تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء ٣

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني0%

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف: تاريخ التشيع
الصفحات: 442

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

مؤلف: العلامة الشيخ سليمان ظاهر
الناشر: مؤسسة الأعلمي
تصنيف:

الصفحات: 442
المشاهدات: 96040
تحميل: 7609


توضيحات:

الجزء 1 الجزء 2 الجزء 3
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 442 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 96040 / تحميل: 7609
الحجم الحجم الحجم
تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني

تاريخ الشيعة السياسي الثقافي الديني الجزء 3

مؤلف:
الناشر: مؤسسة الأعلمي
العربية

وفي سنة ١٧٩٩م قدِم يوسف باشا ضياء الصدر الأعظم بالجيوش العثمانيّة إلى حَلب، فكَتب إليه الأمير بشير كتاباً، وأرسل له خيلاً جياداً تقدمة صحبة رجلين مِن خواصّه، فالتقياه إلى (قره مرط) وقدّما له الخيل، واستماحا منه صفو خاطره على الأمير، وردع الجزار عن المظالم في جبل لبنان، فأجاب سؤالهما وصرفهما راضين.

ولمّا دخل إلى حماة أرسل له الأمير مئة ألف قرش خدمة، وبعد دخوله إلى دمشق كَتب إلى الأمير كتاباً يُطيّب به خاطره، ويأمره بإرسال ألف غرارة قمحاً وشعيراً، فبادر الأمير بجمعها وأرسلها إلى دمشق، فأنعم عليه الصدر الأعظم بخِلَع الولاية على جبل لبنان ووادي التيم وبلاد بعلبك وبلاد البقاع وبلاد المتاولة، واعداً إيّاه بأنْ يبقى عليها والياً دائماً بأمر الدولة، وأنّه لا يكون للوزراء عليه تَسلّط، وأنّ إيراد أموالها يكون مِن يده إلى خزينة الدولة كما كان في عهد الأُمراء المعنيّين، ولكنّ الأمر لم يطلْ حتّى كثُر الخارجون عليه، ومِن ورائهم الجزار الحاكم المُطلق في الديار الشاميّة، وعُزل عن الولاية وقَصد حوران.

وفي سنة ١٨١٠م قرّر سليمان باشا الأمير جهجاه الحرفوش على بلاد بعلبك.

وفي سنة ١٨١٩م كَتب عبد الله باشا خزندار إلى نائب دمشق أنْ يطرد المشايخ اليزبكية وأحزابهم الّذين سخطَ عليهم الأمير بشير، فكَتب النائب إلى الأمير أفندي صاحب ريشيا والأمير أمين الحرفوش صاحب بعلبك أنْ يسيرا بعسكرٍ ويطردا المشايخ مِن إيالة دمشق، ولمّا بلغَهم ذلك فرّوا إلى قرية قارة والنبك.

وفي سنة ١٨٢٠م عاد الأمير بشير إلى الولاية، وعَزل منها الأميرين حسناً وسلمان، وفرّا مِن وجهه إلى بعلبك ثُمّ إلى الزبداني، وقد أرسل الأمير بشير الأمير ملحم حيدر والأمير أفندي صاحب ريشيا والشيخ علي العياد ومعهم أربعمئة فارس لطرد الأميرين مِن بعلبك، ولمّا وصلوها التقاهم الأمير نصوح الحرفوش واليها أحسن لقاء.

ولمّا بلغ الأمير ملحم خلوَّ بعلبك مِن الأُمراء سار هو والأمير نصوح الحرفوش لطرد الأمير سلطان وأخيه الأمير أمين الحرفوشيَّين والشيخ حمود حمادة لتعصّبهم للمشايخ الحماديّة، ففرّ الأميران الحرفوشيّان مِن الهرمل، وحضر الشيخ حمود إلى الأمير ملحم مسلّماً فأمّنه.

ولمّا نهض الأمير بشير إلى إهدن

٦١

ومنها إلى بشري قدِم إليه الأمير ملحم راجعاً مِن بعلبك، ومعه الأمير أفندي والأمير نصوح الحرفوش والشيخ حمود حماده، فرحّب بهم وطيّب خاطر الشيخ حمود وأكرمه.

وفي سَنة ١٨٢١م قدِم إبراهيم باشا إلى سورية غازياً، وقد اتّفق معه الأمير بشير على ذلك سنة ١٨٣١، وجرت حروب بين إبراهيم باشا وولاة الدولة العُثمانية كان النصر في جُلّ المواقع خدين إبراهيم باشا.

وفي سنة ١٨٣٢م وقد أحرز إبراهيم باشا النصر على الوزراء العُثمانيّين، وقد سقط في أيدي الّذين مالؤوهم مِن أُمراء البلاد ومشايخها قدِم في هذه الأثناء الأمير أمين الحرفوش مُترامياً على الأمير بشير، فطيّب الأمير قلبه ووعده بأنّه يلتمس له الأمان مِن الوزير، وكَتب إلى الوزير بشأنه، فأجابه طالباً حضور الأمير إليه وعليه الأمان، فلمّا بلغَ الأمير ذلك فرّ هارباً إلى القِفار، فأرسل إليه الوزير شرذمة للقبض عليه فلم يُدركوه.

وفي غضون هذه السنة قدِم الأمير أمين الحرفوش إلى بتدين ودخل الحبس، وبلغَ الأمير ذلك فأمر بحضوره إليه، فطيَّب قلبه.

ولمّا سار الأمير بشير في هذه السنة إلى دمشق وأقام عند شريف باشا لحقه الأمير أمين المذكور، فأمره شريف باشا أنْ يُقيم عند عيلته في المدينة آمناً.

وفي سنة ١٨٤٠م تمّ الاتّفاق بين السلطان عبد المجيد العُثماني ومُلوك النمسا والمسكوب والإنكليز وبروسيا على استخلاص سورية مِن يد محمّد علي باشا عزيز مصر - الّذي كان قد انضمّ إليه كثير مِن الأُمراء إلى الجيش العُثماني - ولمّا جمع الأمير علي اللمعي رجالاً مِن المتن وسار بهم إلى المريجات قدِم إليه الأمير خنجر الحرفوش وأخوه الأمير سلمان، وانضمّ إليه سواهما، فنهضوا مِن الحازميّة والدكوانة لقتال العساكر المصريّة، فالتقوا بعساكر الأرناؤط في الأشرفيّة، ولمّا أطلقوا عليهم الرصاص ولّوا مُدبرين، فجدّ الأرناؤط في طلبهم، فانهزموا وتبدّدوا وقُتل منهم رجُلان.

وجرتْ معارك مُتتابعة بين الجيش المصري وأُمراء البلاد ومشايخها مِن أنصار الجيش العُثماني، وكان الظهور في أكثرها للمصريّين، وقدم الأمير محمود ثُمّ الأمير فاعور قعدان الشهابيان إلى الحازميّة، ثُمّ الأمير خنجر الحرفوش وأخوه الأمير سلمان وأجمع رأيهم مع الأمير فارس والأمير يوسف الشهابيَّين على الانفضاض، ثُمّ تفرّقوا كلٌّ إلى جهة،

٦٢

والأمير خنجر وأخوه ذهبا إلى زوق مكايل يجمعان رجالاً، وتشتّت الأُمراء اللمعيّون.

ولمّا وصل الأمير خنجر إلى المعاملتين قال له بعض رفقائه: خُذ معك عامية غزير ونحن نذهب ونأتي بهم إليك. فساروا إلى الأمير عبد الله فأخبروه بما كان، فقصده الأمير عبد الله بأصحابه للقبض عليه، ولمّا رآهم الأمير خنجر مُقبلين ظنّ أنّهم العامية، وإذ دنوا منه أحاطوا به فلم يُمكنه الهرب، فقبضوا عليه وعلى أخيه وعلى ستّة أنفار متاولة كانوا معهما ورجعوا بهم إلى غزير، فأمر الأمير عبد الله بوضعهم في الحبس، وذاع الخبر في كسروان، فانحدر إلى غزير نحو مئة رجل مِن قرى كسروان والفتوح، واتّفقوا مع عامية غزير على تخليص الأمير خنجر ومَن معه، فأرسلوا إلى الأمير عبد الله يطلبون إخراجهم مِن الحبس فأبى، فحينئذ هجموا على باب الحبس وكسروه وأخرجوا الأميرين وأصحابهما، واسترجعوا أسلحتهم جميعاً وسلّموها لهم، وانحدروا بهم إلى جونية فاجتمع إليهم جماعة، وأتى الأمير خنجر بهم إلى المكلس لهياج المتنية.

