الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 250571 / تحميل: 14286
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

وحارب السجادعليه‌السلام عقيدة التشبيه والتجسيم ، وهي الفكرة التي ارتبطت بألفاظ أعضاء الجسم كاليد والعين ونسبتها إلى الله تعالى بالوصف والتغاضي عن كونها تعبّر عن القدرة والبصيرة ، بجملة واحدة وافية يخاطبُ فيها ربَّه : ( ليس كمثلك شيء )(١)

طلب العلم :

وأمام تلك السياسة الهادفة إلى إبقاء الناس على ما هم عليه من جهل ، قام الإمام السجادعليه‌السلام أولاً بالتشجيع على طلب العلم ، عبر أحاديث ومواعظ كان يوجهها لطلبته ومريديه فكان يردد دائماً : ( لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه ولو ببذل المهج ، وخوض اللجج إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى دانيال إنّ أمقتَ عبد إليّ : الجاهل ، المستخف بحق أهل العلم ، التارك للإقتداء بهم وإنّ أحبّ عبيدي إليّ : التقي ، الطالب للثواب الجزيل ، اللازم للعلماء ، التابع للحكماء )(٢) وإذا جاء طالب العلم رحبّ به ، وقال له : ( مرحباً بوصية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) وكانعليه‌السلام إذا نظر

ــــــــــــــــ

(١) كشف الغمة ج ٢ ص ٨٩ .

(٢) أصول الكافي ج ١ ص ٣٥ .

٢٨١

إلى الشباب الذين يطلبون العلمَ أدناهم إليه ، وقال : ( مرحباً بكم أنتم ودايع العلم ويوشك إذا أنتم صغار قومٍ أن تكونوا كبار آخرين )(١)

وفي رسالة الحقوق وقرَّعليه‌السلام العلم والتعليم ، والعالم والمتعلم ، والمحاضر والمستمع ومنععليه‌السلام على العلماء أن يأخذوا أجراً على تعليمهم الناس(٢)

وكانعليه‌السلام يردد : ( الفكرةُ مرآة تري المؤمن حسناته وسيئاته )(٣) وأن : ( سادة الناس في الدنيا : الأسخياء ، وفي الآخرة : أهل الدين ، وأهل الفضل والعلم ، لأن العلماء ورثة الأنبياء )(٤)

وأنكبّ السجادعليه‌السلام على إذاعة أحاديث رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصحيحة بسند صحيح عن أبيه الحسينعليه‌السلام ، عن علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت تلك مهمة صعبة في ظروف سياسية وإجتماعية تضيق الخناق على شيعة أهل البيتعليه‌السلام ، في الوقت الذي يأمر السلطان فيه الولاة بوضع أحاديث نبوية مختلقة وبثها بين الناس حتى ينشأ جيل جديد يؤمن بفضائل الخليفة الأموي مهما كان بعيداً عن الإسلام .

ــــــــــــــــ

(١) الأنوار البهية ص ١٠٣ .

(٢) حلية الأولياء ج ٢ ص ١٤٠ .

(٣) مختصر تاريخ دمشق ج ١٧ ص ٢٥٤ .

(٤) مختصر تاريخ دمشق ج ١٧ ص ٢٣٩ .

٢٨٢

وكانت سياسة منع تدوين الحديث التي بدأت بعد وفاة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستمرت حتى عهد عمر بن عبد العزيز (ت ١٠١ هـ) تساعد ـ بقصدٍ أو دون قصد ـ على اشاعة أجواء إختلاق الأحاديث .

والمعروف ان الحجاج الثقفي اعتدى على صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فختم على أيديهم وأعناقهم ، إذلالاً لهم وحذراً من أن يحدّثوا الناس بفضائل أهل البيتعليه‌السلام ، أو يسمع الناس حديثهم(١)

فكان للإمام السجادعليه‌السلام دورٌ اساسي في بث أحكام الإسلام التي لم تمتد لها يد التزوير والتحريف فنشرَ الفضائل ونهى عن الرذائل ، وشرحَ الواجبات والمستحبات ، والمحرمات والمكروهات ونادى بالولاية الشرعية وكانت عملية رواية الحديث آنذاك تعدُّ تحدياً لسياسة السلطة وأوامرها .

