الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة الجزء ١

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة0%

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة مؤلف:
تصنيف: متون فقهية ورسائل عملية
الصفحات: 793

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة

مؤلف: الشيخ زين الدين علي بن محمد الجبعي العاملي (الشهيد الثاني)
تصنيف:

الصفحات: 793
المشاهدات: 68559
تحميل: 11490


توضيحات:

بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 793 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 68559 / تحميل: 11490
الحجم الحجم الحجم
الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة

الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية - مقدمة الجزء 1

مؤلف:
العربية

الشهيد في رمضان سنة 770 وصرح فيها بأنه سمع من مؤلفاته، وسمع منه كتاب (التحرير) و (الارشاد) و (المناهج) و (نهج المسترشدين) و (شرحي النظم والياقوت) للعلامة الحلي و (خلاصة المنظوم) لابن مالك و (اللمع في النحو) لابن جني و (الشرائع) للمحقق و (مختصر مصباح الطوسي) وغير ذلك(1) .

مدرسة جزين

كان الشيعة في (جبل عامل) و (سوريا) عامة - وهم قلة في البلد في عهد (الامويين والعباسيين) يعيشون تحت ضغط الارهاب السياسي وكان هذا الضغط والارهاب السياسي يمنعهم من القيام بنشاط ثقافي أو سياسي ملموس. حتى إذا دالت (دولة العباسيين) وظهرت (دولة البويهيين) في (العراق وفارس). و (دولة الحمدانيين) في (الموصل وحلب). و (دولة العلويين) في (مصر والشام والحجاز وافريقيا) استطاع الشيعة أن يجاهروا بنشاطهم الثقافي والسياسى، وأن يدعوا علانية إلى التشيع.

فظهر في هذه الفترة نشاط سياسي وثقافي ملموس للشيعة في (سوريا) عامة، وفي (جبل عامل) خاصة، مما نستعرضها قريبا عند الحديث عن الجانب السياسي من حياة الشهيد.

___________________________________

(1) يراجع فيما تقدم من تلاميذ الشهيد حياة الامام الشهيد والروضات والكنى والالقاب والذريعة (*).

١٢١

فكان من أثر ذلك ظهور (مدرسة حلب) لبني زهرة، وظهور نشاط ثقافي شيعي في (جبل عامل)، فقد كثرت (المدارس الفقهية الشيعية) في جبل عامل، وقوى النشاط الثقافي في هذا القطر.

وأول مدرسة فقهية افتتحت في هذا القطر هي (مدرسة جزين) للشهيد الاول، ويبدو أنها كانت طليعة النشاط الثقافي والسياسي الشيعي في جبل عامل، فحين اكتمل الشهيد دراسة في الحلة، وفرض نفسه على الاوساط الثقافية، واحتل لنفسه مكانة رفيعة فيها رجع إلى (جزين) مسقط رأسه وفيها ابتدأ بنشاط ثقافي وسياسي ملموس لنشر التشيع والفقه الشيعي في هذه الاقطار، فأسس معهدا كبيرا لتدريس الفقه والاصول على مستويات مختلفة في جزين، عرف ب‍: (مدرسة جزين).

وقدر لهذه المدرسة بفضل عناية مؤسسها الشهيد أن تربي عددا كبيرا من الفقهاء والاصوليين، وأن تخرج جمعا كبيرا من المفكرين لاسلاميين(1) . ذلك جانب من ثقافة الشهيد وآثاره في الفقه والاصول، وما ترك من أثر كبير في تطوير مناهج دراسة الفقه والاصول، وتماذج من تلاميذه من الفقهاء ومنشآته الثقافية. ويخال إلي أن القارئ يستطيع بعد هذا العرض السريع للجانب الثقافي من حياة الشهيد ان يلمس طرفا من شخصية الشهيد الثقافية وأثره الكبير في (تاريخ الفقه الشيعي).

___________________________________

(1) راجع تاريخ جبل عامل. ص(234) (*).

١٢٢

شعر الشهيد

لم يقتصر الشهيد - كما ذكرنا طي الحديث المتقدم - على الفقه والاصول والدراسات الكلامية، وانما كان مع ذلك أديبا كاتبا وشاعرا بالاضافة ألى كونه فقيها من الرعيل الاول.

ونثر الشهيد كما نلمسه نحن من خلال كتبه (كاللمعة الدمشقية والقواعد والذكرى والدروس) يمتاز بقوة الادلة والبساطة والوضوح وعدم الالتواء والتعقيد، ولا يجد الباحث في نثر الشهيد شيئا من التعقيد والالتواء، واصطناع السجع والزخرفة البديعية التي كان يتعارفها الكتاب فيما سبق.

