تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرجال النجاشي الجزء ١

تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرجال النجاشي14%

تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرجال النجاشي مؤلف:
تصنيف: علم الرجال والطبقات
الصفحات: 409

الجزء ١ الجزء ٢ الجزء ٣
  • البداية
  • السابق
  • 409 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 138234 / تحميل: 8520
الحجم الحجم الحجم
تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرجال النجاشي

تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرجال النجاشي الجزء ١

مؤلف:
العربية

تهذيب المقال في تنقيح كتاب الرجال

للشيخ الجليل ابى العباس احمد بن على بن احمد بن العباس النجاشى

المولود سنة ٣٧٢ ه‍

تاليف السيد محمد على الموحد الابطحى " الاصفهانى "

١

الجزء الأوّل

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه ثقتي الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الانبياء والمرسلين سيدنا محمد وآله الطاهرين المعصومين.

أما بعد فان معرفة أحوال الرواة التي يتكفل لبيانها علم الرجال. مما يجب على كل فقيه مجتهد تحصيلها، ولا يسوغ له تركها وإهمالها.

فان السنة المروية عن النبي الاكرم صلى الله عليه وآله وعن الائمة الطاهرين من أهل بيته عليهم السلام التي بها فسر القرآن الكريم وأخرجت كنوزه وبها يعرف تفصيل شرايع الدين ومعالمه وأحكامه قد إنتهت إلينا بوسائط في رواتها الثقات ومن يجوز الاعتماد على روايته وغيرهم.

وللرواة أصول ومصنفات ربما يوجد فيها مالا يجوز الاخذ به فعلى الفقيه المجتهد تمييز غثها من سمينها بالنظر في أحوال الرواة، وطبقاتهم، وأصولهم ومصنفاتهم، فيعرف مأثورها ومفتعلها كي يأخذ برواية الثقة العارف الضابط ويترك ما رواه الكذاب أو من لا يعرف أو لا يبالي بالحديث.

٢

ولذلك تصدى جمع من الاسبقين من أصحابنا من اصحاب الصادقين عليهما السلام ومن بعدهما من الائمة الطاهرين (ع) لضبط أسماء الرواة وأحوالهم وطبقاتهم وآرائهم وأصولهم ومصنفاتهم وما ورد عن الائمة الطاهرين عليهم السلام في مدحهم او ذمهم مثل الحسن بن محبوب السراد وبني فضال ومحمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ومحمد بن أورمة وأضرابهم من أجلة اصحابنا رضوان الله عليهم كما تقف على ذلك في هذا الكتاب.

ثم إنه على أثر هؤلاء جماعة من أعاظم اصحابنا جاهدوا وأجهدوا أنفسهم جزاهم الله عنا وعن المسلمين أحسن الجزاء بجمع ما تفرق في هذه الكتب واستقصاء مافات منهم وتبويبها ونظمها فألفوا في ذلك كتبا مطولة ضخمة بل خصوا لكل جهة كتابا وذلك بتأليف كتب في أسماء الرواة وأحوالهم واخبارهم مثل كتاب عبدالعزيز بن يحيى الجلودى والعياشي صاحب كتاب معرفة الناقلين وكتاب الاشتمال على معرفة أحوال الرجال لاحمد بن عبيدالله الجوهري وغير ذلك: وكتب في مناقب رواة الحديث ومثالبهم وما ورد فيهم من المدح او الذم مثل كتاب سعد بن عبدالله الاشعري القمي المتوفى سنة ٢٩٩ او قريب من ذلك واحمد بن محمد الكوفي ومحمد بن الحسن بن الوليد والصدوق وغيرهم.

وكتب في طبقات الرواة من صحابة النبي صلى الله عليه وآله وأصحاب الائمة عليهم السلام مثل كتب ابن شاذان والعياشي والصدوق (ره) وابي غالب الزواري وأبي العباس بن نوح وأبي العباس بن عقدة الذي أنهى اصحاب أبي عبدالله الصادق عليه السلام إلى أربعة آلاف وذكر في ترجمة كل واحد رواية له وغير هؤلاء ممن يطول بذكرهم. وكتب في مصنفات اصحابنا واصولهم ورواياتهم مثل كتب أبي نصر

٣

الريان واحمد بن محمد بن عمران الجندي واحمد بن عبدالواحد وجعفر بن محمد بن قولويه وفيهم من استوفى جميع المصنفات والاصول مثل أحمد بن الحسين بن عبيد الله الغضائري رحمه الله فقد عمل كتابين أحدهما في المصنفات والآخر في الاصول واستوفى فيهما على مبلغ ما وجده وغير هؤلاء ممن صنف في فهرست كتب اصحابنا واصولهم كتابا وقد كان شيخ الامامية وزعيمها في عصره الشيخ المفيد (ره) يكرر الرغبة في تأليف كتاب يشتمل على الاصول والمصنفات جميعها ويحث عليه كثيرا ويطلب من الشيخ الطوسي ذلك ولذلك عمل كتاب الفهرست إجابة لطلبه وأداء‌ا لحقه كما نبه عليه في ديباجته الا انه رحمه الله لم يبلغ ما قصده من الاستقصاء وان سعى في ذلك واعتذر بعدم الوصول إلى الكتب والمصنفات لانتشار الاصحاب في البلدان وتفرق كتبهم وضياع بعضها ولذلك ترى كتاب النجاشي يشتمل على كتب جماعة كثيرة ممن لم يذكرهم في الفهرست او ذكرهم بغير هذه الكتب.

ثم ان هذه الكتب القيمة الثمينة التي صنفها رواة أصحابنا ومشايخهم من اصحاب الائمة عليهم السلام أو من قارب عصرهم على اختلاف مناهل هؤلاء ومشاربهم كما اشرنا اليه. تعرض كثيرها للضياع وذلك لحوادث وفتن، وحروب عبرت تلك القرون مع قلة في نسخ تلك الكتب أو وحدتها وفيها كتب ضخمة كبيرة جدا وفيها ما كانت أكثر من ألفين ورقة وما كانت تعادل حمل بعير وتقف على ذكر بعضها في هذا الكتاب فلم يبق في أيدينا الا بعض ما صنفه المقاربون لعصرهم مثل رجال البرقي وأبي عمرو الكشي واختصاص المفيد وغير ذلك وكتب من تأخر كالشيخ الطوسي (ره). وعند ذلك واجه اصحابنا تعيير قوم من مخالفينا - انه لا سلف لكم

٤

ولا مصنف كما نص عليه النجاشي (ره) في الديباجة فرغبه السيد الشريف (ره) في دفعه وتأليف كتاب في ذلك فألف النجاشي (ره) كتابه هذا اتماما للحجة وبلغ الجهد غايته في إستقصاء الكتب ولكن لم يستطع من ذلك معتذرا بقوله: وقد جمعت من ذلك ما استطعته ولم أبلغ غايته لعدم اكثر الكتب وانما ذكرت ذلك عذرا إلى من وقع اليه كتاب لم أذكره اه‍.

وان هذه الكتب وان كان قد جمع فيها كثير مما تفرق في أصول من تقدم عليهم من أكابر الرواة ومصنفاتهم لكنها لا تستوعب لاسماء المصنفين ولا اسماء الرواة ولا ذكر أحوالهم وطبقاتهم ولا الاخبار الواردة فيهم ولم يستقص فيها البحث عن جميع جوانبها. وليس ما أطال المتأخرون (قدهم) بذكره من الاسماء إستقصاء‌ا لمن وقع في أسانيد ما بأيدينا من الاخبار ولا استيعابا لما ورد من المدح او الذم في الرواة من طريق الائمة عليهم السلام ولا استيفاء‌ا لطبقة الرواة ولا جامعا للاصول والمصنفات والطرق والمشيخات ولا تعرض فيها لنقد هذه الطرق والمشيخات إلا إشارة في بعضها.

ولذا ترى كثيرا من رجال أسانيد ما بأيدينا من الاخبار غير مذكورين في كتب اصحابنا الرجالية وايضا لا يوجد لكثير من المذكورين فيها ذكر طبقتهم أو أحوالهم مع وضوح ذلك بعد التأمل في أسانيد ما بأيدينا من الاخبار والوقوف على ذلك متعب مجهد.

فدعانا ذلك كله إلى تصنيف كتاب جامع لاسماء الرواة المذكورين في الروايات وكتب الاقدمين من الاصحاب. وكتاب جامع للاخبار المروية عن الائمة الاطهار عليهم السلام في مدح الرواة أو ذمهم.

٥

وكتاب حاو لطبقات الرواة من أصحاب النبي والائمة الاطهار عليهم السلام.

ولما رأيت أن جمع الطرق والمشيخات ونقدها وتحقيق أحوال أرباب الاصول والمصنفات من الرواة مما يتيسر لنا بشرح كتاب الفهرست لشيخنا الجليل النجاشي وهو أجمع وأتقن كتاب في موضوعه كما ستقف عليه شرعت بحول الله وقوته في ذلك بتحقيق كامل في أحوال المذكورين فيه تصريحا أو تلويحا في ترجمة غيرهم وهم جماعة كثيرة جدا وبالاشارة إلى ما ورد فيهم من الاخبار أو مانص عليه غير النجاشي من أئمة الرجال وبجمع المتعارضين من الاخبار أو تصريحات أئمة الرجال ان امكن، أو ترجيح أحدهما إن لم يمكن الجمع وتحقيق فيما نص عليه الماتن (ره) في احوالهم أو طبقاتهم على ما يساعدنا المجال وإيكال تفصيله إلى ما حققناه في هذه الكتب.

