الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين0%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: السيد زهير الأعرجي
الناشر: المؤلف
تصنيف: الصفحات: 413
المشاهدات: 226340
تحميل: 11526

توضيحات:

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 226340 / تحميل: 11526
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

وليس هناك من شك بأن البيت الذي نشأ فيه زين العابدينعليه‌السلام كان بيت نبوة وإمامة ، بيت من بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار فلازم العبادة والتهجد وذكر الله عزوجل منذ صغره ، وهو يرى أباهعليه‌السلام يقوم الليل ويصوم النهار ويساعد الفقير ويعين المحروم فكان لا يسمع في بيته الا القرآن ، ولا يرى من أهله الا ساجد وراكع ، ولا يأكل الا مع من يشد الحجر على بطنه ، أو يصوم الأيام الطويلة وهكذا كانت حياة السجادعليه‌السلام حياة علم وتقوى وجهاد وعبادة .

يصف أحد الرواة السجادعليه‌السلام وهو في السابعة أو الثامنة من عمره فيقول : حججت بعض السنين إلى مكة ، فبينما أنا سائر في عرض الصحراء وإذا بصبي سباعي أو ثماني(١) وهو يسير في الطريق بلا زاد ولا راحلة فتقدمت اليه وسلّمت عليه ، وقلت له : مع من قطعت البرّ ؟ قال : ( مع الباري ) فكبر في عيني ، فقلت : يا ولدي ! أين زادك وراحلتك ؟ فقال : (زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي ) فعظم في نفسي ، فقلت : يا ولدي ممن تكون ؟ فقال : ( مطلبي ) فقلت : أبن لي ؟ فقال : ( هاشمي ) فقلت : أبن لي ؟ فقال : ( علويٌ فاطميٌ ) فقلت : يا سيدي ! هل قلت شيئاً من الشعر ؟ فانشدهعليه‌السلام شعراً .

ثم غاب عن عيني الى ان أتيت مكة فقضيت حجتي ورجعت ، فأتيت الأبطح فإذا بحلقة مستديرة ، فاطلعت لأنظر من بها فإذا هو صاحبي فسألت عنه ، فقيل : هذا زين العابدين(٢) .

وفي الرواية الآنفة دلالات على انه كان من أهل العلم والعبادة والبلاغة ، على الرغم من صغر سنه .

ــــــــــــــــ

(١) هذا الإصطلاح غريب قال في ( تاج العروس ) عن ابن شميل يقال : رباعي لمن بلغ أربعة اشبار وقال الليث : الخماسي والخماسية من الوصائف لمن طوله خمسة اشبار ، ولا يقال سداسي ولا سباعي إذا بلغ ستة أو سبعة اشبار لأنه رجل ( ج ٤ ص ١٤١ ) فيتعين انه كان يقصد ابن سبع سنين أو ثمان .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٩٢ والمناقب ج ٣ ص ٢٩٤ .

٢١

وفي رواية الأصمعي(١) التالية دلالة أخرى على انهعليه‌السلام كان من أهل العبادة والصلاة ، وهو لا يزال في حداثة سنه يقول الأصمعي : ( كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فاذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، وهو يقول : نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الحي القيوم غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوحٌ للسائلين ، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين ، ثم أنشأ يقول :

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم

يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبة

وأنت وحدك يا قيوم لم تنم

أدعوك رب دعاء قد أمرت به

فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف

فمن يجود على العاصين بالنعم

قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين )(٢) .

وينسب للحسن البصري أنه رأى زين العابدينعليه‌السلام متعلقاً بأستار الكعبة ، وهو يتضرع إلى الله ، ويدعوه منيباً ، فدنا منه فسمعه يقول هذه الأبيات :

ــــــــــــــــ

(١) أورد الرواية ابن شهر آشوب في المناقب ج ٢ ص ٢٥١ ونسبة الرواية إلى الأصمعي لا يصح ، لان الأصمعي توفي في بغداد سنة ٢١٦ عن ثمان وثمانين سنة ( كما في تأريخ بغداد ج ١٠ ص ٤١٩ ) فتكون ولادته سنة ١٢٨ هجرية تقريباً أي بعد استشهاد الإمام السجادعليه‌السلام بثلاث وثلاثين سنة نعم يمكن أن تصح الرواية بالواسطة ، أي إذا كان الراوي رجلاً آخر رواها الأصمعي عنه .

