الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 250538 / تحميل: 14282
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وليس هناك من شك بأن البيت الذي نشأ فيه زين العابدينعليه‌السلام كان بيت نبوة وإمامة ، بيت من بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار فلازم العبادة والتهجد وذكر الله عزوجل منذ صغره ، وهو يرى أباهعليه‌السلام يقوم الليل ويصوم النهار ويساعد الفقير ويعين المحروم فكان لا يسمع في بيته الا القرآن ، ولا يرى من أهله الا ساجد وراكع ، ولا يأكل الا مع من يشد الحجر على بطنه ، أو يصوم الأيام الطويلة وهكذا كانت حياة السجادعليه‌السلام حياة علم وتقوى وجهاد وعبادة .

يصف أحد الرواة السجادعليه‌السلام وهو في السابعة أو الثامنة من عمره فيقول : حججت بعض السنين إلى مكة ، فبينما أنا سائر في عرض الصحراء وإذا بصبي سباعي أو ثماني(١) وهو يسير في الطريق بلا زاد ولا راحلة فتقدمت اليه وسلّمت عليه ، وقلت له : مع من قطعت البرّ ؟ قال : ( مع الباري ) فكبر في عيني ، فقلت : يا ولدي ! أين زادك وراحلتك ؟ فقال : (زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي ) فعظم في نفسي ، فقلت : يا ولدي ممن تكون ؟ فقال : ( مطلبي ) فقلت : أبن لي ؟ فقال : ( هاشمي ) فقلت : أبن لي ؟ فقال : ( علويٌ فاطميٌ ) فقلت : يا سيدي ! هل قلت شيئاً من الشعر ؟ فانشدهعليه‌السلام شعراً .

ثم غاب عن عيني الى ان أتيت مكة فقضيت حجتي ورجعت ، فأتيت الأبطح فإذا بحلقة مستديرة ، فاطلعت لأنظر من بها فإذا هو صاحبي فسألت عنه ، فقيل : هذا زين العابدين(٢) .

وفي الرواية الآنفة دلالات على انه كان من أهل العلم والعبادة والبلاغة ، على الرغم من صغر سنه .

ــــــــــــــــ

(١) هذا الإصطلاح غريب قال في ( تاج العروس ) عن ابن شميل يقال : رباعي لمن بلغ أربعة اشبار وقال الليث : الخماسي والخماسية من الوصائف لمن طوله خمسة اشبار ، ولا يقال سداسي ولا سباعي إذا بلغ ستة أو سبعة اشبار لأنه رجل ( ج ٤ ص ١٤١ ) فيتعين انه كان يقصد ابن سبع سنين أو ثمان .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٩٢ والمناقب ج ٣ ص ٢٩٤ .

٢١

وفي رواية الأصمعي(١) التالية دلالة أخرى على انهعليه‌السلام كان من أهل العبادة والصلاة ، وهو لا يزال في حداثة سنه يقول الأصمعي : ( كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فاذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، وهو يقول : نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الحي القيوم غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوحٌ للسائلين ، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين ، ثم أنشأ يقول :

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم

يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبة

وأنت وحدك يا قيوم لم تنم

أدعوك رب دعاء قد أمرت به

فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف

فمن يجود على العاصين بالنعم

قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين )(٢) .

وينسب للحسن البصري أنه رأى زين العابدينعليه‌السلام متعلقاً بأستار الكعبة ، وهو يتضرع إلى الله ، ويدعوه منيباً ، فدنا منه فسمعه يقول هذه الأبيات :

ــــــــــــــــ

(١) أورد الرواية ابن شهر آشوب في المناقب ج ٢ ص ٢٥١ ونسبة الرواية إلى الأصمعي لا يصح ، لان الأصمعي توفي في بغداد سنة ٢١٦ عن ثمان وثمانين سنة ( كما في تأريخ بغداد ج ١٠ ص ٤١٩ ) فتكون ولادته سنة ١٢٨ هجرية تقريباً أي بعد استشهاد الإمام السجادعليه‌السلام بثلاث وثلاثين سنة نعم يمكن أن تصح الرواية بالواسطة ، أي إذا كان الراوي رجلاً آخر رواها الأصمعي عنه .

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٤٣ .

٢٢

ألا أيها المأمول في كل حاجةٍ

شكوت إليك الضرّ فارحم شكايتي

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي ثم أين مخافتي

فيا سيدي أمنن علي بتوبةٍ

فإنك ربّ عالمٌ بمقالتي

ولا يوجد دليل سندي على صحة نسبة هذه الأبيات إلى السجادعليه‌السلام ، ويؤيد ذلك عدم موازاتها لبلاغتهعليه‌السلام وفصاحته .

وكان باراً رحيماً بأسرته ، خصوصاً عندما اشتد عودهعليه‌السلام وبلغ مبلغ الرجال وكان غالباً ما يردد : (لئن أدخل الى السوق ومعي دراهم ابتاع بها لعيالي لحماً وقد قرموا(١) أحبّ إليّ من أن أعتق نسمة )(٢) وكانعليه‌السلام يبكرّ في طلب الرزق لعياله ، ويقول : ( أتصدق لعيالي قبل أن أتصدق [ على الناس ] من طلب الحلال فإنّه من الله عز وجلّ صدقة عليهم )(٣) .

ــــــــــــــــ

(١) قرموا : اشتدّ شوقهم الى تناول اللحم .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦٧ نقلاً عن الكافي ج ٢ ص ١٢ .

(٣) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦٧ نقلاً عن الكافي ج ٢ ص ١٢ .

٢٣

أخلاقه وأدبهعليه‌السلام مع أبويه

ولئن حرم السجادعليه‌السلام من حنان الأم ورأفتها ، فانه لم يحرم من برها بالدعاء لها ولوالدهعليه‌السلام والدعاء للوالدين يعكس :

١ ـ أدباً قرآنياً رفيعاً والتزاماً بأحكام الإسلام وقد قال تعالى :( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً ) (١) .

٢ ـ قلباً مرهفاً وضميراً حياً وعقلاً متوقداً .

٣ ـ وفاءً بالجميل الذي أسداه الوالدان لوليدهما .

فيقولعليه‌السلام في دعائه لهما :

أ ـ ( واخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك والصلاة منك يا أرحم الراحمين اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف(٢) ، وأبرهما برّ الأم الرؤوف ، واجعل طاعتي لوالدي ، وبري بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان(٣) ، وأثلج لصدري من شربة الضمآن حتى أوثر على هواي هواهما ، وأقدّم على رضاي رضاهما ، وأستكثر برهما بي وإن قلّ ، وأستقلّ بري بهما وإن كثر ) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : الآية ٢٤ .

(٢) العسوف : الظلوم .

(٣) الوسنان : النعسان .

٢٤

ب ـ ( اللهم خفّض لهما صوتي ، وأطب لهما كلامي ، وألن لهما عريكتي(١) ، وأعطف عليهما قلبي ، وصيرني بهما رفيقاً ، وعليهما شفيقاً ) .

ج ـ ( اللهم اشكر لهما تربيتي ، وأثبهما على تكرمتي ، واحفظ لهما ما حفظاه مني في صغري ) .

د ـ ( اللهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلواتي ، وفي إنى من آناء ليلي ، وفي كل ساعةٍ من ساعات نهاري ) .

شب الإمام السجادعليه‌السلام في مدينة جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ذكرنا آنفاً ، على الصفات الحميدة للإسلام وكان الى جانب أبيه الحسينعليه‌السلام في المهمات ، وعلى الأغلب لقاء الإمام الحسينعليه‌السلام المشهود مع الوليد بن عتبة ( والي المدينة من قبل يزيد ) ومروان بن الحكم ، عندما أراد بنو أمية البيعة ليزيد بالخلافة وكانعليه‌السلام آنذاك شاباً في الثانية والعشرين من عمره .

