نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي0%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف: الصفحات: 326
المشاهدات: 88836
تحميل: 5136

توضيحات:

نظرات حول الإعداد الروحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88836 / تحميل: 5136
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

إنّ حزني عليك لا ينقضي.

ولا يمكن أنْ أنساك.

فاذكرنا عند ربّك.

فإنّنا إخوتك

وعلى الدرب سائرون.

الحاج أبو حسين الربيعي

١ ربيع الأول ١٤٠٥ ه‍

____________________

(٢٣) - احد الطلاب المهاجرين في الجمهورية الإسلامية

(٢٤) ، (٢٥) ، (٢٦) - تفضل بكتابة هذه النقاط الشيخ أبو محمد الرفاعي

٤١

نظرات عامة حول الإعداد الروحي

للشهيد الشيخ حسين معن

٤٢

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

( يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً ) (١ - ٨ / سورة المزمّل )

( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ) (١١١ - ١١٢ / سورة التوبة )

٤٣

الفصل الأول المقصود من الجانب الروحي

٤٤

لا نقصد بالجانب الروحي في شخصية الإنسان المسلم كثرة الصلاة والصيام والتعبّد. وإنْ كان لكثرة التعبّد والتنفّل صلةٌ وثيقة بالجانب الروحي في الشخصية.

ولا نقصد بالجانب الروحي كذلك حُسن التعامل مع الناس والأخلاق الحسنة : كالشجاعة ، والعفّة ، والكرم ، والحكمة ، والإحسان ، وما شاكل ذلك وأنْ كان للأخلاق صلةٌ وثيقة بالجانب الروحي

وإنّما نقصد بالجانب الروحي في شخصية المسلم - والذي يعتبر جوهرها ومضمونها - الصلة الداخلية للمؤمن باللّه تعالى ، وانشداده النفسي والعاطفي به تعالى من حيث الإيمان والحب والإخلاص ، وما يُرافق هذه المعاني الثلاثة الرئيسية من خوف ، ورجاء ، وتواضع.. الخ

إنّ المضمون الداخلي المرتبط باللّه تعالى هو الجانب الروحي وهو الذي يشكّل الأساس الذي يُقوّم صَرح الشخصية الإسلامية بالكامل وتصدر عنه عناصرها الأخرى ، وسماتها ، وخصائصها المميّزة عن الناس وعلاقة الإيمان باللّه ، وخوفه ، ورجائه ، والتواضع له والإخلاص. بالعبادة الخارجية من صلاة وصيام وأذكار علاقة تأثير متبادل يؤثّر المضمون الداخلي للمؤمن فينتج عبادة وتنفّلاً وصياماً وقياماً ، وتؤثّر العبادة الخارجية فتزيد في الإيمان والحب ، والإخلاص ، والخوف ، والرجاء ، وكذلك الحال في الأخلاق ، والتربية الروحية هي بالنتيجة بناء هذه العلاقة الداخلية للمؤمن باللّه ، وتنميتها ،

٤٥

وتحصينها ، والحفاظ عليها

وإذا تحدّدت الآن بصورة مجملة هوية الجانب الروحي والتربية الروحية فبإمكاننا أنْ نطرح السؤال التالي حولها :

ما هي درجة الاهتمام التي يلزم أنْ نعطيها للجانب الروحي ، والتربية الروحية ؟ وهل تستحق التربية الروحية لأنفسنا، وللآخرين جهداً معيّناً ، وما هي درجة هذا الجهد ؟.

وبكلمة أُخرى : ما هو موقع التربية الروحية من العمل الإسلامي ومكانتها فيه ؟

توجد في الجواب على هذا السؤال اتجاهات ثلاثة يسجلها التاريخ الإسلامي وهي :

(١) الاتجاه الصوفي

(٢) الاتجاه السياسي والفكري

(٣) الاتجاه الإسلامي المتكامل.

منهج التقييم

وقبل أنْ نستعرض هذه الاتجاهات بشيء من التفصيل من أجل تقييمها والتعليق عليها ، علينا أنْ نُلمح إلى المنهج الذي يحكم ويجب أنْ نحتكم إليه في تقييم الأفكار التي تنتسب إلى الإسلام وتحسب عليه.