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٤٣ .

٢٢

ألا أيها المأمول في كل حاجةٍ

شكوت إليك الضرّ فارحم شكايتي

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي ثم أين مخافتي

فيا سيدي أمنن علي بتوبةٍ

فإنك ربّ عالمٌ بمقالتي

ولا يوجد دليل سندي على صحة نسبة هذه الأبيات إلى السجادعليه‌السلام ، ويؤيد ذلك عدم موازاتها لبلاغتهعليه‌السلام وفصاحته .

وكان باراً رحيماً بأسرته ، خصوصاً عندما اشتد عودهعليه‌السلام وبلغ مبلغ الرجال وكان غالباً ما يردد : (لئن أدخل الى السوق ومعي دراهم ابتاع بها لعيالي لحماً وقد قرموا(١) أحبّ إليّ من أن أعتق نسمة )(٢) وكانعليه‌السلام يبكرّ في طلب الرزق لعياله ، ويقول : ( أتصدق لعيالي قبل أن أتصدق [ على الناس ] من طلب الحلال فإنّه من الله عز وجلّ صدقة عليهم )(٣) .

ــــــــــــــــ

(١) قرموا : اشتدّ شوقهم الى تناول اللحم .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦٧ نقلاً عن الكافي ج ٢ ص ١٢ .

(٣) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦٧ نقلاً عن الكافي ج ٢ ص ١٢ .

٢٣

أخلاقه وأدبهعليه‌السلام مع أبويه

ولئن حرم السجادعليه‌السلام من حنان الأم ورأفتها ، فانه لم يحرم من برها بالدعاء لها ولوالدهعليه‌السلام والدعاء للوالدين يعكس :

١ ـ أدباً قرآنياً رفيعاً والتزاماً بأحكام الإسلام وقد قال تعالى :( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً ) (١) .

٢ ـ قلباً مرهفاً وضميراً حياً وعقلاً متوقداً .

٣ ـ وفاءً بالجميل الذي أسداه الوالدان لوليدهما .

فيقولعليه‌السلام في دعائه لهما :

أ ـ ( واخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك والصلاة منك يا أرحم الراحمين اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف(٢) ، وأبرهما برّ الأم الرؤوف ، واجعل طاعتي لوالدي ، وبري بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان(٣) ، وأثلج لصدري من شربة الضمآن حتى أوثر على هواي هواهما ، وأقدّم على رضاي رضاهما ، وأستكثر برهما بي وإن قلّ ، وأستقلّ بري بهما وإن كثر ) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : الآية ٢٤ .

(٢) العسوف : الظلوم .

(٣) الوسنان : النعسان .

٢٤

ب ـ ( اللهم خفّض لهما صوتي ، وأطب لهما كلامي ، وألن لهما عريكتي(١) ، وأعطف عليهما قلبي ، وصيرني بهما رفيقاً ، وعليهما شفيقاً ) .

ج ـ ( اللهم اشكر لهما تربيتي ، وأثبهما على تكرمتي ، واحفظ لهما ما حفظاه مني في صغري ) .

د ـ ( اللهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلواتي ، وفي إنى من آناء ليلي ، وفي كل ساعةٍ من ساعات نهاري ) .

شب الإمام السجادعليه‌السلام في مدينة جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ذكرنا آنفاً ، على الصفات الحميدة للإسلام وكان الى جانب أبيه الحسينعليه‌السلام في المهمات ، وعلى الأغلب لقاء الإمام الحسينعليه‌السلام المشهود مع الوليد بن عتبة ( والي المدينة من قبل يزيد ) ومروان بن الحكم ، عندما أراد بنو أمية البيعة ليزيد بالخلافة وكانعليه‌السلام آنذاك شاباً في الثانية والعشرين من عمره .

