الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين9%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 250275 / تحميل: 14282
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

وليس هناك من شك بأن البيت الذي نشأ فيه زين العابدينعليه‌السلام كان بيت نبوة وإمامة ، بيت من بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وأقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار فلازم العبادة والتهجد وذكر الله عزوجل منذ صغره ، وهو يرى أباهعليه‌السلام يقوم الليل ويصوم النهار ويساعد الفقير ويعين المحروم فكان لا يسمع في بيته الا القرآن ، ولا يرى من أهله الا ساجد وراكع ، ولا يأكل الا مع من يشد الحجر على بطنه ، أو يصوم الأيام الطويلة وهكذا كانت حياة السجادعليه‌السلام حياة علم وتقوى وجهاد وعبادة .

يصف أحد الرواة السجادعليه‌السلام وهو في السابعة أو الثامنة من عمره فيقول : حججت بعض السنين إلى مكة ، فبينما أنا سائر في عرض الصحراء وإذا بصبي سباعي أو ثماني(١) وهو يسير في الطريق بلا زاد ولا راحلة فتقدمت اليه وسلّمت عليه ، وقلت له : مع من قطعت البرّ ؟ قال : ( مع الباري ) فكبر في عيني ، فقلت : يا ولدي ! أين زادك وراحلتك ؟ فقال : (زادي تقواي ، وراحلتي رجلاي ، وقصدي مولاي ) فعظم في نفسي ، فقلت : يا ولدي ممن تكون ؟ فقال : ( مطلبي ) فقلت : أبن لي ؟ فقال : ( هاشمي ) فقلت : أبن لي ؟ فقال : ( علويٌ فاطميٌ ) فقلت : يا سيدي ! هل قلت شيئاً من الشعر ؟ فانشدهعليه‌السلام شعراً .

ثم غاب عن عيني الى ان أتيت مكة فقضيت حجتي ورجعت ، فأتيت الأبطح فإذا بحلقة مستديرة ، فاطلعت لأنظر من بها فإذا هو صاحبي فسألت عنه ، فقيل : هذا زين العابدين(٢) .

وفي الرواية الآنفة دلالات على انه كان من أهل العلم والعبادة والبلاغة ، على الرغم من صغر سنه .

ــــــــــــــــ

(١) هذا الإصطلاح غريب قال في ( تاج العروس ) عن ابن شميل يقال : رباعي لمن بلغ أربعة اشبار وقال الليث : الخماسي والخماسية من الوصائف لمن طوله خمسة اشبار ، ولا يقال سداسي ولا سباعي إذا بلغ ستة أو سبعة اشبار لأنه رجل ( ج ٤ ص ١٤١ ) فيتعين انه كان يقصد ابن سبع سنين أو ثمان .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٩٢ والمناقب ج ٣ ص ٢٩٤ .

٢١

وفي رواية الأصمعي(١) التالية دلالة أخرى على انهعليه‌السلام كان من أهل العبادة والصلاة ، وهو لا يزال في حداثة سنه يقول الأصمعي : ( كنت أطوف حول الكعبة ليلاً فاذا شاب ظريف الشمائل وعليه ذؤابتان ، وهو متعلق بأستار الكعبة ، وهو يقول : نامت العيون ، وعلت النجوم وأنت الحي القيوم غلقت الملوك أبوابها وأقامت عليها حراسها ، وبابك مفتوحٌ للسائلين ، جئتك لتنظر إليّ برحمتك يا أرحم الراحمين ، ثم أنشأ يقول :

يا من يجيب دعا المضطر في الظلم

يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

قد نام وفدك حول البيت قاطبة

وأنت وحدك يا قيوم لم تنم

أدعوك رب دعاء قد أمرت به

فارحم بكائي بحق البيت والحرم

إن كان عفوك لا يرجوه ذو سرف

فمن يجود على العاصين بالنعم

قال : فاقتفيته فإذا هو زين العابدين )(٢) .

وينسب للحسن البصري أنه رأى زين العابدينعليه‌السلام متعلقاً بأستار الكعبة ، وهو يتضرع إلى الله ، ويدعوه منيباً ، فدنا منه فسمعه يقول هذه الأبيات :

ــــــــــــــــ

(١) أورد الرواية ابن شهر آشوب في المناقب ج ٢ ص ٢٥١ ونسبة الرواية إلى الأصمعي لا يصح ، لان الأصمعي توفي في بغداد سنة ٢١٦ عن ثمان وثمانين سنة ( كما في تأريخ بغداد ج ١٠ ص ٤١٩ ) فتكون ولادته سنة ١٢٨ هجرية تقريباً أي بعد استشهاد الإمام السجادعليه‌السلام بثلاث وثلاثين سنة نعم يمكن أن تصح الرواية بالواسطة ، أي إذا كان الراوي رجلاً آخر رواها الأصمعي عنه .

(٢) مستدرك الوسائل ج ٢ ص ١٤٣ .

٢٢

ألا أيها المأمول في كل حاجةٍ

شكوت إليك الضرّ فارحم شكايتي

أتحرقني بالنار يا غاية المنى

فأين رجائي ثم أين مخافتي

فيا سيدي أمنن علي بتوبةٍ

فإنك ربّ عالمٌ بمقالتي

ولا يوجد دليل سندي على صحة نسبة هذه الأبيات إلى السجادعليه‌السلام ، ويؤيد ذلك عدم موازاتها لبلاغتهعليه‌السلام وفصاحته .

وكان باراً رحيماً بأسرته ، خصوصاً عندما اشتد عودهعليه‌السلام وبلغ مبلغ الرجال وكان غالباً ما يردد : (لئن أدخل الى السوق ومعي دراهم ابتاع بها لعيالي لحماً وقد قرموا(١) أحبّ إليّ من أن أعتق نسمة )(٢) وكانعليه‌السلام يبكرّ في طلب الرزق لعياله ، ويقول : ( أتصدق لعيالي قبل أن أتصدق [ على الناس ] من طلب الحلال فإنّه من الله عز وجلّ صدقة عليهم )(٣) .

ــــــــــــــــ

(١) قرموا : اشتدّ شوقهم الى تناول اللحم .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦٧ نقلاً عن الكافي ج ٢ ص ١٢ .

(٣) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ٦٧ نقلاً عن الكافي ج ٢ ص ١٢ .

٢٣

أخلاقه وأدبهعليه‌السلام مع أبويه

ولئن حرم السجادعليه‌السلام من حنان الأم ورأفتها ، فانه لم يحرم من برها بالدعاء لها ولوالدهعليه‌السلام والدعاء للوالدين يعكس :

١ ـ أدباً قرآنياً رفيعاً والتزاماً بأحكام الإسلام وقد قال تعالى :( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذّلّ مِنَ الرّحْمَةِ وَقُل رّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبّيَانِي صَغِيراً ) (١) .

٢ ـ قلباً مرهفاً وضميراً حياً وعقلاً متوقداً .

٣ ـ وفاءً بالجميل الذي أسداه الوالدان لوليدهما .

فيقولعليه‌السلام في دعائه لهما :

أ ـ ( واخصص اللهمّ والديّ بالكرامة لديك والصلاة منك يا أرحم الراحمين اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف(٢) ، وأبرهما برّ الأم الرؤوف ، واجعل طاعتي لوالدي ، وبري بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان(٣) ، وأثلج لصدري من شربة الضمآن حتى أوثر على هواي هواهما ، وأقدّم على رضاي رضاهما ، وأستكثر برهما بي وإن قلّ ، وأستقلّ بري بهما وإن كثر ) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : الآية ٢٤ .

(٢) العسوف : الظلوم .

(٣) الوسنان : النعسان .

٢٤

ب ـ ( اللهم خفّض لهما صوتي ، وأطب لهما كلامي ، وألن لهما عريكتي(١) ، وأعطف عليهما قلبي ، وصيرني بهما رفيقاً ، وعليهما شفيقاً ) .

ج ـ ( اللهم اشكر لهما تربيتي ، وأثبهما على تكرمتي ، واحفظ لهما ما حفظاه مني في صغري ) .