فعندما مات معاوية بن ابي سفيان في رجب سنة ٦٠ هـ ، كتب يزيد الى الوليد بن عتبة أمير المدينة يأمره بأخذ البيعة على أهلها عامة وعلى الإمام الحسينعليه‌السلام خاصة فقال له : إن أبى عليك فاضرب عنقه وأبعث غلي برأسه .

ــــــــــــــــ

(١) العريكة : الطبع .

٢٥

فبعث الوليد الى الحسينعليه‌السلام فجاءه في ثلاثين رجلاً من أهل بيته ومواليه ومن الراجح تاريخياً ان زين العابدينعليه‌السلام كان بينهم ، فقد كان شاباً بليغاً راشداً يعضد أمر أبيهعليه‌السلام في القضايا الاسلامية الكبرى .

فنعى الوليد إلى الحسينعليه‌السلام موت معاوية ، وعرض عليه البيعة ليزيد فلم يجبه الإمام الحسينعليه‌السلام إلى شيء محدد ، بل أجلّه إلى الغد وقالعليه‌السلام للوليد : ( ان البيعة لا تكون سراً ولكن اذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم ) فانبرى مروان مخاطباً الوليد : لا تقبل أيها الأمير عذره ، متى لم يبايع فاضرب عنقه كذبت والله ولؤمت ) ثم أقبل على الوليد وقالعليه‌السلام : (إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله )(١) .

وأنتهت المقابلة بخروج الإمام الحسينعليه‌السلام ومن معه من أهل بيتهعليه‌السلام من مقر الوليد بن عتبة ثم إتخاذ الإمام الحسينعليه‌السلام قراره بالخروج من المدينة إلى مكة ثم إلى كربلاء .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١٧ .

٢٦

المرحلة الثانية : ( سنة ٦١ ـ ٦٧ هـ )

وهذه المرحلة امتدت من مقتل أبيه سيد الشهداءعليه‌السلام في كربلاء في العاشر من محرم الحرام سنة ٦١ هـ ولحد العاشر من محرم الحرام من سنة ٦٧ هـ وهو تاريخ مقتل قاتلي الحسينعليه‌السلام وتمثل تلك الفترة ست سنوات كاملة من الانتظار والاضطراب الإجتماعي والسياسي .

ففي سنة ٦١ للهجرة توالت أحداث الطف وقضية المسير الى الكوفة والدخول على عبدالله بن زياد ، ثم دفن الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ثم المسير الى الشام وخطبة السجادعليه‌السلام في مسجد الطاغية الأموي ، ثم العروج على كربلاء مرة أخرى لتجديد العهد ثم المسير الى المدينة حيث تسلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام وديعة الإمامة التي تركها له أبوهعليه‌السلام عند أم سلمة ( رضوان الله عليها ) وكانت ا لوصية تأمره بالسكوت .

وبقي السجادعليه‌السلام حزيناً على الفاجعة ، لكن لم يثنه ذلك عن أداء متطلبات الإمامة ، وهي قيادة الأمة قيادة روحية شرعية نحو أهداف الدين اشتملت هذه المرحلة أيضاً على انتفاضات ومعارك منها :

أ ـ معركة المدينة : ففي سنة ٦٢ هـ استبيحت المدينة من قبل جيش بني أمية بقيادة مسلم بن عقبة ، واشتعلت فيها معركة دامية بين جيش الشام و جيش المدينة بقيادة عبدالله بن حنظلة ، انتهت بمجازر بحق أهل المدينة .

ب ـ حركة التوابين : في سنة ٦٥ هـ قامت حركة التوابين تطالب بدم الإمام الحسينعليه‌السلام ، والتحم مقاتلوها مع جيش بني أمية بقيادة عبيدالله بن زياد ، وانتهت بمقتل معظم التوابين .

ج ـ حركة المختار : في سنة ٦٦ هـ ابتدأت حركة المختار في الكوفة ، واستمرت الى حين مقتل جميع من ساهم بقتل الحسينعليه‌السلام ، ومنهم عمر بن سعد وحرملة بن كاهل ، وعبيدالله بن زياد الذي قتل في ١٠ محرم سنة ٦٧ هـ .

وهذه المرحلة ، وإن لم يفصلها فاصل تاريخي عن بقية حياتهعليه‌السلام الا انها كانت تمثل مرحلة انتظار وترقب واضطراب خصوصاً وان الذين قاموا بفظائع عاشوراء سنة ٦١ هـ بحق آل البيتعليه‌السلام ، كانوا لا يزالوا يتمتعون بالحياة ويتأمرون على الناس ويحكمون باسم الدين .

وسنتناول بالتفصيل خطوات المرحلة الثانية من حياة السجادعليه‌السلام ونبدأ بخروج أهل البيتعليه‌السلام من المدينة سنة ٦٠ هـ .

٢٧

في كربلاء ( محرم سنة ٦١ هـ )

خرج السجادعليه‌السلام مع أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته من المدينة الى مكة ، بعد ان رفض الإمامعليه‌السلام إعطاء البيعة ليزيد وكان ذلك في رجب أو شعبان من سنة ستين للهجرة .

وفي الثالث من ذي الحجة سنة ٦٠ هـ ( وقيل الثامن منه ، أي يوم التروية ) خرج ركب أهل البيتعليه‌السلام من مكة متوجهاً نحو العراق وكان الحسينعليه‌السلام يتنبأ بمقتله في كربلاء ، كما قال في خطبته المشهورة في مكة قبل خروجه : ( كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفا )(١) وعندما أعلم بضعف الناس بالكوفة وحقيقة أن قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، أشار إلى انه يعلم انه مقتول لا محالة ، فقال : ( أعلم يقيناً ان هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، لا ينجو منهم إلا ولدي عليعليه‌السلام )(٢) .

وفي كربلاء ذاق السجادعليه‌السلام ، مع زوجته فاطمة بنت الحسنعليه‌السلام وابنه محمد الباقرعليه‌السلام ، مرارة عطش الطف وعانى من مرضه مدة ثمانية أيام متوالية أي من الثاني من محرم الحرام وحتى العاشر منه والظاهر ان المرض أمتد به حتى وصوله الكوفة وسمععليه‌السلام جميع خطب أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام الموجّهة لعساكر بني أمية ، ورأى أباه الحسينعليه‌السلام يصلي ليلة العاشر من محرم ويتلو كتابه حتى طلوع الفجر وكانت تلك سجية الحسينعليه‌السلام في كثرة صلاته وكمال صفاته ، وهكذا كان السجادعليه‌السلام على شاكلة أبيهعليه‌السلام .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٣٨ .

(٢) اللهوف ص ٣٩ .

٢٨

وفي ظهيره ذلك اليوم من محرم ، دخل الحسينعليه‌السلام على أبنهعليه‌السلام وأوصاه بوصاياه ، وسلّمه بعضاً من مواريث الإمامة كخاتمه ، وكانت آخر وصية لهعليه‌السلام :

(يا بني ، أوصيك بما أوصى به جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً حين وفاته ، وبما أوصى جدك عليّ عمك الحسن ، وبما أوصاني به عمّك إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله ) ثم ودعه ومضى الى ميدان المعركة الأخيرة التي استشهد فيها .

وكان السجادعليه‌السلام مريضاً يوم عاشوراء ، فلم يكن قادراً على القتال وقيل انه قاتل قليلاً ثم أتعبه المرض ، ولكنه بعيد وعلى أي تقدير ، فان الإرادة الربانية قدرّت له أن يبقى حياً بعد مجزرة آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطف يقول ابن سعد في طبقاته : ( كان علي بن الحسينعليه‌السلام مع أبيه بطف كربلاء وعمره إذ ذاك ثلاث وعشرين سنة لكنه مريضاً ملقى على فراشه وقد أنهكته العلّة والمرض ولما استشهد والدهعليه‌السلام ، قال شمر بن ذي الجوشن : اقتلوا هذا الغلام فقال بعض أصحابه : تقتل مريضاً لم يقاتل ؟! فتركوه )(١) .