٤٦

في كل خلاف فكري أو مهمّة فكرية عامة علينا أنْ نرجع إلى المقاييس التي وضعها الإسلام ، ونحتكم إليها ، ونستلهم منها. كتاب اللّه تعالى وسنّة رسوله وأهل البيت الذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً ، وسيرتهم العطرة الطاهرة ، فعن عليّعليه‌السلام :

( أما أني سمِعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : ستكون فِتَن ، قلتُ : وما المخرج منها ؟ قال : كتاب اللّه ، كتاب اللّه فيه نبأ ما قبلكم ، وخبَر ما بعدكم ، وحُكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، هو الذي مَن تركه مِن جبّار قصمه اللّه ومَن ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه. هو الذي مَن قال به صدَق ، ومَن حكَم به عدَل ، ومَن عمِل به أُجر ، ومَن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم )(١)

وقال تعالى :

( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) (٢)

وقالصلى‌الله‌عليه‌وآله :

( إنّي تركت فيكم مَن إنْ تمسّكتم بهما لنْ تضلّوا مِن بعدي : كتاب اللّه حبلٌ ممدود

٤٧

مِن السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفونني فيهما ؟)

والرجوع إلى المقاييس التي وضعها الإسلام في معرفة مفاهيمه وعقائده وتشريعاته أمر طبيعي ؛ لأنّنا لا يمكن أنْ نتعرّف على أفكار أيّ شخصٍ أو جهة إلاّ مِن خلال ما يعدّ من أساليب وطُرق في تحديد أفكاره ومواقفه ومِن خلال ما يضعه مِن مقاييس في معرفتها.

والتصوّر الفكري والثقافي عن القرآن الكريم والسنّة المطهرة - قولاً وفعلاً وتقريراً - والاحتكام إليهما في الخلافات لا يتمّ إلاّ بشرطين :

(١) الجهد الفكري بالتتبّع والاستقراء لكلّ ما يتّصل بالمسألة مِن آية ، أو حديث ، أو رواية ، أو موقف ، وعدم تسجيل المواقف ، واتخاذ القرارات الفكرية إلاّ بعد الدراسة الجادّة ، والتتبّع المناسب لهذين المصدرين الأساسيّين

(٢) الانفتاح النفسي على الكتاب والسنّة وأن تكون لدى الباحث فيهما ( روح التلقي ) منها ، وعدم التجاسر ، والتأويل والتدخّل من خلال فرض الأهواء والمسبقات

فإنّ ( المؤمن أخذ دينه عن ربّه ولم يأخذه عن رأيه ) كما ورد عن أمير المؤمنينعليه‌السلام وعن الإمام الباقرعليه‌السلام في خبر صحيح : ( واللّه ، إنّ أحبّ أصحابي إليَّ أورَعهم وأفقَههم وأكتمهم لحديثنا ، وإنّ أسوأهم عندي حالاً.

وأمقتهم الذي إذا سمِع الحديث يُنسب إلينا ويُروى عنّا فلَم يقبله ، اشمأزّ منه وجحَده وكفَّر مَن دان به وهو لا يدري

٤٨

لعلّ الحديث مِن عندنا خرَج ، وإلينا أُسند ، فيكون بذلك خارجاً عن ولايتنا )(٣)

وعلينا أنْ نتذكر بصدد تطبيق هذا المنهج ، أنّ اللّه سبحانه خلقنا في هذه الحياة للمحنة ، والابتلاء ، وليس الابتلاء ، الذي خلقنا مِن أجله هو ابتلاء أخلاقيّتنا وعبوديّتنا للّه سبحانه في إطار الطاعة ، والاستقامة على الخطّ الذي يشترعه للناس فقط ، وإنّما أيضاً في مجال ( تلقي ) هذا الخطّ

وتفهّمه ووعيه ، ومِن هنا فإنّه سُبحانه عندما أنزل الرسالة بيّنها للناس. وهداهم إلى خطّها وبصّرهم بمفاهيمها وتشريعها ، ولكن لم يكن هذا البيان من قبله حاسماً حدّياً بل كان قابلاً للأخذ والرد ، والتملّص والركون ، والنفي والإثبات. لم يجعل اللّه تعالى البيان حاسماً ، حتى تكون فتنة واستجابات مختلفة من الناس ووضع المقاييس لكي يقيم الحجّة على الفهم السليم ولكي يحيى مَن حيّ عن بيّنة.

