمرتْ آثارُ هذا الحسد التاريخي إلى ١٣٠ عاماً بعد ظهور الإسلام ، وتسببت في جرائم وفجائع كبرى عديمة النظير في التاريخ.

ثم ان القصة السابقة مضافاً إلى انها تبين مبدأ العداوة بين الأُمويين والهاشميين تبيّن أيضاً علل نفوذ الاُمويين في البيئة الشامية ، ويتبين أن علاقات الأُمويين العريقة بأهل هذه المنطقة هي الّتي مَهّدت لقيام الحكومة الأموية في تلك الديار.

هاشم يَتَزوَّج

كانت « سلمى » بنت « عمرو الخزرجي » امرأة شريفة في قومها ، قد فارقت زوجها بطلاق ، وكانت لا ترضى بالزواج من أحد ، ولدى عودة « هاشم » من بعض أسفاره نزل في يثرب أياماً فخطبها إلى والدها ، فرغبت سلمى فيه لشرفه في قريش ، ولنبله وكرمه ، ورضيت بالزواج منه بشرطين : أحدهما أن لا تلد ولدها

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ١٠ ، والسيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

١٥١

إلاّ في اهلها ، وحسب هذا الاتفاق بقيت « سلمى » مع زوجها « هاشم » في مكة بعض الوقت حتّى إذا ظهر عليها آثار الحمل رجعت إلى : « يثرب » وهناك وضعت ولداً اسموه « شيبة ». وقد اشتهر في ما بعد ب‍ « عبد المطلب ».

وكتب المؤرخون في علة تسميته بهذا الاسم بأن هاشماً لما أحسّ بقرب انصرام حياته قال لاخيه « المطلب » : يا أخي أدرك عبدك شيّبة. ولذلك سُمّيَ شيبة بن هاشم : « عبد المطلب ».

وقيل أن أحد المكيين مرّ على غلمان يلعبون في زقاق من ازقة يثرب ، وينتضلون بالسهام ، ولما سبق أحدُهم الآخرين في الرمي قال مفتخراً : « أنا ابنُ سيّد البطحاء » فسأله الرجل عن نسبه وابيه فقال : أنا شيبة بن هاشم بن عبد مناف ، فلما قدم الرجلُ مكة اخبر « المطلب » أخي « هاشم » بما سمعه ورآه ، فاشتاق « المطلبُ » إلى ابن أخيه فذهب إلى المدينة ، ولما وقعت عيناه على ابن اخيه « شيبة » عرف شبه أخيه هاشم ، وتوسَّم فيه ملامحه ، ففاضت عيناه بالدموع ، وتبادلا قُبُلات الشوق ، والمحبة ، وأراد أن ياخذه معه إلى « مكة » وكانت اُمُه تمانع من ذلك ، ولكن ممانعتها كانت تزيد من عزم العمّ على أخذه إلى « مكة » واخيراً تحققت اُمنية العم فقد استطاع « المطلبُ » أن يحصل على اذن اُمه ، فاردفه خلفه وتوجّه حدب « مكة » تدفعه رغبة طافحة إلى إيصاله إلى والده هاشم.

وفعلت شمسُ الحجاز واشعتها الحارقة فعلتها في هذه الرحلة فقد غيَّرت لون وجه شيبة وأبلت ثيابه ، ولهذا ظنَّ أهل « مكة » عند دخوله مع عمه « مكة » أنه غلام اقتناه « المطلبُ » فكان يقول بعضهم لبعض : هذا عبد المطلب ، وكان المطلب ينفي هذا الامر ، ويقول : إنما هو ابن أخي هاشم وما هو بعبدي ، ولكن ذلك الظن هو الآخر فعل فعلتَه ، وعُرف « شيبة » بعبد المطلب(١) .

وربما يقال : أن سبب شهرته بهذا الإسم هو انه تربى وترعرع في حجر عمّه

__________________

١ ـ الكامل لابن الاثير : ج ٢ ، ص ٦ ، وتاريخ الطبري : ج ٢ ، ص ٨ و ٩ ، السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٦.

١٥٢

« المطلب » وكانت العربُ تسمي من يترعرع في حجر أحد وينشأ تحت رعايته عبداً لذلك الشخص تقديراً لجهوده وتثميناً لرعايته.

