نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي0%

نظرات حول الإعداد الروحي مؤلف:
تصنيف: كتب الأخلاق
الصفحات: 326

نظرات حول الإعداد الروحي

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ محمد مهدي الآصفي
تصنيف: الصفحات: 326
المشاهدات: 88705
تحميل: 5133

توضيحات:

نظرات حول الإعداد الروحي
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 326 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 88705 / تحميل: 5133
الحجم الحجم الحجم
نظرات حول الإعداد الروحي

نظرات حول الإعداد الروحي

مؤلف:
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مراقبته. وهذا هو أيضاً جوهر التربية الروحية

وأمثلة الصابرين بالله تعالى في المحنة ، والبلاء بسبب عمق صلتهم بالله تعالى ، وشديد تعلقهم به كثيرة جداً نعرف الكثير منها ، ونجهل الكثير.

سجل القرآن الكريم بعضها وسجل التأريخ بعضها الآخر ، وأسدل ستار الزمن على الكثير مِن صبر الصابرين في الله. ونحن هنا نستشهد بالمثالين التاليين ، في كلّ تلك الحوادث :

١ - عن الفضل بن شاذان أنّه ( سعي بمحمد بن أبي عمير إلى السلطان : انّه يعرف أسامي عامة الشيعة بالعراق ، فأمَره السلطان أنْ يسميهم فامتنع ، فجر ، وعلق بين ( العقارين ) نخلتين ، وضرب مِئة سوط قال الفضل فسمعت ابن أبي عمير يقول : لما ضربت فبلغ الضرب مِئة سوط أبلغ الضرب الألم إليّ ، فكدت أنْ أُسمّي فسمعت نداء محمد بن يونس بن عبد الرحمان يقول : يا محمد بن أبي عمير ، اذكر موقفك بين يدي الله تعالى ، فتقوّيت بقوله فصبرت ، ولم أُخبر ، والحمد لله )(٢٩)

٢ - ومِن أروع ما يرويه الأصفهاني عن مجموعة الحسنيين التي سُجنت من قِبل المنصور ، لعدم معرفته بمكان محمد بن عبد اللّه ( ذو النفس الزكية ) الذي كان قد بُويع بالخلافة سرّاً منذ العهد الأموي ، ما رواه عن عليّ بن الحسين العابد الذي كان ضمن هذه المجموعة الصابرة

(أ) - عن أحد السجناء منهم : حبسنا في المطبق ، فما كنا نعرف

٨١

أوقات الصلاة إلا بأجزاء القرآن يقرأها علي بن الحسن

(ب) - وفي رواية : لمّا حمل بنو الحسن إلى أبي جعفر أتى بأقياد يُقيّدونه بها ، وكان عليّ بن الحسن قائماً يُصلّي وكان في الأقياد قيدٌ ثقيل ، فجعل كلّما قرُب إلى رَجلٍ تفادى منه واستعفى ، فانفتل عليّ من صلاته فقال: (لشدّ ما جزعتم شرعه هذا ). ثمّ مدّ رجليه فقُيّد به .

(ج) وعن أحد السجناء : لمّا حُبسنا كان معنا عليّ بن الحسن وكانت حلَق أقيادنا قد اتّسعت ، فكنّا إذا أردنا صلاة أو نوماً جعلناها عنّا ، فإذا خفنا دخول الحرّاس أعدناها ، وكان عليّ بن الحسن لا يفعل فقال له عمّه : يا بني ، ما يمنعك أنْ تفعل ؟ قال : (لا واللّه لا أخلعه أبداً حتى أجتمع أنا ، وأبو جعفر عند اللّه تعالى فيسأله لم قيّدني به ؟)

(د) - وعن أحدهم : لمّا دخلنا السجن قال عليّ بن الحسن : (اللهم إنْ كان هذا من سخط منك علينا ، فأشدد حتى ترضى )

(ه‍) - وعن الحسن بن نصر قال : حبَسهم أبو جعفر في محبس ستّين ليلة ما يدرون بالليل ، ولا بالنهار ، ولا يعرفون وقت الصلاة ألاّ بتسبيح عليّ بن الحسن ، قال فضجر عبد الله ( أبو محمد ) ضجرة فقال : يا علي ، ألا ترى ما نحن فيه من البلاء ؟ ألا تطلب إلى ربّك عزّ وجل أنْ يخرجنا من هذا الضيق والبلاء ؟ قال : فسكت عنه طويلاً ، ثمّ قال : (يا عم : إنّ لنا في الجنّة درجة لم نكن لنلقيها إلاّ بهذه البليّة ، أو بما هو أعظم منها ، وإنّ لأبي جعفر المنصور

