تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 95971
تحميل: 7607


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 95971 / تحميل: 7607
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

موتُ عمادِ الدولة بن بويه:

في جمادى الآخرة سَنة ٣٣٨هـ مات عماد الدولة في شيراز، وكانت عِلّته الّتي مات بها قرحة في كلاه طالت به، وتوالت عليه الأسقام والأمراض، فلمّا أحسَّ بالموت أنفذ إلى أخيه رُكن الدولة يَطلب منه أن ينفذ إليه ابنه عَضُد الدولة فناخسرو؛ ليجعله وليَّ عهده، ووارث مملكته بفارس؛ لأنّ عماد الدولة لم يكن له وَلَد ذَكر، فأنفذ رُكن الدولة ولده عَضُد الدولة فوصل في حياة عمّه قبل موته بسَنة، وسارَ في جُملة ثقات أصحاب رُكن الدولة، فخَرج عماد الدولة إلى لقائه في جميع عسكره، وأجلسه في داره على السرير، ووقف هو بين يديه، وأمر الناس بالسلام على عَضُد الدولة والانقياد له، وكان يوماً عظيماً مشهوداً، وكان في قوّاد عِماد الدولة جماعة مِن الأكابر يخافهم، ويعرفهم بطلب الرياسة، وكانوا يَرون أنفسهم أكبر منه نَفساً وبيتاً، وأحقّ بالتَقدّم، وكان منهم قائد كبير يُقال له شيرنحين، فقبض عليه، فتشفع فيه أصحابه وقوّاده، فقال لهم:

إنّي أُحدّثكم عنه بحديث، فإن رأيتم أن أُطلقه فعلت. فحدّثهم أنّه كان في خُراسان في خدمة نصر بن أحمد، ونحن شرذمة قليلة مِن الديلم ومَعنا هذا، فجلس يوماً نصر، وفي خدمته مِن مماليكه ومماليك أبيه بضعة عشر ألفاً سوى سائر العسكر، فرأيت شيرنحين هذا قد جرّد سليناً معه ولفّه في كسائه، فقلت: ما هذا؟ فقال: أُريد أن أقتل هذا الصبي - يعني نصراً - ولا أُبالي بالقتل بعده، فإنّي قد أنِفَتْ نفسي مِن القيام بخدمته. وكان عُمر نصر بن أحمد يومئذ عشرين سَنة، وقد خرجت لحيته، فعلمت أنّه إذا فعل ذلك لم يُقتل وحده، بل نُقتَل كُلّنا، فأخذت بيده وقلت له: بيني وبينك حديث، فمَضيتُ به إلى ناحية، وجمعت الديلم وحدّثتهم حديثه، فأخذوا منه السكين، فتريدون منّي بعد أن سمعتم حديثه في معنى نصر أن أُمكّنه مِن الوقوف بين يدَي هذا الصبي، يعني ابن أخي.

فأمسكوا عنه وبقي محبوساً حتّى مات في مَحَبسِه، ومات عماد الدولة وبقي عضد الدولة بفارس، فاختَلف أصحابه، فكَتب مُعزّ الدولة إلى وزيره الصيمري بالمسير إلى شيراز، وتَرْك مُحاربة عمران بن شاهين، فسار إلى فارس ووصل رُكن الدولة أيضاً، واتفقا على تقرير قاعدة عضُد الدولة، وكان رُكن الدولة قد استخلف على الري عليّ بن كامة، وهو

١٦١

مِن أعيان أصحابه، ولمّا وصل رُكن الدولة إلى شيراز ابتدأ بزيارة قبر أخيه باصطخر، فمشى حافياً حاسراً، ومعه العساكر على حاله ولزم القبر ثلاثة أيّام إلى أن سأله القوّاد الأكابر ليرجع إلى المدينة، فرجع إليها وأقام تسعة أشهر، وأنفذ إلى أخيه مُعزّ الدولة شيئاً مِن المال والسلاح وغير ذلك، وكان عماد الدولة في حياته هو أمير الأُمراء، فلمّا مات صار أخوه رُكن الدولة أمير الأُمراء، وكان مُعزّ الدولة هو المُستولي على العراق والخلافة وهو كالنائب عنهما، وكان عِماد الدولة كريماً حليماً عاقلاً حَسِن السياسة للمُلك والرعيّة.

وقد ترجم له ابن خلكان، وترجم لأخَويه رُكن الدولة ومُعزّ الدولة، وقال في ترجمته:

وكان عِماد الدولة سبب سعادتهم التامّة, وانتشار صيتهم، واستولوا على البلاد، ومَلَكوا العراقين والأهواز وفارس، وساسوا أُمور الرعيّة أحسن سياسة، وقال:

وكانت وفاته يوم الأحد لأربع عشرة ليلة بقيت مِن جمادى الأولى سَنة ثمان وثلاثين، وقيل تسع وثلاثين وثلاثمئة بشيراز، ودُفن في دار المَملكة، وأقام في المملكة ستّ عشرة سنة، وعاش سبعاً وخمسين سَنة، ولم يُعقب رحمه الله تعالى، وأتاه في مرضه أخوه رُكن الدولة واتّفقا على تسليم بلاد فارس إلى عضد الدولة بن رُكن الدولة فتسلّمها.

وفي رواية ابن الأثير ورواية ابن خلكان اختلاف في الشهر الّذي تُوفّي فيه، فالأوّل يُؤرّخها في جمادى الآخرة، والثاني في جمادى الأولى، وهذا الاختلاف هو الّذي دعانا لنقل رواية ابن خلكان في تاريخ وفاته.

وقال المؤرّخ ابن كثير في ترجمته في حوادث سنة ٣٣٨هـ ما هذا مُلخّصه:

وهو أكبر أولاد بويه وأول مَن تملك مِنهم، وكان عاقلاً حاذقاً حميد السيرة رئيساً في نفسه، كان أوّل ظُهوره في سنة ثنتين وعشرين وثلاثمئة، فلمّا كان هذا العام قويت عليه الأسقام، وتواترت عليه الآلام، فأحسّ مِن نفسه بالهلاك، ولم يُفاده ولا دَفَعَ عنه أمر الله ما هو فيه مِن الأموال، ولا ردّ عنه جيشه مِن الديالم والأتراك والأعجام، مع كثرة العدَد والعُدد، بل تخلّوا عنه أحوج ماكان إليهم، إلى أنْ قال: وكان مِمَّن حاز قصب السبق دون أقرانه، وكان هو أمير الأُمراء، وبذلك كان يكُاتبه

١٦٢

الخُلفاء، ولكنّ أخوه مُعزّ الدولة كان يَنوب عنه في العراق والسواد.

وبالجملة فإنّ كلّ مَن ذَكرَ الدولة البويهيّة مِن المًؤرِّخين وأوليتها أشاد بفضائل عميدها عِماد الدولة، وجَمْعِه لكلِّ مُقوّمات المُلك والسياسة مِن نُهى وحزم وتدبير وسياسة وكياسة وعدل وبذل نَدَى ومُساعدة الأقدار له الخلال الّتي مهّدت له لتأسيس الدولة البويهيّة، وإقامة بنيانها على هذه القواعد، فكانت لها وللقائمين بأُمورها المكانة الرفيعة في التاريخ الإسلامي.

الثاني: أبو عليّ الحسن بن بويه بن فناخسرو الديلمي المُلقّب بركن الدولة:

قال ابن خلكان في وفياته:

وكان رُكن الدولة صاحب أصبهان والري وهمذان وجميع عراق العجم، وهو والد عضد الدولة فناخسرو، ومُؤيّد الدولة أبي منصور بويه وفخر الدولة أبي الحسن علي، وكان مَلِكاً جليل المقدار عالي الهِمّة، وكان أبو الفضل بن العميد وزيره، ولمّا تُوفّي استوزر ولده أبا الفتح عليّاً.

