تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 95967
تحميل: 7607


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95967 / تحميل: 7607
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

على طريق الساحل، وكان معهم الشيخ ظاهر حاكم الزاوية، ويوسف الشمر مِن كفر حانا، فعسكر الجبل شتّت المتاولة، فهرب بعضهم إلى ناحية بعلبك، وفرّ بعضهم في وادي المسيحان نحو الساحل، فالتقاهم العسكر الآتي مِن الساحل، فنكّل بهم، واحرق مزارعهم الّتي كانت بساحل جبيل، ولكنْ بينما كان بشارة كرم عائداً مع رجاله تحت المغيرة كَمِنَ له بعض المتاولة فقتلوه وستّة مِن رجاله.

وفي سنة ١٧٦٤م (ص٤٢٣): توجّه مشايخ الجبة إلى الأمير منصور الشهابي، فولاّهم على بلادهم، وأمدهم أيضاً بمُحافظين لردع المتاولة عن التعدّي، فلم يكن ذلك كافياً لكبتهم عن إقلاق أهل البلاد، إلى أن كان ما ذكرناه في عدد ١٠٤٢ مِن أن المشايخ الحماديّة دهموا الأمير بشير حيدر نائب الأمير يوسف في بلاد جبيل (تقدّم ذِكر ذلك).

وفي سنة ١٨٦١م وضع المشايخ المذكورون يدهم على بكاليك المتاولة واستمروا على ذلك إلى أن صالح المشايخ أهل القرى البكاليك على حقوقهم بها أو باعوهم هذه الحقوق.

ما كتبه الخالدي في تاريخه: لبنان في عهد الأمير فخر الدين المعني عن المشايخ الحماديّة:

في سنة ١٠٢٦هـ ١٦١٧م: وصل إلى الأمير علي - ابن الأمير فخر الدين المعني - وهو بصيدا خبر أنّ الأمير سليمان بن سيفا في برج تولا انحصر؛ وسبب ذلك أنّ أولاد حمادة وأولاد الشاعر وقفوا عند الأمير سليمان لمّا حَكَمَ البلاد، وجعلوا يُحسّنون له إبعاد جماعة ابن معن عنه، وقالوا له:

لا ينالك منهم إلاّ الكُلفة عليهم، ونحن لا نُحوجك إليهم. فأعطى إجازة لمَن كان عنده منهم، وهم أولاد الخازن والكساردة، وما بقي عنده أحد منهم يُناظر المذكورين، فعند ذلك كاتب أولاد حمادة وأولاد الشاعر يوسف باشا، فعين رجالاً كبسوا الأمير سليمان في تولا وحصروه في البُرج، فأرسل الأمير سليمان يُعلم الأمير عليّ بن معن بما كان، وفي الحال عيّن الأمير علي رجال بلاد صيدا مع مصطفى كتخدا، ورجال الغرب والجرد مع الأمير ناصر الدين، ورجال المتن مع بيت أبي اللمع المُقدّمين،

١٤١

ورجال كسروان مع طويل حسين بلوكباشي، فتوجّه الجميع برجالهم، وأرسل أيضاً إلى حسين اليازجي أن يتّجه إلى صيدا برجال بلد صفد وبلاد بشارة والشقيف حتّى لو احتاج الأمر يتوجّه الأمير علي نفسه ويأخذهم معه، فمع وصول حسين اليازجي - وكان وصوله لصيدا في شهر ربيع الثاني - بالرجال وصلت الأخبار أنّ الأمير سليمان سَلّم؛ لعدم وجود العازق، وقلّة وجوده عنده، وأخذوه إلى عمّه بترسيم حَشَمه إلى عكار، وكان ذلك في شهر جمادى الآخر مِن السَنة المذكورة، ولمّا واجه حسين باشا الجلالي سابقاً أرسل عمّه يوسف باشا دفع على سكّ الأمير سليمان خمسة وعشرين ألف قرش، وكان مصطفى كتخدا وصل بالرجال الّذين معه إلى نهر إبراهيم، فتشاور الأمير علي مع حسين اليازجي فاعتمد أريهما أنّهما يأمران العساكر الّذين تَقدّموهم أن يصلوا إلى قُرى أولاد حمادة وأولاد الشاعر لينهبوهم ويُحرقوهم، ففعلوا ذلك، وعاد كُلّ منهم إلى موضعه.

وفي سنة ١٠٣٠هـ ١٦٢٠م: وقد تقدّم ذِكر هذه الحادثة الّتي يذكرها الخالدي في هذه السَنة فلا يُفيد ذكرها.

هذا كُلّ ما كَتبه الخالدي عن الحماديّة.

ونقف فيما وقفنا عليه مِن المصادر عند هذا الحدّ، باحثين عن مصادر تاريخيّة أُخرى نعرض لذكرهم وذكر أواخرهم، والله المُوفّق والمُسدّد وهو حسبنا ونعم الوكيل.

صار الانتهاء مِن كتابة هذا التاريخ عن هذه الأُسرة الّتي لعبت دوراً مُهمّاً في عهد الأحكام الإقطاعيّة صبيحة يوم الأحد في ١٣ جمادى الآخرة سنة ١٣٦١، و٢٨ حزيران سنة ١٩٤٢.

إنّ ما دونْتُهّ مِن تاريخ هذه الأُسرة هو ما رواه مَن عزوته إليهم مِن المُؤرِّخين، ولم نعلم مصادره، وهو لا يختلف عمّا كتبوه عن غير هذه الأُسرة مِن الأُسر اللبنانية غير معزوّة في جُلّها إلى مصادر معروفة، وكان واجبهم التاريخي يُحتّم عليهم أنْ يستمدّوا معلوماتهم مِن رجالات الأُسر، ولكنّهم لم يفعلوا ذلك.

وإنّ مَن يدّعي انتسابه إلى عشيرة، فالعادة المُتّبعة في الأنساب أن تُقرّ دعواه إلى أنْ يَعرض ما يُفسدها بدليل مقبول، والحماديّون معروف عندهم متناقل لديهم أنّهم عَرَبٌ أقحاح ينتسبون إلى هاني بن عروة المذحجي، وإنّ

١٤٢

أوائلهم كأوائل كثيرين مِن العرب الّذين كانوا يُهاجرون مِن بلادهم إلى البلاد الّتي انضوت تحت لواء السُلطان العربي الإسلامي لدوافع وعوامل كثيرة، وما زال في بلاد الفُرس، وفي غيرها مِن بلاد الأعاجم مَن هو مُحتفظ بنَسَبِه العربي.

ولمّا وقع بينهم وبين شاه إيران ما وقع، هجروا إيران بعشائرهم البالغة ثلاثين أُسرة إلى البلاد الشاميّة، فأقاموا في بعض جهات حلب مُدّة ثلاثة أشهر، ولمّا كانت لهم قواعد خاصّة في الزواج فلا يُصاهرون غير ذوي أرحامهم، فأراد بعض رجال عرب الموالي مُصاهرتهم على كريمة مِن كرائمهم، فأبوا ذلك عليه تَمسّكاً بتلك العادة، وأدّى ذلك إلى نزاع فحرب بين الفريقين، انتهى بفوز الموالي لكثرة عددهم، ولانضمام الكثير مِن القبائل العربيّة في تلك البوادي إليهم، فاضطرّوا للنزوح إلى لبنان وسُكنى القُرى الّتي دخلت في إقطاعهم، وامتدّ حُكمهم فيها إلى العهد الّذي ألغت فيه الدولة العثمانية الحُكم الإقطاعي مِن البلاد الشامية.