٨٢

في النار موضعاً ، لم يكن ليبلغه حتى يبلغ منّا مثل هذه البلية ، أو أعظم منها ، فإنْ تشأ تصبر فما أُوشك فيما أحسبنا أنْ نموت ، فنستريح من هذا الغم ، كأنْ لم يكن منه شيء. وإنْ لم تشأ أنْ ندعو ربّنا أنْ يخرجك من هذا الغم ، ويقصد بأبي جعفر غايته التي له في النار فعلنا ، قال : لا ، بل أصبر. فما مكثوا إلاّ ثلاثاً حتى قبضهم الله إليه(٣٠)

(ط) - ومن روايات أبي الفرج أيضاً ، وعن أبي عبد اللّه ابن موسى قال : سألت عبد الرحمان بن أبي الموالي وكان معه بنو الحسن بن الحسن في المطبق : كيف كان صبرهم على ما هم فيه ؟ قال : كانوا صبراء ، وكان فيهم رجل مثل سبيكة كلّما أوقدت عليه النار ازدادت خلاصاً وهو إسماعيل بن إبراهيم ، كان كلّما اشتدّ عليه البلاء ازداد صبراً(٣١)

هذه بعض الآثار العملية الهامّة للجانب الروحي. وهناك آثار أخرى : فالمؤمن العامل يصدر عن خلفية إيمانية ، ورصيد روحي كبير ، وعلاقة وثيقة باللّه تعالى هو الأكثر اندفاعاً ، وإنتاجاً ، والأكثر ثباتاً ، واستقراراً في ظلّ المتغيرات الحياتية ، من رفاه ، ورخاء إلى محنة وابتلاء ومن انفتاح الناس ، وتقبلهم إلى جفائهم ، وتكذيبهم ، ومن بساطة العمل للّه إلى التعقد ، والتشابك ، إنّ الإيمان وحده بما له من آثار في النفس ، والشعور هو وحده القادر على الجمع بين الاندفاع في العمل ، والهدوء في المشاعر والتسامي في الوجدان ، وهي معانٍ من أصعب المعاني في مجال التربية

كيف لا ينطلق المؤمن من الإثارة الخارجية ؟ وكيف لا تهزّه العواطف والمتغيّرات ؟ وكيف لا ينشغل بجزئيّات الحياة عن الاهتمامات الرسالية

٨٣

الكبرى ؟ وكيف لا يضيق صدره من مواجهات التكذيب والسخرية ويحتفظ بطمأنينة ورباطة جأشه في أحرج اللحظات ؟ وكيف يحتفظ بدرجة اندفاعه ، وينمو عنده هذا الاندفاع في مختلف الظروف والأحوال ؟ !

وأخيراً. كيف يحافظ على استقامته الشرعية في معمعة العمل الاجتماعي ، وضوضاء الحياة ؟

والجواب : إنّ كل هذا ليس له سوى منبع واحد. هو الإيمان حينما يثبت في الجوارح كلّها في القلب والمشاعر ، والإرادة ، والوجدان

التربية الروحية وعمل الأئمّة :

ومن الواضح تاريخياً ، أنّ الأئمة كانوا عموماً يعملون به لأجل بناء ، وتكوين الشخصية الإسلامية المتكاملة كنقطة مشتركة ضمن النقاط المشتركة في عملهمعليهم‌السلام . وكانت الشخصية الإسلامية في وعيهم بوصفهم المعبّرين الحقيقيين عن الإسلام هي هذا التلاحم ، والتكامل بين الإطار الأخلاقي الشامل للعطاء الاجتماعي ، والعمل الرسالي ، وبين المضمون والمحتوى الروحي الذي يتمثل في العلاقة بالله تعالى