أوائل أمره:

إنّ أوّل أمره مُرتبط بأوّل أمر الأُخوة الثلاثة بني بويه: عماد الدولة وقد عرفت في ترجمته انضمامهم إلى ماكان بن كالي الديلمي، ثُمّ إلى مرداويج ابن زيار - مِن ملوك الجبل - بعد ظفره بماكان، ثُمّ استبدادهم بالأمر بعد تنكّر مرداويج لهم، وقلبه لهم ظهر المجن، وعدوله عن تولية أخيهم الأكبر عِماد الدولة الكرج، وتولية مَن كان في اللاجئين معه مِن القوّاد غيرهما، وقد أحسَّ منهم الطُموح إلى الاستبداد بالمُلك، إلى غير ذلك ممّا استوفينا خَبره في تَرجمة عِماد الدولة فلا نُعيده هُنا، وكان هو وأخوه مُعزّ الدولة ظهيريه وسيفيه المُرهفين على خُصومه لتأسيس دولتهم الفتيّة، وكانوا نِعم الأُخوة إخلاصاً واتّفاقاً يدوخون معه البلاد، ويخوضون لُجج الحُروب ببسالة نادرة، وشجاعة فائقة، وتدبير سديد، حتّى انتهى إليهم ما انتهى مِن سعة مُلكٍ ونُفوذ سلطان.

١٦٣

وكان لمّا استولى عماد الدولة على أرجان وغيرها، ومَلَك على مرداويج المذاهب واقض مضجعه قد بعث بأخيه رُكن الدولة إلى كازرون وغيرها مِن أعمال فارس في سنة إحدى وعشرين وثلاثمئة، فاستخرج مِنها أموالاً جليلة، فأنفذ ياقوت عسكراً إلى كازرون، فواقعهم رُكن الدولة فهزمهم وهو في نَفَر يسير، وعاد غانماً سالماً إلى أخيه.

وفي سَنة ثنتين وعشرين وثلاثمئة بعد استيلاء مرداويج على الأهواز وعَقْد عماد الدولة الصُلح معه على أن يُطيعه ويَخطب له - وهو ماكان يَطلبه مرداويج منه وقد ظهر أمره، واستقرار الأمر بينهما على هذه القاعدة - أهدى له عِماد الدولة هدية جليلة، وأنفذ أخاه رُكن الدولة رهينة، وكانت بذلك قوّة لعماد الدولة، وبعد مَقتل مرداويج بَذلَ رُكن الدولة للموكّلين مالاً فأطلقوه، ونجا إلى أخيه عِماد الدولة بفارس.

استقلال رُكن الدولة بالمُلك:

إنّ الخطّة القويمة الّتي سلكها بنو بويه بعد تظافُرهم واتّفاقهم - والّتي مَكّنت لهم مِن امتلاك ناصية البلاد، وظُهور الأمر والتَغلُّب على مُنافسيهم - تكاد ترجع إلى سَدّهم أبواب التنازُع فيما بينهم على الاستقلال بالمُلك، وهو ماكان ولا يزال مثارة كلّ شِقاق بين كلّ طامح إليه مِن بعيد وقريب، وبين الأب وابنه، والأخ وأخيه، وبين كلّ ذوي قرابة، فقد تناسى الأُخوة عاطفة الاستئثار، بل قضوا عليها القضاء المُبرم ولم تجد أنانيّة المُلك وأُبّهة التفرُّد به إلى نفوسهم سبيلاً، فتَمشّوا على قاعدة لم يَسبقهم لها سابق مٍن كلّ ذي إمرة وسُلطان، حيث عملوا مُجتمعين على تمكين كلّ واحد منهم بمملكة مُستقلّة لا يطمع منهم طامع فيها، ولا يَمدُّ ببصره إليها في ريبة، وقد عرفتَ وسَتَعرف أنّ الأخَوين عِماد الدولة ورُكن الدولة المُترجَم له كيف اشتورا بينهما في أمر إنشاء دولة مستقلة لأخيهما الأصغر مُعزّ الدولة، بهذا التدبير الحكيم، وهذا الإنصاف العجيب، وهذه الغيرية الرائعة قضوا على أسباب النزاع فيما بينهم، وحسموا العلّة قبل سريان العلّة، بل حصّنوا نفوسهم بمناعة تُبعد عنها شبح العلّة، فكان لهم بهذه الحكمة ذلك الظُهور، وكان كلّ منهم ظهيراً لأخيه على ردّ كيد كلّ مَن تُحدّثه نفسه بالاعتداء على مملكته، فما استقرّ في سَنة ثلاث وعشرين وثلاثمئة مُلك عِماد الدولة

١٦٤

لفارس حتّى كانت الري وأصبهان والجبل في يد رُكن الدولة ويد وشمكير ابن زيار أخي مرداويج يتنازعان عليها.

وفي هذه السَنة وُلد وَلده عضُد الدولة أبو شجاع فناخسرو بأصبهان، وهو الّذي انتهى إليه كلّ ما شاد بنو بويه مِن الممالك ومِن الأُبّهة والمَجد والعَظَمة، وما استجدّه في مُدّته مِن الممالك الأُخرى، وما بَلَغه مِن القوّة والنُفوذ على عاصمة الخلافة بغداد وخلفائها، كما ستراه مبسوطاً في ترجمته.

غَلَبة وشمكير لرُكن الدولة على أصبهان:

في سنة سبع وعشرين وثلاثمئة:

أرسل وشمكير بن زيار أخو مرداويج جيشاً كثيفاً مِن الري إلى أصبهان، وبها رُكن الدولة فأزالوه عنها، واستولوا عليها، وخطبوا فيها لوشمكير، ثُمّ سار رُكن الدولة إلى بلاد فارس فنزل بظاهر اصطخر، وسار وشمكير إلى قلعة ألموت فملكها وعاد عنها.

مسيره إلى واسط:

في سنة ثمان وعشرين وثلاثمئة:

سار رُكن الدولة إلى واسط، وكان سَبب ذلك أنّ أبا عبد الله البريدي أنفذ جيشاً إلى السوس، وقتل قائداً مِن الديلم، فتحصّن أبو جعفر الصيمري بقلعة السوس، وكان على خراجها، وكان مُعزّ الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه بالأهواز فخاف أن يسير إليه البريدي مِن البصرة، فكَتب إلى أخيه رُكن الدولة وهو بباب اصطخر قد عاد مِن أصبهان بعد غلبة جيش وشمكير عليها، فلمّا أتاه كتاب أخيه سار إليه مُجدّاً يَطوي المنازل حتّى وصل إلى السوس، ثُمّ سار إلى واسط ليستَولّي عليها، إذ كان قد خرج عن أصبهان وليس له مُلك ليستقلّ به، فنزل بالجانب الشرقي، وكان البريديون بالجانب الغربي، فاضطرب رجال ابن بويه فاستأمن منهم مئة رجل إلى البريدي.

استرداد رُكن الدولة أصبهان:

عاد رُكن الدولة مِن واسط في هذه السَنة، واستولى على أصبهان، وسار مِن رامهرمز فاستولى عليها وأخرج عنها أصحاب وشمكير، وقتل منهم

١٦٥

وأسر بضعة عشر قائداً، وكان سَبَب ذلك أنّ وشمكير كان قد أنفذ عسكره إلى (ماكان) نجدة له، فخلت بلاد وشمكير مِن العساكر، وسار رُكن الدولة إلى أصبهان وبها نَفَرٌ يسير مِن العساكر فهزمهم واستولى عليها.

مُحالفة رُكن الدولة وأخيه عماد الدولة لأبي عليّ بن محتاج.