وفي ذلك الوقت نهض عبّاس باشا وسليمان باشا بالعسكر مِن بيروت إلى الحازمية ومعهما الأمير مجيد، ثُمّ نهضوا قاصدين حمانا، ولمّا وصلوا تجاه المكلس أطلق الأمير خنجر وجماعته الرصاص، فأرسل إليهم سليمان باشا الأرناؤط، ولمّا قابلوهم تفرّقوا شذر مذر، وفرّ الأمير خنجر إلى جرد العاقورة، فنهبت الأرناؤط وحرقت المكلس وبعض المنصورية بيت مري ودير القلعة وعادوا إلى المعسكر.

ثُمّ جرتْ مواقع بين الجيش المصري والجيش العثماني والمُنضمّين إليه مِن البلاد يطول بذكرها الخَطب، ولا يتعلّق به غرضٌ في تاريخنا هذا طوينا دونها صفحاً.

ولمّا أرسل السرعسكر إلى بيت شباب عمر بك النمساوي العثماني ومعه الأمير خنجر الحرفوش ولبنانيّون وزّع على أهلها أسلحةً، فالتقاه الأمير مسعود إلى عيون العلق وحاربه فرجع إلى جونية، وما زالتْ عساكر الدولة وحلفائها مجدّين في مُحاربة المصريّين، وكان الأمير بشير مِن أنصارهم هو وأحلافه مِن الأُمراء والمشايخ، إلى أنْ انتهى الأمر بانتصار العثمانيّين وبالقبض على الأمير بشير وأولاده، وإبعادهم إلى مالطة وانتهاء حُكمه.

ولم نقف في خلال تدوين هذه الوقائع على ذِكر للأمير خنجر وأخيه، ولكنّه ورد خبر لإقبال الأمير محمّد الحرفوش بجماعته مُنهزمين مِن خان سعسع، وانضمّوا إلى الأميرين عبد

٦٣

الله والأمير قيس في قرية الصوبرة، وفي اليوم الثالث نهضا إلى بلاد بعلبك، ومنها إلى الزبدانة فالتقاهما الأمير خنجر الحرفوش بفرسانه وانضاف إليهما، ومِن الغد انطلق إلى قرية الهامة، وفيما هُما في الطريق بلغهما قيام إبراهيم باشا بعساكره مِن دمشق فباتا تلك الليلة في الهامة، ووضعا أرصاداً خوفاً مِن أنْ تدهمهما الأعداء، وكانت عساكرهما في نحو ألفي فارس.

ولا كبير فائدة لنا ولموضوع كتابنا في تتبّع الأحداث الّتي حصلت بعد نهاية حُكم الأمير بشير وطرد المصريّين واستقرار الأمر للعُثمانيّين، كما أنّنا لم نجد في أثنائها ما يُدوَّن مِن أخبار الحرافشة إلى سنة ١٨٤١م حيث وقعت الحرب بين الدروز والنصارى، فإنّ الأمير أحمد سلمان ومعه الأمير عبد الله شديد مُراد والأمير مصطفى قايدبيه اللمعيّين لمّا زحف بعسكره إلى زحلة التقاه أهلها إلى ثعلبايا بأولئك الأُمراء ومعهم أُمراء مِن آل حرفوش، ولمّا زحف الدروز مِن البقاع على زحلة - وكانوا نحو ستة آلاف مُقاتل - التقاهم العربان بألفي فارس، ولمّا أقبلوا عليها وأحدقوا بها مِن الجنوب والشرق والأمير خنجر بجماعته إلى جهة الفرزل متأهّباً للهرب إنْ ظفرتْ الدروز، وانتهت المعركة بانكسار الدروز، وكان ذلك في ولاية عُمر باشا العُثماني.

ما كَتب المطران يوسف الدبس عنهم في تاريخ سورية:

ج٧ سنة ١٦٠٢م في هذه السنة كبس الأمير موسى بن الحرفوش مع جماعته جبة بشري، فنهبوا البيوت واستاقوا الماشية، ولمّا بلغَ ذلك يوسف باشا جمعَ جنوده وأهل الناحية نحو خمسة آلاف رجُل، وسار فيهم فكبس مدينة بعلبك فهرب أهل المدينة، فنهبوا وقتلوا مَن أدركوا، واحتمى شلهوب بن النبعة مع بعض الحرافشة وكثير مِن أهل المدينة في قلعة بعلبك، فأحرق يوسف باشا قرية الحدث في بلاد بعلبك وحاصر القلعة خمسين يوماً، ثُمّ ملكها وقَتل ابن فاطمة ورعد بن نبعا؛ لأنّه كان مع الأمير فخر الدين في وقعة نهر الكلب، وقَتل ابن أخيه الأمير علي، ثُمّ نادى بالأمان.

وفي سنة ١٦١١م قدم نصوح باشا إلى حلب وأرسل يطلب مِن الأمير فخر الدين خدمة للسلطان، فأرسل له خمسة وعشرين ألف قرش

٦٤

أُخرى بعد أنْ كان أرسل مع كتخداه قبلها ٢٥ ألفاً وخيلاً وأسلحة، ومع ذلك لم يصفُ خاطره عليه، وكان مؤاخذاً له؛ لأنّه أنجد الأمير يونس الحرفوش والأمير أحمد شهاب ضدّ أحمد باشا حافظ دمشق، ولأنّ ما قدّمه كان أقلّ ممّا أرسله إلى مُراد باشا سلفه مع ابنه الأمير علي.

وفي سنة ١٦٢٢م عزل والي دمشق جماعة الأمير فخر الدين عن ولاية نابلس وعجلون، وبلغَ الأمير فخر الدين أنّ ذلك كان بدسيسةٍ مِن الأمير يونس الحرفوش فساءه ذلك، ونهض مِن بيروت إلى قب الياس، وطلب إليه الأمير حسين ابن الأمير يونس الحرفوش فحضر لديه، فادّعى عليه الأمير فخر الدين بأنّه اشترى مِن الأمير منصور بن فريخ دار قب الياس وأرض تل نحرا وغيرهما مِن العقار في البقاع، وقد غصبَ هو وأبوه هذه الأملاك فيلزمهما أنْ يرفعا يدهما عنها، فأنكر ذلك الأمير حسين وفرّ إلى بعلبك، وتوجّه هو وأبوه إلى الزبداني، فأمر الأمير فخر الدين بنهب البقاع، فنهبها رجاله وضبطوا ماشيتها، وأخذوا كلّ ما وصلت أيديهم إليه إلى لبنان وهدموا دار قب الياس، فتوجّه الأمير يونس الحرفوش إلى دمشق، ودفع لواليها ألف ذهب زيادةً في المال المُرتّب على صفد وعجلون، فولاّه سنجق صفد، وولّى على عجلون الأمير بشير قانصوه حليف الأمير يونس، وتعصّب لهما الأمير أحمد طربيه والشيخ أحمد الكناني - مِن حكّام تلك النواحي - فأرسل الأمير فخر الدين إلى الأمير علي الشهابي وإلى حسن الطويل أنْ يُحرقوا قُرى عجلون، فأحرقوا منها فارا وحلاوة والخربة، وأحرق كيوان آغا ناظر عكا جميع قُرى الهرمل.