كانواعليهم‌السلام يواجهون عملية التحلل الأخلاقي ، والانصراف للدنيا والبعد عن الله. والتنصل عن عبادة الله تعالى ، وكانوا يواجهون الانحرافات العملية في الجماعة ، التي أفرزها عملهم ، عندما حولت بعض قطاعاتهم الولاءات إلى أداة للتنصّل عن الالتزام الشرعي ، ولتبرير الوضع المتحلّل بدلاً من أنْ تفهمه على حقيقته ، بوصفه عاملاً من عوامل الاستقامة،

٨٤

والالتزام بالشريعة ، وكانوا أولاً وأخيراً. ينطلقون من دورهم الإيماني في الحياة الذي يتمثل - فيما يتمثل فيه - بتكوين أجيال مؤمنة تحمل الرسالة إلى العالم باستمرار. فيعملون على ذلك بمختلف الأساليب

وقد سجّلت المجاميع الحديثية النصوص الواردة عنهم حول الإيمان والأخلاق والتربية الروحية ، حول الشخصية الإسلامية وبنائها فبلغ ذلك من الكثرة مبلغاً عظيماً.

ونحن هنا نسجل شيئاً من تلك النصوص التي تربط بين الولاء ، والتشيع لخطّ أهل البيتعليه‌السلام ، وبين العلاقة الروحية بالله تعالى :

(١) - عن أبي جعفرعليه‌السلام : ( لا تذهب بكم المذاهب ، فواللّه ما شيعتنا إلاّ من أطاع الله عزّ وجل )(٣٢)

(٢) - عن جابر ، عن أبي جعفرعليه‌السلام قال : قال لي : ( يا جابر ، أيكتفي مَن ينتحل التشيّع أنْ يقول بحبّنا أهل البيت فواللّه ما شيعتنا ، إلاّ من اتقى الله وأطاعه ، وما كانوا يعرفون يا جابر إلاّ بالتواضع ، والتخشّع ، والأمانة ، وكثرة ذكر اللّه والصوم والصلاة )(٣٣)

(٣) - عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد اللّهعليه‌السلام في حديث :

( ما أقلّ والله مَن يتّبع جعفراً منكم ، إنّما أصحابي مَن اشتدّ ورعه ، وعمل لخالقه ،

٨٥

ورجا ثوابه ، فهؤلاء أصحابي )(٣٤)

(٤) - وعنهعليه‌السلام : ( ليس منا - ولا كرامة - مَن كان في مصر فيه مِئة ألف ، أو يزيدون ، وكان في ذلك المصر احد أورع منه)(٣٥)

(٥) - وعنهعليه‌السلام : ( شيعتنا الشاحبون الذابلون الناحلون ، الذين إذا جنّهم الليل استقبلوه بحزن )(٣٦)

(٦) - وعنهعليه‌السلام : ( إنْ شيعة عليّ كانوا خمص البطون ذُبل الشفاه ، أهل رأفة وعلم وحلم ، يُعرفون بالرهبانية ، فأعينوا على ما أنتم بالورع والاجتهاد )

وعن أبي جعفرعليه‌السلام : ( إنّما شيعة علي الحُلماء العلماء ، الذُبل الشفاه ، تعرف الرهبانية على وجوههم )(٣٧)

٨٦

ومن المناسب أن نذكر هنا أنّ الجيل الأول للمسلمين قد خرّج مجموعة من أهل العبادة ، والورع والتقوى ، كانوا بسببها موضع مدح أهل البيتعليه‌السلام إذ يُروى عن أبي جعفرعليه‌السلام في خبر صحيح قال :( صلّى أمير المؤمنينعليه‌السلام بالناس الصبح بالعراق ، فلمّا انصرف وعظهم فبكى وأبكاهم من خوف الله ، ثمّ قال : أما والله لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهم ليصبحون ويمسون شُعثاً غُبراً خُمصاً ، بين أعينهم كرَكب المعزى ، يبيتون لربّهم سجداً وقياماً يراوحون بين أقدامهم وجباههم يناجون ربّهم ، ويسألونه فكاك رقابهم من النار ، والله لقد رأيتهم مع هذا ، وهم خائفون ، مشفقون ) .هذه بعض النصوص الشاهدة على أنّ الأئمةعليهم‌السلام كانوا يهدفون إلى بناء الشخصية الإسلامية بما تتضمّنه من عبادة ، وإيمان وحب وإخلاص ، وكل عناصر الروحية الإسلامية الأخرى .ومن هنا فهمعليهم‌السلام يربطون بين الولاء ، وبين التربية الروحية. وأمّا دراسة هذا الهدف ضمن الأهداف العامّة للائمّةعليهم‌السلام من الزاوية التاريخية فلها موضع آخر.