أمّا الأُسر الثلاثون المُنتمية إلى الحماديّة، فهي كما تلقيت ذلك في الهرمل عن الزعيم الكبير المرحوم محمّد سعيد باشا:

١ - شريف، ٢ - الحاج يوسف، ٣ - مِلحم، ٤ - زعيتر، ٥ - شمص، ٦ - ناصر الدين، ٧ - عواد، ٨ - دندش، ٩ - علّوه، ١٠ - جعفر، ١١ - المقداد، ١٢ - حجولا، ١٣ - قمهز، ١٤ - خير الدين، ١٥ - النمر، ١٦ - نون، ١٧ - الحاج حسن، ١٨ - جنبلاط، ٢٠ - بلوط، ٢١ - المستراح، ٢٢ - الحجل، ٢٣ - صفوان، ٢٤ - علام، ٢٥ شقير، ٢٦ - بدير، ٢٧ - حيدر أحمد، ٢٨ - عمرو، ٢٩ - أبو حيدر، ٣٠ - همدر.

١٤٣

١٤٤

تاريخُ البويهِيّين

الحمد لمَن له الحمد، ومَن إلى جلاله ينتهي كلُّ مجد، المخصوص بالكبرياء والجبروت، والمُلك والملكوت، مُصرّف الأُمور مِن حال إلى حال، ومُقلّب القُلوب والأبصار، يَعزّ مَن يشاء ويُذل مَن يشاء، بيده الأُمر وإليه مرجع العباد، والصلاة على أفضل مبعوث خُتمتْ بنبوّته النبوّات، وانتهت إليه الباقيات الصالحات، وعلى آله المخصوصين بالكرامات، وأصحابه القادة الهُداة.

وبعد، فإنّا نُدوِّن بهذا الجُزء مِن أجزاء تاريخ الشيعة السياسي أخبار مُلوك بني بويه، الّذين بلغوا مِن النُفوذ والسلطان في عهدِ تراجُع الخلافة العباسيّة ما سَتَراه مبسوطاً في هذا الجُزء إن شاء الله.

أوَّليَّتُهُم:

لم يكن لأوَّلهم سابق إمرة، ولا عهد في ولاية، بل ولا مَرفق مِن مَرافق الحياة يَدرُّ عليهم بالثروة، ويُمتّعهم بالرخاء، ويرفه عليهم ولو بعض الترفيه، بل اتّفق مَن أرّخ أوَّليتهم أنّ بويه - مُنجِب المُلوك البويهيّين ومَن إليه ينتسبون - كان يرتفق مِن كُلِّ مرافق الحياة، ويحترف مِن كُلِّ ما فيها مِن حِرف، لا لتحصيل دُنيا واسعة أو ثروة طائلة أو مُلك ثابت، بل لبُلوغ أيسر بلغة يبلغ بها الكَفاف، فحسب حِرفة صيد السمك، ويَحتطب بنوه الحَطب على رؤوسهم، حتّى كان مُعزّ الدولة بعد تَملُّكه البلاد يَعترف بنعمة الله تعالى، ويقول: كُنتُ أحتطب الحطب على رأسي.

وأمّا ابن خلدون، فإنّه يقول: إنّ بويه كان مِن رجالات الدَيلَم.

١٤٥

رُؤيا بويهٍ وتَأَويلُ المُنجِّمِ لها:

ذَكرَ هذه الرُؤيا غير واحد مِن المؤرّخين، ومنهم: ابن الأثير في كامله، وابن كثير في بدايته، وابن الطقطي في الآداب السلطانية. وسكت عن روايتها ابن خلدون وأبو الفداء، ولا نذكرها؛ لأنّه لا يَتعلّق بها كبيرُ أمر.

ومُلخّص تأويل المُنجّم لها بامتلاك أولاده الثلاثة وأعقابهم، وهُم: عماد الدولة أبو الحسن علي، وركن الدولة علي أبو الحسين، ومعز الدولة أبو الحسن أحمد. وهذه هي الحال في كلّ دولة ناشئة أن تكثر لها الرؤى ويَرهص لها المُرهّصون.

جيلُهُم:

إن البويهيّين لم يكونوا مِن جيل الدَيلم، وإنّما قيل لهم الديالمة؛ لأنّهم جاوروا الديلم وكانوا بين أظهرهم مدة.

العظاميّة بعد العصاميّة:

لا مُشاحّة أنّ دولة البويهيّين لم تَقم على أساس النَسَب العالي والقبيلة وعَصَبيّتها القاهرة، بل قامت على العبقريّة والعصاميّة والطموح، وتمكين أطراف المُلك العبّاسي الواسع المُضطرب والمُنتقص مِن الأيدي الغاصبة مِن ذلك الطموح، فالتَوثّب على غرار المشوبين مِن هُنا وهناك، ولا سيّما في البلاد النائية عن عاصمة الخلافة، على هذا الطموح وتلك العصاميّة، وما يحمل مؤسّس المُلك البويهي مِن جُرأة نادرة، إلى تدبير حكيم، وفطنة نافذة هي الّتي مكّنَتْ له مِن الأمر، وأدركوا بها ما صبَت إليه نفوسُهم.

أمّا العظاميّة وعصبيّة القبيلة والعنعنات النسبيّة الأُسريّة، فلم يكن لها مِن أثر في ذلك، ولا كان يُعنى بها العَجم عناية العَرب، ولعلّ انبساط سلطانهم في العرب، وامتداد أيديهم إلى أكبر زعامة تُمثّل سلطان العرب، مِن أكرم أُسرهم وأعرقها شَرَفاً ونَسباً، وهي تقبض على زمام الخلافة الإسلاميّة، ولها عصبيّتها العربيّة، كان مِن أسباب عنايتهم باتّصالهم بسلسلة نَسب عريق يرتفع بهم إلى الأُسر المالكة بلاد إيران القديمة، فقد نسبهم الأمير أبو نصر بن ماكولا في كتابه، فقال:

إنّ أبا شُجاع بويه - أبا مؤسِّسي الدولة - ابن قبا خسرو بن تمام بن كوهي بن شيرزيل الأصغر بن شيركيده بن

١٤٦

شيرزيل الأكبر بن شيران شاه بن شيرويه بن سيسان شاه بن سيس بن فيروزين شيرزيل بن سيسان بن بهرام جور الملك بن يزدجرد الملك بن سابور الملك بن سابور ذي الأكتاف الفارسي.

ثُمّ ارتفع بعضهم بنَسب بويه مِن واحد إلى واحد مِن مُلوك الفرسان حتّى يتّصل بيهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل (عليه السلام)، وكذا إلى آدم أبي البشر.

وأمّا أبو الفداء، فإنّه لم يعرض لنَسبهم، وابن خلدون قد شكّ في هذا النَسب، ورجّحه ابن الأثير.

وكيف كان، فقد أُسّست هذه الدولة ولم تتّخذ العظاميّة أساساً لها، ولئن ظهرت لمُؤسّسيها هذه السلسلة العريقة في النَسب، فقد كان ظهورها بعد التمكين لهم مِن المُلك، بل ومِن وضع الخُلفاء العباسيّين تحت نُفوذ سُلطانهم المُطلق.