وجمعت في ذلك بين طرق الماتن (ره) إلى الاصول والمصنفات وطرق الشيخ الطوسي (ره) في كتاب الفهرست ومشيختي كتاب التهذيب وكتاب الاستبصار وطرق الشيخ الاجل الصدوق (ره) في مشيخة كتاب من لا يحضره الفقيه مع تحقيق كامل في أسانيدها ونقدها وطرق أخرى وقفنا عليها في خلال الكتب مما ستقف عليها في هذا الشرح وفي ذلك فوائد جليلة.

وقد أشرنا إلى ما استدركه الحافظ الشهير ابن شهر آشوب في معالم العلماء تتمة لفهرست الشيخ الطوسي (ره) وهذا ما وقفني الله جل شأنه قديما في هذا الشرح ولست بمعصوم من الخطأ والزلل والله الهادي. ولما كان النجاشي (ره) جعل للاسماء أبوابا على الحروف ليهون على الملتمس لاسم مخصوص ولم يلاحظ الترتيب جدا لا في الاوائل ولا الثواني ولا الاباء ولذلك لا تقود الطالب إلى بغيته وغايته الا بتصفح وطول مدة.

٦

تصدى العلامة القهبائي في مجمع الرجال بل وغيره لنظم رجال النجاشي على الحروف ولكن رأيت ان التحفظ على الكتاب بصورته ونيل الطالب إلى قصده وغايته يتيسر بوضع فهرست دقيق على حسب الحروف مع لحاظ الاوائل ثم الثواني ثم الاباء وذكر من يستفاد أحواله في ضمن ترجمة غيره فجعلت له فهرستا على هذا الترتيب.

٧

الفائدة الاولى في حياة المؤلف النجاشي رحمه الله

نسبه:

هو احمد بن علي بن احمد بن العباس بن محمد بن عبدالله بن ابراهيم ابن محمد بن عبدالله الاسدي النضري بن النجاشي بن غنيم بن أبي السمال سمعان بن هبيرة الشاعر ابن مساحق بن بجير بن أسامة بن نصر بن قعين ابن الحرث بن تغلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. هذا كما نص عليه الماتن (ره) في ترجمته وايضا في ترجمة جده عبدالله على اختلاف يسير والكلام في ذلك يأتي ان شاء الله هناك في الشرح ويشترك نسبا مع النجاشي المؤلف (ره) ابراهيم بن أبي بكر السمال كما ذكره في ترجمته ص ١٧ رقم ٢٨.

كنيته:

قد كنى رحمه الله في الجزء الثاني من الرجال بأبي الحسين وبذلك ذكره جماعة ومنهم العلامة (ره) في إجازته الكبيرة لبني زهرة وبأبي العباس ايضا كما كناه بذلك العلامة (ره) في الخلاصة وغيره ووقع في اجازات الاصحاب كما ذكره المجلسي في اجازات البحار والجمع بينهما ممكن فالكلام في التعيين لا مجال له.

٨

مولده:

ولد رحمه الله في صفر سنة إثنتين وسبعين وثلاثمائة ذكره العلامة في الخلاصة ص ٢١ وتبعه من تأخر قلت: يؤيد كون ولادته في هذه السنة أو ما يقاربها ان النجاشى (رض) كان يحضر مجلس هارون بن موسى التلعكبري المتوفى سنة ٣٨٥ ويدخل مع ابنه محمد بن هارون في بيته عندما يقرأ الناس عليه ذكر ذلك في ترجمته ص ٣٤٣ رقم ١١٩٥ وايضا ادراكه رحمه الله ولقائه لكثير من اكابر عصره كما ستقف عليه ان شاء الله.

وفاته ومدفنه:

لم يرد تصريح من قدماء الامامية رضوان الله عليهم حول تحديد سنة وفاته وتعيين محله وقبره لضياع أكثر كتبهم واما اهل السنة فقد أهملوا ذكره في كتب التراجم والتاريخ كما أهملوا غيره من وجوه الامامية وأعلامهم فهذا الخطيب البغدادي الذي الف كتابه الضخم في كل من كان في بغداد من المحدثين او سمع بها او ورد بها لم يذكر النجاشى مع انه كان شريكه في السماع عن جماعة من مشايخ الحديث في بغداد كما لم يذكر أمثاله من حفاظ الحديث ومشايخه من أعلام الامامية رضوان الله عليهم. وأما المتأخرون من الامامية فذكروا تبعا للعلامة (ره) في الخلاصة ص ٢١ انه توفى رحمه الله بمطير اباد في جمادى الاولى سنة خمسين

٩

وأربعمائة وفي بعض الكتب مصيراباد بدل مطيراباد.

قلت: ويحتمل كونه مصراثا بالفتح ثم السكون والثاء مثلثة وهى قرية من سواد بغداد تحت كلواذة بالفتح ثم السكون والذال المعجمة وهى من السواد بين الكوفة والحزن وهى بين الكوفة وواسط وكلواذي طسوج قرب مدينة السلام بغداد وناحية قريبة بينها وبين بغداد فرسخ واحد للمنحدر وينسب إلى ذلك جماعة من النحاة كما يظهر ذلك من مراصد الاطلاع ومعجم البلدان ج ٨ ص ٦٨ وج ٧ ص ٢٧٦. والاظهر ما عليه المشهور ضبطا (مطيراباد) والمطيرة كسفينة قرية بنواحى سر من رأى ذكره في القاموس ومراصد الاطلاع والمعجم وزاد في الثانى كانت أحد منتزهاتها بنيت في أخر خلافة المأمون بناها مطير ابن نزارة السبعانى وهى مذكورة في أشعار الخلفاء، وزاد في المعجم قرية من نواحى سامراء وكانت من منتزهات بغداد وسامراء ثم ذكر كلاما في بنائها وما قيل فيها من الاشعار فقال ينسب إليها جماعة من المحدثين وذكرهم وفيهم محمد بن احمد بن عثمان بن احمد بن محمد الفزار المطيري المتوفى سنة ٤٦٣.

قلت: ولا يبعد كون وفاة النجاشى رحمه الله بعد رجوعه من زيارة الامامين عليهما السلام بسامراء عند إقامته في تلك القرية البعيدة من الشيعة ولذلك خفيت آثار قبره الشريف والله العالم. ثم ان ما ذكره العلامة (ره) في تاريخ وفاته ينافي ما ذكره النجاشى في ترجمة محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري ص ٣١٦ رقم ١٠٨١ مات رحمه الله يوم السبت سادس عشر رمضان سنة ثلاث وستين وأربعمائة ٤٦٣ ودفن في داره. وقد تصدى لرفع التنافي المذكور غير واحد من المتأخرين فمنهم

١٠

من قال ان الصواب سنة ثلاث وثلاثين واربعمائة وقد سهى النساخ في الضبط على ما تقدم وقد غفل رحمه الله عن منافاة ذلك لما ذكره النجاشى في ترجمة الشريف المرتضى المتوفى سنة ٤٣٦ ما لفظه وتوليت غسله ومعي الشريف ابويعلى محمد بن الحسن الجعفري (ره)(١) ولاجل الفرار عن الاشكال المذكور قال بعض من تأخر عنه(٢) فالصواب سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة قبل وفاة النجاشي (ره) بسبع او بثمان سنين.

قلت لزوم تأخر وفاة النجاشي عن وفاة الشريفين وتأخر وفاة الشريف الجعفري عن وفاة الشريف المرتضى لا يوجب الا الالتزام بالتأخر في الجملة ولو بيوم أو نصف يوم ولا يثبت سنة خاصة كما هو واضح وإحتمال ذلك كاحتمال كون المذكور في تاريخ وفاة الجعفري من زيادة النساخ في متن النجاشي مما لا سبيل لفتح بابه ولا وجه لترجيحه على إحتمال كون ما في الخلاصة مصحف خمسة وستين واربعمائة أو غير ذلك فلاحظ وتأمل والظاهر من كتاب النجاشى ان تأليفه كان بعد وفات عامة مشايخه.

____________________

(١) النجاشي ص ٢٠٧ رقم ٧١٤.

(٢) في تنقيح المقال ج ٣ ص ١٠١.

١١

حياة المؤلف نشأته وبيته كان رحمه الله كوفيا أسديا كما في ترجمته ونشأ في بيت كبير من وجوه أهل الكوفة من بيت معروف مرجوع إليهم، وكان ذلك في بغداد وبها أيضا يعرف بابن الكوفي وليس كما توهم انه نشأ في الكوفه ولذلك كان أعرف من الشيخ الطوسي (ره) بالرواة لان اكثرهم كوفيون فكان والده علي بن احمد بن العباس رحمه الله من علماء بغداد ومحدثيها وتتلمذ لشيخ الامامية في عصره محمد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي الصدوق رحمه الله وسمع منه وروى عنه كتبه ورواياته وكان ذلك لما دخل الصدوق رحمه الله بغداد واجتمع عنده العلماء ومشايخ الحديث.

