تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 97060
تحميل: 7665


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 97060 / تحميل: 7665
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

رأي الناس على تأمير عبد الوهّاب بن أحمد بن مروان، وهو مِن أقارب القاضي، فوُلّي الإمارة بعد امتناع منه، واستكتب عليّ بن أحمد الّذي كان مع الهجريّين، فأمر عبد الوهّاب كاتبه عليّاً أنْ يُعطي الجُند أرزاقهم صِلة، ففعل ذلك، فلمّا انتهى إلى الزنج - وكانوا ستّة آلاف رجُل، ولهم بأس وشدة - قال لهم عليّ:

إنْ الأمير عبد الوهّاب أمَرني أنْ أُعطي البيض مِن الجُند كذا وكذا، وأمرَ لكُم بنصف ذلك. فاضطربوا وامتنعوا، فقال لهم:

هلْ لكُم أنْ تُبايعوني فأُعطيكم مثل سائر الجُند، فأجابوه إلى ذلك وبايعوه، وأعطاهم مِثل البيض مِن الجُند، فامتنع البيض مِن ذلك، ووقعت بينهم حَرب، فظَهَر الزنج عليهم، فسكتوا واتّفقوا مع الزنج، وأخرجوا عبد الوهّاب مِن البَلد، فاستقرّ في الإمارة عليّ بن أحمد.

ثُمّ إنّ مُعزّ الدولة سار إلى واسط لحربِ عِمران بن شاهين، ولإرسال جيش إلى عُمان في سنة ٣٥٥هـ، فلمّا وصل إلى واسط قَدِم عليه نافع الأسود - الّذي كان صاحب عُمان - فأحسن إليه وأقام للفراغ مِن أمرِ عِمران ابن شاهين، وانحدر مِن واسط إلى الأبلة في شهر رمضان، فأقام بها يُجّهز الجيش والمراكب ليَسيروا إلى عُمان ففرغ منه، وساروا مُنتصف شوّال، واستعمل عليهم أبا الفرج محمّد بن العبّاس بن فسانجس، وكانوا في مئة قطعة، فلمّا كانوا بسيراف انضمّ إليهم الجيش الّذي جهّزه عَضُد الدولة مِن فارس نجدة لعمّه مُعزّ الدولة، فاجتمعوا وساروا إلى عُمان، ودخلها تاسع ذي الحجّة، وخَطبَ لمُعزّ الدولة فيها، وقَتل مِن أهلها مَقتلة عظيمة، وأُحرقت مَراكبهم وهي تسعة وثمانون مَركباً.

ما جرى لمُعزّ الدولة مع عِمران بن شاهين:

في هذه السَنة اعتلَّ مُعزّ الدولة في واسط بعد أنْ استولى جيشه على عُمان لإتمام حرب عِمران ومِلك بَلده، فأقام بها فمَرِض، وأُصعد إلى بغداد لليلتين بقيتا مِن ربيع الأوّل سَنة ستّ وخمسين، وهو عليل، وخلّف العسكر بها، ووعدهم أنْ يعود إليهم، فلمّا وصل إلى بغداد تُوفّي فدعت الضرورة إلى مُصالحة عِمران والانصراف عنه.

مَوت مُعزّ الدولة وولاية ابنه بَختيار:

في ثالث عشر ربيع الآخر سَنة ٣٥٦هـ تُوفّي مُعزّ الدولة بعلّة الذرب

٢٠١

بعد أنْ أُصعد به مِن واسط وهو شديد المرض إلى بغداد، ولمّا أحسَّ بالموت عَهِد إلى ابنه عِزّ الدولة بختيار، وأظهر التوبة، وتَصدّق بأكثر ماله، وأعتق مماليكه، وردّ شيئاً كثيراً على أصحابه، ودُفن بباب التبن في مقابر قُريش، فكانت إمارته إحدى وعشرين سَنة وأحد عشر شهراً ويومين، وكان حليماً كريماً عاقلاً، ولمّا ماتَ مُعزّ الدولة وجلس ابنه عِزّ الدولة في الإمارة مَطر الناسُ ثلاثة أيّام بلياليها مَطراً دائماً مَنع الناس مِن الحركة، فأرسل إلى القوّاد فأرضاهم ولم يُتحرك أحدٌ، وكَتب عِزّ الدولة إلى العسكر بمُصالحة عِمران بن شاهين ففعلوا.

ما كَتَبَ عنه المُؤرّخون:

إنّ ما كتبناه عن مُعِزّ الدولة جُلّه مَنقول عن كامل ابن الأثير بعبارته إلاّ القليل، وإليك ما كَتَبَ عنه غيرُ ابن الأثير:

ففي وَفَيات الأعيان للقاضي ابن خلكان في ترجمته له:

وكان وصوله - مُعِزّ الدولة - إلى بغداد مِن جهة الأهواز، فدخلها مُتملّكاً يوم السبت لإحدى عشرة ليلةً خَلت مِن جُمادى الأُولى سَنة أربع وثلاثين وثلاثمئة، في خلافة المُستكفي وَملكها بلا كُلفة.

وذَكَر أبو الفرج بن الجوزي في كتاب شذور العقود: أنّ مُعِزّ الدولة المَذكور كان في أوّل أمره يَحمل الحَطب على رأسه، ثُمّ مَلك هو وإخوته البلاد وآل أمرُهم إلى ما آل، وكان مُعِزّ الدولة أصغر الأُخوة الثلاثة، وكانت مُدّة مُلكه العراق إحدى وعشرين سَنة وأحد عشر شهراً، وتُوفّي يوم الاثنين سابع عشر شهر ربيع الآخر سَنة ستٍّ وخمسين وثلاثمئة ببغداد - إلى أنْ قال - ومولده في سَنة ثلاث وثلاثمئة رَحمه الله.

قال أبو الحسن العلوي:

بينا أنا في داري على دجلة بمشرعة القصب، في ليلةٍ ذات غيمٍ ورعدٍ وبرقٍ سمعت صوتَ هاتف يقول:

لمّا بَلغتَ أبا الحُس ين مُراد نفسك في الطَلَبِ

وأمنتَ مِن حَدَث الليا لي واحتجبت عن النوبِ

مُدّتْ إليك يدُ الردى وأُخذتَ مِن بيت الذَهبِ

فإذا بمُعِزّ الدولة قد توفّي في تلك الليلة.

وقال ابن كثير في حوادث سنة ٣٥٠هـ - بعد أنْ ذَكر قَلق مُعِزّ الدولة

٢٠٢

مِن مرضه، وإصلاحه بين سبكتكين والوزير المهلبي، ووصيّته لهُما بولده بختيار خيراً، ثُمّ مُعافاته وعزمه على الانتقال إلى الأهواز، ثُمّ تحويل عزمه عن ذلك، وإشارة أصحابه عليه بالبقاء في بغداد، وأنْ يبني داراً في أعلاها -: فبنى له داراً غَرَمَ عليها ثلاثة عشر ألف ألف درهم، فاحتاج لذلك أنْ يُصادر بعض أصحابه.

ويُقال: أنفق عليها ألفَي ألف دينار، ومات وهو يبني فيها ولم يَسكنها، وقد خَرّب أشياء كثيرة مِن معالم الخُلفاء ببغداد في بنائها، وكان ممّا خَرّب: المعشوق مِن سرِّ مَن رأى، وقلع الأبواب الحديديّة الّتي على مدينة المنصور والرصافة وقصورها، وحَوّلها إلى داره هذه.

وقال عن تَولّيته القضاء بالضمان إلى أبي عبد الله الحسين بن أبي الشوارب: وضَمِن أنْ يؤدّي في كلّ سَنة إلى مُعزّ الدولة مئتي ألف درهم، فخلع عليه مُعزّ الدولة، وسار ومعه الدبابات والبوّقات إلى منزله، وهو أوّل مَن ضمِن القضاء ورُشيَ عليه والله أعلم، ولمّا عُزل ابن أبي الشوارب عن القضاء نُقضتْ سِجلاّته، وأُبطلت أحكامه مُدّة أيّامه، وذلك في سَنة (٣٥٢).

