تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 96053
تحميل: 7609


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96053 / تحميل: 7609
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

مِلك أبي كاليجار واسط وسير جلال الدولة إلى الأهواز:

في سَنة ٤٢٠ مَلك أبو كاليجار واسط، وجرت أُمور مرّ ذِكرها في أخبار دولة بني دبيس فلا نُعيدها، وهناك أحداثٌ أُخرى تتعلّق بأبي كاليجار وجلال الدولة والغز مرّت في تاريخ بني المسيّب وبني دبيس وخفاجة لا نُعيدها، فلتُطلب مِن مكانها مِن تاريخهم.

الحَربُ بينَ عسكر جلال الدولة وأبي كاليجار:

في شوال سَنة ٤٢١ سيّر جلال الدولة عسكراً إلى المذار وبها عسكر أبي كاليجار، واستولى أصحاب جلال الدولة على المذار، وعملوا بأهلها كلّ محظور، فلمّا سَمع أبو كاليجار الخَبر سَيّر إليهم عسكراً كثيفاً فاقتتلوا بظاهر البلد، فانهزم عسكر جلال الدولة وقُتل أكثرهم، وثار أهل البلد بغُلمانهم فقتلوهم ونهبوا أموالهم؛ لقبيح سيرتهم كانت معهم. وعاد مَن سَلم مِن المعركة إلى واسط.

مسيرُ ابن ماكولا إلى البصرة وقتلِه:

لمّا استولى المَلك جلال الدولة على واسط، جعل وَلَده فيها، وسيّر وزيره أبا عليّ بن ماكولا إلى البطائح والبصرة ليملكها، فمَلك البطائح وسار إلى البصرة في الماء، وأكثَرَ مِن السُفن والرجال، وكان بالبصرة أبو منصور بختيار بن علي نائباً لأبي كاليجار، فجّهز جيشاً في أربعمئة سفينة، وجعل عليهم أبا عبد الله الشرابي الذي كان صاحب البطيحة وسيّره، فالتقى هو والوزير أبو علي، فعند اللقاء والقتال هبّت ريحُ شمال كانت على البصريّين ومعونة للوزير، فانهزم البصريّون وعادوا إلى البصرة، فعزم بختيار على الهرب إلى عبّادان، فمنعه مَن سَلم عنده مِن عسكره فأقام مُتجلّداً.

وأشار جماعة على الوزير أبي علي أنْ يَعجل الانحدار، ويغتنم الفُرصة قبل أنْ يعود بختيار يَجمع، فلمّا قاربهم وهو في ألف وثلاثمئة عدد مِن السُفن سَيّر بختيار ما عنده مِن السُفن وهي نحو ثلاثين قطعة وفيها المُقاتلة، وكان قد سيّر عسكراً آخر في البَر، وكان له في فَمِ نهر أبي الخصيب نحو خمسمئة قطعةٍ، فيها ما له ولجميع عَسكره مِن المال والأثاث ما لا يُحصر، فلمّا تقدّمت سُفنه صاح مَن فيها وأجابه مَن في السُفن التي فيها أهلوهم

٣٢١

وأموالهم، وورد عليهم العسكر الّذين في البر، فقال الوزير لمَن أشار عليه بمعركة بختيار:

ألستُم زعمتم أنّه في خفّ مِن العسكر، وأنّ مُقاتلته أولى، وأرى الدُنيا مملوءةً عساكر.

فهوّنوا عليه الأمر، فغضِب وأمر بإعادة السُفن إلى الشاطئ إلى الغَد ويعود إلى القِتال، فلمّا أعاد سُفنه ظنّ أصحابه أنّه قد انهزم، فصاحوا الهزيمة فكانت هي.

وقيل: بل لمّا أعاد سُفنه لَحقهم مَن في سُفن بختيار، وصاحوا الهزيمة وأجابهم مَن في البرّ مِن عسكر بختيار ومَن في سُفنهم التي فيها أموالهم، فانهزم أبو عليٍّ حقاً، وتبعه أصحاب بختيار وأهلُ السواد، ونزل بختيار في الماء واستصرخ الناس، وسار في آثارهم يَقتل ويأسر وهُم يغرقون، فلم يَسلَم مِن السفن كلّها أكثر مِن خمسين قطعة، وسار الوزير أبو عليٍّ مُنهزماً، فأُخذ أسيراً وأُحضر عند بختيار، فأكرمه وعظّمه وجلس بين يديه، وقال له:

ما الذي تشتهي أنْ أفعل معك؟ قال: تُرسلني إلى المَلك أبي كاليجار، فأرسله إليه فأطلقه.

فاتفقَ أنّ غُلاماً له وجاريةٍ اجتمعا على فسادٍ فعَلِم بهما، وعرفا أنّه قد عَلم حالهما، فقتلاه بعد أسره بنحو مِن شهر.

وكان قد أحدث في ولايته رُسوماً جائرة وسنَّ سُنناً سيّئة منها: جباية سوق الدقيق ومقالي الباذنجان وسميريات المشارع، ودلالة ما يُباع مِن الأمتعة، وأجر الحمّالين الذين يرفعون التُمور إلى السُفن، وبما يُعطيه الذبّاحون لليهود، فجرى في ذلك مُناوشة بين العامّة والجُند.

استيلاءُ عسكرِ جلالِ الدولة على البَصرة:

لمّا انحدر الوزير أبو عليّ بن ماكولا إلى البصرة لم يستصحب مَعه مِن الأجناد البصريّين الّذين مع جلال الدولة؛ تأنيساً للدَيلم الّذين بالبصرة، فلمّا أُصيب - على ما مرّ ذِكره - تجهّز هؤلاء البصريّون وانحدروا إلى البصرة، فوصلوا إليها وقاتلوا مَن بها مِن عسكر أبي كاليجار، ودخل عسكر جلال الدولة البصرة في شعبان، واجتمع عسكر أبي كاليجار بالأُبُلة مع بختيار فأقاموا بها يستعدون للعود، وكتبوا إلى أبي كاليجار يستمدّونه، فسيّر إليهم عسكراً كثيراً مع وزيره ذي السعادات أبي الفرج بن فسانجس، فقدِموا إلى الأُبُلة واجتمعوا مع بختيار، ووقعَ الشروع في قتال مَن بالبصرة مِن أصحاب جلال الدولة، فسيّر بختيار جمعاً كثيراً في عِدّة مِن السُفن فقاتلوهم، فنُصر أصحاب جلال الدولة عليهم وهزموهم، فوبّخهم بختيار وسار مِن وقته في

٣٢٢

العدَد الكثير والسُفن الكثيرة فاقتتلوا واشتدّ القتال، فانهزم بختيار وقُتل مِن أصحابه جماعة كثيرة، وأُخذ هو فقُتل مِن غير قَصد لقَتله، وأخذوا كثيراً مِن سُفنه، وعاد كلّ فريق إلى موضعه.

وعزمَ الأتراك مِن أصحاب جلال الدولة على مُباكرة الحَرب وإتمام الهزيمة، وطالبوا العامل الّذي على البصرة بالمال، فاختلفوا وتنازعوا في الإقطاعات، فأصعد أبن المعبراني صاحب البطيحة، فسار إليه جماعة مِن الأتراك الواسطيّين ليردّوه فلم يرجع، فتبعوه وخافَ مَن بقي بعضُهم مِن بعض أنْ لا يُناصحوهم ويُسلموهم عند الحرب، فتفرّقوا واستأمن بعضهم إلى ذي السعادات - وقد كان خائفاً منهم - فجاءه ما لم يُقدّره مِن الظَفر، ونادى مَن بقي بالبصرة بشعار أبي كاليجار، فدخلها عسكره وأرادوا نهبها فمنعهم.