وشعره - وإن قل - يمتاز بالرقة، ودقة التصوير، وروعة الديباجة والمس المباشر للنفس، وجمال التعبير، وجودة الاداء.

فمن شعره:

غنينا بنا عن كل من لا يريدنا وإن كثرت أوصافه ونعوته

ومن صد عنا حسبه الصد والقلا ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته(1)

ومنه قوله في المناجاة:

عظمت مصيبة عبدك المسكين في نومه عن مهر حور العين

الاولياء تمتعوا بك في الدجى بتهجد وتخشع وحنين

فطردتني عن قرع بابك دونهم أتري لعظم جرائمي سبقوني

أوجدتهم لم يذنبوا فرحمتهم أم أذنبوا فعفوت عنهم دوني

إن لم يكن للعفو عندك موضع للمذنبين فأين حسن ظنوني(2)

___________________________________

(1) روضات الجنات. الجزء 2. ص 591.

(2) نفس المصدر (*).

١٢٣

ومن قوله في مسايرة ابن الجوزي في قوله:

أقسمت بالله وآلائه إليه ألقى بها ربي

إن علي بن أبي طالب امام أهل الشرق والغرب

من لم يكن مذهبه مذهبي فانه أنجس من كلب

فقال الشهيد:

لانه صنو نبي الهدى من سيفه القاطع في الحرب

وقد وقاه من جميع الردى بنفسه في الخصب والجدب

والنص في الذكر وفي " إنما وليكم " كاف لذي لب

من لم يكن مذهبه هكذا فانه أنجس من كلب(1)

ومنه قوله:

بالشوق والذوق نالوا عزة الشرف لا بالدلوف ولا بالعجب والصلف

ومذهب القوم أخلاق مطهرة بها تخلقت الاجساد في النطف

صبر وشكر وايثار ومخمصة وأنفس تقطع الانفاس باللهف

والزهد في كل فاق لا بقاء له كما مضت سنة الاخيار في السلف

قوم لتصفية الارواح قد عملوا وأسلموا عوض الاشباح للتلف

ما ضرهم رث أطمار ولا خلق كالدر حاضرة مخلوق الصلف

لا بالتخلق بالمعروف تعرفهم ولا التكلف في شئ من الكلف

يا شقوتي قد تولت أمة سلفت حتى تخلفت في خلف من الخلف

ينحقون تزاوير الغرور لنا بالزور والبهت والبهتان والسرف

ليس التصوف عكازا ومسبحة كلا ولا الفقر رؤيا ذلك الشرف

وإن تروح وتغدو في مرقعة وتحتها موبقات الكبر والشرف

وتظهر الزهد في الدنيا وأنت على عكوفها كعكوف الكلب في الجيف

___________________________________

(1) روضات الجنات. الجزء 3. ص 593.

١٢٤

الفقر سر وعنك النفس تحجبه فارفع حجابك تجلو ظلة التلف

وفارق الجنس واقر النفس في نفس وغب عن الحس واجلب ما شئت واتصف

واخضع له وتذلل إذ دعيت له واعرف محلك من آباك واعترف

وقف على عرفات الذل منكسرا وحول كعبة عرفان الصفا فطف

وادخل إلى حبوة الافكار مبتكرا وعد إلى حانة الاذكار بالصحف

وإن سقاك مدير الراح من يده كأس التجلي فخذ بالكأس واغترف

واشرب واسق ولا تبخل على ظمأ فان رجعت بلا ري فوا أسفى

وله شعر يخاطب (بيد مر) حاكم دمشق عندما حبسه في قلعة دمشق بتهمة وجهها إليه أعداؤه في حديث طويل بأن يتظلم فيه إليه عما اسند اليه من التهم وعن حياة السجن:

يا أيها الملك المنصور بيدمر بكم خوارزم والاقطار تفتخر

إني اراعي لكم في كل آونة وما جنيت لعمري كيف اعتذر

لا تسمعن في أقوال الوشاة فقد باؤوا بزورو إفك ليس ينحصر

والله والله أيمانا مؤكدة إني برئ من الافك الذي ذكروا

عقيدتي مخلصا حب النبي ومن أحبه وصحاب كلهم غرر

الفقه والنحو والتفسير يعرفني ثم الاصولان والقرآن والاثر

وما تقدم من نماذج من شعر الشهيد يكفي ليلمس القارئ معالم الرقة والجمال في الاداء والتعبير في (شعر الشهيد)رحمه‌الله تعالى.