قال ابن عمر : (هذا صحيح ، وليس قول من قال بأنه كان صغيراً حينئذٍ ولم يقاتل وانه ترك بسبب ذلك بشيء )(٢) .

وإن صح ذلك ، فهو لا يقدح في شخصية السجادعليه‌السلام ، لأن القتال تكليفٌ يسقط عند المرض وقد أثنى رمد العينين علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن مقاتلة اليهود في خيبر حتى مسحهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشفيتا ، ثم قاتل فكان النصر على يديهعليه‌السلام .

وهو في الوقت نفسه ، يحط من أخلاقية بني أمية الذين أرادوا قتل مريض لا حول له ولا قوة ، صبراً وهو من أشنع الأعمال وأقبحها عند العرب زمن الجاهلية ، فضلاً عن زمن الإسلام ورحمته !

يقول الإمام السجادعليه‌السلام حول عاشوراء : ( ما من يوم أشد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب ) ثم قال : (ولا يوم كيوم الحسين إذ دلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كلّ يتقرب إلى الله عزّ وجلّ بدمه ،

ــــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٢١٢ .

(٢) الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٢٢١ .

٢٩

وهو بالله يذّكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً )(١) ( والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة ، وتذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين ) .

ورأت عمته العقيلة زينب الألم على وجه السجادعليه‌السلام في ذلك اليوم ، فقالت له : ( ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وإخوتي ، فو الله إن هذا لعهدٌ من الله إلى جدك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لاتعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة ، والجسوم المضرّجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه ، فلا يزداد أثره إلا علواً )(٢) .

في الكوفة ( محرم سنة ٦١ هـ )

بعد استشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام على أرض الطف ، أعلن عمر بن سعد القائد الأموي لجيش الكوفة النصر العسكري على

ــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ج ٩ ص ١٤٧ .

(٢) كامل الزيارات ص ٢٦١ .

٣٠

جيش الحسينعليه‌السلام ، فبدأ جنوده اقتحام الخيم القليلة المنصوبة للنساء والاطفال وحرقها ، وارعابهم بأشدّ الوسائل النفسية من نظرات شامتة وتهديد بالقتل وتم الاستيلاء على غنائم الحرب وهي سيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمامته ودرعه ، ومغزل فاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقنعتها وقلادتها وقميصها(١) وسيق النساء والصبيان والمرضى سبايا الى الكوفة حيث مقر عبيدالله بن زياد ، وواليها من قبل بني أمية .

وكان دخول السبايا الى مدينة الكوفة مثيراً للغاية ، تقشعر منه جلود العقلاء مهما كان مذهبهم أو دينهم ، فضلاً عن المسلمين المؤمنين فقد كانت الكوفة مدينة كبيرة حسب مقياس ذلك الزمان فهي محاطة بنخيل كثيفة ، ومياه وافرة عذبة من الفرات ، وفيها كثافة سكانية متميزة لانها كانت مركز انطلاق الجيوش في حروب بلاد فارس والشام والروم ولذا لم يبخل علينا التاريخ بشهود عيان يروون قصة دخول السبايا ومن هؤلاء الشهود حذلم بن بشير ، فيقول : قدمت الكوفة سنة ٦١ هـ عند مجيء علي بن الحسينعليه‌السلام من كربلاء ، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود ، وقد خرج الناس للنظر إليهم وكانوا على جمال بغير وطاء ، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن ، ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلّة ، وفي

ــــــــــــــــ

(٢) اللهوف ص ١١٣ .

٣١

عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه وهو يقول بصوت ضعيف : ( إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا ، فمن قتلنا ؟ )(١) .

واذا كانت بعض المصادر(٢) تذكر بان قافلة الأسرى التي دخلت الكوفة كانت مؤلفة من أربعين جملاً تحمل النساء والصبيان ، فاننا يمكن ان نقدر ـ وبملاحظة قدرة الجمل على حمل الأفراد ـ عدد من أسر منهم بحدود ٨٠ ـ ١٢٠ فرداً ممن لهم علاقة نسبية أو سببية بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليه‌السلام وإذا أضفنا من استشهد من الرجال في كربلاء وهم ثلاث وسبعون رجلاً ، يكون مجموع الذين انتهوا إلى كربلاء في معسكر الحسينعليه‌السلام حوالي المائتين أو أقل من ذلك بقليل .

سياسة آل البيتعليه‌السلام بعد الطف

كانت سياسة آل البيتعليه‌السلام بعد واقعة الطف مبنية على اساسين هما : كشف الحقائق ، وإرشاد الناس وتصدى لذلك ثلة من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وثلاث نساء هنّ : عمتاه :

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ المفيد ص ٣٢١ ح ٨ وعوالم العوالم ج ١٧ ص ٣٦٨ ح ١ وص ٣٧١ ح ٢ .

(٢) كما في رواية مسلم الجصاص .

٣٢

زينب بنت عليعليه‌السلام ، وأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام ؛ واخته : فاطمة الصغرى بنت الحسينعليه‌السلام ويمكننا تلخيص تلك السياسة بالنقاط التالية :

١ ـ إدانة الناس على تخاذلهم وغدرهم .

٢ ـ تذكيرهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإسلام والقرآن ، وعلاقة أهل البيتعليه‌السلام بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالة السماء .

٣ ـ مواجهة الأمراء الطغاة بصلابة الحق وقوته ، ومقارعة الحجة بالحجة .

وكانت تلك السياسة منسجمة ومتماسكة ، وذات أهداف محددة ، وكانت موجهة إلى جمهور المسلمين الذين خذلوا أهل البيتعليه‌السلام في مبادئهم واهدافهم .

ففي الكوفة ، قام أهل البيتعليه‌السلام بوظيفتهم الاستثنائية تلك بنوعية الناس عبر خطابات في غاية البلاغة والفصاحة ولها مدلولات عميقة في حياة المسلمين والظاهر ان خطب أهل البيتعليه‌السلام قد تمت في الكوفة خلال فترة تبديل أو استراحة الحرس المكلّف بالأسرى قبل ان ينقلوا إلى قصر الإمارة ، حيث عبيدالله بن زياد أمير الكوفة من قبل يزيد بن معاوية فاستثمر زين العابدينعليه‌السلام ، وأم كلثوم بنت علي ، وفاطمة بنت الحسين ، وزينب بنت عليعليه‌السلام تلك الفترة فخاطبوا الناس .

والكوفة ليست مدينة غريبة على أهل البيتعليه‌السلام ، فقد عاشوا فيها في منتصف العقد الثالث من الهجرة ، أي قبل حوالي نيف وعشرين سنة من واقعة الطف .

٣٣

خطابات آل البيتعليه‌السلام :

أولاً : فهذه زينب بنت عليعليه‌السلام لم ير خفرةً(١) أنطق منها ، تخطب الناس في الكوفة ، فتقول :

( الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار .

أما بعد .

يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ، تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم ألا ، وهل فيكم إلا الصلف النطف ، والصدر الشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة .

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون وتنتحبون أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم ومدرة سنتكم ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم و سحقاً .

ــــــــــــــــ

(١) خفر الإنسان خفراً فهو خفر ( من باب تعب ) والأسم الخفارة : الحياء والوقار ( المصباح المنير ـ مادة خفر ج ١ ص ٢١٣ ) .