ومدّ رُكن الدولة له بالجيش لمحاربة ماكان ووشمكير، وكاتب هو وأخوه عِماد الدولة أبا عليّ بن محتاج يُحرّضانه على ماكان ووشمكير ويَعدانه المُساعدة عليهما، فصار بذلك بينهما مودّة، وكان قصدهما مِن هذا التحريض والوعد بالمساعدة أنْ تُؤخذ الري مِن وشمكير، فإذا أخذها أبو علي لا يُمكنه المُقام بها لسعة ولايته بخُراسان، فيُغلبان عليها، وبَلغَ أمرُ اتّفاقهم إلى وشمكير، وكاتب ماكان بن كالي يستخدمه ويُعرّفه الحال، فسار ماكان بن كالي مِن طبرستان إلى الري، وسار أبو علي وأتاه عسكر رُكن الدولة بن بويه، فاجتمعوا معه باسحاقاباذ والتقوا هُم ووشمكير، ووقف ماكان بن كالي في القلب وباشرَ الحرب بنفسه، وعبّئ أبو علي أصحابه كردايس، وأمرَ مَن بإزاء القلب أنْ يُلحّوا عليهم في القتال، ثُمّ يتطاردوا لهم ويَستجرّوهم، ثُمّ وصّى مَن بإزاء الميمنة والميسرة أنْ يُناوشوهم مُناوشة بمقدار ما يشغلونهم عن مُساعدة مَن في القلب ولا يُناجزوهم، ففعلوا بذلك، وألحّ أصحابه على قلب وشمكير بالحرب، ثُمّ تطاردوا لهم فطمع فيهم ماكان ومَن معه، فتبعوهم وفارقوا مواقفهم، فحينئذ أمرَ أبو علي الكراديس الّتي بإزاء الميمنة والميسرة أنْ يَتقدّم بعضهم ويأتي مَن في قلب وشمكير مِن ورائهم، ففعلوا ذلك، فلمّا رأى أبو علي أصحابه قد أقبلوا مِن وراء ماكان ومَن معه مِن أصحابه أمَرَ المُتطاردون بالعَود والحملة على ماكان وأصحابه، وكانت نفوسهم قد قَويت بأصحابهم، فرجعوا وحملوا على أولئك وأخذهم السيف مِن بين أيديهم ومِن خَلفهم، فولّوا مُنهزمين، فلمّا رأى ماكان ذلك ترجّل وأبلى بلاء حسناً، وظهرتْ منه شجاعة لم يَرَ الناس مثلها، فأتاه سَهم غرب فوقع في جبينه، فنفذ في الخوذة والرأس حتّى طلع مِن قفاه وسقط ميّتاً، وهرب وشمكير ومَن سَلِم معه إلى طبرستان.

استيلاء رُكن الدولة على الري:

وفي سنة ثلاثين وثلاثمئة لمّا سمِع رُكن الدولة وأخوه عِماد الدولة

١٦٦

بملك وشمكير الري طمعا فيه؛ لأنّ وشمكير كان قد ضعُف، وقلّتْ رجاله وماله بتلك الحادثة مع أبي علي، فسار رُكن الدولة إلى الري واقتتل هو ووشمكير، فانهزم وشمكير، واستأمن كثير مِن رجاله إلى رُكن الدولة، فسار وشمكير إلى طبرستان، فقصده الحَسن بن الفيرزان فاستأمن إليه كثير مِن عسكره أيضاً، فانهزم وشمكير إلى خُراسان.

ثُمّ إنّ الحسن بن الفيرزان راسل رُكن الدولة وواصله، فتزوّج رُكن الدولة بنتاً للحسن، فولدت له ولده فَخر الدولة عليّاً.

مُحاولة أبي عليّ بن محتاج مُلْك الريّ وعوده قبل مُلكها:

لمّا استقرّ الأمير نوح في ولايته بما وراء النهر وخُراسان أمَرَ أبا عليّ بن محتاج أنْ يَسير في عساكر خُراسان إلى الريّ ويستنقذُها مِن يدِ رُكن الدولة، فسار في جمع كثير فلقيه وشمكير بخُراسان وهو يَقصد الأمير نوحاً فسيّره إليه، وكان نوح حينئذ بمرو، فلمّا قَدِم عليه أكرمه وأنزله وبالغ في إكرامه والإحسان إليه.

وأمّا أبو علي، فإنّه سار نحو الري، فلمّا نزل ببسطام خالف عليه بعض مَن معه، وعادوا عنه مع منصور بن قراتكين - وهو من أكابر أصحاب نوح وخواصه - فساروا نحو جرجان وبها الحسن بن الفيرزان، فصدّهم الحسن عنها فانصرفوا إلى نيسابور، وسار أبو علي نحو الري فيمَن بقي معه، فخرج إليه رُكن الدولة مُحارباً فالتقوا على ثلاثة فراسخ مِن الري، وكان مع أبي عليّ جماعة كثيرة مِن الأكراد، ففرّوا منه واستأمنوا إلى رُكن الدولة، فانهزم أبو علي وعاد نحو نيسابور، وغنموا بعض أثقاله.

استيلاءُ أبي عليّ على الري:

ثُمّ سار أبو عليّ في هذه السنة - وهي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمئة - مِن نيسابور إلى نوح وهو بمرو، فاجتمع به فأعاده إلى نيسابور، وأمدّه بجيش كثير فعاد إلى نيسابور، وسار منها إلى الري في جمادى الآخرة وبها رُكن الدولة، فلمّا عَلِم رُكن الدولة بكثرة جموعه سار عن الري، واستولى أبو عليّ عليها وعلى سائر أعمال الجبال، وأنفذ نوّابه إلى الأعمال، وذلك في شهر رمضان مِن هذه السَنة.

ثُمّ إنّ الأمير نوحاً سار مِن مرو إلى نيسابور

١٦٧

فوصل إليها في رجب، وأقام بها خمسين يوماً، فوضع أعداء أبي علي جماعة مِن الغوغاء والعامّة فاجتمعوا واستغاثوا عليه، وشكوا سوء سيرته وسيرة نوّابه، فاستعمل الأمير نوح على نيسابور إبراهيم بن سيمجور، وعاد عنها إلى بُخارى في رمضان، وكان مُرادهم بذلك أنْ يَقطعوا طمع أبي علي عن خُراسان ليُقيم بالري وبلاد الجبل، فاستوحش أبو عليّ لذلك؛ فإنّه كان يَعتقد أنه يُحسن إليه بسبب فتح الري وتلك الأعمال، فلمّا عُزل شقَّ عليه ذلك، ووجّه أخاه أبا العبّاس الفضل بن محمّد إلى كور الجبال وولاّه همذان، وجعله خليفة على مَن معه مِن العساكر، فقصدَ الفضل نهاوند والدينور وغيرهما واستولى عليها، واستأمن إليه رُؤساء الأكراد مِن تلك الناحية، وأنفذوا إليه رهائنهم.

اختلافُ أبي عليّ والأمير نوح ثُمّ مُصالحتهما وانتهاز عِماد الدولة الفُرصة لاستعادة رُكن الدولة الري:

ما كانَ لعمادِ الدولةِ مِن التدبير لاستعادة رُكن الدولة الري:

استقرّ الصُلح بين الأمير نوح وأبي علي بعد الخلاف، وكان ذلك في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة.

