الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 250570 / تحميل: 14286
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

آتَاكُمْ ) )(١) . وهذا هو زهد النفس والعقل وهو يبدأ بتمرين العقل على ترك التفكير بالملذات ، ثم تدريب الجسد على الإقتصار على الضروريات ومعنى الآية عدم الإبتهاج بالدنيا ومكتسباتها ، وعدم الحزن والأسى بزوالها ؛ وهو أرقى أنواع الزهد .

الزهد في فكر الإمامعليه‌السلام

الزهد عند السجادعليه‌السلام لابد ان يحمل علامتين الأولى : ان يكون للزاهد ضوابط شرعية يسير بمقتضاها والثانية : ان الزاهد الحقيقي له مصداق رباني ، وهو حب الرحمن له .

١ ـ علامة الزاهدين : ( إن علامة الزاهدين ، الرغبين في الآخرة ، تركهم كل خليط وخليل ، ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون ألا وأن العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل زهرة الدنيا ، الآخذ للموت أهبته ، الحاثّ على العمل قبل فناء الأجل ، ونزول ما لابد من لقائه ، وتقديم الحذر قبل الحين(٢) فإن الله عزّ وجلّ يقول : (( حَتّى‏ إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبّ ارْجِعُونِ * لَعَلّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيَما تَرَكْتُ ) (٣) ، فلينزلنّ أحدكم اليوم نفسه في

ــــــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٣ .

(٢) الحين : الهلاك .

(٣) سورة المؤمنون : الآية ٩٩ ـ ١٠٠ .

٢٠١

هذه الدنيا كمزلة المكرور إلى الدنيا ، النادم على ما فرط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته.

واعلموا عباد الله ، أنه من خاف البيات تجاف عن الوساد ، وامتنع عن الرقاد ، وأمسك عن بعض الطعام والشراب ، من خوف سلطان أهل الدنيا فكيف ـ ويحك يا ابن آدم ـ من خوف بيات سلطان رب العزة ، وأخذه الأليم وبياته لأهل المعاصي والذنوب ، مع طوارق المنايا بالليل والنهار ، فذلك البيات الذي ليس فيه منجى ، ولا دونه ملتجأ ولا منه مهرب فخافوا الله أيها المؤمنون من البيات خوف أهل التقوى ، فان الله يقول : (( ذلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ ) )(١) فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها ، وتذكروا عاقبة الميل إليها فإن زينتها فتنة ، وحبها خطيئة .

واعلم ويحك يا ابن آدم أن قسوة البطنة ، وفطرة الميلة ، وسكرة الشبع ، وعزة الملك مما يثبط ويبطئ عن العمل ، وينسي الذكر ، ويلهي عن اقتراب الأجل ، حتى كأنّ المبتلى بحب الدنيا به خبل من سكر الشراب وان العاقل عن الله ، الخائف منه ، ليمرّن نفسه ، ويعوّدها الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع ، وكذلك تضمر الخيل(٢) لسبق الرهان .

ــــــــــــــــ

(١) سورة إبراهيم : الآية ١٤ .

(٢) تضمير الخيل : حجبها عن الأكل حتى تهزل لتستطيع سبق الرهان .

٢٠٢

فاتقوا الله عباد الله تقوى مؤمّل ثوابه ، وخائف عقابه ، فقد اعذر الله تعالى وانذر وشوّق وخوّف ، فلا أنتم إلى ما شوّقكم إليه من كريم ثوابه تشتاقون فتعملون ، ولا أنتم مما خوّفكم من شديد عقابه وأليم عذابه ترهبون فتنكلون ، وقد نبأكم الله في كتابه أنه (( فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ ) )(١) . ثم ضرب لكم الأمثال في كتابه ، وصرف الآيات لتحذروا عاجل زهرة الحياة الدنيا ، فقال : (( أَنّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ) )(٢) . فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا .

فاتقوا الله واتعظوا بمواعظ الله ، وما اعلم إلا كثيراً منكم قد نهكته عواقب المعاصي فما حذرها ، واضرت بدينه فما مقتها ، أما تسمعون النداء من الله بعيبها وتصغيرها حيث قال : (( اعْلَمُوا أَنّمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفّارَ نَبَاتُهُ ثُمّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَراً ثُمّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدّنْيَا إِلّا مَتَاعُ الْغُرُورِ * سَابِقُوا إِلَى‏ مَغْفِرَةٍ مِن رَبّكُمْ وَجَنّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدّتْ لِلّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ

ــــــــــــــــ

(١) سورة الأنبياء : الآية ٩٤ .

(٢) سورة التغابن : الآية ١٥ .

٢٠٣

ذلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ) )(١) ، وقال : (( يَا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُوا اتّقُوا اللّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدّمَتْ لِغَدٍ وَاتّقُوا اللّهَ إِنّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلاَ تَكُونُوا كَالّذِينَ نَسُوا اللّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) )(٢) . فاتقوا الله عباد الله ، وتفكروا واعملوا لما خلقتم له ، فإن الله لم يخلقكم عبثاً ولم يترككم سدى ، قد عرّفكم نفسه ، وبعث إليكم رسوله ، وأنزل عليكم كتابه فيه حلاله وحرامه ، وحججه وأمثاله فاتقوا الله فقد أحتجّ عليكم ربكم فقال : (( أَلَمْ نَجْعَل لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النّجْدَيْنِ ) )(٣) . فهذه حجة عليكم ، فاتقوا الله ما استطعتم فإنه لا قوة إلا بالله ، ولا تتكلوا إلا عليه ، وصلى الله على محمد وآله )(٤)

٢ ـ مصداق الزاهدين : عندما دخلت مجموعة عبّاد البصرة وزهادها مكة للحج ، وقد اشتد بالناس العطش لقلّة الغيث ، فزع إليهم أهل مكة يسألونهم الاستسقاء .

قال الراوي : ( فأتينا الكعبة وطفنا بها ، ثم سألنا الله خاضعين متضرعين بها ، فمنعنا الإجابة فبينما نحن كذلك إذا بفتىً قد أقبل ،

ــــــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٠ ـ ٢١ .

(٢) سورة الحشر : الآية ١٨ ـ ١٩ .

(٣) سورة البلد : الآية ٨ ـ ١٠ .

(٤) تحف العقول ص ١٩٦ ـ ١٩٨ .

٢٠٤

وقد أكربته أحزانه ، وأقلقته أشجانه ، فطاف بالكعبة أشواطاً ، ثم أقبل علينا فقال : يا مالك بن دينار ، ويا فلان بن فلان ، ويا ...

فقلنا : لبيك وسعديك يا فتى !

فقال : أما فيكم أحدٌ يحبّه الرحمن ؟

فقلنا : يا فتى علينا الدعاء وعليه الإجابة !

فقال : أبعدوا عن الكعبة ، فلو كان فيكم أحد يحبّه الرحمن لأجابه ! ثم أتى الكعبة ، فخرّ ساجداً ، فسمعته يقول في سجوده : ( سيدي بحبك لي إلاّ سقيتهم الغيث ( .

قال : فما استتمّ الكلام حتى أتاهم الغيث كأفواه القرب ! فسئل عنه فقيل : هذا علي بن الحسينعليه‌السلام )(١)

الأفضلية في العبادة

وكان السجادعليه‌السلام أفضل العبّاد في زمانه ، ذلك أنه كان يتفانى في عبادة مولاه العظيموشكره على جميل نعمه وألطافه وكان يتسامى في وضوئه وصلاته ودعائه وتسبيحه وصيامه وعتقه وحجه وإحرامه ومناجاته في البيت الحرام ، ويقول : ( إني أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلا ثوابه ، فأكون كالعبد الطامع إن طمع عمل ،

ــــــــــــــــ

(١) الاحتجاج ص ٣١٦ ـ ٣١٧ .