٣٤

فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فريتم ، وأي كريمة له أبرزتم ، وأي دمٍ له سفكتم ، وأي حرمة له انتهكتم لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو كملئ السماء أفعجبتم إن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإن ربكم لبالمرصاد ) .

ورى المؤرخون ان الناس كانوا يومئذٍ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم على أفواههم ويبكي أحدهم حتى اخضلّت لحيته وهو يقول : (بأبي أنتم و أمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونسائكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى )(١) .

ثانياً : فاطمة الصغرى بنت الحسينعليه‌السلام ، خطبت فقالت : ( الحمد لله عدد الرمل والحصا وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأؤمن به وأتوكل

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٦ ـ ٨٨ .

٣٥

عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن أولاده ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل(١) ولا ترات(٢) اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك بالكذب أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام المسلوب حقه المقتول من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس ، في بيت من بيوت الله فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضته إليك محمود النقيبة طيب العريكة معروف المناقب مشهور المذاهب لم تأخذه فيك اللهم لومة لائم ولا عذل عاذل هديته اللهم للإسلام صغيراً وحمدت مناقبه كبيراً ولم يزل ناضحاً لك ولرسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قبضته إليك زاهداً في الدنيا غير حريص عليها راغباً في الآخرة مجاهداً لك في سبيلك رضيته فاخترته فهديته إلى صراط مستقيم .

أما بعد :

يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء فإنا أهل بيت إبتلانا الله بكم وإبتلاكم بنا ، فجعل بلائنا حسناً وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً ، فكذبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً كأننا أولا ترك وكابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم ، قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم على افتراء الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين .

ــــــــــــــــ

(١) الذحل : الثأر .

(٢) الترات : جمع ترة وهي ايضاً الثأر .

٣٦

فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب من قبل ان نبرئها إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور تباً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأن قد حل بكم وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم ، وأية نفس نزعت إلى قتالنا ، أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا والله قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطبع على أفئدتكم وختم على سمعكم وبصركم ، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون فتباً لكم يا أهل الكوفة ، أي ترات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلكم وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي ، وببنيه وعترته الطيبين الأخيار ، فافتخر بذلك مفتخر فقال :

نحن قتلنا علياً وبني علي

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نسائهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب إفتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم الله وأذهب عنهم الرجس ، فاكظم وأقع كما أقعى أبوك قائماً ، لكل امرئ ما كسب وما قدمت يداه أحسدتمونا ـ ويلكم ـ على ما فضلنا الله .

فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا

وبحرك ساج ما يوارى الدعا مصا

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور )(١) .

ثالثاً : أم كلثوم بنت عليعليه‌السلام خطبت أهل الكوفة من وراء كلتها ، فقالت : ( يا أهل الكوفة سوأة لكم ، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وأنتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نسائه ونكبتموه ، فتباً لكم وسحقاً ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم ، وأي وزر على ظهوركم حملتم ، وأي دماء سفكتموها ، وأي كريمة أصبتموها ، وأي صبية سلبتموها ، وأي أموال إنتهبتموها .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٨ ـ ٩٠ .

٣٧

قتلتم خير رجالات بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزعت الرحمة من قلوبكم ، ألا إن حزب الله هم الفائزون وحزب الشيطان هم الخاسرون ، ثم قالت(١) :

قتلتم أخي صبراً فويل لامكم

ستجزون ناراً حرها يتوقد

سفكتم دماء حرم الله سفكها

وحرمها القرآن ثم محمد

ألا فابشروا بالنار إنكم غداً

لفي سقر حقاً يقيناً تخلدوا

وإني لأبكي في حياتي على أخي

على خير من بعد النبي سيولد

بدمع عزيز مستهل مكفكف

على الخد مني دائماً ليس يحمد

رابعاً : ثم نادى زين العابدينعليه‌السلام بالناس بعد أن حمد الله وأثنى عليه :

( أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي أبي طلاب أنا ابن من انتهكت حرمته ، وسلبت نعمته ، وانتهب ماله ، وسبي عياله أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من قتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً .

أيها الناس ، ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم الى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والمواثيق والبيعة ، وقاتلتموه فتبّاً لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي ...

رحم الله امرأً قبل نصيحتي ، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وفي أهل بيته ، فإن لنا في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة حسنة ) .

فصمتوا وهم يستمعون إلى هذا القول العطر ثم قالوا : (نحن يا بن رسول الله ، سامعون مطيعون حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ، فأنا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا ) .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٩١ .

٣٨

وقولهم هذا لا يمكن أن يفسر إلا بأحد تفسيرين :

إما ان الحضور كان من الذين لم يدخلوا الحرب مع الحسينعليه‌السلام ولم تصلهم أخبار الحرب إلا بوصول السبايا ، وهو بعيد لأن جواب السجادعليه‌السلام لهم يكشف عن كونهم مخادعون ماكرون .

وإما انهم كانوا يخادعون السجادعليه‌السلام للتمويه على الموقف الاسلامي العام وهذا أقرب الى الصواب فقد كانوا يحاولون إلتماس الأعذار على خذلهم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد صدق الفرزدق حينما قال للحسينعليه‌السلام قبل الطف وهو يصف أهل الكوفة : ( يا ابن رسول الله قلوب الناس معك وسيوفهم عليك ) ولو كانوا صادقين في قولهم : ( انا حرب لحربك وسلم لسلمك ) لما تركوا ا لحسينعليه‌السلام وأهل بيته يقتلون بين ظهرانيهم قبل أيام قليلة .

فأجابهم الإمام زين العابدينعليه‌السلام : ( هيهات ، هيهات ، أيها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون ان تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل ، كلا ورب الراقصات(١) ، فإن الجرح لما يندمل قتل أبي بالأمس وأهل بيته ، ولم ينس ثكل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثكل أبي ، وبني أبي إن وجده والله بين لهاتي ، ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصص تجري في فراش صدري )(٢) .

وهكذا عرض أهل البيتعليه‌السلام على أهل الكوفة ما يرشدهم إلى آخرتهم ولخطبة الإمام السجادعليه‌السلام دلالات نعرضها عبر الكلمات التالية :

دلالات خطبة السجادعليه‌السلام في الكوفة :

كشفت خطبة السجادعليه‌السلام في الكوفة عن أمور ، أهمها :

١ ـ انها ساهمت في كشف الحقائق التي حاول بنو أمية سترها وأخطرها التقليل من أهمية العلاقة الرسالية والرحمية برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذلك كان التأكيد على قول : ( من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فانا ) .

ــــــــــــــــ

(١) الراقصات : مطايا الحجيج .

(٢) مثير الأحزان لابن نما ص ٨٩ واللهوف في قتلى الطفوف ص ٦٨ .

٣٩

٢ ـ شرح الوقائع التي وقعت في العاشر من محرم الحرام ، وكان محورها قتل الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه وهتك حرمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ الإدانة الواضحة لأولئك الذين دعوا الحسينعليه‌السلام الى العراق وتخلوا عنه وحاربوه ، ووصمهم بالغدر والمكر والخيانة .

وكان للسجادعليه‌السلام كلامٌ قاله ، خلال أسر بني أمية له ، وهو : ( أيها الناس ، أن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء ، ألا وأن الله تعالى أكرم أقواماً بآبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ، لقوله تعالى :( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) (١) فأكرمهما ونحن والله عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدي رسول الله كان يقول في منبره : احفظوني في عترتي وأهل بيتي فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ألا لعنة الله على من آذاني فيهم حتى قالها ثلاث مرات ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ونحن والله أهل بيت أختار الله لنا الآخرة وزوي(٢) عنا الدنيا ولذاتها ولم يمتعنا بلذاتها )(٣) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الكهف : الآية ٨٢ .

(٢) زوي الشيء : نحاه .