____________________

(٢٢) - الميزان م ١١ ص ٦٦ عن مجمع البيان

(٢٣) - سورة هود / ١٠٩ - ١١٥

(٢٤) - نعني بالمشاركة الوجدانية الشعور الجماعي بدلاً عن الشعور الفردي. أي الشعور بـ( نحن ) بدلاً عن الشعور بـ( أنا ) ، وينتج ذلك تداعي المؤمن للمؤمن في آلامه وأفراحه وأحزانه. عن الصادقعليه‌السلام : ( المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد إنْ اشتكى شيءٌ منه وجَد ألم ذلك في سائر جسده وأرواحهما من روح واحدة ، وأن روح المؤمن لأشدّ اتصالاً بروح الله مِن اتصال شعاع الشمس بها )(الأصول ج ٢ - ص ١٦٦) وهذا يعني إنّ الصلة العاطفية بين المؤمنين نابعة من صلتهم العاطفية بالله تعالى

(٢٥) - هود / ٢٩ - ٣٠

(٢٦) - آل عمران / ١٤٥ - ١٤٨

(٢٧) - آل عمران / ١٧٣

(٢٨) - طه ٧١ - ٧٣

(٢٩) - أخبار معرفة الرجال ص ٥٩١

(٣٠) - مقاتل الطالبيّين ص ١٣٩

(٣١) - نفس المصدر ١٣٥

(٣٢) - أصول الكافي ج ٢ ص ٧٣

(٣٣) - نفس المصدر ص ٧٤

(٣٤) - نفس المصدر ص ٧٧

(٣٥) - نفس المصدر ج ٧ ص ٧٨

(٣٦) - نفس المصدر ج ٢ ص ٢٣٣

(٣٧) - نفس المصدر ج ٢ ص ٢٣٥

الجانب الروحي والممارسات العبادية

توجد بصدد تحديد نوعية العلاقة بين الجانب الروحي والممارسات العبادية فكرتان خاطئتان هما :

(١) - الفكرة التي تؤكد على أنّ الممارسات العبادية هي كل شيء. وأنّ الجانب الروحي إنّما هو الممارسات العبادية من أذكار ، ونوافل ، وتبتّلات

٨٧

(٢) - الفكرة التي تقطع الصلة بين الجانب الروحي والممارسات العبادية، وتفترض أنّ بإمكان الإنسان المؤمن أنْ تكون لديه الملَكة الروحية ، وأنْ ينمّي علاقته الداخلية بالرسالة من دون حاجة إلى المستحبّات والأذكار وغيرها من الأمور العبادية الخاصة

والصحيح أنّ الممارسات العبادية شيء ، والجانب الروحي شيءٌ آخر ، وأنّ بينهما صلةٌ وثيقة ؛ وذلك لأنّ الجانب الروحي إنّما هو الارتباط النفسي ، والروحي بالله تعالى هذا الارتباط والانشداد الداخلي ، الذي يؤدي إلى الورع عن الإسلام

وهذا المعنى هو الذي يُعتبر عنصراً من عناصر الشخصية الإسلامية ، أو محتواها الحقيقي ، وأمّا العبادة الخارجية فهي ليست المحتوى الحقيقي للشخصية الإسلامية وإنّما لها دورٌ آخر سنشير إليه. والإسلام - كتاباً وسنّة - عندما يولي العبادة الخارجية من أذكار ، وصلوات وأدعية. اهتماماً ، وتأكيداً ، فإنّما هو من أجل زيادة الإيمان بالله ، وحبّه ، والإخلاص له ، وتمثّل ما رسمه للإنسان في الحياة

( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (٣٨)

وتؤكد النصوص هذه الحقيقة. وهي أنّ المهم إنّما هو البناء الداخلي والانشداد النفسي ، والعاطفي ، والسلوكي بالله تعالى ، بل وتحذر من الوقوع في خطأ الخلط بين البناء الذاتي والممارسات العبادية. لما لهذا الخلط من آثار عملية وفكرية سيّئة ومن أوضحها التركيز على العبادة ، والممارسات العبادية ، وإهمال المضمون الداخلي والتربوي للإنسان

