نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي0%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف: الصفحات: 326
المشاهدات: 90405
تحميل: 5270

توضيحات:

نظرات حول الإعداد الروحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 90405 / تحميل: 5270
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

بالنسبة إلى المؤمن ، وموقفه تجاه النازلة ودرجات المبتلين

( إنّ أشدّ الناس بلاءً الأنبياء ، ثمّ الذين يلونهم ، ثمّ الأمثل فالأمثل )

( إنّ للّه عزّ وجلَّ في الأرض من خالص عباده ، ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلاّ حرفها عنهم إلى غيرهم ، ولا بلية إلاّ حرفها إليهم )

( إنّ المؤمن يُبتلى بكل بلية ، ويموت بكل ميتة ، إلاّ أنّه لا يقتل نفسه )

( إنّ المؤمن من اللّه عزَّ وجلَّ لبأفضل مكان - يكرّر الإمام ذلك ثلاثاً - إنّه ليبتليه بالبلاء ، ثمّ ينزع نفسه عضواً عضواً من جسده ، وهو يحمد اللّه على ذلك )

( ولو يعلم المؤمن ما له من الأجر على المصائب ن لتمنّى أنّه قُرّض بالمقاريض )(٢٨)

( إنّ الحُرَ حُرٌّ على جميع أحواله : إنْ نابته نائبة صبَر لها ، وإنْ تداكّت عليه المصائب لم تكسره ، وإنْ أُسر وقُهِر ، واستبدل بالصبر عسراً )

٢٤١

ومن خلال القرآن الكريم ، والسنّة المطهرة يتبيّن ، إنّ المؤمن في أيّام المحنة والبلاء ووقت المكاره والمصائب. يتمثّل موقفه. في ( الثبات ) والاستقامة على الخطّ الربّاني عقيدة. وروحاً. وسلوكاً ، فلا يتنازل ولا يستقل منه شيء

( المؤمن أعزّ من الجبل ، الجبل يستقلّ منه بالمعاول. والمؤمن لا يستقل منه شيء )

ولا يتنازل عن جهاده ، وعمله في سبيل الله ؛ لأنّ

( المؤمن مجاهد. يجاهد في دولة الحقّ بالسيف ، ويجاهد في دولة الباطل بالتقيّة )

ولا يُعاني من الضعف والتردّد والتلكؤ

( وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا ) (٢٩)

ولا تصدر منه كلمة جزع ، أو سخط ، ولا يتشكك ، ولا يتزلزل

هذا ما يتمثّل موقفه فيه أولاً. ويتمثّل موقفه ثانياً في ( الاستزادة ) والنمو من خلال المحنة ، والبلاء

( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا )

٢٤٢

وهذه زيادة في الإيمان. وهناك زيادة في اللجوء إلى الله تعالى ، والانشداد له

( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ )

وهناك استبصار للذات واكتشاف لها. لاحظ قوله تعالى :

( فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَناً وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا )

إلى آخر مجالات الاستزادة على المستوى الفردي والجماعي

والملاحظ - على مستوى النصوص ، وعلى المستوى التحليلي - أنّ كلاً من الثبات ، والاستقامة ، والاستزادة من الفتنة والبلاء لا يتمّ إلاّ من خلال الصبر والتحكّم في الأهواء التي تنزع بالإنسان المؤمن إلى الانحراف ، وتطليق الشريعة ، والحيود عن الجادّة. لكي يتوافق مع مجتمعه ويبعد عنه شبح الغربة ، ويتخلّص من الآلام والمتاعب والمكاره وأشواك الطريق.