اتّصالهم بمُلوك بلادهم:

رأى الأُخوة الثلاثة مصير المُلك العبّاسي الّذي انتهى إليه، ورأوه كيف يَنتقص مِن أطرافه كلُّ توثّب يملك أدوات التغلّب وأسبابها، وهُم لم يملكوا شيئاً مِن تلك الأدوات والأسباب.

أمّا المال، فقد عرفتَ أوّليتهم، وأنّهم لم يملكوا مِن مرافق الدُنيا شيئاً، وأنّهم كانوا يتكفّفون في معيشتهم مِن أحمز الطُرق وأشقّها: صيد السمك، والاحتطاب.

وأمّا العصبيّة، فقد كانوا غُرباء بين الديالمة، وهُم ليسوا مِن جيلهم، فلا يعتزّون بعشيرة ولا بقبيل.

وأمّا الجاه، فمِن أين يأتي به مَن لا يملك المال وما إليه، وليس له عشيرة يعتزُّ بها؟ فلم يبقَ أمامهم غير الشجاعة، وهي رأس مالهم، وغير التدبير والحِكمة وهُما كلّ شيء، وهل يظهر لها مِن أثر إذا لم تُستعمَل فيما يُظهِر كوامنها؟ وهل لذلك غير التَقرّب مِن الأُمراء والملوك؟ وهُم كثيرون في بلادهم وبلاد إيران عامّة، وميدان التنافس فيما بينهم جميعاً مُتّسع المجال، وهل يرى الأُخوة بعد فقد أدوات الزعامة والرئاسة والإمارة والمُلك فرصة يهتبلونها أقرب مِن هذه الفُرصة السانحة، ومُلوك تلك الأطراف المُتنازعون أحوج إلى تقريب هذه الأُخوة للاستعانة بهم على الخُصوم، ولتأييد سُلطانهم، وحسبك بُرهاناً على ما آل إليه أمر خُلفاء بغداد، ومُلوك الشرق والغرب بالأمس ما ذكره غير واحد مِن المُؤرِّخين بعد تسلّط ابن رائق على بغداد والخليفة:

١٤٧

(ولم يَبقَ للخليفة غير بغداد وأعمالها، والحُكم فيها لابن رائق، وليس للخليفة فيها حُكم.

وأمّا باقي الأطراف، فكانت: البصرة في يد ابن رائق المذكور، وخوزستان في يد البريدي، وفارس في يد عماد الدولة بن بويه، وكرمان في يد أبي علي محمّد بن الياس، والري وأصفهان والجبل في يد رُكن الدولة بن بويه ويد وشمكير بن زيار أخي مرداويج يتنازعان عليها، والموصل وديار بكر ومُضر وربيعة في يد بني حمدان، ومصر والشام في يد الأخشيد محمّد بن طغج، والمغرب وإفريقية في يد القائم العلوي بن المهدي، والأندلس في يد عبد الرحمان بن محمّد الأُموي المُلقّب بالناصر، وخراسان وما وراء النهر في يد نصر بن أحمد بن سامان الساماني، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، والبحرين واليمامة في يد أبي طاهر القُرمطي.

الأُخوة في خدمة ماكان بن كاني مَلِك طَبرستان ثُمّ في خِدمة مرداويج فخروجهم عليه:

قال ابن كثير:

إنّ هؤلاء الأُخوة الثلاثة كانوا عند ملكٍ يُقال له (ماكان بن كاني) في بلاد طبرستان، فتسلّط عليه مرداويج، فضَعُف ماكان، فتشاوروا في مُفارقته حتّى يكون مِن أمره ما يكون، فخرجوا عنه ومعهم جماعة مِن الأُمراء فصاروا إلى مرداويج، فأكرمهم واستعملهم على الأعمال في البُلدان، فأعطى عماد الدولة علي بويه نيابة الكرج، فأحسن فيها السيرة والتفَّ عليه الناس وأحبّوه، فحسده مرداويج، وبعث إليه يعزله عنها ويستدعيه إليه، فامتنع مِن القُدوم عليه، وصار إلى أصبهان، فحاربه نائبها، فهزمه عماد الدولة هزيمة مُنكرة واستولى على أصبهان، وإنّما كان معه سبعمائة فارس، فقهر بها عشرة آلاف فارس، وعَظُم في أعيُن الناس، فلمّا بلغ ذلك مرداويج قلِق منه، فأرسل إليه جيشاً فأخرجوه مِن أصبهان، فقصد أذربيجان فأخذها مِن نائبها، وحصل له مِن الأموال شيء كثير جدّاً، ثُمّ أخذ بُلداناً كثيرة، واشتهر أمرُه، وبعد صيته، وحسُنت سيرته؛ فقصده الناس مَحبّة وتعظيماً، فاجتمع إليه مِن الجُند خَلقٌ كثير وجمعٌ غفير، فلم يزل يترقّى في مراقي الدُنيا حتّى آل به وبأخَوَيه الحال إلى أن ملكوا بغداد مِن أيدي الخُلفاء العباسيّين، وصار لهم القطع والوصل، والولاية والعزل، وإليهم

١٤٨

تُجبى الأموال، ويُرجع إليهم في سائر الأُمور والأحوال.

رواية ابن الأثير:

بعد أن ذكر خُروج جماعة مِن الديلم لتملك البلاد، منهم: ماكان بن كاني، وليلى بنت النُعمان، وأسفار بن شيرويه، ومرداويج بن زيار، قال:

وخرج مع كلّ واحد منهم خلق كثير مِن الديلم، وخرج أولاد أبي شجاع في جُملة مَن خرج، وكان مِن جُملة قوّاد ماكان بن كاني، فلمّا كان مِن أمر ماكان ما ذكرناه مِن الاتّفاق تمّ الاختلاف بعد قتل أسفار واستيلاء مرداويج على ماكان بيد ماكان مِن طبرستان وجرجان، وعود ماكان مرَّة أُخرى إلى جُرجان والدامغان، وعوده إلى نيسابور مهزوماً، فلمّا رأى أولاد بويه ضعفه وعجزه قال له عماد الدولة وركن الدولة:

نحن في جماعة، وقد صُرنا ثقلاً عليك وعيالاً، وأنت مضيق والأصلح لك أن نُفارقك لنُخفّف عنك مؤنتنا، فإذا صلح أمرنا عدنا إليك، فأذِن لهما فسارا إلى مرداويج، واقتدى بهما جماعة مِن قوّاد ماكان وتبعوهما، فلمّا صاروا إليه قبلهم أحسن قبول، وخلع على ابنَي بويه وأكرمهما، وقلّد كلَّ واحد مِن قوّاد ماكان الواصلين إليه ناحية مِن نواحي الجبل، فأمّا عليّ بن بويه، فإنّه قلّده كرج.

الأُخوة الثلاثة المالكون وأعقابهم المُلوك:

رأينا أنّ مِن الفائدة لجعل تاريخ هذه الأُسرة - الّذي ملأ صفحةً كبيرةً مِن تاريخ العَرب والإسلام مِن متناول الأفهام - إفراد كلِّ واحد مِن الأُخوة الثلاثة مُؤسّسي هذه الدولة البويهيّة الفتيّة وأعقابهم بالترجُمة، وإن كان الكثير مِن أخبارهم مُتداخلاً بعضه في بعض، ولئن استقلّ كلُّ واحد منهم بمملكة، فهم كانوا جدّ مُتضامنين، ولا سيّما هؤلاء الأُخوة الّذين كان لتضامنهم الأثر الكبير في تكوين دولهم.