د ـ ( اللهم لا تنسني ذكرهما في أدبار صلواتي ، وفي إنى من آناء ليلي ، وفي كل ساعةٍ من ساعات نهاري ) .

شب الإمام السجادعليه‌السلام في مدينة جده رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما ذكرنا آنفاً ، على الصفات الحميدة للإسلام وكان الى جانب أبيه الحسينعليه‌السلام في المهمات ، وعلى الأغلب لقاء الإمام الحسينعليه‌السلام المشهود مع الوليد بن عتبة ( والي المدينة من قبل يزيد ) ومروان بن الحكم ، عندما أراد بنو أمية البيعة ليزيد بالخلافة وكانعليه‌السلام آنذاك شاباً في الثانية والعشرين من عمره .

فعندما مات معاوية بن ابي سفيان في رجب سنة ٦٠ هـ ، كتب يزيد الى الوليد بن عتبة أمير المدينة يأمره بأخذ البيعة على أهلها عامة وعلى الإمام الحسينعليه‌السلام خاصة فقال له : إن أبى عليك فاضرب عنقه وأبعث غلي برأسه .

ــــــــــــــــ

(١) العريكة : الطبع .

٢٥

فبعث الوليد الى الحسينعليه‌السلام فجاءه في ثلاثين رجلاً من أهل بيته ومواليه ومن الراجح تاريخياً ان زين العابدينعليه‌السلام كان بينهم ، فقد كان شاباً بليغاً راشداً يعضد أمر أبيهعليه‌السلام في القضايا الاسلامية الكبرى .

فنعى الوليد إلى الحسينعليه‌السلام موت معاوية ، وعرض عليه البيعة ليزيد فلم يجبه الإمام الحسينعليه‌السلام إلى شيء محدد ، بل أجلّه إلى الغد وقالعليه‌السلام للوليد : ( ان البيعة لا تكون سراً ولكن اذا دعوت الناس غداً فادعنا معهم ) فانبرى مروان مخاطباً الوليد : لا تقبل أيها الأمير عذره ، متى لم يبايع فاضرب عنقه كذبت والله ولؤمت ) ثم أقبل على الوليد وقالعليه‌السلام : (إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة ومختلف الملائكة بنا فتح الله وبنا ختم الله ، ويزيد رجل فاسق ، شارب الخمر ، قاتل النفس المحرمة ، معلن بالفسق ، ومثلي لا يبايع مثله )(١) .

وأنتهت المقابلة بخروج الإمام الحسينعليه‌السلام ومن معه من أهل بيتهعليه‌السلام من مقر الوليد بن عتبة ثم إتخاذ الإمام الحسينعليه‌السلام قراره بالخروج من المدينة إلى مكة ثم إلى كربلاء .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١٧ .

٢٦

المرحلة الثانية : ( سنة ٦١ ـ ٦٧ هـ )

وهذه المرحلة امتدت من مقتل أبيه سيد الشهداءعليه‌السلام في كربلاء في العاشر من محرم الحرام سنة ٦١ هـ ولحد العاشر من محرم الحرام من سنة ٦٧ هـ وهو تاريخ مقتل قاتلي الحسينعليه‌السلام وتمثل تلك الفترة ست سنوات كاملة من الانتظار والاضطراب الإجتماعي والسياسي .

ففي سنة ٦١ للهجرة توالت أحداث الطف وقضية المسير الى الكوفة والدخول على عبدالله بن زياد ، ثم دفن الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأنصاره ثم المسير الى الشام وخطبة السجادعليه‌السلام في مسجد الطاغية الأموي ، ثم العروج على كربلاء مرة أخرى لتجديد العهد ثم المسير الى المدينة حيث تسلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام وديعة الإمامة التي تركها له أبوهعليه‌السلام عند أم سلمة ( رضوان الله عليها ) وكانت ا لوصية تأمره بالسكوت .

وبقي السجادعليه‌السلام حزيناً على الفاجعة ، لكن لم يثنه ذلك عن أداء متطلبات الإمامة ، وهي قيادة الأمة قيادة روحية شرعية نحو أهداف الدين اشتملت هذه المرحلة أيضاً على انتفاضات ومعارك منها :

أ ـ معركة المدينة : ففي سنة ٦٢ هـ استبيحت المدينة من قبل جيش بني أمية بقيادة مسلم بن عقبة ، واشتعلت فيها معركة دامية بين جيش الشام و جيش المدينة بقيادة عبدالله بن حنظلة ، انتهت بمجازر بحق أهل المدينة .

ب ـ حركة التوابين : في سنة ٦٥ هـ قامت حركة التوابين تطالب بدم الإمام الحسينعليه‌السلام ، والتحم مقاتلوها مع جيش بني أمية بقيادة عبيدالله بن زياد ، وانتهت بمقتل معظم التوابين .

ج ـ حركة المختار : في سنة ٦٦ هـ ابتدأت حركة المختار في الكوفة ، واستمرت الى حين مقتل جميع من ساهم بقتل الحسينعليه‌السلام ، ومنهم عمر بن سعد وحرملة بن كاهل ، وعبيدالله بن زياد الذي قتل في ١٠ محرم سنة ٦٧ هـ .

وهذه المرحلة ، وإن لم يفصلها فاصل تاريخي عن بقية حياتهعليه‌السلام الا انها كانت تمثل مرحلة انتظار وترقب واضطراب خصوصاً وان الذين قاموا بفظائع عاشوراء سنة ٦١ هـ بحق آل البيتعليه‌السلام ، كانوا لا يزالوا يتمتعون بالحياة ويتأمرون على الناس ويحكمون باسم الدين .

وسنتناول بالتفصيل خطوات المرحلة الثانية من حياة السجادعليه‌السلام ونبدأ بخروج أهل البيتعليه‌السلام من المدينة سنة ٦٠ هـ .

٢٧

في كربلاء ( محرم سنة ٦١ هـ )

خرج السجادعليه‌السلام مع أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام وأهل بيته من المدينة الى مكة ، بعد ان رفض الإمامعليه‌السلام إعطاء البيعة ليزيد وكان ذلك في رجب أو شعبان من سنة ستين للهجرة .

وفي الثالث من ذي الحجة سنة ٦٠ هـ ( وقيل الثامن منه ، أي يوم التروية ) خرج ركب أهل البيتعليه‌السلام من مكة متوجهاً نحو العراق وكان الحسينعليه‌السلام يتنبأ بمقتله في كربلاء ، كما قال في خطبته المشهورة في مكة قبل خروجه : ( كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس وكربلاء فيملأن مني أكراشاً جوفا )(١) وعندما أعلم بضعف الناس بالكوفة وحقيقة أن قلوبهم معه وسيوفهم عليه ، أشار إلى انه يعلم انه مقتول لا محالة ، فقال : ( أعلم يقيناً ان هناك مصرعي ومصرع أصحابي ، لا ينجو منهم إلا ولدي عليعليه‌السلام )(٢) .

وفي كربلاء ذاق السجادعليه‌السلام ، مع زوجته فاطمة بنت الحسنعليه‌السلام وابنه محمد الباقرعليه‌السلام ، مرارة عطش الطف وعانى من مرضه مدة ثمانية أيام متوالية أي من الثاني من محرم الحرام وحتى العاشر منه والظاهر ان المرض أمتد به حتى وصوله الكوفة وسمععليه‌السلام جميع خطب أبيه الإمام الحسينعليه‌السلام الموجّهة لعساكر بني أمية ، ورأى أباه الحسينعليه‌السلام يصلي ليلة العاشر من محرم ويتلو كتابه حتى طلوع الفجر وكانت تلك سجية الحسينعليه‌السلام في كثرة صلاته وكمال صفاته ، وهكذا كان السجادعليه‌السلام على شاكلة أبيهعليه‌السلام .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٣٨ .

(٢) اللهوف ص ٣٩ .

٢٨

وفي ظهيره ذلك اليوم من محرم ، دخل الحسينعليه‌السلام على أبنهعليه‌السلام وأوصاه بوصاياه ، وسلّمه بعضاً من مواريث الإمامة كخاتمه ، وكانت آخر وصية لهعليه‌السلام :

(يا بني ، أوصيك بما أوصى به جدك رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً حين وفاته ، وبما أوصى جدك عليّ عمك الحسن ، وبما أوصاني به عمّك إياك وظلم من لا يجد عليك ناصراً إلا الله ) ثم ودعه ومضى الى ميدان المعركة الأخيرة التي استشهد فيها .