٥ ـ عبدُ المطّلب :

عبدُ المطّلب بن هاشم وهو الجدّ الأول للنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان رئيس قريش وزعيمها المعروف ، وكانت له مواقف بارزة ، وأعمال عظيمة في حياته ، وحيث أن ما وقع من الحوادث في ايام حكمه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بتاريخ الإسلام ولهذا يتعين علينا دراسة بعض تلكم الحوادث والوقائع.

لا شك أن المرء مهما تمتع بنفسية قوية فانه سيتأثر ـ في المآل ـ ببيئته وعاداتها ، وتقاليدها ، الّتي تصبغ فكره ، بصبغة خاصة ، وتطبع عقليته بطابع معين.

بيد أن هناك بين الرجال من يقاوم تاثير العوامل البيئية بمنتهى الشهامة والشجاعة ، ويصون نفسه من التلوث بشيء من أدرانها وأقذارها.

وبطلُ حديثنا هنا هو احد النماذج الصادقة لاولئك الرجال العظماء لان في حياته صفحات مشرقة عظيمة ، وسطوراً لا معة تنبئ عن نفسيته القوية ، وشخصيته الشامخة.

فان الّذي يعيش ثمانين عاماً في وسط اجتماعي تسود فيه الوثنية ، ومعاقرة الخمر ، والربا ، وقتل الأنفس البريئة ، والفحشاء حتّى ان هذه الامور كانت من العادات والتقاليد الشائعة ، ولكنه مع ذلك لم يعاقر الخمر طوال حياته ، وكان ينهى عن القتل والخمر والفحشاء ، ويمنع عن الزواج بالمحارم ، والطواف بالبيت المعظم عرياناً ، وكان ملتزماً بالوفاء بالعهد ، واداء النذر بلغ الامر ما بلغ ، لهو ـ حقاً ـ نموذجٌ صادقٌ من الرجال الذين يندر وجودُهم ، ويقل نظيرهم في المجتمعات.

أجل إن شخصية اودعت يد المشيئة الربانية بين حناياها نور النبي الاكرم أعظم قائد عالمي ، يجب ان يكون إنساناً طاهر السُلوك ، نقيَّ الجيب منزهاً عن أي نوع من أنواع الانحطاط ، والفساد.

١٥٣

هذا ويستفاد من بَعض قصصه وكلماته القصار أنه كان أحد الرجال المعدودين الذين كانوا يؤمنون باللّه واليوم الآخر في تلك البيئة المظلمة ، وكان يردِّدُ دائماً : « لَنْ يخرج من الدنيا ظلومٌ حتّى ينتقم منه ، وتصيبُه عقوبة واللّه ان وراء هذه الدار داراً يجزى فيها المحسنُ بإحسانِه ، ويعاقَبُ فيها المسيء باساءته »(١) اي ان الظلوم شأنه في الدنيا أن تصيبه عقوبة ، فاذا خرج ولم تصبه العقوبة فهي معدّة له في الآخرة.

ولقد كان « حرب بن اُمية » من أقربائه ، وكان من اعيان قريش ووجوهها أَيضاً ، وكان يجاور يهودياً فاتفق أن وقع بينه وبين حرب نزاع في بعض اسواق تهامة ، تبودلت بينهما فيه كلمات جارحة ، وانتهى ذلك إلى مقتل اليهودي بتحريك من « حرب » ، ولما علم « عبدُ المطّلب » بذلك قطع علاقته بحرب ، وسعى في أستحصال دية اليهودي المقتول من « حرب » ودفعها إلى اولياء القتيل ، وهذه القصة تكشف عن حبّ عبد المطلب للمستضعفين والمظلومين وحبه للحق والعدل.

حَفرُ زَمزَم :

منذ أن ظهرت عين زمزم نزلت عندها قبيلة جُرهم الّتي كانت بيدها رئاسة مكة طوال سنين مديدة ، وكانت تستفيد من مياه تلك العين ، ولكن مع ازدهار أمر التجارة في « مكة » ، واقبال الناس على الشهوات والمفاسد آل الأمر إلى جفاف تلك العين ، ونضوب مائها بالمرة(٢) .