(٣) ناسخ التواريخ ـ من أحوالهعليه‌السلام ج ٢ ص ٤٤ والمنتخب للطريحي ج ٢ ص ٢ .

٤٠

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

أمّاالخوارزمي فقد قال: (ثمّ خرجَ من بعده العبّاس بن عليّ - أي من بعد أخيه عبد الله - وأمّه أمّ البنين أيضاً، وهو (السقّاء) فحملَ وهو يقول:

أقـسمتُ بالله الأعزّ الأعظم

وبـالحجون صـادقاً وزمزم

وبـالحطيم والـفنا الـمحرَّم

لـيخضبنّ اليوم جسمي بدمي

دون الحسين ذي الفخار الأقدم

إمـام أهـل الفضل والتكرّم

فلم يزل يقاتل حتّى قتلَ جماعةً من القوم، ثمّ قُتل، فقال الحسين:(الآن انكسرَ ظهري وقلّت حيلتي) (١) .

أمّاابن شهرآشوب السروي فقال: (وكان عبّاس السقّاء قمر بني هاشم، صاحب لواء الحسين، وهو أكبر الإخوان، مضى يطلب الماء(٢) ، فحملوا عليه

____________________

= اللهوف: ١٧٠.

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٣٤، وانظر: الفتوح: ٥: ٢٠٧.

(٢) قال العلاّمة المجلسي (ره): (أقول: وفي بعض تأليفات أصحابنا أنّ العبّاس لمّا رأى وحدتهعليه‌السلام أتى أخاه وقال: يا أخي هل من رخصة؟ فبكى الحسينعليه‌السلام بكاء شديداً ثمّ قال:(يا أخي، أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري! فقال العبّاس: قد ضاقَ صدري وسئمتُ من الحياة، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.

فقال الحسينعليه‌السلام :فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء) ، فذهبَ العبّاس ووعظهم وحذّرهم فلم ينفعهم، فرجعَ إلى أخيه فأخبره، فسمع الأطفال يُنادون: العطش العطش!

فركبَ فرسه وأخذه رمحه والقِربة وقصد نحو الفرات، فأحاط به أربعة آلاف ممّن كانوا موكّلين بالفرات، ورموهُ بالنبال، فكشفهم وقتل منهم على ما روي ثمانين رجلاً حتى دخلَ الماء، فلمّا أراد أن يشرب غُرفة من الماء ذكرَ عطش الحسين وأهل بيته، فرَمى الماء وقال على ما روي:

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبـعده لا كُـنتِ أن تكوني

=

٤٠١

وحملَ هو عليهم وجعل يقول:

لا أرهبُ الموتَ إذا الموت رقى(١)

حتى أُوارى في المصاليت لُقى(٢)

نـفسي لنفس المصطفى الطهر وقا

إنّـي أنـا الـعبّاس أغـدو بـالسقا

ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى

ففرّقهم، فكمنَ له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن طفيل السنبسي فضربه على يمينه(٣) فأخذَ السيف بشماله، وحملَ عليهم وهو يرتجز:

واللهِ إنْ قـطعتُم يـميني

إنّي أُحامي أبداً عن ديني

وعـن إمامٍ صادق اليقينِ

نجل النبيّ الطاهر الأمينِ

فقاتل حتّى ضعُف، فكمنَ له الحكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة فضربه

____________________

=

هـذا الـحسين وارد المنونِ

وتـشـربين بـارد الـمعينِ

تالله ما هذا فعال ديني

ومَلأ القربة، وحَملها على كتفه الأيمن، وتوجّه نحو الخيمة، فقطعوا عليه الطريق، وأحاطوا به من كلّ جانب، فحاربهم حتّى ضربه نوفل الأزرق على يده اليمنى فقطعها، فحملَ القربة على كتفه الأيسر، فضربه نوفل فقطع يده اليسرى من الزند، فحملَ القربة بأسنانه فجاءه سهم فأصاب القربة وأُريق ماؤها، ثمّ جاءه سهم آخر فأصاب صدره، فانقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين: أدركني! فلمّا أتاه رآه صريعاً، فبكى وحمله إلى الخيمة..). (البحار: ٤٥: ٤١ - ٤٥).

(١) وفي بعض المصادر: (زقا): أي صاح.

(٢) المصاليت: جمع مصلات، هو الرجل السريع المتشمّر، والمصلات مبالغة من الصالت: وهو من الرجال: الشجاع الماضي، ومن السيوف: الصقيل الحادّ.

(٣) في إبصار العين: ٦٢: (فضربهُ حكيم بن طفيل الطائي السنبسي على يمينه فبراها فأخذ اللواء بشماله..).

٤٠٢

على شماله(١) فقال:

يا نفسُ لا تخشَي من الكفّار

وأبـشري بـرحمة الجبّارِ

مـع الـنبيّ السيّد المختار

قـد قطعوا ببَغيِهم يساري

فاصلِهم يا ربّ حرَّ النّارِ

فقتله الملعون بعمود من حديد)(٢) .

ومن الجميل في ساحة عزاء أبي الفضلعليه‌السلام ، أن نورد هذه الفقرة الحزينة الرائعة التي جادت بها روح المرحوم المحقّق السيّد المقرّم، الطافحة بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، قالرحمه‌الله :

____________________

(١) في إبصار العين: ٦٢ - ٦٣: (فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبراها، فضمَّ اللواء إلى صدره كما فعل عمّه جعفر إذ قطعوا يمينه ويساره في مؤتة، فضمّ اللواء إلى صدره وهو يقول:

ألا ترونَ معشر الفجّار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فحملَ عليه رجل تميمي من أبناء أبان بن دارم فضربه بعمود على رأسه فخرّ صريعاً إلى الأرض، ونادى بأعلى صوته: أدركني يا أخي!

فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر فرآه مقطوع اليمين واليسار، مرضوخ الجبين، مشكوك العين بسهم، مرتثّاً بالجراحة، فوقف عليه منحنياً، وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه، ثمّ حملَ على القوم فجعلَ يضرب فيهم يميناً وشمالاً، فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدَّ فيها الذئب وهو يقول:(أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟! أين تفرّون وقد فتتُّم عضُدي؟!) ثمّ عاد إلى موقفه منفرداً، وكان العبّاس آخر مَن قُتل من المحاربين لأعداء الحسينعليه‌السلام ، ولم يُقتل بعده إلاّ الغلمان الصغار من آل أبي طالب الذين لم يحملوا السلاح).

(٢) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ٤: ١٠٨، ويلاحظ أنّ البلاذري في كتابه أنساب الأشراف: ٣: ٤٠٦ يقول: (وقال بعضهم: قتلَ حرملة بن كاهل الأسدي ثمّ الوالبي العبّاس بن علي بن أبي طالب مع جماعة وتعاوروه، وسلبَ ثيابه حكيم بن طفيل الطائي).

٤٠٣

(وسقطَ على الأرض ينادي:عليك منّي السلام أبا عبد الله! فأتاه الحسينعليه‌السلام ، وليتني علمتُ بماذا أتاه؟ أبحياة مستطارة منه بهذا الفادح الجلل؟ أم بجاذب من الأخوّة إلى مصرع صِنوه المحبوب؟

نعم، حصلَ الحسينعليه‌السلام عنده، وهو يبصر قُربان القداسة فوق الصعيد قد غشيته الدماء وجللّته النبال(١) ! فلا يمين تبطش، ولا منطق يرتجز، ولا صولة تُرهب، ولا عين تبصر، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدَّد!