وسار الأمير فخر الدين في ألفين وخمسمئة سكماني لغزو بلاد الأمير أحمد طربيه والأمير بشير قانصوه، وترك الرجّالة في جنين وزحف بألف وخمسمئة فارس إلى نهر العوجاء فنهبوا المواشي والأثاث، فاجتمع عليهم العرب وقاتلوهم واسترجعوا ما نهبوا، وقُتل مِن الفريقين جماعةٌ، ونكص الأمير في فُرسانه إلى خان جلجولية، وكذلك قَتل الأمير أحمد طربيه نصوحا بوكباشي الأمير فخر الدين في ساحل عكّا، واستردّ ما كان انتهبه مِن الماشية، وسعى الشيخ درويش وكيل الأمير فخر الدين بالآستانة، فنال أمراً بتقرير سنجق صفد على الأمير علي بن فخر الدين، ولمّا بلغَ ذلك الأمير فخر الدين توجّه إلى صفد، فهرب الأمير يونس الحرفوش مِن أمامه، فرتّب أُمور صفد

٦٥

وعرج عند عودته على الكرك، فقَتل رجاله ثلاثين رجلاً مِن أتباع الأمير يونس الحرفوش، وأحرقوا الكرك وسرعين وغيرهما مِن قُرى بيت الحرفوش.

ويُقال: إنّ السبب في ذلك هو أنّ الأمير موسى الحرفوش كان قبلاً يُسلّم قسماً مِن أملاكه لمُزارعين مِن الشوف، ولمّا تولّى بلاد بعلبك استفحل أمره، واقتنى نحو أربعين قطيعاً مِن المَاعز، وأشغل نحو ألف فدّان في حراثة الأرض لحسابه، ومنع أهل الشوف مِن الزراعة بالبقاع.

وفي سنة ١٦٢٣م وقعتْ نِفرة بين مصطفى باشا والي دمشق وبين الأمير فخر الدين، فنهض الوزير المذكور مِن دمشق في عشرة آلاف مُقاتل وانضمّ إليه الأمير يونس الحرفوش وآل سيفا، والتقاه الأمير فخر الدين ومعه الأمير علي الشهابي وأخوه الأمير أحمد، والتحم القتال عند نبع عنجر في لبنان الشرقي، وكان الظَفر للأمير فخر الدين، فشتّت رجالُه عسكرَ الوزير وقَتل وأسَر، وبقي مصطفى باشا وليس حوله إلاّ عشرة رجال مِن خواصّه، ووصل إليه الأمير فخر الدين، ولمّا عرفه ترجّل عن جواده، وقبّل ذيله، وأكرم رجاله، وأركبه جواده، وأرسل بعض حاشيته بخدمته إلى قب الياس، وسار الأمير فخر الدين في أثره إلى هُناك، ودخل على الوزير مُعتذراً له عمّا كان، فاعتذر له الوزير أيضاً عن نهوضه إليه ونسبَ ذلك إلى الأمير يونس الحرفوش، وخَلَع الوزير على الأمير، وقرّر عليه وعلى جماعته سناجق عجلون وصفد ونابلس والبقاع العزيز.

ثمّ سار الوزير والأمير إلى بعلبك ففرّ الأمير يونس الحرفوش إلى معرة النعمان، وغَنِم عسكر الأمير غلال آل حرفوش - وكانت نحو ثلاثين هريا (حاصلاً) - فانتفع بها القوم مِن وادي التيم إلى جبة بشري، وحاصر الأمير القلعة وقُتل مِن جماعته وممّن كانوا ينقبون في جدرانها نحو أربعين رجلاً، وورد الخبر أنّ مُراد باشا صاحب حلب قَبض على الأمير يونس الحرفوش وسجنه في قلعة سلمية، فقطع رجاله الّذين كانوا بالقلعة رجاءهم، وسلّموها إلى الأمير فخر الدين فأمر بهدمها.

وفي سنة ١٦٢٥م أقرّتْ الدولة الأمير فخر الدين على ولاية بعلبك، فهرب الأمير حسين ابن الأمير يونس الحرفوش إلى حلب، وأخذ يسعى عند وزيرها على الأمير فخر الدين، وممّا قاله: فليطلب الوزير رفعَ يدِ الأمير فخر الدين عن القلاع الّتي بيده، فإنْ رفعها اِقطع رأسي، فأمسكه الوزير في قلعة حَلب تحت هذا الشرط.

٦٦

وفي سنة ١٦٢٦م بعد تولّي خليل باشا الصدارة بعد عزل الحافظ أحمد باشا عنها، وكان عازماً على مُحاربة الأمير فخر الدين، فأرسل الأمير إليه بكباشه عبد الله يعده بخزائن كثيرة، وتسليم قلعة الحصن وصافيتا وشميسة والمرقب إليه، فارتضى بذلك وقَتل الأمير حسين يونس، وتحوّلت العساكر إلى بغداد لمُحاربة العَجم.

وفي سنة ١٦٣٦م جعل مصطفى باشا والي طرابلس مرضي آغا متسلّماً تدبير شؤونها، فولّى على عكار الأمير عساف سيفا، وعلى جبيل البترون الشيخ عليّاً والشيخ أحمد ابني قانصوه حمادة، وجمعَ الأُمراء الحرافشة العَرب والسكمان وقصدوا استرداد ولايتهم على بعلبك، وعلِم بذلك والي دمشق فأرسل إليهم عسكراً، فقتلوا مِن الحرافشة خَلقاً كثيراً.

وفي سنة ١٦٧١م استنجد الأمير علي الحرفوش والي دمشق على أولاد عمّه الأمير عُمر والأمير شديد والأمير يونس، فأنجده وهزم أولاد عمّه المذكورين، ونهبَ أموالهم وأحرق دورهم وتولّى على بلاد بعلبك.

وفي سنة ١٦٨٠م تولّى الأمير فارس الشهابي بلاد بعلبك، وسار إلى قرية نيحا الّتي فوق الفرزل، فجمع الأمير عُمر الحرفوش الحماديّة ورجالهم، ودهمه ليلاً فقتله وقتل مِن جماعته خمسةً وعشرين رجلاً، ولمّا بلغَ ذلك الأمير موسى نهض برجاله مِن حاصبيا وصحبه الأمير علي مِن راشيا قاصدين أخذ الثأر، ففرّ الأمير عُمر الحرفوش مِن بعلبك واستغاث بالأمير أحمد المعني لإجراء الصُلح بينه وبين الأُمراء الشهابيّين، فسار الأمير أحمد إلى بعلبك وعَقد الصُلح بينهم على شرط أنْ يدفع الحرافشة لآل شهاب كلّ سَنة خمسة آلاف قرش وجوادين مِن جياد الخيل ديّةَ الأمير فارس.

وفي سنة ١٦٨٦م صدرَ الأمر العالي إلى علي باشا النكدلي والي طرابلس أنْ يُحارب الأمير شديد الحرفوش؛ لأنّه نهب قرية رأس بعلبك وأحرق قلعتها، فاستحضر المُقدّم قيدبيه بن الشاعر وأبا فاضل رعد مِن الضنية وابن دندش مِن عكار، وكَتب إلى الأمير بشير الشهابي أنْ يُنجده بالرجال فأنجده، وزحف الوزير إلى بعلبك، فهربَ الأمير شديد إلى بلاد جبيل مُستجيراً بالمشايخ الحماديّة، فنزلَ الباشا على العاقور فأحرقها وأحرق أربعين قريةً مِن قُرى المتاولة، وقطعَ أشجارها ودكّ إلى الأرض دار الشيخ

٦٧

حسين في ايليج، ونقض قبرَ الأمير عُمر في طيرزيا، واهتدى عسكره إلى خباياهم في مَغارة قنات ففتحوها.