الصبر عند الأهواء

والأهواء لدى الإنسان كثيرة. منها الأصيل في النفس ومنها

٢٤٣

المتشكّل ، والمتفرّع عن معان أصيلة. وهو يعاني منها في أكثر من مجال. أو في كل مجال من مجالات العمل في سبيل الله. مع النفس. ومع الناس. والصبر هو التحكم في هذه الاهواء والسيطرة عليها. وعلى الانفعالات، وعن الإمامعليه‌السلام :

( من ملك نفسه إذا رغب ، وإذا رهب وإذا اشتهى ، وإذا غضب ، وإذا رضي ، حرّم اللّه جسده على النار )

ومن أجل تسهيل البحث ، وتوضيح المطلب نصنّف الصبر - من زاوية ممّا يصبر عليه - إلى الصبر في المجال الروحي. أو العبادة. والصبر في المجال الأخلاقي بالمعنى الخاص. والصبر في ميدان العمل لله. وهداية النفس. ( العمل الاجتماعي).

(أ) - الصبر على العبادة :

قال تعالى :( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا ) (٣٠)

التقرّب إلى الله تعالى جوهر هذا الدين وأساسه المتين الذي بنيت عليه أنظمته في المجالات كافّة. ويتمّ التقرّب إلى الله تعالى في أوضح صورة عن طريق العبادة الخاصّة من الصلاة والذكر ، والدعاء ، والقرآن الكريم. وللإنسان من المعوّقات عن العبادة - أداءً ، واستفادة - أهواءً كثيرة تضغط عليه ، وتحول بينه وبين أنْ يؤدّي العبادة أو يستفيد ، من

٢٤٤

قبيل الميل الجنسي في الذهن البشري ، والانشداد الخيالي إلى المعاني المادية ، وصعوبة التعامل مع الغيب ن والتعب البدني ، والإرهاق الناتج عن السعي في سبيل الحياة المادية ، والأُلفة ، والعادة التي تمنع من عيش الصلاة عيشاً جديداً منتجاً ، والاستثارة الروحية بالأذكار ، والدعوات. والمشاغل النفسية ، وهموم الحياة التي تشغل بال الإنسان وهو يؤدّي الصلاة لله

وبسبب هذا كلّه وغيره ، احتاج المؤمن في أداء العبادة والإكثار منها وعيشها ، والاستفادة منها ، ومداومتها إلى تحكّم في أهوائه ، ودوافعه النفسية المثبّطة له عن القيام بحق الله في العبادة ، والذكر ، والشكر ، والى مراجعة مستمرّة لمفاهيمه عن الكون ، والحياة وتصوراته الأصيلة عن هذا الدين ، حتى يعيشها أحاسيس منشّطة ، ومحركة ، ودافعة لعيش الصلاة وعيش العبادة. دروساً روحية ، ودورات تربوية ، تتم بعين الله ، ورعايته ، وإمامه تساعد المؤمن على تطهير الذات وتحريرها ، والعروج بها في مدارج الرقيّ الروحي والكمال والنفسي

(ب) - الصبر الأخلاقي :

(١) - الصبر عند الغضب ، والغيظ

( وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ )

( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ )

وفي السنّة :

٢٤٥

( مَن كفّ غضبه ستر اللّه عورته )

( فيما ناجى الله عزّ وجل به موسى : يا موسى ، أمسك غضبك عمّن ملّكتك عليه ، اكف عنك غضبي )

( مَن لم يملك غضبه لم يملك عقله )

( مَن كف غضبه عن الناس ، كف اللّه تبارك وتعالى عنه عذاب يوم القيامة )

( ما أحب أنّ لي بذل نفسي حمر النعم ، وما تجرعت جرعة أحب إليّ من جرعة غيظ لا أكافي بها صاحبها )

( ما مِن عبدٍ كظم غيظاً إلاّ زاده اللّه عزّ وجل عزّاً في الدنيا والآخرة )

(٢) - الصبر أمام شهوة البطن ، والفرج

( ما عُبِد اللّه بشيءٍ أفضل من عفّة بطنٍ ، وفرج )

(٣) - الصبر في مواجهة هوى الثرثرة ، الكلام الزائد والمحرّم في الخبر ( جاء رجل إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله فقال يا رسول الله ، أوصني