أصحيحٌ أنّ الحسينعليه‌السلام ينظر إلى هذه الفجائع ومعه حياة ينهض بها؟

لم يبقَ الحسين بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً مُعرّى عن لوازم الحياة، وقد أعربَ سلام الله عليه عن هذا الحال بقوله:(الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي) ،

وبـانَ الانـكسارُ في جبينه

فـاندكّت الـجبال من حنينه

وكيف لا؟ وهو مجال بهجته

وفـي مـحيّاه سرور مهجته

كـافل أهـله وساقي صِبيَته

وحامل اللوا بعالي همّته(٢)

ورجعَ الحسين إلى المخيّم منكسراً حزيناً باكياً، يُكفكف دموعه بكمّه، وقد تدافعت الرجال على مخيمه فنادى:(أمَا من مغيث يُغيثنا؟ أمَا من مُجير يُجيرنا؟ أمَا من طالب حقّ ينصرنا؟ أمَا من خائف من النّار فيذبّ عنّا؟ (٣) فأتتهُ سكينة وسألته عن عمّها، فأخبرها بقتله، وسمعتهُ زينب فصاحت: وا أخاه! وا عبّاساه! وا ضيعتنا بعدك! وبكينَ النسوة وبكى الحسين معهنّ وقال:وا ضيعتنا بعدك!) (٤) .

____________________

(١) في كتاب الحدائق الوردية: ١٢٠: (ورموه (العبّاس) حتّى لم يبقَ قدر الدرهم من جسده إلاّ وفيه سهم!).

(٢) هذه الأبيات الثلاثة من أرجوزة آية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهانيقدس‌سره .

(٣) راجع: المنتخب للطريحي: ٣١٢.

(٤) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٦٩ - ٢٧٠.

٤٠٤

الإمام الحسينعليه‌السلام وحيداً فريداً في الميدان

(ولمّا قُتل العبّاسعليه‌السلام التفت الحسينعليه‌السلام فلم يرَ أحداً ينصره، ونظرَ إلى أهله وصحبه مُجزّرين كالأضاحي، وهو إذْ ذاك يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال، صاحَ بأعلى صوته:(هل من ذابٍّ عن حُرم رسول الله؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مُغيث يرجو الله في إغاثتنا؟) فارتفعت أصوات النساء بالبكاء!)(١) .

خروج الإمام زين العابدينعليه‌السلام

(فخرجَ علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، وكان مريضاً لا يقدر أن يقلّ سيفه، وأمّ كلثوم(٢) تنادي خلفه: يا بنيَّ ارجع، فقال:(يا عمّتاه، ذريني أُقاتل بين يدي ابن رسول الله، وقال الحسينعليه‌السلام :يا أمَّ كلثوم، خُذيه؛ لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (٣) .

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٧١، وانظر اللهوف: ١٦٨.

(٢) وسوف تأتي ترجمتهاعليها‌السلام وافية في الجزء الخامس من هذه الدراسة إن شاء الله.

(٣) تسلية المجالس ٢: ٣١٤، وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٣٦ : (وخبر أنّ الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام كان مريضاً قبل يوم عاشوراء وفيه، فممّا اتفقت عليه كلمة جُلّ المؤرّخين، (راجع على سبيل المثال: تاريخ الطبري: ٣: ٣١٥، وترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير: ٧٧، والإرشاد: ٢: ٩٣، وإثبات الوصيّة: ١٧٧ و ١٨١، ونسب قريش: ٥٨، وإعلام الورى: ١: ٤٦٩، وتذكرة الخواص: ٢٢٩ عن الواقدي، والمناقب لابن شهرآشوب: ٤: ١١٣، وعمدة الطالب: ١٨٢).

لكنّ هناك قولاً شاذّاً أتى به الفضيل بن الزبير بن عمر بن درهم الكوفي الأسديّ (الزيدي) في كتابه الموسوم بـ (تسمية مَن قُتل مع الحسينعليه‌السلام ): ص١٥٠ حيث قال:

(وكان عليّ بن الحسينعليه‌السلام عليلاً، وارتُثَّ يومئذٍ، وقد حضرَ بعض القتال فدفع الله عنه). =

٤٠٥

مقتلُ الرضيع عبد الله بن الحسينعليه‌السلام

النصوص الواردة في مقتل ابنه الرضيععليه‌السلام يوم الطف مختلفة جدّاً، وهي أقسام:

١ - النصوص التي تُصرّح باسمه وهو عبد الله.

٢ - النصوص التي لا تصريح فيها باسمه.

٣ - النصوص التي تقول بأنَّ الطفل اسمه عليّ الأصغر.

٤ - النصوص التي تصرّح بمقدار سِنّه فقط.

أمّا الطائفة الأولى: فقد روى الشيخ المفيد قائلاً: (ثمّ جلسَ الحسينعليه‌السلام أمام الفسطاط فأُتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حِجره، فرماهُ رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الحسينعليه‌السلام دمه فلمّا مَلأ كفّه صبّه في الأرض ثمّ قال:(ربّ إن تكن حبستَ عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لِما هو خير، وانتقِم لنا من هؤلاء القوم الظالمين) ، ثمّ حملهُ حتى وضعه مع قتلى أهله)(١) .

____________________

= وتبعه في هذا الرأي (زيديٌّ آخر) وهو صاحب الحدائق الوردية في ص١٢٠ من كتابه هذا، ونحتمل قويّاً أنّه أخذه عنه، وقد استفادَ أحد المحققّين المعاصرين من قول الفضيل بن الزبير فقال: (إنّ مفروض الأدلّة السابقة أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد أُصيب بالمرض بعد اشتراكه أوّل مرّة في القتال وبعد أن ارتُثّ وجرح، فلعلّ عدم الإذن له في أن يُقاتل كان في المرّة الثانية وهو في حال المرض والجراحة). (راجع: جهاد الإمام السجّاد: ٤٤)، وهذا الاستنتاج لا أساس له إلاّ ذلك القول الشاذ، مع أنّ الطبري، والمفيد، وابن شهرآشوب، والمسعودي، وغيرهم يروون أنّهعليه‌السلام كان مريضاً قبل يوم عاشوراء وفيه، في عبارات صريحة ودالّة، (راجع: المصادر التي ذكرناها أعلاه).

(١) الإرشاد ٢: ١٠٨، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٢، وأنساب الأشراف ٣: ٤٠٧، والمعجم الكبير ٣: ١٠٣، والحدائق الوردية: ١٠٣، ونسب قريش: ٥٩، وفيه: قُتل مع أبيه صغيراً، سرّ السلسلة =

٤٠٦

وفي ضمن رواية عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام السجّادعليه‌السلام يصف فيها كيف جمع الإمام الحسينعليه‌السلام أصحابه ليلة عاشوراء، وردت هذه المحاورة بين الإمامعليه‌السلام وبين ابن أخيه القاسمعليه‌السلام هكذا:(فقال له القاسم بن الحسن عليه‌السلام : وأنا فيمن يُقتل؟ فأشفقَ عليه فقال له: يا بُنيّ كيف الموت عندك؟

قال: يا عمّ، أحلى من العسل!

فقالعليه‌السلام : إي والله، فداك عمّك، إنّك لأحد مَن يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم، وابني عبد الله!

فقال: يا عمّ، ويصِلون إلى النساء حتّى يُقتل عبد الله وهو رضيع؟!

فقالعليه‌السلام : فداك عمّك، يُقتل عبد الله إذا جفّت روحي عطشاً، وصرتُ إلى خِيَمنا فطلبتُ ماءً ولبناً فلا أجد قطّ! فأقول: ناولوني ابني لأشرب مِن فيه! فيأتوني به فيضعونه على يدي، فأحملهُ لأُدنيه من فيَّ، فيرميه فاسقٌ بسهم فينحره

____________________

= العلوية: ١٠٣، وفيه: وهو صبي رضيع، أخبار الدول وآثار الأُول: ١٠٨، والدر النظيم: ٥٥٦، وجواهر المطالب ٢: ٢٨٧، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من الطبقات الكبرى: ٧٣، إعلام الورى ١: ٤٦٦، مثير الأحزان: ٧٠، البحار ٤٥: ٤٦، اللهوف: ١٦٩ وفيه: فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب:(ناوليني ولدي الصغير حتى أودّعه، فأخذهُ وأمال إليه ليقبّله، فرماه حرملة بن الكاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه، فقال لزينب:خذيه، ثمّ تلقّى الدم بكفيه حتى امتلأتا، ورمى به نحو السماء وقال:هوّن عليّ ما نزلَ بي أنّه بعين الله).