وقال في حوادث سنة ٣٥٦هـ عند ذِكر وفاته: ولمّا كان ثالث عشر ربيع الأوّل منها توفّي أبو الحسن أحمد بن بويه الديلمي الّذي أظهر الرَفض، ويقال له مُعزّ الدولة، ولمّا أحسّ بالموت أظهر التوبة وأناب إلى الله عز وجل، وردّ كثيراً مِن المظالم، وتصدّق بكثير مِن ماله، وأعتق طائفة كثيرة مِن مماليكه، وعهد بالأمر إلى ولده بختيار عِزّ الدولة، وقد اجتمع ببعض العُلماء فكلّمه في السُنّة، وأخبره أنّ عليّاً زوّج ابنته أُمّ كُلثوم مِن عمر بن الخطّاب، فقال:

والله ما سمعت بهذا قط. ورجع إلى السُنّة ومُتابعتها، ولمّا حَضر وقت الصلاة خرجَ عنه ذلك الرجل العالِم، فقال له مُعزّ الدولة: إلى أين تذهب؟ فقال: إلى الصلاة، فقال له: ألا تُصلي هاهُنا؟ قال: لا، قال: ولِمَ؟ قال: لأنّ دارك مَغصوبة. فاستحسن منه ذلك، وكان مُعزّ الدولة حليماً كريماً، وهو أوّل مَن أجرى السُعاة بين يديه ليُبعثَ بأخباره إلى أخيه رُكن الدولة سريعاً إلى شيراز، وحظيَ عنده أهل هذه الصناعة، وكان عنده في بغداد ساعيان ماهران، وهُمّا فضل وبرغوش، يَتعصّب لهذا عوامُّ أهلِ السُنّة ولهذا عوامّ أهلُ الشيعة، وجرتْ لهُما مناصف ومواقف.

٢٠٣

أوّليّاتُه:

(١) هو أوّل مَلكٍ مِن بني بويه بسط سُلطانه على الأهواز والعراق، ونُفوذه على الخلافة العباسيّة، وظفر مِن الخليفة لنفسه ولأخويه عِماد الدولة ورُكن الدولة بأسمى الكُنى والألقاب.

(٢) أوّل مَن أجرى السُعاة بين يديه بصورةٍ مُنظّمة لإبلاغ أخباره إلى أخيه.

(٣) أوّل مَن أبطل الأعمال في بغداد في العاشر مِن مُحرّم كُلَّ سَنة لذِكرى مَقتل الحسين بن عليّ (عليه السلام) برُسوم خاصّة، ومثال ذلك: إعلانه السُرور في اليوم الثامن عشر مِن ذي الحجّة في كلِّ عام لذكرى يوم غدير خُم.

(٤) أوّل مَن ضمن القضاء والحُسبة والشحنة، ولم يكن لذلك سابقة في الإسلام.

حُكْمُ التاريخِ لهُ وعَليه:

وَصَفَهُ المؤرّخون بالكَرم والحِلم والعقل والتدبير في الحُروب والشجاعة، وحسبُك تدليلاً على استعداده للنُهوض بأعباء أثقل مُهمّة، واستجماعه لأدواتها انتداب أخَويه عِماد الدولة ورُكن الدولة، وهُما مَن هَمّا في جمع المزايا المَلكيّة السامية لأخيهما هذا إلى الاستيلاء على الأهواز والعراق، وهُما لا يجهلان أنّهما لم ينتدباه لمُلك مُمهَّد، وسُلطان سهل المنال، والبَلَدان تَحوم حولهما أنظار الطامحين مِن هُنا وهُناك مِن مُختلَف الشعوب، فلو لم يتحقّق فيه الكفاية لهذه المُهمّة لَمَا تركاه يُغامر هذه المُغامرة العظيمة، والأُخوة الثلاثة مؤسِّسو الدولة البويهيّة مِن أشدّ مَن قام بأُمور المُلك مَحبّة وإخلاصاً بعضهم لبعض، وأقومِهم بكلّ ما يَشدّ عُرى الرَحِم الماسّة والقرابة القريبة، وهُم مع ذلك في عهد إقامة دولة على أساطينها مُستجمَعَةٌ كلّ أسباب القوّة والمنعة، لا يَهِنُ لها رُكن، ولا ينصدع لها عزم، ولا تهي لها بيضة، فلا جَرَمَ أنّ مُعزّ الدولة كان ممَّن لا ينقصه شيء مِن دربة وسياسة وكياسة وشجاعة في تحقيق أمانيه، وأماني أخَوَيه في الاستيلاء على هذين البلدين.

وممّا يُمكن أنْ يَنتقده عليه الناقدون:

٢٠٤

(١) تضييقه على الخَليفة، ورفعُ يَده عن كلّ شيء مِن أُمور الخلافة بَلْهَ الدولة، ولكنْ مَن يعلم ما مُنّيت به الخلافة مِن تزاحُم العباسيّين أنفسهم على ما لها مِن سُلطان ضئيل، ورسوم هزيلة وأُبّهة وَهميّة، وتزاحم كلّ طامع بالاستيلاء على قوّة الخلافة والدولة على اصطناع مَن يرفعه بسعيه وقوّته إليها يَعلم أنّ مُعزّ الدولة لم يكن يستطيع أنْ يَخرج عن هذه الخُطّة المُتّبعة الّتي كانت نتيجة طبيعيّة لسياسات المتغلّبين عليها مُنذ عهد المُعتصم، ومِن بعده إلى خليفة عصره، والخُلفاء العباسيّون أنفسهم أقرّوا هذه الأُمور على ما آلت إليه مِن الأوضاع مُكرهين لا طائعين، ومجبرين لا مُخيّرين، فلا مندوحة له إذاً إلاّ أنْ يسير على الخُطة الّتي سار عليها غيره.

(٢) وممّا يُؤاخَذ به ما نُقل عنه مَن أمَره لكتابة سبِّ السلفِّ على المساجد في بغداد، وإنّني لأستبعد أنْ يصدر منه مِثل هذا العَمل، وهو مِن ضرورة مذهب الإماميّة، وهو منهم أنْ يُعلنوا مِثل هذا السَبّ بمثل الصورة التي نقلها المؤرِّخون، أو أنّهم يَستحلّونه، وما كان أئمّة أهل البيت وهم مَتبوعو الإماميّة ممَّن أُثِر عنهم مِثل ذلك، فأيّة خدمة للمذهب يَرمي إليها مِن وراء هذا العَمل، وهبْ أنّ مِثل هذا مِن المشروع، فهل مِن العقل والسياسة أنْ يَعمد مُعزّ الدولة إلى مثل هذا العمل، فيُسيء إلى جمهرة كبيرة مِن المسلمين - وهو يَطمع في ولاية أمرهم - وإلى الخليفة نفسه، وهو مِن السُنّة مهما بلغتْ حاله مِن التجريد مِن كلّ قوّة؟ وهل كان مُعزّ الدولة ينهج غير منهج أخيه الأكبر عِماد الدولة؟ فقد مرّ بكَ مِن أخباره مِن الغُزاة الخُراسانيّين الّذين دخلوا بلده همذان مُعلنين سبّ الروافض، يقتلون الشيعة ويسلبونهم، ويَستحلّون منهم كلّ مُحرّم، فهل جازاهم بشيء مِن سِنخ عَملهم، بل عاملهم بكلِّ رِفق، وردّهم بعد ظَفره بهم وأسره لهم إلى بلادهم مُزوّدين بالنفقات.