وكان الماتن رحمه الله قرأ على والده علي بن احمد (ره) وله منه إجازة كما نشير إلى ذلك على ما صرح به في هذا الكتاب وكان جده احمد بن العباس أبويعقوب من علماء بغداد ومحدثيها سمع وروى عنه جماعة منهم إبنه علي بن احمد بن العباس وذلك كما في ترجمة علي ابن عبيدالله بن الحسين بن علي بن الحسين عليه السلام رقم ٦٧٧ فقد روى كتابه في الحج كله عن موسى بن جعفر عليه السلام بما نصه أخبرني أبي رحمه الله قال حدثنا أبي قال حدثنا ابوالحسن علي الخ. ومنهم شيخنا الجليل هارون بن موسى التلعكبري فذكر الشيخ

١٢

الطوسي في باب من لم يرو عنهم (ع) من رجاله ص ٤٤٦ عدد ٤٥ ما لفظه احمد بن العباس النجاشي الصيرفي المعروف بابن الطيالسي يكنى أبا يعقوب سمع منه التلعكبري سنة خمس وثلاثين وثلاثمائة وله منه إجازة وكان يروي دعاء الكامل ومنزله كان في درب البقر: قلت وبذلك نكتفي في المقام وتمام الكلام فيه في محل آخر وهناك تحقيق في وجه ترك الماتن (ره) ذكره في عداد المصنفين.

وكان جده العباس بن عبدالله من اجلة الرواة وممن روى عنه مثل احمد بن محمد بن عيسى الاشعري الجليل وكان (ره) من اصحاب الرضا عليه السلام روى الصدوق (ره) في العيون ج ١ ب ٤ ص ٢٦ عدد ١٠ عن ابيه عن احمد بن إدريس عن احمد بن محمد بن عيسى عن العباس النجاشي الاسدي قال قلت الرضا عليه السلام أنت صاحب هذا الامر قال إي والله على الانس والجن قلت وعده الشيخ (ره) ايضا في اصحاب الرضا عليه السلام من رجاله ص ٣٨٣ عدد ٤٥ قائلا العباس النجاسي الكوفي ويظهر من بعض اصحابنا خلو نسخته عن هذا الاسم وتمام الكلام في حاله في محله.

وكان جده الاعلى عبدالله بن النجاشي أبوبجير الاسدي النصري من ولاة الامر في عهده على الاهواز من قبل المنصور وفي رواية التهذيب قال كان النجاشي وهو رجل من الزهاد عاملا على الاهواز وفارس الخ وكان يروي عن ابي عبدالله (ع) الرسالة المعروفة منه اليه كما في ترجمته في هذا الكتاب عدد ٥٦٣ قلت وقد ورد فيه روايات وفي بعضها ما يشعر بانه مال إلى الزيدية فلما دخل المدينة واستأذن في الدخول على ابي عبدالله عليه السلام وسأل منه ما سأل رجع إلى الحق وبقي عليه وفي بعضها ما يدل على مدحه وفضله قد أوردناها في كتابنا الكبير في

١٣

اخبار الرواة وتمام الكلام فيه يأتي في الشرح عند ترجمته. وكان (ره) نسب نفسه إلى الاخوة لاحمد بن عبيد بن احمد الوفا قال في ترجمته ٢٠٨ أخونا مات قريب السن رحمه الله له كتاب الحجة. وايضا نسب نفسه بالصداقة لاحمد بن محمد بن احمد بن طرخان الجرجرائي قال في ترجمته ٢٠٦ ثقة صحيح السماع وكان صديقنا قتله إنسان يعرف بابن أبي العباس الخ.

رحلته واسفاره: كان (ره) قليل السفر لم يخرج من بغداد الا لزيارة المشاهد المقدسة فسافر إلى النجف الاشرف لزيارة مشهد سيدنا أميرالمؤمنين صلوات الله عليه سنة أربعمائة وعند ذلك لقي شيخه الجليل الحسين بن جعفر بن محمد المخزومي الخزاز المعروف بابن الخمري وسمع منه وأجازه في المشهد الغروي الشريف بروايته كتاب عمل السلطان لابي عبدالله البوشنجي الحسين بن احمد بن المغيرة كما نص عليه (ره) في ترجمته ص ١٦١. وبقى الماتن (ره) بالمشهد الغروى عليه السلام إلى أن زاره يوم الغدير من هذه السنة كما نص عليه في ترجمة هبة الله بن احمد بن محمد الكاتب ابى نصر المعروف بابن برينة عدد ١١٩٦.

قال (ره) وكان هذا الرجل كثير الزيارات وآخر زيارة حضرها معنا يوم الغدير سنة أربعمائة بمشهد امير المؤمنين عليه السلام. ودخل الكوفة كرارا قال في ترجمة جعفر بن بشير البجلي رقم ٣٠١ وله مسجد بالكوفة باق في بجيلة إلى اليوم وأنا وكثير من أصحابنا اذا

١٤

وردنا بالكوفة نصلي فيه مع المساجد التي يرغب في الصلوة فيها اه‍.

قلت ومن ذلك يظهر انه (ره) لم يكن بالكوفة كما قيل بل نشأ في بغداد كما ذكرنا. ورأى بالكوفة جماعة من أعلام الحديث منهم الحسن بن احمد ابن محمد بن الهيشم العجلي من وجوه أصحابنا الثقات كما نص عليه (ره) في ترجمته رقم ١٤٧ واسحق بن الحسن العقرابي قال في ترجمته رقم ١٧٤ رأيته بالكوفة وهو مجاور وكان يروي كتاب الكليني (ره) عنه وكان في هذا الوقت علوا فلم أسمع منه شيئا (ره). والظاهر انه تشرف بزيارة الحائر الشريف وان لم يكن لذلك في الكتاب ذكر. وقد زار مشهد الامامين العسكريين عليهم السلام بسامراء وبها سمع من القاضي أبي الحسن علي بن محمد بن يوسف نسخة كتاب محمد ابن ابراهيم الامام بن محمد بن علي بن عبدالله بن عباس بن عبدالمطلب كما نص (ره) عليه في ترجمته رقم ٩٦٣.

قلت ولعل وفاته (ره) بمطيراباد كانت بعد هذه الزيارة ورجوعه من سامراء إلى تلك الناحية.

مكانته السامية عند العلماء: هو الثقة الصدوق المعتمد المسكون اليه البصير الخبير بأحوال الرواة وأنسابهم وما ورد فيهم من مدح او ذم وطبقاتهم ومصنفاتهم واصولهم ورواياتهم واشعارهم تقدم على أعلام الجرح والتعديل بكثرة إطلاعه ووفور علمه وقوة بصيرته. فهو إمام هذا الفن يستضاء بنور علمه ويهتدى بسبيله إن نطق

١٥

في الرواة وأحوالهم اتبع وأخذ بقوله وإن سكت عن القدح والطعن مذهبا وطريقة أمسك عن الطعن وإن قال فيهم غيره شيئا رجح قوله وأخذ به وأول كلام غيره أو ترك ولذا أطبق اصحابنا فيما صرح به جماعة على ترجيح قوله على أقوال سائر أئمة الجرح والتعديل.

قال سيد الطائفة في عصره السيد بحر العلوم رحمه الله في فوائده هو أحد المشايخ الثقات والعدول الاثبات من أعظم أركان الجرح والتعديل وأعلم علماء هذا السبيل أجمع علمائنا على الاعتماد عليه وأطبقوا على الاستناد في احوال الرواة اليه. والى ذلك أشار السيد المحقق الداماد (قدس) قائلا ان أبا العباس النجاشي شيخنا الثقة الفاضل الجليل القدر السند المعتمد عليه المعروف الخ..

وايضا العلامة المجلسي (ره) في فهرست البحار مشيرا إلى كتابه وكتاب الكشي. قائلا عليهما مدار العلماء الاخيار في الاعصار والامصار. وفي مزاره نقل عن كتاب قبس المصباح للشيخ الفاضل أبي الحسن سليمان بن الحسن الصهر شتى تلميذ المرتضى رحمه الله وشيخ الطائفة قدس سره قال قال أخبرنا الشيخ الصدوق أبوالحسين احمد ابن علي بن احمد النجاشي الصيرفي المعروف بابن الكوفي ببغداد. وكان شيخنا بهيا صدوق اللسان عند المخالف والمؤالف انتهى.

قلت وما ذكره تلميذ المرتضى والشيخ من كونه صدوق اللسان عند الكل يشير إلى وجه الاقتصار على الاطراء والثناء عليه فان جلالة قدره وعظم شأنه في الطائفة أشهر من ان يحتاج إلى ذلك. وقد أوجز في ذلك من ذكره معتمدا عليه كالشيخ السعيد الاجل المحقق الحلي رحمه الله في المعتبر وغيره والشهيد الاول في كتبه وفي

١٦

اجازاته والحافظ الشهير ابن شهر آشوب صاحب معالم العلماء في إجازاته والسيد ابن طاووس وجماعة ممن عاصرهم أو تقدم عليهم وأكثر من تأخر منهم العلامة في الخلاصة قائلا: ثقة معتمد ومنهم ابن داود الحلي في رجاله قائلا ثقة معظم كثير التصانيف ومنهم المحقق الوحيد البهبهاني قال في رسالة الاجتهاد ص ٥٧ بعد ذكر الصدوق وابن الوليد والمفيد والشيخ والشريف المرتضى والنجاشي الاجلة الاكابر الذين لا تفي لمدائحهم الدفاتر الخ. ولقد أجاد إمام المحدثين في عصره العلامة النوري (ره) في خاتمة المستدرك إغناء‌ا عن الاطناب بقوله في حق النجاشي (ره) العالم النقاد البصير المضطلع الخبير الذي هو أفضل من خط في فن الرجال بقلم أو نطق بفم، فهو الرجل كل الرجل، لا يقاس بسواه ولا يعدله من عداه، كلما زدت به تحقيقا ازددت به وثوقا، وهو صاحب الكتاب المعروف الدائر الذي إتكل عليه كافة الاصحاب إنتهى.