ومن هنا كانت الفكرة مسؤولة وكان الإنسان مسؤولاً عن سمعه وبصره وفؤاده كما هو مسؤول عن عمله

( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً ) (٤)

وكان هناك الناجح في فتنة التلقي

( فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ

٤٩

فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (٥)

والفاشل فيها

( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ ) (٦)

والآن نعود إلى البحث في الاتجاهات العملية الثلاثة في مسألة التربية الروحية ، وندرسها بشيء من التفصيل

____________________

(١) - البيان في تفسير القرآن ص ٢٦ - ٢٧

(٢) - سورة الحشر / ٨

(٣) - الوسائل أبواب القاضي ب ٨ ص ٣٩

(٤) - الإسراء / ٣٦

(٥) - الزمر / ١٩

(٦) - الأنعام / ٣٦

(١) الاتجاه الصوفي

تلقى الاتجاهات الصوفية الآن اهتماماً بالغاً مِن قِبل المستشرقين ، والكتّاب المسلمين التابعين لهم أو المستقلّين عنهم في التفكير ، وتدرس في العادة من التصوّف موضوعات عديدة. منها : لفظته ، واشتقاقها ، ونشأته وعواملها ، وتطوره عبر القرون ، ومفاهيمه التربوية والفلسفية والأدب المتأثّر أو المعبّر عنه. الخ

وتتوّزع المواقف التقييمية - كالعادة - بين رافض للتصوّف غاضب عليه ، وبين مدافع عنه ومؤيّد له ولا يقتصر المؤيّدون للتصوّف والاتجاهات الصوفية على بعض الباحثين الأكاديميّين أو المستشرقين المُعجبين ، بل نجد مَن له شأن يذكر في مجال العمل الإسلامي ، وخدمة الإسلام من يدافع عن الاتجاهات الصوفية ، ويعتبر الروحية الخاصّة أساساً للعمل الجهادي ، ويربط تاريخياً بين المنظمات الصوفية ، وبين الدعوة الإسلامية ، ومن هؤلاء أبو الحسن الندوي في كتابه ( ربانية لا رهبانية ) الذي نشره كما يقول : ( قياماً بالواجب ، واعترافاً بالجميل ،

٥٠

ودفاعاً عن جماعة تدين لها بعض الأجيال ، وبعض الأقطار بالدخول في الإسلام ، أو البقاء عليه ) ، وأكّد فيه أنّ الجناية على التصوّف جاءت من قبل المصطلح وكثيراً ما يجنى على الأفكار والمفاهيم بسبب المصطلحات

والواقع أنّه إذا كان يقصد مِن الصوفية التأكيد على الجانب الروحي والمضمون الداخلي الباطن ، وكثرة العبادة ، والزهد في الدنيا ، ومجاهدة النفس ، وذكر اللّه كثيراً ، لذلك تكون المنظمات الروحية القائمة على هذا الأساس داخل الإطار الإسلامي شريعة وأخلاقاً ، فكل هذا من الإسلام حثّ عليه الإسلام وربّى أجيالا عليه ، وأمّا إذا كان يُقصد مِن الاتجاه الصوفي هذا الاتجاه الذي نعرفه في التاريخ الإسلامي والذي نضَج في القرنين الثالث والرابع الهجريّين فهو اتجاه ينطوي على بعض نقاط الضعف من الناحية الإسلامية وانتهت به - عند بعض الصوفيين - إلى انحرافات واضحة ، لسنا ننكر من هذا الاتجاه كثرة العبادة ، وعملية التحرير الداخلي للنفس من أسر الشهوة ، والرضى والتوكّل ، فقد قلنا أنّ هذا كلّه من الإسلام إنّما ننكر منه كاتجاه تربوي أمرين

الأول : أنّه يركّز على التربية الروحية والعلاقة باللّه ، منعزلاً عن التأكيد على الجوانب الأخرى الضرورية في الشخصية الإسلامية ، والعمل التربوي الإسلامي يجب أن يهتم ببناء الشخصية الإسلامية مضموناً ، من حيث العلاقة باللّه وحبه وخوفه ورجائه. الخ ، وإطاراً ، من حيث الخلق والانفتاح الاجتماعي والعطاء والجهاد في سبيل اللّه، ومعرفة أحكام الشريعة ، ومفاهيمها. ولا يركز على جانب دون آخر. وبالخصوص فأنّ التأكيد على التربية الروحية عبر الرياضات ، والأفكار ، والمجاهدات - باعتبار أنّ التعامل مع الغيب