فعندما مات معاوية بن ابي سفيان في رجب سنة ٦٠ هـ ، كتب يزيد الى الوليد بن عتبة أمير المدينة يأمره بأخذ البيعة على أهلها عامة وعلى الإمام الحسينعليه‌السلام خاصة فقال له : إن أبى عليك فاضرب عنقه وأبعث غلي برأسه .

ــــــــــــــــ

(١) العريكة : الطبع .

٢٥

فبعث الوليد الى الحسينعليه‌السلام فجاءه في ثلاثين رجلاً من أهل بيته ومواليه ومن الراجح تاريخياً ان زين العابدينعليه‌السلام كان بينهم ، فقد كان شاباً بليغاً راشداً يعضد أمر أبيهعليه‌السلام في القضايا الاسلامية الكبرى .

فنعى الوليد إلى الحسينعليه‌السلام موت معاوية ، وعرض عليه البيعة ليزيد فلم يجبه الإمام الحسينعليه‌السلام إلى شيء محدد ، بل أجلّه إلى الغد وقالعليه‌السلام للوليد : ( ان البيعة لا تكون سراً ولكن اذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم ) فانبرى مروان مخاطباً الوليد : لا تقبل أيها الأمير عذره ، متى لم يبايع فاضرب عنقه كذبت والله ولؤمت ) ثم أقبل على الوليد وقالعليه‌السلام : (إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله )(١) .

وأنتهت المقابلة بخروج الإمام الحسينعليه‌السلام ومن معه من أهل بيتهعليه‌السلام من مقر الوليد بن عتبة ثم إتخاذ الإمام الحسينعليه‌السلام قراره بالخروج من المدينة إلى مكة ثم إلى كربلاء .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١٧ .

٢٦

المرحلة الثانية : ( سنة ٦١ ـ ٦٧ هـ )

وهذه المرحلة امتدت من مقتل أبيه سيد الشهداءعليه‌السلام في كربلاء في العاشر من محرم الحرام سنة ٦١ هـ ولحد العاشر من محرم الحرام من سنة ٦٧ هـ وهو تاريخ مقتل قاتلي الحسينعليه‌السلام وتمثل تلك الفترة ست سنوات كاملة من الانتظار والاضطراب الإجتماعي والسياسي .

ففي سنة ٦١ للهجرة توالت أحداث الطف وقضية المسير الى الكوفة والدخول على عبدالله بن زياد ، ثم دفن الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ثم المسير الى الشام وخطبة السجادعليه‌السلام في مسجد الطاغية الأموي ، ثم العروج على كربلاء مرة أخرى لتجديد العهد ثم المسير الى المدينة حيث تسلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام وديعة الإمامة التي تركها له أبوهعليه‌السلام عند أم سلمة ( رضوان الله عليها ) وكانت ا لوصية تأمره بالسكوت .

وبقي السجادعليه‌السلام حزيناً على الفاجعة ، لكن لم يثنه ذلك عن أداء متطلبات الإمامة ، وهي قيادة الأمة قيادة روحية شرعية نحو أهداف الدين اشتملت هذه المرحلة أيضاً على انتفاضات ومعارك منها :

أ ـ معركة المدينة : ففي سنة ٦٢ هـ استبيحت المدينة من قبل جيش بني أمية بقيادة مسلم بن عقبة ، واشتعلت فيها معركة دامية بين جيش الشام و جيش المدينة بقيادة عبدالله بن حنظلة ، انتهت بمجازر بحق أهل المدينة .

ب ـ حركة التوابين : في سنة ٦٥ هـ قامت حركة التوابين تطالب بدم الإمام الحسينعليه‌السلام ، والتحم مقاتلوها مع جيش بني أمية بقيادة عبيدالله بن زياد ، وانتهت بمقتل معظم التوابين .

