تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 96049
تحميل: 7609


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96049 / تحميل: 7609
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

ويقول صاحب تاريخ إيران:

وتقدّم السُلطان سليمان التركي على بلاد إيران ليَملُك آذربيجان والعراق وبغداد وغيرها مِن الأراضي الغربيّة التي كانت لإيران، وعاد في آخر الأمر إلى الآستانة ظافراً منصوراً، مِن بعدما فتك بأهالي البلاد فتكاً ذريعاً يُحاكي تعدّي تيمور وجنكيز خان، لمّا عَلِم طهماسب برجوعه جَمع جيشاً كبيراً وتقدّم به على بلاد الأتراك ومَلك أرمينية وما يُجاورها، ولكنّه اضطرّ أيضاً إلى الرُجوع لمّا بَلغه أنّ القلاقل كَثرت في بلاده؛ بسبب قيام قبائل ازبك مِن التَتر على حكومته في الشرق بإيعاز مِن السُلطان سليمان العثماني، وعصيان أخيه القاص ميرزا، وهو الذي التجأ إلى السُلطان سليمان التركي، واتّفق معه على اقتسام إيران، وكان لهذا الأمير أعوان كثيرون في إيران، فخشي طهماسب العاقبة سيّما بعد أنْ فتح جيش الأتراك تبريز، وتقدّم على السُلطانية، ولكن التقادير سلّمت إيران بخصام القاص والسُلطان العثماني وفرار الأوّل ورجوع الثاني مِن بعد أنْ فَقَدَ معونة أعوان الأمير الإيراني، وفر القاص إلى ديار بكر، فقَبضَ عليه حاكمها وسلّمه إلى أخيه، فأمر بإعدامه، وقضى طهماسب كلّ أيّامه في مُحاربة الأتراك مِن ناحية والتتر مِن ناحية، وجعل مدينة قزوين عاصمة مُلكه.

ومات في الرابعة والستّين مِن عُمره بعد أنْ حَكم نحو ٥٣ - وقيل ٥٤ - سَنة في مُنتصف صَفر سَنة ٩٨٤هـ.

أمّا حادث خروج أخي طهماسب عليه، فقد ذُكر في تاريخ الدولة العثمانيّة كما يلي:

... وفي سنة ١٥٤٧م قَبْل إتمام الصُلح مع النمسا أتى إلى الباب العالي أخٌ لشاه العَجم يُدعى (القاضي ميرزا)، وطلب مِن السُلطان إنجاده ضدّ أخيه الذي اهتضم له حُقوقاً، فانتهز السُلطان هذه الفُرصة لتجديد الإغارة على بلاد العَجم، وانتظر ريثما يتمّ الصُلح بأُوروبا ويهدأ باله مِن جِهتها.

وفي أوائل سَنة ١٥٤٨م سار بجيوشه قاصداً مدينة تبريز، فدخلها ثالث دفعة، وفتح في طريقه الجُزء التابع للعَجم مِن بلاد الكُرد وقلعة (وان) الشهيرة، وعاد يحف به النَصر والظَفر إلى القسطنطينية في دسمبر سَنة ١٥٤٩م.

أمّا القاصي مرزا فأخذه أسيراً في إحدى الوقائع الحربيّة بعد أنْ سار مع جيش مِن الأكراد إلى قُرب مدينة أصفهان.

وفي سنة ١٥٥٣م بينا كان رستم باشا يقود جيشاً لمُحاربة العَجم،

٣٦١

وكان مصطفى ابن السُلطان سليمان ضِمن قوّاد الجيش، كَتب رستم باشا إلى أبيه سليمان بمؤامرة مع زوجة السُلطان في قَتله؛ لأنّه الأكبر، ولأنّه مِن زوج غيرها، لتنحصر ولاية العَهد بولدها سليم، كَتب رستم باشا للسُلطان بأنّ ولده يُحرّض الانكشاريّة على عَزله وتنصيبه، كما فَعل السُلطان سليم الأوّل مع أبيه السُلطان بايزيد الثاني، فلمّا وصلَ هذا الخَبر إلى السُلطان - وكانت والدة سَليم قد تمكّنت مِن تغيير أفكاره نحوه - قام في الحال قاصداً بلاد العَجم مُتظاهراً بأنّه يُريد أنْ يتولّى قِيادة الجيش، ولمّا وصلَ إلى المعسكر استدعى وَلده المسكين إلى سرادقه في يوم ١٢ شوّال سَنة ٩٦٠هـ الموافق ٢١ سبتمبر، وبمجرّد وصوله إلى الداخل خَنَقه بعضُ الحجّاب المنوط إليهم تَنفيذ مِثل هذه الأوامر، فقُتل شهيد الدسائس ظُلماً وعُدواناً، وبعد قتل هذا البريء توجّهت الجيوش إلى بلاد العَجم، ولم يَحصل في هذه المرّة وقائع مهمّة، بل بعد أنْ غَزت الجيوش العثمانيّة بلاد شروان بدون فائدة تُذكر، مالَ الفريقان للصُلح، فتمّ بينهما في ٨ رجب سَنة ٩٦٢هـ الموافق ٢٩ مايو سَنة ١٥٥٥م، على أنْ يُباح للأعاجم الحجّ إلى بيت الله الحَرام، ويُزاولوا مذهبهم بدون تعرّض.

كان مِن مُعاصري هذا الشاه المُحقّق الكركي والشيخ حُسين بن عبد الصمد والد العلاّمة البهائي مِن العُلماء العامليّين.

وفي تاريخ إيران لمكاريوس:... وكان (طهماسب) فَطِناً حكيماً شديد الميل إلى الإسلام على الطريقة الشيعيّة، وهو أوّل مَن زاره سُفراء الافرنج مِن مُلوك إيران في أيّام الدول الإسلاميّة، جاءه انكليزي اسمه جنكنس مِن قِبَل المَلكة اليصابات مَلكة انكلترا يومئذٍ، فسأله حالَ وقوع نَظره عليه - بعد أنْ ظلّ يستأذن بالمُثول لديه ستّة أشهر -: هل أنتَ مُسلمٌ أو كافر؟

وقال: إنّي لستُ مُسلماً ولا كافراً، بل أنا نصراني، قال: ليس لي مِن حاجة إلى مُحاربة الذين على غير ديني، فرُحْ في سَبيلك. وخرج الرَجل وقد تبعه إيراني يرشّ الرمل مِن ورائه في القَصر؛ حتّى يَعرف محلّ وقوع أقدامه ويُنظّف الدار بعد خروجه.

وإنّا لنَستبعد هذه الرواية.

الأوّل: لمُخالفتها لسيرة المُلوك المسلمين، بل لسيرة نبيّ المسلمين، فأنّه كان يَفدُ عليه وُفود اليهود والنصارى - ومنهم وفود نصارى نجران - فكان يَحتفي بهم ويُكرم وفادتهم، وعلى هذه السُنّة

٣٦٢

درج خُلفاء المسلمين وسلاطينهم، فكيف يَصدر مِثل هذه الغلظة مِن سُلطان وُصف بالفطنة والحِكمة وليس مِثل هذا الردّ مِن سُنّة الإسلام، ولا مِن مذهب الشيعة الجعفريّة، وهو على صِلة تامّة، إذ ذاك بأساطين عُلمائه كالمُحقّق الكركي وأمثاله ممَّن لم يشذّوا عن سُنّة نبيّهم وطريقة أئمّتهم الذين كانوا يَجتمعون باليهود والنصارى، ورُويَ لهم بعض المُناظرات مع عُلماء الفَريقين؟!

والثاني: لم نَفقه لرشّ الرَمل في القَصر لمعرفة مواقع أقدام ذلك النصراني الإنكليزي ولتنظيفه بعد خُروجه معنى، فإنّ التنظيف والتطهير إنّما يكونان لإزالة القذر، فأيّة قذارة حلّت في القَصر مِن دخول الانكليزي فيه؟ وهذه الرواية أشبه بالأُسطورة منها بالأمر الواقع، ولعلّ الدافع إليها حذر الشاه مِن هذا الوافد الذي قد يكون لوفوده ما يبعث في نفس الشاه الريبة، فصدّه وأقصاه خوفاً مِن أنْ يكون عيناً لأعدائه، وكمْ للأجنبي إذ لم يَظفر بأُمنيةٍ في صدره مِن سُلطانٍ مُسلم مِن مثل هذه الفرية.