٢٠٥

وإلا لم يعمل وأكره أن أعبده لخوف عذابه ، فأكون كالعبد السوء إن لم يخف لم يعمل ) فسئل : بم تعبده ؟ قالعليه‌السلام : ( أعبده لما هو أهله بأياديه وأنعامه )(١) وهذا مرآة لما قاله أمير المؤمنينعليه‌السلام : ( آلهي ما عبدتك طمعاً في جنتك ولا خوفاً من نارك ، وإنما وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك ) وينسب للصادقعليه‌السلام هذا القول : ( إن قوماً عبدوا الله عزّ وجلّ رهبة فتلك عبادة العبيد ، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار ، وقوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار )(٢)

ولفظ الكراهة في قولهعليه‌السلام : ( إني أكره أن أعبد الله ولا غرض لي إلا ثوابه ) محمول على عدم اقتران العبادة بالإخلاص التام والكراهية لا تبطل العمل ، بل تختزل حسناته ولاشك ان الإخلاص التام في العبادة من رتب الأولياء فأرقى درجات العبادة هي الإخلاص الكامل له تعالى ومعرفة حقه على عباده ولكن العباد درجات ، فإذا قصد المتعبد الطمع بالجنّة أو إتقاء النار فلا ينافي ذلك من قبول العمل ، وقد ورد في الآيات والأحاديث ما يؤيد ذلك قال تعالى : (( وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ) )(٣) ، وقال أمير المؤمنينعليه‌السلام في بعض أوقافه : ( هذا ما

ــــــــــــــــ

(١) تفسير العسكري ص ١٣٢ .

(٢) البداية والنهاية ج ٩ ص ١٠٥ .

(٣) سورة الأعراف : الآية ٥٦ .

٢٠٦

أوصى به عبد الله على ابتغاء وجه الله ليولجني به الجنة ويصرفني به عن النار )(١)

وكان إذا أراد الوضوء اصفرّ لونه ، فيقول له أهله : ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء ؟ فيقولعليه‌السلام : ( أتدرون بين يدي من أقوم ؟ )(٢) وكانعليه‌السلام يهئ الماء لطهوره ويخمره قبل أن ينام ، فإذا قام من الليل بدأ بالسواك ثم يشرع في الوضوء ويقبل على صلاته(٣) وكانعليه‌السلام يتطيب للصلاة من قارورة عطر يضعها عند مسجد صلاته(٤) ويلبسعليه‌السلام الصوف في صلاته مبالغة في إذلال نفسه أمام الله عزّ وجلّ(٥)

وإذا قام إلى الصلاة غشي لونه لونٌ آخر ، وكانت أعضاؤه ترتعد من خشية الله ، وكان يقف في صلاته موقف العبد الذليل بين يدي الملك الجليل ، وكان يصلي صلاة مودّع يرى انه لا يصلي بعدها أبداً .

ــــــــــــــــ

(١) مرآة العقول للمجلسي ج ٢ ص ١٠١ .

(٢) سير أعلام النبلاء ج ٤ ص ٢٣٨ .

(٣) صفة الصفوة ج ٢ ص ٥٣ .

(٤) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٥٨ .

(٥) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١٠٨ .

٢٠٧

ومن خشوعه في صلاته أنه كان إذا سجد لا يرفع رأسه حتى يرفض عرقاً(١) ، وكأنه غمس في الماء من كثرة دموعه وبكائه(٢) ولما رأى أبو حمزة الثمالي سقوط رداءهعليه‌السلام من أحد منكبيه وهو في صلاته فلم يسوه ، سأله عن ذلك ، فقالعليه‌السلام له : (ويحك أتدري بين يدي من كنت ؟ ان العبد لا يقبل من صلاته إلا ما أقبل عليه منها بقلبه )(٣)

ومن شدة إنشغالهعليه‌السلام بربه عزّ وجلّ ان ولداً له سقط في بئر ففزع الناس فانقذوه ، وكانعليه‌السلام يصلي في محرابه ، ولم يشعر بذلك ولما انتهى من صلاته أخبر عن ذلك ، فقال : ( ما شعرت ، إني كنت أناجي رباً عظيماً )(٤)

لم يشغله شيء عن صلاته وارتباطه بالله عزّ وجلّ يروى أن حريقاً وقع في بيته ، وكانعليه‌السلام مشغولاً بصلاته ولم يعتن به ولما فرغ من صلاته أخبر به ، فقال : ( ألهتني عنها النار الكبرى )(٥)

وكانعليه‌السلام يقضي ما فاته من نافلة النهار بالليل ، وكان يوصي أبناءه بذلك ، ويقول لهم : ( يا بني ليس هذا عليكم بواجب ،

ــــــــــــــــ

(١) تهذيب الأحكام ج ٢ ص ٢٨٦ .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١٠٨ .