٥١

يصعب على الإنسان أنْ يكون مستقيماً فيه من دون نهجٍ إلهي يسير عليه ، في ذلك ، بمعزل عن الجوانب الإسلامية الأُخرى من السهل أنْ ينتهي إلى الانحراف والخروج عن خطّ الإسلام السلوكي والفكري في الحياة ، كما سوف نلاحظ ذلك في النتائج التي انتهت إليها الصوفية. ( الثاني ) إنّ ( هدف ) التصوّف لم يكن بناء الإنسان العابد المطيع للّه تعالى ، الملتزم بشريعته المنزّلة منه إلى عباده هدىً ، ونوراً ، ونهجاً ، وحياة ، وإنّما كان هدفه الوصول إلى ( مذاقات الاتصال بالوجود المطلق ) و( الفناء ) في الحقيقة المطلقة ( اللّه) ، أو إدراك الحقائق إدراكاً بالعيان ، والقلب ، و( الكشف ) ، و( العرفان ) ، وغير ذلك من المعاني التي إنّ صحّت من الناحية العلمية ، ولم تكن أوهاماً ضائعة ، فهي لا تصحّ هدفاً لعمل تربوي واسع ينطلق من الإسلام وللإسلام

ونتيجة لنقطتي الضعف هاتين في الاتجاه الصوفي ، برزت انحرافات عديدة عند الكثير من أهل التصوّف على امتداد تأريخه الطويل ، وهذه الانحرافات يتنكّر بعض المتصوّفة لبعضها ، ويتنكر بعض آخر منهم لبعض آخر منها ولكننا نعتبرها نتيجة طبيعيّة لروح ومضمون الاتجاه الصوفي. ومن هنا لم يخل من بعض هذه الانحرافات حتّى التصوّف السني الذي يمثله الغزالي. وفي ( كتابه أحياء علوم الدين ) والذي يعتبر أقربها إلى الشريعة

وترجع الانحرافات التي ابتلي بها الاتجاه الصوفي إلى انحرافات في الممارسات ، وانحرافات في النتائج والأفكار ، ومن هذه الانحرافات العزلة ، وتطليق الحياة الاجتماعية وممارسة السماع والرقص ، والحزن ، وتعطيل

٥٢

أحكام الشريعة باعتباره الوصول إلى درجة ترتفع معها التكاليف والهجوم المتكرّر على العلوم الشرعية القائمة على أساس السماع لا الكشف ، والإشراق ، وإشكال الانحراف العقائدي من حلول ، وفناء ، واتحاد ، واللغة الخارجة عن حدود الأدب الشرعي مع الله تعالى ، والطابع المستعلي على الرسالة الإسلامية الذي لا يفرّق بينها ، وبين غيرها من الشرائع. إلى آخر ما هنالك مِن انحرافات سجلّها التأريخ على الاتجاه الصوفي.

ولا أظن أنّنا بحاجة إلى تفصيل الكلام في هذه الأخطاء والانحرافات والرجوع إلى تأريخ التصوّف فيها.

شجب الرسالة لإرهاصات التصوّف :

إنّ حركة التصوّف تعتمد على ميل نفسي في كيان الإنسان يؤدّي عند تنميته ، وتغذيته إلى الانحراف. وقد أدّت تراكمات كثيرة إلى ظهور حركة التصوّف في التأريخ الإسلامي ( الانحلال ) الأخلاقي في العالم الإسلامي دخول الكثيرين من غير المسلمين في الإسلام مع احتفاظهم بترسّباتهم الفكرية ، والروحية ، والفلسفة اليونانية والاتجاهات الغنوصية فيها الخ.