قلت من تأمل في كتب غيره من العامة والخاصة من كتب الرجال وتأمل في كتاب النجاشي وما ذكره في تراجم الرواه وخاصة عند إختلاف الاقوال وكيفية إختياره قولا من ذلك وتنبيه على الضعف وبطلان ما اختاره غيره وأمثال ذلك مما تشير إلى بصيرته وقدرته واحاطته وأدبه وورعه وثقته أذعن بما شهد به هذا المحدث العظيم واليك بعض ما يشير إلى ذلك.

١٧

منها وصية اعلام الطائفة بكتبهم للنجاشي قد أوصى غير واحد من أعلام الطائفة وأجلائهم بكتبهم بخطهم وبغير خطهم بل وما عندهم من مصنفات غيرهم وأصولهم إلى النجاشي رحمه الله ومن ذلك يظهر مكانته (ره) علما وثقة وطريقة في الحديث عند أجلاء الاصحاب واعاظمهم. فمنهم استاذه وشيخه ومن استفاد منه أحمد بن نوح أبي العباس السيرافي الذي ذكر ترجمته ٢٠٥ وقال كان ثقة في حديثه متقنا لما يرويه فقيها بصيرا بالحديث والرواية أستاذنا وشيخنا ومن إستفدنا منه (ره).

فقد وصى رحمه الله بسائر كتبه وفيها كتبه التي بخطه الشريف رحمه الله للماتن وقد كرر الماتن (ره) في الرجال الاشارة إلى هذه الوصاية وإلى هذه الكتب وإلى خطه الشريف في مواضع كثيرة وان شئت فلاحظ ترجمة أيوب بن نوح ٢٥١ وبشر بن سلام ٢٨٤ وثعلبة بن ميمون ٢٩٩ والحسين بن عنبسة الصوفي ١٥٤ والحسن ابن عبيدالله ٨٤ وغير ذلك مما يطول بذكره. ومنهم ابوعبدالله الحسين بن محمد بن علي الشجاعي أبي الحسين الكاتب.

فقد وصى اليه (ره) بسائر كتبه وبالنسخة من كتاب الغيبة لمحمد بن ابراهيم النعماني التي قرأها والده محمد بن علي الشجاعي على محمد بن ابراهيم النعماني بمشهد العتيقة وكان الماتن (ره) رآه يقرء هذا الكتاب على النعماني وقد نص على ذلك الماتن (قده) في ترجمة محمد بن ابراهيم النعماني ١٠٥٦.

١٨

ومنها انه دفع غير واحد من مشايخه إلى الماتن كتبا أو نسخة فدفع اليه (ره) شيخ الادب ابواحمد عبدالسلام بن الحسين البصري رحمه الله كتابا بخطه قد اجاز له فيه جميع رواياته كما نص عليه الماتن (ره). وقال في احمد بن عامر رقم ٢٤٧ بعد ذكر نسخة له عن الرضا (ع) ودفع الي هذه النسخة، نسخة عبدالله بن أحمد بن عامر الطائي أبوالحسن احمد بن محمد بن موسى الجندي شيخنا رحمه الله قرأتها عليه حدثكم الخ وغير ذلك مما وقفنا عليه وأيضا يقف عليه كل متأمل.

ومنها انه قد ورد على النجاشي زائرا شيخه الجليل أبوعبدالله محمد بن علي بن شاذان القزويني رحمه الله وعند ذلك سمع منه الحديث وأجازه وكان ذلك سنة أربعمائة كما نص عليه (ره) في ترجمة الحسين ابن علوان الكلبي رقم ١١٣ وترجمة محمد بن مروان الانباري رقم ٩٤٢ بلا ذكر تاريخه وذكر أنه (ره) سمع منه نوادر الانباري. إدراكه ولقاؤه اكابر الطائفة ومشايخ الحديث في عصره قد ادرك رحمه الله جماعة كثيرة من أكابر الطائفة وأعاظم مشايخ الحديث في عصره وسمع منهم واستمع عندما يقرء عليهم وان لم يرو عن بعضهم لعلو الطبقة او لامر غير ذلك بل سمع من جماعة كثيرة من مشايخ مشايخه كابن الجندي، وابي عبدالله الجعفي والحسين بن احمد ابن موسى بن هدبة وغير هؤلاء من مشايخ المفيد والحسين بن عبيدالله الغضائري واضرابهم من اكابر مشايخه رضوان الله عليهم كما ستقف على ذلك في مشايخه ولذلك يعلو الاسناد بالنجاشي ويرجح الاسناد بعلوه

١٩

كما لا يخفى.

فقد ادرك رحمه الله جماعة من تلاميذ الشيخ الجليل محمد بن يعقوب الكليني صاحب كتاب الكافي المتوفى سنة ٣٢٩ عام تناثر النجوم وسمع منهم واستمع عند ما يقرأ عليهم. مثل هارون بن موسى التلعكبري شيخ اصحابنا، ووجهم الذي لا يطعن عليه المتوفى سنة ٣٨٥ فكان النجاشي يحضر عنده ويدخل في داره مع ابنه محمد بن هارون عند ما يقرؤن عليه ذكره في ترجمته ١١٩٥. ومحمد بن ابراهيم بن جعفر أبي عبدالله الكاتب النعماني المعروف بابن زينب صاحب كتاب الغيبة وكان شيخا من اصحابنا عظيم القدر شريف المنزلة، صحيح العقيدة كثير الحديث، قدم بغداد وخرج إلى الشام ومات بها فقد ادركه الماتن (ره) وحضر عنده حين ما كان في بغداد وحين ما كان أبوالحسين محمد بن علي الشجاعي الكاتب يقرأ عليه كتاب الغيبة بمشهد العتيقة ذكره الماتن (رض) في ترجمة محمد بن ابراهيم النعماني ١٠٥٥. وأحمد بن احمد الكوفي الكاتب أبي الحسين قال (ره) في ترجمة الكليني (ره): كنت أتردد إلى المسجد المعروف بمسجد اللؤلؤي وهو مسجد نفطويه النحوى(١) اقرأ القرآن على صاحب المسجد وجماعة

____________________

(١) هو ابن ابراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان بن المغيرة الواسطي ابوعبدالله النحوي نفطويه المشهور صاحب التصانيف المتوفى يوم الاربعاء من شهر صفر لست خلون منه بعد طلوع الشمس سنة ٣٢٣ والمدفون في ثاني يومه بباب الوفة ذكره ارباب التراجم والتاريخ مثل ابن خلكان في وفيات الاعيان ص ١٠ والذهبي في ميزان الاعتدال ج ١ ص ٦٤ رقم ٢١٠ والسيوطي في بغية الوعاء ص ١٨٧ وغيرهم.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

الله وسنة رسوله ؛ ثم نعود إلى موضع الحساب ، فنتبرأ من هؤلاء الضالين كما تبرءوا منا ، ونسعد بعملنا حيث هم أشقياء بأعمالهم.

( كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ) أي إنه كما أراهم العذاب ، سيريهم أعمالهم حسرات عليهم ، والمراد من إراءتهم ذلك ، أنه يظهر لهم أن أعمالهم قد كان لها أسوأ الآثار في نفوسهم ، حتى جعلتها مستعبدة لغير الله ، فيورثهم ذلك حسرة وشقاء ، فالأعمال هى التي كونت هذه الحسرات في النفوس ، ولكن ذلك لا يظهر إلا في الدار الآخرة التي تسعد فيها النفوس أو تشقي.

( وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) إلى الدنيا وهم على صحة العقيدة وصلاح الأعمال ، فيشفوا غيظهم من رؤسائهم وأندادهم ، ولا إلى الجنة ، لأن سبب دخولهم هو ما طبعوا عليه من خرافات الشرك وحب الأنداد.

( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) )

تفسير المفردات

الحلال هو ما أباحه الشارع ، والحرام ضده ، والخطوات واحدها خطوة (بالضم) وهى ما بين قدمى الماشي ، يقال اتبع خطواته ، ووطئ على عقبه إذا اقتدى به واستن بسنته ، ومبين أي ظاهر العداوة لذوى البصائر ، والسوء ما يسوءك وقوعه أو عاقبته ، والفحشاء كل ما يفحش قبحه في أعين الناس من المعاصي والآثام وهى أقبح وأشد

٤١

من السوء ، ويأمركم أي يوسوس لكم ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع ، وأنتم فى انقيادكم له ، كأنكم مأمورون ، ألفينا أي وجدنا ، وعقل الشيء عرفه بدليل ، وفهمه بأسبابه ونتائجه.

المعنى الجملي

بعد أن بين في الآية قبلها حال متحذى الأنداد يوم القيامة وذكر ما سيلاقونه من العذاب ، وأن الذين اتّبعوا سيتبرءون ممن اتبعوهم حين رؤية العذاب ، وتقطع الأسباب بينهم ، وهى المنافع التي يجنيها الرؤساء من المرءوسين والمصالح الدنيوية التي تصل بعضهم ببعض ، وقد علمت فيما سلف أن الأنداد قسمان :

(1) قسم يتّخذ شارعا يؤخذ رأيه في التحليل والتحريم من غير أن يكون بلاغا من الله ورسوله.