على أنّ هذه الرواية لم نرَها في غير هذا التاريخ.

٣ - الشاه حيدر ميرزا:

كان لطهماسب أولادٌ كثيرون، أبعد أكثرهم عنه مُدّة حياته، أو عيّنهم في الولايات القاصية، ما خلا حيدر ميرزا المُترجَم له وهو ابنه الثالث، أبقاه عنده وأظهر له الميل الكثير، ولمّا توفّي استولى هذا على خزائن أبيه وعرشه، ولكنّه لم يُحسن التدبير فضاع منه المُلك بعد حين بدسيسة امرأة ظنّ فيها الأمانة فعملت على قَتله، وهي أُخت أمير قبيلة جركس، وكان أخوها ميّالاً إلى إسماعيل ميرزا رابع أبناء طهماسب.

هذا ما جاء في تاريخ إيران لمكاريوس.

وجاء في تاريخ الدولة العثمانيّة لمحمّد فريد بك:

لمّا توفّي الشاه طهماسب سَنة ٩٨٤هـ الموافقة سنة ١٥٧٦م، تولّى بعده ابنه حيدر، وقُتل بعد بِضع ساعات قبل دفن أبيه ودُفنا معاً، ثُمّ تولّى بعده ابنه.

٤ - الشاه إسماعيل:

هو رابع أبناء الشاه طهماسب، استولى على المُلك مِن بعد أخيه، ولم تَطل أيّام حُمكه - التي قضّاها في اتّباع الشهوات - حتّى قام أهل خراسان

٣٦٣

ونادوا بمحمّد ميرزا سلطاناً عليهم، وكان هو أكبر أولاد طهماسب، وبه ضَعف في النظر أوجب إهماله وتعيينه والياً على خُراسان، وعدّ ذلك بمثابة النفي له، فأرسل إسماعيل أمراً بقتل محمّد ميرزا وأولاده، وفي جُملتهم عبّاس ميرزا - وهو أصغر أولاد محمّد، وكان بالاسم حاكم خراسان - فنجوا بطريقةٍ غريبةٍ، وذلك أنّ الجلاّد لم يشأ قَتلهم في شهر رمضان، وقبل أنْ ينصرم الشهر جاءت الأخبار بوفاة الشاه إسماعيل، فنجا محمّد ميرزا ونجا معه الطفل عبّاس الذي صار بعد حين أشهَر مُلوك هذه الدولة، ولم يحصل في أيام الشاه إسماعيل وسابقه أخيه حيدر ميرزا مِن الأحداث ما يُدوّن؛ لأنّ مُدّتهما كانت قصيرة، فقد توفّي الشاه إسماعيل في سنة ٩٨٥هـ.

وفي تاريخ الدولة العثمانيّة: ثُمّ تولّى (بعد حيدر ميرزا) إسماعيل بن طهماسب، وتوفّي مسموماً سَنة ٩٨٥هـ وأخلفه أخوه.

٥ - الشاه محمّد خدابنده:

وكانت البلاد مُنقسمة عليه، فأُرسلت الجيوش السُلطانيّة - في عهد السُلطان مُراد الثالث العثماني - لمُحاربته وفتح ما تَيسّر مِن بلاده، وجُعل مصطفى باشا قائداً لها، فسار بجيوشه قاصداً إقليم الكَرج مِن بلاد الجركس في أواخر سَنة ١٥٧٧م، وكانت تابعة لمَملكة العَجم، وافتتحها واحتلّ مدينة تفليس عاصمة الكَرج بعد أنْ انتصر على جنود الشاه، وتغلّب على قائدهم المُسمّى دقماق بالقُرب مِن حصن (جلدر) في ١٨ أغسطس سَنة ١٥٧٧م، وعيّن أُمراء الكرج حكاماً (سناجق) مِن قِبَل الدولة، وبعد أنْ قَهر ثانياً جيوش العَجم في ٨ سبتمبر مِن السَنة المذكورة، عاد مصطفى باشا وجيوشه إلى مدينة طرابزون لتمضية فصل الشتاء الذي لا يُمكن الاستمرار في القتال فيه؛ لشدّة البَرد وتراكُم الثلوج في هذه الأصقاع.

وقُسمت بلاد الكرج إلى أربعة أقسام، وهي: شروان وتفليس، وتكوّن القسمان الباقيان مِن بلاد الكرج الأصليّة، وحُصّنت مدينة قارص بكيفيّة جعلتها امنع مَعاقل الدولة على الحدود، وما فتئت كذلك حتّى احتلّها الروس سَنة ١٨٧٧م.

وفي أواسط الشتاء أتت أربعة جُيوش جرّارة تحتَ إمرة الأمير حمزة مرزا، وهاجمت بلاد شروان مِن كلّ فجّ، حتّى اضطرّ حاكمها عثمان باشا إلى إخلاء مدينة شروان، والاحتماء بمدينة (دربند)، وكذلك حاصر الأعجام

٣٦٤

مدينة تفليس نفسها، ولم يقووا على استرجاعها لثبات حاميتها العثمانيّة، حتّى أتى إليها المَدد ورُفع عنها الحصار عُنوة سَنة ١٥٧٩م، وفي غَضون ذلك قُتل الصدر الأعظم محمّد باشا صقيلي الذي حافظ على نُفوذ الدولة بعد موتِ السُلطان سليمان، وتمكّن بسياسته ودهائه مِن إبرام الصُلح مع دول أوربا المعادية لها.

أمّا عثمان باشا حاكم إقليم شروان، فسار إلى فَتح بلاد (طاغتانه) على شاطئ بحر الخزر، وبعد أنْ أتمّ فتحها عَقِب موقعة عظيمة انتصر فيها على الأعجام نصراً مُبيناً في ٩ مايو سَنة ١٥٨٣م، سار بطريق البرّ إلى بلاد القرم مُخترقاً جبال (قاف) أو القوقاز وسهول روسيا الجنوبيّة لعَزل خانها؛ عقاباً له على امتناعه عن إرسال المَدد إلى الدولة العليّة لمُحاربة العَجم، فوصل إليها بعد أنْ عانى مِن المشقّات أقصاها، ومِن الصعوبات مُنتهاها لوعورة الطريق ومُناوشة الروس له إلى مدينة (كافا) عاصمة الخان محمّد كراي، فجَمع الخان جيشاً عظيماً مِن الفُرسان القوزاق المشهود لهم بالبسالة والإقدام، وحاصر عثمان باشا وجيوشه التي أضناها التَعب وأنهكها السير، ولو لا عصيان أخيه إسلام كراي عليه لوعده بالإمارة مِن قبل الدولة العليّة، وتفرّق جيوشه مِن حوله، وقَتله غدراً بدسيسة أخيه لانتصر على العثمانيّين، لكنْ خانه أخوه ودسّ إليه مَن قَتله طَمعاً في الإمارة سَنة ١٥٨٤م.

وبعد ذلك رجِع عثمان باشا إلى الآستانة وقوبِل بكلّ تكريم وإعظام، وبعد أيّام قلائل عُيّن صَدراً أعظم بَدل (سياوس باشا) المجري وسَر عسكر لجيش الكرج، فسار في جيش عَرمرم مؤلّف مِن مئتين وستّين ألف مُقاتل قاصداً بلاد أذربيجان، فاخترقها بدون كثير مُقاومة، ثُمّ قصد مدينة تبريز عاصمة العَجم فدخلها بعدَ أنْ انتصر على حمزة مرزا وترك فيها حامي قوية، وبعد أنْ استمرّت الحَرب سجالاً بين الدولتين نحو ستّ سنوات توفّي في خلالها الصَدر الأعظم عثمان باشا سَر عسكر الجيش تَمّ الصُلح وأُمضي بينهما في ٢١ مارس سَنة ١٥٨٥م، على أنْ تتنازل العَجم للدولة العثمانيّة عن إقليم الكرج وشروان ولورّستان وجُزء مِن أذربيجان ومدينة تبريز(١) .

وفي تاريخ إيران لمكاريوس: وكان السُلطان محمّد ضعيف الرأي،

____________________

(١) تُراجع ص٤٢، ٣م مِن خلاصة الأثر وما بعدها.