إلاّ أنّ كلّ ذلك لم يكن ليعطي أثره لولا أمران :

(١) - الانحراف بالميل الإنساني الفطري إلى التعامل مع الغيب واكتشاف المجهول

(٢) - سوء فهم تأكيد الإسلام على الصلة بالله والمعاني الروحية ،

٥٣

والأخلاقية الأخرى. فكان من الإنسان أنْ ( اندفع ) من خلال ميله الفطري إلى العزلة والتصوّف ، و( برز ) ذلك باسم القرآن الكريم ، والسنّة المعاصرة مع ( صياغات ) و( تأثّرات ) بالتيارات الفكريّة والدينيّة ، التي تلاقحت عندما تزاوجت الحضارات الإنسانيّة في الإسلام

وبسبب الميل الفطري ، والتأثّر غير المتوازن بتعليمات القرآن الكريم ، والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ظهرت هنا ، وهناك بوادر الاعتزال ، وتطليق الحياة الاجتماعية من أجل العبادة ، ولكن أئمّة الهدى كانوا يقفون أمام هذه الحالات ، ويحوّلون بينها ، وبين التطوّر إلى ما لا ينسجم مع خط الإسلام في الحياة

(١) - قال المفسّرون : ( جلَس رسول الله يوماً فذكّر الناس ووصف القيامة فرقّ الناس ، وبكوا ، واجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي ، واتفقوا على أنْ يصوموا النهار ، ويقوموا الليل ، ولا يناموا على الفراش ، ولا يأكلوا اللحم ، ولا الودك ، ولا يقربوا النساء ، والطيب ، ويلبسوا المسوح ، ويرفضوا الدنيا ، ويسيحوا في الأرض ، وهمّ بعضهم أنْ يجب مذاكيره ، فبلغ ذلك رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله

فقال لهم :ألم أنبّئكم أنّكم انقطعتم على كذا وكذا ؟ قالوا بلى يا رسول الله ،صلى‌الله‌عليه‌وآله وما أردنا إلاّ الخير فقال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : ( إنّي لم آمر بذلك ) ، ثمّ قال : ( إنّ لأنفسكم عليكم حقّاً فصوموا ، وافطروا وقوموا وناموا فإنّي أقوم وأنام وأصوم وأفطر ، وآكل اللحم ، والدسم ، وآتي النساء ، ومَن رغِب عن سنّتي فليس منّي )

ثمّ جمع الناس ( وهذا أمر له دلالة ) وخطبهم وقال :

٥٤

( ما بال أقوام حُرموا النساء ، والطعام ، والطيب ، والنوم وشهوات الدنيا ، أما إنّي لست آمركم أنْ تكونوا قسّيسين ورهباناً ، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم ، ولا النساء ، ولا اتخاذ الصوامع ، وأنّ سياحة أمّتي الصوم ، ورهبانيّتهم الجهاد )

( اعبدوا الله ، ولا تشركوا به شيئاً ، وحجّوا واعتمروا ، وأقيموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، وصوموا رمضان ، واستقيموا ليستقم لكم ، فإنّما هلَك مَن كان قبلكم بالتشديد ، شدّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم فأولئك بقاياهم في الديارات والصوامع ، فأنزل الله تعالى الآية :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (٧)

(٢) - ونذكر حالة فرديّة في زمان الإمام عليعليه‌السلام وهي :

دخل أمير المؤمنينعليه‌السلام على العلاء بن زياد الحارثي في البصرة - وهو من أصحابه - يعوده ، فلمّا رأى سعة داره قالعليه‌السلام :

( ما كنت تصنع بسعة هذا الدار في

٥٥

الدنيا ، وأنت إليها في الآخرة أحوج ؟ وبلى إنْ شئت بلغت بها الآخرة ، تقري فيها الضيف ، وتصل فيها الرحم ، وتطلع منها الحقوق مطالعها ، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة )

فقال له العلاء : يا أمير المؤمنين ، أشكو إليك أخي عاصم بن زياد ، قالعليه‌السلام : ( وما له ؟)

قال : لبس العبادة وتخلّى عن الدنيا ، قال عليعليه‌السلام : ( عليَّ به ) ، فلمّا جاء قالعليه‌السلام :

( يا عدي نفسه ، لقد استهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك ، أترى اللّه قد أحلّ لك الطيّبات ، وهو يكره أنْ تأخذها ؟ أنت أهوَن على الله من ذلك )

قال : يا أمير المؤمنين ، هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة مأكلك ، قال : ( ويحك ، إنّي لست كأنت إنّ الله فرَض على أئمّة العدل أنْ يقدروا أنفسهم بضعفة الناس ، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره )(٨)