لمّا سار أبو علي نحو الري في عساكر خُراسان، كَتب رُكن الدولة إلى أخيه عِماد الدولة فأرسل إليه يأمره بُمفارقة الري والوصول إليه لتدبير له في ذلك، ففعل رُكن الدولة ذلك، ودخل أبو علي الريَّ فكَتب عماد الدولة إلى نوح سِرّاً يبذل له في الري في كُلّ سَنة زيادة على ما بذله أبو علي مئة ألف دينار، ويُعجّل ضمان سَنة، ويَبذل مِن نفسه مُساعدته على أبي علي حتّى يَظفر به وخوفه منه، فاستشار نوح أصحابه - وكانوا يحسدون أبا علي ويُعادونه - فأشاروا عليه بإجابته، فأرسل نوح إلى ابن بويه مَن يُقرّر القاعدة ويَقبض المال، فأكرم الرسول ووصله بمال جزيل، وأرسل إلى أبي علي يُعلمه خبر هذه الرسالة، وأنّه مُقيم على عهده وودّه وحذره مِن غدر الأمير نوح، فأنفذ أبو علي رسوله إلى إبراهيم وهو بالموصل يستدعيه ليُملّكه البلاد، فسار إبراهيم، فلقيه أبو علي بهمذان وساروا إلى خُراسان، وكَتب عِماد الدولة إلى أخيه رُكن الدولة يأمره بالمُبادرة إلى الريّ، فعاد إليه

١٦٨

واضطربت خُراسان، وردّ عماد الدولة رسول نوح بغير مال، وقال:

أخاف أنْ أنفذ المال فيأخذه أبو علي، وأرسل إلى نوح يُحذّره مِن أبي علي ويَعده بالمُساعدة عليه، وأرسل إلى أبي علي يعده بإنفاذ العساكر نجدة له، ويُشير عليه بسُرعة اللقاء. وإنّ نوحاً سار فالتقى هو وأبي علي بنيسابور، فانهزم نوح وعاد إلى سمرقند، واستولى أبو علي على بُخارا.

إنّ هذا الخلاف بين أبي علي ونوح وعودة أبي علي إلى خُراسان مكّنا لرُكن الدولة مِن الرُجوع إلى الري والاستيلاء عليها وعلى سائر أعمال الجبل، وأزال عنها الخُراسانيّة، دع ذلك، الدهاء العظيم الّذي أوقع به عِماد الدولة بين خَصميه وخَصمَي أخيه نوح وأبي علي، فكانت منه الفرصة وانتهازها لعَودة أخيه رُكن الدولة إلى الري، وانتهى ضعف خُصوم البويهيّين إلى قوّتهم وعِظَم مُلكهم، حتّى صار بأيديهم أعمال الري والجبل وفارس والأهواز والعراق، ويُحمل إليهم ضمان الموصل وديار بَكر وديار مُضر مِن الجزيرة.

مُلك رُكن الدولة طبرستان وجُرجان:

في ربيع الأوّل سنة ستّ وثلاثين وثلاثمئة اجتمع رُكن الدولة والحسن بن الفيرزان، وقصدا بلاد وشمكير فالتقاهما وانهزم منهما، ومَلك رُكن الدولة طبرستان وسار منها إلى جُرجان فملكها، واستأمن مِن قواد وشمكير مئة وثلاثة عشر قائداً، فأقام الحسن بن الفيرزان بجُرجان، ومضى وشمكير إلى خُراسان مُستجيراً ومستنجداً لإعادة بلاده.

مُلك مُعزّ الدولة الموصل على ناصر الدولة والصُلح بينهما على قاعدة ميل، والخطبة في بلاده له ولأخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة:

في سنة سبع وثلاثين وثلاثمئة قصد مُعزّ الدولة مِن بغداد ناصر الدولة بن حمدان، فلمّا سمع ناصر الدولة بذلك سار عن الموصل إلى نصيبين، ووصل مُعزّ الدولة فمَلك الموصل، ولمّا همَّ أنْ يملك جميع بلاد ناصر الدولة أتاه الخبر مِن أخيه رُكن الدولة بقصد عساكر خُراسان جرجان

١٦٩

والري، ويطلب منه العساكر نجدةً فاضطرّ إلى مُصالحة ناصر الدولة، واستقرار الحال بينهما على مالٍ والخُطبة له في بلاده ولأخَويه عِماد الدولة وناصر الدولة.

وسار في هذه السَنة منصور بن قراتكين في جيوش خُراسان إلى جُرجان وبصُحبته وشمكير، فتمّ لهما امتلاك جُرجان صُلحاً مع الحسين بن الفيرزان عامل رُكن الدولة عليها، وبقي وشمكير بجُرجان.

مسير المرزبان إلى الري:

في هذه السنة سار المرزبان محمّد بن مسافر صاحب أذربيجان إلى الري؛ وسبب ذلك أنّه بلغه خُروج عساكر خُراسان إلى الري، وأنّ ذلك يُشغل رُكن الدولة عنه.

ثُمّ إنّه كان أرسل رسولاً إلى مُعزّ الدولة، فحَلق مُعزّ الدولة لحيته، وسبّه وسبّ صاحبه وكان سفيهاً، فعظُم ذلك على المرزبان، وأخذ في جمع العساكر، واستأمن إليه بعض قوّاد رُكن الدولة وأطمعه في الري، وأخبره أنّ مَنْ وراءه مِن القوّاد يُريدونه، فطمع لذلك، وراسله ناصر الدولة يَعدُه المُساعدة، ويُشير عليه أنْ يَبتدئ ببغداد، فحالفه ثُمّ أحضر أباه وأخاه وهسوذان، واستشارهما في ذلك، فنهاه أبوه عن قصد الري فلم يقبل، فلمّا ودّعه بكى أبوه، وقال:

يا بُني، أين أطلبك بعد يومي هذا، قال: إمّا في دار الإمارة بالري، وإمّا بين القتلى، فلمّا عرف رُكن الدولة خبره كَتب إلى أخَوَيه عِماد الدولة ومُعزّ الدولة يَستمدّهما، فسَيّر عِماد الدولة ألفَي فارس، وسير إليه مُعزّ الدولة جيشاً مع سبكتكين التركي، وأنفذ عهداً مِن المُطيع لله لركن الدولة بخُراسان، فلمّا صاروا بالدينور خالف الدَيلم على سبكتكين وكبسوه ليلاً، فركب فرس النوبة ونجا، واجتمع الأتراك عليه، فعلم الديلم أنّهم لا قوّة لهم به، فعادوا إليه وتضرّعوا فقبِل عُذرهم، وكان رُكن الدولة قد شَرع مع المرزبان في المُخادعة وإعمال الحيلة، فكَتب إليه يتواضع له ويُعظّمه، ويَسأله أن ينصرف عنه على شرط أن يُسلّم إليه رُكن الدولة زنجان وأبهر وقزوين، وتردّدت الرُسل في ذلك إلى أنْ وصله المَدد مِن عِماد الدولة ومُعزّ الدولة، وأحضر معه محمّد بن عبد الرزّاق، وأنفذ له الحسن بن الفيرزان عسكراً مع محمّد بن ماكان، فلمّا كَثُر جمعه قبض على جماعة ممَّن كان يتّهمهم مِن قوّاده، وسار إلى قزوين فعلم المرزبان عجزه

١٧٠

عنه، وأنِفَ مِن الرُجوع فالتقيا، فانهزم عسكر المرزبان، وأُخذ أسيراً وحُمل إلى سميرم فحُبس بها، وعاد رُكن الدولة ونزل محمّد بن عبد الرزاق بنواحي أذربيجان.

وأمّا أصحاب المرزبان، فإنّهم اجتمعوا على أبيه محمّد بن مسافر وولّوه أمرهم، فهرب منه ابنه وهسوذان إلى حصنٍ له، فأساء محمّد السيرة مع العسكر، فأرادوا قَتْله فهرب إلى ابنه وهسوذان، فقبض عليه وضيّق عليه حتّى مات، ثُمّ تحيّر وهسوذان في أمره، فاستدعى ديسم الكردي لطاعة الأكراد له، وقوّاه وسيّره إلى محمّد بن عبد الرزّاق، فالتقيا فانهزم ديسم وقوي ابن عبد الرزّاق، فأقام بنواحي آذربيجان يجبي أموالها، ثُمّ رجع إلى الري.