وكأنّ ابن خُلدون - وهو لم يكن رفيقاً بالشيعة - قد استبعد وقوع ذلكَ مِن مُعزّ الدولة، حيث ذَكر هذا الحادث مُعقّباً له بقوله: ونُسِب ذلك إلى مُعزّ الدولة. ومَن يَعلم ما كان يحوكه الطامعون في المُلك والولايات حول الخلافة، وحول القابضين على كلّ ما لها مِن نُفوذ وسُلطان مِن الدسائس لا يُستبعَد أنْ يكون قد صَدر ذلك منهم، وبتدبيرهم إلقاء للفتنة

٢٠٥

بين السُنّة والشيعة، وتنفيراً للقُلوب مِن الديلم ومِن مُعزّ الدولة، وانتهازاً لفُرصةٍ تُمكّن لهم مِن مُزاحمته ومِن ولاية وسلطان.

(٣) وممّا يُؤاخذ عليه حقّاً ما جرى منه مِن الأُمور بعد موت وزيره المهلبي مِن قبض أمواله وذخائره، وكلّ ما كان له، وما إلى ذلك ما مرّ ذِكره.

الرابع: أبو شُجاع فناخسرو المُلقَّب عَضُد الدولة بن رُكن الدولة أبي عليّ الحسن بن بويه الديلمي:

مَولدُهُ ولايتُهُ عَهد عَمّه على فارس:

وُلد في أصفهان سَنة أربع وعشرين وثلاثمئة، وفي السَنة الّتي توفّي فيها عَمّه عِماد الدولة وهي سنة ٣٣٨هـ، وقد أحس بالموت، ولم يكن له وَلد ذَكر يُولّيه العهد بالمُلك بعده أنفذ إلى أخيه رُكن الدولة بإنفاذ ابنه عَضُد الدولة ليجعله وليّ عَهده ووارث مملَكته بفارس، فأجابه إلى ما طلب، وسار مِن الري هو وولده إلى فارس بعد أنْ استخلف على الري ابن أُخته عليّ بن كامة، ومِن أعيان أصحابه، واتّفق هو وأخوه على تقرير قاعدة عَضُد الدولة، وكان له مِن السِن إذ ذاك أربع عشرة سَنة. وقد تقدّم خبر ذلك في وفاة عِماد الدولة.

سِعةُ مملكَتِه وما ضُمّ إليها مِن الممالك ونُفوذ سُلطانه وبعض أوليائه:

قال ابن خَلكان بعدَ ذِكره لعَمَّيه عِماد الدولة ومُعزّ الدولة وأبيه رُكن الدولة:

وهؤلاء كُلّهم مِن عِظم شأنهم، وجلالة أقدارهم لم يبلغ أحدٌ منهم ما بلغه عَضُد الدولة مِن سِعة المملكة، والاستيلاء على المُلوك وممالكهم، فإنّه جمع بين مَملكة المذكورين كلّهم، وضمّ إلى ذلك الموصل وبلاد الجزيرة وغير ذلك، ودانت له البلاد والعباد، ودخل في طاعته كلّ صعب القياد، وهو أوّل مَن خوطب بالمُلك في الإسلام، وأوّل مَن خُطب له على المنابر ببغداد بعد الخَليفة، وكان مِن جُملة ألقابه تاج الدولة، ولمّا صَنّفَ

٢٠٦

له أبو إسحق كتاب التاجي في أخبار بني بويه أضافه إلى هذا اللقب.

ألقابه:

أوّلُ لَقب لُقِّب به: عَضُد الدولة، لقّبه به المُطيع لله العبّاسي سنة ٣٥١هـ، وهو ملك شيراز وفي حياة أبيه رُكن الدولة، وفي سنة ٣٦٤ زادَ الخليفة الطائع على لقبه هذا لقب تاج المِلّة، وذلك في السَنة الّتي وَرَدَ فيها بغداد، وكان عوناً على استخلافه وأمنه بعد خوفه، وخَلَع المطيع لله وأصدر بذلك كتاباً أو تقليداً بإنشاء أبي إسحاق الصابي مذكوراً في رسائله المطبوعة، ومنه يتبيّن ما له مِن المِنّة على الطائع (وقد أظهر عَضُد الدولة مِن تعظيم الخلافة ما كان دارساً، وجدّد دار الخلافة حتّى صارَ كلّ محلّ منها آنساً، وأرسل إلى الخليفة بالأموال والأمتعة الحَسنة العزيزة) كما جاء في تاريخ ابن كثير، فكان تلقيب الطائع لعَضُد الدولة بتاج المِلّة في سَنة أربع وستّين، وهي السَنة الّتي أُفرِج فيها عن الطائع واستُخلِف، كما ترى ذلك واضحاً في تقليده لعَضُد الدولة، وشُكره وتلقيبه لا في سَنة تسع وستّين كما جاء في تاريخ ابن كثير، حيث قال في حوادث هذه السنة:

ثُمّ سأل عَضُد الدولة مِن الطائع أنْ يُجدّد عليه الخلع والجواهر، وأنْ يزيد في إنشائه تاج الدولة (المِلّة)، فأجابه إلى ذلك، وخَلعَ عليه مِن أنواع الملابس ما لم يَتمكّن معه مِن تقبيل الأرض بين يَدي الخليفة، وفوّض إليه ما وراء بابه مِن الأُمور ومصالح المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.

قال ابن كثير: وهو أوّل مَن تَسمّى شاهنشاه، ومعناه مَلك المُلوك، وقد أورد أبو الطيّب المُتنبّي بقصيدة يَمدح بها عَضُد الدولة في شيراز كُنيته ولقبه واسمه، ولقّب شاهنشاه بقوله:

وقد رأيتُ المُلوك قاطبةًً وسرتُ حتّى رأيتُ مولاها

ومَن مناياهُمُ بِراحَتِه يأمرها فيهم وينهاها

أبا شُجاع بفارس عَضُد ال دولة فنَّاخُسرو شهنشاها

عَضُد الدولة المُتعلِّم والعالِم ومُحبّ العُلماء والأُدباء:

إنّ عَضُد الدولة لم يكن المُتفوّق على مُلوك بني بويه بسعة سُلطانه، وامتداد مُلكه، وغَلبته مُلوك الأطراف فحسب، بل كان يَتفوّق عليهم بعد هذا التفوّق بشغَفِه في العِلم، وانصرافه إلى التعلُّم، ومحبّته العُلماء والفضلاء

٢٠٧

، وتقريبه الأُدباء والشُعراء، فصاحبَ أكابر العُلماء، ورحلَ إليه غيرُ واحد منهم يُهدي إليه ما صنّفه باسمه مِن الكُتب، كما يقصده مشاهير الشُعراء كأبي الطيّب المُتنبّي وإضرابه بروائع شِعرهم في مديحه، فيُجزل لكِلا الفريقين العطيّة، ويُحلّهم أسمى محلٍّ مِن الكرامة، ويَبسط لهم أسبغ ظلّ مِن الوفادة، وأضفى مُتعة مِن مُتع الضيافة والرفادة.

أمّا في حلقات التعليم، فقد أخذ السياسة وأساليبها عِلماً وعَملاً، ومَحبّة العِلم والعُلماء عن كاتب عصره، وزير أبيه رُكن الدولة أبي الفضل بن العميد، ولمّا انتقل أبو علي الفارسي إلى بلاد فارس صحبَ عَضُد الدولة، وتقدّم عنده وعَلَتْ منزلته، حتّى قال عَضُد الدولة:

أنا غُلام أبي علي الفسوي في النحو، وصنّفَ له كتاب الإيضاح والتَكمُلة في النحو، ويُحكى أنّه كان يوماً في ميدان شيراز يُساير عَضُد الدولة، فقال له:

لِمَ انتصب المُستثنى في قولنا قامَ القومُ إلاّ زيداً؟ فقال الشيخ: بفعلٍ مُقدَّر، فقال له: كيف تقديره؟ فقال: استثني زيداً، فقال له عَضُد الدولة: هلاّ رفعته وقدّرت الفعل امتنع زيدُ؟ فانقطع الشيخ وقال له: هذا الجواب ميداني.