٣٦٥

قليل الإدراك يَعلم ذلك مِن نفسه، ففوّض الأمر إلى وزيرٍ عاقلٍ اسمُه سُليمان، ورأى منه كلّ ما يُحمد في أوّل الأمر، ولكنّ هذا الوزير شدّد الوطأة على بَعض القبائل التي ثارت على السُلطان، ودخل رؤساؤها على ميرزا محمّد، فقالوا له إنّهم يُريدون تَسليم الوزير أو يُخربون السَلطنة، فخاف السُلطان شرّهم وسلّمهم وزيره فَقتلوه، ثُمّ شقّ أهل خُراسان الطاعة ونادوا بالأمير عبّاس سلطاناً عليهم.

٦ - الشاه عبّاس ابن الشاه محمّد خدابنده:

قال صاحب كتاب الكُنى والألقاب:

إنّ الشاه محمّداً المكفوف قام بأمر السلطنة إلى سَنة ٩٩٦هـ ثُمّ فَوّض الأمر إلى ابنه الشاه عبّاس الأوّل.

وفي تاريخ الدولة العثمانيّة:

لُقّب هذه الشاه بالكبير وأخلف محمّد ميرزا في المُلك سَنة ١٥٨٥م، ونودي به مَلكاً في خُراسان، ثُمّ سار إلى مدينة مشهد التي كانت قد احتلّتها قبائل الأُزبك فاستخلصها منهم، وانتصر عليهم بقُرب مدينة هرات سَنة ١٥٩٧م، ثُمّ حارب التُرك واستخلص منهم الولايات التي سَبق أخذها مِن مملكة العَجم، واحتلّ مدائن بغداد والموصل وديار بكر، ثُمّ اتّحد مع شركة الهند الانكليزيّة وطَرد البرتغاليّين مِن ثغر هرمز.

وتوفّي سَنة ١٠٣٧هـ الموافقة سنة ١٦٢٨م، بعد أنْ حَكم البلاد بغاية الحِكمة والسداد مُدّة ثلاثة وأربعين سَنة.

وفي خلاصة الأثر:

وتغلّبت سلاطين بلادنا العثامنة على مُلوكهم - الصفويّين - مِن عهد السُلطان سليم الأوّل، فإنّه قَصد شاه إسماعيل وأخذ منه بلاداً وقَهره، وكذلك فَعل السُلطان سليم الثاني، فإنّه جهّز عليهم جيشاً فأخذوا منهم تبريز وشروان وكيلان وروان وكثيراً مِن القصبات والولايات، واستمرّوا مَغلوبين إلى أنْ ظهر شاه عبّاس فولي السَلطة بخُراسان في سَنة خمسٍ وتسعين وتسعمئة مكان والده في حياته، وكان جُلوسه بقزوين لكون والده كان أعمى، وقد استولت في أيّامه أُمراء قزلباش على الدولة واتّخذوها حصصاً، فسفك فيهم واستقلّ بالأمر، وكان في ابتداء أمره يُداري طرف آل عُثمان، ويُرسل ابن أخيه حيدراً بالهدايا والتُحف، إلى أنْ مات مَلك الأوزبك أوزبك خان وولده عبد المؤمن في سَنة عشر بعد الألف، وكان ملوكٌ أخذوا مِن خُراسان بلاداً فاستخلصها واحدة بعد

٣٦٦

واحدة، ثُمّ قصد جدّ آل عثمان؛ لِما كان وقع مِن الاختلال بِسَبب الجلاليّة الّذين ظهروا في زمن السُلطان أحمد، ونقضَ العهد الذي بينه وبينهم، وحاصر مَملكة تبريز وروان واستولى عليهما، ثُمّ أخذ قندهار مِن بلاد الهِند، واستولى على خوارزم وكيلان وسجستان ثلاثةً وأربعين سَنة، وكان سُلطاناً صاحب جأشٍ وقوةٍ ومَكر غَداراً مُحتالاً، فاسترّد بعض البلاد وتقوّى في العسكر والعِدّة فأخذ بغداد مِن آل عثمان، وكان أخذه لها في ثالث شهر ربيع الثاني سَنة اثنتين وثلاثين وألف، واستمرّت في يده إلى سَنة ثمانٍ وأربعين، فأخذها مِن يده السُلطان مُراد، ومِن ذلك العَهد لزِم شاه عبّاس حدّهم الأصلي الذي كان في زَمن الشاه إسماعيل، ولم يتجاوزه لا هو ولا أبناؤه، وطال عُمره في السَلطنة، وبلغ مِن العِزّ والحُرمة نهاية أمانيه، وخَدمه أجلاّء العُلماء في مناصبه، منهم الشيخ الأُستاذ محمّد بهاء الدين بن الحسين الحارثي الهمداني الشامي، فإنّه كان مُفتيه ومُشيّد أركان دولته، وباسمه ألّفَ كثيراً مِن كُتبه ورسائله ونوّه به.

وللشاه عبّاس في سياسة الرعيّة والرعاية لجانبهم والذبّ عنهم وإكرام التُجّار الواردين إلى بلاده مِن أهل السُنّة أحوال مستفيضة شائعة.

وبالجُملة فلم يَجئ مِن سلسلتهم مِثله، وكانت وفاته في جُمادى الأُولى سَنة ثمانٍ وثلاثين وألف بدار مُلكه مدينة أصفهان، ودُفن بأردبيل في تُربة الشيخ صفيّ الدين، وكان عُمره ينيف عن السبعين.

وإليك ما ذَكره المحبّي في خلاصته مِن مُحاربة السُلطان مُراد العثماني - الذي لقّبه بفاتح بغداد - للشاه عبّاس بنصّه:

وتوجّه هو - مُراد - بنفسه في سَنة أربعٍ وأربعين لغزو العَجم، وكان سُلطانها الشاه عبّاس (خذله الله) قد تَمكّنت في السُلطنة قواعده، وخلا له الوقت مُدّة، وأخذ كثيراً مِن البُلدان التي كانت مُضافة لبلاد آل عثمان، فجرّد السُلطان مُراد عزمه لمُحاربته وإذلاله، وتوجّه إلى بلاده بعساكر يضيق عنها الفضاء، وحاصر مِن بلدانه روان وافتتحها، ثُمّ توجّه في سَنة ثمان وأربعين لفتح بغداد ونازلها بجنده، وكان الشاه عبّاس حصّنها بالعدد والعسكر، فأمَر السُلطان بحفر لغمٍ عظيمٍ، ووَضَع فيه البارود، وأطلقت فيه النار فهدّم جانباً عظيماً مِن جدار السور، بحيث قيل: إنّه لم يرم لغم مثله في مُحاصرة قلعة مِن القلاع، فصار يُرى مِن هَدم اللغم ما في مدينة بغداد مِن البيوت والدور؛ لأنّه صار في ذلك

٣٦٧

الجانب جدار السور سَهلاً مُستوياً مع سطح الأرض، فلمّا رأى أهل بغداد ما دهمهم ممّا لم يعرفوه قط، تلاشوا وبعثوا إلى الشاه عبّاس المَراسيل يُريدون التسليم، وكان عَسكر السُلطان قد توانوا في الهجوم وتثبّطت همّتهم، وفي أثناء ذلك أرسل الشاه رسولاً يَطلب الصُلح، وكان الرسول المذكور مِن أعيان عَسكر الشاه يُسمى جانبك سلطان، وفي يوم الجُمعة ثالث عشر رَجب بكرة النهار، اجتمع الوزير الأعظم في ديوانٍ عظيم، ودَفع إليه كتاب الشاه بالصُلح، فقُرئ بمَسمع مِن الناس، وفَهِم الكلّ منه ما قَصده الشاه مِن الحيلة، فأبى السُلطان وجميع الوزراء والأركان الصُلح.