ويقال : أن قبيلة « جُرهُم » لما واجهت تهديداً من جانب قبيلة خزاعة

__________________

١ ـ السيرة الحلبية : ج ١ ، ص ٤.

٢ ـ لا ريب أنّ تفشي الذنوب والمعاصي بين الناس من عوامل نزول البلايا والكوارث ولا يبعد أن تكون الأعمال المخزية من موجبات الجدب والقحط والمجاعات ، وهذه الحقيقة مضافاً إلى انطباقها على القواعد الفلسفية ممّا صرح به القرآن الكريم والسنّة الشريفة ، راجع سورة الأعراف ، الآية : ٩٦.

١٥٤

واضطرت إلى مغادرة تلك الديار ، وايقن زعيمها « مضامن بن عمرو » بانه سرعان ما يفقد زعامته ، ويزول حكمه وسلطانه بفعل هجوم العدو ، امر بان يُلقى الغزالان الذهبيان ، والسيوف الغالية الثمن الّتي كانت قد اُهديت إلى الكعبة ، في قعر بئر زمزم ، ثم يملأ البئر بالتراب ويعفى اثره إعفاء كاملا حتّى لا يهتدي خصومه إلى مكانه ابداً ، حتّى إذا عادت إليه زعامته وعاد إلى مكة استخرج ذلك الكنز الدفين ، واستفاد منه. ثم نشب القتال بين « جرهم » و « خزاعة » واضطرت « جرهم » وكثير من ابناء اسماعيل إلى مغادرة « مكة المكرمة » ، والتوجه إلى ارض اليمن ، ولم يرجع أحدٌ منهم إلى « مكة » ابداً.

ووقعت زعامة مكة منذ هذا التاريخ بيد « خزاعة » حتّى بزغ نجم قريش في سماء مكة بوصول قصيّ بن كلاب ( الجدَ الرابع لنبي الإسلام ) إلى سدة الزعامة والرئاسة ، ثم بعد مدة انتهى امر الزعامة إلى « عبد المطلب » فعزم على أن يحفر بئر « زمزم » من جديد ، ولكنه لم يعرف بموقع البئر معرفة كاملة حتّى إذا عثر عليه بعد بحث طويل قرّر ان يهيء هو وولده « حارث » مقدمات ذلك.

وحيث أنه « يوجد في المجتمع دائماً من يتحجّج ويجادل ـ بسبب سلبيته ـ ليمنع من أي عمل ايجابي مفيد ، انبرى منافسوا « عبد المطلب » إلى الاعتراض على قراره هذا وبالتالي التفرد باعادة حفر بئر زمزم ، لكيلا يذهب بفخر هذا العمل العظيم ، وقالوا له : إنها بئر أبينا اسماعيل ، وان لنا فيها حقاً فاشركنا معك » ولكن « عبد المطلب » رفض هذا الطلب لبعض الاسباب ، فقد كان « عبد المطلب » يريد ان يتفرد بحفر زمزم ، ويسبّل ماءها ليسقي منها جميع الحجيج دون مانع ولا منازع ، ويحول بذلك دون المتاجرة به ولم يكن ليتسنى له ذلك إلاّ إذا قام بحفر زمزم بوحده دون مشاركة من قريش.

وقد آل هذا الأمر إلى النزاع الشديد فتقرر أن يتحاكموا إلى كاهن من كهنة العرب وعقلائهم والقبول بما يقضي به ، فتوجه « عبد المطلب » ومنافسوه إلى ذلك الكاهن وقطعوا الصحارى القاحلة بين الحجاز والشام ، وفي منتصف الطريق أصابهم جهدٌ وعطش شديدان ، ولمّا تيقَّنوا بالهلاك ، وقرب الوفاة اخذوا