ثُمّ إنّه لمّا رجع إلى منزله وضع في ذلك كلاماً حَسناً، وحمله إليه فاستحسنه، وذَكر في كتاب الإيضاح أنّه انتصِب بالفعل المُتقدّم بتقوية إلاّ.

وقيل إنّ السبب في استشهاد أبي عليّ في باب كان مِن كتاب الإيضاح ببيت أبي تمّام الطائي، وهو:

مَن كان مرعى عزمه وهُمومه روض الأماني لم يزل مهزولا

ولم يكن ذلك مِن عادته؛ لأنّ أبا تمّام لم يكن مَن يستشهد بشعره، لكنّ عَضُد الدولة كان يُحبُّ هذا البيت ويُنشده كثيراً، فلهذا استشهد به في كتابه.

قال ابن الأثير: وكان مُحبّاً للعُلوم وأهلها، مُقرّباً لهم مُحسناً إليهم، وكان يَجلس معهم يُعارضهم في المسائل، فقصده العُلماء مِن كلّ بَلد وصنَفوا له الكُتب، ومنها: الإيضاح في النحو، والحجّة في القراءات، والملكي في الطب، والتاجي في التاريخ إلى غير ذلك.

وقال ابن كثير: وحكى ابن الجوزي أنّه كان يُحبّ العِلم والفضيلة.

٢٠٨

وكان يُقرأ عنده كتاب اقليدس، وكتاب النحو لأبي عليّ الفارسي وهو الإيضاح والتَكملة.

عَضُد الدولة الشاعر:

لم تشغل عَضُد الدولة مهامُّ المُلك - وهي ثقيلةُ الأعباء - عن العناية بالعِلم وصرف وقت ثمين مِن أوقاته في طَلَبه ومُساجَلَة أهله، وعن الاهتمام بالأدب والشِعر ونظمه، فمِن شِعره لمّا أرسل إليه أبو تَغلب بن حمدان يَعتذر عن مُساعدته بَختيار، ويطلب لمّان، فقال عَضُد الدولة:

أأفاقَ حينَ وطأتُ ضيقَ خِناقه يبغي لمّانَ وكانَ يبغي صارما

فلأركَبنَّ عزيمة عَضديّة تاجيّة تَدعُ الأُنوف رواغما

وقال أبياتاً منها بيت لم يُفلح بعده، وهي هذه:

ليس شُرب الكأس إلاّ في المَطر وغناءٌ مِن جوارٍ في السَحرِ

غانيات سالباتٍ للنهم ناغمات في تضاعيف الوَتَرِ

مُبرزات الكاس مِن مطلعها ساقيات الراح مِن فاق البَشَرِ

عَضُد الدولة وابن رُكنها مَلك الأملاك غَلاّب القَدَرِ

وهذا البيت هو المُشار إليه، ويُنقل مِثل هذا عن ابن دُريد، فإنّه قد أُصيب وهو في رأس التسعين مِن عُمره بفالج مَرّتين، عُوفيَ في الأُولى ورجع إلى إسماع تلامذته وإملائه عليهم، وفي المرّة الثانية كان يُحرّك يَديه حَركة ضعيفة، وبَطلَ مِن مَحزمه إلى قَدميه، فكان إذا دخل عليه الداخل ضَجّ وتألم لدخوله، وإن لم يصل إليه.

قال تلميذه أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي المعروف بالبغدادي، فكنت أقول في نفسي: إنّ الله عزّ وجل عاقبه بقوله في قصيدته المقصورة الّتي مدح بها الشاه ابن ميكال وولدَيه، وهُما عبد الله بن محمّد بن ميكال وولده، وأبو العبّاس إسماعيل بن عبد الله.

مارست مَن لو هَوتْ الأفلاك مِن جوانب الجوّ عليه ما شكا

وكان يصيح لذلك صياح مَن يُمشى عليه أو يُسلّ بالمسال، والداخل بعيد منه.

٢٠٩

عَضُد الدولة الناثر البليغ:

كَتب إليه أبو منصور أفتكين التُركي مُتولّي دمشق - وكان مِن مواليه - كتاباً مضمونه: إنّ الشام قد صفا وصار في يَدي، وزال عنه حُكم صاحب مِصر، وإنْ قَوّيتني بالأموال والعدد حاربت القوم في مُستقرّهم.

فكتبَ عَضُد الدولة جوابه هذه الكلمّات، وهي مُتشابهة في الخطّ، لا تُقرأ إلاّ بعد الشِكل والنُقَط والضبط، وهي:

(غَرّك عِزُّك، فصارَ قِصارُ ذَلكَ ذُلّك، فاخشَ فاحِشَ فعلِك، فَعَلّك بهذا تَهدى).

قال ابن خَلّكان:

ولقد أبدع فيها كلّ الإبداع، وإنّ مِن الغَلط نِسبة هذه الكلمّات لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فإنّ فيها مِن الصناعة البديعيّة والتَعمُّل ما لم يكن مِن طَبْع ذلك الإمام، إمام الفُصحاء والبُلغاء والحُكماء، والّذي لم يكن كلَّ ما أُثِر له مِن كلام مُطوّل، أو موجزٍ مِن خُطب وكُتب إلاّ جارياً مجرى الطَبع، بعيداً كلّ البُعد عن الكُلفة والصِنعة الكلامية، ولا كان مِثل هذا مِن طابع عصره صلوات الله وسلامه عليه.

وأمّا ما نُسِب له مِن كلام أو خُطب كُلّه أسجاع، وبعضه مِن كَلِم مُهملة لا عُجمَة فيها، أو ما أُسقط منها حَرف الألف، فهو أشبه أنْ يكون موضوعاً.

عَضُد الدولة السياسي المُحنّك والإداري اليَقِظ:

قال ابن الأثير:

وكان عاقلاً فاضلاً، حَسِن السياسة، كثير الإصابة، شديد الهيبة، بعيد الهِمّة، ثاقب الرأي، مُحبّاً للفضائل وأهلها، باذلاً في مواضع العطاء، مانعاً في أماكن الحَزم، ناظراً في عواقب الأُمور.

وحُكيَ عنه أنّه كان في قصره جماعة مِن الغُلمّان يَحمل إليهم مشاهراتهم مِن الخزانة، فأمر أبا نصر خواشاذه أنْ يَتقدّم إلى الخازن بأنْ يُسلّم جامكية الغُلمّان إلى نقيبهم في شهر قد بقي منه ثلاثة أيّام، قال أبو نصر: فأنسيت ذلك أربعة أيام، فسألني عَضُد الدولة عن ذلك، فقلت: أنسيته، فأغلظ لي، فقُلت: أمس استهلّ الشهر، والساعة نحمل لمّال، وما هاهنا ما يوجب شُغل القَلب، فقال: المُصيبة ما لا تَعلمه مِن الغلط أكثر منها في التفريط، ألا تعلم أنّا إذا أطلقنا لهم مالهم قبل مَحلّه كان الفضل لنا عليهم، فإذا أخّرنا ذلك عنهم حتّى استهلّ الشهر الآخر حضروا عند عارضهم وطالبوه فيعدهم، فيحضرونه في اليوم الثاني فيعدهم ثُمّ يحضرونه

٢١٠

في اليوم الثالث، ويَبسطون ألسنتهم فتَضيع المِنّة، وتحصل الجرأة، ونكون إلى الخسارة أقرب مِنّا إلى الربح.