ولقد رأيتُ الواقعة بخطّ الأديب رامي الدمشقي، وذكر أنّه تفاءل حالة اجتماع الرسول في مصحف كان معه، فجاء في أوّل الصفحة قوله تعالى:

( قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنّهُ لَكَبِيرُكُمُ الّذِي عَلّمَكُمُ السّحْرَ فَلأُقَطّعَنّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِن خِلاَفٍ وَلأُصَلّبَنّكُمْ فِي جُذُوعِ النّخْلِ وَلَتَعْلَمُنّ أَيّنَا أَشَدّ عَذَاباً وَأَبْقَى )

ثُمّ أطلق السُلطان الأمر بالمُحاصرة وشدّد في ذلك، فلمّا كان يوم الجُمعة ثامن عشر شعبان يسّر الله فتحها، وكانت مُدّة الحصار أربعين يوماً، ودخلها العسكر والسُلطان في أثرهم، وقتلوا مِن العَجم أكثر مِن عشرين ألفاً، وأسَروا مِن رؤسائهم وأهل شوكتهم جماعة، وضعُفت شوكتهم، وزالت قوّتهم؛ لأنّ معتمديهم كانوا بها.

وصَرف السُلطان همّته إلى إزالة ما كان أحدثه الأرفاض (خذلهم الله تعالى) في مرقد الإمام الأعظم ومَرقد الشيخ عبد القادر الجيلاني (رضي الله عنهما)، وأمر بتجديد عِمارة محلّهما، وأحكم أمرهما غاية الإحكام، وبنى ما كان تهدّم مِن سور القلعة وشحنها بالعسكر والعدد، وعين لكفالتها وزيراً.

وقد أكثر الناس مِن نظم الشعر والتواريخ لفتحها، ووقفتُ بمكّة المشرّفة على تاريخ للقاضي تاج الدين المالكي:

خليفة الله مُراد غزا قلعة بغداد فأرداها

وعندما حاصرها جيشه اندكّ للأسفل أعلاها

وأصبح الشاه ذبيحاً لِما أُخبر مِن كثرة قتلاها

هذا اختصار القول فيها فإنْ قيل لقد أجملت ذكراها

فلشرّ مِن فعل مراد بها مؤرّخاً قد ذبح الشاها

٣٦٨

وفي تاريخ الدولة العثمانية ما محصله:

تولّى السُلطان الغازي أحمد خان المُلك ولم تتجاوز سنّه الرابعة عشرة إلاّ بقليل، وكانت أركان الدولة غير ثابتة في بلاد آسيا كافّة، ونارُ الحرب مُستعرة على حدود العَجم شرقاً والنمسا غَرباً، وكانت الحرب مع العَجم شديدة الوطأة في هذه المرّة لتولّي الشاه عبّاس الشهير قيادتها، وممّا جعل لها أهميّة أعظم مِن الحُروب السابقة، اضطراب الأحوال في الولايات الشرقيّة عامّة، وسعيّ كلّ أُمة مِن الأُمم المُختلفة النازلة بها للحصول على الاستقلال، وانتهز الشاه عبّاس هذه الفُرصة لاسترجاع بلاد العراق العجمي، واحتلّ مدائن تبريز ووان وغيرهما، ولمناسبة اضمحلال جيوش الدولة في هذه الحُروب التي استمرّت عِدّة سنوات متوالية، وموتِ أهمّ قوّادها الصدر، وتمّ الأمر بينهما في سَنة ١٦١٢م بمساعي نصوح باشا الذي تولّى مَنصب الصدارة بعد موت قويوجي مراد باشا، على أنْ تترك الدولة العليّة لمملكة العَجم جميع الأقاليم والبُلدان والقلاع والحصون التي فتحها العثمانيّون مِن عهد السُلطان الغازي سُليمان الأوّل القانوني، بما فيها مدينة بغداد، وهذه أوّل مُعاهدة تركتْ فيها الدولة بعض فتوحاتها.

ثُمّ انتهز الشاه عبّاس فرصة اضطراب الدولة وقيام سلطان وخَلع سلطان، فقتل السُلطان عثمان خان الثاني، فتولية السُلطان الغازي مُراد خان الرابع - وهو صغير السنّ - لتوسيع أملاكه مِن جهة حدود الدولة العليّة، فكان الأمر بعكس ما كان عليه أيّام الغازي السُلطان سليمان القانوني؛ وذلك أنّ رئيس الشرطة في مدينة بغداد واسمه بكير اغا ثار على الوالي وقَتله، واستبدّ في الأحكام، فأرسلت له الدولة قائداً يُدعى حافظ باشا حاربه وحصره في دار السلام، فسوّلت لبكير أغا نفسه أنْ يَخون الدولة، وراسل الشاه عبّاساً وعرض عليه تسليم المدينة، فسار الشاه بجنوده لاحتلالها، وفي الوقت نفسه عَرض بكير اغا على القائد العُثماني أنْ يردّ المدينة للعثمانيّين إن أقرّته الدولة على ولايتها، فقَبِل ذلك واحتلّتها الجنود المظفرة قبل وصول شاه العجم، وهو لمّا وصلها حاصرها ثلاثة أشهر ثُمّ فتحها بخيانة ابن بكير اغا الذي سلّمها له بشرط تعيينه حاكماً عليها مِن قِبَلهم، لكن خاب سعيه، فقد قَتله الشاه جزاءَ خيانته كما قَتل أباه، وبمناسبة سقوط

٣٦٩

بغداد في أيدي العَجم وعدم إخباره السُلطان بذلك، سعى المنافقون بالصدر الأعظم وأفهموه أنّها لم تسقط إلاّ لخيانته، فحنق عليه وأمر بقتله وولّى مكانه جركس محمّد باشا، ولم يَلبث هذا أنْ توفّي، وعُيّن بعده حافظ أحمد باشا سَنة ١٠٣٣هـ الموافق سَنة ١٦٢٤م، فسار حافظ باشا الصدر الجديد إلى مدينة بغداد لاستردادها، وحاصرها في أوائل سنة ١٦٢٤ وضيّق عليها الحصار، ولمّا استمرّ الحصار مُدّةً بدون أنْ تنثني عزيمة المحصورين تذمّر الانكشارية، واظهروا عَدم الرغبة في الحَرب بكيفيّةٍ اضطرّته لرفع الحِصار عن المدينة والرجوع إلى الموصل ومنها إلى دياربكر، حيث ثارَ الجُند ثانية فعُزل السُلطان حافظ باشا سنة ١٠٣٤هـ الموافقة سنة ١٦٢٤، وعُيّن بدله خليل باشا الذي تقلّد هذا المنصب في عَهد السلاطين أحمد الأوّل ومصطفى الأوّل وعثمان الثاني، وكان فاتحة أعماله أنّه استدعى أباظه باشا إلى معسكره، فظن أنّه يُريد الغَدر به، فرفع راية العصيان، وقتل حامية ارضروم مِن الانكشارية، وانتصر على القائد حسين باشا.

٦ - الشاه ميرزا صفيّ الأوّل:

وجرت أُمور عثمانيّة بحتة لا يتعلّق بها غرضنا.

قال: ثُمّ توفّي الشاه عبّاس وتولّى مكانه ابنه شاه ميرزا وكان حَدِث السِن، فدخل الأمل في أفئدة القوّاد العثمانيّين، وسار خسرو باشا مِن حينه إلى بلاد العَجم رغماً عن تذمّر جنوده، ووَصلَ بعد العناء الشديد إلى مدينة همذان، فدَخلها فجأة في أواخر شوّال سنة ١٠٣٩هـ، الموافق ١٨ يوليو سنة ١٦٣٠م(١) ، ثُمّ قصد مدينة بغداد، وانتصر أثناء عودته إليها ثلاث دفعات متواليات على جيوش العَجم، ووصل إليها وابتدأ في مُحاصرتها في سبتمبر مِن السَنة المَذكورة، فدافع عنها قائد حاميتها دفاعاً شديداً وصدّ هجوم العثمانيّين عنها في ٧ ربيع الثاني سَنة ١٠٤٠، الموافق ١٤ نوفمبر سنة ١٦٣٠، ولهجوم الشتاء رفع خسرو باشا عنها الحصار ورجع إلى مدينة الموصل لقضاء فصل

____________________

(١) عرفتَ أنّ المحبي قد ذَكر أنّ وفاته كانت سَنة ٩٣٧، والذي في الكُنى والألقاب أنّ وفاته كانت في ٢٤ جُمادى الأُولى سَنة ١٠٣٨.