وكان السجادعليه‌السلام مريضاً يوم عاشوراء ، فلم يكن قادراً على القتال وقيل انه قاتل قليلاً ثم أتعبه المرض ، ولكنه بعيد وعلى أي تقدير ، فان الإرادة الربانية قدرّت له أن يبقى حياً بعد مجزرة آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الطف يقول ابن سعد في طبقاته : ( كان علي بن الحسينعليه‌السلام مع أبيه بطف كربلاء وعمره إذ ذاك ثلاث وعشرين سنة لكنه مريضاً ملقى على فراشه وقد أنهكته العلّة والمرض ولما استشهد والدهعليه‌السلام ، قال شمر بن ذي الجوشن : اقتلوا هذا الغلام فقال بعض أصحابه : تقتل مريضاً لم يقاتل ؟! فتركوه )(١) .

قال ابن عمر : (هذا صحيح ، وليس قول من قال بأنه كان صغيراً حينئذٍ ولم يقاتل وانه ترك بسبب ذلك بشيء )(٢) .

وإن صح ذلك ، فهو لا يقدح في شخصية السجادعليه‌السلام ، لأن القتال تكليفٌ يسقط عند المرض وقد أثنى رمد العينين علي بن أبي طالبعليه‌السلام عن مقاتلة اليهود في خيبر حتى مسحهما رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فشفيتا ، ثم قاتل فكان النصر على يديهعليه‌السلام .

وهو في الوقت نفسه ، يحط من أخلاقية بني أمية الذين أرادوا قتل مريض لا حول له ولا قوة ، صبراً وهو من أشنع الأعمال وأقبحها عند العرب زمن الجاهلية ، فضلاً عن زمن الإسلام ورحمته !

يقول الإمام السجادعليه‌السلام حول عاشوراء : ( ما من يوم أشد على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من يوم أحد قتل فيه عمه حمزة بن عبدالمطلب أسد الله وأسد رسوله ، وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب ) ثم قال : (ولا يوم كيوم الحسين إذ دلف إليه ثلاثون ألف رجل يزعمون أنهم من هذه الأمة كلّ يتقرب إلى الله عزّ وجلّ بدمه ،

ــــــــــــــــ

(١) الطبقات الكبرى لابن سعد ج ٥ ص ٢١٢ .

(٢) الطبقات الكبرى ج ٥ ص ٢٢١ .

٢٩

وهو بالله يذّكرهم فلا يتعظون حتى قتلوه بغياً وظلماً وعدواناً )(١) ( والله ما نظرت إلى عماتي وأخواتي إلا وخنقتني العبرة ، وتذكرت فرارهن يوم الطف من خيمة إلى خيمة ، ومن خباء إلى خباء ، ومنادي القوم ينادي أحرقوا بيوت الظالمين ) .

ورأت عمته العقيلة زينب الألم على وجه السجادعليه‌السلام في ذلك اليوم ، فقالت له : ( ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وإخوتي ، فو الله إن هذا لعهدٌ من الله إلى جدك وأبيك ، ولقد أخذ الله ميثاق أناس لاتعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معروفون في أهل السموات أنهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة ، والجسوم المضرّجة فيوارونها وينصبون بهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء لا يدرس أثره ، ولا يمحى رسمه على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوه وطمسه ، فلا يزداد أثره إلا علواً )(٢) .

في الكوفة ( محرم سنة ٦١ هـ )

بعد استشهاد الإمام الحسنعليه‌السلام على أرض الطف ، أعلن عمر بن سعد القائد الأموي لجيش الكوفة النصر العسكري على

ــــــــــــــــ

(١) بحار الأنوار ج ٩ ص ١٤٧ .

(٢) كامل الزيارات ص ٢٦١ .

٣٠

جيش الحسينعليه‌السلام ، فبدأ جنوده اقتحام الخيم القليلة المنصوبة للنساء والاطفال وحرقها ، وارعابهم بأشدّ الوسائل النفسية من نظرات شامتة وتهديد بالقتل وتم الاستيلاء على غنائم الحرب وهي سيف النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعمامته ودرعه ، ومغزل فاطمة بنت محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومقنعتها وقلادتها وقميصها(١) وسيق النساء والصبيان والمرضى سبايا الى الكوفة حيث مقر عبيدالله بن زياد ، وواليها من قبل بني أمية .

وكان دخول السبايا الى مدينة الكوفة مثيراً للغاية ، تقشعر منه جلود العقلاء مهما كان مذهبهم أو دينهم ، فضلاً عن المسلمين المؤمنين فقد كانت الكوفة مدينة كبيرة حسب مقياس ذلك الزمان فهي محاطة بنخيل كثيفة ، ومياه وافرة عذبة من الفرات ، وفيها كثافة سكانية متميزة لانها كانت مركز انطلاق الجيوش في حروب بلاد فارس والشام والروم ولذا لم يبخل علينا التاريخ بشهود عيان يروون قصة دخول السبايا ومن هؤلاء الشهود حذلم بن بشير ، فيقول : قدمت الكوفة سنة ٦١ هـ عند مجيء علي بن الحسينعليه‌السلام من كربلاء ، ومعه النسوة وقد أحاطت بهم الجنود ، وقد خرج الناس للنظر إليهم وكانوا على جمال بغير وطاء ، فجعلت نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن ، ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلّة ، وفي

ــــــــــــــــ

(٢) اللهوف ص ١١٣ .

٣١

عنقه الجامعة ويده مغلولة الى عنقه وهو يقول بصوت ضعيف : ( إن هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا ، فمن قتلنا ؟ )(١) .

واذا كانت بعض المصادر(٢) تذكر بان قافلة الأسرى التي دخلت الكوفة كانت مؤلفة من أربعين جملاً تحمل النساء والصبيان ، فاننا يمكن ان نقدر ـ وبملاحظة قدرة الجمل على حمل الأفراد ـ عدد من أسر منهم بحدود ٨٠ ـ ١٢٠ فرداً ممن لهم علاقة نسبية أو سببية بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيتهعليه‌السلام وإذا أضفنا من استشهد من الرجال في كربلاء وهم ثلاث وسبعون رجلاً ، يكون مجموع الذين انتهوا إلى كربلاء في معسكر الحسينعليه‌السلام حوالي المائتين أو أقل من ذلك بقليل .

سياسة آل البيتعليه‌السلام بعد الطف

كانت سياسة آل البيتعليه‌السلام بعد واقعة الطف مبنية على اساسين هما : كشف الحقائق ، وإرشاد الناس وتصدى لذلك ثلة من آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الإمام زين العابدينعليه‌السلام ، وثلاث نساء هنّ : عمتاه :

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ المفيد ص ٣٢١ ح ٨ وعوالم العوالم ج ١٧ ص ٣٦٨ ح ١ وص ٣٧١ ح ٢ .

(٢) كما في رواية مسلم الجصاص .

٣٢

زينب بنت عليعليه‌السلام ، وأم كلثوم بنت عليعليه‌السلام ؛ واخته : فاطمة الصغرى بنت الحسينعليه‌السلام ويمكننا تلخيص تلك السياسة بالنقاط التالية :

١ ـ إدانة الناس على تخاذلهم وغدرهم .

٢ ـ تذكيرهم برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإسلام والقرآن ، وعلاقة أهل البيتعليه‌السلام بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورسالة السماء .

٣ ـ مواجهة الأمراء الطغاة بصلابة الحق وقوته ، ومقارعة الحجة بالحجة .

وكانت تلك السياسة منسجمة ومتماسكة ، وذات أهداف محددة ، وكانت موجهة إلى جمهور المسلمين الذين خذلوا أهل البيتعليه‌السلام في مبادئهم واهدافهم .