(2) قسم يعتمد عليه في دفع المضارّ وجلب المنافع من طريق السلطة الغيبية لا من طريق الأسباب.

بين في هذه الآيات أن تلك الأسباب محرمة ، لأنها ترجع إلى أكل الخبائث واتباع خطوات الشيطان ، وأن سبب جمودهم على الباطل والضلال هو الثقة بما كان عليه الآباء من غير عقل ولا هدى.

الإيضاح

( يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً ) أي كلوا بعض ما في الأرض من أصناف المأكولات التي من جملتها ما حرّمتموه افتراء على الله من الحرث والأنعام أكلا حلالا طيبا.

قال ابن عباس : نزلت في قوم من ثقيف وبنى عامر بن صعصعة وخزاعة وبنى مدلج حرّموا على أنفسهم ما حرموا من الحرث والبحائر والسوائب والوصائل والحام.

٤٢

وقد بين ما حرم من المآكل في الآية الكريمة «قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ » فما عدا هذا فهو مباح بشرط أن يكون طيبا وهو ما لا يتعلق به حق الغير ، وبيانه أن المحرم قسمان :

(1) محرم لذاته لا يخل إلا للمضطر.

(2) محرم لعارض ، وهو ما يؤخذ بغير وجه صحيح كما يأخذه الرؤساء من المرءوسين بلا مقابل ، أو يأخذه المرءوسون بجاه الرؤساء ، وكأخذ الربا والرّشوة والغصب والسرقة والغش ، فكل هذا خبيث غير طيب.

( وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ) أي ولا تتبعوا سيرته فى الإغواء ووسوسته في الأمر بالسوء والفحشاء ، فهو عدو لكم بين العداوة ، إذ هو منشأ الخواطر الرديئة ، والمحرّض على ارتكاب الجرائم والآثام قال تعالى : «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً » فهذا نهى عن اتباع وحي الباطل والشر ، لأنه من إغواء الشيطان ، فإذا عرض للإنسان داعي البذل لمعاونة بائس فقير ، فهمّت نفسه بالعمل ، ثم جاش في صدره خاطر الاقتصاد والتوفير ، فليعلم أن هذا من وحي الشيطان. ولا ينخدع لما يسوّله له من إرجاء هذا العطاء ووضعه فى موضع أنفع ، أو بذله لفقير أحوج.

ثم بين كيفية عداوته وفنون شره وإفساده فقال :

( إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ ) أي إنما يوسوس الشيطان ويتسلط عليكم كأنه آمر مطاع بأن تفعلوا ما يسوءكم في دنياكم وآخرتكم وأن تجترحوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

فالذين يتركون الأسباب الطبيعية التي قضت سنة الله بربط المسببات بها ، اعتمادا على أشخاص من الموتى أو الأحياء يظنون أن لهم نصيبا من السلطة الغيبية ، والتصرف

٤٣

فى الأكوان بدون اتخاذ الأسباب ـ قد ضلوا ضلالا بعيدا واتبعوا أمر الشيطان ، ومثلهم من اتخذ رأى الرؤساء حجة في الدين من غير أن يكون بيانا أو تبليغا لما جاء عن الله ، فهؤلاء قد أعرضوا عن سنن الله وأهملوا نعمة العقل ، واتخذوا من دون الله الأنداد «ومن يضلل الله فلا هادى له».

( وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) أي ويأمركم أن تقولوا على الله في دينه ما لا تعلمون علم اليقين أنه شرعه لكم من عقائد وشعائر دينية ، أو تحليل ما الأصل فيه التحريم ، أو تحريم ما الأصل فيه الإباحة ، ففى كل ذلك اعتداء على حق الربوبية بالتشريع ، وهذا أقبح ما يأمر به الشيطان ، فإنه الأصل في إفساد العقائد ، وتحريف الشرائع.

ومن هذا زعم الرؤساء أن لله وسطاء بينه وبين خلقه ، لا يفعل شيئا إلا بوساطتهم ، فحولوا قلوب عباده عنه وعن سننه في خلقه ، ووجهوها إلى قبور لا تعد ولا تحصى ، وإلى عبيد ضعفاء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا ، ويسمون مثل هذا توسلا : أي تقربا إلى الله ، وحاشى أن يتقبّل التقرب إليه بالشرك به ، ودعاء غيره معه وهو يقول «فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً ».

ثم سجل عليهم كمال ضلالهم وعدّد جناياتهم فقال :

( وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا ) أي وإذا قيل لمن اتبع خطوات الشيطان من المشركين : اتبعوا ما أنزل الله على رسوله من الوحى ولا تتبعوا من دونه أولياء ـ جنحوا إلى التقليد ، وقالوا نحن لا نعرف إلا ما وجدنا عليه السادة والكبراء والشيوخ من آبائنا ، استئناسا بما ألفوه مما ألفه آباؤهم من قبل.

ثم رد عليهم سبحانه مقالتهم الحمقاء وأظهر بطلان آرائهم فقال :

( أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ ) أي أيتبعون ما ألفوا عليه آباءهم فى كل حال وفي كل شىء ، ولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا من عقائد الدين وعباداته : أي حتى لو تجردوا من دليل عقلى أو نقلى في عقائدهم وعباداتهم.

٤٤

وفي الآية إرشاد إلى منع التقليد لمن قدر على الاجتهاد.

فإذا اتبع المرء غيره في الدين ممن علم أنه على حق كالأنبياء والمجتهدين ـ فهذا ليس بتقليد ، بل اتباع لما أنزل الله ، كما قال تعالى «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » فأقرب الناس إلى معرفة الحق هم الباحثون الذين ينظرون في الدلائل بقصد صحيح ، فإنهم إذا أخطئوا يوما أصابوا في آخر ، وأبعدهم عن معرفة الحق المقلدون ، لأنهم قطعوا على أنفسهم طريق العلم وسجلوا على عقولهم الحرمان من الفهم ، وهم لا يوصفون بإصابة الصواب ، لأن المصيب من يعرف أن هذا هو الحق ، والمقلد إنما يعرف أن فلانا قال هذا هو الحق ، فهو عارف بالقول فقط.

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) )

تفسير المفردات

المثل الصفة والحال ، ونعق الراعي والمؤذن صاح ، وما لا يسمع أي لا يدرك بالاستماع إلا دعاء ونداء ، والفارق بينهما أن الدعاء للقريب والنداء للبعيد ، والفارق بين الكافر والضال أن الأول يرى الحق ويعرض عنه ، ويصرف نفسه عن دلائله ، فهو كالحيوان يرضى بأن يقوده غيره ويصرّفه كيف شاء ، والثاني يخطئ الطريق مع طلبه أو جهله بمعرفته بنفسه أو بدلالة غيره.

المعنى الجملي

بعد أن نعى سبحانه وتعالى على المقلدين من الكفار سوء حالهم من اتباعهم لآبائهم وساداتهم من الرؤساء دون استنادهم إلى برهان يعتمدون عليه ، أو حجة يركنون إليها.

٤٥

أعقبه بمثل يبين خطل آرائهم ، وسخف عقولهم ، فذكر أنهم كالغنم التي تقبل بدعاء راعيها ، وتنزجر بزجره ، مسخّرة لإرادته ، ولا تفهم لما ذا دعا ، ولما ذا زجر ، وهكذا شأن من يسلّمون معتقدا بلا دليل ويقبلون تكليفا بلا فهم ولا تعليل ، فهم كالصم لا يسمعون الحق سماع تدبر وفهم ، وكالبكم الذين لا يستجيبون لما دعوا إليه ، وكالعمى فى الإعراض عن الأدلة حتى كأنهم لم يشاهدوها ، فهم لا يصلون إلى معرفة الحق ، لأن اكتسابه إنما يكون بالنظر والاستدلال ، وأنى لمن فقد هذه الحواس أن يصل إلى الحق ويقبله؟ ومن ثم قالوا : من فقد حسا فقد فقد علما.

الإيضاح

( وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً ) أي إن مثل الكافرين في تقليدهم لآبائهم ورؤسائهم ، وإخلادهم إلى ما هم عليه من الضلال ، وعدم تأملهم فيما يلقى إليهم من الأدلة ، مثل البهائم التي ينعق عليها الراعي ، ويسوقها إلى المرعى ، ويدعوها إلى الماء ، ويزجرها عن الحمى ، فتستجيب دعوته وتنزجر بزجره ، وهى لا تعقل مما يقول شيئا ، ولا تفهم له معنى ، وإنما تسمع أصواتا تقبل لسماع بعضها وتدبر لسماع بعض آخر بالتعود ، ولا تعقل سببا للإقبال والإدبار.

وفي الآية إرشاد إلى أن التقليد بلا عقل ولا فهم من شأن الكافر ، وأما المؤمن فمن شأنه أن يعقل دينه. ويعرفه بنفسه ، ويقتنع بصحته ، إذ ليس القصد من الإيمان أن يذلل الإنسان للخير كما يذلل الحيوان ، بل المقصد منه أن يرتقى عقله وتتزكى نفسه بالعلم والعرفان ، فهو يعمل الخير لأنه نافع يرضى الله ، ويترك الشر لأنه يضره فى دينه ودنياه.

( صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) أي إنهم يتصامّون عن سماع الحق ، فكأنهم صم ولا يستجيبون لما يدعون إليه فكأنهم خرس ، ولا ينظرون في آياته تعالى في الآفاق وفي أنفسهم فكأنهم عمى ، لا يعقلون لعملهم مبدأ ولا غاية ، بل ينقادون لغيرهم كما هو شأن الحيوان ، ومن ثم اتبعوا من لا يعقلون ولا يهتدون.

٤٦

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) )

تفسير المفردات

الإهلال رفع الصوت ، وكانوا إذا ذبحوا لآلهتهم يرفعون أصواتهم بذكرها ، ويقولون : باسم اللات. أو باسم العزّى ، ثم قيل لكل ذابح (مهلّ) وإن لم يجهر بالتسمية ، والباغي الطالب للشىء الراغب فيه كما

ورد في الحديث (يا باغي الخير هلّم)

والعادي المتجاوز قدر الضرورة كما جاء في التنزيل «وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ » أي لا تتجاوزهم إلى غيرهم ، والإثم الذنب والمعصية.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حال الذين يتخذون الأنداد من دونه ، ثم خاطب الناس جميعا بأن يأكلوا مما في الأرض من خيراتها بشرط أن يكون حلالا طيبا ، ثم بين سوء حال الكافرين المقلدين الذين يقودهم الرؤساء كما يقود الراعي الغنم ، لأنه لا استقلال لهم برأى ولا يهتدون بعقل.

هنا وجه الخطاب إلى المؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، وأحرى بالاهتداء ، فطلب إليهم أن يأكلوا من الطيبات ويشكروا الله على ما أنعم به عليهم ، ثم حصر محرمات المطاعم في أنواع معينة ، ليعلموا أن التحريم لا يعدوها ، وأن أكثر ما خلق الله من الأرزاق والأطعمة مباح لهم ، فمن الحق أن يكون الشكران غدوّا وعشيا على تلك المنن التي لا تحصى ، والنعم التي لا تحصر ولا تعدّ.

٤٧

الإيضاح

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ) كان المشركون وأهل الكتاب قبل مجىء الإسلام فرقا وأصنافا ، فمنهم من حرم على نفسه أشياء معينة كالبحيرة والسائبة عند العرب ، وبعض الحيوان عند غيرهم ، وكان الشائع لدى النصارى أن أقرب القربات تعذيب النفس وحرمانها من جميع اللذات ، واحتقار الجسد وما يلزمه ، وأن الله لا يرضى إلا بإحياء الروح ، وافتنّوا في الحرمان من الطيبات ، فمنها ما خصصوه بالقديسين أو الرهبان والقسيسين ، ومنها ما هو عام كالحرمان من اللحم والسمن في بعض أنواع الصوم كصوم العذراء والقديسين ، والحرمان من السمك واللبن والبيض في بعض آخر منها.

وكل هذه الأحكام وضعها الرؤساء ، ولا وجود لها في التوراة ، ولا نقلت عن المسيح عليه السلام ، ولكن نقلوها عن الوثنيين الذين كانوا يحرمون كثيرا من الطيبات ، اعتقادا منهم أن التقرب إلى الله لا يكون إلا بتعذيب النفس وترك حظوظ الجسد.

وقد جعل الله هذه الأمة وسطا تعطى الجسد حقه والروح حقه ، فأحل لنا الطيبات وأمرنا بالشكر عليها ، ولم يجعلنا جثمانيين خلّصا كالأنعام ، ولا روحانيين خلصا كالملائكة بل جعلنا أناسىّ كملة.

وقصارى ذلك ـ إن الله أباح لنا أن نتمتع بما طاب كسبه من الحلال ولا نمتنع عنه تدينا ولا تعذيبا للنفس ولا نحرم بعضا ونحل بعضا تقليدا للرؤساء ووساوس الشياطين.

وأمرنا بشكره على خلقها لنا وتيسر أسباب الحصول عليها ، ونهانا أن نجعل له ندّا نطلب منه الرزق ، أو نرجع إليه في التحليل والتحريم ، وإلا كنا مشركين به ، كافرين لنعمه ، كما فعل من اتخذ وسطاء بينه وبين ربه ، يطلب منهم الرزق ، ويشرعون لهم من الدين ما لم يشرعه الله.

٤٨

وبعد أن ذكر إباحة الطيبات ، بين ما حرم من الأطعمة فقال :

( إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ ) أي إنه تعالى حرم الميتة لما يتوقع من ضررها ، لأنها إما أن تكون قد ماتت بمرض سابق أو بعلة عارضة ، وكلاهما لا يؤمن ضرره ، ولأن الطباع تستقذرها.

(والدم) أي الدم المسفوح ، لأنه قذر وضارّ كالميتة.

( وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ ) لأنه ضار ولا سيما في البلاد الحارة كما دلت على ذلك التجربة.

( وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ ) أي وحرم ما رفع به الصوت عند ذبحه لصم وغيره مما يعبد من دون الله ، لأنه من أعمال الوثنية ، وفيه إشراك واعتماد على غير الله ، وقد نص الفقهاء على أن كل ما ذكر عليه اسم غير الله ولو مع اسم الله فهو محرم ، ومثل ذلك ما يفعله العامة في القرى إذ يقولون عند الذبح : باسم الله الله أكبر ، يا سيد يا بدوي ، يريدون بذلك أن يتقبل منهم النذر ويقضى حاجة صاحبه.

( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ ) أي فمن ألجئ إلى أكل شىء مما حرم الله ، بأن لم يجد غيره وخاف على نفسه الهلاك إن لم يأكل منه ، ولم يكن راغبا فيه لذاته ، ولم يتجاوز قدر الحاجة فلا إثم عليه ، لأن الإلقاء بنفسه إلى التهلكة بالموت جوعا أشد ضررا من أكل الميتة أو الدم ، بل الضرر في ترك الأكل محقق وهو في فعله مظنون ؛ كما أن من أكل مما أهلّ به لغير الله مضطرا ، لم يقصد إجازة عمل الوثنية. ولا استحسانه.

وإنما ذكر قوله : غير باغ ولا عاد ، لئلا يتبع الناس أهواءهم في تفسير الاضطرار إذا وكل إليهم تحديده ، فيزعم هذا أنه مضطر وليس بمضطر ، ويذهب ذلك بشهواته إلى ما وراء حد الضرورة.

( إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) أي إن الله يغفر لعباده خطأهم في تقدير الضرورة ، إذ وكل ذلك إلى اجتهادهم ، رحيم بهم ، إذ رخص لهم في تناولها ولم يوقعهم في الحرج والعسر ، وجعل الضرورة تقدر بقدرها.

٤٩

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) )

تفسير المفردات

الضلالة : هى العماية التي لا يهتدى فيها الإنسان لمقصده ، والهدى : الشرائع التي أنزلها الله على لسان أنبيائه ، والشقاق : هو العداء والتنازع وهو أثر الاختلاف ، وحقيقته أن يكون كل من الخصمين في شق أي جانب غير ما فيه الآخر.

المعنى الجملي

بعد أن بين فيما سلف إباحة أكل الطيبات على خلاف ما عليه أهل الملل الأخرى ، وأوجب عليهم شكر ربهم على نعمه التي أسداها إليهم ، ذكر في هذه الآيات أن بعض الرؤساء الذين حرموا على الناس ما لم يحرمه الله ، وشرعوا لهم ما لم يشرعه ، قد كتموا ما شرعه الله بالتأويل أو بالترك ؛ فاليهود والنصارى ومن حذا حذوهم كتموا أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم وأوجبوا التقشف في المآكل والمشارب ، ونحو ذلك مما لهم فيه منفعة كما قال : «تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً ».

٥٠

الإيضاح

( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) أي إن الذين يخفون ما أنزل الله من وحيه على رسله ، أو يؤولونه ويحرفونه ويضعونه في غير موضعه برأيهم واجتهادهم ، فى مقابل الثمن القليل من حطام الدنيا كالرشوة على ذلك أو الجعل (الأجر) على الفتاوى الباطلة أو نحو ذلك مما يستفيده الرؤساء من المرءوسين ، وسمى قليلا لأن كل عوض عن الحق فهو قليل في جنب ما يفوت آخذه من سعادة الحق الدائمة بدوام المحافظة عليه ، والمبطل وإن تمتع بثمن الباطل فذاك إلى أمد الحياة القصير كما قال : «فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ ».

( أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ ) أي إن أولئك الكاتمين لكتاب الله المتّجرين به ، ما يأكلون في بطونهم من ثمنه إلا ما يكون سببا لدخول النار ، وانتهاء مطامعهم بعذابها ، وقد يكون المعنى : إنه لا تملأ بطونهم إلا النار أي لا يشبع جشعهم إلا النار التي يصيرون إليها على نحو ما جاء في الحديث «ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» وهذا الحكم عامّ يصدق على المسلمين كما يصدق على غيرهم ، فسنة الله مطردة في تأييد أنصار الحق وخذلان أهل الباطل.

( وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ ) أي إن الله يعرض عنهم ويغضب عليهم ، وقد جرت عادة الملوك إذا غضبوا أعرضوا عن المغضوب عليهم ولم يكلموهم ، كما أنهم حين الرضا يلاطفون من يرضون عنه ، ويقابلونه بالبشاشة والبشر.