فتنةٌ في بغدادِ وشغبُ الجندِ على جلالِ الدولةِ:

وفي سَنة ٤٢٢ وقعتْ فِتنة بين السُنّة والشيعة في بغداد، واستفحل أمرُها، وأظهر الجُند كراهة المَلك جلال الدولة، وأرادوا قطع خُطبته، ففرّق فيهم مالاً وحَلف لهم فسكتوا، ثُمّ عاودا الشكوى إلى الخليفة منه، وطلبوا أنْ يأمر بقطع خُطبته فلم يُجبهم إلى ذلك، فامتنع حينئذٍ جلال الدولة مِن الجُلوس وضَربِهِ النوبةِ أوقات الصلوات، وانصرف الطالبون لانقطاع الجاري لهم، ودامت هذه الحال إلى عيد الفطر، فلم يَضرب بوق ولا طبل، ولا أُظهرت الزينة وزاد الاختلاط.

الوحشةُ بينَ بارسطفان وجلال الدولة:

اجتمع أصاغر الغُمان هذه السَنة إلى جلال الدولة، وقالوا له:

قد هَلكنا فَقراً وجوعاً، وقد استبدّ القوّاد بالدولة والأموال عليك وعلينا، وهذا بارسطفان ويلدرك قد أفقرانا وأفقراك أيضاً، فلمّا بلغهما ذلك امتنعا مِن الركوب إلى جلال الدولة واستوحشا، وأرسل إليهما الغُلمان يُطالبونهما بمَعلومهم، فاعتذرا بضيق أيديهما عن ذلك وسارا إلى المدائن، فنَدِم الأتراك على ذلك، وأرسل إليهما جلال الدولة مؤيّد الدين الرخجي المُرتضى وغيرهما فرجعا، وزاد شَغبُ الغُلمان على جلال الدولة إلى أنْ نَهبوا مِن داره فُرشاً وآلاتٍ ودوابٍ وغير ذلك، فركب وقت الهاجرة إلى دار الخلافة

٣٢٣

ومعه نَفَر قليل مِن الركابيّة والغُلمان، وجَمع كثيرٌ مِن العامّة وهو سكران، فانزعج الخليفة مِن حضوره، فلمّا عَلِم الحال أرسل إليه يأمره بالعود إلى داره ويُطيّب قلبه، فقبّل قربوس سَرجه ومَسح حائط الدار بيده وأمرّها على وجهه، وعاد إلى داره والعامّة معه.

وثوبُ الأجنادِ بجلالِ الدولةِ وإخراجه مِن بَغداد:

في ربيع الأوّل مِن سَنة ٤٢٣ تجدّدت الفِتنة بين جلال الدولة والأتراك فأغلق بابه، فجاءت الأتراك ونهبوا داره، وسلبوا الكُتّاب وأرباب الديوان ثيابهم، وطلبوا الوزير أبا إسحاق السهيلي، فهرب إلى حلّة كمال الدولة غريب بن محمّد، وخرج جلال الدولة إلى عُكبرا في شهر ربيع الآخر.

وخَطبَ الأتراك ببغداد للمَلك أبي كاليجار، وأرسلوا إليه يَطلبونه وهو بالأهواز، فمنعه العادل بن مافنة عن الإصعاد إلى أنْ يَحضر بعض قوّادهم، فلمّا رأوا امتناعه مِن الوصول إليهم أعادوا خُطبة جلال الدولة، وساروا إليه وسألوه العود إلى بغداد واعتذروا إليه، فعاد بعد ثلاثةٍ وأربعين يوماً، ووزر له أبو القاسم بن ماكولا ثُمّ عُزل، ووزر بعده عميد الدولة أبو سعد بن عبد الرحيم، فبقي وزيراً أيّاماً ثُمّ استتر، وسَبب ذلك أنّ جلال الدولة تقدّم إليه بالقبض على أبي المُعمّر إبراهيم بن الحسين البسامي طَمعاً في ماله، فقبض عليه وجعله في داره، فثار الأتراك وأرادوا منعه، وقصدوا دار الوزير وأخذوه وضربوه وأخرجوه مِن داره حافياً، ومَزّقوا ثيابه وأخذوا عِمامته وقطّعوها، وأخذوا خواتيمه مِن يده فدَمِيَت أصابعه، وكان جلال الدولة في الحَمّام فخرج مُرتاعاً، فركب وظَهر لينظر ما الخَبر، فأكبّ الوزير يُقبّل الأرض ويَذكر ما فُعل به، فقال جلال الدولة:

أنا ابن بهاء الدولة وقد فُعل بي أكثر مِن هذا، ثُمّ أخذ مِن البسامي ألف دينار وأُطلق واختفى الوزير.

استيلاءُ جلالِ الدولة على البَصرة وخروجها عن طاعته:

في سَنة ٤٢٤ سارت عساكر جلال الدولة مع وَلده المَلك العزيز فدخلوا البصرة في جمادى الأولى، وكان سبَب ذلك بختيار مُتولّي البصرة توفّي، فقام بعده ظهير الدين أبو القاسم خال ولده؛ لجَلدٍ كان فيه

٣٢٤

وكفاية، وهو في طاعة المَلك أبي كاليجار، ودام كذلك فقيل لأبي كاليجار:

إنّ أبا القاسم ليس لك مِن طاعته غير الاسم، ولو رِمتَ عَزلِه لتعذّر عليك، وبلغَ ذلك أبا القاسم فاستعدّ للامتناع، وأرسل أبو كاليجار إليه ليَعزِله فامتنع، وأظهر طاعة جلال الدولة وخَطب له، وأرسل إلى ابنه وهو بواسط يَطلبه، فانحدر إليه في عساكر أبيه الّتي كانت معه بواسط، ودخلوا البصرة وأقاموا بها، وأخرجوا عساكر أبي كاليجار منها، وبقيَ المَلك العزيز بالبصرة وأقاموا بها، وأخرجوا عساكر أبي كاليجار منها.

وبقيَ المَلك العزيز بالبصرة مع أبي القاسم إلى أنْ دَخلتْ سَنة خمسٍ وعشرين وليس له مَعه أمرٌ والحُكم إلى أبي القاسم.

ثُمّ إنّه أراد القبضَ على بعض الديلم فهرب، ودخل دارَ المَلِك العزيزِ مُستجيراً، فاجتمع الديلم إليه وشَكوا مِن أبي القاسم، فصادفتْ شكواهم صَدراً موغراً حَنقاً عليه لسوء صُحبته، فأجابهم إلى ما أرادوه مِن إخراجه عن البصرة واجتمعوا، وعَلم أبو القاسم بذلك فامتنع بالأُبُلّة وجَمع أصحابه، وجرى بين الفريقين حُروب كثيرة أجلتْ عن خُروج العزيز عن البصرة وعوده إلى واسط، وعود أبي القاسم إلى طاعة أبي كاليجار.

إخراجُ جلالِ الدولة مِن دار المَملكة وإعادته إليها:

في هذه السَنة في شَهر رمضان شَغب الجُند على جلال الدولة وقبضوا عليه، ثُمّ أخرجوه مِن داره، ثُمّ سألوه ليعود إليها فعاد، وسَبب ذلك إنّه استقدم الوزير أبا القاسم مِن غير أنْ يَعلموا، فلمّا قَدِم ظنّوا إنّه إنّما ورد للتَعرّض إلى أموالهم ونِعَمهم، فاستوحشوا واجتمعوا إلى داره وهجموا عليه وأخرجوه إلى مسجد عناك فوكلوا به فيه.

ثُمّ إنّهم أسمعوه ما يَكره ونهبوا بعض ما في داره، فلمّا وكلوا به جاء بعض القوّاد في جماعةٍ مِن الجُند ومَن انضافَ إليه مِن العامّة والعيّارين، فأخرجه مِن السَمجد وأعاده إلى داره، فنقل جلال الدولة وُلدَه وحُرمه وما بقيَ له إلى الجانب الغربي، وعَبر هو في الليل إلى الكرخ، فلقيه أهل الكرخ بالدُعاء فنَزل بدار المُرتضى، وعَبَر الوزير أبو القاسم معه.