ففي الكوفة ، قام أهل البيتعليه‌السلام بوظيفتهم الاستثنائية تلك بنوعية الناس عبر خطابات في غاية البلاغة والفصاحة ولها مدلولات عميقة في حياة المسلمين والظاهر ان خطب أهل البيتعليه‌السلام قد تمت في الكوفة خلال فترة تبديل أو استراحة الحرس المكلّف بالأسرى قبل ان ينقلوا إلى قصر الإمارة ، حيث عبيدالله بن زياد أمير الكوفة من قبل يزيد بن معاوية فاستثمر زين العابدينعليه‌السلام ، وأم كلثوم بنت علي ، وفاطمة بنت الحسين ، وزينب بنت عليعليه‌السلام تلك الفترة فخاطبوا الناس .

والكوفة ليست مدينة غريبة على أهل البيتعليه‌السلام ، فقد عاشوا فيها في منتصف العقد الثالث من الهجرة ، أي قبل حوالي نيف وعشرين سنة من واقعة الطف .

٣٣

خطابات آل البيتعليه‌السلام :

أولاً : فهذه زينب بنت عليعليه‌السلام لم ير خفرةً(١) أنطق منها ، تخطب الناس في الكوفة ، فتقول :

( الحمد لله والصلاة على أبي : محمد وآله الطيبين الأخيار .

أما بعد .

يا أهل الكوفة يا أهل الختل والغدر أتبكون فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ، إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً ، تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم ألا ، وهل فيكم إلا الصلف النطف ، والصدر الشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ، أو كمرعى على دمنة أو كفضة على ملحودة .

ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون أتبكون وتنتحبون أي والله فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ، فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ومعدن الرسالة وسيد شباب أهل الجنة وملاذ حيرتكم ومفزع نازلتكم ومنار حجتكم ومدرة سنتكم ألا ساء ما تزرون وبعداً لكم و سحقاً .

ــــــــــــــــ

(١) خفر الإنسان خفراً فهو خفر ( من باب تعب ) والأسم الخفارة : الحياء والوقار ( المصباح المنير ـ مادة خفر ج ١ ص ٢١٣ ) .

٣٤

فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ، وضربت عليكم الذلة والمسكنة ويلكم يا أهل الكوفة أتدرون أي كبد لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فريتم ، وأي كريمة له أبرزتم ، وأي دمٍ له سفكتم ، وأي حرمة له انتهكتم لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو كملئ السماء أفعجبتم إن مطرت السماء دماً ولعذاب الآخرة أخزى وأنتم لا تنصرون ، فلا يستخفنكم المهل فإنه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر وإن ربكم لبالمرصاد ) .

ورى المؤرخون ان الناس كانوا يومئذٍ حيارى يبكون وقد وضعوا أيديهم على أفواههم ويبكي أحدهم حتى اخضلّت لحيته وهو يقول : (بأبي أنتم و أمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونسائكم خير النساء ، ونسلكم خير نسل لا يخزى ولا يبزى )(١) .

ثانياً : فاطمة الصغرى بنت الحسينعليه‌السلام ، خطبت فقالت : ( الحمد لله عدد الرمل والحصا وزنة العرش إلى الثرى ، أحمده وأؤمن به وأتوكل

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٦ ـ ٨٨ .

٣٥

عليه وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن أولاده ذبحوا بشط الفرات بغير ذحل(١) ولا ترات(٢) اللهم إني أعوذ بك أن أفتري عليك بالكذب أو أن أقول عليك خلاف ما أنزلت عليه من أخذ العهود لوصيه علي بن أبي طالبعليه‌السلام المسلوب حقه المقتول من غير ذنب ، كما قتل ولده بالأمس ، في بيت من بيوت الله فيه معشر مسلمة بألسنتهم ، تعساً لرؤوسهم ما دفعت عنه ضيماً في حياته ولا عند مماته ، حتى قبضته إليك محمود النقيبة طيب العريكة معروف المناقب مشهور المذاهب لم تأخذه فيك اللهم لومة لائم ولا عذل عاذل هديته اللهم للإسلام صغيراً وحمدت مناقبه كبيراً ولم يزل ناضحاً لك ولرسولكصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى قبضته إليك زاهداً في الدنيا غير حريص عليها راغباً في الآخرة مجاهداً لك في سبيلك رضيته فاخترته فهديته إلى صراط مستقيم .

أما بعد :

يا أهل الكوفة ، يا أهل المكر والغدر والخيلاء فإنا أهل بيت إبتلانا الله بكم وإبتلاكم بنا ، فجعل بلائنا حسناً وجعل علمه عندنا وفهمه لدينا ، فنحن عيبة علمه ووعاء فهمه وحكمته وحجته على الأرض في بلاده لعباده ، أكرمنا الله بكرامته وفضلنا بنبيه محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على كثير ممن خلق تفضيلاً بيناً ، فكذبتمونا وكفرتمونا ورأيتم قتالنا حلالاً وأموالنا نهباً كأننا أولا ترك وكابل ، كما قتلتم جدنا بالأمس وسيوفكم تقطر من دمائنا أهل البيت لحقد متقدم ، قرّت لذلك عيونكم ، وفرحت قلوبكم على افتراء الله ومكراً مكرتم والله خير الماكرين .

ــــــــــــــــ

(١) الذحل : الثأر .

(٢) الترات : جمع ترة وهي ايضاً الثأر .

٣٦

فلا تدعونكم أنفسكم إلى الجذل بما أصبتم من دمائنا ونالت أيديكم من أموالنا ، فإن ما أصابنا من المصائب الجليلة والرزايا العظيمة في كتاب من قبل ان نبرئها إن ذلك على الله يسير ، لكيلا تأسوا على ما فاتكم ، ولا تفرحوا بما آتاكم ، والله لا يحب كل مختال فخور تباً لكم فانتظروا اللعنة والعذاب ، فكأن قد حل بكم وتواترت من السماء نقمات فيسحتكم بعذاب ويذيق بعضكم بأس بعض ، ثم تخلدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتمونا ، ألا لعنة الله على الظالمين ويلكم أتدرون أية يد طاعنتنا منكم ، وأية نفس نزعت إلى قتالنا ، أم بأية رجل مشيتم إلينا تبغون محاربتنا والله قست قلوبكم ، وغلظت أكبادكم ، وطبع على أفئدتكم وختم على سمعكم وبصركم ، وسوّل لكم الشيطان وأملى لكم ، وجعل على بصركم غشاوة فأنتم لا تهتدون فتباً لكم يا أهل الكوفة ، أي ترات لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلكم وذحول له لديكم بما غدرتم بأخيه علي بن أبي طالب جدي ، وببنيه وعترته الطيبين الأخيار ، فافتخر بذلك مفتخر فقال :

نحن قتلنا علياً وبني علي

بسيوف هندية ورماح

وسبينا نسائهم سبي ترك

ونطحناهم فأي نطاح

بفيك أيها القائل الكثكث والأثلب إفتخرت بقتل قوم زكاهم الله وطهرهم الله وأذهب عنهم الرجس ، فاكظم وأقع كما أقعى أبوك قائماً ، لكل امرئ ما كسب وما قدمت يداه أحسدتمونا ـ ويلكم ـ على ما فضلنا الله .

فما ذنبنا إن جاش دهراً بحورنا

وبحرك ساج ما يوارى الدعا مصا

ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، والله ذو الفضل العظيم ، ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور )(١) .

ثالثاً : أم كلثوم بنت عليعليه‌السلام خطبت أهل الكوفة من وراء كلتها ، فقالت : ( يا أهل الكوفة سوأة لكم ، ما لكم خذلتم حسيناً وقتلتموه وأنتهبتم أمواله وورثتموه وسبيتم نسائه ونكبتموه ، فتباً لكم وسحقاً ويلكم أتدرون أي دواه دهتكم ، وأي وزر على ظهوركم حملتم ، وأي دماء سفكتموها ، وأي كريمة أصبتموها ، وأي صبية سلبتموها ، وأي أموال إنتهبتموها .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٨ ـ ٩٠ .