جهاده

١٢٥

عصر الشهيد

لكي ندرس الجانب السياسي من (حياة الشهيد) ودوره في الجهاد وإنجازاته ينبغي أن ندرس قبل ذلك الظروف الاجتماعية والسياسية التي عاصرها الشهيد، والاتجاهات الدينية والسياسية السائدة في عصره، لنلمس من وراء ذلك موقف الشهيد من هذه الحركات والاتجاهات وأثره في الحياة الاجتماعية، ونوعية الدعوة التي كان يقوم بأعبائها في حقل العمل الاجتماعي، من اصلاح وتوجيه وبناء.

أما أن نستعرض حوادث من (حياة الشهيد) ومواقفه وشهادته مما ترددها كتب التراجم: من ميزان نحاول أن نربط بعضها ببعض، وان نربطها جميعا بالظروف الاجتماعية التي كان يعيشها، وأن نملا به بعد ذلك الفجوات والفراغات التي تلاحظ في ترجمة الشهيد، فهذا العمل - إن صح أن يكون ترجمة لحياة الشهيد - فلا يكون دراسة وحثا عن حياة الشهيد ولذلك كله آثرنا أن نعبد الطريق للقارئ، لنشرف معه على سير الحياة الاجتماعية في عصر الشهيد، على أن لا نخرج عن هذا البحث من غير طائل كبير.

انحلال الدولة الاسلامية

اتخذ (بنو العباس) سياسة قاسية بالنسبة إلى (الشيعة والعلويين) وغالى في هذا السلوك (المتوكل العباسي) بشكل فظيع.

١٢٦

وإذا علمنا أن (العلويين والشيعة) عامة كانوا من أهم عوامل ظهور (الدولة العباسية) وانحلال الحكم الاموي عرفنا كم كانت (الشيعة) تعاني من هذا السلوك في ظلال الحكم العباسي، وكم كان يخالجهم الشعور بالندم على اسناد الحكم العباسي، وتدعيمه والاغترار بعهودهم، ولم يجد الشيعة أي مبرر لمثل هذا الضغط والعنف في السلوك من قبل الجهاز الحاكم.

وهذا ما حدى بهم إلى التفكير في اللاستقلال عن حكومة بغداد العباسية ولكن قوة الحكم العباسي وامتداد سيطرتهم إلى أطراف البلاد كان يمنع (الشيعة) عن القيام بأية محاولة للانفصال والاستقلال، حتى اذا ظهر الضعف في جهاز الحكم العباسي، وضعفت سيطرته على البلاد ظهر الانحلال في الحكم العباسي، وانفصل كثير من البلدان عن الحكومة (الام) في (بغداد) وكان أصلح الاقطار الاسلامية للاستقلال والانفصال عن الحكم العباسي هو (إيران) و (الاندلس) و (افريقيا): أما (الاندلس) فقد انفصلت من الحكم العباسي منذ بدء تأسيسه حيث فر اليها (عبدالرحمن بن معاوية بن هشام)، وواليها من بعد عبدالرحمن بن يوسف الفهري، وبقى فيها عاما يخطب للسفاح حتى اذا استقام به الامر ولحقه أهله من بني أمية استقل في الحكم، وألغى ذكر بني العباس في الخطبة(1) ، فكان ذلك سنة 138 ه‍. وبقيت (الاندلس) تحت حكم الامويين إلى سنة 422 ه‍.

أما في (ايران) و (افريقيا) فكان طابع النشاط السياسي هو التشيع واستطاعت (الشيعة) في هذين القطرين بشكل خاص أن يقوموا بوجوه مختلفة من النشاط السياسي، ويظهروا انفصالهم عن بغداد، وحتى

___________________________________

(1) راجع سمط النجوم العوالي. الجزء 3 ص 405 (*).

١٢٧

أن يدخلوا (بغداد) في بعض الاحيان.

فقد عرف (الشيعة) في تاريخ الاسلام بالحركة والنشاط الدائم ومقاومة الطغيان والاستبداد والانحراف في اجهزة الحكم. والامر ما كانت للسلطات تلاحقهم في كل مكان، وتراقب حركاتهم ومكانهم أشد المراقبة، فحين أخذت (الحكومة العباسية) بالانحراف وأمضت في الضلال خرج (الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن السبط) مع جماعة من أهل بيته منهم (إدريس ويحيى)، واستولى على المدينة وطرد عنها عامل (الهادي العباسي)، وكان الموسم موسم حج، فخرج هو وأصحابه إلى الحج، حتى إذا بلغوا موقعا قريبا من مكة يقال له: (فخ) أرسل اليهم الحاكم العباسي جيشا وضع فيهم السيف حتى قتل جمعا كثيرا منهم، وفيهم (الحسين الفتح) نفسه، وكان ذلك في يوم التروية(1) ، ونجى منهم فيمن نجى ادريس بن عبدالله ويحيى بن عبدالله: أما (يحيى) ففر إلى الديلم والتف حوله الناس، فأرسل الرشيد إليه جيشا بقيادة الفضل بن يحيى فكاتبه الفضل، وأعطاه الامان، بآثر يحيى السلم على الحرب وذهب إلى (بغداد) بأكرمه الرشيد ثم غدر به(2) .