ثُمّ إنّ الجُند اختلفوا، فقال بعضهم: نُخرجه مِن بلادنا ونُملّك غيره، وقال بعضهم: ليس مِن بني بويه غيره وغير أبي كاليجار، وذلك قد عاد إلى بلاده ولا بدّ مِن مُداراة هذا، فأرسلوا إليه يقولون له:

نُريدُ أنْ تَنحدر عنّا إلى واسط وأنت مَلِكُنا، وتَترك عِندنا بعض أولادك الأصاغر.

فأجابهم إلى ذلك، وأرسل سرّاً إلى الغُلمان الأصاغر فاستمالهم،

٣٢٥

وإلى كلّ واحد مِن الأكابر، وقال: إنّما أثقُ بكَ وأسكُن إليك، واستمالهم أيضاً، فعبروا إليه وقَبّلوا الأرض بين يديه، وسألوه العودَ إلى دار المُلك فعاد، وحَلف إليهم على إخلاص النيّة والإحسان إليهم، وحَلفوا له على المُناصحة واستقرّ في داره.

حالُ الخِلافةِ والسَلطنة ببغداد:

في سَنة ١٤٢٦ انحلّ أمرُ الخلافة والسَلطنة ببغداد، حتّى إنّ بعض الجُند خرجوا إلى قرية يحيى، فلقيهم أكرادٌ فأخذوا دوابهم، فعادوا إلى قراح الخَليفة القائم بأمر الله فنهبوا شيئاً مِن ثَمرته، وقالوا للعاملين فيه:

أنتم عَرفتهم حال الأكراد ولم تُعلمونا، وسَمِع الخليفة الحال فعظُم عليه، ولم يَقدر جلال الدولة على أخذِ أولئك الأكراد لعجزه ووَهنه، واجتهد في تسليم الجُند إلى نائب الخليفة فلم يُمكنه ذلك، فتَقدّم الخليفة إلى القُضاة بترك القضاء والامتناع عنه، وإلى الشُهود بترك الشهادة، وإلى الفُقهاء بترك الفتوى، فلمّا رأى جلال الدولة ذلك سأل أولئك الأجناد ليُجيبوه إلى أنْ يَحملهم إلى ديوان الخلافة ففعلوا، فلمّا وصلوا إلى دار الخلافة أُطلقوا، وعظُم أمر العيّارين، وصاروا يأخذون الأموال ليلاً ونهاراً ولا مانع لهم؛ لأنّ الجُند يَحمون على السُلطان ونوّابه، والسلطان عاجز عن قهرهم، وانتشر العَرب في البلاد، فنهبوا النواحي وقطعوا الطريق، وبلغوا إلى أطراف بغداد حتّى وصلوا إلى جامع المَنصور، وأخذوا ثياب النساء في المقابر.

وثوبُ الجُندِ بجلال الدولة:

في سَنة ٤٢٧ ثارَ الجُند ببغداد بجلال الدولة وأرادوا إخراجه منها، فاستنظرهم ثلاثة أيّام فلم يُنظروه، ورموه بالآجر فأصابه بعضُهم، واجتمع الغُلمان فردّوهم عنه، فخرج مِن باب لطيف في سماريته مُتنكّراً، وصعد منها راجلاً إلى دار المُرتضى بالكرخ، وخرج مِن دار المُرتضى وسار إلى رافع بن الحسين بن مقن بتكريت، وكسر الأتراك أبواب داره ودخلوها ونهبوها، وقلعوا كثيراً مِن ساجها وأبوابها، فأرسل الخليفة إليه وقرّر أمرَ الجُند وأعاده إلى بغداد.

٣٢٦

الفِتنَةُ بين جلال الدولة وبارسطفان:

في سنة ٤٢٨ كانت الفِتنة بين جلال الدولة وبارسطفان، وهو مِن أكابر الأُمراء ويُلقّب حاجب الحُجّاب، وكان سبَب ذلك أنّ جلال الدولة نسبه إلى فساد الأتراك، والأتراك نَسبوه إلى أخذِ الأموال، فخاف على نفسه فالتجأ إلى دار الخلافة في رجب مِن السَنة الخالية، وتردّدت الرُسل بين جلال الدولة والقائم بأمر الله في أمره، فدافع الخَليفة عنه وبارسطفان يُراسل المَلك أبا كاليجار، فأرسل أبو كاليجار جيشاً فوصلوا إلى واسط، واتّفق معهم عَسكر واسط وأخرجوا المَلك العزيز بن جلال الدولة فأصعد إلى أبيه، وكَشفَ بارسطفان القِناع فاستتبع أصاغر المماليك، ونادوا بشعار أبي كاليجار، وأخرجوا جلال الدولة مِن بغداد فسار إلى أوانا ومعه البساسيري، وأخرج بارسطفان الوزير أبا الفضل العبّاس بن الحسن بن فسانجس، فنظرَ في الأُمور نيابة عن المَلك أبي كاليجار، وأرسل بارسطفان إلى الخليفة يَطلب الخُطبة لأبي كاليجار فاحتجّ بِعُهود جلال الدولة، فأكره الخُطباء على الخُطبة لأبي كاليجار ففعلوا.

وجرى بين الفريقين مُناوشات، وسار الأجناد الواسطيّون إلى بارسطفان ببغداد فكانوا معه، وتنقّلت الحال بين جلال الدولة وبارسطفان، فعاد جلال الدولة إلى بغداد ونزل بالجانب الغربي، ومَعه قرواش بن المقلد العقيلي ودبيس بن علي بن مزيد الأسدي، وخُطِب لجلال الدولة به، وبالجانب الشرقي لأبي كاليجار، وأعان أبو الشوك وأبو الفوارس منصور ابن الحسين بارسطفان على طاعة أبي كاليجار، ثُمّ سار جلال الدولة إلى الأنبار وسار قرواش إلى الموصل، وقَبض بارسطفان على ابن فسانجس، فعاد منصور بن الحسين إلى بلده، وأتى الخَبر إلى بارسطفان بعود المَلك أبي كاليجار إلى فارس، ففارقه الدَيلم الذين جاؤوا نَجدةً له فضَعُف أمره، فدفع ماله وحُرمه إلى دار الخلافة وانحدر إلى واسط، وعاد جَلال الدولة إلى بغداد، وأرسل البساسيري والمُرشد وبني خفاجة في أثره، فتَبعهم جلال الدولة ودبيس بن عليّ بن مزيد، فلحقوه بالخيزرانيّة فقاتلوه فسقط عن فرسه، فأُخذ أسيراً وحُمل إلى جلال الدولة فقتله وحَمل رأسه، وكان عُمره نحو سبعين سَنة.

وسار جلال الدولة إلى واسط فمَلكها، وأصعد إلى بغداد فضعُف أمر الأتراك، وطمعَ فيهم الأعراب واستولوا على إقطاعاتهم فلم يقدروا على كفّ أيديهم عنها.

وكانت مُدّة بارسطفان مِن

٣٢٧

حين كاشف جلال الدولة إلى أنْ قُتل ستّة أشهر وعشرة أيّام.

الصُلحُ بينَ جلال الدولة وأبي كاليجار والمُصاهرة بينهما:

في هذه السنَة تردّدت الرُسل بين جلال الدولة وابن أخيه أبي كاليجار سُلطان الدولة في الصُلح والاتّفاق وزال الخُلف، وكان الرُسل: أقضى القُضاة أبا الحسن الماوردي، وأبا عبد الله المردوستي وغيرهما، فاتّّفقا على الصُلح وحَلف كلّ واحد مِن المَلكين لصاحبه، وأرسلَ الخليفةُ القائم بأمر الله إلى أبي كاليجار الخِلَع النفيسة، ووقعَ العَقد لأبي منصور بن أبي كاليجار على ابنة جَلال الدولة، وكان الصَداق خمسين ألف دينار قاسانية.

مُخاطبة جلال الدولة بمَلك المُلوك:

في هذه السنة ٤٢٩هـ سأل جلال الدولة الخليفَة القائم بأمر الله ليُخاطَب بمَلك المُلوك، فامتنع ثُمّ أجاب إليه إذا أفتى الفُقهاء بجوازه، فكَتب فتوى إلى الفقهاء في ذلك، فأفتى القاضي أبو الطيّب الطَبري، والقاضي أبو عبد الله الصيمري، والقاضي ابن البيضاوي، وأبو القاسم الكرخي بجوازه، وامتنع منه قاضي القُضاة أبو الحسن الماوردي، وجرى بينه وبين مَن أفتى بجوازه مُراجعات، وخُطِب لجلال الدولة بمَلك المُلوك.