الأول: عماد الدولة أبو الحسن عليّ بن بويه:

هو أكبر الأُخوة سنّاً، وأعلاهم هِمّة، وأسدّهم تدبيراً، وأولاهم بالتقديم، بل يكاد يكون بمظاهرة الأَخوين هو الرِكن الأعظم في تكوين دولتهم.

قال ابن الأثير في كامله: كان السبب في ارتفاع عليّ بن بويه مِن بينهم بعد

١٤٩

الأقدار أنّه كان سَمِحاً حليماً شُجاعاً، فلمّا قلّده مرداويج كرج، وقلّد جماعة القوّاد المُستأمنة معه الأعمال، وكَتب لهم العُهود، ساروا إلى الري وبها وشمكير بن زيار أخو مرداويج، ومعه الحُسين بن محمّد المُلقّب بالعميد، وهو والد أبي الفضل الّذي وزر لركن الدولة بن بويه، وكان العميد يومئذٍ وزير مرداويج، وكان مع عماد الدولة بَغلة شَهباء مِن أحسن ما يكون، فعرضها للبيع فبلغ ثمنها مئتي دينار، فعُرضت على العميد فأخذها وأنفذ ثمنها، فلمّا حَمل الثمن إلى عِماد الدولة أخذ منه عشرة دنانير وردّ الباقي، وجعل معه هديّة جميلة.

ثُمّ إنّ مرداويج نَدِم على ما فعل مِن تولية أولئك القوّاد البلاد، فكَتب إلى أخيه وشمكير، وإلى العميد يأمرهما بمنعهم مِن المسير إلى أعمالهم، وإن كان بعضهم قد خرج فيردّ، وكانت الكُتب تصل إلى العميد قبل وشكمير، فيقرؤها ثُمّ يعرضها على وشكمير، فلمّا وقف العميد على هذا الكتاب أنفذ إلى عماد الدولة يأمره بالمسير مِن ساعته إلى عمله ويطوي المنازل، فسار مِن وقته وكان المَغرب.

وأمّا العميد، فلمّا أصبح عرض الكتاب على وشمكير، فمنع سائر القوّاد مِن الخُروج مِن الري، واستعاد التوقيعات الّتي معهم بالبلاد، وأراد وشكمير أن ينفذ خَلفَ عماد الدولة مَن يَردّه، فقال العميد:

إنّه لا يرجع طوعاً، وربّما قاتل مَن يقصده، ويخرج عن طاعتنا فتركه، وسار عماد الدولة إلى كرج، وأحسن إلى الناس، ولطُفَ بعمّال البلاد، فكتبوا إلى مرداويج يشكرونه، ويَصِفون ضبطه البلد وسياسته. وافتتح قلاعاً كانت للخرميّة، وظفر منها بذخائر كثيرة صرفها جميعها إلى استمالة الرِجال والصِلات والهبات، فشاع ذِكره وقصده الناس وأحبّوه، وكان مرداويج ذلك الوقت بطبرستان، فلمّا عاد إلى الري أطلق مالاً لجماعة مِن قوّاده على كرج، فاستمالهم عماد الدولة ووصلهم، وأحسن إليهم حتّى مالوا إليه وأحبّوا طاعته، وبلغ ذلك مرداويج فاستوحش وندِم على إنفاذ أولئك القوّاد إلى كرج، فكَتب إلى عماد الدولة وأولئك يستدعيهم إليه وتَلطّف بهم، فدافعه عماد الدولة، واشتغل بأخذ العُهود عليهم وخوَّفهم مِن سطوة مرداويج، فأجابوه جميعهم، فجبى مال كرج، واستأمن إليه شيرزاد - وهو مِن أعيان قوّاد الديلم - فقويت نفسه بذلك، وسار بهم عن كرج إلى أصبهان، وبها المُظفّر بن ياقوت في نحو عشرة آلاف مُقاتل، وعلى خراجها أبو علي بن رستم، فأرسل عماد الدولة إليهما يستعطفهما

١٥٠

ويستأذنهما في الانحياز إليهما، والدُخول في طاعة الخليفة ليمضي إلى الحضرة ببغداد، فلم يُجيباه إلى ذلك، وكان أبو علي أشدّهما كراهة، فاتّفق للسعادة أنّ أبا علي مات في تلك الأيّام، وبرز ابن ياقوت عن أصبهان ثلاثة فراسخ، وكان في أصحابه جيل وديلم مقدار ستمئة رجل، فاستأمنوا إلى عماد الدولة؛ لِما بلغهم مِن كرمه، فضعُف قلب ابن ياقوت، وقويَ جنان عماد الدولة فواقعه واقتتلوا قتالاً شديداً، فانهزم ابن ياقوت واستولى عماد الدولة على أصبهان، وعظُم في عيون الناس؛ لأنه كان في تسعمائة رَجل هزم بهم ما يُقارب عشرة آلاف رجل، وبلغ ذلك الخليفة فاستعظمه، وبلغ خبر هذه الوقعة مرداويج فأقلقه، وخاف على ما بيده مِن البلاد، واغتمّ لذلك غمّاً شديداً.

استيلاؤه على أرجان وغيرها وملك مرداويج أصبهان:

لمّا بَلَغَ خبر الوقعة مرداويج خاف عماد الدولة بن بويه، فشرع في إعمال الحيلة، فراسله يُعاتبه ويستميله، ويطلب منه أن يُظهر طاعته حتّى يمدّه بالعساكر الكثيرة ليفتح بها البلاد، ولا يُكلّفه سوى الخطبة له في البلاد الّتي يَستولي عليها، فلمّا سار الرسول جهّز مرداويج أخاه وشمكير في جيش كثيف ليكبس ابن بويه، وهو مطمئن إلى الرسالة الّتي تقدّمت، فعلم ابن بويه بذلك، فرحل عن أصبهان بعد أن جباها شهرين، وتوجّه إلى أرجان، وبها أبو بكر بن ياقوت فانهزم أبو بكر مِن غير قتال، وقصد رامهُرمُز، واستولى ابن بويه على أرجان في ذي الحجّة، ولمّا سار عن أصبهان دخلها وشمكير وعسكر أخيه مرداويج وملكوها، فلمّا سَمِع القاهر أرسل إلى مرداويج قبل خلعه ليمنع أخاه عن أصبهان، ويُسلّمها إلى محمّد بن ياقوت ففعل ذلك ووليها محمّد.

وأمّا ابن بويه، فإنّه لمّا مَلك أرجان استخرج منها أموالاً فقويَ بها، ووردت عليه كُتب أبي طالب زيد بن علي النوبند جاني يستدعيه، ويُشير إليه بالمسير إلى شيراز، ويُهوّن عليه أمر ياقوت وأصحابه، ويُعرّفه تهوّره واشتغاله بجباية الأموال، وكثرة مؤنته ومؤنة أصحابه، وثِقل وطأتهم على الناس مع فشلهم وجُبنهم، فخاف ابن بويه أن يقصد ياقوتاً مع كثرة عساكره وأمواله، ويحصل بين ياقوت وولده، فلم يَقبل مشورته فلم يبرح مِن مكانه، فعاد أبو طالب وكَتب إليه يُشجّعه ويُعلِمه أنّ مرداويج قد كَتب إلى ياقوت

١٥١

يطلب مُصالحته، فإنْ تمّ ذلك اجتمعا على مُحاربته ولم يكن له بهما طاقة، ويقول له:

(إنّ الرأي لِمَن كان في مثل حاله أن يُعاجل مَن بين يديه، ولا ينتظر بهم الاجتماع والكثرة أن يُحدقوا به مِن كلّ جانب، فإنّه إذا هَزم مَن بين يديه خافه الباقون، ولم يَقدموا عليه.