وفي سنة ١٧٤٧م تولّى الأمير ملحم بلاد بعلبك، وسيَّر إليها أخوَيه الأمير أحمد والأمير منصوراً يُديران شؤونها، فأبطئا في أداء بعض مالها، فكَتب إليه الوزير يطلبُ المال وشُدّد عليه الطَلب وأغلظ له الخطاب، وكان أسعد باشا يبغض الأمير ملحماً لالتحامه مودّة مع أخيه سعد الدين باشا العظم والي صيدا - وكانت بين الأخوين نِفرة - فوجس الأمير ودعا أعيان بلاده إلى اجتماع بالباروك للتشاور والاهتمام بجمع المال الباقي، وبلغَ أسعد باشا هذا الاجتماع فوجّه رسولاً لطلب المال في الظاهر وأسرَّ إليه أنْ يتجسّس أعمال الأمير وما ينويه، ففطن الأمير لِما أبطن؛ فأظهر للرسول البأس والشدّة وصرفه غير راضٍ. ولمّا بَثَّ لأسعد باشا بعد عوده ما رآه عزم الوزير على أنْ يَدهم الأمير على غفلةً، فسار مُسرعاً بعسكرٍ إلى صحراء بر الياس قاصداً قتال الأمير، وكان الأمير يَقِظاً فنهض عاجلاً مِن الباروك بجحفلٍ كبير وحلّ في المغيشة، فلمّا بلغَ الوزير بر الياس مساءً وجد نيران الأمير تسطع على المغيشة، فعَلم أنّه يَقظٌ حَذِر، فعدل عمّا نواه مِن المُداهمة وتلبّث ثلاثة أيّام، وفي اليوم الرابع زحف الأمير بجيشه إلى صحراء بر الياس، فكانت وقعة تغلّب فيها العسكر اللبناني على العسكر الدمشقي، وتتبّعه إلى الجديدة وأهلك منه خَلقاً كثيراً، وعاد الأمير بعسكره إلى البقاع، فنهب ما في قُراه وأحرقها، ووجّه فريقاً مِن عسكره إلى بلاد بعلبك فنهبها وأزاح واليها الأمير حيدر الحرفوش - لأنّه كان مع عسكر الوزير - وولّى مكانه أخاه الأمير حُسيناً؛ لأنّه كان معه.

ولمّا عاد أسعد باشا مِن الحج بلغه ما فعله الأمير ببلاد بعلبك، فاحتدم غيظاً وحنقاً، وأخذ يجمع العساكر لقتال الأمير، ولكنْ لم يطل الوقت إلى أنْ نفذ الأمر السلطاني بضرب عُنقه، وتولّى مكانه ابن عمّه سليمان باشا العظم، وتوفّي سعد الدين باشا العظم والي صيدا وتولّى مكانه عثمان باشا المعروف بالمحصل.

٦٨

ما كَتب الشيخ أحمد الخالدي في تاريخ لبنان في عَهد الأمير فخر الدين المعني عن الحرافشة:

في سنة ١٠٢٣هـ - ١٦١٤م لمّا ساق حافظ باشا الجيوش إلى الأمير علي ابن الأمير فخر الدين في مُدّة غياب والده في توسكانا مِن أعمال إيطالية، ولمّا بلغَ قب الياس وأقام فيه نحو عشرين يوماً اجتمعت عنده عساكر حسن باشا حاكم صفد وصيدا وبيروت، ومحمّد باشا حاكم غزّة، وفروخ بك أمير الحج، والأمير أحمد بن طرباي، وحسين بك ابن الأعوج حاكم حماه بجميع عشائرهم وأتباعهم، ولم يترك واحدٌ منهم أحداً مِن أتباعه، وجميع أُمراء أولاد العرب كالأمير يونس بن الحرفوش، وكان ممّن عيّنه لمُناصرة الشيخ مظفّر على مقاومة ابن معن أُمراء بيت الحرفوش.

وفي سنة ١٠٢٧هـ - ١٦١٧م وقبل هذه الأحوال كان قد صار نصيب للأمير أحمد ابن الأمير يونس بن الحرفوش في مصاهرة الأمير فخر الدين بن معن، وعقد عقدة نكاحه على كريمته، فعزّه الطَمع بتدبير والده وحيله، فجاء وسكن قرية مشغرة، وأسّس بها أساس بُنيان ليُعمّر فيها مَسكناً له فيه يُقيم، وصار يُراسل ويُكاتب بني متوالي مِن المشايخ المتعينين، فطلع إليه مِن شيعته ومِلّته بهدايا: أولاد داغر وأولاد علي صغير وابن منكر الحاج ناصر الدين، بحجّة أنّهم يُسلّمون على قرابتهم الحاج علي بن منكر؛ لكونه كان نازحاً عنهم مُذ رجع الأمير علي إلى البلاد وحَكمها ونازلاً عند ابن الحرفوش الأمير يونس، فلمّا رأى الأمير علي ذلك وعَلِم أنّ مجيء الأمير أحمد المذكور إلى مشغرة مبنيٌّ على فساد، وأنّه ما مراده المجيء إلى هذه القرية إلاّ استمالة بني متوال إليه واجتماعهم عليه، وإنْ كان ظاهره أنّ مُراده بالبناء في مشغرة أنْ يُسكن شقيقه الأمير علي بها، فأرسل الأمير علي لأبيه الأمير يونس بن الحرفوش مع السيّد نور الدين - مِن قرية جبع - يذكر له: إنْ كان مُرادكم محبّتنا وصداقتنا فامنعوا ولدكم الأمير أحمد مِن البناء في قرية مشغرة، ومِن السُكنى بها أيضاً، فإنّه ما يتأتّى مِن ذلك إلاّ العداوة بيننا والبغضاء.

فأرسل جواباً يوهم أنّه صحيح، وقال: نحن ما مُرادنا إلاّ التقرُّب إلى جنابكم بالمليح، وإنّ الّذي خطرَ في بالكم لم يَخطر ببالنا.

وذكر أعذاراً

٦٩

على هذا المنوال غير مقبولة ولا معقولة، فأرسل الأمير علي مرّةً ثانية مع السيّد نور الدين المذكور أنّه: لا بُدّ مِن منع ذلك إنْ قصدّتم صداقتنا على اليقين، وإنْ كان لكم نيّة غير ذلك فعرّفونا بها لنكُن على بصيرة.

فأرسل قرايبه أمير حاج إلى الأمير علي لينوب عنه في الاحتجاج، ويُبيّن الأعذار ويوضّح الأخبار، وأرسل إلى ابنه يمنعه مِن العمارة، ومع هذا كلّه ما انقطعتْ حكاياتهم ومُراسلاتهم إلى مشايخ بني متوالي، وهُم لم يمتنعوا عن التردّد إليه، ويظهر أنّ هذا الأمر أهمّ الأمير عليّاً، وبعث في نفسه سوء الظنّ بالأمير أحمد، فجمعَ جمعاً كان سببه أحوال بيت الحرفوش ومسكنهم قرية مشغرة ليطردهم عنها.

وفي هذه السنة لمّا عاد الأمير فخر الدين مِن توسكانا بعد غيبةٍ دامت خمس سنين وشهرين ووصل إلى عكاء، كان مِن جُملة مُستقبليه جميع مشايخ صفد وبشارة والشقيف وبلاد صيدا حضروا إلى عكاء، وكان قد بلغته أحوال مشايخ بني متوالي ومُقابلتهم لابن الحرفوش في قرية مشغرة، فحين وقعتْ عينه على الحاج ناصر الدين بن منكر مسكه؛ لأنّه مِن أعيانهم، ولمّا وصل إلى صيدا ووفَدَ عليه المُستقبلون مِن الأُمراء والأعيان كان مِن جُملتهم الأمير أحمد بن الحرفوش ومعه تَقدمةً مِن الخيل، ولمّا قبِل كلّ ما تقدّم إليه مِن الهدايا، ورفض قبول هديّة بيت سيفا، مُعاتباً على حرق حسين باشا بن سيفا داره في الدير، في كتابٍ كتبه الأمير علي الشهابي بأمر الأمير إلى يوسف باشا ابن سيفا، فكان جواب ابن سيفا:

إنّ جماعتنا في الحقيقة استدانوا مِن جماعته، ولكنْ كان في ظنّنا أنّه وهبها لنا نظير غِلال مُلكنا الّذي ضبطه في مدينة بيروت وانطلياس وكسروان، وسبحان الله دائماً ما ينظر الأمير فخر الدين إلاّ عداوتنا، والأمير يونس بن الحرفوش قَتل السكمانية الّذين جاؤوا مِن عند ولده مِن البرية، وراح عند الوزير، وتسبّب في هدم القلاع، وأمس أرسل ولده الأمير أحمد إلى قرية مشغرة، وصار يكُاتب بني متوالي وينصحهم ويفسخهم، وأرسل أعذاراً واستطال وكلاماً على هذا المنوال.