وكان الماوردي مِن أخصّ الناس بجلال الدولة، وكان يَتردّد إلى دار المَملكة كلّ يوم، فلمّا أفتي بهذه الفُتيا انقطع ولزم بيته خائفاً، وأقام مُنقطعاً مِن شهر رمضان إلى يوم عيد النحر، فاستدعاه جَلال الدولة فحَضر خائفاً، فأدخله وَحدَه وقال له:

قد عَلِم كلّ أحد أنّك مِن أكثر الفُقهاء مالاً وجاهاً وقُرباً منّي، وقد خالفتهم فيما خالف هواي، ولم تَفعل ذلك إلاّ لعدم المُحاباة منك واتّباع الحق، وقد بانَ لك موضعك مِن الدين ومكانك مِن العِلم، وجعلتُ جزاء ذلك إكرامك بأنْ أُدخلتك إليّ وحدك، وجعلتُ إذنَ الحاضرين إليك؛ ليتحقّقوا عودي إلى ما تُحب، فشكره ودعا له وأذِنَ لكلّ مَن حَضر بالخدمة والانصراف.

مِلك أبي كاليجار البصرة:

في سَنة إحدى وثلاثين وأربعمئة سيّر المَلك أبو كاليجار عساكره مع العادل أبي مَنصور بن مافنة إلى البصرة، فمَلكها في صَفر وكانت بيَد الظهير

٣٢٨

أبي القاسم، وقد وَليها بعد بختيار، وكان قد عصى على أبي كاليجار مَرّة وصار في طاعة جلال الدولة، ثُمّ فارق طاعته وعاد إلى طاعة المَلك أبي كاليجار، وكان يَترُك محاققته ومُعارضته فيما يفعله، ويضمن الظهير أنْ يَحمل إلى أبي كاليجار كلّ سَنة سبعين ألف دينار، وكثُرت أمواله ودامت أيّامه وثبتَ قَدمه وطار اسمه، واتّفق إنّه تعرّض إلى أملاك أبي الحسن بن أبي القاسم بن مكرم - صاحب عُمان - وأمواله، وكاتب أبو الحسن المَلك أبا كاليجار وبَذل له زيادة ثلاثين ألف دينار في ضمان البصرة كلّ سَنة، وجرى الحديث في قصد البصرة، فصادفَ قلباً موغراً مِن الظهير فحصلت الإجابة، وجهّز المَلك العساكر مع العادل أبي منصور فسار إليها وحصرها، وسارت العساكر مِن عُمان أيضاً في البحر، وحُصرتْ البصرة ومُلكت، وأُخذ الظهير وقُبض عليه وأُخذ جميع ماله، وقُرر عليه مئة ألف وعشرة آلاف دينار يحملها في أحدَ عشرَ يوماً، بعد تسعين ألف دينار أُخذت منه قَبلها.

ووصل المَلك أبو كاليجار إلى البصرة فأقام بها، ثُمّ عاد إلى الأهواز وجعل وَلده عِزّ المُلوك فيها ومعه الوزير أبو الفَرج بن فسانجس، ولمّا سار أبو كاليجار عن البصرة أخَذ معه الظهير إلى الأهواز.

شَغب الأتراك على جلالِ الدولةِ ببغداد:

في هذه السَنة شَغب الأتراك على المَلك جلال الدولة ببغداد، وأخرجوا خيامهم إلى ظاهر البلد، ثُمّ أوقعوا النَهب في عدّة مواضع، فخافهم جَلال الدولة فعَبر خيامه إلى الجانب الغربي، وتردّدت الرُسل بينهم في الصُلح، وأراد الرحيل عن بغداد فمنعه أصحابه، فراسل دبيس بن مزيد وقرواشاً - صاحب الموصل - وغيرهما، وجَمع عِنده العساكر فاستقرّت القواعد بينهم، وعاد إلى داره، وطَمع الأتراك وآذوا الناس ونَهبوا وقَتلوا، وفَسَدت الأُمور بالكُليّة إلى حدٍّ لا يُرجى صَلاحه.

الخِلافُ بينَ جلال الدولة وقرواش صاحب الموصل:

في هذه السَنة اختلف جلال الدولة مَلك العراق وقرواش بن المقلد العقيلي صاحب الموصل، وقد ذُكر هذا الحادث في أخباره مِن تاريخ بني المسيّب العقيليّين بإيجاز فرأينا بسطه هُنا.

٣٢٩

كان سَبب هذا الاختلاف أنّ قرواشاً كان قد أنفذ عَسكراً سَنة إحدى وثلاثين، فحصروا خميس بن ثعلب بتكريت، وجرى بين الطائفتين حَرب شديدة في ذي القعدة منها، فأرسل خميس وَلده إلى الَملك جلال الدولة، وبَذل بذولاً كثيرة ليكفّ عنه قرواشاً فأجابه إلى ذلك، وأرسل إلى قرواش يأمره بالكفّ عنه فغالط ولم يَفعل، وسار بنفسه ونَزل عليه يُحاصره، فتأثّر جلال الدولة منه.

ثُمّ إنّه أرسل كِتباً إلى الأتراك ببغداد يُفسدهم، وأشار عليهم بالشَغب على المَلك وإثارة الفِتنة معه، فوصل خبرها إلى جلال الدولة - وأشياء أُخر كانت هذه هي الأصل - فأرسل جلال الدولة أبا الحرث أرسلان الفساسيري في صَفر سَنة اثنتين وثلاثين ليقبضَ على نائب قرواش بالسنديّة، فسار ومعه جماعة مِن الأتراك وتَبعه جَمع مِن العَرب، فرأى في طريقه جِمالاً لبني عيسى، فتسرّع إليها الأتراك والعرب فأخذوا منها قطعة.

وأوغل الأتراك في الطَلب، وبلغَ الخَبر إلى العَرب وركبوا وتبعوا الأتراك، وجرى بين الطائفتين حَرب انهزم فيها الأتراك وأُسر منهم جماعة، وعادَ المُنهزمون فأخبروا الفساسيري بكثرة العَرب، فعادَ ولم يصل إلى مَقصده.

وسار طائفة مِن بني عيسى، فكمنوا بين صرصر وبغداد ليُفسدوا في السواد، فاتّفق أنْ وصلَ بعض أكابر القوّاد الأتراك، فخرجوا عليه فقتلوه وجماعة مِن أصحابه، وحُملوا إلى بغداد فارتجّ البَلد، واستحكمت الوحشة بين جلال الدولة وقرواش، فجَمع جلال الدولة العساكر وسار إلى الأنبار - وهي لقرواش على عَزم أخذها منه وغيرها مِن إقطاعه بالعراق - فلمّا وصلوا إلى الأنبار أُغلقت وقاتلهم أصحاب قرواش، وسار قرواش مِن تكريت إلى خصة على عزم القتال، فلمّا نَزل المَلك جلال الدولة على الأنبار قَلّت عليهم العلوفة، فسارَ جماعة مِن العسكر والعَرب إلى الحديثة ليمتاروا منها، فخرجَ عليهم عندها جَمعٌ كثيرٌ مِن العَرب فأوقعوا بهم، فانهزم بعضُهم وعادوا إلى العسكر، ونَهبت العربُ ما معهم مِن الدواب التي تَحمل الميرة، وثَبت معه جماعة، ووصل الخَبر إلى جَلال الدولة أنّ المُرشد أبا الوفاء يُقاتل، وأُخبر سلامته وصَبره للعرب، وأنّهم يقاتلونه وهو يطلب النجدة، فسار المَلك إليه بعسكر، فوصلوا وقد عَجزَ العرب عن الوصول إليه، وعادوا عنه بعد أنْ حَملوا عليه وعلى مَن معه عِدّة حَملات صبر لها في قلّة مَن مَعه.