(٣) علل الشرائع ص ٨٨ .

(٤) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٩٩ .

(٥) صفوة الصفوة ج ٢ ص ٥٢ .

٢٠٨

ولكن أحب لمن عوّد نفسه منكم عادةً من الخير أن يدوم عليها )(١) وكان لا يدع صلاة الليل في السفر والحضر(٢)

وكانعليه‌السلام كثير السجود ، فعندما يسجد سجدة الشكر ، ويقول فيها مائة مرة : ( الحمد لله شكراً ) كان يقول بعدها : ( ياذا المن الذي لا ينقطع أبداً ، ولا يصحيه غيره عدداً ، وياذا المعروف الذي لا ينفذ أبداً ، يا كريم يا كريم )(٣) وكانت للإمام السجاد خريطة ديباج صفراء ، فيها تربة قبر الحسينعليه‌السلام ، فإذا حضرت الصلاة سجد عليها )(٤)

وتحكي مولاته عن صلاته وصيامه بقولها : ( ما فرشت له فراشاً بليلٍ قط ولا أتيته بطعام في نهارٍ قط )(٥) يفهم من قولها انه كان قائماً ليله ، صائماً نهاره .

ولما شاهدت عمته فاطمة بنت علي بن أبي طالب ما ناء به من الجهد والإجتهاد في العبادة خافت عليه الهلاك ، وهو بقية السلف ومعقد الآمال فجاءت إلى الصحابي الجليل جابر بن عبدالله الأنصاري وهو من خواصهم وله فضل صحبة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعلّه

ــــــــــــــــ

(١) صفوة الصفوة ج ٢ ص ٥٣ .

(٢) كشف الغمة ج ٢ ص ٢٦٣ .

(٣) وسائل الشيعة ج ٤ ص ١٠٧٩ .

(٤) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٧٩ ، باب ٥ ، ح ٧٥ .

(٥) علل الشرائع للصدوق ص ٨٨ .

٢٠٩

يستطيع أن يخفف العناء عن الإمامعليه‌السلام فقالت له : يا صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ان لنا عليكم حقوقاً ، ومن حقنّا عليكم ان إذا رأيتم أحدنا يهلك نفسه إجتهاداً تذّكرونه الله تعالى وتدعونه إلى البقيا على نفسه ، وهذا علي بن الحسين قد انخرم أنفه وثفنت جبهته وركبتاه وراحتاه إدآباً منه لنفسه في العبادة .

فأتى جابر باب علي بن الحسين فاستأذن ودخل على السجادعليه‌السلام وهو في محرابه قد أنضته العبادة فنهض الإمامعليه‌السلام إليه وسأله عن حاله وأجلسه إلى جنبه ، فقال له جابر : يا ابن رسول الله أما علمت ان الله خلق الجنّة لكم ولمن أحبكم وخلق النار لمن أبغضكم وعاداكم ، فما هذا الجهد الذي كلفته نفسك .

فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( يا صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أما علمت أن رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فلم يدع الإجتهاد له وتعبد بأبي هو وأمي حتى انتفخ الساق وورم القدم فقيل له : أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فقالصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أفلا أكون عبداً شكوراً ) فلما رأى جابر تصميم السجادعليه‌السلام على ذلك ، قال : يا ابن رسول الله البقيا على نفسك ، فإنك لمن أسرة بهم يستدفع البلاء ويستكشف الأدواء وهبم تستمطر السماء .