تلامذة السجاد عليه‌السلام

وقد ثبّت الشيخ الطوسي في (رجاله) (٢) أسماء (١٧٣) راوياً عنه ، من بين المئات الذين كانوا يسمعون رواية الحديث أو تفسير القرآن مباشرة منه دون واسطة وهذا عدد كبير من طلاب العلم في مدينة واحدة كالمدينة المنورة ومن أولئك الرواة أسماء لامعة في دنيا الرواية وسماء العلم.

ــــــــــــــــ

(١) أسد الغابة لابن الأثير ج ٢ ص ٤٧٢ .

(٢) رجال الطوسي ص ٨١ ـ ١٠٢ .

٢٨٣

فكان منهم أبان بن تغلب (ت ١٤١ هـ) الذي كان مقدماً في فنون القرآن والحديث والأدب واللغة والنحو ، يطلب منه الإمام الباقرعليه‌السلام لاحقاً : ( أجلس في مسجد المدينة ، وأفتِ الناس فإني أحب أن يرى في شيعتي مثلك )(١) ويقول الإمام الصادقعليه‌السلام فيه شبيه ذلك وعندما كانوا يلومونه على روايته عن الإمام السجادعليه‌السلام ، كان يقول : ( كيف تلوموني في روايتي عن رجل ما سألته عن شيء إلا قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ( .

وثابت بن أبي صفية المعروف بأبي حمزة الثمالي (ت ١٥٠ هـ) من أبرز علماء عصره في الحديث والفقه وعلوم اللغة ، وكان يرجع إليه الموالون في الكوفة لإحاطته بفقه أهل البيتعليه‌السلام

ورشيد الهجري من أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام ، وهو العالم الذي قتله عبيد الله بن زياد ، حيث قطعوا يديه ورجليه وهو لا يزال يحدّث بفضائل أهل البيتعليه‌السلام ، فقطعوا لسانه وصلبوه على جذع النخلة في الكوفة .

ــــــــــــــــ

(١) معجم الآداب ج ١ ص ١٠٨ .

٢٨٤

وزيد بن الحسن بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام الذي كان عالماً ثقةً ، جليل القدر ، كريم الطبع ، طريف النفس ، كثير البرّ قصده الناس من الآفاق لطلب فضله .

وزيد بن علي بن الحسين (ت ١٢٢ هـ) ، وكان عابداً ورعاً ، فقيهاً سخياً شجاعاً ظهر بالسيف يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويطلب بثأر جده الحسينعليه‌السلام

وسعيد بن جبير (ت ٩٥ هـ) ، من أبرز علماء عصره ، وكان يمسى (جهبذ العلماء) ، من أئمة الإسلام في التفسير والفقه ، وأنواع العلوم ، وكثرة العمل الصالح(١) وكان كثير الخشية من الله ، وكان يقول : (إن أفضل الخشية أن تخشى الله خشية تحول بينك وبين معصيته ، وتحملك على طاعته ، فتلك هي الخشية النافعة )(٢) قتله الحجاج ظلماً وعدواناً بسبب إختصاصه بالإمام السجاد)ع)

وسليم بن قيس الهلالي العامري (ت ٩٠ هـ) من السابقين في التأليف ، وله الكتاب المعروف بكتاب سليم بن قيس كان من أصحاب الإمام السجادعليه‌السلام ، وعدّه البرقي من الأولياء من أصحاب أمير المؤمنينعليه‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ج ٩ ص ٩٨ .

(٢) البداية والنهاية ج ٩ ص ٩٩ .