ثُمّ اختلفت عقيل على قرواش، فراسل جلال الدولة وطَلب رضاه وبَذل له بذلاً

٣٣٠

أصلحه به، وعادَ إلى طاعته فتحالفا وعاد كلٌّ منهما إلى مكانه.

الوحشةُ بينَ القائم بأمر الله وجَلال الدولة:

في سَنة ٤٣٤ افتُتحت الجوالي في المُحرّم ببغداد، فأنفذ جلال الدولة فأخذ ما تحصّل منها، وكانت العادة أنْ يُحمَل ما يَحصل منها إلى الخُلفاء لا تُعارضهم فيها المُلوك، فلمّا فعل جَلال الدولة ذلك عَظُم الأمر فيه على القائم بأمر الله واشتد عليه، وأرسل مع أقضى القُضاة أبي الحسن الماوردي في ذلك، وتكرّرت الرسائل فلم يُصغِ جلال الدولة لذلك، وأخذ الجوالي، فجمعَ الخليفةُ الهاشميّين بالدار والرجالة، وتقدّم بإصلاح الطيار والزبازب، وأرسل إلى أصحاب الأطراف والقُضاة بما عَزم عليه، وأظهر العَزم على مُفارقة بغداد فلم يتمّ ذلك، وحدثت وحشة مِن الجِهتين، فاقتضت الحال أنّ المَلك يَترك مُعارضة النوّاب الإماميّة فيها في السَنة الآتية.

وفاةُ جلالِ الدولةِ ومُلك أبي كاليجار:

في سادس شعبان سَنة ٤٣٥ توفّي المَلك جلال الدولة أبو طاهر بن بهاء الدولة بن عَضد الدولة بن بويه ببغداد، وكان مَرضه وَرماً في كَبده، وبقي عدّة أيّام مريضاً وتوفّي، وكان مَولده سَنة ثلاث وثمانين وثلاثمئة، ومُلكه ببغداد ستّ عشرة سَنة وأحد عشر شهراً، ودُفن بداره.

ومَن عَلِم سيرته وضَعفه واستيلاء الجُند والنوّاب عليه، ودوام مُلكه إلى هذه الغاية عَلم أنّ الله على كلّ شيءٍ قدير، يُؤتي مُلكه مَن يشاء وينزعه ممَّن يشاء.

وكان يَزور الصالحين ويَقرب منهم، وزار مرّة مَشهدَي عليٍّ والحسين (عليها السلام)، وكان يَمشي حافياً قبلَ أنْ يَصل إلى مَشهد كلٍّ منهما نحو فَرسخ، يفعل ذلك تَديّناً.

ولمّا تُوفّي انتقل الوزير كمال المُلك بن عبد الرحيم وأصحاب المَلك الأكابر إلى باب المَراتب وحريم دار الخلافة؛ خوفاً مِن نَهب الأتراك والعامّة دُورهم، فاجتمع قوّاد العَسكر تحت دارِ المَملكة ومنعوا الناس مِن نهبها.

ولمّا توفّي كان وَلده الأكبر المَلك العزيز أبو منصور بواسط على عادته، فكاتبه الأجناد بالطاعة، وشرطوا عليه تعجيل ما جرت به العادة مِن حقّ البيعة، فتردّدت المُراسلات بينهما في مقداره وتأخيره لفقده، وبَلغَ مَوته إلى المَلك أبي كاليجار بن سُلطان الدولة بن بهاء

٣٣١

الدولة، فكاتب القوّاد والأجناد ورَغّبهم في المال وكثرته وتعجيله، فمالوا إليه وعَدلوا عن المَلك العزيز.

وأمّا المَلك العزيز، فإنّه أصعد إلى بغداد لمّا قَرُبَ المَلك أبو كاليجار منها - على ما يأتي في سَنة ستّ وثلاثين - عازماً على قَصد بغداد ومعه عَسكره، فلمّا بَلغَ النُعمانية غدرَ به عسكره، ورجعوا إلى واسط وخَطبوا لأبي كاليجار، فلمّا رأى ذلكَ مضى إلى نورِ الدولة دبيس بن مزيد؛ لأنّه بَلغه ميلُ جُند بغداد إلى أبي كاليجار، وسار مِن عند دبيس إلى قرواش بن المقلد، فاجتمع به بقرية خصة - مِن أعمال بغداد - وسار مَعه إلى الموصل، ثُمّ فارقه وقصد أبا الشوك؛ لأنّه حَموه، فلمّا وصل إلى أبي الشوك غَدر به، وألزَمه بطلاق ابنته ففعل، وسار عنه إلى إبراهيم ينال أخي طغرلبك، وتنقّلت به الأحوال حتّى قَدِم بغداد في نَفَرٍ يسيرٍ عازماً على استمالة العَسكر وأخذِ المُلك، فثارَ به أصحاب المَلك أبي كاليجار فقُتل بعضُ مَن عنده، وسار هو مُختفياً فقصد نَصر الله بن مروان، فتوفّي عنده بميافارقين، وحُمل إلى بغداد ودُفن عند أبيه بمقابر قُريش في مشهد باب التِبن سَنة إحدى وأربعين وأربعمئة، وقد ذَكر الشيخ أبو الفَرج بن الجوزي إنّه آخر مُلوك بني بويه، وليس كذلك؛ فإنّه مَلك بعده أبو كاليجار ثُمّ المَلك الرحيم بن أبي كاليجار، وهو آخرهم على ما نراه.

وأمّا المَلك أبو كاليجار، فلم تَزل الرُسل تتردّد بينه وبين عَسكر بغداد حتّى استقرّ الأمر له، وحَلفوا وخَطبوا له ببغداد في صَفَر سَنة ستٍّ وثلاثين وأربعمئة على ما تراه فيما بعد.

الخُلف بين أبي كاليجار وفرامرز بن علاء الدولة:

في هذه السَنة نكثَ الأمير أبو منصور فرامز بن علاء الدولة بن كاكويه صاحب أصبهان العَهد الّذي بينه وبين المَلك أبي كاليجار، وسَيَّر عسكره إلى نواحي كِرمان فملكوا منها حِصنين وغنموا ما فيهما، فأرسل المَلك أبو كاليجار إليه في إعادتهما وإزالة الأعراض عنهما فلم يَفعل، فجهّز عَسكراً وسيّره إلى أبرقوه، فحصرها وملكها، فانزعج فرامز لذلك وجهّز عسكراً كثيراً وسيّره إليهم، فسَمع المَلك أبو كاليجار بذلك فسيّر عسكراً ثانياً مَدَداً لعسكره الأوّل، والتقى العسكران فاقتتلوا وصبروا، ثُمّ انهزم عسكر أصبهان وأُسر مُقدّمهم الأمير إسحاق بن ينال، واستردّ نوّاب أبي كاليجار ما كانوا أخذوه مِن كرمان.

٣٣٢

توسّط الخَليفة في الصُلح بين جَلال الدولة وأبي كاليجار وطغرلبك:

في هذه السَنة جَرت حَربٌ بين ابن الهيثم صاحب البطيحة وبين الأجناد مِن الغزّ والديلم، فأحرق الجامدة وغيرها وخَطب الجُند للمَلك أبي كاليجار، وفيها أرسل الخَليفةُ القائم بأمر الله أقضى القُضاة أبا الحسن عليّ بن محمّد بن حبيب الماوردي الفقيه الشافعي إلى السُلطان طغرلبك قبل وفاة جَلال الدولة، وأمره أنْ يُقرّر الصُلح بين طغرلبك والمَلك جَلال الدولة وأبي كاليجار، فسار إليه وهو بجرجان، فلقيه طغرلبك على أربعة فراسخ إجلالاً لرسالة الخَليفة، وعاد الماوردي سَنة ستٍّ وثلاثين وأربعمئة وأخبر عن طاعة طغرلبك للخَليفة وتَعظيمه لأوامره ووقوفه عندها.