قال : ( احفظ لسانك ). قال : يا رسول الله ، أوصني

قال : ( احفظ لسانك ). قال : يا رسول الله

هوامش

____________________

(١٤) - سورة آل عمران / ١٦٥

(١٥) - سورة الحج / ١١

(١٦) - سورة الأعراف / ١٣١

(١٧) - سورة الروم / ٣٦

(١٨) - سورة الشورى / ٤٨

(١٩) - سورة البقرة / ١٥٦(٢٠) - سورة آل عمران / ١٥٣

(٢١) - سورة آل عمران / ١٤٦

(٢٢) - سورة الحج / ٣٥

(٢٣) - سورة الشورى / ٢٦

(٢٤) - سورة البقرة / ١٧٧

(٢٥) - سورة التوبة / ٥١

(٢٦) - سورة الأنعام / ٤٢

(٢٧) - سورة آل عمران / ١٧٣

(٢٨) - أصول الكافي ج ٢ باب ابتلاء المؤمنين

(٢٩) - سورة آل عمران / ١٤٦

(٣٠) - سورة طه / ١٣٢

٢٤٦

أوصني. قال : ( احفظ لسانك ، ويحك ، وهل يكبّ الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم )

وفي الخبر عن الرضاعليه‌السلام :

( من علامات الفقه : الحلم ، والعلم ، والصمت ، إنّ الصمت باب من أبواب الحكمة ، إنّ الصمت يكسب المحبّة ، إنّه دليل على كل خير )

(ج) - الصبر على الكتمان :

يحب الإنسان التظاهر ، والثرثرة ، والتجريح بالآخرين وكشف عيوبهم ، وأسرارهم ، ويحب أنْ يكشف حاله ومشاريعه للناس ، وبيان كلّ ما في ذهنه من حقائق وأفكار. إن اللسان. والتحدّث في ما لا ينبغي التحدّث به محطّ أهواء كثيرة. هوى الظهور والبروز أمام الناس بمظهر العارف بهذه الأمور. وهوى الحط من كرامة الآخرين ، وتجريحهم. وهوى الأُلفة مع الآخرين من خلال طرح كل ما في نفسه. وضغوط الأصدقاء ، والعلاقات بهم ومن هنا ، فإنّ الكتمان عنصر يحتاج إلى الصبر ، والمعاناة. ليكون بعد ذلك سجية ، وسليقة ككل الموارد التي يصبر عليها الإنسان ابتداء ، ثمّ يألفها ويعتادها ولا يشعر معها بالكلفة والعناء

الكتمان ضرورة

٢٤٧

( استعينوا على أموركم بالكتمان )

( وددت أنّي افتديت خصلتين في الشيعة ببعض لحم ساعدي : النزق ، وقلّة الكتمان )

كما ورد عن عليّ بن الحسينعليه‌السلام : الكتمان ضرورة ، وواجب في كثير من الأحيان من الزاوية الشرعية لحفظ كرامة الآخرين

وضرورة للحفاظ على النفس. وضرورة للحفاظ على الآخرين. وضرورة لنجاح الكثير من المشاريع ، التي يجب أنْ لا تسلّط عليها الأضواء ، والملاحقات من قبل الآخرين ، وتدخّلاتهم السلبيّة ، وفضول الكثير من الناس. وفي جلّ الناس شيء من الفضول

(١) - كتمان عيوب الناس ، وسترها. ممّا ينبغي ، ويجب الصبر عليه ؛ لأنّ

( الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الآكلة في جوفه )(٣١)

ولأنّ

( مَن روى على مؤمنٍ روايةً يريد بها شينه ، وهدم مروءته ، ليسقط مِن أعين الناس أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان ، فلا يقبله الشيطان )(٣٢)

٢٤٨

وللأنّ الله تعالى يقول :( وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ ) (٣٣)

وللغيبة موارد ذكَر الفقهاء جوازها فيها ، ولكنّها موارد مستثناة ، والأصل في الغيبة الحرمة. فينبغي التوّرع من ذكر عيوب الناس ، وكشف ما ستره الله تعالى من أمراضهم وذنوبهم. وكثيراً ما ينتهي بأحدنا الغيظ والحقد والتنافس إلى ذكر مساوئ إخوانه في الله. وفضحهم بما فيهم وما ليس فيهم ، ممّا يقطع بين المؤمنين من ولاية. فإنّ