قال الباقرعليه‌السلام :(فلم تسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض) ، وروي أنّ زينبعليها‌السلام هي التي أخرجت الصبي وقالت: يا أخي هذا ولدك له ثلاثة أيام ما ذاق الماء، فاطلب له شربة ماء، فأخذهُ على يده وقال:(يا قوم، قد قتلتم شيعتي وأهل بيتي، وقد بقيَ هذا الطفل يتلظّى عطشاناً فاسقوهُ شربة من الماء)، فبينما هو يخاطبهم إذ رماه رجل منهم بسهم فذبحه (راجع المجدي: ٩١، والشجرة المباركة: ٧٣).

٤٠٧

وهو يناغي! فيفيض دمه في كفّي! فأرفعه إلى السماء وأقول: اللّهمّ صبراً واحتساباً فيك...) (١) .

ومن الملفت للانتباه والمثير للعجب والحزن والمصاب في هذه الرواية هو: أنّ الإمامعليه‌السلام لجفاف روحه من العطش الشديد أراد أن يروي ظمأه من نداوة ورطوبة فم الطفل عبد الله الرضيع! لا أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد أخذ الطفل الرضيع العطشان ليعرضه على القوم لعلّهم يسقونه ماء كما هو المشهور!

وجاء في تسمية مَن قُتل مع الحسينعليه‌السلام : (وعبيد الله بن الحسينعليه‌السلام ، وأُمّه الرباب بنت امرئ القيس..، قتلهُ حرملة بن الكاهل الأسدي الوالبي، وكان ولِدَ للحسينعليه‌السلام في الحرب فأُتي به وهو قاعد، وأخذه في حجره ولبّاه بريقه وسمّاه عبد الله، فبينما هو كذلك إذ رماه حرملة بن الكاهل بسهم فنحره، فأخذ الحسينعليه‌السلام دمه فجمعه ورمى به نحو السماء فما وقعت منه قطرة إلى الأرض!

قال فضيل: وحدّثني أبو الورد: أنّه سمعَ أبا جعفر يقول:(لو وقعت منه إلى الأرض قطرة لنزلَ العذاب) ، وهو الذي يقول الشاعر فيه:

وعند غني قطرة من دمائنا

وفي أسد أخرى تُعد وتُذكر (٢)

أمّا الطائفة الثانية من النصوص: فمنها ما رواه الدينوري قائلاً: فدعا بصبي له صغير فأجلسه في حِجره، فرماه رجل من بني أسد، وهو في حِجر الحسينعليه‌السلام بمشقص، فقتله(٣) .

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ٢١٤ رقم ٢٩٥، وعنه نَفَس المهموم: ٢٣٠ - ٢٣١، وقال الشيخ القمّي: (روى الحسين بن حمدان الحضيني (الخصيبي) بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، والسيّد البحراني مُرسلاً عنه...)، وراجع الرواية مفصّلة في الفصل الثاني: ص١٣٧ - ١٣٩.

(٢) تسمية مَن قُتل مع الحسينعليه‌السلام : ١٥٠.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٥٨، بغية الطلب ٦: ٢٦ - ٢٩، المشقص: بمعنى نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض.

٤٠٨

ومنها ما رواه سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمد، قال: (فالتفت الحسين فإذا بطفل له يبكي عطشاً، فأخذهُ على يده وقال:(يا قوم، إنْ لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، فرماه رجل منهم بسهم فذبحه، فجعل الحسين يبكي ويقول:اللّهمّ احكُم بيننا وبين قومٍ دَعَونا لينصرونا فقتلونا)، فنوديَ من الهواء:دعهُ يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة) (١) .

وأمّا النصوص المصرّحة أنّ الطفل القتيل اسمه عليّ الأصغر: فمنها ما رواه ابن أعثم الكوفي قائلاً: (وله ابن آخر يقال له عليّ في الرضاع، فتقدّم إلى باب الخيمة فقال:

(ناولوني ذلك الطفل حتى أودّعه، فناولوه الصبي فجعل يقبّلهُ وهو يقول:يا بني، ويل لهؤلاء القوم إذا كان غداً خصمهم جدّك محمّد)، قال: وإذا بسهم قد أقبلَ حتى وقعَ في لبّة الصبي فقتلهُ.

فنزلَ الحسين عن فرسه وحفر له بطرف السيف ورمّله(٢) بدمه وصلّى عليه ودفنه)(٣) .

وقال ابن الطقطقى: (وعلي الأصغر أصابهُ سهم بكربلاء فمات)(٤) .

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٢٧، روضة الواعظين: ١٥٠، سير أعلام النبلاء ٣: ٣٠٩، تهذيب الكمال ٦: ٤٢٨، المنتظم ٥: ٣٤٠.

(٢) وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٣٧: (ثمّ نزلَ الحسين عن فرسه، وحفر للصبيّ بجفن سيفه، وزمّله بدمه، وصلّى عليه...).

(٣) الفتوح ٥: ١٣١.

(٤) الأصيلي في أنساب الطالبيين: ١٤٣، النفحة العنبرية: ٤٦، كشف الغمّة ٢: ٢٥٠، المناقب ٤: ١٠٩.

٤٠٩

وأمّا النصوص التي تُصرّح بمقدار عمره الشريف، فما ورد عن الذهبي قوله: (فوقعت نبلة في ولدٍ له ابن ثلاث سنين)(١) .

أمّااليعقوبي فقد قال: (ثمّ تقدّموا رجلاً رجلاً حتّى بقيَ وحده ما معه أحد من أهله ولا ولده ولا أقاربه، فإنّه لواقف على فرسه إذ أُتي بمولود قد ولِد في تلك الساعة، فأذَّن في أُذنه وجعل يُحنّكه إذ أتاه سهم فوقعَ في حلق الصبي فذبحهُ، فنزعَ الحسين السهم من حلقه وجعل يلطّخه بدمه ويقول:(واللهِ، لأنتَ أكرم على الله من الناقة، ولَمحمّد أكرم على الله من صالح)، ثمّ أتى فوضعه مع وِلده وبني أخيه)(٢) .

____________________

(١) سير أعلام النبلاء: ٣: ٣٠٢.

هذه عمدة النصوص الواردة في الباب، ويمكن أن يستفاد من جميع ذلك: أنّ الإمام كان له ولَدان صغيران قُتلا في الطف، أحدهما: اسمه عبد الله بن الحسينعليه‌السلام أمّه الرباب بنت امرئ القيس، كما صرّح بذلك في تسميّة مَن قُتل مع الحسينعليه‌السلام ، والآخر: اسمه عليّ الأصغر، والأوّل وُلدِ كما عن اليعقوبي يوم عاشوراء، والثاني كان معه حينما خرجَ من المدينة، والله العالم.

وعلى جميع التقادير، فإنّ قتلَ الأطفال الأبرياء ممنوع في الشريعة الإسلامية، ولكنّ السَفلة من بني أميّة تعدّوا حدود الله وقتلوا الأطفال بأبشع وأفجع القتلات، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينهى عن ذلك، فإنّ خالد بن الوليد لمّا قَتلَ بالعميصاء الأطفال، رفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه حتى رأى المسلمون بياض إبطيه وقال:(اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنعَ خالد) ، ثمّ بعثَ عليّاً فوادّهم.