ولم يزل أبو طالب يُراسله إلى أن سار نحو النوبندجان في ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، وقد سبقه إليهما مُقدّمة ياقوت في نحو ألفي فارس مِن شُجعان أصحابه، فلمّا وافاهم ابن بويه لم يثبتوا له لمّا لقيهم، وانهزموا إلى كركان، وجاءهم ياقوت في جميع أصحابه إلى هذا الموضع، وتقدّم أبو طالب إلى وكلائه بالنوبندجان بخدمة ابن بويه، والقيام بما يحتاج إليه، وتنحّى هو عن البلد إلى بعض القُرى حتّى لا يُعتقد فيه المواطأة له، فكان مَبلغ ما خسر عليه في أربعين يوماً مقدار مئتي ألف دينار، وأنفذ عماد الدولة أخاه رُكن الدولة الحسن إلى كازرون وغيرها مِن أعمال فارس، فاستخرج منها أموالاً جليلة، فأنفذ ياقوت عسكراً إلى كازرون، فواقعهم ركن الدولة فهزمهم وهو في نفر يسير، وعاد غانماً سالماً إلى أخيه، ثُمّ إنّ عماد الدولة انتهى إليه مُراسلة مرداويج وأخيه وشمكير إلى ياقوت ومراسلته إليهما، فخاف اجتماعهم فسار مِن النوبندجان إلى اصطخر، ثُمّ إلى البيضاء وياقوت يتبعه، وانتهى إلى قنطرة على طريق كرمان فسبقه ياقوت إليها ومنعه مِن عُبورها، واضطر إلى الحرب، وذلك في آخر سَنة إحدى وعشرين ودخلت سَنة اثنتين وعشرين.

استيلاء عِماد الدولة على شيراز:

في هذه السنة ظفر عِماد الدولة بن بويه بياقوت وملك شيراز، وقد مرَّ ذِكر مسير عماد الدولة بن بويه إلى القنطرة، وسِبْق ياقوت إليها وصَدّه عن عبورها، وأنّه اضطرّ بسبب ذلك إلى مُحاربة ياقوت، وقد وقعت الحرب بينهما في جمادى الآخرة، وأحضر عليّ بن بويه أصحابه، ووعدهم أنّه يترجّل معهم عند الحرب ومنّاهُم ووعدهم الإحسان، وكان مِن سعادته أنّ جماعة مِن أصحابه استأمنوا إلى ياقوت فحين رآهم ياقوت أمر بضرب رقابهم، فأيقن مَن مع ابن بويه أنّهم لا أمان لهم عنده، فقاتلوا قتال مُستقتل.

ثُمّ إنّ ياقوتاً قدّم أمام أصحابه رَجّالة كثيرة يُقاتلون بقوارير النفط، فانقلبت الريح

١٥٢

في وجوههم واشتدّت، فلمّا ألقوا النار عادت النار عليهم، فعلقت بوجوههم وثيابهم فاختلطوا، وأكبَّ عليهم أصحاب ابن بويه فقتلوا أكثر الرجّالة، وخالطوا الفرسان فانهزموا، فكانت الدائرة على ياقوت وأصحابه، فلمّا انهزم صعد على نشز مُرتفع، ونادى في أصحابه الرجعة فاجتمع إليه نحو أربعة آلاف فارس، فقال لهم:

اثبتوا فإنّ الديلم يشتغلون بالنهب، ويتفرّقون فنأخذهم. فثبتوا معه، فلمّا رأى ابن بويه ثباتهم نهى أصحابه عن النهب، وقال:

إنّ عدوّكم يرصدكم لتشتغلوا بالنهب فيعطف عليكم، ويكون هلاككم، فاتركوا هذا وافرغوا مِن المنهزمين، ثُمّ عودا إليه ففعلوا ذلك. فلمّا رأى ياقوت أنّهم على قصده ولَّى مُنهزماً وأتبعه أصحاب ابن بويه يقتلون ويأسرون ويغنمون الخيل والسلاح - وكان مُعزّ الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه في ذلك اليوم مِن أحسن الناس أثراً، وكان صبيّاً لم تنبت لحيته، وكان عُمره تسع عشرة سنة - ثُمّ رجعوا إلى السواد فغنموا، ووجدوا في سواده برانس لبود عليها أذناب الثعالب، ووجدوا قيوداً وأغلالاً، فسألوا عنها، فقال أصحاب ياقوت:

إنّ هذه أُعدّت لكُم لتُجعل عليكم ويُطاف بكم في البلاد، فأشار أصحاب ابن بويه أن يُفعل بهم مِثل ذلك فامتنع، وقال:

إنّه بغيٌ ولؤم ظفر، ولقد لقيَ ياقوتُ بغيه. ثُمّ أحسن إلى الأُسارى وأطلقهم، وقال:

هذه نعمة، والشُكر عليها واجب يقتضي المزيد. وخَيَّر الأُسارى بين المُقام عنده واللحوق بياقوت، فاختاروا المقام عنده، فخلع عليهم وأحسن إليهم، وسار مِن موضع الوقعة حتّى نَزلَ شيراز، ونادى في الناس بالأمان وبثّ العدلَ، وأقام لهم شحنته يمنع مَن ظلمهم، واستولى على تلك البلاد، وطلب الجُند أرزاقهم فلم يكن عنده ما يُعطيهم، فكاد يَنحلُّ أمره.

الأقدارُ والحظوظُ تَخدم بني بويه:

فقعد في غُرفة في دار الإمارة بشيراز يُفكّر في أمره، فرأى حيّةً خرجت مِن موضع في سقف تلك الغُرفة، ودخلت في ثقب هناك، فخافَ أن تَسقط عليه فدعا الفرّاشين، ففتحوا الموضع فرأوا وراءه باباً، فدخلوا إلى غُرفة أُخرى وفيها عشرة صناديق مملوءة مالاً ومصوغاً، وكان فيها ما قيمته خمسمئة ألف دينار فأنفقها، وثبتَ مُلكه بعد أن كان قد أشرف على الزوال.

وحُكيَ أنّه أراد أن يُفصّل ثياباً، فدلّوه على خيّاط كان لياقوت

١٥٣

فأحضره، فحضر خائفاً وكان أصمّ، فقال له عماد الدولة:

لا تخف، فإنّما أحضرناك لتُفصّل ثياباً. فلم يَعلم ما قال، فابتدأ وحلف بالطلاق والبراءة مِن دين الإسلام أنّ الصناديق الّتي عنده لياقوت ما فتحها، فتعجّب الأمير مِن هذا الاتّفاق، فأمره بإحضارها، فأحضر ثمانية صناديق فيها مال وثياب قيمته ثلاثمائة ألف دينار، ثُمّ ظهر له ودائع ياقوت وذخائر يعقوب وعمر وابني الليث جُملة كثيرة فامتلأت خزائنه وثبت مُلكه.