( مَن قال لأخيه المؤمن أُف ، انقطع ما بينهما من ولاية ، ومَن قال له : أنت عدوّي كفر أحدهما ، ومَن اتّهمه انماث الإيمان في قلبه كما ينماث الملح في الماء )

وهكذا الحال في الظنون السيئة والاحتمالات التي لا ينبغي للمؤمن أنْ يتحقّق فيها ، ويشيعها إلاّ عند الضرورة الشرعية لذلك. وأين هذا من واقع التجريح والتشهير ، والغيبة ، والبهتان ، وغير ذلك من المعاني التي يعاني منها واقعنا الاجتماعي؟!

(٢) - كتمان أسرار الآخرين التي يخافون كشفها ويتوقّع الضرر الاجتماعي عليه منها ، وعدم الإذاعة والثرثرة في هذا الميدان ، ممّا يحتاج ، ويجب فيه هو الآخر الصبر والصمت. فقد وردت النصوص الكثيرة في

٢٤٩

تحريم الإذاعة ، وكشف السر

فعن أبي عبد اللهعليه‌السلام : ( ما قتلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ ، ولكن قتلنا قتل عمد )

( مَن أذاع علينا حديثنا سلبه الله الإيمان )

وعن أبي جعفرعليه‌السلام : ( يُحشر العبد ، يوم القيامة ، وما ندى دماً ، فيدفع إليه شبه المحجمة أو فوق ذلك ، فيقال له : هذا سهمك من دم فلان ، فيقول : يا رب ، إنّك لتعلم إنّك قبضتني ، وما سفكت دماً فيقول : بلى سمعت من فلان رواية كذا ، وكذا فرويتها عليه ، فنقلت حتى صارت إلى فلان الجبّار فقتله )

وعن أبي عبد اللهعليه‌السلام : تلا هذه الآية :

( ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ ) (٣٤)

٢٥٠

قال : ( والله ما قتلوهم بأيديهم ولا ضربوهم بأسيافهم ، ولكنّهم سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها ، فقتلوا فصار قتلاً ، واعتداءً ، ومعصية )

وعنهعليه‌السلام :

( من استفتح نهاره بإذاعة سرّنا ، سلّط الله عليه حرّ الحديد وضيق المحابس )

(د) - الصبر على الاستقامة الفكرية :

وعدم المساومة في الأفكار وتقديم التنازلات ، والتميّعات الفكرية أمام ضغوط القيم الاجتماعية والحضارية ، والأشكال الأخرى من ضواغط الحياة

قال الله تعالى :

( وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً ) (٣٥)

تتحدث هذه الآيات. عن محاولة جاهلية لفتن الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله عمّا

٢٥١

أوحي إليه من الله تعالى. أو بعض ما أوحي إليه. ويتلخّص هذا العرض في أنْ يقدّم الرسول بعض التنازلات الفكرية للمشركين في مكّة ، لينضمّوا إلى صفوف الدعوة

( لقد حاولوا هذه المحاولة في صورٍ شتّى. منها : مساومتهم له أنْ يعبدوا إلهه ، في مقابل أنْ يترك التنديد بآلهتهم ، وما كان عليه آباؤهم. ومنها مساومة بعضهم له ، أنْ يجعل أرضهم حراماً كالبيت العتيق الذي حرّمه الله ومنها طلب بعض الكبراء ، أنْ يجعل لهم مجلساً غير مجلس الفقراء )

( هذه المحاولات التي عصم الله منها رسوله ، هي محاولات أصحاب السلطان مع أصحاب الدعوات دائماً محاولة إغرائهم ، لينحرفوا - ولو قليلاً - عن استقامة الدعوة وصلابتها ، ويرضوا بالحلول الوسط التي يغرونهم بها في مقابل مغانم كثيرة