مسير الخراسانيّين إلى الري:

في سَنة تسع وثلاثين وثلاثمئة سار منصور بن قراتكين مِن نيسابور إلى الري في صَفر، أمَرَه الأمير نوح بذلك، وكان رُكن الدولة بفارس في شيراز مُستخلفاً على الريّ عليّ بن كامة، فوصل منصور إلى الري، وبها عليّ بن كامة خليفة رُكن الدولة، فسار عنها علي إلى أصبهان، ودخل منصور الري واستولى عليها، وفرق العساكر في البلاد، فملكوا بلاد الجبل إلى قرميسين، وأزالوا عنها نوّاب رُكن الدولة، واستولوا على همذان وغيرها، فبلَغَ الخبر إلى رُكن الدولة وهو بفارس، فكَتب إلى أخيه مُعزّ الدولة يأمره بإنفاذ عسكر يَدفع تلك العساكر عن النواحي المُجاورة للعراق، فسَيَّر سبكتكين الحاجب في عسكر ضخم مِن الأتراك والديلم والعَرب، فلمّا سارَ سبكتكين عن بغداد خَلّف أثقاله وأسرى جريدة إلى مَن بقرميسين مِن الخُراسانيّين، فكبسوهم وهُم غارون فقَتل فيهم، وأسر مُقدّمهم مَن الحمام واسمه بجكم الخمار تكيني، فأنفذه مع الأسرى إلى مُعزّ الدولة، فحبسه مُدّة ثُمّ أطلقه، فلمّا بَلغَ الخراسانيّة ذلك اجتمعوا إلى همذان، فسار سبكتكين نحوهم، ففارقوا همذان ولم يُحاربوه، ودخل سبكتكين همذان، وأقام بها إلى أن وَرَد عليه رُكن الدولة، فلمّا بقيَ بينهما مقدار عشرين فَرسخاً عَدَلَ منصور إلى أصبهان، ولو قصد همذان لانحاز رُكن الدولة عنه، وكان مَلَك البلاد بسبب اختلافٍ كان في عسكر رُكن الدولة، ولكنّه عَدَلَ عنه لأمرٍ يُريده الله تعالى.

وتَقدّم رُكن الدولة إلى سبكتكين بالمسير في مُقدّمته، فلمّا أراد المسير

١٧١

شغب عليه بعض الأتراك مَرّة بعد أُخرى، فقال رُكن الدولة:

هؤلاء أعداؤنا ومعنا، والرأي أنْ نبدأ بهم فواقعهم واقتتلوا فانهزم الأتراك، وبلَغَ الخبر إلى مُعزّ الدولة، فكَتب إلى ابن أبي الشوك الكُردي وغيره يأمرهم بطلبهم والإيقاع بهم، فطلبوهم وأسروا منهم وقُتلوا، ومضى مَن سَلِمَ منهم إلى الموصل.

وسار رُكن الدولة نحو أصبهان، ووصل ابن قراتكين إلى أصبهان، فانتقل مَن كان بها مِن أصحاب رُكن الدولة وأهله وأسبابه، وركبوا الصعب والذلول حتّى البقر والحمير، وبلغ كراء الثور والحمار إلى خان لنجان مئة درهم، وهي على تسعة فراسخ مِن أصبهان، فلم يُمكنهم مُجاوزة ذلك الموضع، ولو سار إليهم منصور لغنمهم وأخذ ما معهم وملك ما وراءهم، إلاّ أنّه دخل أصبهان وأقام بها، ووصل رُكن الدول فنَزَل بخان لنجان، وجرت بينهما حُروب عدّة أيام وضاقت الميرة على الطائفتين، وبلغ بهم الأمر إلى أن ذبحوا دوابهم، ولو أمكن رُكن الدولة الانهزام لفعل، ولكنّه تَعذّر عليه ذلك، واستشار وزيره أبا الفضل بن العميد في بعض الليالي في الهرب، فقال له:

لا ملجأ لكَ إلاّ الله تعالى، فانوِ للمسلمين خيراً، وصمِّم العَزم على حُسن السيرة والإحسان إليهم، فإنّ الحِيَل البشريّة كُلّها تَقطّعت بنا، وإنْ انهزمنا تبعونا وأهلكونا، وهم أكثر مِنّا فلا يفلت منّا أحد.

فقال له: قد سبقتُك إلى هذا، فلمّا كان الثُلث الأخير مِن الليل أتاهم الخبر أنّ منصوراً وعسكره قد عادوا إلى الري وتركوا خيامهم؛ وكان سببُ ذلك أنّ الميرة والعلوفة ضاقت عليهم أيضاً، إلاّ أنّ الديلم كانوا يَصبرون ويَقنعون بالقليل مِن الطعام، وإذا ذبحوا دابّة أو جَمَلاً قسّمه الخَلْق الكثير منهم، وكان الخُراسانيّة بالضدِّ منهم - لا يصبرون ولا يكفيهم القليل - فشغبوا على المَنصور واختلفوا وعادوا إلى الري، فكان عودهم في المُحرّم سنة أربعين وثلاثمئة، فأتى الخبر رُكن الدولة فلم يُصدّقه حتّى تواتر عنده، فركب هو وعسكره واحتوى على ما خلّفه الخُراسانيّة.

حكى الفضل بن العميد، قال:

استدعاني رُكن الدولة تلك الليلة الثُلث الأخير، وقال لي: قد رأيت الساعة في منامي كأنّي على دابّتي فيروز، وقد انهزم عدوّنا وأنت تسير إلى جانبي وقد جاءنا الفَرَج مِن حيث لا نَحتسب، فمددّتُ عيني فرأيت على الأرض خاتماً فأخذته فإذا فصّه من فيروزج، فجعلته في أصبعي وتَبرّكت به، وانتبهت وقد أيقنت بالظَفَر؛ فإنّ

١٧٢

الفيروزج مَعناهُ الظَفَر، ولذلك لقّبَ الدابّة فيروز.

قال ابن العميد:

فأتانا الخبر والبشارة بأنّ العدوّ قد رَحَل فما صدّقنا حتّى تواترت الأخبار، فركبنا ولا نعرف سَبَبَ هَرَبهم، وسُرنا حذرين مِن كمين، وسرتُ إلى جانب رُكن الدولة وهو على فرسه فيروز، فصاح رُكن الدولة بغُلام بين يديه: ناولني ذلك الخاتم، فأخذ خاتماً مِن الأرض فناوله إيّاه فإذا هو فيروزج فجعله في إصبعه، وقال: هذا تأويل رؤياي، وهذا الخاتم الّذي رأيت مُنذ ساعة، وهذا مِن أحسن ما يُحكى وأعجبه.

مسير أبي علي إلى الري:

لمّا كان مِن أمر وشمكير ورُكن الدولة ما مرّ ذِكره في مُلك رُكن الدولة طبرستان وجرجان، في ربيع الأوّل سَنة سبعٍ وثلاثين وثلاثمئة، وانهزام وشمكير ومضيّه إلى خُراسان مُستجيراً ومستنجداً لإعادة بلاده كَتب وشمكير إلى الأمير نوح يستمدّه، فكتب نوح إلى أبي عليّ بن محتاج يأمره بالمسير في جيوش خُراسان إلى الري، وقتال ركن الدولة، فسار أبو علي في جيوش كثيرة واجتمع معه وشمكير، فسار إلى الري في شهر ربيع الأوّل مِن سَنة اثنتين وأربعين وثلاثمئة، وبلغَ الخبر رُكن الدولة، فعلم أنّه لا طاقة له بمَن قصده، فرأى أن يحفظ بَلدَه ويُقاتل عدوّه مِن وجه واحد، فحارب الخُراسانيّين بطبرك، وأتاهم الشِتاء وملّوا فلم يصبروا، فاضطرّ أبو علي إلى الصُلح فتراسلوا في ذلك، وكان الرسول أبا جعفر الخازن، وكان المُشير به محمّد بن عبد الرزّاق فتصالحا، وتقرّر على رُكن الدولة كلّ سَنة مائتا ألف دينار، وعاد أبو علي إلى خُراسان، وكَتبَ وشمكير إلى الأمير نوح يُعرّفه الحال، ويَذكُر له أنّ أبا علي لم يَصدُق في الحرب، وأنّه مالأ رُكن الدولة، فاغتاظ نوح مِن أبي علي.