ج ـ حركة المختار : في سنة ٦٦ هـ ابتدأت حركة المختار في الكوفة ، واستمرت الى حين مقتل جميع من ساهم بقتل الحسينعليه‌السلام ، ومنهم عمر بن سعد وحرملة بن كاهل ، وعبيدالله بن زياد الذي قتل في ١٠ محرم سنة ٦٧ هـ .

وهذه المرحلة ، وإن لم يفصلها فاصل تاريخي عن بقية حياتهعليه‌السلام الا انها كانت تمثل مرحلة انتظار وترقب واضطراب خصوصاً وان الذين قاموا بفظائع عاشوراء سنة ٦١ هـ بحق آل البيتعليه‌السلام ، كانوا لا يزالوا يتمتعون بالحياة ويتأمرون على الناس ويحكمون باسم الدين .

وسنتناول بالتفصيل خطوات المرحلة الثانية من حياة السجادعليه‌السلام ونبدأ بخروج أهل البيتعليه‌السلام من المدينة سنة ٦٠ هـ .

٢٧

في كربلاء ( محرم سنة ٦١ هـ )

خرج السجادعليه‌السلام مع أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته من المدينة الى مكة ، بعد ان رفض الإمامعليه‌السلام إعطاء البيعة ليزيد وكان ذلك في رجب أو شعبان من سنة ستين للهجرة .

وفي الثالث من ذي الحجة سنة ٦٠ هـ ( وقيل الثامن منه ، أي يوم التروية ) خرج ركب أهل البيتعليه‌السلام من مكة متوجهاً نحو العراق وكان الحسينعليه‌السلام يتنبأ بمقتله في كربلاء ، كما قال في خطبته المشهورة في مكة قبل خروجه : ( كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفا )(١) وعندما أعلم بضعف الناس بالكوفة وحقيقة أن قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، أشار إلى انه يعلم انه مقتول لا محالة ، فقال : ( أعلم يقيناً ان هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، لا ينجو منهم إلا ولدي عليعليه‌السلام )(٢) .

وفي كربلاء ذاق السجادعليه‌السلام ، مع زوجته فاطمة بنت الحسنعليه‌السلام وابنه محمد الباقرعليه‌السلام ، مرارة عطش الطف وعانى من مرضه مدة ثمانية أيام متوالية أي من الثاني من محرم الحرام وحتى العاشر منه والظاهر ان المرض أمتد به حتى وصوله الكوفة وسمععليه‌السلام جميع خطب أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام الموجّهة لعساكر بني أمية ، ورأى أباه الحسينعليه‌السلام يصلي ليلة العاشر من محرم ويتلو كتابه حتى طلوع الفجر وكانت تلك سجية الحسينعليه‌السلام في كثرة صلاته وكمال صفاته ، وهكذا كان السجادعليه‌السلام على شاكلة أبيهعليه‌السلام .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٣٨ .

(٢) اللهوف ص ٣٩ .

٢٨

وفي ظهيره ذلك اليوم من محرم ، دخل الحسينعليه‌السلام على أبنهعليه‌السلام وأوصاه بوصاياه ، وسلّمه بعضاً من مواريث الإمامة كخاتمه ، وكانت آخر وصية لهعليه‌السلام :

(يا بني ، أوصيك بما أوصى به جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً حين وفاته ، وبما أوصى جدك عليّ عمك الحسن ، وبما أوصاني به عمّك إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله ) ثم ودعه ومضى الى ميدان المعركة الأخيرة التي استشهد فيها .

وكان السجادعليه‌السلام مريضاً يوم عاشوراء ، فلم يكن قادراً على القتال وقيل انه قاتل قليلاً ثم أتعبه المرض ، ولكنه بعيد وعلى أي تقدير ، فان الإرادة الربانية قدرّت له أن يبقى حياً بعد مجزرة آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطف يقول ابن سعد في طبقاته : ( كان علي بن الحسينعليه‌السلام مع أبيه بطف كربلاء وعمره إذ ذاك ثلاث وعشرين سنة لكنه مريضاً ملقى على فراشه وقد أنهكته العلّة والمرض ولما استشهد والدهعليه‌السلام ، قال شمر بن ذي الجوشن : اقتلوا هذا الغلام فقال بعض أصحابه : تقتل مريضاً لم يقاتل ؟! فتركوه )(١) .