فلم يُعهد ذبح الأطفال بعد ذلك إلاّ ما كان من معاوية في قتله أطفال المسلمين في الأنبار وفي اليمن، على يدي عامله بسر بن أرطأة، وكان فيمن قتلهم ولَدان صغيران لعبيد الله بن عباس، وكرّرت ذلك أشياعه في الطف فذبحوا من الصبية والأطفال ما ظهروا عليهم وظفروا بهم، بغير ما رحمة منهم ودون أدنى رقّة أو رأفة، الأمر الذي برهنَ على غلوّهم في القسوة والفسوق عن الدين، وأوضحُ بلا مراء ولا خفاء أنّ قصد التشفّي والانتقام بلغَ بهم إلى العزم على استئصال ذرّية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقطع نسله ومحو أصله. (راجع: مختصر نهضة الحسينعليه‌السلام : ١٠٧).

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٧٧، الحدائق الوردية: ١٢٠، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢: ٣٧: (ثمّ =

٤١٠

ومن الشعر الذي أنشدهُ الإمامعليه‌السلام في مواجهته القوم وحيداً - بعد مقتل عبد الله الرضيع - على ما روي:

كـفـرَ الـقـوم وقِـدماً رغـبوا

عــن ثـواب الله ربّ الـثقلين

قـتـلَ الـقـوم عـلـيّاً وابـنه

حـسن الـخير كـريم الأبـوين

حـنـقاً مـنهم وقـالوا أجـمِعوا

واحشروا الناس إلى حرب الحسين

ثــمّ سـاروا وتـواصوا كـلّهم

بـاجـتياحي لـرضاء الـملحدين

لـم يـخافوا الله فـي سفكِ دمي

لـعـبيد الله نَـسـل الـكافرين

وابـن سـعد قـد رمـاني عنوة

بـجـنود كـوكـوف الـهاطلين

لا لـشيءٍ كـان مـنّي قـبل ذا

غـير فـخري بـضياء النيّرين

بـعليّ الـخير مـن بـعد النبيّ

والـنـبيّ الـقـرشيّ الـوالدين

خـيـرة الله مـن الـخلق أبـي

ثـمّ أمّـي فـأنا ابـن الخيرَتين

فـضّةٌ قـد خَـلصت مـن ذهبٍ

فـأنـا الـفضّة وابـن الـذَهبين

مَـن لـه جـدّ كجدّي في الورى

أو كـشيخي فـأنا ابـن الـعلَمَين

فـاطـمُ الـزهراء أمّـي وأبـي

قـاصـمُ الـكفر بـبدرٍ وحُـنين

عَــبـدَ الله غـلامـاً يـافـعاً

وقـريـش يـعـبدون الـوثنَينْ

يـعبدونَ الـلاّت والـعُزّى مـعاً

وعـلـيّ كـان صـلّى الـقبلتين

وأبــي شـمـس وأُمـي قـمر

فـأنا الـكوكبُ وابـن الـقمرَيْن

ولــه فـي يـوم أُحـدٍ وقـعةٌ

شَـفت الـغلّ بـفضّ العسكرين

ثـمّ فـي الأحـزاب والـفتح معاً

كـان فـيها حـتف أهل الفَيلقين

فـي سـبيل الله، مـاذا صنَعت

أُمّــة الـسوء مـعاً بـالعترتين

____________________

= نزلَ الحسين عن فرسه، وحفرَ للصبي بجفن سيفه وزمّله بدمه، وصلّى عليه).

٤١١

عـترة الـبَرّ الـنبيّ الـمصطفى

وعَـليّ الـورد يـوم الـجحفلين

ثمّ وقفَ صلوات الله عليه قبالة القوم وسيفه مُصلت في يده آيساً من الحياة عازماً على الموت، وهو يقول:

أنـا ابن عليّ الطهر من آل هاشم

كـفاني بـهذا مـفخراً حين أفخر

وجدّي رسول الله أكرم مَن مضى

ونحن سراج الله في الأرض نزهر

وفـاطمُ أُمـي مـن سـلالة أحمد

وعـمّيَ يُدعى ذو الجناحين جعفر

وفـينا كـتاب الله أُنـزل صادقاً

وفـينا الهدى والوحي بالخير يُذكر

ونـحن أمـان الله لـلناس كـلّهم

نـسرّ بـهذا فـي الأنـام ونجهر

ونـحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا

بـكأس رسـول الله ما ليس يُنكر

وشـيعتنا فـي الناس أكرمُ شيعة

ومـبغضنا يـوم الـقيامة يخسر

وذكر أبو علي السلامي في تاريخه أنّ هذه الأبيات للحسينعليه‌السلام من إنشائه وقال: وليس لأحد مثلها:

وإنْ تـكـن الـدنيا تُـعدّ نـفيسة

فـإنّ ثـواب الله أعـلى وأنـبلُ

وإن تـكن الأبـدان للموت أُنشئت

فقتلُ امرئ بالسيف في الله أفضل

وإن تـكن الأرزاق قـسماً مقدّراً

فقلّة سعي المرء في الكسب أجملُ

وإن تـكن الأمـوال للتَرك جمعها

فـما بـال متروك به المرءُ يبخلُ

سأمضي وما بالقتل عارٌ على الفتى

إذا فـي سـبيل الله يمضي ويُقتل

ثمّ إنّهعليه‌السلام دعا الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كلّ مَن دنا منه من عيون الرجال، حتى قتلَ منهم مقتلة عظيمة(١) .

____________________

(١) تسلية المجالس ٢: ٣١٤ - ٣١٨، نَفَس المهموم: ٣٥٣، الإمام الحسين وأصحابه: ٢٩٠، مقتل

٤١٢

ثمّ حملَ على الميمنة وقال:

الموت خير من ركوب العار

والعار أَولى من دخول النار

ثمّ حملَ على الميسرة وقال:

أنـا الحسين بن علي

أحـمي عـيالات أبي

آلـيتُ أن لا أنـثني

أمضي على دين النبي

وجعل يقاتل حتى قتل ألفاً وتسعمائة وخمسين سوى المجروحين(١) .

الإمام الحسينعليه‌السلام يَطلب ثوباً لا يُرغبُ فيه!

روى الطبري يقول: (ولمّا بقيَ الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل(٢) محققة يلمع(٣) فيها البصر، يمانيّ محقَّق، ففرزه(٤) ونكثه؛ لكيلا يُسلبه، فقال له بعض أصحابه: لو لبستَ تحته تُبّاناً (٥) قال:(ذلك ثوب مذلّة، ولا ينبغي لي أن ألبسه) (٦) .

____________________

= الخوارزمي ٢: ٣٨، الفتوح ٥: ١٣٢، المناقب ٤: ٨٠، المنتخب للطريحي: ٤٤٠، كشف الغمّة ٢: ٢٧، عبرات المصطفى ٢: ٩٣، مطالب السؤول ٢: ٢٩.

(١) مناقب آل أبي طالب ٤: ١١٠، تسلية المجالس ٢: ٣١٨، البحار ٤: ٤٩، العوالم ١٧: ٢٩٣.

(٢) لباس يلبسه الأعاجم من قديم الأيام ويلبسه الأشراف والأعاظم من الأعراب، وقد حثّ الشرع في لبسه وجعله من المستحبات والمسنونات. (راجع الحسين وأصحابه: ٣٠٢).

(٣) محققة، أي محكمة النسج.

(٤) فرزه: أي نقض نسجه، مزّقه.

(٥) التبّان: شبه السراويل الصغيرة. (راجع: لسان العرب: ٢: ١٨).

(٦) تاريخ الطبري ٣: ٣٣٣، مجمع الزوائد ٩: ١٩٣، بغية الطلب ٦: ٢٤١٧، تهذيب الكمال ٦: ٤٢٨، =

٤١٣