اتّصاله بالراضي بالله وخُدعته رسوله:

فلمّا تمكّن مِن شيراز وفارس كَتب إلى الراضي بالله - وكانت الخلافة قد أفضت إليه - وإلى وزيره أبي علي بن مقلة يُعرفهما أنّه على الطاعة، ويطلب منه أن يُقاطع على ما بيده مِن البلاد، وبَذَل ألف ألف درهم، فأُجيب إلى ذلك فأنفذوا له الخلع، وشرطوا على الرسول أن لا يُسلّم إليه الخلع إلاّ بعد قبض المال، فلمّا وصل الرسول خرجَ عماد الدولة إلى لقائه، وطلب منه الخلع واللواء، فذكر له الشرط فأخذهما منه قهراً، ولبس الخلع ونشر اللواء بين يديه، ودخل البلد وغالط الرسول بالمال، فمات الرسول عنده سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة، وعظُم شأنه وقصده الرجال مِن الأطراف، ولمّا سمع مرداويج بما ناله مِن ابن بويه قام لذلك وقعد، وسار إلى أصبهان للتدبير عليه، وكان بها أخوه وشمكير، لأنّه لمّا خُلع القاهر وتأخّر محمّد بن ياقوت عنها عاد إليها وشمكير بعد أنْ بقيتْ تسعة عشر يوماً خالية مِن أمير، فلمّا وصلها مرداويج ردّ أخاه وشمكير إلى الري.

تَعليقٌ على ما سَبَق لا بُدّ مِنه:

لقد أقام عماد الدولة بن بويه البُرهان على تدبير في الحُروب سديد، وعلى حَذَر ويقظة وذكاء هي مِن أهم ّصفات القوّاد بصرفه جيشه الديلمي عن نهب أسلاب جيش ياقوت المُنهزم، وأمرِه بالثبات، وقد ظهرت له خِدعة ياقوت المُنهزم بجيشه حيث يجمع إليه مِن فُلوله أربعة آلاف، وهو على نشز مُرتفع، ويأمرهم بالثبات ليأخذ الجيش الديلمي على غرّة، وهو على غير النظام باشتغاله في النهب، فلم يترك حَذَر عماد الدولة ياقوتاً يَتمكّن مِن إتمام خدعته، كما أقام البُرهان الآخر على جدارته بالمُلك وهو يَجمع أنبل

١٥٤

صفات المالكين، ومَن يبنون على دعائمها الراسخة مُلكهم العتيد، حيث أبَتْ نفسه أن يَحذو حذو ياقوت في التشهير بالمغلوبين فيما إذا أُتيحت له الغلبة قائلاً:

إنّ ذلك بغيٌ ولؤمٌ. كما أحسن إلى الأُسارى بإطلاقهم، ثُمّ بتخييرهم بين المُقام عنده واللحاق بياقوت، وهو يَعلم أنّ في لحاقهم بخصمه قوّةٌ لخصمه، فكان مِن سداد سياسته وجميل إحسانه أن قادَهُم إليه، وقيّدهم عن قُيود الحديد بقُيود المعروف والإحسان، (ومَن وَجَدَ الإحسانَ قيداً تقيّدا).

بمثل هذا التدبير السديد، وبمثل هذا الإحسان، وبمثل تلك اليقظة في ميادين النِزال والقتال ظَهَرَ أمرُ بني بويه، وهبَّتْ لهم ريح النصر، وأسلس لهم المُلك مِن قياده فراضوا صِعابه.

وقد يُؤاخذ عماد الدولة بخُلفه وَعدَ الراضي بالله بالطاعة، وبذل المال بعد إنفاذ الخلع عليه واللواء، ولكن مَن يعلم ما آلت إليه حال الخلفاء العباسيّين مِن خَلعِ خليفة وتنصيب آخر وقتل ثالث ما بين عشيّة أو ضُحاها، وهُم كالريشةِ في مهبّ العواصف، قد يجد له عُذراً في هذا الخُلف، وإبقاء المال الكثير الّذي وَعدَ به الخليفة لصرفه في مهامّ أُموره، وفي ترسيخ بُنيان مُلكه، وهو مُحاط بالأعداء مِن هُنا وهُناك، وحَسبُهُ بخصمه مرداويج الشديد ودع خصومه الآخرين، وقد يدّخر هذا المال أو ما يَخلفه لمُصانعة خليفة آخر قد تصير إليه الخلافة في الوقت القريب.

وبعد، فإنّ للسياسة وجوهاً وألواناً ولا سيّما في ذلك العهد المُضطرب، وعماد الدولة مؤسّس الدولة بها جدّ عليم.

وممّا اتّفق له في شيراز، وهو ممّا لم يذكره ابن الأثير، وذكره ابن كثير، (وهو أنّه رَكِب ذات يوم يَتفرّج في جوانب البلد، وينظر إلى ما بَنَتْه الأوائل، ويتّعظ بمَن كان فيه قبله، فانخسفت الأرض مِن تحت قوائم فرسه، فأمَر فحُفِر هُنالك فوجد مِن الأموال شيئاً كثياً أيضاً).

استيلاء مرداويج على الأهواز:

لمّا بَلَغَ مرداويج استيلاء عليّ بن بويه على فارس اشتدّ ذلك عليه، فسار إلى أصبهان للتدبير على ابن بويه، فرأى أن ينفذ عسكراً إلى الأهواز ليستولي عليها، ويسدّ الطريق على عماد الدولة بن بويه إذا قصده، فلا يبقى له طريق إلى الخليفة، ويقصده هو مِن ناحية أصبهان، فلا يثبت لهم، فسارت

١٥٥

عساكر مرداويج في شهر رمضان حتّى بلغت اميزج، فخاف ياقوت أنْ يَحصل بينهم وبين ابن بويه، فسار إلى الأهواز ومعه ابنه المُظفّر، وكتب إلى الراضي ليُقلّده أعمال الأهواز فقلده ذلك، وصار أبو عبد الله بن البريدي كاتبه مُضافاً إلى ما بيده مِن أعمال الخراج بالأهواز، وصار أخوه أبو الحسين يَخلفه ياقوتاً ببغداد، ثُمّ استولى عسكر مرداويج على رامهرمز أوّل شوال مِن هذه السنة، وساروا نحو الأهواز، فوقف لهم ياقوت على قنطرة الربق فلم يُمكنْهم مِن العبور لشدّة جري الماء، فأقاموا بإزائه أربعين يوماً، ثُمّ رحلوا فعبروا على الأطواف نهر المسرقان، فبلغ الخبر إلى ياقوت وقد أتاه مَدَدٌ مِن بغداد قبل ذلك بيومين، فسار بهم إلى قرية الريخ، وسار منها إلى واسط، وبها حينئذ محمّد بن رائق، فأخلى له غربي واسط فنزل فيه ياقوت، ولمّا بَلغَ عماد الدولة استيلاء مرداويج على الأهواز كاتب نائب مرداويج يستميله، ويطلب منه أن يتوسّط الحال بينه وبين مرداويج، ففعل ذلك، وسعى فيه فأجابه مرداويج إلى ذلك على أن يُطيعه ويَخطب له، فاستقرَّ الحال بينهما، وأهدى له ابن بويه هديّة جليلة، وأنفذ أخاه رُكن الدولة رهينة، وخطب لمرداويج في بلاده فرضي مرداويج منه، واتّفق أنّه - مرداويج - قتل فقويَ أمر ابن بويه، وكان قتل مرداويج في سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة بعد ذلك الاتّفاق بسَنة، وكان قتله لأُمور نَقَمَها عليه أتباعه، وتولّى ذلك جماعة مِن الأتراك، ولمّا قُتل كان رُكن الدولة بن بويه رهينة عنده كما سبق بيانه، فبذل للموكّلين مالاً فأطلقوه، فخرج إلى الصحراء ليفكّ قيوده، فأقبلت بغال عليها تبن وعليها أصحابه وغُلمانه، فأُلقي التبن، وكَسر أصحابه قُيوده، وركبوا الدواب ونجوا إلى أخيه عماد الدولة بفارس.