٨٨

(١) - عن مفضل بن عمرو قال : ( كنت عند أبي عبد اللهعليه‌السلام فذكرنا الأعمال فقلت أنا : ما أضعف عملي ، فقال :

( مه ، استغفر الله ) ، ثمّ قال : ( إنّ قليل العمل مع التقوى خير من كثير العمل بلا تقوى )(٣٩)

(٢) - عن أبي بصير قال : قال رجل لأبي جعفرعليه‌السلام : إنّي ضعيف العمل قليل الصيام ، ولكنّي أرجو أنْ لا آكل إلاّ حلالاً فقال له : ( أي الاجتهاد أفضل مِن عفّة بطن وفرج ؟)(٤٠)

وفي نص صحيح عن أبي جعفرعليه‌السلام : ( ما عُبد اللّه بشيء أفضل من عفّة بطنٍ وفرج )(٤١)

(١) - عن عيسى بن عبد الله أنّه قال لأبي عبد اللهعليه‌السلام :

جعلت فداك : ما العبادة ؟ قال : حسن النية بالطاعة من الوجوه التي يطاع الله منها(٤٢)

إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة الدالّة على هذا المعنى

إذن فالأساس في الجانب الروحي ، والمهم في نظر الإسلام تربوياً هو ، الصلة الداخلية باللّه ، والانشداد النفسي والعمل. لا كثرة العبادة.

هذا من جهة. ولكن من الجهة الأخرى فإنّ الممارسات العبادية ، وكثرة الأذكار ، والتنفّلات هي جزء مهم من الإسلام وليست إضافة

٨٩

غريبة عليه ، وقد ورد الحث الشديد عليها في القرآن الكريم ، والسنة المطهرة ، وسجل لنا التأريخ حرص الأئمة البالغ على أدائها ، والقيام بها(٤٣)

ومن الواضح أنّ الإسلام إذ يؤكد على هذه الممارسات العبادية ، فلا يؤكد عليها بما هي أصوات ، وحركات ، وطقوس ، وإنّما ينبع تأكيده عليها ، لصلته الوثيقة بالارتباط النفسي والروحي باللّه سبحانه. أي بوصفها عاملاً تربوياً وسبباً من أسباب تصعيد الإيمان في المشاعر ، والعواطف والإرادة. فهذا الحث الأخلاقي والتشريعي يكشف عن ( صلة واقعية ) بين الممارسات العبادية والمحتوى الداخلي للشخصية الإسلامية ، وهي صلة لا يمكن عمليّاً - بموجبها - أنْ نتصوّر مستوى روحيّاً جيّداً ، من دون ممارسة عبادية جادة ، تتمثل في مجموعة من الحركات العبادية والأذكار ، والصلوات - المستحبّة بالطبع - وهكذا تلاوة القرآن الكريم ، ومتابعة الأدعية ، وما شاكل ذلك

إنّ من حسنات الإسلام الكثيرة علينا - ومن نعم اللّه سبحانه - أنّه كما أوضح لنا الأهداف التربوية كذلك حدّد لنا عموماً وسائلها ، ولم يترك هذا الإنسان يتخبّط في تحديد الوسائل ، والأساليب التي تربطه نفسياً ، وشعوراً بالغيب ، شخص اللّه سبحانه في تشريعه المنزّل : الصلاة والأذكار ، والصيام ، وتلاوة القرآن الكريم ، والدعاء كوسائل لتنمية الروح. وبناء الذات الرسالية وليس بإمكاننا أن نقفز من على الأساليب الربانية لنصل إلى هدفنا التربوي الخطير ، إنّما نصل إليه بواسطة تمثل هذه الأساليب ، وتبنيها عملياً. وكما إن الممارسات العبادية ( عامل )

٩٠

تربية للبناء الروحي كذلك هي ( نتائج ) ؛ لأنّ العلاقة الداخلية باللّه تظهر على السلوك ، لا بشكل طاعة ، والتزام فقط ، وإنّما عبادة ، وخشوع ، وتضرّع ، وأذكار أيضاً. نلخص من كل هذا