٢٨٥

وأبو الأسود الدؤلي (ظالم بن عمرو) (ت ٦٩ هـ) من ألمع علماء عصره ، مؤسس علم النحو بإشارة من أمير المؤمنين عليعليه‌السلام ، ومن شعره :

وما طلب المعيشة بالتمني

ولكن ألق دلوك في الدلاءِ

تجيء بملئها طوراً ، وطوراً

تجيء بحمأة وقليل ماءِ

ومن وصيته لابنه : ( يا بني إذا كنت في قومٍ فحدثهم على قدر سنّك ، وفاوضهم على قدر محلك ، ولا تتكلمن بكلام من هو فوقك ، فيستثقلوك ولا تنحط إلى من دونك ، فيحتقروك فإذا وسع الله عليك فأبسط ، وإذا أمسك عليك فأمسك ولا تجاود الله فان الله أجود منك ، واعلم أنه لا شيء كالاقتصاد ، ولا معيشة كالتوسط ، ولا عزّ كالعلم ، إن الملوك حكام الناس ، والعلماء حكام الملوك ((١) .

أقول : وهذه آثار تعليم الإمام علي بن أبي طالبعليه‌السلام عليه وقد حاول معاوية ان يصرفه عن ولائه لأهل البيتعليه‌السلام فلم يفلح .

وغير هؤلاء الاعلام عدد آخر كبير وهذا يدلّ على ان الإمام السجادعليه‌السلام أسس لقاعدة علمية في المدينة على مدى أربع وثلاثين عاماً يحدّث فيها عن جده المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويفسر فيها القرآن

ــــــــــــــــ

(٢) الكنى والألقاب ج ١ ص ٩ ـ ١٠ .

٢٨٦

ويبثّ الفضائل في كل مكان مع ان الوضع الإجتماعي العام كان وضع حروب وسفك دماء وإرعاب وإرهاب لا مثيل له .

تحريك الوضع العلمي :

وعلى ضوء ذلك ، شجع التحرك العلمي للسجادعليه‌السلام المدرسة العلمية لمذهب السنّة والجماعة على الحركة أيضاً ، فنشطت مجموعة من أهل العلم ممن تتلمذ على يد السجادعليه‌السلام أيضاً على بث علوم الإسلام ، لكن بعيداً عن أهل البيتعليه‌السلام

وكان منهم : عروة بن الزبير ، والقاسم بن محمد بن أبي بكر ، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام ، وسليمان بن يسار ، وعبيد الله بن عتبة بن مسعود ، وخارجة بن زيد ، وسعيد بن المسيب ، وفيهم يقول الشاعر :

إذا قيل من في العلم سبعة أبحر

روايتهم ليست عن العلم خارجة

فقل : هم عبيد الله عروة قاسم

سعيد ابو بكر سليمان خارجة

والمتميز منهم بالخصوص : سعيد بن المسيب المخزومي ، من علماء عصره روى عن السجادعليه‌السلام وفي رجال الكشي : نسب إلى الإمام زين العابدينعليه‌السلام قولاً يمتدحه فيه وقد اختلف الرواة في وثاقته قال في (معجم رجال الحديث) : ( إن الصحيح هو التوقف في

٢٨٧

أمر الرجل لعدم تمامية سند المدح والقدح ولقد أجاد المجلسي حيث اقتصر على نقل الخلاف في حال الرجل من دون ترجيح )(١)

وبالإجمال ، فقد ساهم الإمام زين العابدينعليه‌السلام في تنشيط الحركة العلمية التي حاول الأمويون إيقاف عجلتها وعدّلعليه‌السلام مسارها نحو الطريق الصحيح ، بعد ما انحرفت أيام حكمهم .

مشكلة العصبية

وكان من سياسة معاوية ومن جاء بعده من خلفاء تأجيج الصراع القبلي ، وتفريق القبائل والعشائر العربية ، وخلق فجوة بين العرب والعجم من أجل السيطرة عليهم جميعاً وإذا أضفنا إلى ذلك سياسة الترهيب والترغيب التي استخدموها بين الناس ، لانكشفت لنا صورة المجتمع الذي أريد له ان يقام على أساس الشعوبية والعصبية القبلية .