١٥٥

يفكرون في كيفية الدفن إذا هلكوا وماتوا ، فاقترح « عبد المطلب » ان يبادر كلُ واحد إلى حفر حفرته حتّى إذا أدركهُ الموت دفنه الآخرون فيها ، فاذا استمر بهم العطش وهلكوا يكون الجميع ( ما عدا من بقي منهم على قيد الحياة ) قد اُقبروا ، ولم تغد ابدانهم طعمة للوحوش والطيور فأيَّد الجميع هذا الاقتراح(١) ، واحتفر كل واحد منهم حفيرة لنفسه ، وجلسوا ينتظرون الموت بوجوه واجمة ، وعيون ذابلة ، وفجأة صاح عبد المطلب : « واللّه إن إلقاءنا بأيدينا هكذا للموت لا نضربُ في الأرض ونبتغي لأنفسنا لعجزٌ » وحثهم على البحث عن الماء في تلك الصحراء بصورة جماعية عسى ان يجدوا ما ينقذهم من الموت ، فركب عبد المطلب وركب مرافقوه ، واخذوا يبحثون عن الماء يائسين غير مصدّقين ، ولم يمض شيء حتّى ظهرت لهم عين ماء عذبة انقذتهم من الموت المحتم ، وعادوا من حيث جاؤوا وهم يقولون لعبد المطلب : « قد واللّه قضى لك علينا يا عبد المطلب ، واللّه لا نخاصمك في زمزم أبداً ، إن الّذي سقاك هذا الماء بهذه الفلاة لهو الّذي سقاك زمزم ، فارجع إلى سقايتك راشداً وتنازلوا له لينفرد بحفر زمزم ويكون إليه أمره دون منازع ، ولا شريك »(٢) .

فعمد « عبد المطلب » وولده الوحيد الحارث إلى حفر البئر ، ونشأ من ذلك تلٌ هائلٌ من التراب حول البئر ، وفجأة عثر « عبد المطلب » على الغزالين المصاغين من الذهب ، والسيوف المرصعة المهداة إلى الكعبة ، فشبَّ نزاع آخر بين « قريش » وبين « عبد المطلب » على هذه الاشياء ، واعتبرت « قريش » نفسها شريكة في هذا الكنز ، وتقرر ان يلجأوا إلى القرعة لحل هذا المشكلة ، فخرجت القرعة باسم « عبد المطلب » ، وصار جميع ذلك الكنز إليه دون « قريش » ، ولكن عبد المطلب خصَ بتلك الاشياء الكعبة فصنع من السيوف باباً للكعبة ، وعلق الغزالين الذهبيّين فيها.

__________________

١ ـ ولعلّ احجام الآخرين من الاداء بالاقتراح وهو اليأس المطلق من تحصيل الماء.

٢ ـ تاريخ اليعقوبي : ج ١ ، ص ٢٠٦ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٤٢ ـ ١٤٧.

١٥٦

التفاني في سبيل الوفاء بالعهد والنذر :

رغم ان العرب الجاهليين كانوا غارقين في الفساد الأخلاقي فانهم كانوا يتحلون ببعض الصفات الحسنة ، والخصال المحبَّبة.

وللمثال كان نقض العهود من أقبح الافعال في نظرهم ، فاذا عقدوا عهوداً مع القبائل العربية أو ثقوها بالأيمان ، المغلظة المؤكدة ، والتزموا بها إلى الاخير ، وربما نذروا النذور الثقيلة واجتهدوا في اداءها مهما كلف ذلك من مشقة وثمن.

ولقد أحسَّ « عبد المطلب » عند حفر بئر زمزم بالضعف في قريش لقلة اولاده ، ولهذا نذر إذا رزقه اللّه تعالى عشرة بنين أن يقدم أحدهم قرباناً للكعبة ولم يُطلِعْ احداً على نذره هذا.

ولم يمض زمان الاّ وبلغ عَدَدُ ابنائه عشرة ، وبذلك حان أوان وفائه بنذره الّذي نذر ، وهو ان يذبح احدهم قرباناً للكعبة.

ولا شك ان تصور مسألة كهذه فضلا عن تنفيذه كان امراً في غاية الصعوبة على عبد المطلب ، ولكنه كان في نفس الوقت يخشى ان يعجز عن تحقيق هذا الامر فيكون من الناقضين للعهد ، التاركين لاداء النذر ، ومن هنا قررأن يشاور ابناءه في هذا الامر ، وبعد ان يكسب رضاهم وموافقتهم يختار احدهم للذبح بالقرعة(١) .

وتمت عملية القرعة ، فاصابت « عبدَ اللّه » والد رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاخذ عبد المطلب بيد ابنه ، وتوجَّه من فوره إلى حيث يذبحه فيه.