٢١٠

فقالعليه‌السلام : يا جابر لا أزال على منهاج أبوي متأسياً بهما صلوات الله عليهما حتى ألقاهما ) فأقبل جابر على من حضر ، وقال : ( والله ما رؤي في أولاد الأنبياء مثل علي بن الحسين إلا يوسف بن يعقوب )(١)

وذكر الإمام الصادق أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليهما‌السلام فأطراه بما هو أهله ، وقال : ( والله ما أكل من الدنيا حراماً قط ولم يشبهه أحد من ولده ولا أهل بيته في لباسه وفقهه وعبادة إلا علي بن الحسينعليه‌السلام ، ولقد دخل عليه ابنه الباقرعليه‌السلام فلما رآه قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه غيره حتى أصفرّ لونه من السهر ورمصت عيناه(٢) من البكاء ، وجبرت جبهته ، وانخرم أنفه من السجود ، وورمت ساقاه من القيام في الصلاة ، فلم يملك نفسه حتى رآه بهذا الحال دون ان اجهش بالبكاء رحمةً له فالتفت إليه أبوه بعد هنيهة وقال : يا بني اعطني بعض تلك الصحف التي فيها عبادة جدي علي بن أبي طالبعليه‌السلام فاعطاه وقرأ شيئاً يسيراً وتركه متضجراً ، وقال : من يقوى على عبادة علي بن أبي طالب )(٣)

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الطوسي ص ٤٧ .

(٢) رمصت العين رمصاً ( من باب تعب ) إذا جمدت الرواشح في موقها ( أي في مؤخرها ) .

(٣) الأرشاد للشيخ المفيد .

٢١١

ورآه أحد مريديه في مسجد الكوفة(١) معفراً وجهه بالتراب ويناجي ربه ، فقال له : يا ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تعذب نفسك وقد فضلّك الله بما فضلّك فبكى وذكر حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ان كل عين باكية يوم القيامة إلا أربعة أعين : عين بكت من خشية الله ، وعين فقئت في سبيل الله ، وعين غضت عن محارم الله ، وعين ساهرة ساجدة يباهي بها الله ملائكته يقول انظروا إلى عبدي قد جافي بدنه عن المضاجع يدعوني خوفاً من عذابي وطمعاً في رحمتي اشهدوا اني قد غفرت له )(٢)

وكانعليه‌السلام يوصل شعبان بشهر رمضان ، ويقول : (صوم شهرين متتابعين )(٣) ولا يتكلم في شهر رمضان إلا بالدعاء والإستغفار والتسبيح والتكبير فإذا أفطر قال : ( اللهم إن شئت أن تفعل فعلت )(٤)

وكانعليه‌السلام يقول في آخر الوتر وهو قائم : ( رب أسأت وظلمت نفسي ، وبئس ما صنعت ، وهذه يداي جزاءً بما صنعت ) ثم

ــــــــــــــــ

(١) هكذا في الرواية ولم يعرف عنه انه ذهب إلى الكوفة عدا المرة التي أخذ فيها أسيراً إلى عبيدالله بن زياد ويحتمل ـ على تقدير عدم التصحيف ـ ان يكون قد مر بالكوفة بعد رجوعه من الشام ايام عبد الملك .

(٢) بحار الأنوار ج ١٧ ص ١٦٠ .

(٣) الوسائل ج ٢ ص ١٢٩ .

(٤) وهذا من سنخ الطاعة المطلقة لله ، لأنه ليس في مقام محاججة خصم أو دفع شبهة .

٢١٢

يبسطهما جميعاً أمام وجهه ، ويقول : ( وهذه رقبتي خاضعة لك لما أتت ) ثم يطأطأ رأسه ويقول : ( ها أنا ذا بين يديك فخذ لنفسك الرضى من نفسي حتى ترضى ، لك العتبى لا أعود لا أعود )(١)

وكان يسبح الله بهذه الكلمات : ( سبحان من أشرق نوره كل ظلمة ، سبحان من قدر بقدرته كل قدرة ، سبحان من احتجب عن العباد بطرائق نفوسهم ، فلا شيء يحجبه ، سبحان الله وبحمده ) .

والمعروف عند أهل العلم أن صلاته كانت تزخر بألوان التضرع والتذلل ومناجاة الله تبارك وتعالى فلا عجب أن ينقل لنا التأريخ كمّاً وافراً من أدعيتهعليه‌السلام في صلاته وصومه وحجه ونحن إذا ننقل صوراً من أدعيته البليغة ، فإننا نرمي كشف جانب من جوانب شخصيته الروحية لنستدل في النهاية على كونه أهل للإمامة الكبرى التي أوصى بها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهل بيتهعليه‌السلام.