(أولاً) : إنّ الممارسات العبادية ليست هي الجانب الروحي في الشخصية الإسلامية. ولا هي المهم المباشر في نظر الإسلام ، وإنّما هي جزء مهم من الإسلام

(ثانياً) : أنّ هناك علاقة وثيقة بين الانشداد النفسي العاطفي ، والشعوري ، والعملي باللّه ، الجانب الروحي ، وبين الممارسات العبادية ؛ لأنّ تكوين الجانب الروحي وتنميته لا يتم من الناحية العملية ، ومن زاوية النظرية الإسلامية التربوية إلاّ من خلال الممارسات العبادية وأمثالها ، ونقصد من الممارسات العبادية في كل ما سبق الممارسات العبادية ، التي تمثّل العبادات الواجبة المؤدّاة بصورتها الصحيحة ، والفضلى ، والعبادات المستحبّة.

جنايات على التربية الروحية

نلاحظ : أنّ الإنسان المسلم - وحتى بعض من كتب في هذه المجالات - يُعاني من الضعف الروحي. وضعف الانشداد النفسي بالله تعالى. من عوامل ذلك صعوبة التعامل النفسي مع الغيب ؛ لأنّ الإنسان بحكم تكوينه المرتبط بالمادة ، وانغماسه في الحس ذهنياً ، ونفسيّاً لا يجد من السهل أنْ يتعالى على ذلك ، ويعلق شعوره ، وقلبه بالله سبحانه ويقطع نفسه من الدنيا ، ومعانيها الخداعة. طبيعة المذهب البشري الميال إلى

٩١

التفكير الحسي(٤٤) وغرائز الإنسان ، وشهواته التي تتطلب السرعة ، والعجلة في التنفيذ(٤٥) عاملان داخليان لإضعاف التوجه الروحي في المشاعر والوجدان ، والإرادة

ويضاف إلى ذلك ، عوامل أُخرى تساعد على ضعف البناء الروحي للإنسان المسلم :

(١) - الصورة المشوّهة التي كوّنتها الاتجاهات الروحية المنحرفة ، إذ يقترن الآن في ذهن الإنسان المسلم - أو بعض المؤمنين - التربية الروحية العبادية الكثيرة ، التي تهدف إلى خلق الروح الإسلامي المشدود إلى الله يقترن هذا باعتزال الناس ، والقطيعة الاجتماعية ، والتنصّل عن المهام الرسالية في الحياة ، والنماذج المتديّنة ، والاتجاهات المنحرفة في التربية الروحية

إنّ الإفراط - لو صحّ هذا التعبير - في التربية الروحية واختلال التوازن السلوكي على حساب العمل الاجتماعي أدّى إلى تفريط هذه التربية ، وردود فعل نفسيّة سلبية تجاهها

وأنْ توضّح المفهوم الإسلامي الصحيح حول الإعداد والتربية الروحية ، والعمل على إلقاء الأضواء على حياة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّة الصالحين الذين عانوا في العمل الاجتماعي ، في جانبها العبادي المشرق ، واقتران الدعوة إلى التربية الروحية بشجب التيارات المنحرفة فيها من الأمور الضرورية ، في مواجهة هذا التعامل التاريخي السلبي

(٢) - الجو الحضاري ، والاجتماعي الذي يقوم على أُسس أخلاقية ،

٩٢

وفلسفية تختلف عن قِيم الإسلام ، وأخلاقه وتصوّراته عن الحياة

إنّ هذه الحضارات المادية التي يشيع تأثيرها في كل مكان لَقادرة على أنْ تستوعب تيارات اجتماعية ، وفكرية مختلفة ، وهي لا تمانع مع انتشار هذه التيارات ، شريطة أن لا يكون لهذه التيارات مضمون حياتي ، وأخلاقي ، أو حضاري جديد يختلف عنها بإمكان هذا الإنسان المسلم أن يعمل للإسلام ويوضّح أفكاره كمبدأ اقتصادي واجتماعي. دون أن يشعره بت( ازدراء ) اجتماعي وحضاري ، خاصة إذا فرغ الإسلام من مضمونه الأخلاقي