ولما علمت قريش رجالُها ونساؤها بقصة النذر المذكور وما آلت إليه عملية القرعة حَزِنَ الناس والشباب خاصة لذلك حزنا شديداً وبكوا وضجوا ، وقال أحدُهم ليتني ذبحت مكان هذا الشاب.

__________________

١ ـ هذه القضية ذكرها كثير من المؤرخين وكتّاب السيرة ، وهذه القصّة إنّما هي جديرة بالاهتمام من جهة أنها تجسّد مدى إيمان « عبد المطلب » وقوّة عزمه ، وصلابة إرادته ، وتبين جيّداً كم كان مصرّاً على الوفاء بعهوده والتزاماته.

١٥٧

فاقترحت قريشٌ على عبد المطلب بان يفدي « عبد اللّه » ، واظهروا استعدادهم لدفع الفدية إذا جاز ذلك ، فتحيّر « عبد المطلب » تجاه تلك المشاعر الساخنة ، والاعتراضات القوية ، وراح يفكّر في عدم الوفاء بنذره ، ويفكر في نفس الوقت في الحصول على مخلص معقول من هذه المشكلة ، فقال له أحدهم : لا تفعل وانطلق إلى أحد كهنة العرب عسى أن يجد لك حلا.

فوافق « عبد المطلب » واكابر قريش على هذا الاقتراح ، وتوجهوا بأجمعهم نحو « يثرب » قاصدين ذلك الكاهن ، ولما قدموا عليه سألوه في ذلك فاستمهلهم يوماً واحداً ، ولما كان اليومُ الثاني دخلوا عليه فقال لهم : كم دية المرء عندكم؟ قالوا : عشرٌ من الابل.

فقال : إرجعوا إلى بلادكم ، وقَرّبوا عشراً من الإبل واضربوا عليها وعلى صاحبكم « أي عبد اللّه » القداح فان خرجت القرعة على صاحبكم فزيدوا عشراً ، حتّى يرضى ربُكم ، وإن خرجت على الإبل فانحروها فقد رضي ربُكم ونجا صاحبكم وكانت عنه فداء.

فهدَّأ اقتراحُ الكاهن لهيبَ المشاعر الملتهّبة لدى الناس ، لأن نحر مئات الابل كان أسهل عليهم من أن يشاهدوا شاباً مثل « عبد اللّه » يتشحط في دمه.

ولهذا فانهم فور عودتهم إلى « مكة » بادروا إلى اجراء القرعة في مجمع كبير من الناس وزادوا عشراً عشراً حتّى إذا بلغ عدد الإبل مائة خرجت القداح على الإبل ، ونجا « عبد اللّه » من الذبح ، فأحدث ذلك فرحة كبيرة لدى الناس ، بيدَ أَن « عبد المطلب » طلب أن تُعاد عملية القرعة قائلا : « لا واللّه حتّى أضربَ ثلاثاً » ، وأنما أراد ذلك ليستيقن ان ربه قد رضي عنه ، ولكن في كل مرة كانت القداح تخرج على الإبل المائة فنحرت الابلُ ثم تركت لا يمنع عنها انسانٌ ولا سبع(١) .

__________________

١ ـ السيرة النبوية : ج ١ ، ص ١٥٣ ، وبحار الانوار : ج ١٦ ، ص ٧٤ ، وقد نُقلّ عن النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : « أنا ابْن الذبيحين » يقصدُ بالأَول جدّه إسماعيلعليه‌السلام والثاني أباه « عبد اللّه » الّذي كاد أن ينحر ولكنه نجا من الذبح كما نجا جدُّه إسماعيلعليه‌السلام .

١٥٨

حادثة عام الفيل :

عندما يحدُثُ أمرٌ عظيم في امّة من الاُمم وخاصة إذا كان ذا جذور دينية أو ذا مدلولات قومية أو سياسية فانه سرعان ما يتحول ـ بفعل اعجاب الناس عامة به ـ إلى مبدأ للتاريخ.

فقيام النبي موسى يعتَبر مبدأ للتاريخ عند اليهود ، ومولد السيّد المسيح يعتبر مبدأ للتاريخ عند النصارى ، والهجرة النبوية الشريفة تعتبر مبدأ للتاريخ عند المسلمين.

وهذا يعني أن كل امّة من الاُمم تقيس حوادثها من حيث الزمان بذلك الحدث الّذي تعتبره بداية تاريخها.