ثمّ إنّ الأمير يونس بن الحرفوش أرسل حسين الشارب مع كتخداه إلى الأمير فخر الدين ليتكلّما في مصلحة الحاج ناصر الدين بن منكر الّذي أمسكه الأمير في عكا حين طلعَ مِن البحر؛ لأنّ أخاه الحاج علي بن منكر

٧٠

نزح مِن بلاده إلى بلاد ابن الحرفوش المذكور، وهو يُحسّن لهم بعض أحوال ويعظهم مِن مفاسده بأقوال، فعملوا على الحاج ناصر الدين اثني عشر ألف قرش، وكفلها الأمير يونس، واحتال بها على أرباب الديون الشوّام وصحت الحوالة بواسطة الكفالة، فأطلق الأمير فخر الدين سبيل الحاج ناصر الدين بعد أنْ أخذ التمسك مِن ابن الحرفوش على المنوال المذكور.

ولمّا توجّه الأمير فخر الدين مِن مقرّه صيدا إلى عكّا، وفرّق القُصّاد على سائر البلاد لجمعِ المال المتأخّر مِن الضرائب - وذلك في أواخر هذه السَنة - فرّتْ مشايخ بلاد بشارة: بيت شكر وأولاد علي صغير إلى الأمير يونس ابن الحرفوش، ولمّا بلغَ الأمير هَياج مشايخ بلاد بشارة أرسل فهُدّمت بيوت آل شكر في عيناثا، والحاج علي بن شامة في بنت جبيل، وفرحات بن داغر في قرية أنصار، والحاج ناصر الدين بن منكر في قرية الزريرية، وولده في قرية حومين الفوقا، وضبطَ جميع غلاّتهم.

في سنة ١٣٢٨هـ - ١٦١٨م جمعَ الأمير فخر الدين الجيوش لمُحاربة ابن سيفا، وكان الأمير يونس بن الحرفوش مِن مُناصريه، ولمّا كان الأمير فخر الدين مُحاصِراً برجاله الحصن، وتقرّرت طرابلس لابن سيفا مِن قِبَل محمّد باشا الوزير على يد باكير آغا، وفي خلال هذه المُدّة توجّه الأمير يونس وحاصر برج القيرانية - الّذي فيه جماعة ابن سيفا مِن السكمانية - وتسلّمه في ثلاثة أيّام، وضبط ناحية القيرانيّة والهَرمل في هذه الغفلة، ولو اتكل الأمير إليه لما حصل له ذلك، وجميع المَعز والطرش الّذي انهزم مِن بلاد عكار والحصن ضبطه وأخذه لنفسه.

وأرسل ابن الحرفوش أربع بلوكباشية مِن سكمانيته إلى الحصن لأجل المُحاصرة، وتضايقَ جميع مَن في القلعة مِن الحصار والعَزق، لأنّهم دخلوا القلعة على حين غَفلة.

وفي سنة ١٠٣٠هـ - ١٦٢٠م في المُحرّم الحرام قدِم الأمير حسين ابن الأمير يونس بن الحرفوش وكواخي والده وجماعته عند الأمير فخر الدين بيروت خاطبين كريمةَ الأمير للأمير أحمد ابن الأمير، فتوجّه الأمير إلى مدينة صيدا وقضى لهم مُرادهم، وعاد كلٌّ منهم بما حصل له في المُجابرة، وأرسل كريمته مع المتعيّنين مِن أعيان جماعته، وتوجّهوا إلى قب

٧١

الياس، وجاء الأمير يونس ولاقاهم بها وراعى جميع الّذين توجّهوا مِن قِبَل الأمير فخر الدين حقّ رعايتهم.

وفي شهر رمضان مِن هذه السنة توفّي الأمير أحمد ابن الأمير يونس بن الحرفوش الّذي كان مُتأهّلاً بكريمة الأمير فخر الدين، كما ذكرناه سابقاً.

وفي سنة ١٠٣١هـ - ١٦٢١م عُيّن مصطفى باشا خَلفاً لمرتضى باشا، فبوصوله للشام عَين الحاج كيوان ليذهب إلى عند الأمير فخر الدين بطلب مالٍ دفعه إلى خزينة الشام في نفقات العسكر وخدمة الاستقبال، فتوجّه الحاج كيوان على طريق بعلبك، واجتمع به الأمير يونس بن الحرفوش، وتكلّم معه أنْ يكون واسطةً عند الأمير فخر الدين في إبقاء كريمته الّتي كان تأهّل بها ولده الأمير أحمد ومات عنها، فوصل إلى مدينة صيدا وتكلّم مع الأمير فخر الدين بسبب عشرة آلاف ذهب يدفعها لخزينة الشام سلفاً فدفعها إليه، وكذلك كلّمه بسبب مصلحة الأمير يونس بن الحرفوش، وأنّه يُعطي ثمانية آلاف قرش، فقبل سؤاله وجعله وكيلاً هو والسيّد نور الدين مِن جبع في إجراء النكاح للأمير حسين على كريمة الأمير فخر الدين فأجروه عليه.

وفي سنة ١٠٣٢هـ - ١٨٢٢م وبالتقدير كان الأمير يونس ابن الحرفوش أرسل مَكتوباً إلى كرد حمزة بلوكباشي يُعلمه فيه بعزل ابن معن عن صفد، وعمّا صار في جماعته في نابلس وعجلون، وضبطِ الأمير بشير جميع الطرش والمواشي، وأظهر فيه البُغض، وشدّد على كرد حمزة باغتنام هذه الفرصة؛ لأنّها في كلّ وقت لا تَقع، فاختلط هذا المكتوب مع المكاتيب الّتي أراد كرد حمزة إرسالها للأمير فخر الدين؛ لأنّه أُمّي لا يقرأ ولا يَكتب، ولو عَلم بذلك لَما أرسله، فلمّا اطّلع الأمير فخر الدين على ذلك تغيّر خاطره على بيت الحرفوش، لأنّه كان السبب في رفعتهم بعد أنْ كانوا رُذّلاً، وذلك لأنّه لمّا جاء علي باشا بن جنبلاط إلى مملكة الشام - في أثناء سَنة خمس عشرة وألف - توجّه الأمير موسى بن الحرفوش إلى دولة الشام، وأفرق عنه ابن عمّه الأمير لعند الأمير فخر الدين، وما معه سوى مقدار عشرة خيّالة حتّى قيل: إنّ الأمير موسى كان يُقسّم على فدادينه الّتي كان يشدها في بلاد بعلبك والبقاع بسوية واحد مِن جماعته، فوقّفه الأمير فخر

٧٢

الدين في بلاد بعلبك والبقاع لوفاة الأمير موسى بالشام، لأنّه لم تطل مدّته بها، وظل الأمير يونس حاكماً بالبلاد المذكورة مِن ذلك الحين وإلى هذا الحين، وتقوّى في شدد الفدادين حتّى قيل: كان له ولأولاده مقدار ألف فدّان وأربعون قطيعاً مِن المَعز، وتوسّعت عليه الأرزاق ولم يَشكر عليها المولى الرزّاق، وباع في سنة الغلاء بأغلى الأسعار فما رعى النعمة الّتي كان فيها مِن قوّة نفسه على ابن مَعن وغيره مِن أُمراء أولاد العَرب، وصار يمنع أهل الشوف مِن الزراعة في أرض البقاع، فأضرّ ذلك بالزُرّاع، وأيضاً كانوا اشتروا بعض أملاك في تلك البقاع مِن زمن الأمير منصور بن الفريخ ولم يُمكّنُهم مِن التَصرّف فيها، وضَبطها كلّها لنفسه. وكذلك كان للأمير علي بن معن بعض تيمار قريب مِن قب الياس يُسمّى تل النمورة، فأرسل إليها مُباشراً مِن قِبَله، فمنعه الأمير حسين بن الحرفوش، فراجعه بمكتوبين بسببها فما أمكن، فلمّا ظهرتْ مِن بيت الحرفوش هذه الأحوال ركبَ الأمير فخر الدين مِن بيروت في أوائل شهر ذي القعدة الحَرام مِن السَنة المَذكورة، وصحبته بلوكباشيان بنفرٍ بعضهم خيّالة وبعضهم مُشاة، لأنّه كان أرسل جميع سكمانيته إلى صفد، ونزل عند سكمانيته الّذين كانوا عند الأمير مدلج، ونزلوا تحت حارة قب الياس، واجتمع بهم وأعطاهم علوفتهم وبخشيشهم - لكلّ نفرٍ ثلاثة قروش علوفة وقرشان بخشيش - فطلعَ الأمير حسين مِن حارة قب الياس واجتمع بالأمير فخر الدين، وعزمه إلى ضيافته فقبل منه، وتوجّه بصحبته ومعه بعض سكمانيته، ودخل الجميع إلى حارة قب الياس، فلمّا استقرّ بالأمير فخر الدين الجلوس في الحارة أبرز مِن يده تمسكات وحُججاً وحُكماً سلطانيّاً بمشترى الأمير فخر الدين حارة قب الياس مِن تركة الأمير منصور بن الفريخ، وعَرضَها على حسين وقال له:

على موجب هذه الحُجج الحارة مُلكنا، أسكنّاك بها هذه المدّة الطويلة والآن احتجنا إلى موضعنا، تَوجّه غداً إلى والدك بالأمن والأمان.