( وَلا يُزَكِّيهِمْ ) أي ولا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة والصفح عنهم إذا ماتوا وهم مصرّون على كفرهم.

( وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ) أي ولهم عذاب شديد الألم موجع.

( أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى ) أي إن أولئك الذين جزاؤهم ما تقدم ، هم الذين تركوا الهدى الواضح البين الذي لا خلاف فيه ، وهو ما جاء به الرسل

٥١

عن ربهم ، واتبعوا آراء الناس في الدين وهى لا ضابط لها ، وهى مشتبه الأعلام يضلّ بها الفهم ، ومن ثم كان أهلها في خلاف وشقاق.

( وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ ) أي إن متبع الضلال استحق العذاب بدل المغفرة ، وهو باختياره إياه بعد قيام الحجة قد اشترى العذاب بالمغفرة ، وكان هو الجاني على نفسه حين اغترّ بالعاجل واستهان بالآجل.

( فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ) أي إنّ انهماكهم في العمل الذي يوصلهم إلى النار المبين فى الآيتين السالفتين هو مثار العجب ، فسيرهم في الطريق التي يجرهم إليها ، وعدم مبالاتهم بمآل أعمالهم ، دليل على أنهم يطيقون الصبر عليها ، وتلك حال تستحق العجب أشد العجب ، وأعجب من ذلك أن يرضاها عاقل لنفسه ومثل هذا الأسلوب ما يقال لمن يتعرض لما يوجب غضب ملك من الملوك :

ما أصبرك على القيد والسجن! أي إنه لا يتعرض لمثل هذا إلا من هو شديد الصبر على العذاب.

( ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ ) أي ذلك العذاب الذي تقرّر لهم بسبب أن الكتاب جاء بالحق ، والحق لا يغالب ، فمن غالبه غلب.

( وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ) أي وإن الذين اختلفوا فى الكتاب الذي نزله الله لجمع الكلمة على اتباع الحق وإزالة الاختلاف ، لفى شقاق بعيد عن سبيل الحق ، فلا يهتدون إليه ، إذ كل منهم يخالف الآخر بما ابتدعه من رأى ومذهب ، وينأى بجانبه عن الآخر ، فيكون الشقاق بينهما بعيدا.

وهذا وعيد آخر بعد الوعيد الأول على كتمان الحق ، فالمختلفون لا يسلكون سبيلا واحدة كما يدعو إلى ذلك القرآن «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ » فلا يجوز أهل الكتاب الإلهى أن يكونوا شيعا ومذاهب شتى كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ».

٥٢

فإذا وجد خلاف في الفهم (وهو ضرورى في طباع البشر) وجب التحاكم إلى الكتاب والسنة حتى يزول كما قال : «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ » وليس هناك عذر للمسلمين في الاختلاف في دينهم ، لأن الله أوجد لكل مشكل مخرجا ، على أن ما تختلف فيه الأفهام لا يقتضى الشقاق والنزاع ، بل يسبهل على جماعة المسلمين من أهل العلم أن ينظروا فيما اختلف فيه ، وما يرون أنه الراجح يعتمدون عليه ، إذا تعلق بمصلحة الأمة والأحكام المشتركة بينها.

( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) )

تفسير المفردات

البر : لغة التوسع في الخير ، وأصله من البر المقابل للبحر ، وفي لسان الشرع كل ما يتقرب به إلى الله من الإيمان به وصالح الأعمال وفاضل الأخلاق ، قبل المشرق والمغرب أي ناحيتيهما ، وآتى المال أي أعطاه ، والمسكين هو الدائم السكون لأن الحاجة أسكنته ، والعجز قد أقعده عن طلب ما يكفيه ، وابن السبيل هو المسافر البعيد عن ماله ولا يمكنه الاتصال بأهل أو بذي قرابة ، والسائل من ألجأته الحاجة إلى السؤال وتكفّف الناس ، والسؤال محرم شرعا إلا لضرورة يجب على السائل ألا يتعداها ، وفي الرقاب أي وفي تحرير الرقاب وعتقها ، وأقام الصلاة أي أداها على أقوم وجه وأحسنه ، والعهد ما يلتزم به إنسان

٥٣

لآخر والبأساء من البؤس وهو الفقر والشدة ، والضراء كل ما يضر الإنسان من مرض أو فقد حبيب من أهل ومال ، صدقوا أي في دعوى الإيمان ، والتقوى هى الوقاية من سخط الله وغضبه بالبعد عن الآثام والذنوب

المعنى الجملي

لما أمر الله تعالى بتحويل القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة ، طال خوض أهل الكتاب في ذلك ، واحتدم الجدل بينهم وبين المسلمين حتى بلغ أشده ، وكانوا يرون أن الصلاة إلى غير قبلتهم لا يقبلها الله تعالى ، ولا يكون صاحبها متبعا دين الأنبياء ، كما كان المسلمون يرون أن الصلاة لا يرضى عنها الله إلا إدا كانت إلى المسجد الحرام قبلة إبراهيم أبي الأنبياء جميعا.

من قبل هذا بين الله في تلكم الآيات أن تولية الوجوه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود من الدين ، لأنه إنما شرع لتذكير المصلى بأنه يناجى ربه ، ويدعوه وحده ، ويعرض عن كل ما سواه ، وليكون شعارا لاجتماع الأمة على مقصد واحد ، فيكون في ذلك تعويدهم الاتفاق في سائر شئونهم وأغراضهم وتوحيد جهودهم.

الإيضاح

( لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ) أي ليس توجيه الوجه إلى المشرق والمغرب لذاته نوعا من أنواع البر ، فهو في نفسه ليس عملا صالحا.

( وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ ) أي ولكن البر هو الإيمان وما يتبعه من الأعمال باعتبار اتصاف البارّ بها وقيامه بعملها.

فالإيمان بالله أساس البر ، ولن يكون كذلك إلا إذا كان متمكنا من النفس

٥٤

مصحوبا بالإذعان والخضوع واطمئنان القلب بحيث لا تبطره نعمة ، ولا تؤيسه نقمة ، كما قال تعالى : «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ».

والإيمان به يرفع النفوس عن الخضوع والاستعباد للرؤساء الذين استذلوا البشر بالسلطة الدينية ، ودعوى الوساطة عند الله ، ودعوى التشريع والقول على الله بلا إذنه ، فلا يرضى مؤمن أن يكون عبدا ذليلا لأحد من البشر ، وإنما يخضع لله وشرعه.

والإيمان باليوم الآخر يعلم الإنسان أن له حياة أخرى في عالم غيبى غير هذا العالم ، فلا يقصر سعيه وعمله على ما يصلح الجسد ، ولا يجعل أكبر همه لذّات الدنيا وشهواتها فحسب.

والإيمان بالملائكة أصل للإيمان بالوحى والنبوة واليوم الآخر ، فمن أنكرها أنكر كل ذلك ، لأن ملك الوحى هو الذي يفيض العلم بإذن الله على النبي بأمور الدين كما قال تعالى : «تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ » وقال : «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ ، بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ ».

والإيمان بالكتب السماوية التي جاء بها الأنبياء يستدعى امتثال ما فيها من أوامر ونواه ، إذ من أيقن أن هذا الشيء حسن نافع توجهت نفسه لعمله ، ومن اعتقد أنه ضار ابتعد عنه ونفرت نفسه منه.

والإيمان بالنبيين يستدعى الاهتداء بهديهم والتخلق بأخلاقهم والتأدب بآدابهم. وقدران الجهل على قلوب كثير من الناس فظنوا أن صياحهم بالأدعية والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بمثل ما في كتاب دلائل الخيرات والمدائح الشعرية ، مع الجهل بأخلاقه الشريفة ، وسيرته الكاملة ، والتأسى به إذا دعوا إلى ذلك أو نهوا عن البدع في دينه ، والزيادة في شريعته ، فيها غناء لهم أيّما غناء ، وقد ضلوا ضلالا بعيدا.

٥٥

فقد جاء في الصحيحين «أن جماعة من أمته صلى الله عليه وسلم يردون الحوض يوم القيامة فيذادون عنه (يطردون دونه) فيقول أمتى فيقال : إنك لا تدرى ما أحدثوا بعدك ، فيقول. سحقا لمن بدّل بعدي».

( وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ ) أي وأعطى المال مع حبه له الأصناف الآتية من ذوى الحاجة ، رحمة بهم وشفقة عليهم وهم :

(1) ذوو القربي المحتاجون ، وهم أحق الناس بالبر ، إذ المركوز في الفطرة أن الإنسان يألم لفاقة ذوى رحمه وعدمهم أشد مما يألم لغيرهم ، فهو يرى أن هوانه بهوانهم وعزه بعزهم ، فمن قطع رحمه وامتنع عن مساعدتهم ، وهم بائسون وهو في نعمة من الله وفضل ، فقد بعد عن الدين والفطرة ، وجاء في الحديث الصحيح «صدقتك على المسلمين صدقة ، وعلى ذى رحمك اثنتان» أي لأنها صدقة وصلة رحم.

(2) اليتامى ، لأن صغار الفقراء الذين لا والد لهم ولا كاسب ، فى حاجة إلى معونة ذوى اليسار من المسلمين كيلا تسوء حالهم وتفسد تربيتهم ، فيكونوا ضررا على أنفسهم وعلى الناس.