٣٧٠

الشتاء، وفي الربيع الثاني أراد مُعاودة الكرّة على مدينة بغداد فلم تمتثل الجنود أوامره، ولذلك اضطرّ إلى التقهقُر إلى مدينة حَلب؛ خوفاً مِن وصول العدوّ إليه بالموصل وهو غير واثق مِن جنوده.

ثُمّ حدثَت حوادث داخليّة في العاصمة العثمانيّة أخّرتها عن مُعاودة الحَملة على بغداد مِن هذه السَنة إلى سنة ١٠٤٥هـ، ١٦٣٥م، حيث سار السُلطان مُراد الرابع بنفسه إلى بلاد العَجم لاسترجاع فتوحات السُلطان الغازي سُليمان الأوّل القانوني، ففتح مدينة اريوان في ٢٥ صفر، الموافق ١٠ أغسطس مِن السَنة الهجريّة والميلادية المذكرة، وأرسل السُلطان رسولين إلى الآستانة لتزيين المدينة مُدّة سبعة أيّام، ثُمّ قصد مدينة تبريز ففتحها عُنوة في ٢٨ ربيع الأوّل سَنة ١٠٤٥هـ، الموافق ١٠ سبتمبر سَنة ١٦٣٥ ثُمّ عاد إلى الآستانة للاستراحة مِن عناء السَفر ومشقّات الحَرب.

وممّا يدلّ على أنّ وجود السُلطان مع جيوشه له أهميّة عظيمة، ويبعث فيهم روحاً جديدة أنّه بمجرّد رجوع السُلطان اشتدّ عَزم العَجم، ووقفوا أمام الجيوش العثمانيّة، بعد أنْ كانوا يفرّون مِن أمامهم أينما التقوا بهم والسُلطان قائدهم، ثُمّ تغلّبوا عليهم واستردّوا مدينة (اريوان)، وفازوا بالغَلبة في واقعة منتظمة في وادي مهربان سنة ١٦٣٦.

فلمّا وصل خَبر انتصار العَجم على الجنود العثمانيّة إلى مسامع السُلطان أراد إذلالهم وكَسر شوكتهم، فسار بجيش عَظيم كامل العدد والعِدد إلى مدينة دار السلام، وابتدأ حصارها بكيفيّة مُنتظمة في ٨ رجب سَنة ١٠٤٨هـ، الموافق ١٥ نوفمبر سَنة ١٦٣٨، وكان يشتغل بنفسه في أعمال الحصار الشاقّة تنشيطاً للجُند، وسلّط على أسوارها المَدافع الضخمة التي نقلها إليها، ولمّا فَتحتْ المدافع فيها فتحة كافية للهجوم أصدر السُلطان أوامره بذلك، فهجمت الجيوش كالليوث الضواري في صبيحة ١٨ شعبان سنة ١٠٤٨هـ، الموافق ٢٥ أغسطس ديسمبر سَنة ١٦٣٨م، ولم يُثنها قتل الصر الأعظم طيار محمّد باشا، بل استمرّت الحرب ثماني وأربعين ساعة متوالية، خُتمت بانتصار الجنود العثمانيّة نصراً مُبيناً، ودخولهم المدينة وإرجاعها إلى المَملكة العثمانيَة.

وبعد ذلك رَغب شاه العَجم بعدم استمرار القتال، وعَرض الصُلح على الدولة العليّة بأنْ يترك لها مدينة بغداد بشرط أنْ تترك هي إليه مدينة

٣٧١

اريوان، ودارت المُخابرات بين الدولتين نحو عشرة أشهر كاملة، وفي ٢١ جُمادى الأُولى سنة ١٠٤٩هـ، الموافق ١٩ سبتمبر سنة ١٦٣٩م تمّ الصُلح على ذلك، وانقطعت أسباب العدوان مِن بينهما، وكان يؤمل في السُلطان مُراد الرابع أنْ يضارع السُلطان الغازي سُليمان الأوّل القانوني في الفتوحات، وبعد الصيت لو لا أنْ قصفت المَنون عود حياته الرطيب وهو في مقتبل الشباب.

أمّا ما في الكُنى والألقاب عن هذا الشاه فإنّه يقول: إنّه ابن ابن الشاه عبّاس.

وكَتب عنه مكاريوس في تاريخه ما يلي:

واستلم شاه صفيّ الثاني(١) زِمام المُلك مِن بعد عبّاس الكبير، وهو حفيد هذا السُلطان العظيم، ومَلك ١٤ سَنة، وكان ظالماً عاتياً سفّاكاً للدماء، لا هَمّ له غير الاشتغال بقتل الأبرياء، حتى لم يبقَ لكبيرٍ أو أمير في كلّ بلاد إيران أمانٌ على نفسه في مُدّة هذا الظالم، وقَتل مِن أعضاء العائلة المالكة ما بين نساء ورجال حوالي ثلاثين شخصاً بلا ذنب يُعرف غير خوفه منهم، وانتهز الأعداء فُرصة موت عبّاس، فعاد قبائل التتر إلى الهجوم على خُراسان ونهبِ أموالها، ولكنّ جيوش هذا السُلطان ردّتهم خاسرين.

وتقدّم السُلطان مُراد العثماني على آذربيجان بجيش عظيم ومَلك تبريز ونواحيها، وقامت بلاد كيلان على شاه صفي فنجح في ردّها إلى الطاعة، وأظهر في الحرب شيئاً مِن البسالة، ولكنّ الأمر الذي اشتهر فيه هو الفتك بأُمراء بلاده وقوّادها، وقتل الرجل بلا موجب، حتى إنّ بعضَ المُؤرّخين يذهبون إلى أنّه كان يفعل ذلك عن سياسة أخذها عن والده، هي أنّه يُهلك الأكابر الذين يَخشى بأسهم، ويولّي مكانهم أُناساً مِن عبيده ومماليكه، وانغمس هذا المَلك الخامل في الشهوات، وسلّم الإدارة كلّها إلى وزرائه الذين كان يأمر بقتلهم لأقل عِلّة، ثُمّ مات في مدينة كاشان.

وكانت وفاته كما في الكُنى والألقاب في صَفر سَنة ١٠٥٢هـ، ودُفن بقُم وخلّفه على السَلطنة ابنه.

____________________

(١) في الكُنى والألقاب (الأوّل).

٣٧٢

٧ - الشاه عبّاس الثاني:

وهو في العاشرة مِن عُمره.

وتولّى الأمر في مُدّة صِغره الوزراء، وكانوا مِن أصحاب العَقل والذمّة واشتهروا بالفضائل والتقوى، فأمروا بإبطال شُرب الخمر مِن القصر، وشدّدوا في عِقاب الذين كانوا يَسكرون، وكان السُكر رذيلة عمّت في أيّام عبّاس شاه وحفيده، وأُعطي الناس حريّة الأديان إلى درجة لم يَسبق لها نظير فيما مرّ، وتمتّع الأُوروبيّون بنعمة السُلطان، فكان تجّارهم يَحضرون مجلسه ويروون الأمور عنه، ومُعظم ما قيل في تاريخ إيران مِن بعد أيّام عبّاس شاه منقول مِن كُتب الإفرنج.

ولمّا بَلغ عبّاس الثاني أشدّه تولّى الأمرَ بيده، فأفرط في التمتّع باللذات وعاد إلى المسكر، فارتكب الهفوات الكثيرة واسقط مقام المَلك، ولكنّه لم يَصل إلى درجة أبيه في ذلك، وكان وديعاً طيّب القَلب لم يأتِ أمراً نَكِراً إلاّ في مدّة استيلاء الخَمرة على عَقله، واسترجع الإيرانيّون في أيّام هذا المَلك مدينة قندهار، وكان صفي شاه قد أضاعها في أيّامه المَعيبة، وأظهر عبّاس الثاني سياسة واقتداراً في مُعاملة قبائل التتر التي كانت تغزو خُراسان عاماً بعدَ عام، ذلك أنّ أحد الأُمراء مِن القوم التجأ إليه فأكرمه عبّاس، وأنعم عليه بالمال الكثير ونَصَره على خصمه، فجعله وأهل بيته عبيداً للدولة الصفويّة، وأراح البلاد مِن غزواتهم مُدّة طويلة.