فلمّا سمع الأمير حسين هذا الكلام تغيّر حاله، وما أمكنه ردّ الجواب، وودّع الأمير فخر الدين، فقال له:

قلْ لوالدك الأمير يونس لا تُنافسونا على موضع نحن أدخلناكم إليه، ولا مُرادنا حُكم بلاد البقاع، وإنّما قصدنا أخذ حارتنا وهدمها، ونفس صداقتنا لكم أنفع مِن كلِّ شيء.

فلمّا سمعُ السكمانيّة النازلون تحت حارة قب الياس بالّذي صار نهبوا البلد، وكان في هذا المحلّ الحاج كيوان حاضراً،

٧٣

لخروجه مِن الشام بسبب ما صار بينه وبين عسكرها مِن مُنافرةِ الخواطر.

وأمّا الأمير حسين بن الحرفوش، لمّا وصل عند والده الأمير يونس وأعلمه بما صار ارتبك بحاله، وجميع أهالي بعلبك وبلادها أخلوها وراحوا إلى الزبدانة وغيرها، ولو كان للأمير فخر الدين قصدٌ في ضَررهم لمشى عليهم بالموجودين عنده في قب الياس، ولكنّه لم يقصد ذلك، وإنّما قصد هَدم الحارة، لأنّها مُشتراه كما عَلمت، وأراد أيضاً توطية نفوسهم عمّا كانوا عليه.

وأمّا أهل بيت الأمير حسين - كريمة الأمير فخر الدين - فاستمرّت في الحارة عند والدها، وبعد ذلك أرسل الأمير فخر الدين كريمته إلى والدتها بصيدا، وأعطى إجازة لجميع أهل الشوف والجرد والمتن مِن مشايخ ومقدمين وفلاّحين بأخذ غلال بيت الحرفوش الّتي في البِقاع، وظلّوا شهر زمان ينقلونه ليلاً ونهاراً حتّى خلّصوه، لأنّه كان ذلك في أيّام دياسة البيادر، وكذلك جميع طرشهم الّذي كان عند عرب البقاع أرسل الأمير فخر الدين مَن ضبطه، وكان أزيد مِن ستمئة رأس مِن جاموس وبقر غير الّذي أخذه الناس، وأرسل خَلف المعلمين والقلاعين مِن مدينة صيدا وبيروت وشرعوا في هَدم الحارة.

وأمّا الأمير يونس الحرفوش، فإنّه لمّا بلغه توجُّه الأمير فخر الدين مِن قب الياس أرسل إلى كرد حمزة بلوكباشي، وأتى به مِن حمص واتّفق معه وطلعا مَعاً إلى الشام، واجتمعا بمصطفى باشا الشام وباقي عساكرها، وذلك لأنّه بعد أنْ طلعَ الحاج كيوان مِن الشام بقي بيد كرد حمزة بلوكباشي جميع الأخذ والعطاء، ولا فوق يده يد، ولا فوق كلامه كلام، وجعلوا للباشا خدمةً ومالاً، ومهّدوا أُمورهم على أتمّ منوال، وبالتقدير توفّي بوستانجي باشا الّذي كان جاء ليتسلّم سنجق صفد، فكتبوا سنجقها مِن عند باشا الشام على الأمير يونس بن الحرفوش بزيادة ألف ذهب، وألبسه الباشا خِلعةً، وكَتب عليه المُقاطعة وأعطاه حُكم التحويل، وكذلك كتبوا أيضاً على الأمير بشير سنجق عجلون، ودفعَ الأمير يونس مالَ مُلاقاة الحج المُعتاد على بلاد عجلون خمسة آلاف ذهب، ودفع أيضاً عشرة آلاف ذهب بطريق السَلف مِن مال بلاد صفد راجياً أنْ يضبطها، ويجد لماله خَلفاً، فلمّا بلغَ الأمير فخر الدين نزول ابن الحرفوش إلى الشام وأخذه لسنجق صفد كَتب مكاتيب مِن المنية لباشا الشام وأوجاق اليكجرية والدفتردار: إنّه بلغنا أنّ

٧٤

ابن الحرفوش زاد على سنجق صفد ألف ذهب وقبلتم منه ذلك، فنحن عندنا خدمةً لحضرة مولانا السُلطان على بلاد بعلبك مئة ألف ذهب، وإنْ كان عندكم غَرضٌ نفسيٌّ وهوى يصير فتنة، وقال: وقيل ولكلّ امرئ ما نوى، وإنْ قبِلتم زيادة ألف ذهب ولم تقبلوا مئة ألف ذهب تَحضر لديكم فالأمر إلى الله تعالى ثُمّ إليكم، فلمّا وصلتْ هذه المكاتيب إلى الشام لم يلتفت أحدٌ إليها، وصار الّذي يقوله كرد حمزة بلوكباشي هو الّذي يكون، وما لأحد قدرةٌ على ردّ كلامه.

وبعد أنْ أتمّ الأمير يونس أعماله بمدينة الشام عاد إلى مدينة بعلبك بجميع سكمانيته ورجالاً وأقواماً بعد أقوام، ويعطيهم البخشيش.

وفي هذه السنة لمّا رفضَ والي الشام العمل بالأوامر الصادرة مِن السُلطان بضمّ صفد وعجلون ونابلس إلى الأمير فَخر الدين، وتعيين ولده الأمير حسين عليها؛ ظنّاً مِن الوالي أنّها مُزوّرة، أدّى ذلك إلى اهتمام الأمير بطرد العُمّال على تلك المُقاطعات، ثُمّ إلى حربٍ نشبتْ بين جيشه وجيش الوالي ومَن انضمّ إليه.

يقول الخالدي:

وأمّا الأمير علي بن معن، فقد ظلّ في بيروت غير مُهتمّ بالأمر، غير أنّه لمّا بلغه طلوع باشا الشام وجمعيّة الأمير يونس بن الحرفوش للرجال، وكذلك جمعيّة يوسف باشا بن سيفا عنده في طرابلس، وإرساله ولده الأمير عمر سنجق حمص بجميع خيّالته وعشيره وسكمانيته إلى الأمير يونس بن الحرفوش لبعلبك وسواهم، وكانت الأخبار تجيء أنْ الجمعيّة في بلاد بعلبك ثلاثة آلاف خيّال مِن عرب وسكمانية وأهل البلاد.

وفي هذه السَنة - بعد رفض الوالي مصطفى باشا العمل بمضمون الأوامر كما سبق - أخذ الأمير فَخر الدين في حشدِ رجال البلاد الّذين هُم مِن حزبه مع جيشه، كما أخذ يَنضمّ إلى والي الشام خُصوم الأمير، ومنهم الأمير يونس بن الحرفوش.

قال الخالدي:

وليلة الأحد في السابع والعشرين مِن ذي الحجّة كان الأمير يونس بن الحرفوش وابنه الأمير حسين وجميع أقاربه ورجال بلاده وسكمانيته، والأمير عمر بن سيفا بجميع رجاله وسكمانيته، والأمير عباس وعَربه وتركمان بلاد بعلبك وحمص، وعرب آل موسى جاؤوا مِن مدينة بعلبك، ونزلوا على جسر دير زينون مِن معاملة البقاع متوجّهين إلى الشام للاجتماع بالباشا وعسكرها المُجتمع في

٧٥

تلك البقاع، وفي تلك الليلة أيضاً كان وصل الأمير فَخر الدين بجميع سكمانيته والعشير، والأمير علي بن الشهاب بجميع رجال بلاده الّذين كانوا مع الأمير فَخر الدين في الجانب القبلي، ونزلا على جسر القرعون مِن تلك المُعاملة، فعَلِم الأمير فَخر الدين بهم وعزم على أنْ يسري تلك الليلة ويربط عليهم وادي المجدل، ويكون لهم في المُقابلة ويجعل الموقعة معهم في المكان المَذكور؛ لأنّه محلٌّ وَعِر، فصار الخُلْف مِن السكمانية الّذين معه واختاروا على الحرب الدِعة، وما صار نصيبٌ؛ لأمر يُريده الله تعالى القريب المُجيب.