٣٧

قتلتم خير رجالات بعد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونزعت الرحمة من قلوبكم ، ألا إن حزب الله هم الفائزون وحزب الشيطان هم الخاسرون ، ثم قالت(١) :

قتلتم أخي صبراً فويل لامكم

ستجزون ناراً حرها يتوقد

سفكتم دماء حرم الله سفكها

وحرمها القرآن ثم محمد

ألا فابشروا بالنار إنكم غداً

لفي سقر حقاً يقيناً تخلدوا

وإني لأبكي في حياتي على أخي

على خير من بعد النبي سيولد

بدمع عزيز مستهل مكفكف

على الخد مني دائماً ليس يحمد

رابعاً : ثم نادى زين العابدينعليه‌السلام بالناس بعد أن حمد الله وأثنى عليه :

( أيها الناس ، من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فأنا علي بن الحسين بن علي أبي طلاب أنا ابن من انتهكت حرمته ، وسلبت نعمته ، وانتهب ماله ، وسبي عياله أنا ابن المذبوح بشط الفرات من غير ذحل ولا ترات أنا ابن من قتل صبراً ، وكفى بذلك فخراً .

أيها الناس ، ناشدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم الى أبي وخدعتموه ، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والمواثيق والبيعة ، وقاتلتموه فتبّاً لما قدمتم لأنفسكم وسوأة لرأيكم ، بأية عين تنظرون الى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول لكم : قتلتم عترتي ، وانتهكتم حرمتي ، فلستم من أمتي ...

رحم الله امرأً قبل نصيحتي ، وحفظ وصيتي في الله وفي رسوله وفي أهل بيته ، فإن لنا في رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة حسنة ) .

فصمتوا وهم يستمعون إلى هذا القول العطر ثم قالوا : (نحن يا بن رسول الله ، سامعون مطيعون حافظون لذمامك ، غير زاهدين فيك ، ولا راغبين عنك ، فمرنا بأمرك يرحمك الله ، فأنا حرب لحربك ، وسلم لسلمك ، نبرأ ممن ظلمك وظلمنا ) .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٩١ .

٣٨

وقولهم هذا لا يمكن أن يفسر إلا بأحد تفسيرين :

إما ان الحضور كان من الذين لم يدخلوا الحرب مع الحسينعليه‌السلام ولم تصلهم أخبار الحرب إلا بوصول السبايا ، وهو بعيد لأن جواب السجادعليه‌السلام لهم يكشف عن كونهم مخادعون ماكرون .

وإما انهم كانوا يخادعون السجادعليه‌السلام للتمويه على الموقف الاسلامي العام وهذا أقرب الى الصواب فقد كانوا يحاولون إلتماس الأعذار على خذلهم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد صدق الفرزدق حينما قال للحسينعليه‌السلام قبل الطف وهو يصف أهل الكوفة : ( يا ابن رسول الله قلوب الناس معك وسيوفهم عليك ) ولو كانوا صادقين في قولهم : ( انا حرب لحربك وسلم لسلمك ) لما تركوا ا لحسينعليه‌السلام وأهل بيته يقتلون بين ظهرانيهم قبل أيام قليلة .

فأجابهم الإمام زين العابدينعليه‌السلام : ( هيهات ، هيهات ، أيها الغدرة المكرة ، حيل بينكم وبين شهوات أنفسكم ، أتريدون ان تأتوا إلي كما أتيتم إلى أبي من قبل ، كلا ورب الراقصات(١) ، فإن الجرح لما يندمل قتل أبي بالأمس وأهل بيته ، ولم ينس ثكل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وثكل أبي ، وبني أبي إن وجده والله بين لهاتي ، ومرارته بين حناجري وحلقي ، وغصص تجري في فراش صدري )(٢) .

وهكذا عرض أهل البيتعليه‌السلام على أهل الكوفة ما يرشدهم إلى آخرتهم ولخطبة الإمام السجادعليه‌السلام دلالات نعرضها عبر الكلمات التالية :

دلالات خطبة السجادعليه‌السلام في الكوفة :

كشفت خطبة السجادعليه‌السلام في الكوفة عن أمور ، أهمها :

١ ـ انها ساهمت في كشف الحقائق التي حاول بنو أمية سترها وأخطرها التقليل من أهمية العلاقة الرسالية والرحمية برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذلك كان التأكيد على قول : ( من عرفني فقد عرفني ، ومن لم يعرفني فانا ) .

ــــــــــــــــ

(١) الراقصات : مطايا الحجيج .

(٢) مثير الأحزان لابن نما ص ٨٩ واللهوف في قتلى الطفوف ص ٦٨ .

٣٩

٢ ـ شرح الوقائع التي وقعت في العاشر من محرم الحرام ، وكان محورها قتل الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه وهتك حرمة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .

٣ ـ الإدانة الواضحة لأولئك الذين دعوا الحسينعليه‌السلام الى العراق وتخلوا عنه وحاربوه ، ووصمهم بالغدر والمكر والخيانة .

وكان للسجادعليه‌السلام كلامٌ قاله ، خلال أسر بني أمية له ، وهو : ( أيها الناس ، أن كل صمت ليس فيه فكر فهو عي ، وكل كلام ليس فيه ذكر فهو هباء ، ألا وأن الله تعالى أكرم أقواماً بآبائهم ، فحفظ الأبناء بالآباء ، لقوله تعالى :( وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً ) (١) فأكرمهما ونحن والله عترة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأكرمونا لأجل رسول الله ، لأن جدي رسول الله كان يقول في منبره : احفظوني في عترتي وأهل بيتي فمن حفظني حفظه الله ، ومن آذاني فعليه لعنة الله ألا لعنة الله على من آذاني فيهم حتى قالها ثلاث مرات ونحن والله أهل بيت أذهب الله عنا الرجس والفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ونحن والله أهل بيت أختار الله لنا الآخرة وزوي(٢) عنا الدنيا ولذاتها ولم يمتعنا بلذاتها )(٣) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الكهف : الآية ٨٢ .

(٢) زوي الشيء : نحاه .

(٣) ناسخ التواريخ ـ من أحوالهعليه‌السلام ج ٢ ص ٤٤ والمنتخب للطريحي ج ٢ ص ٢ .

٤٠

مقارعة الحجة بالحجة :

وكان من عادة الجيش إدخال السبايا على الحاكم المنتصر من أجل إذلالهم والتشفي منهم فالمقدمة هنا كانت إدخال السبايا على والي الكوفة ، والنتيجة هو إذلال أهل البيتعليه‌السلام ولكن الأمر كان مختلفاً مع سبايا العترة الطاهرةعليه‌السلام ، فقد نجحت المقدمة وهي إدخالهم على الوالي ولكن النتيجة باءت بالفشل ، ولم ينجحوا في إذلالهم بل كلما ازداد الضغظ عليهم من قبل بني أمية كانوا يزدادون في عيون الأمة سمواً وعلواً وتألقاً .

فعندما جلس عبيدالله ابن زياد ( والي الكوفة ) في القصر للناس ، وأذن إذناً عاماً ، جيء برأس الحسينعليه‌السلام فوضع بين يديه وأدخل نساء الحسينعليه‌السلام وصبيانه إليه ، فجلست زينب بنت عليعليه‌السلام متنكرة فسأل عنها فقيل زينب بنت عليعليه‌السلام فأقبل إليها ، فقال : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم فقالت : ( إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ) فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك فقالت : ( ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن يكون الفلج(١) يومئذٍ ) .

ــــــــــــــــ

(١) فلج : ظفر بسما طلب ، وفلج بحجته أثبتها .

٤١

فغضب ابن زياد وكأنه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : إنها امرأة والمرأة لا تؤخذ بشيء من منطقها فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك فقالت : ( لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي وإختثثت أصلي فإن كان هذا شفاك فقد إشتفيت ) فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ولعمري لقد كان أبوك شاعراً وسجّاعاً فقالت : ( يا بن زياد ما للمرأة والسجاعة ) .

ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسينعليه‌السلام ، فقال من هذا ؟ فقيل : علي بن الحسين ( السجاد ) فقال : أليس الله قد قتل علي بن الحسين ؟ فقال عليعليه‌السلام : ( قد كان لي أخ يقال له علي بن الحسين قتله الناس ) فقال : بل الله قتله فقال عليعليه‌السلام ( اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا (١). ) . فقال ابن زياد : ألك جرأة على جوابي ثم أمر بضرب عنق زين العابدينعليه‌السلام .