وعَقد عبّاس الصُلح مع الأتراك مِن أوّل حُكمه، فلم تَحدُث الحَرب بين البلدين كلّ مُدّة مُلكه السعيد، ونمت المتاجر، وتقدّمت العلوم والصنائع، ورتعت البلاد في بحبوحة الأمن والراحة كلّ أيّام هذا المَلك، وتقاطر الإفرنج على البلاد، وجاءها سُفراء الهند والدول الأوروبيّة مِن كلّ صَوب بنفيس الهدايا، وكانت علاقة الدولة الإيرانيّة حَسنة مع كلّ هذه الدول، وأعمالها في رواج ونجاح.

ومات عبّاس الثاني في الرابعة والثلاثين مِن عُمره، بعد أنْ حَكم إيران نحو ٢٥ سَنة كانت كُلّها أعوام صفاء ورخاء، لم تَرَ البلاد أفضل منها، ولم يكن لعبّاس عَيب غير الإفراط في شُرب الخمر بعض الأحيان، إلاّ أنّ ذلك لم يُؤثر في بلاده، ولم يَتعب منه غير بعض الأخصّاء، واشتهَر بشيء مِن القسوة في معاملة الوزراء والقواد، وبالشفقة والحنو الكَثيرَين في معاملة الفقراء والبُسطاء مِن الأهالي، وفي احترام الأجانب واعتبار حريّة الأديان إلى درجة لم تُرَ عند غَيره مِن مُلوك هذه الدولة العظيمة.

٣٧٣

وكانت وفاته كما في الكُنى والألقاب سَنة ١٠٧٨هـ ودفن بقُم، وكان له ابنان، أحدهما صَفي ميرزا، والثاني حمزة ميرزا، وهو يومئذٍ طفل في السابعة مِن عُمره، فلمّا تُوفّي عَقد أكابر سلطنته مجلساً، وأقرّوا فيه على تنصيب حمزة ميرزا الصغير بدعوى أنّ صفي ميرزا كان فاقد البَصر لا يليق للمُلك.

والصحيح أنّهم أرادوا بذلك أنْ يكون السلطان في قبضة يَدهم، فسمعَ بذلك خِصيّ اسمه مُبارك آغا كان هو المُوكّل بتربية حمزة ميرزا وظنّ الناس أنّ ارتقاء مولاه إلى سرير المُلك أحبّ الأُمور إليه، إلاّ أنّ هذا الخِصيّ أظهر مُروءةً وشهامةً مَحتْ ما لطائفة الخِصيان مِن العيوب، ذلك بأنّه اجتمع بهؤلاء الأشراف وخَطب فيهم خِطاباً بَليغاً بالغاً منتهى الفصاحة والحماسة، وأظهر لهم أنّهم حادوا عن جادّة الحَق والإنصاف، وأتوا ما لا يُرضي الله ولا يوافق العدل في قرارهم هذا، وأنّه لا يُسلّم معهم بهذا الظُلم وحِرمان وليّ العهد مِن السَلطنة بلا داع، غير حُبّ الاستيلاء على عَقل المَلك، ثُمّ حذّرهم مِن العواقب، وأعلنهم أنّهم إذا لم يَنقضوا قرارهم اضطرّوه إلى خَنق الطفل، وقتل نفسه مِن بعد ذلك، فيصير المُلك إلى صاحبه الشَرعي وينتقم صفي ميرزا مِن كلّ أميرٍ خانه، وانسحب آغا مُبارك بعد ذلك مِن الجلسة، فذُهل الأُمراء لهذا الأمر ذهولاً وخافوا العاقبة، ثُمّ قام رئيس الوزراء فخطب فيهم بما معناه:

إنّ صفي ميرزا ليس بفاقد البصر كما كانوا يتوهّمون، فهُم مضطرّون شرعاً إلى تسليمه المُلك ووافقه الباقون على ذلك، فانتهت الدسيسة ورَقي هذا الأمير عرش أجداده العِظام بسعي أحد الخِصيان وشهامته، فأراد أنْ يُكافئه في الحال، ورفض الخصيّ المناصب حتّى لا يُزاحم الأُمراء عليها، وأفضل ما يُروى عن هذا السُلطان أنّه لم ينتقم مِن الأشراف على خيانتهم ودسيستهم هذه.

٨ - الشاه صفي ميرزا الثاني ابن الشاه عبّاس الثاني:

عرفتَ سابقاً ما ائتمر عليه الأشراف مِن السعي لحِرمانه عَرشه الشرعي، وكيف أبطل بعض الخصيان هذه المؤامرة، وكيف انتظم له أمرَ المُلك وأنّه لم يُعاقب مُرتكبي تلك الجناية (جناية صَرفه عنه إلى أخيه الطفل).

ولمّا ارتقى العرش الإيراني اتّخذ اسم شاه سُليمان، ولم يَحدُث في

٣٧٤

أيّامه ما يَستحق الذِكر، وكان خاملاً ضعيف الرأي مُنغمساً في المَلذّات والشهوات، شأنَ كلّ أمير رُبّي في قُصور الحريم مِثله، وعَلم الناس منه ذلك فصاروا يتقرّبون إليه بإهداء الخُمور والمُسكرات، وعادتْ القلاقل والثورات على أطراف المَملكة، لم يدفع غوائلها غير كَلمة علي قلي خان وزيره الحكيم، وكان هذا الوزير جليل القَدر مُهاباً كثير الفضائل شديد التقوى، وقد نهى الشاه عن شُرب المُسكر مراراً فلم ينتهِ.

وحدثَ أنّ الشاه كان في أحد الأيّام يَسكر، فجاء بوزيره الجليل وأمره بالجلوس بين النُدماء ومُشاركتهم في السُكر، فرفض الوزير الأمر، وأصرَّ السُلطان على إنفاذه حتّى أنّه ناوله شيئاً مِن الأفيون بيده، فاضطرّ إلى الطاعة وأخذ الأفيون فسكَر منه، ووقعَ إلى الأرض وقد فقَدَ الشعور، وفَرِح الشاه والنُدماء بحاله هذه وسرّوا وطربوا لها، ثُمّ جاءوا بموسى وحلقوا ذِقنه وهو لا يَشعر بذلك، فلمّا أفاقَ وعَلِم أنّ الذي أصابه بأمرِ الشاه اشتدّ غيظه وتركَ الوزارة، فأرسل إليه الشاه يدعوه مِراراً وهو لا يُطيع الأمر، ويُؤثر القتل على العودِ إلى مُجالسة هذا الشاه حتّى وقعتْ البلاد في الاضطراب، ورأى الوزير أنّ الذمّة تُوجب عليه إعطاء الرأي، فعادَ إلى الشاه فقامَ له هاشّاً باشّاً، وأقسم لديه أنّه لن يَتعاطى المُسكر بعد ذلك، ولكنّه حنث بأيمانه وعاد إلى سابق أُموره، إلاّ أنّ البلاد كانت في أيّامه في نجاح، سائرةً في سبيل الارتقاء، والأهالي في هَناء وراحة مُدّةً طويلة، وكَثُر اختلاطهم بالإفرنج مِن سائر الأجناس.

ومات وهو في الثالثة والأربعين مِن عُمره، وفي (الكُنى والألقاب) تُوفّي سنة ١١٠٥هـ، ودُفن بقُم في بُقعة متّصلة ببقعة الشاه عبّاس وخَلّفه وَلده.

٩ - الشاه سلطان حسين:

هو آخر السلاطين الصفويّة، وكان - كما في تاريخ إيران - طيّب القلب، سليم النيّة، كثير الفضائل، شديد التمسّك بدينه، وقد أمرَ بإبطال السُكر وتحطيم آنية الخَمر التي وجدها في قُصوره، وقرّب المشايخ والعُلماء فأعطاهم المَناصب العالية، وحَرَم الأُمراء والقوّاد منها، ولم يكن له همٌّ غير أنْ يعيش في راحة وصفاء، فظلّت البلاد عشرين سَنة في أيّامه مُتمتّعة بالراحة، وقد كانت إيران في عِزٍّ ومأمن مِن بوائق الأيّام حتى عَهْد هذا

٣٧٥

الشاه الذي كانت فضائله واسطة في إماتة البسالة والشهامة مِن صدور الإيرانيّين، وأدت إلى سقوطِ دولتهم ووقعِ بلادهم في قبضة شرذمة مِن البرابرة وأهل الغِلظة، حيث تمكّن الأفغان مِن امتلاكها بقوّة يسيرة.