واصبحت سمة العصر ـ على الصعيد الأدبي ـ فخر النزارية على اليمنية على النزارية حتى تخربت البلاد ، وثارت العصبية في البدو والحضر(٢)

ــــــــــــــــ

(١) معجم رجال الحديث ـ للخوئي ج ٨ ص ١٤١ .

(٢) مروج الذهب ج ٢ ص ١٩٧ .

٢٨٨

ومن ذلك نعرض نموذجاً لشعر الكميت(١) ومدحه قومه المضريين وهجاءه القحطانيين :

لنا قمر السماء وكل نجم

تشير إليه أيدي المهتدينا

وجدت الله إذ سمى نزاراً

وأسكنهم بمكة قاطنينا

لنا جعل المكارم خالصات

وللناس القفا ولنا الجبينا

وما خرجت هجائن من نزار

فوالج من فحول الأعجمينا(٢)

وما حملوا الحمير على عتاق

مطهمة فيلفوا مبلغينا(٣)

وما ولدت بنات بني نزار

حلائل أسودين وأحمرينا

بني الاعمام أنكحنا الأيامى

وبالآباء سمينا البنينا

فقد نسب لقومه كل المآثر ووصفهم بالأقمار والكواكب المضيئة ، بينما وصف القحطانيين بكل مذمة ، وعيّرهم بتزويجهم بناتهم من الأحباش والفرس فولدن سوداً وحمراً ، تشبهاً بتلقيح الحمير للخيل العتاق حتى تنتج بغالاً .

فواجهه دعبل الخزاعي يردّه ويشيد بقومه من القحطانيين :

ــــــــــــــــ

(١) مروج الذهب ج ٢ ص ١٩٦ .

(٢) الهجائن : الحرات الكريمات الفوالخ : مع فالخ وهو الزوج .

(٣) عناق مطهمة : يراد بها النساء العربيات الشريفات .

٢٨٩

أفيقي من ملامك يا ظعينا

كفاك اللوم مر الأربعينا

ألم تحزنك أحداث الليالي

يشين الذوائب والقرونا

أحيي الغرّ من سروات قومي

لقد حييت عنايا مدينا

فإن يك آل اسرائيل منكم

وكنتم بالأعاجم فاخرينا

فلا تنس الخنازير اللواتي

مسخن مع القرود الخاسيئنا

بأيلة والخليج لهم رسوم

وآثار قدمن وما محينا

وما طلب الكميت طلاب وتر

ولكنا لنصرتنا هجينا

لقد علمت نزار أن قومي

إلى نصر النبوة فاخرينا

وعندما جاء الإسلام الغى العصبيات القبلية الجاهلية ، فنساها الناس ، حتى جاء حكم بني أمية فتعصبوا لمضر ، كما كان الأمر قبل الإسلام .

ولم يتوقفوا عند ذلك ، بل اعتبروا الموالي أدنى من العرب في الرتبة والحقوق الإنسانية ، خلافاً لتعاليم الإسلام فكانوا لا يزوجون الموالي(١) ، بحيث يروى أن حاكم البصرة ( بلال بن أبي بردة ) ضرب شخصاً من الموالي ، لأنه تزوج امرأة عربية(٢)

ــــــــــــــــ

(١) العقد الفريد ج ٣ ص ٣٦ .

(٢) طبقات ابن سعد ج ٧ ص ٢٦ ق ٢ .