___________________________________

(1) راجع الطبري. الجزء 10. ص 24 - 32. وابن كثير الجزء 10. ص 40. وابن أثير الجزء 6. ص 32. 34.

(2) راجع مقاتل الطالبيين. ص 463 - 483 (*).

١٢٨

دولة الادارسة(172 - 375)

أما ادريس ففر إلى مصر، ومنها إلى المغرب، واجتمعت حوله قبائل البربر وغيرهم، واشتد أمره واستمر حكمهم قرنين وثلاث سنين وامتدت سلطتهم في المغرب، وكانت حاضرة ملكهم مدينة فاس(1) . وقد استطاع الادارسة في هذه الفترة أن يخدموا المغرب كثيرا، وأن يخلفوا تراثا حضاريا ومدنيا قيما، وأن ينشروا التشيع في هذا القطر من الارض.

الفاطميون

وفي سنة 286 هجرية بعدما ضعفت (الدولة العباسية) أخذ (ابوعبدالله الشيعي)، يدعو لعبيد بن المهدي في (إفريقيا) وأخذ البيعة وانتزع افريقيا من (بني الاغلب) واستولى عليها وعلى الغرب الاقصر والشام، واقتطعوا سائر هذه الاقطار من (العباسيين)، واستمر حكمهم إلى سنة 567 وامتد نفوذهم إلى (مصر والحجاز واليمن). وكان (الفاطميون) شيعة اسماعيلية، سعوا كثيرا لنشر التشيع في (مصر وافريقيا) والاقطار الاخرى التي كانت تحت يدهم.

وربما جاز لنا أن نقول: ان ظهور (الفاطميين) واستيلاء‌هم على الحكم وحرصهم على نشر (التشيع) ومعارضة المذاهب الاخرى

___________________________________

(1) راجع تاريخ الاسلام للدكتور حسن ابراهيم حسن. الجزء 3 ص(162 - 167) (*).

١٢٩

كان رد فعل طبيعي للعنف والضغط الذي كانت (الشيعة) تنوء به أيام الحكم العباسي.

دوله مستقلة اخرى

استقل (الحمدانيون) في (الموصل وحلب)، وإمتد حكمهم من 317 إلى 394. وظهر باليمن (يحيى بن الحسن بن القاسم الرسي، وهو إبن (ابراهيم طباطبا)، وملك صعدة وصنعاء، وظهر (القرمطي) بنواحي (البحرين وعمان) وسار اليهما سنة 279 أيام المعتضد، واستمر حكمهم إلى القرن الرابع.

وخلال هذه الفترة استبد (بنو سامان) بما وراء النهر آخر أعوام 260، وامتد حكمهم إلى آخر القرن الرابع، ثم اتصلت دولة أخرى في مواليهم ب‍ (قرنة) منتصف المائة السادسة. وكانت للاغالبة بالقيروان وافريقية دولة اخرى استقلت منذ أيام الرشيد، واستمرت إلى أوائل المائة الثالثة، ثم أعقبتها دولة أخرى لمواليهم (بني طنج) موالي كافور إلى الستين والثلاثمائة(1) .

واستقل (بنو بويه) في الحكم من سنة 334، واستمر حكمهم إلى سنة 447، وامتد سلطانهم على جزء كبير من الوطن الاسلامي عن (فارس والاهواز وكرمان وبغداد) وغيرها. خدم (البويهيون) التشيع أيام حكمهم، ونشروا المذهب

___________________________________

(1) راجع سمط النجوم. تأليف عبدالملك بن حسين العصامي المكي الجزء 3. ص 406 و 407 (*).

١٣٠

في (إيران والعراق) وخلفوا تراثا فكريا قيما من بعدهم، ولسنا بصدد الحديث منه.

وتأسست (الدولة الايوبية) سنة 564، وامتد سلطانهم أيام (صلاح الدين) من النيل إلى دجلة، وفي أيامهم وقعت الحرب الصليبية المعروفة بين المسلمين والمسيحيين، وعرفت (الدولة الايوبية) بطابعها السني المجافي للشيعة.