وهذا مِن الحزم، ومِن حُكم التدبير، ومِن أسباب انتظام أُمور الدولة، فإنّ التفريط يجرّ إلى التفريط، واحتجان لمّال وقبضه، ولو قبضاً يسيراً عن الّذين هُم مادّة الدولة ومكان القوّة منها، والّذين إنّما يُخلصون الطاعة، ويقومون بالأعمال المُسندة إليهم بإسناء العَطاء، وبقبض الراتب المُقنّن لهم، وإنّما يُصطَنع الرجال بلمّال، وتُستخلص منهم الطاعة ببذله في وقت الحاجة إليه، وقد دلّت التجارب والأختبار أنّ حَجب لمّال - ولو إلى حين - عن الباذلين راحتهم، بل وأرواحهم في سبيل الدولة وصاحب الدولة كثيراً ما أدّى إلى اضطراب أُمور الدولة والقابضين على زمامها، وتلك سياسة رشيدة ويَقِظة عَضُديّة قلَّ نظيرها في المُلوك والأُمراء.

وكان لا يُعوّل في الأُمور إلاّ على الكُفاة، ولا يجعل للشفاعات طريقاً إلى مُعارضة مَن ليس مِن جنس الشافع، ولا فيما يَتعلّق به، حُكيَ عنه أنّ مُقدّم جيشه أسفار بن كردويه شَفع في بعض أبناء العدول، ليَتقدّم إلى القاضي ليسمع تزكيته ويعدله، فقال: ليس هذا مِن أشغالك، إنّما الّذي يَتعلّق بكَ الخِطاب في زيادة قائد، ونقل مَرتبة جندي، وما يَتعلّق بهم، وأمّا الشهادة وقبولها، فهي إلى القاضي، وليس لنا ولا لك الكلام فيه، ومتى عَرف القُضاة مِن إنسان ما يجوز معه قبول شهادته فعلوا ذلك بغير شفاعة.

وهذا منه كسابقه في وضع الأُمور موضعها، وفي منع التدخُّل بمصلحة مِن مصالح الدولة، ممَّن ليست تلك المصلحة مِن اختصاصه، وفي سدّ باب التأثير على صاحب عَمل مِن أعمال الدولة، ممّن ليس له شيء مِن المشاركة في ذلك العمل، ثُمّ فيه وراء ذلك كلّه استقلال القُضاة بقضائهم، والقضاء هو ميزان العَدل في الدولة، وهو مظهر العدل كلّه، وفيه إحقاق الحقِّ وإزهاق الباطل، فهل يرجع إلى هذه الحِكمة العالية القابضون على أعمال الدولة في هذه الأيّام، والّذين يتدخّل كلّ عامل منهم في أعمال مَن لا اختصاص له فيها بأنواع الشفاعات، فيقبل ذلك التَدخّل وتلك الشفاعات مِن غير تأثُّم ولا تحرّج؟

٢١١

إصابة بر عَضُد الدولة وصدقاته مواقعها:

قال ابن الأثير:

وكان يُخرج في ابتداء كلّ سَنة شيئاً كثيراً مِن الأموال للصدقة والبرّ في سائر بلاده، ويأمر بتسليم ذلك إلى القُضاة ووجوه الناس ليصرفوه إلى مُستحقّيه، وكان يوصل إلى العُمّال المُتعطلّين ما يقوم بهم، ويُحاسبهم به إذا عملوا.

وهذا تدبير لم يقُم به غير عَضُد الدولة مِن المُلوك، ومَن نَظر نَظره الحكيم إلى مُتعطّلي الأعمال، فأسلفهم لمّال في وقت ضيقهم وحاجتهم إلى وقت التوسعة عليهم يوم يعملون، فقد أصاب بهذا التدبير غرَضين:

الأوّل : التفريج عن هذه الطَبقة مِن طبقات الأُمّة العاملة للأُمّة، وقد تعطّلت عن العمل، وهو مَرفق ارتزاقها الوحيد، فلم يتركها تَنشب فيها مَخالب الفقر، أو تصبح عالةً على الناس، فتفقد أشرف عاطفة إنسانيّة وهي عِزّة النفس.

والثاني: - وهو أسمى الفرضين - أنُ لا يدعها تَسعى إلى الارتزاق مِن غير طُرقه المشروعة، فتَفسد أخلاقها، وتُفسد على الأُمّة راحتها، بل حياتها الاجتماعية.

إنّ الشباب والفراغ والجده مُفسدة للمرء أيُّ مَفسده

وهل أدعى إلى الفساد والإفساد مِن البطالة والفراغ مِن الأعمال؟ فهل مِن قابضٍ على زِمام دولة في هذه الأيّام مِن العَرب والمسلمين مَن يَعمد إلى مثل هذا التدبير، فيُحسن إحسانه إلى مُتعطّلي الأعمال، ولا سيّما الّذين تَحكُم عليهم الحُروب المُتتابعة في مثل هذه الأيّام أنْ يَتخلّوا عمّا يُحسنون مِن الأعمال مُضطرّين لا مُختارين؟

قال في الكامل:

وأَطلق الصِلات لأهل البيوتات والشرف، والضعفاء المُجاورين بمكّة والمدينة، وفعل مثل ذلك بمشهد عليٍّ والحسين (عليهما السلام)، وسكن الناس مِن الفِتن، وأجرى الجرايات على الفُقهاء والمُحدّثين والمتُكلّمين والمُفسّرين والنُحاة والشُعراء والنسّابين والأطبّاء والحُسّاب والمهندسين، وأذِن لوزيره نَصر بن هارون - وكان نصرانيّاً - في عِمارة البِيَع والديرة، وإطلاق الأموال لفُقرائهم.

أعماله في مصالح البلاد وآثاره:

مِن أثاره: بناؤه سوراً على مدينة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله وسلَّم)، وبناؤه القناطر، وتشييده

٢١٢

البيمارستانات (المصاح)، ومِنها البيمارستان العَضُدي المَنسوب إليه، وقد اجتهد في عِمارة بغداد وتعبيد الطُرقات، ومِن آثاره تجديد عِمارة مشهد أمير المؤمنين (عليه السلام).

قال ابن الأثير في حوادث سنة ٣٦٩هـ:

في هذه السنة شرع عَضُد الدولة في عِمارة بغداد، وكانت قد خَربت بتوالي الفتن فيها، وعَمّر مساجدها وأسواقها، وأدرّ الأموال على الأئمّة والمُؤذّنين والعُلمّاء والقُرّاء والغُرباء والضُعفاء الّذين يأوون إلى المساجد، وألزم أصحاب الأملاك الخراب بعمارتها، وجدّد ما دُثِر مِن الأنهار، وأعاد حفرها وتسويتها، وأطلق مكوس الحجّاج، وأصلح الطريق مِن العراق إلى مَكّة شرّفها الله تعالى.

وقال ابن خَلّكان:

والبيمارستان العَضُدي ببغداد مَنسوب إليه، وهو في الجانب الغربي، وغَرمَ عليه مالاً عظيماً، وليس في الدنيا مثل ترتيبه، وفَرِغ مِن بنائه سَنة ثمان وستّين وثلاثمئة، وأعدّ له مِن الآلات ما يقصر الشرح عن وصفه، وهو الّذي أظهر قبرَ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه بالكوفة، وبنى عليه المَشهد الّذي هُناك، وغَرَم عليه شيئاً كثيراً، وأوصى بدفنه فيه، وللناس في هذا القبر اختلاف كثير حتّى قيل إنّه قبر المَغيرة بن شعبة الثقفي، فإنّ عليّاً رضي الله عنه لا يُعرف قبره، وأصحّ ما قيل فيه: إنّه مدفون بقصر لمّارة بالكوفة والله أعلم.

أمّا قول ابن خَلّكان - إنّ عَضُد الدولة هو الّذي أظهر قبر عليٍّ (عليه السلام) - ففيه أنّ القبر ظَهر في عهد هارون الرشيد، وهو أوّل مَن بَنى عليه قُبّة، وجعل لها أربعة أبواب، وهي مِن طين أحمر، وطرح على رأسها جَرّة خضراء.