إمّا أن يدعو هذا الإنسان المسلم إلى صياغة إنسان جديد. يقوم على أساس الانشداد النفسي والشعوري ، بالله والزهد في الدنيا ، أو هو يبني نفسه على أساس من ذلك ، فهذا ( نشاز ) في وعي الإنسان المعاصر الذي يزدري بسهولة هذه المفاهيم وهذا عامل مهم من عوامل ضعف البناء الروحي ؛ لأنّ للإيحاء الحضاري والاجتماعي أثراً كبيراً في شخصية الفرد

(٣) - التحدي الثقافي الغربي للإنسان المسلم يفترض على هذا الإنسان أن يقوم بعملية رد على التحدي ، والذي يحدث - عادة - في مثل هذه الحالات ، هو أن يفقد الإنسان المسلم أصالته ، وصدوره عن منبع ثقافي ، وروحي أصيل. وتكون ثقافته ، ومواقفه مجرّد ثقافة ومواقف ( دفاعية ) وهذه مسألة مهمّة تدعو إلى التفكير ، والتأمّل

____________________

(٣٨) - سورة البقرة ١٨٣

(٣٩) - أصول الكافي ج ٢ ص ٧٦

(٤٠) - نفس المصدر ج ٢ ص ٧٩

(٤١) - أصول الكافي ج ٢ ص ٧٩

(٤٢) - أصول الكافي ج ٢ ص ٨٣

(٤٣) - ولعلّ الإمامين العليّين : أمير المؤمنين ، وعليّ ابن الحسينعليهما‌السلام كانا أكثر مبالغة وجهداً من باقي الأئمةعليهم‌السلام في ذلك

ففي خبر صحيح عن أبي عبد الله : ( كان عليّ بن الحسينعليه‌السلام إذا أخذ كتاب عليّعليه‌السلام فنظر إليه قال : مَن يطيق ذا ؟ من يطيق ذا ، قال : ثمّ يعمل به وكان إذا قام إلى الصلاة تغيّر لونه حتى يُعرف ذلك مِن وجهه وما أطاق عمل عليّعليه‌السلام من ولده مِن بعده إلاّ عليّ بن الحسينعليه‌السلام ) ، ويؤكّد هذا المعنى أخبار أُخرى ( الوسائل - مقدمات العبادات - باب ٢٠ ص ٣ ) .وفي بعضها أنّه دخل أبو جعفرعليه‌السلام على أبيه عليّ بن الحسين فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد ، فرآه قد اصفر لونه من السهر ورمضت عيناه من البكاء ودبرت جبهته وانحرف انفه من السجود ، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة .وقال أبو جعفر : ( فلم أملك - حين رأيته بتلك الحال - البكاء فبكيت رحمة له فإذا هو يفكر فالتفت إلي بعد هنيئة من دخولي ، فقال : يا بني ، أعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام فأعطيته فقرأ فيها شيئاً يسيراً ثمّ تركها من يده تضجّراً ، وقال : من يقوى على عبادة عليّ بن أبي طالبعليه‌السلام ) ؟ باب ٢٠ ص ٦٨ الوسائل

(٤٤) - الإنسان وإنْ كان يميل طبيعياً إلى التفكير الحسّي ، إلاّ أنّه قادر على تجاوز المعرفة الحسّية. فهذا وغيره من ( القوانين الاقتضائية ) ، وليس من ( القوانين الحتمية )

(٤٥) -( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) ( آل عمران )

عناصر الجانب الروحي

تشتمل الروحية الإسلامية على ثلاثة عناصر رئيسية :

(الأول) : الوعي الإيماني وتعني - هنا - المدركات الذهنية التي

٩٣

تتمتع بالاستحضار المستمر ، والمعايشة الدائمة من قبل الإنسان المؤمن ، كالإيمان بالله تعالى ، واليوم الآخر والشعور بالحركة التاريخية ، ووحدة المسيرة. الخ

(الثاني) : الوجدان الإسلامي ويشمل العواطف كحب الله تعالى ، وحب المؤمنين ، والانفعالات ، كالخوف ، والرجاء من الله ، والغضب له

(الثالث) : الإرادة ، والإخلاص ، أو الدافع الديني في شخصية الإنسان المسلم ، الذي ينظم حركة هذه الشخصية وتصرفاتها ، ويعتبر الجهاز الحاكم فيها