خلف الايوبيون في الحكم (المماليك) وهذه السلسلة غريبة في وضعها، فقد تعاقب الحكم فيها عبيد من جنسيات مختلفة، واستمر سلطانهم نحوا من قرنين وثلاثة أرباع قرن، وكانوا بشكل عام سفاكين وغير مثقفين(1) .

ويقسم المماليك إلى المماليك البحرية(1250 م 1390 م) والمماليك البرجية(1382 م - 1517 م) فالبحرية سموا بذلك نسبة إلى النيل، إذ كانت ثكناتهم تقوم على جزيرة صغيرة في نهر النيل، وكان أكثرهم من الترك والمغول. أما البرجية فكانوا في الغالب من الجراكسة.

الجراكسة

استولى (ملوك الجراكسة) على الحكم بعد المماليك البحرية الذين كانوا امتدادا لدولة الايوبيين. وكان ابتداء ملكهم سنة أربع وثمانين وسبعمائة واستمر حكمهم مائة وثمانية وثلاثون سنة، وكانت عاصمة حكمهم (القاهرة) وأول ملوكهم الملك الظاهر سيف الدين (برقوق).

___________________________________

(1) راجع تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين - فليب حتى. الجزء 2 ص 267 (*).

١٣١

برقوق

كان (برقوق) أول عهده عبدا واتابكا خاصا للملك الصالح الحاجي ابن الاشرف بن شعبان، وهو الرابع عشر من ملوك الاتراك مماليك الايوبيين المتغلبين عليهم. وقد تولى (الحاجي) الحكم وهو ابن عشر سنوات، ولم يكن له من الامر غير الاسم، فألزم (برقوق) الامراء بخلعه، ونصب نفسه للحكم سنة أربع وثمانين وسبعمائة. ولكن الامر لم يصف له، فقد انشق عليه بعد حين من الزمان أمراء عصره فخرج عليهم (تمريغ الافضلي) و (بليغ العمري) ونزعا عنه الحكم وملكا مصر وأعيد حاجي إلى الحكم مرة أخرى، وحبس (برقوق) بالكرك. ولم يطل الامر ببرقوق، فقد خرج من السجن وكر ثانيا على أعدائه وجمع الحيوش وتمكن منهم وأزاحهم عن المسرح واستقل بالامر إلى أن توفي سنة 801(1) .

علاقة برقرق بالخليفة العباسي

في عهد برقوق كان القائم بالخلافة هو (المتوكل) محمد بن المعتضد العباسي، وقد خطب الخليفة قبل أن يفوض إلى برقوق الامر خطبة بليغة ثم قلده الامر بحصور جمع من القضاة(2) .

___________________________________

(1) راجع سمط النجوم العوالي. الجزء 4. ص 32.

(2) حسن المحاضرة للسيوطي. الجزء 2. ص 88 (*).

١٣٢

ولكن (برقوق) لم يبق وفيا بالنسبة إلى الخليفة العباسي، فقد خلعه سنة 785 وحبسه بقلعة الجليل، وبويع بالخلافة محمد بن ابراهيم بن المستمسك ابن الحاكم، ولقب (الواثق بالله)، فاستمر في الخلافة إلى أن مات يوم الاربعاء سنة 788، فكلم الناس برقوقا في إعادة المتوكل إلى الخلافة فلم يقبل واحضر أخا محمد زكريا ولقب (المستعصم بالله)، واستمر في الخلافة إلى سنة 791، فندم (برقوق) على ما فعل بالمتوكل، واخرج (المتوكل) من الحبس وأعاده إلى الخلافة وخلع زكريا، واستمر زكريا بداره إلى ان مات مخلوعا، واستمر المتوكل في الخلافة إلى أن مات.

الوضع الاجتماعي في ايام برقوق

انهارت الاوضاع الاجتماعية في (مصر) وفي (سوريا) أيام الجراكسة بشكل عام، لضعف جهاز الدولة، ولتسرب الصليبيين إلى البلدان الاسلامية فقد جاء‌ت (الحملة الصليبية) عقيب (حملة التتر)، وكان لهما اسوأ الاثر على الحياة الاجتماعية، وكانت الحروب الداخلية والفتن والاختلافات قائمة على قدم وساق بين الامراء والحكام، فقد نصب (برقوق) مرتين وعزل بينهما، وعزل (الحاجي) ونصب مرتين. وعزل (المتوكل) ونصب.