مُتَفَرِقات:

في هذه السَنة نَزلَ الأمير أبو كاليجار كرشاسف بن علاء الدولة مِن كنكور، وقصد همذان فمَلكها وأزاح عنها نوّاب السلطان طغرلبك، وخطب للمَلك أبي كاليجار وصار في طاعته.

وفيها أمرَ المَلك أبو كاليجار ببناء سورِ مدينة شيراز، فبُني وأُحكم بناؤه، وكان دَوره اثني عشر ألف ذراع، وعُرضه ثمانية أذرُع وله أحد عشر باباً، وفَرغ منه سَنة أربعين وأربعمئة.

وفيها نُقِل تابوت جلال الدولة مِن داره إلى مشهد باب التبن إلى تربة له هُناك.

في المُحرّم سَنة ٤٣٧ خُطب للمَلك أبي كاليجار بأصبهان وأعمالها، وعاد الأمير أبو منصور بن علاء الدولة إلى طاعته، وكان سَبب ذلك إنّّه لمّا عَصى على المَلك أبي كاليجار، وقصد كرمان - على ما سبق ذِكره - والتجأ إلى طاعة طغرلبك لم يَبلغِ ما كان يُؤمّله مِن طغرلبك، فلمّا عادَ طغرلبك إلى خُراسان خاف أبو منصور مِن المَلك أبي كاليجار، فراسله في العود إلى طاعته، فأجابه إلى ذلك واصطلحا.

صُلح المَلك أبي كاليجار والسلطان طغرلبك:

في سنَة ٤٣٩ أرسل المَلك أبو كاليجار إلى السلطان رُكن الدولة

٣٣٣

طغرلبك في الصُلح، فأجابه إليه واصطلحا، وكَتب طغرلبك إلى أخيه ينال يأمُره بالكفّ عمّا وراء ما بيده، واستقرّ الحال بينهما أنْ يتزوّج طغرلبك بابنة أبي كاليجار، ويتزوج الأمير أبو منصور بن أبي كاليجار بابنة المَلك داود أخي طغرلبك، وجرى العَقد في شهر ربيع الآخر مِن هذه السَنة.

استيلاء أبي كاليجار على البطيحة:

في هذه السَنة اشتدّ الحِصار مِن عَسكر المَلك أبي كاليجار على أبي نصر بن الهيثم صاحب البطيحة، فاشتطّ عليه أبو الغنائم ابن الوزير ذي السعادات، ثُمّ استأمن نَفرٌ مِن أصحاب أبي نَصر وملاّحيه إلى أبي الغنائم، وأخبروه بضَعف أبي نصر وعَزمه على الانتقال مِن مكانه، فحفظ الطُرق عليه، فلمّا كان خامس صَفر جرت وقعةٌ كبيرةٌ بين الفريقين واشتدَّ القِتال، فظَفر أبو الغنائم وقُتل مِن البطائحيّين جماعة كثيرة، وغَرق منهم سُفن كثيرة وتفرّقوا في الآجام، ومضى أبن الهيثم ناجياً بنفسه في زبزب، ومُلكت داره ونُهب ما فيها.

مَوتُ المَلكِ أبي كاليجار ومُلك ابنه المَلك الرحيم، وهو التاسع عَشر مِن مُلوك بني بويه والحادي عشر مِن مُلوكهم في العراق:

في سَنة ٤٤٠ هـ توفّي المَلك أبو كاليجار المرزبان بن سُلطان الدولة بن بهاء الدولة بن عَضُد الدولة بن بويه رابع جُمادى الأُولى بمدينة جناب مِن كرمان، وكان سَبب مسيره إليها إنّه كان قد عوّل في ولاية كرمان حَرباً وخراباً على بهرام بن لشكرستان الديلمي وقرّر عليه مالاً، فتراخى بهرام في تحرير الأمر وأخلد إلى المُغالطة والمُدافعة، فشرعَ حينئذ أبو كاليجار في إعمال الحيلة عليه، وأخذَ قلعة بردسير مِن يَده - وهي مَعقله الذي يَحتمي به ويُعوّل عليه - فراسلَ بعض مَن بها مِن الأجناد وأفسدهم، فعلم بهم بهرام فقتلهم، وزاد نُفوره واستشعاره وأظهر ذلك، فسار إليه المَلك أبو كاليجار في ربيع الآخر فبلغَ قصر مشاجع، فوجد في حَلقهِ خُشونة فلم يُبالِ بها، وشرب وتصيّد وأكل مِن كَبد غزالٍ مشويٍ، واشتدّت عِلّته ولَحِقه حُمّى وضَعف عن الرُكوب، ولم يُمكنه المُقام لعَدم الميرة بذلك المَنزل، فحُمِل في مَحفة على أعناق الرجال إلى مدينة جناب فتُوفّي بها.

وكان عُمره

٣٣٤

أربعين سنةٍ وشهوراً، وكان مُلكه بالعراق بعد وفاة جَلال الدولة أربع سِنين وشهرين ونيفاً وعشرين يوماً.

ولمّا توفّي نَهبَ الأتراك مِن العسكر الخزائن والسلاح والدواب، وانتقل وَلده أبو منصور فلاستون إلى مُخيّم الوزير أبي منصور، وكانت مُنفردة عن العسكر فأقام عِنده.

وأراد الأتراك نهبَ الوزير والأمير فمنعهم الديلم، وعادوا إلى شيراز فمَلكها الأمير أبو منصور، واستشعر الوزير فصعد إلى قَلعة خرمة فامتنع بها، فلمّا وصلَ خبرُ وفاته إلى بغداد وبها وَلده المَلك الرحيم أبو نصر خره فيروز أحضر الجُند واستحلفهم، وراسل الخَليفة القائم بأمرِ الله في مَعنى الخُطبة وتلقيبه بالمَلك الرحيم، وتردّدت الرُسل بينهما في ذلك إلى أنْ أُجيب إلى مُلتَمسه، سوى المَلك الرحيم، فإنّ الخَليفة امتنع مِن إجابته وقال:

لا يجوز أنْ يُلقب بأخصّ صفات الله تعالى واستقرّ مُلكه بالعراق وخوزستان والبصرة، وكان بالبصرة أخوه أبو عليّ بن أبي كاليجار، وخَلّف أبو كاليجار مِن الأولاد: المَلك الرحيم، والأمير أبا منصور فلاستون، وأبا طالب كامرو، وأبا المُظفر بهرام، وأبا علي كيخسرو، وأبا سعد خسروشاه، وثلاثة بنين أصاغر. فاستولى ابنه أبو منصور على شيراز، فسيّر إليه المَلك الرحيم أخاه أبا سعد في عَسكر فمَلكوا شيراز وخَطبوا للمَلك الرحيم وقَبضوا على الأمير أبي منصور ووالدته وكان ذلك في شوّال.

في هذه السَنة سارَ المَلك الرحيم مِن بغداد إلى خوزستان، فلقيَه مَن بها مِن الجُند وأطاعوه، وفيهم كرشاسف بن علاء الدولة الّذي كان صاحب همذان، وكنكور فإنّه كان انتقل إلى المَلك أبي كاليجار بعد أنْ استولى ينال على أعماله، ولمّا مات أبو كاليجار سارَ المَلك العزيز بن المَلك جلال الدولة إلى البصرة طَمعاً في مِلكها، فلقيه مَن بها مِن الجُند وقاتلوه وهزموه، فعاد عنها، وكان قبلَ ذلك عند قرواش ثُمّ عند ينال، ولمّا استمع باستقامة الأُمور للمَلك الرحيم انقطع أمَله، ولمّا سار المَلك الرحيم عن بغداد كَثُرَة الفِتن بها، ودامت بين أهل باب الأزج والأساكفة وهَم السنية فأحرقوا عقاراً كثيراً.

مَسيرُ المَلك الرحيم إلى شيراز وعَوده عنها:

في المُحرّم سنة ٤٤١ سارَ المَلك الرحيم مِن الأهواز إلى بلاد فارس فوصلها، وخرج عسكر شيراز إلى خدمته ونَزل بالقُرب منها ليدخل البلد.