وأمّا رُكن الدولة، فإنّه لمّا عاد عنه أبو علي سار نحو وشمكير، فانهزم وشمكير مِن بين يديه إلى اسفراين، واستولى رُكن الدولة على طبرستان.

عَزلُ نوح أبا علي عن خُراسان والتجاء أبي علي إلى رُكن الدولة:

لمّا اتّصل خَبر عود أبي علي عن الري إلى الأمير نوح ساءه ذلك، وكَتب وشمكير إلى نوح يُلزم الذنب أبا علي كما سبق بيانه، فكَتب نوح إلى

١٧٣

أبي علي يعزله عن خُراسان، وكَتب إلى القوّاد يُعرّفهم ذلك، وأقام قائداً على الجيوش أبا سعيد بكر بن مالك الفرغاني، فأنفذ أبو علي يعتذر، وأرسل جماعة مِن أعيان نيسابور يُقيمون عُذره، ويسألون أنْ لا يُعزَل عنهم، فلم يُجابوا إلى ذلك، ولمّا عُزل أبو علي عن خُراسان أظهر الخلاف، وخطبَ لنفسه بنيسابور، وكَتب نوح إلى وشمكير والحسن بن الفيرزان يأمرهما بالصُلح، وأنْ يتساعدا على مَن يُخالف الدولة ففعلا ذلك، فلما عَلِمَ أبو علي باتّفاق الناس مع نوح عليه كاتب رُكن الدولة في المصير إليه؛ لأنّه عَلِمَ أنّه لا يُمكنه المقام بخُراسان، ولا يُقدر على العود إلى الصغانيان، فاضطرّ إلى مُكاتبة رُكن الدولة في المصير إليه، فأذِن له في ذلك، فسار في سنة ثلاث وأربعين وثلاثمئة إلى الري، فلقيه رُكن الدولة وأكرمه، وأقام له الأنزال والضيافة له ولمَن معه، وطلب أبو علي أن يكتُب له عهداً مِن جهة الخليفة بولاية خُراسان فأرسل رُكن الدولة إلى مُعزّ الدولة في ذلك، فسيَّر له عهداً بما طلب، وسيَّر له نجدة مِن عسكره، فسارَ أبو علي إلى خُراسان واستولى على نيسابور، وخطب للمُطيع بها وبما استولى عليه مِن خُراسان، ولم يكن يَخطب له بها قبل ذلك.

ثُمّ إنّ نوحاً مات في خلال ذلك، وتولّى بعده ولَدَه عبد المَلك، فلمّا استقرّ أمره سيّر بكر بن مالك إلى خُراسان مِن بُخارى، وجعله مُقدّماً على جيوشها، وأمره بإخراج أبي علي مِن خُراسان، فسار في العساكر نحو أبي علي فتفرّق عنه أصحابه وعسكره، وبقيَ معه مِن أصحابه مئتا رجل سوى مَن كان عنده مِن الديلم نجدة له، فاضطرّ إلى الهرب، فسار نحو رُكن الدولة فأنزله معه في الري، واستولى ابن مالك على خُراسان، فأقام بنيسابور وتتبّع أصحاب أبي علي.

خُروج الخُراسانيّة إلى الري وأصبهان وانهزامهم بعد ظَفَرهم:

في سَنة أربع وأربعين وثلاثمئة خَرج عَسكر خُراسان إلى الري، وبها رُكن الدولة كان قد قَدمها من جُرجان أوّل المُحرّم، فكَتب إلى أخيه مُعزّ الدولة يستمدّه، فأمدّه بعسكر مُقدّمهم الحاجب سبكتكين، وسيّر مِن خُراسان عسكراً آخر إلى أصبهان على طريق المفازة وبها الأمير أبو منصور بويه بن رُكن الدولة، فلمّا بَلَغَه خبرهم سار عن أصبهان بالخزائن والحُرم الّتي لأبيه، فبلغوا خان لنجان، وكان مُقدّم العسكر الخُراساني محمّد بن ماكان، فوصلوا

١٧٤

إلى أصبهان فدخلوها، وخرج ابن ماكان منها في طلب بويه، فأدرك الخزائن فأخذها وسار في أثره، وكان مِن لُطف الله به أنّ الأُستاذ أبا الفضل بن العميد وزير رُكن الدولة اتّصل بهم في تلك الساعة، فعارض ابن ماكان وقاتله، فانهزم أصحاب ابن العميد عنه، واشتغل أصحاب ابن ماكان بالنهب.

قال ابن العميد:

فبقيت وحدي وأردت اللحاق بأصحابي، ففكّرت وقلت: بأي وجه ألقى صاحبي وقد أسلمت أهله وأولاده وأمواله ومُلكه ونجوت بنفسي، فرأيت القتلَ أيسر عليَّ مِن ذلك، فوقفت وعسكر ابن ماكان يَنهب أثقالي وأثقال عسكري، فلحق بابن العميد نفر مِن أصحابه ووقفوا معه، وأتاهم غيرهم، فاجتمع معهم جماعة، فحمل على الخُراسانيّين وهُم مشغولون بالنهب وصاحوا فيهم، فانهزم الخُراسانيّون، فأُخذوا مِن بين قتيل وأسير، وأُسر ابن ماكان وأُحضر عند ابن العميد، وسار ابن العميد إلى أصبهان فأخرج مَن كان بها مِن أصحاب ابن ماكان، وأعاد أولاد رُكن الدولة وحَرمه إلى أصبهان واستنقذ أمواله.

ثُمّ إنّ رُكن الدولة أرسل بكر بن مالك صاحب جيوش خُراسان واستماله، فاصطلحا على مال يَحمله رُكن الدولة إليه ويكون الري وبلد الجبل مع رُكن الدولة، وأرسل رُكن الدولة إلى أخيه مُعزّ الدولة يَطلب خلعاً ولواء بولاية خُراسان لبكر بن مالك فأرسل إليه ذلك.

استيلاء رُكن الدولة على طبرستان وجُرجان:

في المُحرّم سَنة إحدى وخمسين وثلاثمئة سار رُكن الدولة إلى طبرستان وبها وشمكير، فنزل على مدينة سارية فحصرها وملكها، ففارق حينئذٍ وشمكير طبرستان وقصد جُرجان، فأقام رُكن الدولة بطبرستان إلى أن ملكها كلّها وأصلح أمورها، وسار في طلب وشمكير إلى جُرجان، فأزاحه عنها واستولى عليها، واستأمن إليه مِن عسكر وشمكير ثلاثة آلاف رجُل، فازداد قوّة وازداد وشمكير ضعفاً ووهناً، فدخل بلاد الجبل.

التجاء إبراهيم بن المرزبان إلى رُكن الدولة:

في سَنة خمس وخمسين وثلاثمئة سيّر أبو القاسم بن مسيكي مِن وهسوذان بالجيوش إلى إبراهيم بن المرزبان، وانهزم وتبعه الطلب فلم

١٧٥

يُدركوه، وسار وحده حتّى وصل إلى الري إلى رُكن الدولة، فأكرمه وأحسن إليه، وكان زوج أخت إبراهيم فبالغ في إكرامه، وأجزل له الهدايا والصلات.