نحن لا نرى رأي هذا المؤرّخ بانحصار سقوط البلاد الإيرانيّة في أيدي الأفغان، فسقوط الدولة الصفويّة فيما علّله، فإنّ الفضائل لم تكن في يوم مِن الأيام واسطة في سقوط الدول، بل هي واسطة عقد ارتقاء الأُمم والشعوب، وكيفَ تُميت الفضائل البسالة والشهامة، ومِن أُمّهات الفضائل الشجاعة التي هي وسط بين الجُبن والتهوّر، اللَّهمّ إلاّ إذا كان يُريد مِن الفضائل انصرافه بالكليّة عن مُقتضيات سياسة المُلك وتدبير المَملكة وانتقاء الكُفاة لذلك، على أنّ ذلك إنْ كان يُعد جُزءَ سبب فليس هو السبب كُلّه، وليس مِن الإنصاف أنْ يُحمّل آخر سلطان لكلّ دولة مِن الدول التي بلغت دور الهرم أوزار ذلك السقوط.

ماذا كان يصنع مروان الجعدي وقد انتهى إليه المُلك الأُموي، وكلّ ما اقترفه مَن سَبقه مِن المُلوك الأُمويّين مِن خطيئات، ومكّنوا لدُعاة العباسيّين مِن نفوذ دعوتهم في خُراسان، وما كان الجعدي بواهي العزم ولا بواهن الرأي، وقل مثل ذلك في آخر خليفة عباسي وخليفة فاطمي، وكان مصير هذا الشاه كمصائرهم مِن حيث اجتماع كلّ أسباب سقوط الدولة في عهده، وماذا يُداوي مِن أدواء انتقاض الأُمور على السلطان الصفوي وهي على طرف الثمام مِن انتهاز المنتقضين، أو مُحاولي الانتقاض فرصتها، وما هي إلاّ كالجمر الكامن تحت الرماد، مملكة مُتّسعة الأرجاء، مُتباعدة الأطراف، مجموعة لغاتٍ شتّى وعُنصريات متعادية ومذاهب متشاكسة، ودولة فتيّة، وهي الدولة العثمانيّة التركيّة، وفي المملكة الإيرانية العدد الأكبر مِن عنصرها التركي ثُمّ الهند فالإمارات الأفغانيّة، وقد انطوت الأُولى في صفحتها وانتزع الإيرانيّون قِسماً مِن الثانية.

ثُمّ هناك خطيئات سياسيّة وإداريّة ارتكبها مَن تقدّم هذا الشاه مِن السلاطين الصفويّة، وفي الحقّ فإنّ سقوط الدولة الصفويّة مُسبّب مِن مجموع تلك الأسباب وما هو مِن نوعها وجنسها، على أنّ ما في التعادي المتوارث في تلك العصور ما بين الشيعة والسُنّة - والصفويّون هُم مِن الشيعة - كبير أثرٍ في التَحفّز للخروج مِن حُكمهم وسلطانهم، فليس مِن الإنصاف أنْ يُعرض المؤرّخ عن كلّ هذه الاعتبارات والأسباب وما إليها،

٣٧٦

ويتشبّث بمثل هذا السبب - الفضائل - فيجعله العلّة للسُقوط.

وكيف كان، فإنّ هذا الشاه قد استقبل ما استقبله غيره مِن مُلوك الدول التي جاءت ساعة زوالها وانقراضها، ولم يكن ذلك الزوال والانقراض مِن صُنعهم، والله غالب على أمره، يُؤتي المُلك مَن يشاء وينزعه عمَّن يشاء.

امتلاكُ الأفغانِ إيران

تَمهيدٌ:

الأفغان: بلاد جبليّة إلى الجنوب الشرقي مِن إيران، متاخمة للنهر المسمّى (پنجاب)، وكانت في أكثر الأحيان تابعةً لإحدى المملكتين المُجاورتين لها، ولم تستقلَّ بنفسها إلاّ في ما ندر.

وأهلها يختلفون في شكلهم وهيئتهم عن الأُمّتين الهنديّة والإيرانيّة، ويذهب أكثر مؤرّخي الإسلام أنّ أصلهم يهودٌ مِن بقايا سبي نبوخذ نصر إلى بابل، ثُمّ أراد إبعادهم إلى أقصى ممالكه فأرسلهم إلى هذه البلاد القاصية، إلاّ أنّ ذلك غير مُثبت بالأدلة، بل هُم بقايا قوم (البرثة)، وبلادهم قطعة مِن ولاية خُراسان.

وكان الأفغانيّون في أيّام الشاه عبّاس وما بعده قِسمين أو حِزبين: الحزب الفليجائي والحزب الإبدالي، ولمّا ملكهم هذا الفاتح العظيم لم يرَ منهم مُقاومة تُذكر إلى أنْ اشتدّت وطأة الحاكم الذي عيّنه عليهم، فذهب أحد أُمراء الإبدالية واسمه (سدو) إلى أصفهان ليلقي أمر بلاده إلى عبّاس شاه، ويحاول إنقاذها مِن ظُلم الولاة، وحظيَ بمُقابلة هذا الشاه العظيم، فشرح له قضيّة بلاده، والتمس منه تخليصها مِن أيدي الظالمين، ووعده بخضوع الأهلين بلا مُعارضة لكلّ حاكم يولّيه عليهم، على شرط أنْ يكون مِن أهل الإنصاف والذمّة فأصغى الشاه إلى شكواه هذه، وأمر بإنصاف بلاده، ثُمّ سرّ مِن فصاحة سدو في المُقابلات الأُخرى ومِن نبالة مقاصده، فعيّنه والياً على الأفغان، وأعطاه فرمان (منشوراً) جعله في مقام الأُمراء المستقلّين تحت سيادة سلاطين إيران، وفرح أهل الأفغان بذلك فَرحاً عظيماً، فجعلوا طاعة (سدو) وأولاده مِن بعده فرضاً واجب الأداء عليهم، وساد السِلم والطمأنينة في بلاد الأفغان كلّ مُدّة عباس شاه الطويلة، ولكن

٣٧٧

القلاقل كثُرت مِن بعده بسبب الحُروب المتواصلة بين سلاطين الهند وإيران على امتلاك هذه الإمارة، وكان أهلها يميلون إلى الإيرانيّين أكثر مِن الهنود، ولكنْ على أنْ يكون استقلالهم مصوناً مِن الجانبين.

وأمّا الفيلجائية مِن أهل الأفغان، فكانوا أشدّ ميلاً مِن الإبدالية إلى الاستقلال، وهم الذين استوطنوا قندهار وما يليها مِن تلك البلاد، وظلّوا مُنابذين الدولة الإيرانيّة حتّى حار وزراء إيران في أمرهم، وقرّ رأيهم في أيّام الشاه حسين على تعيين والٍ شديد العزم كثير الإقدام ليحكم بلادهم، فانتدبوا لذلك گرگين خان - وكان أميراً باسلاً مقداماً لا نظير له بين قوّاد تلك الأيام - وهو مسيحي، وكان والي گرجستان (بلاد الكرج)، فحاول الاستقلال بتلك الإمارة فلم ينجح، ثُمّ اعتنق الدين الإسلاميّ فصفح الشاه عنه، وعيّنه لهذا المنصب لمّا عرفَ عن إقدامه، فتقدّم گرگين خان على هذه البلاد بعشرين ألف مُقاتل مِن الإيرانيّين، ونخبة مِن أبطال أهل بلاده، وكان لقدومه أُبّهة وهيبة جعلت الخضوع لأمره مُحتّماً، فلم يُبد أقل معارضة مِن الأفغانيّين له، ولكنّه أساء مُعاملتهم في الحال، واعتبرهم كلّهم مِن العُصاة والمارقين، فأطلق السراح لعساكره ومَن معه في ابتزاز المال منهم وظُلمهم، فاستغاث الأهالي مِن ظُلمه بالسلطان، وبعثوا الوفود مِن مشايخهم إلى أصفهان ليعرضوا حال البلاد وما صارت إليه على حسين شاه، ووجد هؤلاء المندوبون أنّ الوصول إليه أصحاب گرگين خان قد سبقوهم إلى القصر، وافهموا السلطان أُموراً غيّرته عليهم، فلمّا سَمع شكواهم أجابهم بما معناه: أنّهم عُصاةٌ كاذبون وأنّ ثقته بالوالي عظيمة، وتهدّدهم بكلّ عِقاب صارم إذا عادوا إلى مثل هذه الشكوى، فعاد المندوبون إلى بلادهم وقد امتلأت صدورهم حنقاً وغيظاً، وبسطوا الحال لإخوانهم، فكُثر الحقد وتعاظم الشرّ، وعزم الأفغانيّون مِن ذلك اليوم على الخلاص مِن الحُكم الإيراني.