٢٩٠

ووجهت تهمة العنصرية إلى محمد بن مسلم الزهّريّ ، لأنه كان لا يروي الحديث عن الموالي(١)

وحاول الإمام السجادعليه‌السلام تصحيح ذلك المسار البعيد عن روح الدين ، فكانعليه‌السلام يشيع أنه : ( لا يفخر أحدٌ على أحدٍ ، فإنّكم عبيدٌ ، والمولى واحدٌ ) وهو الله عزّ وجلّ وكانعليه‌السلام يجالس أحد الموالي ، فقيل له : أنت سيد الناس وأفضلهم ، تذهب إلى هذا العبد وتجلس معه ؟

فقالعليه‌السلام : ( أءتي من أنتفع بمجالسته في ديني )(٢) ( إنما يجلس الرجل حيث ينتفع )(٣) وكانعليه‌السلام يكرر هذه الآية : (( فَإِذَا نُفِخَ فِي الصّورِ فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَساءَلُونَ )  (٤) .

وموقفه المعروف من عبد الملك بن مروان حول زواج الأماء : ( وقد رفع الله بالإسلام الخسيسة ، وتمّم به النقيصة ، وأذهب به اللؤم ، فلا لؤم على امرىءٍ مسلمٍ ، وإنما اللؤم لؤم الجاهلية )(٥) و( لا

ــــــــــــــــ

(١) المحدث الفاصل بين الراوي والواعي ـ للرامهرمزي ص ٤٠٩ بيروت : ١٣٩١ هـ .

(٢) حلية الأولياء ج ٣ ص ١٣٧ .

(٣) طبقات ابن سعد ج ٥ ص ٢١٦ .

(٤) سورة المؤمنون : الآية ١٠١ .

(٥) فروع الكافي ج ٥ ص ٣٤٤ .

٢٩١

حسب لقرشي ولا عربي إلا بالتواضع ولا كرم إلا بالتقوى )(١) وهو مصداق لقوله تعالى : (( إِنّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ ) )(٢) .

والعصبية القبلية لها منشأ كباقي المشكلات الإجتماعية ، وهو الجهل بالإسلام وتعاليمه السمحة وأخلاقيته السامية في المساواة بين الناس على إختلاف ألوانهم وأجناسهم ولا أخال أن هناك عالماً بمبادئ الإسلام يتعصب لقومٍ على باطل لمجرد أنهم من نفس جنسه أو منشأه أو لون بشرته .

المشكلة الأخلاقية

وسادت المدينة المنوّرة في حكم بني أمية حياةٌ من اللهو والطرب والعبث والمجون ، أشاعتها السلطة لاسقاط هيبة ذلك المركز الإسلامي الذي يحتضن في أحشائه جسد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وساعد عليها الوضع الجديد الناتج عن انفتاح الناس على ثقافات الشعوب المختلفة التي دخلت الإسلام حديثاً وأصبح إقتناء الجواري والمغنيّات من خصائص ذلك الزمان .

ــــــــــــــــ

(١) تحف العقول ص ٢٨ .

(٢) سورة الحجرات : الآية ١٣ .

٢٩٢

وشاع الغناء آنذاك حتى اصبحت المدينة المنوّرة مركزاً له ووصل الأمر إلى ان الغناء في المدينة كان لا ينكره عالمهم ، ولا يدفعه عابدهم(١) وكان أبو يوسف يخاطب أهل المدينة قائلاً : ما أعجب أمركم يا أهل المدينة في هذه الأغاني ، ما منكم شريف ولا دنيء يتحاشى عنها(٢) وكان العتيق(٣) إذا سال ، وأخذ المغنون يلقون إغانيهم لم تبق في المدينة مخبأة ، ولا شابة ، ولا شاب ، ولا كهل إلا خرج ببصره ويسمع الغناء(٤)

وكان لا يهمّ الخليفة الأموي إلا من يصف له الخمر والسكر قال الأصمعي : دخل الأخطل على عبد الملك ، فقال : ويحك ! صف لي السكر قال : أولّه لذة ، وآخره صداع ، وبين ذلك حالة لا أصف لك مبلغها فقال : ما مبلغها ؟ قال لملكك يا أمير المؤمنين [ عندها ] أهون عليّ من شسع نعلي ، وأنشأ يقول(٥)

إذا ما نديمي علّني ثم علّني

ثلاث زجاجات لهن هدير

خرجت أجرّ الذيل تيهاً كأنني

عليك أمير المؤمنين أمير

ــــــــــــــــ

(١) الأغاني ج ٨ ص ٢٢٤ .