ولمّا قَتل الأتراك مرداويج سارت فرقة منهم إلى عماد الدولة بن بويه مع فخجج الّذي كان له شأن مَذكور في الدولة.

ظَفَرَ عِماد الدولة بياقوت مَرّة أُخرى:

لمّا انهزم ياقوت مِن الأهواز وقويَ بها أمرَ البريدي - وكان يَتولّى الكتابة إلى ياقوت ويتصرف في أعمال أسافل الأهواز - سار إليه، فأقام معه بواسط، فلمّا قبُض على ابنيه كَتبَ ابن مُقلة إلى ابن البريدي يأمره أن يُسكن ياقوتاً، ويُعرّفه أنّ الجُند اجتمعوا وطلبوا القبض على ولديه، فَقُبِضا

١٥٦

تسكيناً للجُند، وأنّهما يسيران إلى أبيهما عن قريب، وأنّ الرأي أنْ يسير هو لفتح فارس، فسار ياقوت مِن واسط على طريق السوس، وسار البريدي على طريق الماء إلى الأهواز، وكان إلى أخَوَيه أبي الحسين وأبي يوسف ضمان السوس وجنديسابور، وادَّعَيا أنّ دَخْلَ البلاد لسَنة اثنتين وعشرين أخذه عسكر مرداويج، وأنّ دَخْلَ سنة ثلاث وعشرين لا يَحصل منه شيء؛ لأنّ نواب مرداويج ظلموا الناس فلم يبقَ لهم ما يزرعونه، وكان الأمرُ بضدّ ذلك في السَنتين، فبلغ ذلك الوزير ابن مقلة، فأنفذ نائباً له ليُحقّق الحال، فواطأ ابني البريدي وكتب بصدقهم، فحصل لهم بذلك مال عظيم، وقَويتْ حالهم، وكان مَبلَغ ما أخذوه أربعة آلاف ألف دينار، وأشار ابن البريدي على ياقوت بالمسير إلى أرجان لفتح فارس، وأقام هو بجباية الأموال مِن البلاد، فحصل منها ما أراد، فلمّا سار ياقوت إلى فارس في جموعه لقيه ابن بويه بباب أرجان، فانهزم أصحاب ياقوت، وبقي إلى آخرهم ثُمّ انهزم، وسار ابن بويه خَلفه إلى رامهرمز، وسار ياقوت إلى عسكر مكرم، وأقام ابن بويه برامهرمز إلى أن وقع الصُلح بينهما.

استيلاءُ عِمادِ الدَولةِ على أصبهان وغيرها:

في هذه السَنة (سَنة ٣٢٣هـ) جهّز عماد الدولة بن بويه أخاه رُكن الدولة الحسن إلى بلاد الجبل، وسَيَّر معه العساكر بعد عوده لمَّا قُتل مرداويج، فسار إلى أصبهان فاستولى عليها، وأزال عنها وعن عدّة مِن بلاد الجبل نوّاب وشمكير، وأقبل وشمكير وجهّز العساكر نحوه، وبقي هو ووشمكير يتنازعان تلك البلاد، وهي: أصبهان، وهَمذان، وقُم، وقاجان، وكرج، والري، وكنكور، وقزوين وغيرها.

ظَفَرُهُ بطاهر الجبلي الخارج عن طاعته:

اتّصل طاهر هذا بياقوت - وهو مِن كِبار أصحاب ابن بويه - في ثمانمئة رجُل، وهو مِن أرباب المَراتب العالية، ومِمَن يسمو إلى مَعالي الأُمور، وسَبَب اتّصاله به خوفه مِن ابن بويه أن يقبض عليه خوفاً منه، فلمّا رأى حال ياقوت انصرف عنه إلى غربي تستر، وأراد أنْ يَتغلّب على ماء البصرة، وكان معه أبو جعفر الصيمري، وهو كاتبه، فسَمِع به عماد الدولة بن بويه

١٥٧

فكبسه، فانهزم هو وأصحابه، واستولى ابن بويه على عسكره وغنمه، وأسر الصيمري فأطلقه الخيّاط وزير عماد الدولة بن بويه، فمضى إلى كرمان، واتصل بالأمير مُعزّ الدولة بن بويه، وكان ذلك سبب إقباله.

تجهيزُ عِمادِ الدولةِ وأخيه رُكن الدولة أخاهما الأصغر مُعزّ الدولة بالجيوش لفتح كرمان:

في هذه السنة سَيَّر عِماد الدولة وركن الدولة أخاهما مُعزّ الدولة الأصغر بالجيوش لفتح كرمان ليستَبدّ بمُلكها، وقد جرى ما ستراه في غير هذا المكان مِن تَرجمة مُعزّ الدولة.

التجاءُ البريدي إلى عِماد الدولة:

لمّا انهزم البريدي أمام بجكم وابن رائق سار مِن جزيرة أوال إلى عماد الدولة بن بويه واستجار به، وأطمعه في العراق وهون عليه أمْرَ الخليفة وابن رائق، فَنَفَذ معه أخاه مُعزّ الدولة، فلمّا سَمِع ابن رائق بإقبالهم مِن فارس إلى الأهواز سيَّر بجكم إليها، فامتنع مِن المسير إلاّ أن يكون إليه الحرب والخراج، فأجابه إلى ذلك وسيّره إليها، ثُمّ إنّ جماعة مِن أصحاب البريدي قصدوا عسكر ابن رائق ليلاً فصاحوا في جوانبه، فانهزموا فلمّا رأى ابن رائق ذلك أمر بإحراق سواده وآلاته لئلاّ يغنمه البريدي، وسار إلى الأهواز جريدة، فأشار جماعة على بجكم بالقبض عليه فلم يفعل، وأقام ابن رائق أيّاماً وعاد إلى واسط، وكان باقي عسكره قد سبقه إليها.