ومَن حملة الدعوات من يفتن بهذا عن دعوته ؛ لأنّه يرى الأمر هيّناً ، فأصحاب السلطان لا يطلبون إليه أنْ يترك دعوته كلية ، إنّما هم يطلبون تعديلات طفيفة ليلتقي الطرفان في منتصف الطريق ، وقد يدخل الشيطان على حامل الدعوة من هذه الثغرة ، فيتصوّر أنّ خير الدعوة في كسب أصحاب السلطان إليها ، ولو بالتنازل عن جانب منها ولكن الانحراف الطفيف في أوّل الطريق ينتهي إلى الانحراف الكامل في نهاية الطريق ، وصاحب الدعوة الذي يقبل التسليم في جزء منها ، ولو يسير ، وفي إغفال طرف منها ولو ضئيل ، لا يملك أنْ يقف عندما سلّم به أوّل مرّة ؛ لأنّ استعداده للتسليم يتزايد كلّما رجع خطوة إلى الوراء )

٢٥٢

( والتسليم في جانب ، ولو ضئيل من جوانب الدعوة لكسب أصحاب السلطان إلى صفّها : هو هزيمة روحية بالاعتماد على أصحاب السلطان في نصرة الدعوة ، والله وحده الذي يعتمد عليه المؤمنون بدعوتهم ، ومتى دبّت الهزيمة في أعماق السريرة فلن تنقلب الهزيمة نصراً )

( لذلك امتنّ الله على رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنْ ثبّته على ما أوحى الله ، وعصمه من فتنة المشركين له ، ووقاه الركون إليهم ، ولو قليلاً ، ورحمه من عاقبة هذا الركون ، وهي عذاب الدنيا والآخرة مضاعفاً ، وفقدان المعين ، والنصير )(٣٦)

وتنشأ المساومة الفكرية والتنازلات الفكرية من مناشئ مختلفة أهمّها اثنان :

(١) - التعجيل بتقدم الدعوة ، ونمو العمل في الوسط الاجتماعي. وهنا يتمّ التنازل عن بعض أفكار الرسالة الأصيلة لعدم تقبّل الناس لهذه الأفكار ، ورفضهم لها ، حتى تتقدّم الدعوة بشكل عام ، وإنْ كان على حساب التفاصيل وبعض الأجزاء منها. ومن هذا القبيل التنازلات الفكرية الكبيرة التي قدمتها الأحزاب الشيوعية الأوروبية بعد أنْ وقف نموها ، وتجمّدت فعاليتها في المجتمعات الغربية ذات التقاليد الفكرية الخاصة

(٢) - تأثّر أصحاب الدعوة بالقيم الحضارية والفكرية للمجتمع الذي ينوون تغييره. وذلك لأنّهم أبناء هذا المجتمع يؤثّر فيهم من حيث

٢٥٣

يشعرون ، أو لا يشعرون عن طريق الايحاء الاجتماعي، والبنية الفكرية، ويغلب هنا الارتباط الحضاري، والاجتماعي عند هؤلاء على الارتباط المبدئي، والرسالي فيطمسون بعض معالم رسالتهم بسبب انتمائهم الجزئي الى حضارة مختلفة.

ومن هنا احتاج المؤمنون الرساليون الى (ملكة صبر) عالية يواجهون بها الضغوط السياسية، والاجتماعية، وضغوط التعجل والترف في داخلهم. التي تعمل على تمييع شخصيتهم الفكرية، واحتوائهم فكرياً، والى انشداد خاص بالله تعالى. ينمي فيهم الاستقلال عن الجو المنحرف ويصعد من درجة تحكمهم بعواطفهم، وانفعالاتهم الآنية، ومن هنا امر الله تعالى رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله - بعد ان ذكر العرض الجاهلي - بالصلاة.

( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً ) (٣٧)

(ه‍) - الصبر على الاستمرار والفعالية العملية :

إنّ ( خوف ) الإنسان من مخاطر الطريق ، و( شعوره بالغربة ) في مجتمع يتناقض مع أفكاره ومبادئه ، و( ملله ) من العمل و( الفته ) له ، وكذلك ( انشغاله ) النفسي بالدنيا من جاهٍ ، ومالٍ ، وملذّات ، و( تزلزل ) ثقته بالصف ، و( وساوسه ) الشيطانية في الداخل و( ازدراء ) أعين الناس له ، ولمن يقوم معه ، و( روح الفردية ) وحبّه الاستقلال ، هذه كلّها وغيرها عوامل

٢٥٤

تحول. أو تثبّط أو تُضعف من الروح العملية من الاستمرار على خط العمل لله تعالى ، والفعالية والنشاط عن المواصلة. ومن هنا احتاج المؤمن كذلك ليحفظ استقامته على خط العمل ، وفعاليته فيه إلى ملَكة صبر يواجه بها أهواء الانفصال ، والبرود في العطاء

(و) - الصبر على الاستقامة في خضم العمل الاجتماعي

تعتمد الروح العملية والنشاط الاجتماعي في الأساس على سرعة المبادرة ، وسرعة الحركة ، والأداء. على السرعة في تقييم الناس. وتقديم الأفكار وتصحيحها ، والسرعة في إعطاء الصلاحيات. الخ

والإنسان عندئذ في هذه الحركة السريعة قد لا يحفظ انضباطه الشرعي ، ويتقيّد بحدود الإسلام فيكون أمره عليه غمّة. ويدخل في الانحراف من حيث هو يعمل للقضاء عليه

الإنسان العامل في الحقل الاجتماعي معرّض أكثر من غيره. إلى الوقوع في خطيئة ( التضليل ) وتربية الناس على الأفكار المنحرفة التي دخلت حوزته نتيجة للتعجّل في تقديم الأفكار ، وتربية الآخرين. وهو معرّض أكثر من غيره للوقوع في خطيئة ( ظلم ) الناس ، واتهامهم ، وتجريحهم وذكر ما ليس فيهم من العيوب ، وهدر كرامتهم. وهو معرض أكثر من غيره إلى إعطاء الصلاحيات لغير أهلها ، ووضع الشيء في غير موضعه

ولعلّ من أصعب الأشياء في ميدان العمل الاجتماعي هو الموازنة بين الانضباط الشرعي من جهة ، وبين الروح العملية ، والفعالية الاجتماعية

٢٥٥

من جهة أخرى. ولهذا ينبغي للإنسان المؤمن أنْ يُعاني في هذا الميدان ، ويكتوي بنار هذه المعاناة. ويجاهد في الله. نفسه حتى يهديه الله تعالى سبله ، ويجعل الاستقامة والفعالية سليقة وطبعاً له لا يجد حرجاً ، ولا صعوبة فيه. والله تعالى مع المحسنين

هوامش

____________________

(٣١ - ٣٢) - أصول الكافي ج ٢ ص ٣٥٧ - ٣٥٨

(٣٣) - سورة الحجرات / ١٢

(٣٤) - سورة البقرة / ٦١

(٣٥) - سورة الإسراء ٧٣، ٧٤، ٧٥

(٣٦) - في ظلال القرآن الشهيد سيّد قطب م ٥ ص ٣٥١ وما بعدها

(٣٧) - سورة الإسراء / ٧٩

الإخلاص

الوجه الثالث للإرادة الربانية الحاكمة في الشخصية الإسلامية ، هو الإخلاص. والناس غير المؤمنين على قسمين :

(١) - الناس الذين لا يملكون أنفسهم أمام شهواتهم الرخيصة الآنية ورغباتهم العاجلة كالجنس ، والمال ، والأكل. ولا يتمتعون بأفقٍ واسع ، ونظر بعيد

(٢) - الذين يملكون أنفسهم أمام شهواتهم الرخيصة ورغباته العاجلة ، وذلك بأمل تحقّق مكاسب شخصية أكبر في الأصل. وهؤلاء يمثّلون نحواً من التجاوز بالنسبة للآخرين من حيث ( نوعية ) الهوى الذي يعملون له ، والزمن الذي يحقّقون فيه هدفهم الشخصي