وأمّا الأمير يونس بن الحرفوش والأمير عُمر، فما أكحلوا ليلتهم في دير زينون، بل سَروا ليلاً على ضوء المشاعل، وما أصبحوا إلاّ وهُم في الديماس نازلون.

وفي نهار الاثنين الثامن والعشرين مِن الشهر المذكور توجّه الأمير علي ولاقى والده في أرض المضيق، وعادوا إلى قب الياس، ووصلوا إلى الخيام ضحوة النهار، ولم ينزل الأمير فَخر الدين عن جواده ونبّه على جميع الخيّالة أنّهم يتوجّهون معه إلى بيادر قرية كرك نوح ليجلبوا منها الشعير للعليق، لكونه بلا دراهم ولا فتوح، فسار بهم وأبقى الرَجّالة مُقيمين في الخيام، وكانت الخيّالة تَزيد عن ألفَي خيّال مِن غير السيّاس والبِغال، وكان الأمير يونس بن الحرفوش قد عيّن في الكرك أزيد مِن مئة بندقيّة مِن أهلها وغيرها، وعيّن عليهم مملوكه سوباشي البلد وابن الغتمي، فلمّا رأوا كثرة الخيل وهجومها عليهم دخلوا إلى مزار سيدنا نوح (على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام)، وصاروا يرمون بالبنادق مِن طاقات المزار، فلمّا رأى الأمير فَخر الدين منهم ذلك حثّ الناس، فنزلوا إليهم وكسروا الباب بالفؤوس والأطبار، وهجموا عليهم ليمنعوهم مِن الهزيمة والخلاص، وقُتل في تلك الساعة مِن جماعة ابن معن خمسة رجال بالرصاص، وقَتل مِن أولئك مقدار ثلاثين أو أربعين قتيلاً، والّذين سَلِموا منهم مقدارهم، فطلعوا إلى المأذنة واحتموا بها، فعند ذلك أرسل الأمير فَخر الدين إلى ولده الأمير علي وأخيه الأمير يونس أنْ يحضروا إليه بجميع رجالهما، ما عدا الطائفة السكمانية فإنّهم يبقون في الخيام لحفظها مِن الأذيّة، فتوجّهوا جيمعاً إلى الكرك، ودخلوا إليها وقت العشاء لينصبوا لمَن في المأذنة الشَرك، فوجدوهم نزلوا على يد الأمير علي بن الشهاب بالأمان، فبات الجميع تلك الليلة بها، ثُمّ أصبحوا نهار الثلاثاء أرسلوا إلى

٧٦

بيروت المرابيط، فكان يغلق عليهم السجن بالليل، وحرق العشير جميع البلد حتّى لم يُبقوا بها بيتاً واحداً بلا حريق، وتوجّهوا منها مُسرعين إلى قرية سرعين الّتي كانت قديماً مسكناً لبيت الحرفوش، فوجدوا أهلها طالعين بأهلهم صوب الزبدانة، فلحقهم بعض العشير وكسبوا منهم مكاسب، واستمر الأمير فَخر الدين بالبلد إلى قُرب الظُهر حتّى أتمّ العشير حرقها، ولم يُبقوا بها شيئاً مِن البيوت العامرة أصلاً بلا حرق، وكانت هي وقرية الكرك مِن أحسن البلاد، بهما مياهٌ جاريةٌ وفواكه وبساتين وأعناب وتين، وجميع بساتين سرعين للأمير يونس بن الحرفوش وأولاده وأقاربه.

فلمّا سَمعَ أولاد الأمير يونس بن الحرفوش وجماعته الّذين في بعلبك بالّذي صار في سرعين والكرك مِن القتل والحريق ضاقت نفوسهم بهم أيّ ضيق، وأرسلوا أعلموا والدهم الأمير يونس بالشام، وتحصّنوا بمدينة بَعلبك، ولو أراد الأمير التوجّه إليهم في ذلك الوقت لكان ذلك عليه سهلاً، ولكنّه عاد مِن سرعين في ذلك النهار على الجبل الشرقي، وأحرق العشير القُرى الّتي وجدوها في طريقهم مِن بلاد بعلبك، ووصلوا إلى نبع عنجر بعد العصر بساعتين وظلّوا سائرين، وما باتَ الأمير وغالب العشير إلاّ في قب الياس، وبعض الناس مِن العشير باتوا في قرية بر الياس مِن بلاد البقاع وهُم نَفرٌ يسير، فأرسل الأمير يونس بن الحرفوش خيّالة بلاد بعلبك وخيّالة سكمانيّته لأجل حراسة بعلبك وبلادها.

واستمرّ الأمير فَخر الدين وولده الأمير علي مُقيمين في قب الياس وعندهما جميع رجالهما.

وفي سنة ١٠٣٣هـ - ١٦٢٣م وصل محمّد بلوكباشي العثابي - الّذي كان توجّه مِن الملاحة إلى الشام - بصور أحكام التقارير، وما معه جواب ولا كِتاب ولا خطاب - هي الّتي تقرّر حُكم صَفد وعجلون ونابلس إلى الأمير عليّ ابن الأمير فَخر الدين - وأخبر أنّ مُصطفى باشا الشام وكرد حمزة وجميع عساكر الشام والأمير يونس بن الحرفوش والأمير عُمر بن سيفا نقلوا الأوثاق إلى خان ميسنون، فجمع الأمير رجاله وعند وصولهم إلى البرج الخراب الّذي على التلّ تجاه نبع عنجر أطلّ عليهم مِن وادي المجدل أوائل العسكر، وكان مِثل البحر الزاخر؛ لأنّه كان أزيد مِن اثني عشر ألف نَفر، تُجمع مِن عسكر الشام عموماً ورجال بيت سيفا ورجال بيت ابن الحرفوش والأمير عبّاس والأمير حسين بن نجم وسكمانية وعرب

٧٧

وتركمان، ولم يتركوا أحداً ممَّن يقدرون على جمعه.

وقد نشبتْ حَربٌ بين الجيوش العثمانيّة ومَن انضمّ إليها وجيش الأمير فَخر الدين، ظفر بها في الأوّل الأوّلون - الجيوش العثمانيّة ومَن انظمّ أليها - ثُمّ ظَفر الأمير فَخر الدين وانهزم جيش والي الشام، وأمعن جيش الأمير في النهب وأسروا مِن عسكر الشام أكثر مِن مئة رجل، وقُتل منهم مَن قُتل، وما ألهى الناس عنهم غير الأوتاق، لأنّه كان عظيماً نحواً مِن ألفي خيمة، وغنمت عساكر ابن معن أثقالهم وجمالهم وبغالهم.

وأمّا مصطفى باشا بكلربكي الشام، فما أمكنه الانهزام مع المُنهزمين، فمُسك قبضاً باليد، فلمّا وصل الأمير فَخر الدين وولده الأمير علي نزلا عن خيلهما وقبّلا ذيله، وعيّنوا معه محمّد بلوكباشي القزار ليوصله إلى قب الياس، وليس معه مِن جماعته وآغاواته سوى مقدار عشرة رجال.