وفي زمن الإمام الصادقعليه‌السلام أصبح ( الزهد ) تيّاراً لشيء من الانحراف ، وحاربه الإمامعليه‌السلام أيضا يقول أحد أصحابه كما في الرواية : ( لأقعدنّ في بيتي ، ولأصلينّ ولأصومنّ ولأعبدنّ ربّي ، فأمّا رزقي فسيأتيني

فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ( هذا أحد الثلاثة الذين لا يُستجاب لهم )

٥٦

وسأل عن رجلٍ فقير أصابته الحاجة قال : ( فما يصنع اليوم ؟) قيل في البيت يعبد ربّه ، قال : فمن أين قوته ؟

فقيل : من عند بعض إخوانه ، فقال أبو عبد اللهعليه‌السلام : ( والله ، للذي يقوته أشدّ عبادة منه )

____________________

(٧) - مجمع البيان ج ٧ ص ٢٣٥ - ٢٣٦

(٨) - نهج البلاغة نص ٢٠٩

٢ - الاتجاه الفكري والسياسي

قد لاحظنا أنّ التصوّف يركّز بطريقته الخاصّة على التربية الروحية ، ولكن المنعزلة عن ذاتها. والمتوقّع لها أنْ تخرج باستمرار أفواجاً مِن المنحرفين عن الخطّ الإسلامي في الحياة سلوكاً ، وأفكاراً. وقد ساعد على ظهور هذا الاتّجاه كما سبق أنْ أشرنا إليه. التحلّل الأخلاقي ، وتلاقح الفلسفات ، والديانات مضافاً إلى الميل الفطري ، والنزوع الذاتي للتعامل مع الغيب وحث الإسلام على التربية الروحية ، وتطهير النفس وتحريرها

وفي المقابل أدّى التحدّي الثقافي الغربي ، وهجمة التيارات الفكرية والاجتماعية المادية على العالم الإسلامي ، وفقدان السيادة الإسلامية ، والاستعمار العسكري والاقتصادي للبلاد الإسلامية أدّى ذلك كلّه إلى ( ردّ ) فعلٍ إسلامي يؤكّد على الجوانب الفكرية ، والاجتماعية ، والاقتصادية في الإسلام ، وتنبيه المسلمين إلى صلاحية الإسلام للتطبيق والانتهاج ، وقدرته على إسعاد البشرية ، وبناء المجتمع القائد من جديد. كما فعل في الأمس. ويؤكّد أيضاً على محاربة الاستعمار ، والفكر الاستعماري ، والأدوات الاستعمارية في البلاد المسلمة

ولأنّ هذه الأهداف بالمنظور الحسّي أنّما تتحقّق ، بالتوعية الفكرية ، والعلمية على الإسلام ، وتحسيس المسلم بأوضاع المسلمين ، وتخلف العالم

٥٧

الإسلامي في كلّ الميادين

ولأنّ الغرب تحدّانا فكرياً وفي المنهج الاجتماعي وثقافتنا المعاصرة للكثير من المسلمين هي ( ردّ فعلٍ ) للتحدّي الغربي أقول : لهذا ، أكّد بعض الناس في عملهم التربوي على جانب التوعية الفكرية ، والعلمية وأهملوا التربية الروحية ، وبناء العلاقة بالله في نفوس المؤمنين بالإسلام ، والعاملين في سبيل الله والمستضعفين في الأرض.

وهذا يؤدّي عملياً إلى التورّم الفكري ، والعلمي ، وعدم التوازن في شخصية الإنسان المسلم ، وتغليب الإطار على المضمون ، والفكر على الروح.

والإنسان المسلم - كما هو الحال في المجتمع المسلم - قد يمرّ بحالات يكون فيها نشاطه العلمي ، ونشاطه العقلي ردّ فعلٍ لتيارات معادية. ولكنّه على العموم ينطلق من شخصية أصيلة ، وثقافة أصيلة ، وتاريخ أصيل. وسرعان ما يعيد النظر في أوضاعه ، ويبنيها لا على أساس ( الرد ) ، وإنّما على أساس ( الفعل ) الأصيل الذي يمليه الانتساب إلى السماء ، والارتباط المطلق بالله ، والرسالة الخالدة ذات الشخصية المتميزة بين الرسالات.