الغُزاة الخُراسانيّة مع رُكن الدولة:

في هذه السنة في شهر رمضان خرج مِن خُراسان جمعٌ عظيم يبلغون عشرين ألفاً إلى الري بنيّة الغُزاة، فَبلغَ خبرهم إلى رُكن الدولة وكثرة جَمعهم وما فعلوه في أطراف بلاده مِن الفساد، وأنّ رؤساءهم لم يمنعوهم عن ذلك، فأشار عليه الأستاذ أبو الفضل بن العميد - وهو وزيره - بمنعهم مِن دُخول بلاده مُجتمعين، فقال:

لا، تتحدّث المُلوك أنّني خِفت جمعاً مِن الغُزاة. فأشار عليه بتأخيرهم إلى أن يجمع عسكره، وكانوا مُتفرّقين في أعمالهم، فلم يقبل منه، فقال له:

أخاف أنْ يكون لهُم مع صاحب خُراسان مواطأة على بلادك ودولتك. فلم يلتفت إلى قوله، فلمّا وردوا الري اجتمع رؤساؤهم وفيهم القفال الفقيه، وحضروا مجلس ابن العميد، وطلبوا مالاً يُنفقونه، فوعدهم فاشتطّوا في الطَلَب، وقالوا:

نُريد خراج هذه البلاد جيعها فإنّه لبيت المال، وقد فعل الروم بالمسلمين ما بَلغكم، واستولوا على بلادكم، وكذلك الأرمن، ونحن غُزاة وفقراء، وأبناء سبيل، فنحن أحقّ بالمال منكم. وطلبوا جيشاً يَخرج معهم واشتطّوا في الاقتراح، فعلم ابن العميد حينئذٍ خُبث سرائرهم، وتيقّن ما كان ظنّه فيهم فرفق بهم وداراهم، فعَدلوا عنه إلى مُشاتَمة الديلم ولعنهم وتَكفيرهم، ثُمّ قاموا عنه وشرعوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويُسلّبون العامّة بحُجّة ذلك.

ثُمّ إنّهم أثاروا الفتنة وحاربوا جماعة مِن الديلم إلى أنْ حَجز بينهم الليل، ثُمّ باكروا القتال ودخلوا المدينة ونهبوا دار الوزير ابن العميد وجرحوه وسَلِمَ مِن القتل، وخرج رُكن الدولة إليهم في أصحابه وكان في قلّة، فهزمه الخُراسانيّة، فلو تبعوه لأتوا عليه وملكوا البلد منه، لكنّهم عادوا عنه؛ لأنّ الليل أدركهم، فلمّا أصبحوا راسلهم رُكن الدولة ولطُف بهم؛ لعلّهم يَسيرون مِن بلده فلم يفعلوا، وكانوا ينتظرون مَدداً يأتيهم مِن صاحب خُراسان، فإنّه كان بينهم مواعدة على تلك البلاد.

ثُمّ إنّهم اجتمعوا وقصدوا البلد ليملكوه، فخرج رُكن الدولة إليهم فقاتلهم، وأمر نَفَراً مِن أصحابه أنْ يسيروا إلى مكانِ سيرهم، ثُمّ يُثيروا غُبرة شديدة ويُرسلوا إليه مَن يُخبره أنّ الجيوش قد أتته، ففعلوا ذلك، وكان

١٧٦

أصحابه قد خافوا لقلّتهم وكثرة عدوّهم، فلمّا رأوا الغُبرة وأتاهم مَن أخبرهم أنّ أصحابهم لحقوهم قويَت نفوسهم، وقال لهم رُكن الدولة:

احملوا على هؤلاء لعلّنا نَظفر بهم قبل وصول أصحابنا فيكون الظَفَر والغنيمة لنا، فكَبّروا وحملوا حملة صادقة، فكان لهم الظَفر، وانهزم الخُراسانيّة، وقُتل منهم خَلق كثير، وأُسر أكثر ممَّن قُتل، وتَفرّق الباقون، فطلبوا الأمان فأمّنهم رُكن الدولة، وكان قد دخل البلد جماعة منهم يُكبّرون كأنّهم يُقاتلون الكفار، ويقتلون كلّ مَن رأوه بزيِّ الديلم، ويقولون هؤلاء رافضة، فبلغهم خبر انهزام أصحابهم، وقصَدَهُم الديلم ليقتلوهم فمنعهم رُكن الدولة، وأمّنهم، وفتح لهم الطريق ليعودوا، ووصل بعدهم نحو ألفَي رجل بالعدّة والسلاح، فقاتلهم رُكن الدولة فهزمهم، وقتل فيهم ثُمّ أطلق الأُسارى، وأمر لهم بنفقات وردّهم إلى بلادهم، وكان إبراهيم بن المرزبان عند رُكن الدولة، فأثّر فيهم آثاراً حَسنة.

عود إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان ومعه ابن العميد نجدة:

في هذه السَنة عاد إبراهيم بن المرزبان إلى أذربيجان واستولى عليها، وكان سبب ذلك أنّه لمّا قصد رُكن الدولة لاجئاً إليه بعد انهزامه مِن أبي القاسم بن مسيكي، جهّز العساكر معه، وسيّر معه الأُستاذ أبا الفضل بن العميد ليردّه إلى ولايته، ويُصلح له أصحاب الأطراف، فسار معه إليها، واستولى عليه، وأصلح له جستان بن شرمزن وقاده إلى طاعته، وغيره مِن طوائف الأكراد ومكّنه مِن البلاد، وكان ابن العميد لمّا وصل إلى تلك البلاد، ورأى كثرة دخلها وسعة مياهها، ورأى ما يَتحصّل لإبراهيم منها، فوجده قليلاً لسوء تدبيره، وطمع الناس فيه لاشتغاله بالشُرب والنساء، فكَتب إلى رُكن الدولة يُعرّفه الحال، ويُشير بأنْ يُعوّضه مِن بعض ولايته بمقدار ما يَتحصّل له مِن هذه البلاد، ويأخذها منه، فإنّه لا يَستقيم له حال مع الّذين بها، وأنّها تُؤخذ منه، فامتنع رُكن الدولة مِن قبول ذلك منه، وقال:

لا يتحدّث الناس عنّي أنّي استجارَ بي إنسان وطمعت فيه. وأمر أبا الفضل بالعود عنه، وتسليم البلاد إليه ففعل، وعاد وحكى لرُكن الدولة صورة الحال، وحذّره خروج البلاد مِن يد إبراهيم، وكان الأمر كما ذكره حتّى أُخذ إبراهيم وحُبس.

إنّك لَتَرى مِن سداد تدبيره في الغَلبَة على الغُزاة الخُراسانيّة ومِن مُعاملته

١٧٧

أُساراهم ومَن وقع في قبضته مِن الرِفق بهم، وردّهم إلى بلادهم مُزوَّدين بالنفقات، ومِن عفّة نفسه عن امتلاك آذربيجان وأخذها مِن إبراهيم بن المرزبان العائذ به، ومِن استعادتها بتدبير وزيره ابن العميد وقوّة جيشه، وملكها على طرف التمام، وأبى على وزيره المُشار إليه مشورته عليه بالاستيلاء عليها، إنّك لَترى مِن ذلك حِكمة هذا الرجل العظيم، وعِفّة نفسه وبُعده عن الطمع في توسيع مُلكه مِن أيّ طريق اتّفق، كما هو شأن المُلوك والأُمراء، وبِمَِثل هذه الحال استطاع أنْ يحتفظ بِمملكته المُضطربة اضطراب السفينة في البحر الهائج، حيث لا يَعرف الاستقرار والطمأنينة مِن كثرة الطامعين فيها مِن هُنا وهُناك، وطلب المُلك مِن كلّ طامع في المُلك في ذلك العهد، سواء كان ممَّن لهُم سابقة فيه، أم كان مِن المستحدثين، والباب مفتوح إليهم جميعاً على مصراعيه مِن أعظم ما مُني به ذلك العصر وأهله مِن البلاء العظيم، وسترى مُضافاً إلى هذا وما يماثله لهذا الرجل الكبير مِن الفضائل ما تقف عليه في خروج عساكر خُراسان إلى بلاده الري في هذا العام.