فالإنسان من النوع الأول ينطلق من هوى الطمع في المال وشهوة البطن ، والفرج ، وليس هذا النوع على استعداد لأنْ يضحي بهذه الأمور. في أي حقل كان ؛ لأنّ هذه الأشياء في وعيه يضحّي من أجلها ولا يضحّي بها من أجل شيءٍ آخر. أمّا الإنسان من النوع الثاني فهو ينطلق من أهواء أخرى. لنسمّها بالأهواء المعنوية. مقابل الأهواء المادية. من

٢٥٦

قبيل هوى ( العظمة ، والمجد ، والخلود ) وهوى ( التحكّم ، والسيطرة ، والتسلط ) وهوى ( تحقيق الذات من خلال تحقيق المبادئ ، والأفكار التي يؤمن بها ) وهوى ( الانتصار للعرق ، والقومية ، والوطن ). وغير ذلك من المعاني التي تمثّل توسّعاً في دائرة ونطاق الذات الفردية

والإنسان من النوع الأول إنسانٌ عجول ، وليس مثقّفاً في إبداء رغباته ، وإظهار شهواته ، فلا هو يصبر على تأجيلها ولا هو بالذي يتفنّن في العمل من أجلها ، وهذا بخلاف الإنسان من النوع الثاني. الذي يملك النفس الطويل في تحقيق أهدافه ، والسعي وراءها

والشخصية الإسلامية قسم ثالث ، يختلف نوعياً عن القسمين السابقين ، وليست هذه الشخصية بأحد النمطين السابقين إذا أضفنا له الإيمان. والالتزام السلوكي والمظهر الديني. فإنّ الإسلام كما يحاول تغيير المضمون العقائدي. والسلوك الاجتماعي ، كذلك يهدف إلى تغيير المضمون النفسي والوجداني ، ودوافع السلوك ، وبواعث الأعمال ؛ لأنّ الإسلام يبني صياغة جديدة للإنسان ، ويحاول أنْ ينشئ خلقاً آخر من الناس يتميّز عن كلّ ما عرفه التاريخ البشري وتعرفه الحضارة المادية اليوم بأشكالها ، ومظاهرها المختلفة من ناس

والإسلام إذ يحاول إنشاء إنسان جديد. فهو يهمّه في هذا الإنشاء المضمون أكثر من الشكل. وتهمّه النية بقدر ما يهمّه العمل ؛ لأنّ خلق الإنسان العابد ـ الذي يحكم الله تعالى في كل جوانب حياته. وهذا هو هدف الإسلام التربوي ـ لا يتم إلاّ بتطهير النية ، وربطها بالله تعالى. وهذا هو الإخلاص. فالإخلاص ، هو أنْ يكون الدافع على العمل ، والباعث له ( التقرّب ) إلى الله ، والحصول على مرضاته

٢٥٧

ومن الممكن أنْ يتم هذا عن طريق أحد الدوافع التالية التي تشترك جميعاً في كونها دوافع دينية هدفها الله تعالى :

(١) - الدافع الأخلاقي : وهو أنْ تمتثل. وتؤدّي أعمالك بسبب أنّ الله تعالى يأمر بها. وأنّه تعالى أهل للعبادة وواجب الطاعة بحسب رؤية العقل العملي للإنسان

( الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ، ولا طمعاً في جنّتك ، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك )

(٢) - الدافع الوجداني العاطفي النابع من حب الله تعالى والأُنس به ، والتشوق إليه

(٣) - الدافع ( الرباني / الذاتي ) وهو أنْ تتقرّب إلى الله تعالى ، وتطلب رضاه من أجل تأمين سعادتك الأٌخروية ، أو الحصول على نتائج عمليّة في الحياة الدنيا بنحوٍ تعي أنّ هذا الهدف الذاتي ، لا يحصل من دون توسيط الله من خلال التقرّب إليه ، وليس نتيجة طبيعية لفعلك الذي تقوم به