قال ابن عمر : (هذا صحيح ، وليس قول من قال بأنه كان صغيراً حينئذٍ ولم يقاتل وانه ترك بسبب ذلك بشيء )(٢) .

وإن صح ذلك ، فهو لا يقدح في شخصية السجادعليه‌السلام ، لأن القتال تكليفٌ يسقط عند المرض وقد أثنى رمد العينين علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن مقاتلة اليهود في خيبر حتى مسحهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشفيتا ، ثم قاتل فكان النصر على يديهعليه‌السلام .

وهو في الوقت نفسه ، يحط من أخلاقية بني أمية الذين أرادوا قتل مريض لا حول له ولا قوة ، صبراً وهو من أشنع الأعمال وأقبحها عند العرب زمن الجاهلية ، فضلاً عن زمن الإسلام ورحمته !

يقول الإمام السجادعليه‌السلام حول عاشوراء : ( ما من يوم أشد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب ) ثم قال : (ولا يوم كيوم الحسين إذ دلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كلّ يتقرب إلى الله عزّ وجلّ بدمه ،

ــــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٢١٢ .

(٢) الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٢٢١ .

٢٩

وهو بالله يذّكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً )(١) ( والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة ، وتذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين ) .

ورأت عمته العقيلة زينب الألم على وجه السجادعليه‌السلام في ذلك اليوم ، فقالت له : ( ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وإخوتي ، فو الله إن هذا لعهدٌ من الله إلى جدك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لاتعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة ، والجسوم المضرّجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه ، فلا يزداد أثره إلا علواً )(٢) .

في الكوفة ( محرم سنة ٦١ هـ )

بعد استشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام على أرض الطف ، أعلن عمر بن سعد القائد الأموي لجيش الكوفة النصر العسكري على

ــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ج ٩ ص ١٤٧ .

(٢) كامل الزيارات ص ٢٦١ .

٣٠

جيش الحسينعليه‌السلام ، فبدأ جنوده اقتحام الخيم القليلة المنصوبة للنساء والاطفال وحرقها ، وارعابهم بأشدّ الوسائل النفسية من نظرات شامتة وتهديد بالقتل وتم الاستيلاء على غنائم الحرب وهي سيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمامته ودرعه ، ومغزل فاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقنعتها وقلادتها وقميصها(١) وسيق النساء والصبيان والمرضى سبايا الى الكوفة حيث مقر عبيدالله بن زياد ، وواليها من قبل بني أمية .

وكان دخول السبايا الى مدينة الكوفة مثيراً للغاية ، تقشعر منه جلود العقلاء مهما كان مذهبهم أو دينهم ، فضلاً عن المسلمين المؤمنين فقد كانت الكوفة مدينة كبيرة حسب مقياس ذلك الزمان فهي محاطة بنخيل كثيفة ، ومياه وافرة عذبة من الفرات ، وفيها كثافة سكانية متميزة لانها كانت مركز انطلاق الجيوش في حروب بلاد فارس والشام والروم ولذا لم يبخل علينا التاريخ بشهود عيان يروون قصة دخول السبايا ومن هؤلاء الشهود حذلم بن بشير ، فيقول : قدمت الكوفة سنة ٦١ هـ عند مجيء علي بن الحسينعليه‌السلام من كربلاء ، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود ، وقد خرج الناس للنظر إليهم وكانوا على جمال بغير وطاء ، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن ، ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلّة ، وفي

ــــــــــــــــ

(٢) اللهوف ص ١١٣ .

٣١

عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه وهو يقول بصوت ضعيف : ( إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا ، فمن قتلنا ؟ )(١) .