(3) المساكين ، الذين أقعدهم العجز عن طلب ما يكفيهم ، فيجب على المسلمين أن يساعدوهم ويقدموا لهم المعونة ، إذ هم أعضاء من جسم الأمة ، ومن مصلحة أفرادها التعاون والتآزر حفظا لكيانها ، وإبقاء على بنيانها من التداعي إلى الهدم والزوال.

(4) ابن السبيل ، وفي أمر الشارع بمواساته وإعانته في سفره ترغيب منه في السياحة والضرب في الأرض.

(5) السائلون ، الذين اضطروا إلى تكفف الناس ، لشدة عوزهم.

(6) فى تحرير الرقاب وعتقها ، ويشمل ذلك ابتياع الأرقاء وعتقهم ، ومساعدة

٥٦

الأسرى على الافتداء ، وإعانة المكاتبين على أداء نجومهم (المكاتب هو الرقيق يشترى نفسه من مولاه بثمن يجعله نجوما (أقساطا).

وفي جعل هذا نوعا من البذل واجبا على المسلمين ، دليل على رغبة الشارع في فكّ الرقاب ، واعتباره أن الإنسان خلق ليكون حرا إلا في أحوال عارضة تقضى المصلحة العامة فيها أن يكون الأسير رقيقا.

والبذل لهذه الأصناف لا يتقيد بزمن معين ، ولا بامتلاك نصاب محدود من المال ولا بتقدير المال المبذول بمقدار معين كالزكاة الواجبة ، بل هو موكول إلى أريحيّة المعطى وحال المعطى.

وقد أغفل الناس أداء هذه الحقوق التي حث عليها الكتاب الكريم ، مع ما فيها من التكافل العامّ بين المسلمين ، ولو أدوها لكانوا في معايشهم من خير الأمم ، ولدخل كثير من الناس في الإسلام ، لما يرون فيه من جميل العناية بالفقراء ، وأن لهم حقوقا فى أموال الأغنياء ، فتتوثق الصلة بين الطوائف المختلفة من المسلمين.

( وَأَقامَ الصَّلاةَ ) أي أداها على أقوم وجه ، ولا يتحقق ذلك بأداء أفعال الصلاة وأقوالها فحسب ، بل إنما يكون بوجود سرّ الصلاة وروحها ، ومن آثاره تحلّى المصلى بالأخلاق الفاضلة ، وتباعده من الرذائل ، فلا يفعل فاحشة ولا منكرا ، كما قال تعالى مبينا فوائدها : «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ » ولا يكون هلوعا جزوعا إذا مسه الضرّ ، ولا بخيلا منوعا إذا ناله الخير كما قال عزّ اسمه : «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ » كما لا يخشى فى الحق لوم اللائمين ، ولا يبالى في سبيل الله ما يلقى من الشدائد ، ولا بما ينفق من فضله ابتغاء مرضاته.

( وَآتَى الزَّكاةَ ) أي أعطى الزكاة المفروضة ، وقلما تجئ الصلاة في القرآن الكريم إلا وهى مقترنة بالزكاة ؛ ذاك أن الصلاة تهذب الروح ، والمال قرين الروح ، فبذله

٥٧

ركن عظيم من أعمال البرّ ، ومن ثمّ أجمع الصحابة على محاربة مانعى الزكاة من العرب بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن مانعها يهدم ركنا من أركان الإسلام ، وينقض أساس الإيمان.

وقد افتنّ الناس في منعها بما سموه حيلا شرعية ، وهى ليست من الشرع في شىء ، فكيف يؤكد الله علينا الزكاة ويذكرها في كتابه سبعين مرّة ، ثم يرضى أن نحتال عليه ونخادعه في تركها ، فلم إذا فرض وأوجب ، ورغّب ورهّب؟ وأحرى بمثل هذه الحيل أن تسمى حيلا شيطانية لا حيلا شرعية ، لأن فيها احتيالا على الله في إبطال فريضته.

ومن ذلك أن يأتي المزكى قبل تمام الحول (وهو شرط في وجوب الزكاة) بيوم أو يومين ويهب ماله لامرأته على أن ترده إليه بعد ذلك الميقات المضروب ، وهو بهذا يدكّ صرح الكتاب والسنة ، ويزعم مع هذا أنه مسلم مؤمن بالله ورسوله وكتابه.

وقد بينت السنة العملية والقولية قدر المأخوذ وحددته بمقدار 1/40 من رأس المال ، وسبيل الأخذ ، وسائر أحكام الزكاة.

وبعد أن ذكر البر في الأعمال ذكر البر في الأخلاق ، فقال :

( وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا ) أي والذين يوفون بعهودهم إذا عاهدوا عليها ، وهذا شامل لما يعاهد عليه الناس بعضهم بعضا ، ولما يعاهد عليه المؤمنون ربهم من السمع والطاعة لكل ما جاء به في دينه ، ولا يجب الوفاء به إذا كان في معصية.

ومثل العهود العقود ، فيجب علينا الوفاء بها ما لم تكن مخالفة لقواعد الدين العامة.

وفي الوفاء بالعهود والعقود حفظ كيان المجتمع من أن ينفرط عقده ، كما أن الغدر والإخلاف فيها هادم للنظام ، مفسد للعمران ؛ فما من أمة فقدت الوفاء بالعهد (وهو ركن الأمانة وقوام الصدق) إلا حل بها العقاب الإلهى ، فانتزعت الثقة من بين أفرادها حتى بين الأهل والعيال ، فيعيشون متخاذلين وكأنهم وحوش مفترسة ، ينتظر كل واحد وثبة الآخر عليه ، إذا أمكن يده أن تصل إليه ، ومن ثمّ يضطر أفرادها إلى الاستيثاق فى عقودهم بكل ما يقدرون عليه ، ويحترس كل منهم من غدر الآخر ، فلا يكون هناك

٥٨

تعاون ولا تناصر ، بل تباغض وتحاسد ، ولا سيما بين الأقارب ، ولو شمل الناس الوفاء لسلموا من هذا البلاء.

( وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ) أي والصابرين لدى الفقر والشدة ، وعند الضر من مرض وفقد أهل وولد ومال ، وفي ميادين القتال ، ولدى الضرب والطعان ومنازلة الأقران.

وخص هذه المواطن الثلاثة مع أن الصبر محمود في جميع الأحوال ، لأن من صبر فيها كان في غيرها أصبر ؛ فالفقر إذا اشتدت وطأته ضاق به الصدر ، وكاد يفضى إلى الكفر ، والضرّ إذا برّح بالبدن أضعف الأخلاق والهمم ، وفي الحرب التعرض للهلاك بخوض غمرات المنيّة والظفر مقرون بالصبر ، وبالصبر يحفظ الحقّ الذي يناضل صاحبه دونه ، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة أن الفرار من الزّحف من أكبر الكبائر.

وباتباع هذه الأوامر كانت الأمة الإسلامية أعظم أمة حربية في العالم ، وما زال استبداد الحكام يفسد من بأسها ، وترك الاهتداء بالكتاب والسنة يضعف من قوتها ، حتى سبقتها الأمم كلها في ميادين الكفاح.

( أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ) فى دعواهم الإيمان ، دون الذين قالوا آمنا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم.

( وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) أي وأولئك هم الذين جعلوا بينهم وبين سخط الله وقاية ، بالبعد عن المعاصي التي توجب خذلان الله في الدنيا ، وعذابه في الآخرة.

وقال بعض العلماء : من عمل بهذه الآية فقد كمل إيمانه ، ونال أقصى مراتب إيقانه.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ

٥٩

بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179))

تفسير المفردات

كتب : فرض ولزم عند مطالبة صاحب الحق به ، والقصاص : لغة يفيد العدل والمساواة ، ومنه سمى المقصّ مقصا لتعادل جانبيه ، والقصة قصة لأن الحكاية تساوى المحكي ، وشرعا أن يقتل القاتل ، لأنه مساو للمقتول في نظر الشارع ، فاتباع بالمعروف : أي فمطالبة للدية بالمعروف بلا تعسف ، وأداء إليه بإحسان : أي أداء بلا مماطلة ولا بخس حق ، اعتدى : أي انتقم من القاتل بعد العفو ، والألباب : واحدها لبّ وهو العقل.

المعنى الجملي

كان القصاص على القتل أمرا محتوما عند اليهود كما في الفصل التاسع عشر من سفر الخروج ، وكانت الدية أمرا مقضيا عند النصارى ، وكانت العرب تتحكم في ذلك بحسب قوة القبائل وضعفها ، فكثيرا ما كانت القبيلة تأبي أن تقتص من القاتل ، بل تقتصّ من رئيس القبيلة ، وربما طلبوا بالواحد عشرة ، وبالأنثى ذكرا وبالعبد حرّا ، فإن أجيبوا فيها ونعمت ، وإلا قاتلوا قبيلة القاتل وسفكوا دماء كثيرة ، وهذا ظلم عظيم ، وقسوة شديدة ، وقتل القاتل فحسب وهو ما جاء في التوراة إصلاح لهذا الظلم.

ولكن قد تقع أحيانا بعض جرائم يكون الحكم فيها بقتل القاتل ضارّا وتركه لا مفسدة فيه ، كأن يقتل المرء أخاه أو أحد أقار به لغضب فجائي اضطره إلى قتله ، ويكون هذا القاتل هو العائل لذلك البيت. فإذا قتل يفقدون بفقده النصير والمعين ،

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409