فنهضت له عمته الكريمة زينب بنت عليعليه‌السلام ، ما سكةً بيد الإمامعليه‌السلام صادحةً بقوة الحق : ( حسبك يا بن زياد من دمائنا ما سفكت ، وهل أبقيت أحداً غير هذا ؟ فإن أردت قتله فاقتلني معه ) فقال عليعليه‌السلام لعمته : اسكتي يا عمة حتى أكلمه ثم أقبل ، فقال :

ــــــــــــــــ

(١) سورة الزمر : الآية ٤٢ .

٤٢

 ( أبالقتل تهددني يا ابن زياد ؟ أما علمت أن القتل لنا عادة ، وكرامتنا من الله الشهادة ؟ )(١) .

لقد كانت إرادة العقيلة زينبعليه‌السلام قوية إلى درجة انه تراجع عن قراره وهو في مجلسه ، وقال لجلاوزته بخجل : دعوه لها ، يا للرحم ودّت أنها تقتل معه .

قال الجاحظ في رسائله ان ابن زياد قال لأصحابه في علي ابن الحسين : دعوني أقتله فإنه بقية هذا النسل ـ يعني نسل الحسينعليه‌السلام ـ فأحسم به هذا القرن ، وأميت به هذا الداء ، وأقطع به هذه المادة .

إلا ان موقف زينبعليه‌السلام كان قد غيّر الأمر ، وجعل الحاشية تشير عليه بالإمساك عنهعليه‌السلام ظنّاً منهم ان ما ألّم به من المرض سوف يقضي عليه .

ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسينعليه‌السلام وأهله ، فحملوا إلى دارٍ جنب المسجد الأعظم بالكوفة .

ــــــــــــــــ

(١) عوالم العوالم ج ١٧ ص ٣٨٤ واللهوف ص ٧٠ .

٤٣

مواراة أجساد قتلى آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ١٣ محرم سنة ٦١ هـ )

بقيت أجساد العترة الطاهرة متناثرة في عراء الطف يومين أو ثلاثة أيام وانبرى قومٌ من بني أسد من الذين لم يشتركوا في الحرب لدفنها ، فحفروا قبوراً لتلك الأجساد الطاهرة ، لكنهم تحيروا في معرفتها لأن الرؤوس كانت قد فصلت عنها وأخذت إلى الشام حتى ورد الإمام زين العابدينعليه‌السلام من الكوفة فأوقف بني أسد على شهداء أهل البيت ، وأوقفهم أيضاً على أصحاب الحسينعليه‌السلام وبادر إلى حمل جثمان أبيهعليه‌السلام ، فواراه الثرى ، وهو يقول : ( يا أبتاه ، طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر ، فان الدنيا بعدك مظلمة ، والآخرة بنورك مشرقة أما الليل فمسهد ، والحزن سرمد أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك مني السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته ( .

وعلّم قبر أبيهعليه‌السلام بعلامة ، وكتب : ( هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب ، الذي قتلوه عطشاناً غريباً ) ووضع قبر أخيه المشهور بـ ( علي الأكبر ) عند رجلي والده الحسينعليه‌السلام ، وبقية الشهداء من بني هاشم والأنصار في قبر واحد .

ثم انطلق إلى نهر العلقمي فحفر قبراً لعمه أبي الفضل العباس قمر بني هاشم ، وهو يقول : ( على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم ، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله و بركاته ( .

٤٤

دلالات رجوع السجادعليه‌السلام إلى كربلاء :

١ ـ لاشك ان انصراف الإمام زين العابدينعليه‌السلام من سحن عبيد الله ابن زياد في الكوفة لتولي أمر أبيهعليه‌السلام في كربلاء دون علمهم به من الكرامات الخاصة بالامام السجادعليه‌السلام وإذا كانت المسافة بين الكوفة وكربلاء حوالي ٨٠ كيلومتراً ، فان قطعها يحتاج الى أكثر من يوم ، بالطريق الطبيعي إلا ان الروايات المتواترة عن أهل البيتعليه‌السلام تثبت بان اختصار تلك المسافة كان من الكرامات الخاصة بالسجادعليه‌السلام وليس هذا غريباً ، فان الله تعالى قد خصهم بكرامات عديدة ، لخصائص مباركة فيهم .

٢ ـ الظاهر ان أمر رجوع الإمام زين العابدينعليه‌السلام الى كربلاء لدفن أبيهعليه‌السلام كان أمراً شائعاً متعارفاً ويؤيده تلك المناظرة بين الإمام الرضاعليه‌السلام وابن ابي حمزة في بدايات القرن الثالث الهجري ، وموضوع المناظرة كان وجوب تغسيل الإمام المعصوم من قبل الإمام آخر .

٤٥

قال الإمام الرضاعليه‌السلام له ، وهما في أوج حمى المناظرة : ( اخبرني عن الحسين بن علي كان إماماً ) قال : بلى قالعليه‌السلام : ( فمن ولي أمره ؟ ) قال : علي بن الحسين فقال الرضاعليه‌السلام : ( وأين كان ؟ ) قال ابن أبي حمزة : ( كان محبوساً بالكوفة عند ابن زياد ولكنه خرج وهم لا يعلمون به حتى ولي أمر أبيه ثم انصرف الى السجن ) فقال الرضاعليه‌السلام : ( ان من مكّن علي بن الحسين أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه ثم ينصرف ، يمكّن صاحب هذا الأمر ان يأتي بغداد فيلي أمر أبيه(١) وليس هو في حبس ولا أسار )(٢) ودلالة الرواية ان أمر الذهاب من الكوفة الى كربلاء لدفن أبيهعليه‌السلام كان من الكرامات المعروفة المشهورة الخاصة بالسجادعليه‌السلام .

في الشام ( محرم / صفر سنة ٦١ هـ)

وكتب ابن زياد الى يزيد يخبره بقتل الحسينعليه‌السلام وخبر أهل بيته(٣) ولما وصل كتاب ابن زياد الى الشام أمره يزيد بحمل رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس من قتل معه إليه فأمر ابن زياد بنساء الحسينعليه‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) يقصد تغسيل الامام الكاظمعليه‌السلام .

(٢) إثبات الوصية للمسعودي ص ١٧٣ طبعة النحف .

(٣) الكامل في التأريخ للجزري ج ٤ ص ٨٣ .

٤٦

وصبيانه فجهّزوا ، وأمر بعلي بن الحسينعليه‌السلام فغلّ بقيدٍ الى عنقه .

وانطلق ركب سبايا آل البيتعليه‌السلام على الأقتاب إلى الشام تاركاً الكوفة ومحنها ومتوجهاً إلى أرض لم يطأها من قبل ، والى أناس لم يعرف ملامحهم ولا أخلاقهم ولم يكلّم علي بن الحسينعليه‌السلام أحداً من جنود ابن زياد في الطريق ولا بحرف ، حتى بلغوا الشام(١) ودمشق مدينة مطردة الأنهار ، كثيرة الأشجار وكان دخول سبايا آل البيتعليه‌السلام مناسبة لأهل الشام للاحتفال ، فعلّق أهلها الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون ، ودفعوا نساءهم للعب بالدفوف والطبول ، كما روى ذلك سهل بن سعد الساعدي .

وفي الشام تعرض الإمام السجادعليه‌السلام لعدة مواقف نذكر منها ثلاثة لاهميتها أولها : تذكير الناس وإرشادهم ثانياً : مواجهته يزيد ثالثاً : خطبته البليغة في مجلس الطاغية وفيما يلي نعرض لكل موقف من تلك المواقف :

الأول : تذكير الناس وإرشادهم

استثمر آل البيتعليه‌السلام كل مناسبة كانت تسنح لهم للتعبير عن ارتباطهم بالرسالة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان تعاملهم مع الناس تعامل المعلم مع تلميذه ، والوالد مع ولده وكانواعليه‌السلام ينشرون المعارف والعلوم ، ويغفرون الخطأ والزلل ، ويهدون الناس إلى طريق الحق .