وأمّا الأمير يونس بن الحرفوش والأمير عُمر بن سيفا ورجالهما وكرد حمزة بلوكباشي والأمير عبّاس وعربه، فكلّهم ما باتوا تلك الليلة إلاّ في مدينة بعلبك مُنهزمين، وفي الحال توجّه الأمير يونس وأولاده وعياله إلى حصن اللبوة بعد أنْ أبقى سكمانيّته بقلعة بعلبك، ولمّا وصل إلى اللبوة بلغهُ أنْ الأمير مصطفى بن أبي زيد كان جاء إلى قريب اللبوة قاصداً معاونته، فلمّا بلغه ما صار على عسكر الشام مِن الكسرة والهزيمة عاد على أثره إلى بلاده، وكان الأمير يونس قد أرسل إليه ألف قرش خدمةً فما لحقته، ورجعت الدراهم إلى ابن الحرفوش، وما تعوق الأمير يونس في اللبوة سوى ثلاثة أيّام حتّى أرسل أولاده وعياله إلى قلعة الحصن، وتوجّه هو إلى بلاد حماة وحلب، على ما سنذكره أنْ شاء الله سبحانه وتعالى.

ثُمّ بعدَ انتهاء الحرب رحل الأمير فَخر الدين مِن قب الياس هو ومصطفى باشا والحاج كيوان، ونزلوا في قرية تبنين (تمنين)، ومنها رحلوا إلى مدينة بعلبك، ودخلوها في نهار الأحد ثاني عشر المُحرّم مِن شهور سَنة ثلاث وثلاثين وألف فلم يجدوا بها مِن أُمرائها ولا سُكّانها أحداً غير السكمانيّة الّذين انحصروا في قلعتها، وكانوا تسعة مِن البلوكباشية، ومعهم أزيد مِن مئتي نَفر توفكجية وسردارهم أحمد بلوكباشي بن حرب، أصله القديم مِن قرية الدوير مِن معاملة الشقيف، فنزل مصطفى باشا في دار الأمير شلهوب، والأمير فَخر الدين وولده الأمير علي في دار الأمير يونس بن الحرفوش، والأمير أحمد بن الشهاب والأمير سليمان بن سيفا في دار

٧٨

سيّد أحمد المتأهّل ببنت الأمير يونس بن الحرفوش، وباقي الطائفة والبلوكباشيّة تفرّقوا في المدينة، ولم يجدوا بها غير حواصل الحنطة والشعير، وكانت أزيد مِن ثلاثين حاصلاً لبيت الحرفوش، وتلك غير الحواصل التي وُجدت لهم في قُرى بعلبك والبيادر، فجاء الدور إلى أهالي بلاد كسروان وجبيل والبترون وبشرى في نقل الغِلال وكذلك أهل البقاع، وصاروا ينقلونها بالليل والنهار حتّى أهالي بلاد وادي التيم وعرب آل فضل وغيرهم مِن العربان.

وأمّا الأمير يونس بن الحرفوش وأولاده، فبعد أنْ أبقى سكمانيّته في حصن اللبوة وبرج القيرانيّة، وأرسل عياله مع بعض أولاده إلى الأمير محمود بن سيفا، وهو بنفسه مع كرد حمزة توجّه إلى مدينة حلب، وأرسلوا أُناساً إلى الباب العالي يشتكون، ونزلوا في أوجاق السباهيّة وقابلوا مُراد باشا، وأمر ولده الأمير حسيناً أنْ يبقى في حمص عند الأمير عمر، فلمّا وصل مصطفى باشا إلى بعلبك كَتب إلى مُتسلّمه باشا الشام وإلى كُبرائها وأعيانها أنْ يُلقوا القبض على البلوكباشية واليكجريّة الّذين هُم مِن هوى كرد حمزة، فقُبض على فريق منهم وتفرّق فريق في الأقطار، وفارق الأمير شلهوب ابن عمّه الأمير يونس بن الحرفوش، وقابل الأمير فَخر الدين ومصطفى باشا في بعلبك، فطيّب خاطره وردّ عليه عقله المدهوش.

وبعد أنْ ولّى مصطفى باشا الأمير وأولاده الأُمراء عليّاً وحُسيناً ومنصور، وجرى ما جرى مِن مراسيم وتشاريف سافر إلى الشام، وفي هذه الأثناء جاء الأمير مُستنجداً الأمير مدلج الحياري على ابن عمّه فأنجده، وذهب لنجدته بنفسه وأبقى ولده الأمير عليّاً والأمير أحمد بن الشهاب وجميع رجال الطائفة والعشير في مدينة بعلبك، وأوصاهم أنْ يمنعوا سكمانيّة ابن الحرفوش الّذين في القلعة مِن الطلوع منها لأجل الميرة، ولا يدعوهم يأخذون لهم ذخيرةً ولا حَطباً ولا غيره، وتوجّه الأمير فَخر الدين بجميع خيّالته السكمانيّة الّذين كانوا جاؤوا سابقاً مِن عند الأمير مدلج مِن البرية، وصحب معه ثلاثمئة رجل، وتوجّه معه الأمير سليمان بن سيفا والأمير بلك بن يوسف باشا بن سيفا والأمير شلهوب بن الحرفوش، وظفرَ الأمير بعدو الأمير مدلج، ولمّا وصل في عودته إلى الزراعة الّتي في قاع بعلبك افترق عنه هُناك الأمير بلك إلى عكار، ورحل الأمير إلى القُرى

٧٩

القريبة مِن حصن اللبوة العامرة، وأرسل إلى مرجان بلوكباشي الّذي في حصن اللبوة في التسليم فقال:

نحن تبعٌ للّذين في قلعة بعلبك، فإذا أخذتموهم فنحن في قبضتكم بلا تحكيم، فرحلَ الأمير ووصل إلى بعلبك حادي وعشرين مِن صفر، وفي الحال أمر البلوكباشية والطائفة أنْ يتفرّقوا ويُحيطوا بالقعلة ويُحاصروا مَن بها، فوجد منهم التراخي والإهمال بعد أنْ وعدهم بخمسة قروش بخشيش لكلّ واحد منهم، فاغتاظ عليهم وقاتلهم وبالجفاء عاملهم فأصبح في نهار السبت الرابع والعشرين مِن صفر، ونصب خيمته في الخندق الّذي بجانب السور مِن الجانب القبلي مِن القعلة ليقطع دابر العدو ويقمعه، فلمّا رأتْ البلوكباشية والسكمانية منه ذلك انتشطوا وطلعَ كلٌّ منهم بخيمة ونصبها، ومنهم مَن قعد بالخان (أو الخلف)، ومنهم بالمواضع العامرة الكائنة بُقرب القلعة مِن كلّ وجهة ومكان، وشرعَ في عمل المتاريس والمُحاصرة، وجعل صناديقاً مِن الألواح وملأها تُراباً ووضعها فوق بعضها بعضاً، وجعلها كالحيطان لأجل سترة مَن يجلس وراءها، وحفر أيضاً في الأرض خنادق ودروباً وغطّاها بخشبٍ مِن الحور؛ حتّى إذا مشى فيها أحدٌ لا يراه أحدٌ مِن القلعة فيضربه بالبندق أو الحجارة، وكلّما تخلّص مِن عَمل المتاريس في مكان بدأ في عمل متاريس أُخر إلى جهة الداخل مِن صوب القلعة، واستمر هكذا حتّى وصل إلى حائط القلعة بمقدار عشرين ذراعاً مِن الجانب الغربي، وعيّن تحت الخشب معلمين ينقبون حائطها نقراً بالأزاميل بالليل والنهار لكونها مبنيّة بالحجر الصلد، وصار مَن في القلعة يرمون المعلمين بالحجارة الكبار آناء الليل وأطراف النهار، وكلّ حَجر زِنَته أكثر مِن قنطار مِن الحجارة الّتي على شراريف القلعة، وصار الخَشب الموضوع على الحائط يمنع عنهم وهي مِن الموانع الجسام، وجميع هذه الأفعال مِن عَمل المتاريس والدروب وصفِّ الخَشب باشره الأمير فَخر الدين بنفسه، وكان مُقيماً عندهم بالليل والنهار بحيث أنّ غداءه وعشاءه يُؤتى به إليه في المتاريس، ولا يُفارقهم مقدار شِبر مِن الأشبار، وكان يُقتل بجانبه بالرصاص مِن القلعة الرجل والرجلان ولا يرجع عن المتاريس وتداركه إيّاها ولا يوماً مِن الأيام، بل يستمر راسخاً في ذلك المكان، وكان حوالي القلعة حيطان للبساتين صَفّ عليها الأمير فَخر الدين خشب الحور وجعلها مأوى للسكمانيّة المُجاهرين، لأنّ الأوان

٨٠