وذلك كله إذا دل على شئ فنما يدل على ضعف جهاز الحكم عهد الجراكسة وفي عهد (برقوق) بشكل خاص، وكثرة الخلافات وكان الناس يعهدون من قبل أن تخول الامارة إلى أشراف الامة ورجالها فانقلب الوضع فيما انقلب من حياة الامة في هذه الفترة، وتحولت الامارة إلى طبقة جديدة من (العبيد) لم تكن الامة تستسيغها بعد، فبينما كانوا

١٣٣

يعرضون امس في أسواق الرقيق للبيع أصبحوا اليوم يحكمون على أمة كبيرة من الناس. وكان خيال السلطنة في دماغ كل واحد منهم من حين يجلب إلى السوق إلى أن يموت، حتى أن واحدا منهم جلب وهو حقير فاحش القرعة فاحش العرج قال للدلال الذي يبيعه: هل اتفق تولي الاقرع الاعرج سلطانا؟(1) .

وهذا كان مما يبعث الناس على عدم الخضوع والاستسلام لهذه الدولة الجديدة. ولذلك كانت تظهر الفتن الداخلية بصورة هائلة بين حين وحين من هنا وهناك، ويجد الباحث خلال الكتب التاريخية مالا يقل عن أربع عشرة فتنة خطيرة وقعت خلال هذه الفترة.

وزاد الطين بلة ظهور أحداث طبيعية كان لها اكبر الاثر في تردي الحالة الاقتصادية، كفترات الجدب، والمجاعة، والزلازل، والوباء. ويخصص المقريزي - وهو ممن أرخ هذه الفترة - كتابا لوصف المجاعات، والكوارث الطبيعية التي وقعت في هذه الفترة.

وانشغل (برقوق) طيلة إمارته بحروب داخلية وخارجية كثيرة فقضى على المماليك البحرية، وحارب تمريغا وبليغا، فظهرا عليه وخرج من السجن وجمع الجيوش مرة أخرى فتغلب عليهما. وفي أيامه أرسل (تيمور لنك) إليه رسالة قاسية اللهجة يدعوه إلى الاستسلام له دون قيد أو شرط، ويهدده فيما إذا رفض ذلك أن ينزل عليه عذابا شديدا: وأجاب عليها (برقوق) برسالة مشابهة لها في قسوة اللهجة، ولم يطل

___________________________________

(1) سمط النجوم العوالي الجزء 4. ص 31 (*).

١٣٤

بعد ذلك أيام (برقوق) حتى توفي(1) وفي الوقت نفسه كان مهددا من قبل الصليبيين الافرنج، ومن قبل المماليك البحرية، فكان انشغال الحكومة بالخماد الفتن الداخلية، ومقاومة الحركات السياسية والعسكرية المعارضة سببا لضعف النشاط الفكري والثقافي وأعمال الاعمار والبناء والهندسة والفن.

وقد تركت هذه الحروب والفتن الداخلية أثرا سيئا في حياة الناس الاجتماعية والاقتصادية، فأشغلت الناس من وجوه النشاط التجاري والزراعي من جانب، وحمل الناس من جانب آخر تكاليف هذه الحروب المادية فالحروب تكلف الامة المحاربة كثيرا من المال، ومن العتاد والزاد. وطبيعي أن ثقل هذه الماليات كانت تقع على عاتق الامة فقط وتجبي عن طريق فرض الضرائب، فكان ذلك باعثا على سيل من الاحتجاجات لا نهاية لها.

ولم تكن هذه الرسوم الثقيلة على الخيل والقوارب فحسب، بل على ضروريات الحياة أيضا نظير الملح والسكر، وقد احتكر بعض السلاطين سلعا معينة، وتلاعبوا بأسعارها. تبعا لمصلحتهم الخاصة(2) . على أن الحكام والامراء أنفسهم كانوا من الناحية الاخلاقية والدينية ساقطين مما كان يؤدي إلى عدم وثوق الجمهور بهم. فكان عدد من السلاطين (من هذه الاسرة) عاجزين وخونة وكان بعضهم فاسدين، بل ساقطين، وكان اكثرهم غير مثقفين. وقد عاد نظام تسري الغلمان إلى مثل ما كان عليه من الشيوع في أيام (العباسيين)، وانهم عدد من المماليك أولهم (بيبرس)، ولم يكن

___________________________________

(1) راجع الفتوحات الاسلامية لزيني دحلان الجزء 2. ص 105 - 109.

(2) تاريخ سوريا ولبنان: فيليب حتى الجزء 2. ص 277 (*).

١٣٥

السلاطين وحدهم فاسدين، بل إن الامراء أيضا وسائر من في الحكم كانوا على جانب من الفساد(1) . وفوق ذلك كانت الخلافات الطائفية بين (الشيعة والسنة) قائمة على قدم وساق، فقد ظهرت (الدولة الفاطمية) كرد فعل لسلوك (الدولة العباسية) المجافي مع (الشيعة)، وقد تمكنت (الشيعة) فترة (الحكم الفاطمي) من الاستيلاء على (مصر وسوريا والعراق والحجاز واليمن) ونشر (المذهب الشيعي) في هذه الاقطار على أوسع مجال، فجاء‌ت (الدولة الايوبية) وأذيالها بعد ذلك لتعارض هذا (الاتجاه الشيعي) بشكل قاس عنيف.