في صلاة الليل :

داوم السجادعليه‌السلام على صلاة الليل ، وأفنى لياليه في عبادة الله بنفس خاشعة ورقبة خاضعة مثقلة بهموم الآخرة وكانعليه‌السلام يدعو الله بعد صلاة الليل بأدعية جليلة تستمطر عفوه وفضله تبارك وتعالى وهذه جملة من أدعيته بعد انتهاء صلاة الليل :

ــــــــــــــــ

(١) من لا يحضره الفقيه ج ١ ص ٣١١ .

٢١٣

١ ـ تمجيد ذو الملك والسلطان : ( ضلّت فيك الصفات ، وتفسخت فيك النعوت ، وحارت في كبريائك لطائف الأوهام ، كذلك أنت الله في أوليتك ، وعلى ذلك أنت دائم لا تزول ، وأنا العبد الضعيف عملاً ، الجسيم أملاً خرجت من يدي أسباب الوصلات إلا ما وصله رحمتك ، وتقطعت عني عصم الآمال إلا ما أنا معتصم به من عفوك قل عندي ما أعتدّ به من طاعتك ، وكثر عليّ ما أبوء به من معصيتك ، ولن يضيق عليك عفو عن عبدك ، وإن أساء فاعف عني )(١)

٢ ـ في مقام الحياء : ( اللهم إنك أمرتني فتركت ، ونهيتني فركبت ، وسوّل لي الخطأ خاطر السوء ففرّطت ، ولا أستشهد على صيامي نهاراً ، ولا أستجير بتهجّدي ليلاً ، ولا تثني عليّ بإحيائها سنّة حاشا فروضك التي من ضيّعها هلك ، ولست أتوسل إليك بفضل نافلةٍ ، مع كثير ما أغفلت من وظايف فروضك ، وتعديت عن مقامات حدودك إلى حرمات إنتهكتها ، وكبائر ذنوبٍ إجترحتها كانت عافيتك لي من فضائحها ستراً )(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية ـ الدعاء الثاني والثلاثون ص ١٤٢ .

(٢) الصحيفة السجادية ص ١٤٤ .

٢١٤

٣ ـ في مقام الستر : ( اللهم وإذ سترتني بعفوك ، وتغمدتني(١) بفضلك في دار الفناء ، بحضرة الأكفاء ، فأجرني من فضيحات دار البقاء عند مواقف الأشهاد من الملائكة المقربين ، والرسل المكرّمين ، والشهداء والصالحين ، من جار كنت أكاتمه سيئاتي(٢) ، ومن ذي رحمٍ كنت أحتشم منه(٣) في سريراتي(٤) .(٥)

٤ ـ إنكشاف السرائر : ( اللهم وقد أشرف على خفايا الأعمال علمك ، وانكشف كلّ مستورٍ دون خبرك ، ولا تنطوي عنك دقائق الأمور ، ولا تعزب عنك غيبات السرائر ، وقد استحوذ عليّ عدّوك الذي استنظرك(٦) لغوايتي فأنظرته ، واستمهلك إلى يوم الدين لإضلالي فأمهلته ، فأوقعني وقد هربت إليك من صغائر ذنوب موبقة ، وكبائر أعمالٍ مردية ، حتى إذا فارقت معصيتك ، واستوجبت بسوء سعيي سخطتك ، فتل عني عذار غدره(٧) ، وتلقّاني بكلمة كفره(٨)

ــــــــــــــــ

(١) تغمدتني : شملتني .

(٢) أكاتمه : أخفي عليه .

(٣) احتشم منه : استحي منه .

(٤) سريراتي : الأعمال التي أرتكبها سراً .

(٥) الصحيفة السجادية ص ١٤٥ .

(٦) يشيرعليه‌السلام إلى إبليس الذي طلب مهلة من الله عز وجل لغواية الإنسان حيث قال : (( قَالَ رَبّ فَأَنظِرْنِي إِلَى‏ يَوْمِ يُبْعَثُونَ ) ) سورة الحجر : الآية ٣٦ .

(٧) فتل : اصرف عني العذار : لجام الفرس .

(٨) اشارة الى الآية الكريمة : (( كَمَثَلِ الشّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قَالَ إِنّي بَرِي‏ءٌ مِنكَ إِنّي أَخَافُ اللّهَ رَبّ الْعَالَمِينَ ) ) سورة الحشر : الآية ١٦ .