وأمّا الضريح، فإنّه بناه بحجارة بيضاء، كما جاء ذلك في إرشاد القلوب للديلمي، وكان ذلك سنة (١٥٥) كما في رياض السياحة لزين العابدين الشيرواني.

وفي نُزهة القُلوب لحمد الله المستوفي أنّه كان في سنة (١٧٠) هـ، وعضُد الدولة جدّد عِمارته.

وأمّا كلام ابن خَلّكان في الاختلاف في هذا القبر إلخ ما أورده فحسبه دافعاً أنّ أئمّة أهل البيت صلوات الله عليهم هُم الّذين عيّنوا موضع قبر جدّهم، وقصدوه في عهد الأُمويّين على حال مُخافة بالزيارة، وكَثُر زائروه بعد إظهار الرشيد وبنائه له، وقام إجماع أتباع الأئمّة وشيعتهم على أنّه هو المقصود بالزيارة، والمبني أعظم بناء في النجف الأشرف، ولا يوجد قائل في الشيعة لمّاميّة يخُالف ذلك، وعمل الأئمّة

٢١٣

وشيعتهم مِن حيث زيارة هذا القبر الشريف في مكانه المُعيّن في النَجف حجّة، لا يعارضها المُخالف الّذي لا يُعنى عنايتهم في هذا الأمر، وصاحب البيت أدرى بالّذي فيه، وقد رأينا أنْ نختم هذه الكَلمة بما أورده ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة:

وقبره بالغري، وما يدّعيه أصحاب الحديث مِن الاختلاف في قبره، وأنّه حُمِل إلى المدينة، أو أنّه دُفن في رحبة الجامع، أو عند باب قصر الإمارة، أو ندّ البعير الّذي حُمل عليه فأخذته الأعراب باطل كلّه لا حقيقة له، وأولاده أعرف بقبره، وأولاد كلّ الناس أعرف بقبور آبائهم مِن الأجانب، وهذا القبر الّذي زاره بنوه لمّا قدموا العراق، منهم جعفر بن محمّد (عليه السلام) وغيره مِن أكابرهم وأعيانهم، وروى أبو الفرج في مقاتل الطالبيّين، بإسنادٍ ذكره هناك أنّ الحسين (عليه السلام) لمّا سُئل: أين دَفنتم أمير المؤمنين، فقال:(خرجنا به ليلاً مِن مَنزله بالكوفة حتّى مَررنا به على مسجد الأشعث، حتّى انتهينا به إلى الظُهر بجنب الغري) .

عَضُد الدولة في المُلك والسلطان وفتح البلدان

بِدء أمره في المُلك:

قد ذكرنا عند وفاة عمّه عِماد الدولة عهده إليه بولاية عهده على مملكته شيراز بحفلة عظيمة، كما أعدنا حديث ذلك في مُبتدأ ترجمة المُترجَم له، فكان هو مَلِك شيراز، وهو في الرابعة عشرة مِن سِنّه، وأبوه مَلك الري والجبال وأصفهان، وعمّه مُعزّ الدولة المُستولي على العراق والخلافة، وهو كالنائب عن أخَوَيه عِماد الدولة في حياته ورُكن الدولة.

عَضُد الدولة وظُهور أمره بعد عقدين مِن السنين إلاّ ثلاثة أعوام:

طوى التاريخ صفحات سبعة عشر عاماً خالية مِن ذِكر عَضُد الدولة، اللّهمّ إلاّ في السَنة الثامنة عشرة مِن مُلكه شيراز، حيث ورد له ذِكر بعد وفاة عَمّه مُعزّ الدولة ولاية وَلده بختيار المُلقّب بِعزّ الدولة، فإن مُعزّ الدولة لمّا حضرته الوفاة كان في جُملة ما أوصاه به طاعة عَضُد الدولة ابن عمّه؛ لأنّه أكبر مِنه سِنّاً، وأقوم بالسياسة، وبأُمور أُخرى ستُذكَر في أخباره إنْ شاء الله، فكان مِن نتيجة مُخالفة بختيار وصايا أبيه، ومنها إيحاشه لكاتِبَيه ولبعض القوّاد العِظام والنوّاب أنْ سَلّم أحد كاتِبَيه المُستوصى بهما، وهو

٢١٤

أبو الفرج محمّد بن العبّاس الّذي كان مُتولياً أمْرَ عُمان، ولايته هذه إلى نوّاب عَضُد الدولة، هذه أُولى خطيئات بختيار وسوء سياسته الّتي أطمعت فيه الخوارج عليه مِن هُنا وهُناك، والعراق قِبلة أنظار الطامعين، وأطمعت به ابن عَمّه عَضُد الدولة كما سترى ذلك مبسوطاً في موضعه مِن هذا التاريخ، وتَرى كيف أدّى ذلك إلى التنازع ما بينهما، وكيف انتهى بذلك أمر بختيار بسوء اختياره.

نجدة عَضُد الدولة أباه رُكن الدولة على عساكر خُراسان:

في هذه السنة نفسها - سَنة ستٍّ وخمسين وثلاثمئة - استمدّ رُكن الدولة وَلده عَضُد الدولة، كما استنجد ابن أخيه بختيار عِزّ الدولة على مُقاومة العساكر الخُراسانيّة الزاحفة إلى الري، بقيادة منصور بن نوح صاحب خُراسان، فَلبّى عَضُد الدولة نداء أبيه وسار بالجيش، وانتهى الأمر - كما مرّ في أخبار رُكن الدولة - بموت وشمكير خصمه الألَد، وانتقاض جميع ما دَبّر لرُكن الدولة.

التجاء حبشي بن مُعزّ الدولة إلى عَضُد الدولة:

في سَنة سبع وخمسين وثلاثمئة عصا حبشي بن مُعزّ الدولة على أخيه بختيار، وكان بالبصرة لمّا مات والده فحَسّن له بعض أصحابه الاستبداد بالبصرة، فانتهى الأمر بالظَفر به، وأخذه أسيراً وحبسه برامهرمز، وتخليص عمّه رُكن الدولة له، ومسيره إلى عَضُد الدولة، فأقطعه إقطاعاً وافراً، وأقام عنده إلى أنْ مات، وسَنَذكر تفصيل ذلك في أخبار بختيار إنْ شاء الله.

استيلاء عَضُد الدولة على كِرمان:

في هذه السَنة مَلَك عَضُد الدولة بلاد كِرمان، وكان سَبب ذلك أنّ أبا عليّ بن إلياس كان صاحبها مُدّة طويلة، ثُمّ إنّه أصابه فالج خاف منه على نفسه، فجمع أكابر أولاده وهم ثلاثة: اليسع وإلياس وسُليمان، فاعتذر إلى اليسع مِن جفوةٍ كانت مِنه له قديماً، وولاّه الأمر، ثُمّ بعده أخاه إلياس، وأمرَ سُليمان بالعود إلى بلادهم، وهي بلاد الصفد، وأمره بأخذ الأموال له هناك، وقصد إبعاده عن اليسع لعداوة كانت بينهما، فسار مِن عند أبيه واستولى

٢١٥

على السيرجان، فلمّا بَلغَ أباه ذلك أنفذ إليه اليسع في جيش، وأُمِرَ بمُحاربته وإجلائه عن البلاد، ولا يُمكنه مِن قَصد الصفد إنْ طَلبَ ذلك، فسار إليه وحصره واستظهر عليه، فلمّا رأى سليمان ذلك جَمع أمواله وسار نحو خُراسان، واستقرّ أمرُ اليسع بالسيرجان وملكها، وأمر بنهبها فنُهبت، فسأله القاضي وأعيان البلد العفو عنهم فعفا.