وللقارى ء أن يقدر بعدما كان يظهر في مثل هذه الاجواء من ردود أفعال، ومن اصطدام بين (السنة والشيعة)، ومن ظهور خلافات طائفية في تافه المسائل ورخيصها. وهذه صورة مجملة عن الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية (أيام المماليك الجراكسة) عامة و (برقوق) خاصة.

والآن وبعد ما استوفينا دراسة الحياة الاجتماعية في عهد برقوق نستطيع أن نعطي صورة عن (حياة الشهيد) السياسية، وجهاده وإنجازاته، ونقدر ظروفه وعمله.

قضى (الشهيد) الشطر الاخير من عمره في دمشق أيام حكومة برقوق من (ملوك الجراكسة) على مصر والشام وقد تقدم الحديث عن حكومة (برقوق) خاصة، والجراكسة عامة. وكانت حكومة دمشق يومئذ بيد (بيدمر) مندوب برقوق، ويبدو من كتب التاريخ أن حكومة (الشام) لم تكن مرتبطة بحكومة (مصر)

___________________________________

(1) تاريخ سوريا ولبنان: فيليب حتى الجزء 4. ص 274 (*).

١٣٦

إلا اسميا، فقد كان حاكم دمشق يستقل في الحكم والادارة من غير أن يراجع المركز في شئ من شؤون الادارة والحكم. ومهما يكن من شئ فقد قضى الشهيد) جزء‌ا كبيرا من عمره في دمشق إحدى (حواضر العالم الاسلامي) في وقته.

وقدر للشهيد أن يكون لنفسه في الشام مكانة اجتماعية، وفكرية كبيره، ويفرض نفسه على مجتمع (دمشق) بشكل خاص، ومجتمع سوريا بشكل عام، وأن ينفذ إلى جهاز الحكم كما سنجد ويستغله لغاياته الاصلاحية. كان الشهيد في دمشق على اتصال دائم بالحكام والامراء والشخصيات السياسية البارزة في وقته، ونعرف ذلك من إقناع (الشهيد) الحكومة لمحاربة (اليالوش) المتنبي الذي سنبحث عنه فيما يأتي من هذه الرسالة وكان بيته ندوة عامرة لاصحاب الفضل والعلم، وطلاب المعرفة، وعلماء دمشق والاقطار المجاورة الذين كانوا يزورون دمشق بين حين وحين أو يمرون عليها، فكان لا يخلو بيته على الدوام من الزوار: من أصحاب الفضل، وأصحاب الحاجة الذين كانوا يقصدون (الشهيد) للتوسط لتيسير.

حاجاتهم لدى المراجع الحكومية. وعلى الرغم من توتر العلاقات بين (الشيعة والسنة) فقد كان (الشيهد) يحتل مكانة عملية مرموقة بين (علماء السنة)، فكانوا يحضرون مجلسة في بيته للاستفادة، وللمناقشة، ولحل مشكلات الفقه والكلام في كثير من الاحيان. ومن حرص (الشيهد) على توحيد الكلمة كان يتجنب في مجلسه الخوص في مسائل الخلاف بين (الشيعة والسنة) وإثارة الخلافات الكلامية فيما بينهم على صعيد الجدل يخفي ما كان بيده من كتابه حين كان

١٣٧

يزوره أعلام السنة في مجلسه، حتى أنه عد من كراماته أنه حينما ابتدا بكتابه (اللمعة الدمشقية) لم يمر عليه زائر من علماء السنة ووجهاء دمشق إلى أن تمت كتابة هذه الرسالة في سبعة أيام.

وهذه الرواية تدل على حرص (الشهيد) أولا على عدم إثارة المسائل الخلافية، والمحافظة على وحدة الكلمة بين المسلمين في ظروف اجتماعية مضطربة التي لمحنا منها بعض الملامح فيما تقدم من هذا الحديث. وتدل ثانيا على أن بيت (الشهيد) كان آهلا بمختلف الطبقات من علماء، ووجهاء من شيعة وسنة من دمشق وخارجها.

ولم يبق (الشهيد) هذه الفترة الطويلة في (دمشق) عاطلا عن العمل والنشاط، ولم ينتقل من (جزين) إلى (دمشق) لغير سبب ولم يكن الشهيد بالشخص العاطل المهمل في الحياة، فقد حاول أولا أن يكون لنفسه مكانة مرموقة في الاوساط الاجتماعية والفكرية، وهو عمل جبار اذا لاحظنا الظروف التي عاشها (الشهيد)، والفجوات الكبيرة التي كانت بين (السنة والشيعة) في ذلك الوقت.