٢١٥

وتولى البراءة مني ، وأدبر مولياً عني ، فأصحرني(١) لغضبك فريداً ، وأخرجني إلى فناء نقمتك طريداً لا شفيعٌ يشفع لي إليك ، ولا خفيرٌ(٢) يؤمنني عليك ، ولا حصن يحجبني عنك ولا ملاذٌ ألجأ إليه منك فهذا مقام العائذ بك ، ومحلّ المعترف لك فلا يضيقنّ عني فضلك ، ولا يقصرنّ دوني عفوك ، ولا أكن أخيف عبادك التائبين ، ولا أقنط وفودك الآملين ، واغفر لي إنك خير الغافرين )(٣)

٥ ـ في ظلمات التكوين : ( اللهم وأنت حدرتني(٤) ماءً مهيناً من صلب متضائق(٥) ، حرج المسالك(٦) إلى رحمٍ ضيقةٍ سترتها بالحجب ، تصرّفني حالاً عن حال ، حتى انتهيت بي إلى تمام الصورة ، وأثبتّ في الجوارح كما نعت في كتابك(٧) : نطفةً ، ثم علقةً ، ثم

ــــــــــــــــ

(١) أصحرني : أظهرني .

(٢) أصحرني : المجير .

(٣) الصحيفة السجادية ص ١٤٣ .

(٤) حدرتني : انزلتني .

(٥) متضايق العظام : عظام الصلب المتداخلة .

(٦) حجر المسالك : ضيق الطريق .

(٧) اشارة إلى قوله تعالى : ( ( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِن طِينٍ * ثُمّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مّكِينٍ * ثُمّ خَلَقْنَا النّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ ) ) سورة المؤمنون : الآية ١٢ ـ ١٤ .

٢١٦

مضغةً ، ثم عظاماً ، ثم كسوت العظام لحماً ، ثم انشأتني خلقاً آخر كما شئت ، حتى إذا احتجت إلى رزقك ، ولم أستغن عن غياث فضلك ، جعلت لي قوتاً من فضل طعام ، وشراب أجريته لأمتك(١) التي أسكنتني جوفها ، وأودعتني قرار رحمها ، ولو تكلني يا ربّ في تلك الحالات إلى حولي ، أو تضطرّني إلى قوتي لكان الحول عني معتزلاً(٢) ، ولكانت القوة مني بعيدةً ، فغذوتني بفضلك غذاء البرّ اللطيف ، تفعل ذلك بي تطوّلاً عليّ إلى غايتي هذه ، لا أعدم برّك ، ولا يبطئ بي حسن صنيعك ، ولا تتأكد مع ذلك ثقتي ، فأتفرّغ لما هو أحظي لي عندك ، قد ملك الشيطان عناني في سوء الظنّ وضعف اليقين ، فأنا أشكو سوء مجاورته لي(٣) ، وطاعة نفسي له ، واستعصمك من ملكته ، وأتضرع إليك في صرف كيده عني وأسألك في أن تسهّل إلى رزقي سبيلاً فلك الحمد على ابتدائك بالنعم الجسام ، وإلهامك الشكر على الإحسان والإنعام ، فصلّ على محمدٍ وآله وسهّل عليّ رزقي ، وأن تقنّعني بتقديرك لي ، وأن ترضيني بحصتي

ــــــــــــــــ

(١) لأمتك : يريد بها والدته .

(٢) معتزلاً : بعيداً .

(٣) الضمير في ( مجاورته ) يعود الى الشيطان .

٢١٧

فيما قسمت لي ، وأن تجعل ما ذهب من جسمي وعمري في سبيل طاعتك ، إنك خير الرازقين )(١)

٦ ـ التعوذ من ظلمات العذاب : ( اللهم إني أعوذ بك من نارٍ تغلّظت بها على من عصاك ، وتوعّدت بها من صدف عن رضاك ، ومن نارٍ نورها ظلمة ، وهيّنها أليم ، وبعيدها قريب ، ومن نارٍ يأكل بعضها بعض ، ويصول(٢) بعضها على بعض ، ومن نار تذر العظام رميماً ، وتسقي أهلها حميماً(٣) ، ومن نارٍ لا تبقي على من تضرّع إليها ، ولا ترحم من استعطفها ، ولا تقدر على التخفيف عمن خشع لها واستسلم إليها ، تلقى سكانها بأحرّ ما لديها من أليم النكال ، وشديد الوبال وأعوذ بك من عقاربها الفاغرة أفواهها وحيّاتها الصالقة(٤) بأنيابها ، وشرابها الذي يقطّع أمعاء وأفئدة سكانها ، وينزع قلوبهم وأستهديك لما باعد منها ، وأخرّ عنها .