ثُمّ إنّ جماعة مِن أصحاب والده خافوه، فسعوا به إلى أبيه فقَبضَ عليه وسجنه في قلعة له، فمشتْ والدته إلى والدة أخيه إلياس وقالت لها:

إنّ صاحبنا فَسخ ما كان عقده لولدي، وبعدَه يفعل بولدك مِثله، ويخرج المُلك عن آل إلياس، والرأي أنْ تُساعديني على تخليص ولَدي ليعود الأمر إلى ما كان عليه، وكان والده أبو علي تأخذه غشية في بعض الأوقات، فيمكث زماناً طويلاً لا يَعقِل، فاتّفَقت المرأتان، وجمعتا الجواري في وقت غشيته، وأخرجن اليسع من حبسه، ودلَّينَه مِن ظَهر القلعة إلى الأرض، فَكَسر قيده، وقصد العسكر فاستبشروا به وأطاعوه، وهرب منه مَن كان أفسدَ حاله مع أبيه، وأخذ بعضهم ونجا بعضهم، وتَقدّم إلى القلعة ليَحصرها، فلمّا أفاق والده وعرف الصورة راسل ولده، وسأله أنْ يكفَّ عنه، ويُؤمّنه على ماله وأهله حتّى يُسلّم إليه القلعة وجميع أعمال كرمان، ويَرحل إلى خُراسان، ويكون عوناً له هُناك، فأجابه إلى ذلك وسلّم إليه القلعة وكثيراً مِن لمّال، وأخذَ مَعه ما أراد وسار إلى خُراسان، وقصد بخارا فأكرمه الأمير منصور بن نوح، وأحسن إليه وقَرّبه منه، فحَمل منصوراً على تجهيز العساكر إلى الري، وقصد بني بويه، وأقام عنده إلى أنْ توفّي سَنة ستٍّ وخمسين وثلاثمئة بعلّة الفالج، وكان ابنه سليمان ببُخارا أيضاً.

وأمّا اليسع، فإنّه صَفَت له كرمان، فحمله تَرف الشباب وجهله على مُغالبة عَضُد الدولة على بعض حدود عَمَله، وأتاه جماعة مِن أصحاب عَضُد الدولة وأحسن إليهم، ثُمّ عاد بعضهم إلى عَضُد الدولة، فاتّهم اليسع الباقين فعاقبهم ومثّل بهم.

ثُمّ إنّ جماعة مِن أصحابه استأمنوا إلى عَضُد الدولة، فأحسن إليهم وأكرمهم ووصلهم، فلمّا رأى أصحابه تباعُد ما بين الحالين تألّبوا عليه وفارقوه مُتسلِّلين إلى عَضُد الدولة، وأتاه منهم في دُفعة واحدة نحو ألف رجل مِن وجوه أصحابه، فبقي في خاصّته وفارقه مُعظم عسكره، فلمّا رأى ذلك أخذ أمواله وأهله وسار بهم نحو بخارا، لا يلوي على شيء، وسار عَضُد الدولة إلى كرمان فاستولى عليها وملكها، وأخذ ما بها مِن أموال آل

٢١٦

إلياس، وكان ذلك في شهر رمضان، وأقطعها ولده أبا الفوارس، وهو الّذي لُقّب بعد ذلك شَرَف الدولة، ومَلَك العراق واستخلف عليها كورتكين بن جستان، وعاد إلى فارس، وراسله صاحب سجستان وخطب له بها، وكان هذا أيضاً مِن الوهن على بني سامان، وممّا طَرق الطَمع فيهم.

فأنت ترى العِبرة ظاهرة، فإنّ اليسعَ في سوء سياسته، وفي تنفير وجوه أصحابه وعسكره الّذي هو سياج دولته عنه - دَعْ عقوقه بأبيه وما إلى ذلك - كان مِن أعظم الأسباب لزوال مُلكه ومُلك آبائه، كما أنّ ما كان مِن حِكمة عَضُد الدولة وسياسته الرشيدة أنْ غَلَبَ على كرمان عفواً صفواً بدون إهراق مَحجَم دَم، فكان اليسع عَديّ نفسه، والساعي إلى حتفه بظلفه، وتلك عواقب سوء التدبير، وقِصر النظر في مصاير الأُمور.

قتلُ سُليمان بن أبي عليّ بن إلياس في خروجه على عامل عَضُد الدولة بكرمان:

في سنة تسع وخمسين وثلاثمئة قُتِل سُليمان بن أبي عليّ بن إلياس الّذي كان والده صاحب كرمان، وسَبب ذلك أنّه ذَكر للأمير منصور بن نوح صاحب خُراسان أنّ أهل كرمان مِن القفص والبلوص معه وفي طاعته، وأطمَعه في كرمان، فسيّر معه عسكراً إليها، فلمّا وصل إليها وافقه القفص والبلوص وغيرهما مِن الأُمم المُفارقة لطاعة عَضُد الدولة، فاستفحل أمره، وعظُم جمعه، فلقيه كوركير بن جستان خليفة عَضُد الدولة بكرمان وحاربه، فقُتلَ سليمان وابنا أخيه اليسع، وهُما بكر والحسين، وعدد كثير مِن القوّاد والخُراسانيّة، وحُملَت رؤوسهم إلى عَضُد الدولة بشيراز، فسَيّرها إلى أبيه رُكن الدولة، وأخذ منهم جماعة كثيرة أسرى.

عصيان أهل كرمان على عَضُد الدولة:

لمّا مَلَك عَضُد الدولة كرمان اجتمع القفص والبلوص، وفيهم أبو سعيد البلوصي وأولاده على كَلمة واحدة في الخلاف، وتحالفوا على الثبات والاجتهاد، فضَمّ عَضُد الدولة إلى كوركير بن جستان عابد بن علي، فسارا إلى جيرفت فيمَن معهما مِن العساكر، فالتقوا عاشر صفر سَنة ستّين وثلاثمئة، فاقتتلوا وصبر الفريقان، ثُمّ انهزم القفص ومَن معهم، فقُتِل منهم

٢١٧

خمسة آلاف مِن شُجعانهم ووجوههم، وقُتلَ ابنان لأبي سعيد، ثُمّ سار عابد بن علي يَقصّ آثارهم ليستأصلهم، فأوقع بهم عِدّة وقائع وأثخن فيهم، وانتهى إلى هرموز فملكها، واستولى على بلاد التيز ومكران، وأسَر ألفَي أسير، وطلب الباقون الأمان، وبذلوا تسليم معاقلهم وجبالهم على أنْ يدخلوا في السِلم، وينزعوا شعار الحرب، ويُقيموا حدود الإسلام مِن الصلاة والزكوة والصوم، ثُمّ سار عابد إلى طوائف أُخرى يُعرفون بالجروميّة والحاسكيّة، يُخيفون السبيل في البحر والبر، وكانوا قد أعانوا سليمان بن عليّ بن إلياس فأوقع بهم وقتل كثيراً منهم، وأنفذهم إلى عَضُد الدولة فاستقامتْ تلك الأرض مُدّةً مِن الزمان.

ثُمّ لم يلبث البلوص أنْ عادوا إلى ما كانوا عليه مِن سفكِ الدم وقطع الطريق، فلمّا فعلوا ذلك تَجهّز عَضُد الدولة وسار إلى كرمان في ذي القعدة، فلمّا وصل إلى السيرجان رأى فسادهم وما فعلوه مِن قطع الطريق بكرمان وسجستان وخراسان، فجَرّد عابد بن علي في عَسكر كثيف وأمره باتّباعهم، فلمّا أحسّوا به أوغلوا في الهَرب إلى مضايق ظنّوا أنّ العسكر لا يتوغّلها فأقاموا آمنين، فسار في آثارهم، فلم يشعروا إلاّ وقد أطلّ عليهم، فلم يُمكنهم الهَرب، فصبروا يومهم وهو تاسع عشر ربيع الأوّل مِن سَنة إحدى وستّين وثلاثمئة، ثُمّ انهزموا آخر النهار، وقُتل أكثر رجالهم المُقاتلة، وسُبيَ الذراري والنساء، وبقي القليل وطلبوا الأمان فأُجيبوا إليه، ونُقلوا عن تلك الجبال، وأسكن عَضُد الدولة مكانهم الأكرة والزراعين حتّى طبقوا تلك الأرض بالعمل، وتتبّع عابد تلك الطوائف بَرّاً وبحراً حتّى أتى عليهم وبدّد شَملهم.