(٢) العقد الفريد ج ٣ ص ٢٣٣ .

(٣) العقيق : الخمر .

(٤) العقد الفريد ج ٣ ص ٢٤٥ .

(٥) تاريخ الخلفاء ص ٢٢٢ .

٢٩٣

ومن فواحشهم أنهم نشروا الغناء المختلط بين الرجال والنساء دون ستار وهذا من الفحش والفساد بحق تلك المدينة التي شهدت نزول جبرئيل إليها بالوحي السماوي على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

يصوّر مصنف ( الأغاني ) أحد تلك الليالي الماجنة ، فيقول : ( أن جميلة جلست يوماً ، ولبست برنساً طويلاً(١) ، وألبست من كان عندها برانس دون ذلك ، ثم قامت ورقصت وضربت بالعود وعلى رأسها البرنس الطويل ، وعلى عاتقها بردة يمانية ، وعلى القوم أمثالها وقام ابن سريج يرقص ، ومعبد ، والغريدي ، وابن عائشة ، ومالك ، وفي يد كل منهما عود يضرب به على ضرب جميلة ورقصها فغنّت وغنّى القوم على غنائها ثم دعت بثياب مصبغة ، ودعت للقوم بمثل ذلك فلبسوا ، وتمشت ومشى القوم خلفها ، وغنت وغنوا بغنائها بصوت واحد )(٢)

في تلك الليالي ذاتها كان الإمام زين العابدينعليه‌السلام يقف خاشعاً في جوف الليل يعبد الله ركوعاً وسجوداً ، ويدعو الله بخشوع ودموعه تنهمر : ( إلهي عبيدك بفنائك ، سائلك بفنائك ، فقيرك بفنائك إلهي لك يرهب المترهّبون ، وإليك أخلص المستهلّون ، رهبةً

ــــــــــــــــ

(١) البرنس : القلنسوة الطويلة .

(٢) الأغاني ج ٨ ص ٢٢٧ .

٢٩٤

لك ، ورجاءً لعفوك يا إله الحقّ ارحم دعاء المستصرخين ، واعف عن جرائم الغافلين وزد في إحسان المنيبين يوم الوفود عليك يا كريم )(١)

مشكلة الرقّ

وعلى أثر الفتوحات الواسعة في القرن الأول الهجري ، أزداد عدد الرقيق بشكل مذهل في مجتمع المسلمين واستغل بنو أمية قضية الرق لمصالح شخصية كخدمة البلاط والتلذذ بالرغبات الجسدية والاستيلاد ولذلك تلمس خبرة عبد الملك بن مروان بذلك ، كما ورد في نصيحته لحاشيته : ( من أراد أن يتخذ جارية للتلذذ فليتخذها بربرية ، ومن أراد أن يتخذها للولد فليتخذها فارسية ، ومن أراد أن يتخذها للخدمة فليتخذها رومية )(٢)

وبذلك ابتعدوا عن العلل الحقيقية لقضايا الرق في الإسلام ؛ وأهمها هو تربية الكفار المحاربين على القيم الأخلاقية الدينية قبل تحريرهم ودمجهم في المجتمع الإسلامي الواسع .

وعالج الإمام السجادعليه‌السلام قضية الرقّ عبر الوسائل التالية :

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية ـ دعاء وتمجيد له ص ٢٥٥ .

(٢) تاريخ الخلفاء ص ٢٢١ .