إنّ الدافع هو الأساس النفسي للفعل. والمقياس للقيمة النفسية التي يصدر عنها الفعل ، كالإحساس بالواجب الأخلاقي ، وحب الله ، وحب رضاه وجنّته ، أو الخوف من عقابه. ويختلف ( الدافع ) عن ( الهدف ) في أنّ هدف الفعل هو النتيجة التي تقصد إليها في أدائك للفعل. فالحصول على

٢٥٨

الجنّة هدف ، والوقاية من النار هدف أمّا حبّ الجنّة والخوف من النار فدافعان للعمل

وهناك أهداف اجتماعية للعمل فالهدف من الوعظ هو هداية الإنسان ، والهدف من هداية الفرد تكثير عدد المؤمنين. وتكثيرهم وسيلة لهدف آخر. والعمل من أجل تحقيق هذه الأهداف لا يتنافى مع الإخلاص. لأنّنا في هذه الحالة نسأل لماذا يسعى الإنسان إلى هذا الهدف ويخطّط له ؟ وما هو الدافع النفسي له في ذلك ؟ فإذا لم يكن الدافع شخصياً أنانياً ، وكان خالصاً لله. كان هذا العمل في طريق الإخلاص ، وعملاً مخلصاً من دون شك ، وبكلمة أخرى : إنّ هذه الأهداف هي نفسها محبوبة عند الله تعالى أو مأمور بها من قبله ، وهي لهذا من الممكن أنْ تقع أهدافاً في عمل خالص لوجه الله الكريم ، ولا يتنافى قصد التوصّل إليها بالعمل الخاص مع قربيّة هذا العمل.

الإخلاص هو المقياس للقيمة الحقيقية للعمل

ينظر ابن الحضارة الغربية - سواء كان يعيش في الغرب ، أم الشرق أم في أوساطنا - إلى العمل البشري ويقيمه على أساس من عطائه ، ونتائجه ، ودوره في الحياة الفردية ، أو الاجتماعية ، ولا يلتفت إلى النوايا ، والدوافع لهذا العمل

أمّا الإسلام ، من هذه الوجهة يلزم بمجموعة كبيرة من الأعمال ، من دون أنْ يشترط فيها شكلاً خاصاً للباعث ، والدافع النفسي وراءها ، وذلك من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتعليم الجاهل ، ونفقة الزوجة ،

٢٥٩

وتوفير الطب والأطباء. فهذه الأعمال وغيرها يلزم بها التشريع الإسلامي من دون أنْ يشترط صدورها عن قصد التقرّب إلى الله تعالى ؛ لأنّ لهذه النشاطات مصالح ملزمة في أنفسها تتحقّق من دون قصد القربة. وهناك الواجبات ، أو المستحبّات العبادية ، وهي النشاطات التي يطلبها الإسلام من أتباعه مشروطة بنية التقرّب ، وقصد القربة إلى الله تعالى

وعلى هذا. فمن الممكن في القسم الأوّل أنْ يقوم الإنسان المسلم بهذه النشاطات المذكورة. ويسقط بها الوجوب الشرعي، ويبرئ ذمّته من عهدة التكليف ، وعبء المسؤولية حتى لو لم يقصد التقرّب ، وإنّما قصد السمعة والرياء أو دفع اللوم والنقد وما شاكل ذلك

وأمّا في القسم الثاني - العبادات - فهي لا تصح إلاّ بقصد القربة ، ونيّة التقرّب إلى الله تعالى. بل يحرم أنْ يؤتى بها رياء، وسمعة

ولكن هذا كلّه من الزاوية التشريعية

وأمّا من الزاوية الأخلاقية الإسلامية ، فإنّ كل عمل ليس له قيمة إلاّ إذا كان صادراً عن إخلاص لله تعالى ؛ لأنّ قيمة العمل ( قبوله )

ولا يتم ( قبول ) العمل من الله تعالى إلاّ بالإخلاص ، وإنْ أمكن أنْ يكون صحيحاً مسقطاً للتكليف مبرئاً للذمّة من دون إخلاص

وبهذا جاءت النصوص عنهمعليه‌السلام : ( لا عمل إلاّ بنية )

( إنّما الأعمال بالنيّات ، ولكلّ امرئ ما

٢٦٠