واذا كانت بعض المصادر(٢) تذكر بان قافلة الأسرى التي دخلت الكوفة كانت مؤلفة من أربعين جملاً تحمل النساء والصبيان ، فاننا يمكن ان نقدر ـ وبملاحظة قدرة الجمل على حمل الأفراد ـ عدد من أسر منهم بحدود ٨٠ ـ ١٢٠ فرداً ممن لهم علاقة نسبية أو سببية بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليه‌السلام وإذا أضفنا من استشهد من الرجال في كربلاء وهم ثلاث وسبعون رجلاً ، يكون مجموع الذين انتهوا إلى كربلاء في معسكر الحسينعليه‌السلام حوالي المائتين أو أقل من ذلك بقليل .

سياسة آل البيتعليه‌السلام بعد الطف

كانت سياسة آل البيتعليه‌السلام بعد واقعة الطف مبنية على اساسين هما : كشف الحقائق ، وإرشاد الناس وتصدى لذلك ثلة من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وثلاث نساء هنّ : عمتاه :

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ المفيد ص ٣٢١ ح ٨ وعوالم العوالم ج ١٧ ص ٣٦٨ ح ١ وص ٣٧١ ح ٢ .

(٢) كما في رواية مسلم الجصاص .

٣٢

زينب بنت عليعليه‌السلام ، وأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام ؛ واخته : فاطمة الصغرى بنت الحسينعليه‌السلام ويمكننا تلخيص تلك السياسة بالنقاط التالية :

١ ـ إدانة الناس على تخاذلهم وغدرهم .

٢ ـ تذكيرهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإسلام والقرآن ، وعلاقة أهل البيتعليه‌السلام بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالة السماء .

٣ ـ مواجهة الأمراء الطغاة بصلابة الحق وقوته ، ومقارعة الحجة بالحجة .

وكانت تلك السياسة منسجمة ومتماسكة ، وذات أهداف محددة ، وكانت موجهة إلى جمهور المسلمين الذين خذلوا أهل البيتعليه‌السلام في مبادئهم واهدافهم .

ففي الكوفة ، قام أهل البيتعليه‌السلام بوظيفتهم الاستثنائية تلك بنوعية الناس عبر خطابات في غاية البلاغة والفصاحة ولها مدلولات عميقة في حياة المسلمين والظاهر ان خطب أهل البيتعليه‌السلام قد تمت في الكوفة خلال فترة تبديل أو استراحة الحرس المكلّف بالأسرى قبل ان ينقلوا إلى قصر الإمارة ، حيث عبيدالله بن زياد أمير الكوفة من قبل يزيد بن معاوية فاستثمر زين العابدينعليه‌السلام ، وأم كلثوم بنت علي ، وفاطمة بنت الحسين ، وزينب بنت عليعليه‌السلام تلك الفترة فخاطبوا الناس .

والكوفة ليست مدينة غريبة على أهل البيتعليه‌السلام ، فقد عاشوا فيها في منتصف العقد الثالث من الهجرة ، أي قبل حوالي نيف وعشرين سنة من واقعة الطف .

٣٣

خطابات آل البيتعليه‌السلام :

أولاً : فهذه زينب بنت عليعليه‌السلام لم ير خفرةً(١) أنطق منها ، تخطب الناس في الكوفة ، فتقول :

( الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار .

أما بعد .

يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ، تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم ألا ، وهل فيكم إلا الصلف النطف ، والصدر الشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة .

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون وتنتحبون أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم ومدرة سنتكم ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم و سحقاً .

ــــــــــــــــ

(١) خفر الإنسان خفراً فهو خفر ( من باب تعب ) والأسم الخفارة : الحياء والوقار ( المصباح المنير ـ مادة خفر ج ١ ص ٢١٣ ) .

٣٤

فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فريتم ، وأي كريمة له أبرزتم ، وأي دمٍ له سفكتم ، وأي حرمة له انتهكتم لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو كملئ السماء أفعجبتم إن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإن ربكم لبالمرصاد ) .