ولمّا عَلم گرگين خان بما كان مِن الأهالي وقيامهم للشكوى عليه عزم على البطش بهم والانتقام منهم، فوجّه همّه في أوّل الأمر إلى إذلال أُمرائهم وكبرائهم، وكان أشهرهم يومئذٍ الأمير (ويس)، وكان شابّاً جميلاً كثير الرقّة والذَكاء، وهو مِن أشهر أُسَر الأفغان، يُعد عندهم حاكم قندهار

٣٧٨

الشرعي، والناس كلّهم يجلّون قدره؛ لِما اتّصف به مِن الخصال الحميدة، وما ظَهر مِن اقتداره وقوّة تدبيره، فعزم گرگين على التخلّص منه؛ لأنّه كان زعيم القوم، وله بأس وسطوة عظيمة، فقبضَ عليه في إحدى الليالي بدعوى تآمره على سلامة السلطنة، وأرسله مُكبّلاً بالقيود إلى أصفهان، وكَتب إلى الشاه يقول:

إنّ هذا الأمير هو زعيم العُصاة الذين يُدبّرون للملكة المكايد، وأنّه ما دام في أصفهان فلا خوف على البلاد مِن أعوانه، وأمّا إذا عاد إلى الأفغان، فلا بد مِن الثورة.

وأخطأ گرگين في إرساله هذا الذكي البارع إلى أصفهان؛ لأنّه تمكّن بدهائه مِن معرفة الأحوال حال وصوله إلى أصفهان، ورأى أنّ المُقرّبين إلى الشاه قسمان: قسم يميل إلى گرگين خان، وقسم عليه، فاتّفق في الحال وأعداء گرگين، وتمكّن بواسطتهم مِن اكتساب نفوذٍ عظيمٍ وقُربٍ كثيرٍ مِن الشاه، وفوز بمقابلته بعدَ أنْ استمال الوزراء بالرشوة أو باللطف، فبسط له أُمور گرگين وظُلمه، وشكا مُرّ الشكوى ممّا أصابه وأصاب أهل بلاده.

وكان ويس فصيحاً طَلق المحيا، فسحر الشاه واستماله إليه، وصار هذا الأمير الأفغاني مِن أشهر المُقرّبين إليه بدلاً مِن أنْ يكون أسيراً يُعامل معاملة الأعداء، ومِن ثُمّ أخذ هذا الأمير في تدبير ما يُريد، وكان في أوّل الأمر يُفكّر في الاستقلال بإمارة بلاده، ولو أنّه شاء ذلك لتمكّن مِن مُراده بما نال مِن الحظوة، ولكنّه كان سريع النظر بعيده، فلحظ أنّ بلاد إيران صارت مُتداعية إلى السقوط، وأنّ الدولة الصفويّة هرمت، وعوّل مِن ذلك الحين على السعي في قَلب الدولة وامتلاك إيران، وبدأ بگرگين خان فطفق يسعى على قتله أو خَلعه، ولكنّه لم يتعجّل الأمر، وكان كثير التأنّي في أعماله، حكيماً في تدابيره، فخطر له أنّه لا يقوى على مِثل ما يُريد مِن غير الطريقة الدينيّة، فطلب مِن حسين شاه أنْ يسمح له بالحجّ لأداء الفريضة، وهو ينوي غير ذلك، ولم يفطَن الشاه لِما يضمره هذا الأمير، فأذِن له بما يُريد، حتى إذا وصل إلى استامبول، واجتمع بالوزراء والعُلماء، وشرح لهم الحالة وما يُقاسيه أهل السُنّة مِن إلغاء، كلّ ذلك دَهاءً منه ليستصدر فتوى شرعيّة بإباحة دم الفُرس، ورفع نير بيعتهم عن أعناقهم، فنجح في هذا الأمر، ثُمّ رحل إلى مكّة المُكرّمة، واجتمع بأكابر الأعيان والعُلماء مِن أهل السنّة فيها، فأفتوا له أنّ الشيعيّين لا يليقون بالأحكام وأنّه يجب خلعهم، وأخفى الأمير

٣٧٩

ويس هذه الفتوى إلى حين الحاجة، ثُمّ عاد إلى أصفهان وهو موقن بالظَفر، ولكنْ لا يعلم غيره ما في ضميره، وهذا سرّ نجاح هذا الأمير؛ لأنّ بلاده في تلك الأيّام كانت مأهولة بأهل السنّة، وهُم في غاية التعصُّب، وفيما عدا تلك الولاية فإنّ سكّان البلاد الإيرانيّة كانوا على مَذهب الشيعة الاثني عشريّة الجعفريّة.

ولمّا وصل الأمير ويس إلى أصفهان ساعدته الأقدار على ما يُريد، وذلك أنّ قيصر الروس عيّن يومئذٍ سفيراً له في أصفهان اسمه إسرائيل أوروبي، عيّنه بطرس الأكبر لهذه الوظيفة؛ لأنّه كان أرمنيّاً مِن أصحاب الاطّلاع على أحوال الممالك الشرقيّة، وله معرفة باللغة الإيرانيّة وغيرها، فجاء هذا السفير بأُبّهة عظيمة ومعه الأعوان يُعدّون بالمئات، وأشاع في الحال أنّه مِن أبناء مُلوك أرمينيا القُدماء، وكان الإيرانيّون يومئذٍ يحسبون لدولة الروس ومطامع بطرس الأكبر حساباً، فهالهم أمرَ هذا السفير، وشاع بينهم أنّه سيصير ملكاً، فخافوا أنْ يصير ملك بلادهم، ووصلت الإشاعة إلى الأمير ويس فُسرّ بها سروراً عظيماً، وقام في الحال إلى الشاه حسين وقد أظهر الاهتمام العظيم، وقال له:

إنّ قيصر الروس ينوي ضمّ هذه البلاد إلى أملاكه، وإنّ أهل كرجستان وأرمينية يُساعدونه على ذلك، بدليل أنّ هذا السفير أرمنيّ، وهو مِن أبناء المُلوك ينتسب إلى گرگين خان وأصله نصراني، وأنّ گرگين ما فتئ يُفكّر في الاستقلال والعود إلى بلاده حاكماً وأميراً، وبدأ يَسرد للشاه حسين الأدلّة على ذلك، ويُبين له قوّة گرگين وغاياته حتى صدّق الشاه كلّ ذلك، وأوجس منه خيفة، فعزم على خلعه في الحال، ولكنّه خاف عاقبة التهوّر، فشاور وزراءه فأشاروا عليه بإرجاع الأمير ويس إلى الأفغان وجعله رقيباً على گرگين، وقَبِل الشاه بهذا الرأي الأخير، فأوعز إلى ويس بالقيام إلى وطنه، وقام ويس وصدره قد امتلأ فَرحاً وحبوراً على حين أنّه كان يُظهر عدم الرضا بهذا الأمر.

ولمّا وصل ويس إلى قندهار وعرف گرگين خان بالحكاية بلغَ الغيظ منه مبلغاً عظيماً، حتى إنّه عوّل على الفتك به في الحال، ولو أدى ذلك إلى أوخم العواقب، وكان للأمير ويس ابنةً بارعة في الجمال، نادرة المثال، فسمع گرگين برائع جمالها وتمنّى أنْ تكونَ زوجةً له، فخطر في باله أنْ يقترن بالفتاة قسراً فينال منها غايته ويُذلّ أباها، وبعثَ إلى الأمير ويس أمراً لا

٣٨٠