ــــــــــــــــ

(١) الارشاد ج ٢ ص ١١٩ .

٤٧

وفي ذلك رواية لها أهمية خاصة ، لانها تكشف طريقة تعامل الإمام زين العابدينعليه‌السلام مع الناس في الشام فقد فتح المسلمون بلاد الشام ، وحكمها خالد بن الوليد ومعاوية بن ابي سفيان ولم ير أهل الشام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو اصحابه ، فاعتبروا سلوك معاوية واصحابه سنّة للمسلمين ، وليس مستغرباً ان نقرأ الرواية التالية :

عندما دنا شيخ طاعن في السن من جمهور المختلفين واقترب من نساء الحسينعليه‌السلام وعياله وهم في ذلك الوضع ، بادرهم بالقول : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد عن رجالكم ، وأمكن أمير المؤمنين ( يزيد ) منكم .

فقال له علي بن الحسينعليه‌السلام : ( يا شيخ هل قرأت القرآن ؟ ) قال : نعم .

قالعليه‌السلام : فهل عرفت هذه الآية :( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) ، قال الشيخ : نعم قد قرأت ذلك فقال علي بن الحسينعليه‌السلام له : فنحن القربى .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الشورى : آية ٢٣ .

٤٨

يا شيخ فهل قرأت في سورة بني إسرائيل :( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ ) (١) ، فقال الشيخ : قد قرأت فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : فنحن القربى  .

يا شيخ فهل قرأت هذه الآية :( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٢) ؟ قال الشيخ : نعم فقال له علي بن الحسينعليه‌السلام : ( فنحن القربى 

يا شيخ فهل قرأت هذه الآية :( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً )  (٣) ؟ قال الشيخ : قد قرأت ذلك فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( فنحن أهل البيت الذي خصصنا الله بآية الطهارة يا شيخ  .

فبقي ذلك الانسان ساكتاً نادماً على ما تلكم به ، وقال : بالله إنكم هم فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( تالله إنا لنحن هم من غير شك وحق جدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) .

فبكى الشيخ ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إنا نبرأ إليك من عدو آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جن وإنس ثم قال : هل لي من

ــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : آية ٢٦ .

(٢) سورة الانفال : آية ٤١ .

(٣) سورة الاحزاب : آية ٣٣ .

٤٩

توبة فقالعليه‌السلام : ( نعم إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا ) فقال : أنا تائب فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ ، فأمر به ، فقتل(١) .

وفي تلك الرواية دلالات ، منها :

١ ـ ان أهل الشام كانوا يعتقدون بما كان يقوله لهم إعلام بني أمية ولا يستنكرونه ، بل كانوا يأخذونه أخذ المسلّمات .

٢ ـ ان القابلية على التغيير عند الأمة كانت موجودة فما أن احتجّ عليه الإمامعليه‌السلام بالقرآن وبمصاديقه وأفحمه في ذلك ، حتى قبل ذلك الشيخ بالحجة واقتنع بها وهذا المنحى في التغيير أتخذه الإنبياءعليه‌السلام وأئمة أهل البيتعليه‌السلام طريقاً لهداية الناس .

٣ ـ ان طريق أهل البيتعليه‌السلام كانت له مبادئ ، أهمها : الرحمة بالرعية ، والصفح عن اخطائهم ، وقبول توبتهم ولذلك كان الإمام السجادعليه‌السلام يطمع لندم ذلك الإنسان ويرجو الإعتراف بخطائه ولم يشترط عليه شيء لقبول تلك التوبة ، ودرأ ذلك التقصير .

٤ ـ تفصح الرواية عن جهود السلطة الأموية في كمّ أفواه الناس ، فما أن علموا برواية الشيخ وحديثه مع السجادعليه‌السلام ، حتى أمروا بقتله لأن إطلاع الناس على حقائق الدين والتأريخ ، نذيرٌ بزوال حكمهم .

الثاني : مواجهة الظالم

ولا شك ان مواجهة الحاكام الظالم بعد معركة خاسرة عسكرياً أمرٌ صعب بل مرعب خصوصاً إذا كانت السبايا من النساء والصبيان والمرضى إلاّ ان موقفا زينبعليه‌السلام وزين العابدينعليه‌السلام أمام يزيد الطاغية قد قلبا كل المقاييس .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٧٦ .

٥٠

فقد توقع بنو أمية إذلال السبايا واهانتهم والتشفي منهم ، في وقت غابت عنهم فصاحة أهل البيتعليه‌السلام وحجتهم البالغة القوية وعلى أية حال ، فقد خابت آمال بنو أمية عندما انطلقت زينبعليه‌السلام في خطبتها الفصيحة البليغة تعدد مثالبهم وتكشف انحرافهم عن الاسلام وعن تعاليم القرآن المجيد والسنة النبوية الشريفة بينما أرجع الإمام زين العابدينعليه‌السلام مصيبة كربلاء إلى ظلم بني أمية وإرادتهم ، ذلك الظلم المكتوب في الكتاب قبل ان يبرأ الله عزوجل الخلق .

وبتعبير آخر ، أراد الإمام السجادعليه‌السلام تذكير الناس بان المصائب ومنها مصيبة كربلاء مكتوبة في اللوح المحفوظ ، ذلك الكتاب الذي فيه ما كان وما يكون وما هو كائن الى يوم القيامة فالله عزّ وجلّ يعلم ما في اللوح من آجال ، قبل ان يخلق الخلق وهذا المعنى مستخلص من قوله تعالى في سورة الحديد : (( مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ ) )(١) . فواقعة الطف لم تكن مفاجئة لهمعليه‌السلام بل ان الأحاديث المتواترة تشير إلى انهم كانوا يتنبأون بها قبل وقوعها ، في مناسبات معروفة عديدة .

مع يزيد

ولما أدخل ثقل(٢) الحسينعليه‌السلام ونساؤه برفقة السجادعليه‌السلام على الطاغية يزيد وقد أوثقوهم بالحبال ، ابتدأ الإمامعليه‌السلام خطابه ليزيد : ( ما ظنك بجدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو يرانا على مثل هذه الحالة ؟ ) .

فأمر يزيد بحلّ الوثاق وقال : قبّح الله ابن مرجانة ( عبيدالله بن زياد ) لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا .

ثم دعا يزيد بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسينعليه‌السلام ، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال : ( ويحك يا يزيد أتنكت بقضيبك ثغر الحسين ابن فاطمةعليه‌السلام أشهد لقد رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرشف ثنايا وثنايا أخيه الحسنعليه‌السلام ويقول : أنتما سيدا شباب أهل الجنة ، فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيراً ) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٢ .

(٢) ثقل الرجل : عياله .

٥١

فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأخرج سحباً من المجلس ، وجعل يزيد يتمثل بأبيات ابن الزبعرى :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

خطبة زينب بنت عليعليه‌السلام

فقامت زينب بت علي بن أبي طالبعليه‌السلام وقد ناهزت الخمسين من العمر ، والإمام زين العابدينعليه‌السلام جالس مع السبايا ، فقالت :

(الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه كذلك يقول) :( ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السّوءى‏ أَن كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) )(١) ، أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسرى إن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة ، وإن ذلك

ــــــــــــــــ

(١) سورة الروم : الآية ١٠ .

٥٢

لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوثقة ، والأمور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى :( وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) .

أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حراثرك وإمائك ، وسوقك بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ، ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأذكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ، وكيف ويستبطأ في بغضاء أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنان ، والإحن والأضغان ، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم :

لاهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

منتحياً على ثنايا أبي عبداللهعليه‌السلام سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة وإستأصلت الشأفة باراقتك دماء ذرية محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك ، زعمت إنك تناديهم فلتردن

ــــــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآية ١٧٨ .

٥٣

وشيكاً موردهم ولتودن إنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، وأحلل غضبك بمن سفك دمائنا ، وقتل حماتنا فوالله ما فريت إلا جلدك ، ولا حززت إلا لحمك ، ولتردن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما تحملت من سفك ذريته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم ،( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) )(١) . وحسبك بالله حاكماً وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصيماً وبجبرائيل ظهيراً ، وسيعلم من سوّل لك ومكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً.

ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك لكن العيون عبرى ، والصدور حرى ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد فإلى الله المشتكى وعليه المعول .

ــــــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآية ١٦٩ .

٥٤

فكد كيدك ، وأسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها وهل رأيك إلا فند ، وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تصاغر يزيد :

فقال يزيد بن معاوية :

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون الموت على النوائح

ثم قال يزيد : أية يا علي بن الحسين أبوك الذي قطع رحمي ، وجهل حقي ، ونازعني في سلطاني ، فصنع الله به ما رأيت .

فقال السجادعليه‌السلام : بسم الله الرحمن الرحيم( : مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (١) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الحديد : آية ٢٢ ـ ٢٣ .

٥٥

قال يزيد : بل قل :( وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) (١) فردّ الإمامعليه‌السلام : ( هذا في حق من ظلم ، لا في حق من ظلم ) .

ثم قالعليه‌السلام : ( يا ابن معاوية وهند وصخر لم تنزل النبوة والإمرة إلا لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد ولقد كان جدي علي بن أبي طالب في بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبوك وجدك في أيديهما راية الكفار ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت بأبي وأهل بيته لهربت في الجبال ، وافترشت الرماد ، ودعوت بالويل والثبور ، فابشر بالخزي والندامة إذا اجتمع الناس ليوم الحساب ) .

وفي رواية المسعودي ان يزيد سأل زين العابدينعليه‌السلام : كيف رأيت يا علي بن الحسين ؟ قالعليه‌السلام : ( رأيت ما قضاه الله عز وجل قبل ان يخلق السموات والأرض ) .

فشاور يزيد جلساءه في أمره ، فاشاروا بقتله فابتدر زين العابدينعليه‌السلام الكلام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( يا يزيد لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه ، حيث شاورهم في موسى وهارون ، فانهم قالوا له : ارجه وأخاه وقد أشار هؤلاء عليك بقتلنا ان أولئك كانوا الراشدة ، وهؤلاء لغير رشدك

ــــــــــــــــ

(١) سورة الشورى : آية ٣٠ .

٥٦

 [ ماضون ] ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلا أولاد الأدعياء ) فأمسك يزيد مطرقاً(١)

الثالث : خطبة الإمامعليه‌السلام في مجلس يزيد

ثم أوعز يزيد إلى خطيبٍ من خطباء السوء اعتلاء المنبر ، والنيل من عليعليه‌السلام والحسينعليه‌السلام فقام وبالغ في الذم وأطنب في مدح معاوية ويزيد فانبرى السجادعليه‌السلام مخاطباً : ( ويلك أيها المتكلم اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار ) .

وكان من أدب الإمامعليه‌السلام الجمّ أن يسأل يزيد ، وهو صاحب المجلس على كل حال ، كي يسمح له بالكلام والكلام في المجالس يحتاج إلى إذن فقالعليه‌السلام : ( أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب ) فرفض يزيد في البداية ولكن الحاضرين ـ وهم من خلّص حاشية يزيد ـ أصروا عليه وهم يتوقعون انهعليه‌السلام لا يحسن الخطابة أو هكذا تظاهروا فوافق يزيد فقام الإمامعليه‌السلام ، فقال :

(الحمد لله الذي لا بداية له والدائم الذي لا نفاد له ، والأول الذي لا أولية له ، والآخر الذي لا آخرية له ، والباقي بعد فناء الخلق ،

ــــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية لعلي بن الحسين المسعودي ص ١٤٠ طبعة النجف .

٥٧

قدّر الليالي والأيام ، وقسّم فيما بينها ، فتبارك الله الملك العلام). ثم استطرد في ذلك كثيراً إلى أن قال :

أيها الناس أعطينا ستّاً ، وفضّلنا بسبع أعطينا : العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين وفضّلنا : بأن منّا النبيّ المختار محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد الله وأسد رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا سيدّة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب الجنة .

فمن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي أنا ابن مكة ومنى أنا ابن زمزم والصفا أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء أنا ابن خير من اثتزر وارتدى أنا ابن خير من انتعل واحتفى أنا ابن خير من طاف وسعى أنا ابن خير من حجّ ولبّى أنا ابن من حمل على البراق في الهواء أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى .

أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى أنا ابن من صلّى بملائكة السماء أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن علي المرتضى أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا الله .

أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلّى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين .

أنا ابن صالح المؤمنين ووراث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، رسول رب العالمين أنا ابن المؤيد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل .

أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين .

٥٨

وناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، ولسان حكمة الله ، وعيبة علمه ، سمح سخيّ ، بهلول زكيّ ، أبطحيّ رضيّ مرضيّ ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرق الأحزاب أربطهم عناناً ، وأثبتهم جناناً ، وأجرأهم لساناً ، وأمضاهم عزيمةً ، وأشدّهم شكيمة .

أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب ، اذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنة ، طحن الرحى ويذروهم ذرو الريح الهشيم .

ليث الحجاز ، وصاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنص والستحقاق مكيّ مدنيّ ، أبطحيّ تهامي ، خيفيّ عقبي ، بدري أحدي ، شجري مهاجري من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها وارث المشعرين ، وأبو السبطين الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ، غالب كلّ غالب ، ذاك جدي علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

أنا ابن فاطمة الزهراء أنا ابن سيدة النساء أنا ابن الطهر البتول أنا ابن بضعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا ابن المزمّل بالدماء أنا ابن ذبيح كربلاء أنا ابن من بكى عليه الجنّ في الظلماء ، وناحت عليه الطير في الهواء ( .

ولم يزلعليه‌السلام يقول : أنا ، أنا حتى ضج الناس بالبكاء ، وخشي يزيد من وقوع الفتنة ، فأمر المؤذن حتى يقطع على الإمامعليه‌السلام كلامه .

فصاح المؤذن : ( الله اكبر ) فالتفت إليه الإمامعليه‌السلام فقال له : (كبّرت كبيراً لا يقاس ، ولا يدرك بالحواسّ ، لا شيء أكبر من الله ) فلما قال المؤذن : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) قال علي بن الحسين : ( شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخّي وعظمي ) ولما قال المؤذن : ( أشهد أن محمداً رسول الله ) التفت الإمامعليه‌السلام الى يزيد فقال له : ( يا يزيد ، محمد هذا جدي أم جدك ؟ فإن زعمت أنه جدّك فقد كذبت وإن قلت : إنه جدّي فم قتلت عترته ) ولم يجر يزيد جواباً لأن جدّ السجادعليه‌السلام هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجدّ يزيد هو ابو سفيان عدو الإسلام الذي ما قال الشهادتين إلا حقناً لدمه .

٥٩

دلالات خطبة السجادعليه‌السلام :

١ ـ كان الإمام السجادعليه‌السلام في غاية الأدب وسمو الخلق عندما طلب الإذن بالتحدث وهو سجين مظلوم ، وكان يستطيع ان يصرخ بوجه الطغاة دون إذن إلا انها أخلاق الإمامة ، ومشاعر أبناء الأنبياءعليه‌السلام .

٢ ـ وصف الإمامعليه‌السلام الكرسي الذي يجلس عليه الخطيب بالأعواد لا المنبر ، لأن المنبر مكان شريف يجلس عليه الأولياء المتقون والأعواد يجلس عليها الصالح والطالح وقد صعد على تلك الأعواد آنفاً خطيب من خطباء السوء .

٣ ـ أجملت الخطبة كل إنجازات أهل البيتعليه‌السلام تحت إمرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيادته ، وأجملت تضحياتهم في سبيل الدين ، وعلو منزلتهم ، وعظيم دورهم في بناء الإسلام في نفوس الناس وظهور البيان وفصاحته اغنانا عن التفصيل .

٤ ـ أظهرت الرواية بلاغة السجادعليه‌السلام وجرأته وهو لا يزال في مقتبل العشرينات من عمره الزاخر بالعطاء الفكري والروحي والتشريعي .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413