اللهم صلّ على محمد وآله ، وأجرني منها بفضل رحمتك ، وأقلني عثراتي بحسن إقالتك ، ولا تخذلني يا خير المجيرين إنك تقي الكريهة ، وتعطي الحسنة ، وتفعل ما تريد ، وأنت على كل شيء

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية ص ١٤٥ .

(٢) يصول : يهجم .

(٣) الحميم : المعدن الذائب .

(٤) الصالقة : الضاربة .

٢١٨

قدير اللهم صلّ على محمدٍ وآله إذا ذكر الأبرار ، وصلّ على محمدٍ وآله ما اختلف الليل والنهار صلاةً لا ينقطع مددها ، ولا يحصى عددها ، صلاةً تشحن الهواء وتملأ الأرض والسماء ، صلّى الله عليه حتى يرضى ، وصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد الرضا ، صلاةً لا حدّ لها ولا منتهى ، يا أرحم الراحمين )(١)

شهر رمضان :

وكانعليه‌السلام كثير البرّ في شهر رمضان حيث كان ينوّع مبراته ويوزعها على أهل الحاجة والمسكنة فيأمر بذبح شاة كل يوم ويأمر بطبخها وتوزيعها على الفقراء والأرامل والأيتام ، ولايبقي شيئاً منه لإفطاره ، فيفطر على الخبز والتمر(٢) ، وهو أبسط طعام إذا نظرنا إلى خصوصية ذلك المكان .

وكانعليه‌السلام يعتق العبيد ، مع أنهم كانوا يعيشون معه ويعاملهم معاملة أبنائه ، وكان يقول لهم في مقام تربيتهم : ( ارفعوا أصواتكم وقولوا : يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك كل ما عملت ، كما أحصيت علينا ما عملناه ولديه كتاب ينطق بالحق لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيت إلا أحصاها ، وتجد كل نفس ما

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية ص ١٤٧ .

(٢) المحاسن ص ٣٩٦ .

٢١٩

عملت لديه حاضراً(١) ، كما وجدنا كل ما عملنا لديك حاضراً ، فاعف واصفح كما ترجو من المليك العفو ، وكما تحب أن يعفو المليك عنك ، فاعف عنا تجده عفوّاً ، ، وبك رحيماً ولك غفوراً ، ولا يظلم ربك أحداً كما لديك كتاب ينطق بالحق علينا ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة مما أتيناها إلا أحصاها ، فاذكر يا علي بن الحسين ذل مقامك بين يدي ربك الحكم العدل الذي لا يظلم مثقال حبة من خردل ، ويأتي بها يوم القيامة ، وكفى بالله حسيباً وشهيداً ، فاعف واصفح يعف عنك المليك ويصفح ، فإنه يقول :( وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبّونَ أَن يَغْفِرَ اللّهُ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (٢) .

ثم يقول : ( ربنا إنك أمرتنا ان نعفو عمن ظلمنا ، وقد عفونا عمن ظلمنا كما أمرت ، فاعف عنا فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين ، وأمرتنا أن لا نردّ سائلاً عن أبوابنا ، وقد أتيناك سؤّالاً ومساكين ، وقد أنحنا بفنائك وببابك ، نطلب نائلك ومعروفك وعطاءك ، فأمنّن بذلك علينا ولا تخيبنا ، فإنك أولى بذلك منا ومن المأمورين ) .

ــــــــــــــــ

(١) وهو مصداق قوله تعالى :( يَوْمَ تَجِدُ كُلّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً ... ) سورة آل عمران : الآية ٣٠ .

(٢) سورة النور : الآية ٢٢ .

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413