وسندرس هذه العناصر إن شاء الله تعالى. تباعاً ثمّ نسجّل بعد ذلك إن شاء الله الوسائل التي وضعها الإسلام لبناء الجانب الروحي وتنميته

ومنه تعالى نستمدّ التوفيق والسداد

٩٤

٩٥

٩٦

٩٧

(١)( وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنْسَانُ عَجُولاً ) ( الإسراء )

٩٨

الفصل الثاني : الإيمان ( الوعي الكوني والرؤى الفكرية )

دور الفكر في الشخصية الإسلامية

الفكر. هو الصورة الذهنية التي يحملها الإنسان عن الواقع الخارجي عن الكون ، أصله ، ونشأته وتطوّره ونهايته ، والحياة ومعناها والمجتمع وقوانينه ودور الإنسان في هذه الدنيا. ومسؤوليته فيها وصلة الله تعالى بالعالم. إلى آخر ما هنالك من موضوعات يتعلّق بها الفكر الإنساني ، والفكر هو أحد أجهزة الشخصية الإنسانية ، التي تتفاعل فيما بينها ، وتتبادل التأثير وهي ( الفكرة ، العاطفة ، الإرادة ) ، ففكر الإنسان ليس منفصلاً عن عاطفته وأُسلوب حياته النفسية وإنّما هو متّصل بها أوثق اتصال ، يؤثّر فها ويتأثّر بها. ومن هنا كان النمو الفكري للطفل البشري ، والمجتمع البشري يؤثّر باستمرار في طريقة حياته ، وفي قِيمه الأخلاقية والحضارية ، ودرجة انفتاحه النفسي ، ونضجه الانفعالي

ومن هنا أيضاً كانت أجدر الرسالات في التأثير بالناس ، وقيادتهم ، الرسالة التي تقدّم لهم منهجاً كاملاً شاملاً للفكر ، والأخلاق ، والسلوك. لأنّ الإنسان في ظلّ هذه الرسالة لا يشعر بالانفصال بين فكره ، وسلوكه ، وبين مفاهيمه بالحياة ، وقيمه الأخلاقية ، ولأنّ كلّ جزء من هذه الرسالة يعزّز الجزء الآخر ويكمله

ومن هنا ندرك عظمة هذا الدين الذي تنزل من أجل بناء الإنسان ، حينما بدأ مشروعه التغييري الجبّار من التحرير الفكري للإنسان مِن أوهام

٩٩

الجاهلية ، والإبداع وإعادة بنائه العقلي على أساس من وعي كوني جديد ، يقوم على أساس الإيمان بالله ، الواحد الأحد ، المتفرّد بالأسماء الحسنى ، ذي الطول والنعم باعث الأنبياء والرسل لهداية الناس. والإيمان بمرحلية هذه الحياة ، وعود الناس إلى الحياة من جديد، ليروا أعمالهم

( فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )

وما أسهل أنْ ندرك قيمة هذا الوعي الكوني في شخصية الإنسان المسلم وأثره العميق في الحياة النفسية لهذا الإنسان هذا الوعي الذي يبعث وينمي الإحساس الأخلاقي بالحياة ، ويعمل على خلق المشاعر المتعالية على جزئيات الحياة ، وصغائر الأمور. هذا الوعي الذي يقاوم التقييم النفسي للظواهر ، والأشخاص ، ويوسع الآفاق. ويخلق طمأنينة النفس ، وهدوء المشاعر ، والانفعالات ، هذا الوعي الذي ينمي روح التفاؤل بالحياة ، والانفتاح عليها ، ويترك لأهل الضلال السأم ، والتطيّر ، والقلق ، والغثيان. ولا يقتصر الوعي الذي يشيعه الإسلام بين المؤمنين على الوعي الديني الخاص ، الذي يتمثّل بالإيمان بالله ، واليوم الآخر بل يتعدّى ذلك إلى مجالات أُخرى سنأتي عليها إنْ شاء الله بعد قليل

الوعي الفكري والفهم

إنّ الفكر الذي يعتبر عنصراً من عناصر شخصية الإنسان المسلم ليس هو ( الفهم ) والتصديق الساذج بقضايا الإيمان ، وتقريرها تقريراً منطقياً ، أو عملياً ، إنّما هو الوعي والفكر المستحضر المعاش في الذهن ، والمتذكّر

١٠٠