الصُلح بين الأمير منصور ورُكن الدولة وعَضُد الدولة:

في سَنة إحدى وستّين وثلاثمئة تمّ الصُلح بين الأمير منصور بن نوح الساساني ورُكن الدولة وولده عَضُد الدولة، وقد ذَكرنا ذلك في أخبار رُكن الدولة مُفصّلاً فلا نُعيده.

مُلك عَضُد الدولة عُمان:

في سَنة ٣٦٣هـ استولى الوزير أبو القاسم المُطهّر بن محمّد وزير عَضُد الدولة على جبال عُمان، ومَن بها مِن الشراة في ربيع الأوّل، وسبب ذلك أنّ مُعزّ الدولة لمّا توفّي وبعمان أبو الفرج بن العبّاس نائب مُعزّ الدولة

٢١٨

وأمرَ بختيار أنّ يَسير في الجانب الغربي، ولمّا بلغَ الخَبر إلى أبي تغلب بقرب الفتكين منه عاد عن بغداد إلى الموصل؛ لأنّ أصحابه شغبوا عليه، فلم يُمكنه المقام، ووصل الفتكين إلى بغداد فحصل محصوراً مِن جميع جهاته، وذلك أنّ بختيار كَتب إلى ضبة بن محمّد الأسدي - وهو مِن أهل عين التمر، وهو الّذي هجاه المُتنبّي - فأمره بالإغارة على أطراف بغداد وبقطع الميرة عنها، وكَتب بمثل ذلك إلى بني شيبان، وكان أبو تغلب بن حمدان مِن ناحية الموصل يَمنع الميرة، وينفذ سراياه ببغداد، وسار العيارون والمُفسدون فنهبوا الناس ببغداد، وامتنع الناس مِن المعاش لخوف الفتنة، وعَدم الطعام والقوت بها، وكَبس الفتكين المنازل في طَلب الطعام، وسار عَضُد الدولة نحو بغداد، فلقيه الفتكين والأتراك بين ديالى والمدائن، فاقتتلوا قتالاً شديداً، وانهزم الأتراك فقُتِل منهم خَلق كثير، ووصلوا إلى ديالى فعبروا على جسور كانوا عملوها، فغَرق منهم أكثرهم مِن الزحمة، وكذلك قُتل وغَرق مِن العيارين الّذين أعانوهم مِن بغداد واستباحوا عسكرهم، وكانت الوقعة برابع عشر جمادى الأُولى.

وسار الأتراك إلى تكريت، وسار عَضُد الدولة فنَزل بظاهر بغداد، فلمّا عَلِم وصول الأتراك إلى تكريت دخل بغداد، ونزل بدار المَملكة، وكان الأتراك قد أخذوا الخليفة معهم كارهاً، فسعى عَضُد الدولة حتّى ردّه إلى بغداد، فوصلها ثامن رجب في الماء، وخرج عَضُد الدولة فلقيه في الماء أيضاً، وامتلأت دجلة بالسميريات والزبازب، ولم يبقَ ببغداد أحد، ولو أراد إنسان أنّ يعبر دجلة على السميريات مِن واحدة إلى أُخرى لأمكنه ذلك لكثرتها، وسارَ عَضُد الدولة مع الخليفة، وأنزله بدار الخلافة، وكان عَضُد الدولة قد طمعَ في العراق واستضعف بختيار، وإنّما خاف أباه رُكن الدولة، فوضع جُند بختيار على أنّ يثوروا به ويشغبوا عليه ويُطالبوه بأموالهم والإحسان لأجل صبرهم، فقابل الأتراك ففعلوا ذلك وبالغوا، وكان بختيار لا يَملك قليلاً ولا كثيراً، وقد نُهب البعض وأخرج هو الباقي، والبلاد خراب فلا تصل يده إلى أخذ شيء منها، وأشار عَضُد الدولة على بختيار بترك الالتفات إليهم، والغلظة لهم وعليهم، وأنْ لا يَعدهم بما لا يقدر عليه، وأنْ يُعرّفهم أنّه لا يُريد لإمارة والرياسة عليهم، ووعده أنّه إذا فعل ذلك توسّط الحال بينهم على ما يُريده، فظنّ بختيار أنّه ناصح له مُشفق عليه، ففعل ذلك واستعفى مِن الإمارة، وأغلق باب داره وصَرف كُتّابه وحُجّابه، فراسله عَضُد

٢١٩

الدولة ظاهراً بمحضر مِن مُقدّمي الجُند يُشير عليه بمُقاربتهم وتَطييب قلوبهم، وكان أوصاه سرّاً أنّ لا يقبل منه، فعمل بختيار بما أوصاه، وقال:

لستُ أميراً لهم، ولا بيني وبينهم معاملة، وقد برئتُ منهم، فتَردّدت الرُسل بينهم ثلاثة أيّام، وعَضُد الدولة يُغريهم به والشغب يَزيد، وأرسل بختيار إليه يطلب إنجاز ما وعده به، ففَرّق الجُند على عدّة جميلة، واستدعى بختيار وإخوته إليه، فقبض عليهم ووكّل بهم، وجمع الناس وأعلمهم استعفاء بختيار مِن الأمارة عجزاً عنها، ووعدهم الإحسان والنظر في أُمورهم، فسكنوا إلى قوله، وكان قبضه على بختيار في السادس والعشرين مِن جمادى الآخرة، وكان الخليفة الطائع لله نافراً عن بختيار؛ لأنّه كان مع الأتراك في حُروبهم، فلمّا بلغه قبضه سَرّه ذلك، وعاد إلى عَضُد الدولة، فأظهر عَضُد الدولة مِن تعظيم الخلافة ما كان قد نُسي وتُرك، وأمر بعمارة الدار والإكثار مِن الآلات، وعِمارة ما يَتعلّق بالخليفة وحماية إقطاعه، ولمّا دخل الخليفة إلى بغداد ودخل دار الخلافة أنفذ إليه عَضُد الدولة مالاً كثيراً وغيره مِن الأمتعة والفرش وغير ذلك.

عود بختيار إلى مُلكه بواسطة عَمّه رُكن الدولة:

لمّا قُبض بختيار كان ولده المرزبان بالبصرة مُتولّياً لها، فلمّا بلغه قبض والده امتنع فيها على عَضُد الدولة، وكَتبَ إلى رُكن الدولة يشكو ما جرى على والده وعَمّيه مِن عَضُد الدولة، ومِن أبي الفتح بن العميد، ويذكر له الحيلة الّتي تَمّت عليه، فلمّا سَمع رُكن الدولة ذلك جرى به ما ذكرناه، وكان محمّد بن بقية بعد بختيار قد خَدم عَضُد الدولة، وضمن منه مدينة واسط وأعمالها، فلمّا صار إليها خَلع طاعة عَضُد الدولة، وخالف عليه وأظهر الامتعاض لقبض بختيار، وكاتب عِمران بن شاهين، وطلب مُساعدته قد ضمن سهل بن بشر وزير الفتكين بلد الأهواز، وأخرجه مِن حبس بختيار، فكاتبه محمّد بن بقية واستماله فأجابه، فلمّا عصى ابن بقية أنفذ إليه عَضُد الدولة جيشاً قويّاً، فخرج إليهم ابن بقية في الماء ومعه عسكر قد سيّره إليه عِمران، فانهزم أصحاب عَضُد الدولة أقبح هزيمة، وكاتب رُكنَ الدولة بحاله وحال بختيار، فكَتب رُكن الدولة إليه وإلى المرزبان وغيرهما ممَّن احتمى

٢٢٠