وأحياناً تتخذُ الاُمم والشعوب بعض الحوادث مبدأ للتاريخ مع انها تملك مبدأ سياسياً للتاريخ ، كما نلاحظ ذلك في بلاد الغرب وشعوبه ، فقد اتخذت الثورةُ الفرنسية ، وثورة اكتوبر الشيوعية مبدأ للتاريخ في فرنسا ، والاتحاد السوفياتي ، بحيث اصبح يقاس بهما كل ما وقع من الحوادث بعدهما.

ولكن الشعوب غير المتحضرة الّتي لم تمتلك مثل تلك الثورات والحركات السياسية والدينية كان من الطبيعي أن تتخذ الحوادث الخارقة للعادة مبدأ لتاريخها بدلا من الثورات والتحوّلات الاجتماعية ، وهذا ما حدث عند العرب وقبل الإسلام.

فانهم ـ بسبب حرمانهم من حضارة صحيحة ـ اتخذوا من بعض الوقائع المفجعة والمرة ـ كالحرب والزلزال ، والمجاعة والقحط أو الحوادث غير الطبيعية ، الخارقة العادة مبدأ لتاريخهم.

ولهذا نجد مبادئ متعددة للتاريخ عند العرب ، آخرها : ضجة عام الفيل وهجوم « أبرهة » على « مكة » بهدف الكعبة المشرفة ، الّتي صارت في ما بعد مبدأ للتاريخ تؤرخ ـ بقية الحوادث والوقائع اللاحقة.

ونظراً لأهمية هذا الحدث التاريخي العظيم الّذي وقع عام ٥٧٠ وأتفقت فيه

١٥٩

ولادة النبي الكريمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاننا نتناول هذه القصة بالعرض والتحليل :

ما هي عوامل هذه الحادثة؟

لقد ذكرت قصة أصحاب الفيل في القرآن بصورة مختصرة ، وسوف ننقل ـ هنا ـ الآيات الّتي نزلت حول هذه القصة بعد حوادثها.

يكتب المؤرخون عن علة هذه الحادثة ان ملك اليمن « تُبان أسعد » والد ذي نواس بعد ان أرسى قواعد حكمه مر في احدى رحلاته على يثرب ( المدينة ) ، وقد كانت ل‍ « يثرب » في ذلك الوقت مكانةٌ دينيةٌ مرموقةٌ فقد قطنها جماعة من اليهود(١) ، وبنوا فيها عدداً من المعابد والهياكل ، فأكرم اليهودُ مقدم ملك اليمن ، ودعوه إلى دينهم ليستطيعوا في ظل حكمه حماية أنفسهم من أذى المسيحيين الروميين ، والمشركين العرب.

ولقد تركت دعوتهم وما رافقها من اساليب مؤثرة اثرها في نفس ذلك الامير واختار اليهودية ، واجتهد في بثها ونشرها. ثم ملك من بعده ابنه « ذونواس » الّذي جدّ في بث اليهودية والتحق به جماعة خوفاً.

بيد أن اهل نجران الّذين كانوا قد دانوا بالمسيحية قبل ذلك امتنعوا من تغيير دينهم وترك المسيحية واعتناق اليهودية ، وقاوموا « ذي نواس » مقاومة شديدة ، فشق ذلك على ملك اليمن ، واغضبه فتوجه احد قادته إلى نجران على رأس جيش كبير لتأديب المتمردين من أهلها فعكسر هذا الجيش على مشارف نجران ، واحتفر قائدة خندقاً كبيراً ، واوقد فيه ناراً عظيمة ، وهدّد المتمردين بالاحراق بالنار.

ولكن أهل نجران الذين احبّوا المسيحية واعتنقوها برغبة كبيرة اظهروا شجاعة كبرى ، واستقبلوا الموت حرقاً ، وغدوا طعمة للنيران.

يقول المؤرخ الإسلاميُّ « ابنُ الاثير الجزري » بعد ذكر هذه القصة : لما قتل

__________________

١ ـ وفاء الوفا : ج ١ ، ص ١٥٧ ، والسيرة النبوية : ج ١ ، ص ٢١ و ٢٢.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477

478

479

480

481

482

483

484

485

486