ورى المؤرخون ان الناس كانوا يومئذٍ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم على أفواههم ويبكي أحدهم حتى اخضلّت لحيته وهو يقول : (بأبي أنتم و أمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونسائكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى )(١) .

ثانياً : فاطمة الصغرى بنت الحسينعليه‌السلام ، خطبت فقالت : ( الحمد لله عدد الرمل والحصا وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأؤمن به وأتوكل

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٦ ـ ٨٨ .

٣٥

عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن أولاده ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل(١) ولا ترات(٢) اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك بالكذب أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام المسلوب حقه المقتول من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس ، في بيت من بيوت الله فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضته إليك محمود النقيبة طيب العريكة معروف المناقب مشهور المذاهب لم تأخذه فيك اللهم لومة لائم ولا عذل عاذل هديته اللهم للإسلام صغيراً وحمدت مناقبه كبيراً ولم يزل ناضحاً لك ولرسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قبضته إليك زاهداً في الدنيا غير حريص عليها راغباً في الآخرة مجاهداً لك في سبيلك رضيته فاخترته فهديته إلى صراط مستقيم .

أما بعد :

يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء فإنا أهل بيت إبتلانا الله بكم وإبتلاكم بنا ، فجعل بلائنا حسناً وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً ، فكذبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً كأننا أولا ترك وكابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم ، قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم على افتراء الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين .

ــــــــــــــــ

(١) الذحل : الثأر .

(٢) الترات : جمع ترة وهي ايضاً الثأر .

٣٦

فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب من قبل ان نبرئها إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور تباً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأن قد حل بكم وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم ، وأية نفس نزعت إلى قتالنا ، أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا والله قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطبع على أفئدتكم وختم على سمعكم وبصركم ، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون فتباً لكم يا أهل الكوفة ، أي ترات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلكم وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي ، وببنيه وعترته الطيبين الأخيار ، فافتخر بذلك مفتخر فقال :

نحن قتلنا علياً وبني علي

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نسائهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب إفتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم الله وأذهب عنهم الرجس ، فاكظم وأقع كما أقعى أبوك قائماً ، لكل امرئ ما كسب وما قدمت يداه أحسدتمونا ـ ويلكم ـ على ما فضلنا الله .

فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا

وبحرك ساج ما يوارى الدعا مصا

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور )(١) .

ثالثاً : أم كلثوم بنت عليعليه‌السلام خطبت أهل الكوفة من وراء كلتها ، فقالت : ( يا أهل الكوفة سوأة لكم ، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وأنتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نسائه ونكبتموه ، فتباً لكم وسحقاً ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم ، وأي وزر على ظهوركم حملتم ، وأي دماء سفكتموها ، وأي كريمة أصبتموها ، وأي صبية سلبتموها ، وأي أموال إنتهبتموها .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٨ ـ ٩٠ .

٣٧

قتلتم خير رجالات بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزعت الرحمة من قلوبكم ، ألا إن حزب الله هم الفائزون وحزب الشيطان هم الخاسرون ، ثم قالت(١) :

قتلتم أخي صبراً فويل لامكم

ستجزون ناراً حرها يتوقد

سفكتم دماء حرم الله سفكها

وحرمها القرآن ثم محمد

ألا فابشروا بالنار إنكم غداً

لفي سقر حقاً يقيناً تخلدوا

وإني لأبكي في حياتي على أخي

على خير من بعد النبي سيولد

بدمع عزيز مستهل مكفكف

على الخد مني دائماً ليس يحمد

رابعاً : ثم نادى زين العابدينعليه‌السلام بالناس بعد أن حمد الله وأثنى عليه :

( أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي أبي طلاب أنا ابن من انتهكت حرمته ، وسلبت نعمته ، وانتهب ماله ، وسبي عياله أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من قتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً .

أيها الناس ، ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم الى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والمواثيق والبيعة ، وقاتلتموه فتبّاً لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي ...

رحم الله امرأً قبل نصيحتي ، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وفي أهل بيته ، فإن لنا في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة حسنة ) .

فصمتوا وهم يستمعون إلى هذا القول العطر ثم قالوا : (نحن يا بن رسول الله ، سامعون مطيعون حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ، فأنا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا ) .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٩١ .

٣٨

وقولهم هذا لا يمكن أن يفسر إلا بأحد تفسيرين :

إما ان الحضور كان من الذين لم يدخلوا الحرب مع الحسينعليه‌السلام ولم تصلهم أخبار الحرب إلا بوصول السبايا ، وهو بعيد لأن جواب السجادعليه‌السلام لهم يكشف عن كونهم مخادعون ماكرون .

وإما انهم كانوا يخادعون السجادعليه‌السلام للتمويه على الموقف الاسلامي العام وهذا أقرب الى الصواب فقد كانوا يحاولون إلتماس الأعذار على خذلهم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد صدق الفرزدق حينما قال للحسينعليه‌السلام قبل الطف وهو يصف أهل الكوفة : ( يا ابن رسول الله قلوب الناس معك وسيوفهم عليك ) ولو كانوا صادقين في قولهم : ( انا حرب لحربك وسلم لسلمك ) لما تركوا ا لحسينعليه‌السلام وأهل بيته يقتلون بين ظهرانيهم قبل أيام قليلة .

فأجابهم الإمام زين العابدينعليه‌السلام : ( هيهات ، هيهات ، أيها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون ان تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل ، كلا ورب الراقصات(١) ، فإن الجرح لما يندمل قتل أبي بالأمس وأهل بيته ، ولم ينس ثكل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثكل أبي ، وبني أبي إن وجده والله بين لهاتي ، ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصص تجري في فراش صدري )(٢) .

وهكذا عرض أهل البيتعليه‌السلام على أهل الكوفة ما يرشدهم إلى آخرتهم ولخطبة الإمام السجادعليه‌السلام دلالات نعرضها عبر الكلمات التالية :

دلالات خطبة السجادعليه‌السلام في الكوفة :

كشفت خطبة السجادعليه‌السلام في الكوفة عن أمور ، أهمها :

١ ـ انها ساهمت في كشف الحقائق التي حاول بنو أمية سترها وأخطرها التقليل من أهمية العلاقة الرسالية والرحمية برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذلك كان التأكيد على قول : ( من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فانا ) .

ــــــــــــــــ

(١) الراقصات : مطايا الحجيج .

(٢) مثير الأحزان لابن نما ص ٨٩ واللهوف في قتلى الطفوف ص ٦٨ .

٣٩

٢ ـ شرح الوقائع التي وقعت في العاشر من محرم الحرام ، وكان محورها قتل الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه وهتك حرمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ الإدانة الواضحة لأولئك الذين دعوا الحسينعليه‌السلام الى العراق وتخلوا عنه وحاربوه ، ووصمهم بالغدر والمكر والخيانة .

وكان للسجادعليه‌السلام كلامٌ قاله ، خلال أسر بني أمية له ، وهو : ( أيها الناس ، أن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء ، ألا وأن الله تعالى أكرم أقواماً بآبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ، لقوله تعالى :( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) (١) فأكرمهما ونحن والله عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدي رسول الله كان يقول في منبره : احفظوني في عترتي وأهل بيتي فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ألا لعنة الله على من آذاني فيهم حتى قالها ثلاث مرات ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ونحن والله أهل بيت أختار الله لنا الآخرة وزوي(٢) عنا الدنيا ولذاتها ولم يمتعنا بلذاتها )(٣) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الكهف : الآية ٨٢ .

(٢) زوي الشيء : نحاه .

(٣) ناسخ التواريخ ـ من أحوالهعليه‌السلام ج ٢ ص ٤٤ والمنتخب للطريحي ج ٢ ص ٢ .

٤٠