وحاول ثانيا أن يستغل نفوذه في الاوساط السياسية، ومكانته الفكرية في الاصلاح، والتوجيه، وتوحيد الكلمة، والضرب على أيدي العابثين والمغرضين، فأخمد ثورة (اليالوش) المتنبي، ملا الفجوات التي كانت تفصل (الشيعة عن السنة) وقلص حدود الخلافات المذهبية والطائفية.

وقد كان الخلاف في وقته قائما على قدم وساق بين (السنة والشيعة) ومن ورائها كانت الصليبية تغذيها وتلهمها بمختلف الوسائل وكانت الحكومات تجد في ذلك كله إلهاء‌ا لذهنية المسلمين وتخديرا لنفوسهم.

١٣٨

صلات الشهيد مع حكومات عصره

ولسنا نعلم هل كان بين (برقوق) والخليفة العباسي، وبين الشهيد صلات قائمة، وعلاقات شخصية أم لا، وإنما نعلم أن (الشهيد) كان في وقته شخصية اجتماعية، وفكرية مرموقة في دمشق، وليس في دمشق فقط، فقدر له أن يزور أكثر حواضر العالم السلامي في وقته، وأن يتصل بطبقات العلماء والوجهاء، وان يسمعهم ويستمع إليهم، ويكون معهم روابط اجتماعية.

وفيما بين أيدينا من كتب التاريخ لا نجد في معاصري (الشهيد) شخصية علمية واجتماعية تبلغ مستوى الشهيد من الشهرة والثقافة. فكان ذائع الصيت معروفا في اكثر الحواضر الاسلامية في وقته وله صلات بكثير من علماء عصره وأمرائهم، ولم يحفظ لنا التاريخ مع الاسف شيئا كثيرا من ذلك، إلا أن ما بين أيدينا من رسائل العلماء والملوك اليه وزيارة الشخصيات العلمية والسياسية له إلى دمشق يكفي للدلالة على ما نقول.

وكان (الشهيد) على اتصال وثيق بحكومات الشيعة في وقته، وله معهم اتصالات وعلاقات سرية وعلنية كحكومة خراسان، وفيهما بقي لدينا من رسائل ملوك، وعلماء الشيعة إلى (الشهيد نلمس بوضوح مكانة الشهيد بين (الشيعة) حكومة ورعية ورجوع الطائفة اليه في شؤونهم العامة، فلا نعرف فقيها شيعيا بمستوى (الشهيد) في الفقاهة والمرجعية في هذا الفترة، وكانت (الشيعة) حكومة ورعية في (خراسان) وفي (فارس) وفي (الري) مشوقين إلى زيارة، يلتمسون من بين حين وآخر أن يزورهم، ويقدم عليهم

١٣٩

ولو إلى حين. وبين أيدينا رسالة (لعلي بن مؤيد) حاكم خراسان من ملوك (السربدارية). وقبل أن نعرض صورة الرسالة أحب أن أعطي صورة عن حكومة (السربدارية) في خراسان، وعلاقة الشهيد بهم

حكومة السربدارية

حكومة (السربداران) حكومة شيعية استولت على الحكم في خراسان بعد وفاة محمد خدابنده من ملوك المغول بعد معارك دامت وذلك في سنة 738 واستمرت إلى سنة 783، فاندمجت في حكومة (التتر) وانقرضت بعد ذلك بسنوات قليلة. وتولى الحكم فيها عدد من الملوك كان آخرهم (علي بن مؤيد) تولى الحكم سنة 766.

وعرف (علي بن مؤيد) بالعدل والاحسان إلى الضعفاء، وبالعناية بالشؤون الفكرية والعمرانية، والاهتمام بنشر (التشيع) وتعريفه وولائه لاهل البيت، وتفانية في سبيل الدين. وكان من أفضل ملوك (السربدارية) وأعدلهم، وفي أيامه تحسنت الاوضاع الاجتماعية والاقتصادية. ورغم هجوم (التتر) في أيامه إلى البلدان الاسلامية فقد استطاع أن يصون (خراسان) عن هجوم التتر، ويصون دماء المسلمين.

توفي سنة 795، أي بعد تسع سنوات من شهادة (الشهيد) وكان للشهيد علاقات وثيقة، ومراسلات مع (علي بن مؤيد) (أيام كان في العراق واستمرت هذه العلاقات والمرسالات حين استقر في جزين ودمشق.

١٤٠