٢٩٥

١ ـ عامل الرقيق معاملة إنسانية لأنه كانعليه‌السلام يفهم مغزى العبودية والعلّة التي شرعت لأجلها فكانعليه‌السلام يعلمهم الفضائل والأخلاق السامية وكانعليه‌السلام يقول لهم : ( قولوا : يا علي بن الحسين إن ربك قد أحصى عليك ما عملت ، كما أحصيت علينا ما عملناه )(١) فهو يريد منهم فهم تلك الحقيقة الدينية الرائعة التي تقول بأن الناس كلهم عبيدٌ لله تبارك وتعالى وما العبودية الدينية المفترضة إلا وسيلة من وسائل إخراج الإنسان من الكفر إلى الإيمان .

٢ ـ كانعليه‌السلام يشتريهم بأعداد كبيرة ويعتقهم بعد فترة قصيرة بحجج وأساليب مختلفة فإذا اساؤا التصرف أطلقهم ، وإذا سمع من يحدّثه حديثاً عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعتقهم ، وإذا جاء العيد أعتقهم ، وهكذا فكانت سياسة الإمامعليه‌السلام هو التعليم والتربية وإظهار المعارف والحقائق الإسلامية وكان لا يعتقهم حتى يعطيهم مالاً يعملون به .

ولذلك أصبح في المدينة جيش من الموالي يلهج بذكر زين العابدينعليه‌السلام وعندما تعرض رجلٌ للإمامعليه‌السلام وهو خارجٌ من المسجد وسبه ، ثارت عليه العبيد والموالي ، فطمأنهم وأشار عليهم بأنه قادرٌ على التعامل مع الرجل ، وهكذا كان(٢)

ــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١٠٣ .

(٢) صفوة الصفوة لابن الجوزي ج ٢ ص ١٠٠ .

٢٩٦

وعندما سمعوا بأنباء ضغط ابن الزبير على آل أبي طالب في مكة ، تجمع قومٌ من السودان بالمدينة غضباً لذلك ومراغمةً لابن الزبير ، كما رواه البلاذري فرأى ابن عمر غلاماً له فيهم ، وهو شاهرٌ سيفه ! فقال له : رباح ! قال رباح : والله ، إنا خرجنا لنردّكم عن باطلكم إلى حقنا فبكى ابن عمر ، وقال : اللهم إن هذه لذنوبنا(١)

وكانت هناك شواهد عديدة ذكرناها في مطاوي هذا الكتاب عن عتق الإمامعليه‌السلام للعبيد والأماء لآية قرآنية يذكرونها ، أو لادبٍ جم يظهرونه له ، أو لمناسبةٍ دينيةٍ كالعيد تمرّ على الإمامعليه‌السلام

العبودية بين الدين والاقتصاد :

ولابد لنا ونحن نعرض مشكلة العبودية والرّق في القرن الأول ، من التعرض للفروقات الأساسية بين الرق في الإسلام والرق في اوروبا في القرون الثلاثة الأخيرة .

يرجع تأريخ العبودية التي استحدثها الرجل الأوروبي الأبيض إلى بدايات القرن السابع عشر الميلادي ، في أوج الصراع الاستعماري بين بريطانيا وفرنسا والبرتغال على استثمار الأراضي الزراعية خارج حدود القارة الأوروبية التي كانت تنتج السكر والتبوغ ونحوها فبدأت البواخر المحملّة بالبضائع الصناعية والزراعية بالإبحار من ( نيو

ــــــــــــــــ

(١) أنساب الأشراف ـ البلاذري ج ٣ ص ٢٩٥ .

٢٩٧

انجلند ) في العالم الجديد متجهة نحو افريقيا ، عارضة هذه البضائع عن طريق المبادلة بالرقيق .

وكان الدافع الاقتصادي والسيطرة السياسية على مقدرات شعوب أفريقيا من أهم عوامل تجارة الرقيق فالعبيد ، حسب النظرية الرأسمالية ، حيوانات صالحة لزراعة التبوغ والسكر ويعتبر استعباد الزنوج من قبل أوروبا البيضاء من أفظع جرائمها بحق الإنسانية فكانوا يحشرون الرجال والنساء والاطفال بالقوة والإكراه في سفن كبيرة ويربطونهم بالسلاسل ويجبرونهم على الاستلقاء على ظهورهم لأكثر من ثلاثة أشهر دون تسهيلات إنسانية في الأكل أو تفريغ الفضلات حتى تصل الباخرة إلى موطنها الجديد لبيع العبيد .