خُروج عساكر خُراسان إلى الري:

في سَنة ستّ وخمسين وثلاثمئة جهّز الأمير منصور بن نوح - صاحب خُراسان وما وراء النهر - الجيوش إلى الري، وكان سَبب ذلك أنّ أبا علي بن إلياس سار مِن كرمان إلى بُخارا مُلتجئاً إلى الأمير منصور، فلمّا ورد عليه أكرمه وعظّمه، فأطمَعَه في ممالك بني بويه، وحسَّنَ له قصدها، وعرّفه أنّ نوّابه لا يُناصحونه، وأنّهم يأخذون الرُشا مِن الديلم، فوافق ذلك ما كان يَذكره له وشمكير، فكاتب الأمير منصور وشمكير والحسن بن الفيرزان يُعرّفهما ما عَزم عليه مِن قصْد الري، ويأمرهما بالتجهُّز لذلك ليسيرا مع عسكره، ثُمّ إنّه جهّزَ العساكر وسيّرها مع صاحب جيوش خُراسان، وهو أبو الحسن محمّد ابن إبراهيم بن سيمجور الدواني، وأمره بطاعة وشمكير والانقياد له والتَصرّف بأمره، وجعله مُقدّم الجيوش جميعها، فلمّا بلغَ الخبر إلى رُكن الدولة أتاه ما لم يكن في حِسابه، وأخذه المُقيم المقعد، وعَلِمَ أنّ الأمر قد بَلغ الغاية، فسيّر أولاده وأهله إلى أصبهان، وكاتب ولده عضُد الدولة يَستمدّه، وكاتب ابن أخيه عِزّ الدولة بختيار يستنجده أيضاً، فأمّا عضُد الدولة، فإنّه جهَّز العساكر وسيّرهم إلى طريق خُراسان، وأظهر أنّه يُريد قَصد

١٧٨

خُراسان لخُلوّها مِن العساكر، فبَلَغ الخَبر أهل خُراسان، فأحجموا قليلاً ثُمّ ساروا حتّى بَلغوا الدامغان، وبرز رُكن الدولة في عساكره مِن الريّ نحوهم، فاتّفق موت وشمكير، فكان سَبب موته أنّه وصله مِن صاحب خُراسان هدايا مِن جملتها خيل، فاستعرض الخيل واختار أحدها وركبه للصيد، فعارضه خنزير قد رُمي بحربة وهي ثابتة فيه، فحمل الخنزير على وشمكير وهو غافل، فضرب الفرس فشبّ تحته فألقاه إلى الأرض، وخرج الدم من أُذنيه وأنفه فحُمِل ميّتاً، وذلك في المُحرّم مِن سَنة سبع وخمسين، وانتقض جميع ما كانوا فيه وكفى الله رُكن الدولة شرّهم، ولمّا مات وشمكير قام ابنه بيستون مقامه، وراسل رُكن الدولة وصالحه، فأمدّه رُكن الدولة بالمال والرِجال.

ومِن أعجب ما يُحكى ممّا يُرغِّب في حُسن النيّة وكرم المَقدرة أنّ وشمكير لمّا اجتمعت معه عساكر خُراسان وسار كَتب إلى رُكن الدولة يتهدّده بِضروب مِن الوعيد والتهديد، ويقول:

والله لئن ظفرتُ بك لأفعلنَّ بكَ ولأصنعنَّ - بألفاظ قبيحة - فلم يتجاسر الكاتب أنْ يقرأه، فأخذه رُكن الدولة فقرأه، وقال للكاتب:

اكتب إليه أمّا جمعُك وأحشادك، فما كُنت قط أهون منك عليَّ الآن، وأمّا تهديدك وإيعادك، فوالله لئن ظفرتُ بك لأُعاملنَّك بضدّه ولأُحسننَّ إليك ولأُكرمنّك، فلقي وشمكير سوء نيّته ولقي رُكن الدولة حُسن نيّته.

وكان بطرستان عدوٌّ لرُكن الدولة يُقال له نوح بن نصر، شديد العداوة له، لا يزال يَجمع له ويقصد أطراف بلاده، فمات الآن.

وعصى عليه بهمذان إنسان يُقال له أحمد بن هارون الهمذاني - لمّا رأى خُروج عساكر خُراسان - وأظهر العصيان، فلمّا أتاه خبر موت وشمكير مات لوقته، وكفى الله رُكن الدولة همّ الجميع.

مَسير ابن العميد إلى حسنويه الكُردي:

في سَنة تسع وخمسين وثلاثمئة جهّز رُكن الدولة وزير أبا الفضل بن العميد في جيش كَثيف، وسيّرهم إلى بلد حَسنَويه بن الحسين الكُردي، وسَبب ذلك أنّه كان قد قويَ واستفحل أمرُه؛ لاشتغال رُكن الدولة بما هو أهمُّ منه؛ ولأنّه كان يُعين الدولة على جيوش خُراسان إذا قصدتهم، فكان رُكن الدولة يُراعيه لذلك، ويُغضي على ما يبدو منه، وكان يَتعرّض إلى

١٧٩

القوافل وغيرها بخفارة، فبلغ ذلك رُكن الدولة فسكت عنه، فلمّا كان الآن وقع بينه وبين سهلان بن مُسافر خلاف أدّى إلى أنْ قصده سهلان وحاربه، وهزمه حسنويه، فانحاز هو وأصحابه إلى مكان اجتمعوا فيه، فقصدهم حسنويه وحصرهم فيه، ثُمّ إنّه جمع مِن الشوك والنبات وغيره شيئاً كثيراً، وفرّقه في نواحي أرض سهلان، وألقى فيه النار، وكان الزمان صيفاً فاشتدَّ عليهم الأمر حتّى كادوا يَهلكون، فلمّا عاينوا الهلاك طلبوا الأمان فأمّنهم، فأخذهم عن آخرهم، وبلغَ ذلك رُكن الدولة فلم يحتمله له، فحينئذٍ أمَر ابن العميد بالمسير إليه، وكان ابن العميد مريضاً، فتجهّز وسار في المُحرّم ومعه ولده أبو الفتح، وكان شابّاً مَرِحاً قد أبطره الشباب والأمر والنهي، وكان يَظهَر منه ما يَغضب بسببه والده، وازدادت علّته، وكان به نقرس وغيره مِن الأمراض، فلمّا وصل إلى همذان تُوفّي بها، وقام ولده مقامُه، فصالح حسنويه على مال أخذه منه، وعاد إلى الريّ إلى خدمة رُكن الدولة، وكان والده يقول عند موته:

ما قتلني إلاّ ولدي، وما أخاف على بيت العميد أنْ يَخرب ويهلكوا إلاّ منه، فكان على ما ظن، وكان أبو الفضل بن العميد مِن محاسن الدُنيا وبه تَخرّج عضُد الدولة، ومنه تعلّم سياسة المُلك ومحبّته العِلم والعُلماء.

الصُلح بين الأمير منصور بن نوح ورُكن الدولة وعضُد الدولة:

في سَنة إحدى وستين وثلاثمئة تمَّ الصُلح بين الأمير منصور بن نوح الساماني صاحب خُراسان وما وراء النهر، وبين رُكن الدولة وابنه عضُد الدولة على أنْ يَحمل رُكن الدولة وعضُد الدولة إليه كلَّ سَنة مئة ألف وخمسين ألف دينار، وتزوّج نوح بابنة عضُد الدولة، وحَمل إليه مِن الهدايا والتُحف ما لم يَحمل مثله، وكُتب بينهم كتاب صلح، وشهّد فيه أعيان خُراسان وفارس والعراق، وكان الّذي سعى في هذا الصُلح وقرّره محمّد بن إبراهيم بن سيمجور صاحب جُيوش خُراسان مِن جِهة الأمير منصور.

مَزيّة جليلة مِن مزايا رُكن الدولة:

قد مرّ في تضاعيف أخبار الأُخوة الثلاثة بني بويه كلام في معنى تضامنهم العجيب، وحُرصهم على أنْ يكونوا كلّهم مُلوكاً لا يدخل الحسد في قلب واحد منهم على أخيه، وإنّ ذلك مِن أسباب فوزهم جميعاً بالمُلك،

١٨٠