٣٣٥

ثُمّ إنّ الأتراك الشيرازيّين والبغداديّين اختلفوا، وجرى بينهم مُناوشة استظهر فيها البغداديّون وعادوا إلى العراق، فاضطرّ المَلك الرحيم إلى المَسير معهم؛ لأنّه لم يكن يَثق إلى الأتراك الشيرازيّة، وكان دَيلم بلاد فارس قد مالوا إلى أخيه فولاستون، وهو بقلعة اصطخر فهو أيضاً مُنحرف عنهم، فاضطرّ إلى صُحبة البغداديّين، فعاد في رَبيع الأوّل مِن هذه السَنة إلى الأهواز، وأقام بها واستخلَف بأرجان أخَويه أبا سعد وأبا طالب.

ووقعَ الخُلف بفارس، فإنّ الأمير أبا منصور فلاوستون كان قد خَلص وصار بقلعة اصطخر، واجتمع معه جماعة مِن أعيان العسكر الفارسي، فلمّا عادَ المَلك الرحيم إلى الأهواز انبسط في البلاد، وقَصَدهُ كثيرٌ مِن العساكر واستولى على بلاد فارس، ثُمّ سار إلى أرجان عازماً على قصدِ الأهواز وأخذها.

انهزامُ المَلك الرحيم مِن عَسكر فارس:

في هذه السَنة عاد المَلك الرحيم مِن الأهواز إلى رامهرمز في ذي القعدة، فلمّا وصل إلى وادي الملح لقيهُ عسكر فارس واقتتلوا قِتالاً شديداً، فغَدر بالمَلك الرحيم بعضُ عسكره، وانهزم هو وجميع العَسكر، ووصل إلى بصنى ومعه أخواه أبو سعد وأبو طالب، وسار منها إلى واسط، وسار عسكر فارس إلى الأهواز فمَلكوها وخيّموا بظاهرها.

عودُ عساكر فارس مِن الأهواز وعود الملك الرحيم إليها:

في المُحرّم سَنة ٤٤٢ عادتْ عساكر فارس - الّتي مع الأمير أبي مَنصور صاحبها - عن الأهواز إلى فارس، وسبب هذا العود أنّ الأجناد اختلفوا وشَغبوا واستطالوا، وعادَ بعضُهم إلى فارس بغيرِ أمرِ صاحبهم، وأقام بعضُهم معه، وسار بعضهم إلى المَلك الرحيم وهو بالأهواز يطلبونه ليعودَ إليهم، فعادَ فيمَن عنده مِن العساكر، وأرسل إلى بغداد يأمر العساكر التي فيها بالحضور عنده ليسير بهم إلى فارس، فلمّا وصلَ إلى الأهواز لقيهُ العساكر مُقرّين بالطاعة، وأخبروه بطاعة عساكر فارس وأنّهم ينتظرون قُدومه، فدخل الأهواز في شَهر ربيع الآخر فتوقّف بالأهواز ينتظر عساكر بغداد، ثُمّ سار عنها إلى عسكر مكرم فملكها وأقام بها.

٣٣٦

مِلك المَلك الرحيم رامهرمز:

في المُحرّم سَنة ٤٤٣ اجتمعَ جَمعٌ كثيرٌ مِن العَرب والأكراد، وقصدوا سَرق مِن خوزستان ونهبوها ونهبوا دورقَ مُقدّمِهم مطارد بن منصور، ومذكور بن نزار، فأرسل إليهم المَلك الرحيم جيشاً، ولقوهم بينَ سَرق ودورق فاقتَتلوا، فقُتل مطارد وأُسر ولده وكُثر القتل فيهم، واستنقَذوا ما نهبوه، ونجا الباقون على أقبح صورة مِن الجُراح والنَهب، فلمّا تمّ هذا الفَتح للمَلك الرحيم انتقل مِن عسكر مكرم مُتقدّماً إلى قنطرة أدبق، ومعه دبيس بن مزيد والبساسيري وغيرهما.

ثُمّ إنّ الأمير أبا مَنصور صاحب فارس، وهزارسب بن بنكير ومنصور بن الحسين الأسدي ومَن معهما مِن الدَيلم والأتراك ساروا مِن أرجان يطلبون تستر فسبقهم المَلك الرحيم إليها، وحال بينهم وبينها، والتَقَت الطلائع فكان الظَفر لعسكر الرحيم.

ثُمّ إنّ الإرجاف وقع في عسكر هزارسب بوفاة الأمير أبي منصور ابن المَلك أبي كاليجار بمدينة شيراز، فسقط في أيديهم وعادوا، وقصدَ كثيرٌ منهم المَلك الرحيم فصاروا معه، فسيّر قطعة مِن الجيش إلى رامهرمز وبها أصحاب هزارسب، وقد أفسدوا في تلك الأعمال، فلمّا وصلَ إليها عَسكر الرحيم خرجَ أولئك إلى قِتالهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً أُكثر فيه القتل والجراح، ثُمّ انهزم أصحاب هزارسب فدخلوا البَلد وحُصروا فيه، ثُمّ مُلك البَلد عَنوة، ونُهب وأُسر جماعةٌ مِن العساكر التي فيه، وهَرب كثير منهم إلى هزارسب وهو بأيذج، ومَلك المَلك الرحيم البلد في ربيع الأوّل مِن هذه السَنة.

مُلك المَلك الرحيم اصطخر وشيراز:

في هذه السَنة سيّر المَلك الرحيم أخاه الأمير أبا سعد في جيش إلى بلاد فارس، وكان سَبب ذلك أنّ المُقيم في قلعة اصطخر - وهو أبو نصر بن خسرو - كان له أخَوَان قَبَض عليهما هزارسب بن بنكير بأمر الأمير أبي منصور، فكَتب إلى المَلك الرحيم يَبذل له الطاعة والمُساعدة، ويَطلب أنْ يُسيِّر إليه أخاه ليُملّكه بلاد فارس، فسيّر إليه أخاه أبا سعد في جيش، فوصل إلى دولتا باذ فأتاه كَثير مِن عساكر فارس - الدَيلم والتُرك والعَرب والأكراد - وسار منها إلى قلعة اصطخر، فنزل إليه صاحبها أبو نصر فلقيه وأصعده إلى القلعة، وحَمل له وللعساكر التي معه الإقامات والخِلَع وغيرها،

٣٣٧

ثُمّ ساروا منها إلى قلعة بهندر فحصرها، وأتاه كُتب بعض مُستحفظي البلاد الفارسيّة بالطاعة، منها مُستحفظ داربجرد وغيرها، ثُمّ سار إلى شيراز فمَلكها في رمضان، فلمّا سَمع أخوه الأمير أبو منصور وهزارسب ومنصور بن الحسين الأسدي ذلك ساروا في عسكرهم إلى المَلك الرحيم فهزموه، وفارق الأهواز إلى واسط، ثُمّ عطفوا مِن الأهواز إلى شيراز؛ لإجلاء الأمير أبي سعد عنها، فلمّا قاربوها لقيَهم أبو سعد وقاتلهم فهزمهم، فالتجؤوا إلى جبل قلعة بهندر، وتكرّرت الحُروب بين الطائفتين إلى مُنتصَف شوّال، فتقدّمت طائفة مِن عسكر أبي سعد فاقتتلوا عامّة النهار ثُمّ عادوا، فلمّا كان الغَد التقى العسكران جميعاً واقتتلوا فانهزم عسكر الأمير أبي منصور، وظَفر أبو سعد وقَتل منهم خَلقاً كثيراً واستأمن إليه كثيرٌ منهم، وصعد أبو منصور إلى قلعة بهندر واحتمى بها، وأقام إلى أنْ عادَ إلى مُلكه على ما سَيُذكَر بعد إنْ شاء الله.

ولمّا فارقَ الأمير منصور الأهواز أُعيدت الخُطبة للمَلك الرحيم، وأرسل مَن بها مِن الجُند يستدعونه إليهم.