والإسلام لم يدن استعباد الإنسان لأخيه الإنسان فحسب ، بل قد استخدم مفهوم العبودية ذاته لتحرير الإنسان من قيود الإنحراف العقائدي ووضع لذلك أسساً وضوابط منها :

أ ـ اعتبر تحرير العبيد جزءً من التكاليف الشرعية التعبدية مع تحقق شروطها ، كما ورد في حكم كفارة قتل الخطأ...( وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ) (١) ، وكفارة اليمين ( وَلكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقّدتّمُ الْأَيْمَانَ فَكَفّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ

ــــــــــــــــ

(١) سورة النساء : الآية ٩٢ .

٢٩٨

أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) )(١) ، وكفارة الظهار (( وَالّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِسَائِهِمْ ثُمّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسّا ) )(٢) ، وعموم البرّ (( وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكّ رَقَبَةٍ ) (٣) ، ونحوها وبذلك حلّ مشكلة العبودية السائدة زمن الرسالة ، ومشكلة العبودية التي قد تحصل في أي زمان ومكان .

ب ـ جعل مفهوم العبودية قائماً على اساس اختلاف الدين اثناء الدفاع عن الوطن الإسلامي وليس لون البشرة ، كما هو معمول به في النظام الاوروبي ولعلّ السر في تشريع العبودية القائمة على اساس الدين هو تحرير الفرد المستعبد من القيود الفكرية التي تكبلّه بها العقائد المنحرفة ، فيرى داخل العبودية طريقه للتحرر والخلاص .

وبالإجمال ، فإن الإسلام أقر العبودية التي تؤدي إلى تحرير الإنسان فكرياً ودينياً وبذلك فإنه فتح للفرد المنحرف فكرياً ، باباً للنظر والتأمل في رسالة العدالة الإلهية والإيمان بها أما العبودية الأوروبية فقد أنشأت بالأصل لاستغلال الإنسان أخاه الإنسان دون ذنب سوى اختلاف الجنس ولون البشرة .

ــــــــــــــــ

(١) سورة مائدة : الآية ٨٩ .

(٢) سورة المجادلة : الآية ٣ .

(٣) سورة البلد : الآية ١٢ ـ ١٣ .

٢٩٩

ج ـ نادى الإسلام بمفهوم العدالة الإجتماعية بين جميع الأفراد دون النظر إلى منشأ الفرد أو لون بشرته ، بل أعلن بصراحة أن كل الأفراد سواسية أمام الحكومة الشرعية والحاكم الشرعي المطلق وهو الخالق عزّ وجلّ في الحقوق والواجبات والمسؤوليات والتكاليف الدينية والإجتماعية .

د ـ ان جميع من اسّروا وأصبحوا رقيقاً زمن الفتوحات الإسلامية ، قد أسلموا في النهاية بعد تحريرهم ، وحسن إسلامهم خصوصاً أولئك الذين خضعوا لتربية الإمام السجادعليه‌السلام وتعليمه لأنهم رأوا المثال الإسلامي الحقيقي والمصداق الناصع للدين ، قد تجسد في شخصيته وفكره وسلوكهعليه‌السلام

المعارضة المسلحة

وقعت خلال حياة الإمام السجادعليه‌السلام ، وبعد واقعة كربلاء ، وقائع مسلّحه وحروب ضد السلطة الأموية كواقعة الحرة ، وحركة عبد الله بن الزبير ، وحركة المختار وكان موقفه وسياسته هي التأييد الضمني لكل من حارب الظلمة من بني أمية ، لكنهعليه‌السلام لم يشارك فيها.

٣٠٠

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413