تَسيير عِماد الدولة أخاه مُعزّ الدولة مع البريدي لفتح العراق:

في سنة ٣٢٦هـ سار مُعزّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه إلى الأهواز وتلك البلاد فملكها، وكان سبب ذلك ما تقدّم ذِكره مِن مسير أبي عبد الله البريدي إلى عماد الدولة، فلمّا وصلَ إليه أطمعه في العراق والاستيلاء عليه، فسيّر معه أخاه مُعزّ الدولة إلى الأهواز، وترك أبو عبد الله البريدي ولديه أبا الحسن محمّداً وأبا جعفر القاضي عند عِماد الدولة بن بويه رهينة وساروا، فبلغ الخبر إلى بجكم بنزولهم أرجان فسار لحربهم، فانهزم مِن بين أيديهم، وكان سبب الهزيمة أنّ المطر اتّصل أيّاماً كثيرة،

١٥٨

فعُطّلت أوتار قُسي الأتراك، فلم يقدروا على رمي النشّاب، فعاد بجكم وأقام بالأهواز، وجعل بعض عسكره بعسكر مكرم، فقاتلوا مُعزّ الدولة بها ثلاثة عشر يوماً، ثُمّ انهزموا إلى تستر، فاستولى مُعزّ الدولة على عسكر مكرم، وسار بجكم إلى تستر مِن الأهواز، وأخذ معه جماعة مِن أعيان الأهواز، وسار هو وعسكره إلى واسط، وأرسل مِن الطريق إلى ابن رائق يُعلِمه الخبر، ويقول له:

إنّ العسكر مُحتاج إلى المال، فإنْ كان مَعَك مئتا ألف دينار فتُقيم بواسط حتّى نصل إليك وتُنفق فيهم المال، وإن كان المال قليلاً فالرأي أنّك تعود إلى بغداد لئلاّ يجري مِن العسكر شَغَب.

فلمّا بلغَ الخبر إلى ابن رائق عاد مِن واسط إلى بغداد، ووصل بجكم إلى واسط، فأقام بها، واعتَقل مَن معه مِن الأهوازيّين، وطالبهم بخمسين ألف دينار، وكان فيهم أبو زكريّا يحيى بن سعيد السوسي، قال أبو زكريا:

أردّتُ أنْ أعلم ما في نفس بجكم، فأنفذتُ إليه أقول: عندي نصيحة فأحضرني عنده، فقلتُ: أيّها الأمير أنتَ تُحدّث نفسك بمملكة الدنيا، وخدمة الخلافة وتدبير أعمالك كيف يجوز أنُ تعتقل قوماً منكوبين قد سُلبوا نِعمتهم، وتُطالبهم بمالٍ وهم في بَلد غربةٍ، وتأمُر بتعذيبهم، حين جُعل أمس طشت فيه نار على بطن بعضهم، أمْا تعلم أنّ هذا إذا سُمِع عنك استوحش مِنك الناس، وعاداك مَن لا يعرفك، وقد أنكرت على ابن رائق إيحاشه لأهل البصرة؟ أتراه أساء إلى جميعهم؟ لا والله، بل أساء إلى بعضهم فأبغضوه كلّهم، وعوام بغداد لا تَحتمل أمثال هذا، وذَكرتُ له فِعل مداويج.

فلمّا سمع ذلك، قال: قد صدقتني ونصحتني، ثُمّ أمر بإطلاقهم.

ولمّا استولى ابن بويه والبريدي على عسكر مكرم سار أهل الأهواز إلى البريدي يُهنّئونه، وفيهم طبيب حاذق، وكان البريدي يَحمُّ بِحُمّى الربع، فقال لذلك الطبيب: أمّا ترى يا أبا زكريا حالي وهذه الحُمّى؟ فقال له: خَلطٌ، يعني في المأكول. فقال له: أكثر مِن هذا التخليط قد رهجت الدُنيا.

ثُمّ ساروا إلى الأهواز فأقاموا بها خمسة وثلاثين يوماً، ثُمّ هرب البريدي مِن ابن بويه إلى الباسيان، فكاتبه بِعَتَب كثير ويذكر عُذره في هربه، وكان سبب هربه أنّ ابن بويه طَلبَ عسكره الّذين بالبصرة ليسيروا إلى أخيه رُكن الدولة بأصبهان معونة له على حرب وشمكير، فأحضر منهم أربعة آلاف فلمّا حضروا، قال لمُعز الدولة:

إنْ أقاموا وقع بينهم وبين الديلم فتنة، والرأي أن يسيروا إلى السوس، ثُمّ يسيروا إلى أصبهان. فأذِن له

١٥٩

في ذلك، ثُمّ طالبه بأنْ يُحضر عسكره الّذين بحصن مهدي ليُسيّرهم في الماء إلى واسط، فخاف البريدي أن يُعمَل به مِثل ما عَمِل هو بياقوت، وكان الديلم يُهينونه ولا يَلتفتون إليه، فهرب وأمر جيشه الّذين بالسوس فساروا إلى البصرة، وكاتب مُعزّ الدولة بالإفراج له عن الأهواز حتّى يتمكّن مِن ضمانه، فإنّه كان قد ضَمِن الأهواز والبصرة مِن عماد الدولة بن بويه كُلّ سَنة بثمانية عشر ألف ألف درهم، فرحل عنها إلى عسكر مكرم خوفاً مِن أخيه عماد الدولة بن بويه؛ لئلا يقول له: كسرت المال.

فانتقل البريدي إلى بناباذ، وأنفذ خليفته إلى الأهواز، وأنفذ إلى مُعزّ الدولة يَذكر له حاله وخوفه منه، ويطلب أن ينتقل إلى السوس مِن عسكر مكرم ليَبعُد عنه، ويأمَن بالأهواز، فقال له أبو جعفر الصيمري وغيره:

إنّ البُريدي يُريد أنْ يفعل بك كما فعل بياقوت، ويُفرّق أصحابك عنك، ثُمّ يأخذك فيتقرّب بكَ إلى بجكم وابن رائق، ويستعيد أخاك لأجلك.

فامتنع مُعزّ الدولة مِن ذلك، وعلم بجكم بالحال فأنفذ جماعة مِن أصحابه، فاستولوا على السوس وجنديسابور، وبقيت الأهواز بيد البريدي، ولم يبقّ بيد مُعزّ الدولة مِن كوَر الأهواز إلاّ عسكر مكرم، فاشتدَّ الحال عليه، وفارقه بعض جنده، وأرادوا الرجوع إلى فارس فمنعهم أصفهووست وموسى قياذه - وهُما مِن أكابر القوّاد - وضمنا لهم أرزاقهم ليُقيموا شهراً فأقاموا، وكَتب إلى أخيه عِماد الدولة يُعرفه حاله فأنفذ له جيشاً فقَويَ بهم، وعاد استولى على الأهواز، وهرب البريدي إلى البصرة واستقرّ فيها، فاستقرَّ ابنُ بويه بالأهواز، وأقام بجكم بواسط طامعاً في الاستيلاء على بغداد ومكان ابن رائق، ولا يُظهر له شيئاً مِن ذلك.

وأنفذ ابنُ رائق عليَّ بن خلف بن طياب إلى بجكم ليسير معه إلى الأهواز، ويُخرج منها ابن بويه، فإذا فعل ذلك كانت ولايتها لبجكم والخراج إلى عليّ بن خلف، فلمّا وصل علي إلى بجكم بواسط استوزره بجكم، وأقام معه، وأخذ بجكم جميع مال واسط، ولمّا رأى أبو الفتح الوزير ببغداد إدبار الأُمور أطمع ابن رائق في مصر والشام، وصاهره، وعقد بينه وبين ابن طغج عهداً وصهراً، وقال لابن رائق:

أنا أُجبي إليك مال مصر والشام إن سيّرتني إليهما، فأمره بالتجهّز للحركة ففعل، وسار أبو الفتح إلى الشام.

١٦٠