ومِن هنا كان عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً. وينشطون هوناً لا يُستثارون ، ولا يستفزون ، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً. كيف ؟

لأنّهم لا تبعثهم المخاطبة الجاهلية إلى الردّ. وإنّما هم ( سلام ) إلى حين تقرّر رسالتهم فيه الحرب. وهم ( سلام ) لا يثأرون لأنفسهم ولا ينتقمون لأنفسهم ، وشخصيتهم. ولا يردون على التحديات رداً تستلب فيه ذاتهم

٥٨

الرسالية ، وشخصيتهم المستقلّة.(٩)

ولمّا كان كلّ عمل. وكل تفكير. إنّما هو من إملاء الرسالة لا إملاء سواها. فعلينا باستمرار أنْ نرجع إليها ، وننطلق منها لنؤكّد بذلك نسبنا الأصيل ، وشخصيتنا الإسلامية.. وعبوديّتنا الكاملة لله تعالى. ونحن في مراجعة الرسالة كتاباً ، وسنّة ، وتاريخاً. نجد للتربية الروحيّة موقعاً أكبر. وأُركّز في طريقة العمل الإسلامي وأهدافه. ولكن في ضمن الإطار الإسلامي. والأهداف الاجتماعية للإسلام.

٣ - الاتجاه التربوي المتكامل

ويعطي هذا الاتجاه التربوي الروحي - بناء العلاقة الداخلية بالله من حيث الحب ، والإيمان ، والأخلاق ، والخوف ، والرجاء ، والزهد ، وما شاكل ذلك ، وبالوسائل المعهودة من الإسلام من الصلاة ، والصوم ، والتنفل بالعبادات ، والذكر ومخالفة الأهواء إلخ..

يعطي هذا الاتجاه التربية الروحية أهمية بالغة ؛ لأنّ الرسالة أكّدت عليها تأكيداً بالغاً ، وأعلت من شأنها وركّزت عليها ، ولكن التأكيد البالغ على التربية الروحية والإعداد الروحي لم يكن تأكيداً مستقلاًّ بهما دون الجوانب الأُخرى ، وإنّما هو ضمن الاهتمام العام بتربية وبناء الشخصية الإسلامية من جميع جهاتها. حتى يكون الإنسان المسلم مجسداً للإسلام في الفكر والروح والسلوك الشخصي والتعامل مع الناس أي متعلقاً بالله تعالى ، ومتعاملاً معه بالطريقة التي يحددها الإسلام لهذا التعامل

وبناء الشخصية الإسلامية. هو الآخر جزء من الاهتمام بالمجتمع ،

٥٩

والناس ، وعملية الإصلاح ، والتغير الاجتماعي. لأنّ الإسلام كما ينظر في أخلاقه ، وتربيته ، وأحكامه للإفراد كذلك ينظر إلى المجتمع ، والوحدات الاجتماعية التي يتألّف منها الكيان الاجتماعي

وهكذا فإنّ الذي يقوله الاتجاه الإسلامي التربوي المتكامل هو :

(١) - التأكيد البالغ على الجانب الروحي ، وتربية المضمون الداخلي المرتبط بالله تعالى. ولكن باعتبار ذلك ( جزء من كل ) هو بناء الشخصية الإسلامية بمختلف جوانبها الفكرية ، العقائدية ، الروحية ، والأخلاقية ، والاجتماعية

(٢) - أنّ بناء الشخصية الإسلامية الذي تشكّل التربية الروحية جزءاً منه هو الآخر ليس سوى (جزءٌ من كل). وهذا الكل الذي يعتبر الشخصية الإسلامية جزءاً منه هو الإصلاح الاجتماعي ، وتغير أوضاع الناس لتلتئم مع الإسلام، وتصدر عنه.

مناشئ الاهتمام بالتربية الروحية

وللاهتمام بالجانب الروحي ضمن العمل التربوي الإسلامي منشآن أساسيّان :

( الأول ) : إن الإصلاح الاجتماعي لا يتم من وجهه النظر الإسلامية السليمة ، إلاّ من خلال الإصلاح الفردي ، ولن يصلح حال الجماعة إلاّ بصلاح حال الفرد. قال الله تعالى :

٦٠