انهزام المَلك الرحيم مِن الأهواز:

لمّا انصرف الأمير أبو منصورَ وهزارسب ومَن معهما مضوا إلى أيذج، وأقاموا فيها وخافوا المَلك الرحيم واستَضعَفوا نفوسهم عن مُقاومته، فاتّفق رأيهم على أنْ راسلوا السلطان طغرلبك، وبذلوا له الطاعة وطلبوا منه المُساعدة، فأرسل إليهم عسكراً كثيراً، وكان قد مَلك أصبهان وفرغَ باله منها، وعرفَ المَلك الرحيم ذلك، وقد فارقه كثيرٌ مِن عسكره منهم: البساسيري ونور الدولة دبيس بن مزيد والعَرب والأكراد، وبقي في الديلم الأهوازيّة وطائفة قليلة مِن الأتراك البغداديّين كانوا وصلوا إليه أخيراً، فقرّر رأيه على أنْ عاد مِن عسكر مكرم إلى الأهواز؛ لأنّها أحصن، وينتظر بالمُقام فيها وصول العساكر، ورأى أنْ يُرسل أخاه الأمير أبا سعد إلى فارس حيث طلب إلى اصطخر، وسَيّر معه جمعاً صالحاً مِن العساكر؛ ظنّاً منه أنّ أخاه إذا وصل إلى فارس انزعج الأمير أبو منصور وهزارسب ومَن معهما، واشتغلوا بتلك النواحي عنه، فازداد قَلقاً وضعفاً، فلم يلتفت أُولئك إلى الأمير أبي سعد، بل ساروا مُجدّين إلى الأهواز فوصلوها أواخر ربيع الآخر، ووقَعت الحَرب بين الفريقين يومين مُتتابعين كَثُر فيهما القتال واشتدّ، فانهزم المَلك الرحيم، وسار في نَفر قليل إلى واسط ولقيَ في طريقه مَشقّة، وسَلُم واستقرَّ بواسط فيمَن

٣٣٨

لَحِق به مِن المُنهزمين، ونُهبت الأهواز وأُحرق فيها عدّة محال، وفُقِد في الوقعة الوزير كمال المُلك أبو المعالي بن عبد الرحيم وزير الملك الرحيم، فلم يُعرَف له خَبر.

استيلاء المَلك الرحيم على البصرة:

في شعبان سَنة ٤٤٤ سَيّر المَلك الرحيم جيشاً مع الوزير والبساسيري إلى البصرة، وبها أخوه أبو عليّ بن أبي كاليجار، فحصروه بها فأخرج عسكره في السُفن لقتالهم فاقتتلوا عدّة أيّام، ثُمّ انهزم البصريّون في الماء إلى البصرة، واستولى عسكر الرحيم على دجلة والأنهُر جميعاً، وسارت العساكر على البرّ مِن المنزلة بمطارا إلى البصرة، فلمّا قاربوها لقيَهم رُسل مُضر وربيعة يطلبون الأمان، فأجابوهم إلى ذلك، وكذلك بذلوا الأمان لسائر أهلها، ودخلها المَلك الرحيم فسُرّ به أهلها وبَذل لهم الإحسان.

فلمّا دخل البصرة وَرَدت إليه رُسل الديلم بخوزستان يبذلون الطاعة، ويذكرون أنّهم ما زالوا عليها فشكرهم على ذلك، وأقام بالبصرة ليُصلح أمرها.

وأمّا أخوه أبو عليٍّ صاحب البصرة، فإنّه مضى إلى شطّ عثمان، فتحصّن به وحَفرَ الخندق، فمضى المَلك الرحيم إليه وقاتلهم فمَلك الموضع، ومضى أبو عليٍّ ووالدته إلى عبادان، وركبوا البَحر إلى مهروبان، وخرجوا مِن البحر واكتَروُا دَواباً، وساروا إلى أرجان عازمين على قصد السُلطان طغرلبك، وأخرج المَلك الرحيم كلّ مَن بالبصرة مِن الديلم أجناد أخيه وأقام غيرهم.

ثُمّ إنّ الأمير أبا عليٍّ وصل إلى السلطان طغرلبك وهو بأصبهان، فأكرمه وأحسن إليه وحَمل إليه مالاً وزوّجه امرأة مِن أهله، وأقطعه إقطاعاً مِن أعمال جرباذقان، وسَلّم إليه قطعتين مِن تلك الأعمال أيضاً، وسَلّم المَلك الرحيم البصرة إلى البساسيري ومضى إلى الأهواز، وتَردّدت الرُسل بينه وبين مَنصور بن الحسين وهزارسب حتى اصطلحوا، وصارت أرجان وتستر للمَلك الرحيم.

استيلاءُ المَلك الرحيم على أرجان ونواحيها:

في جمادى الأُولى سَنة ٤٤٥ هـ استولى المَلك الرحيم على مدينة أرجان، وأطاعه مَن كان بها مِن الجُند، وكان المُقدّم عليهم فولاذ بن خسرو

٣٣٩

الديلمي، وكان قد تَغلّب على ما جاورها مِن البلاد إنسان مُتغلّب يُسمّى خُشنام، فأنفذ إليه فولاذ جيشاً فأوقعوا به وأجلَوه عن تلك النواحي، واستضافوا إلى طاعة الرحيم، وخاف هزارسب بن بنكير مِن ذلك؛ لأنّه كان مُبايناً للمَلك الرحيم - على ما مرَّ ذكره - فأرسل يتضرّع ويتقرّب ويسأل التَقدّم إلى فولاذ بإحسان مُجاورته، فأُجيب إلى ذلك، ثُمّ هَرب هزارسب بن بنكير بن عبّاس صاحب ايذج - بعد استيلاء المَلك الرحيم على البصرة وأرجان - إلى السُلطان طغرلبك، وكان قد وصلَ إليه الأمير أبو عليّ ابن المَلك أبي كاليجار فأحسن ضيافتهما، ووعدهما النُصرة والمَعونة.

مُتَفرّقات:

في هذه السَنة خالفَ سعدي بن أبي الشوك على السُلطان طغرلبك لأسباب، وبذل الطاعة للمَلك الرحيم.

وفيها في شوّال عادَ أبو منصور فولاستون بن الملك أبي كاليجار إلى شيراز مُستولياً عليها، وفارقها أخوه الأمير أبو سعد، وكان سبَب ذلك أنّ الأمير أبا سعد كان قد تَقدّم معه في دولته إنسان يُعرفُ بعميد الدين أبي نصر ابن الظهير، فتَحكّم معه وأطرح الأجناد واستخفَّ بهم، وأوحش أبا نصر ابن خسرو صاحب قلعة اصطخر الّذي كان قد استدعى الأمير أبا سعد ومَلّكه، فلمّا فَعل ذلك اجتمعوا على مُخالفته وتألبوا عليه، وأحضَر أبو نصر ابن خسرو الأمير أبا منصور بن أبي كاليجار إليه، وسعى في اجتماع الكَلمة عليه، فأجابه كثير مِن الأجناد لكَراهتهم لعميد الدين، فقبضوا عليه ونادوا بشعار الأمير أبي منصور، وأظهروا طاعته وأخرجوا الأمير أبا سَعد عنهم، فعاد إلى الأهواز في نَفرٍ يسير، ودخل الأمير أبو منصور إلى شيراز مالكاً لها مُستولياً عليها، وخَطب فيها لطغرلبك وللمَلك الرحيم ولنفسه بعدهما.

استيلاءُ المَلك الرحيم على شيراز وقطعُ خُطبة طغرلبك فيها:

في المُحرّم سَنة ٤٤٧هـ سار قائدٌ كبيرٌ مِن الديلم يُسمّى فولاذ - وهو صاحب قلعة اصطخر - إلى شيراز فدخلها، وأخرج عنها الأمير أبا منصور فولاستون بن المَلك أبي كاليجار، فقصد فيروز آباذ وأقام بها، وقطع فولاذ خُطبة السُلطان طغرلبك في شيراز، وخَطب للمَلك الرحيم ولأخيه أبي سعد

٣٤٠