الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 250564 / تحميل: 14283
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه ، إذ بحثه يستلزم النظر فى الأدلة الكونية ، والبراهين العقلية ، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.

(3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد ، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها ، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة ، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله ، والوقوف عند فهم المحكم ، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده ، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة ، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ».

( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة ، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هى الأصول ، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها ، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب : إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغى للعقلاء أن يعتبروه.

ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال :

( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية ، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر ، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ، فيخافون أن يقعوا فى الخطأ ، والخطأ قرين الخطر.

وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» قلت : يا رسول الله

١٠١

ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال : «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».

( رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به ، لأنك أخبرت به وقولك الحق ، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه ، وأنت لا تخلف وعدك.

وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه ، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم ، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) )

تفسير المفردات

تغنى : أي تنفع ، وقود (بفتح الواو) أي حطب ونحوه ، والدأب : العادة ؛ من دأب على العمل إذا جدّ فيه وتعب ، ثم غلب في العادة ، والمهاد : الفراش ، يقال مهدّ الرجل المهاد إذا بسطه ، والآية : العلامة على صدق ما يقول الرسول.

١٠٢

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد ، وذكر الكتب الناطقة به ، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به ـ شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود ، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه ، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد ، وأرشد إلى أنها لا تغنى عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا ، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة ، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم ، فيتوهمون الاستغناء عن الحق ، ويتبعون الهوى.

وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق ، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون ، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم ، فالله لا يحابى ولا يظلم وهو شديد العقاب.

الإيضاح

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من بنى إسرائيل أم من كفار العرب ـ لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار ، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهامّ أمورهم ويعوّلون عليهم فى الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا ، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، فردّ الله عليهم بقوله : «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً » وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

١٠٣

ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حلّ بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال :

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بشريعته ، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ، ودأب من قبلهم من الأمم ، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم ، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا ، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.

ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال :

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ) المراد بالكافرين هنا اليهود لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمى الذي بشرنا به موسى ، وفي التوراة نعته وهمّوا باتباعه ، فقال بعضهم : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى ، فلما كان يوم أحد شكّوا ، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش ، فقالوا له : لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس فنزلت.

أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي ، وتساقون فى الآخرة إلى جهنم سوقا ، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم.

وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بنى قريظة الخائنين ، وأجلوا بنى النّضير المنافقين ، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.

١٠٤

ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال :

( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم : لا تغرنكم كثرة العدد ، ولا المال والولد ، فليس هذا سبيل النصر والغلب ، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.

انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر ، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوى البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها ، لا لمثل من نعتهم الله بقوله : «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».

ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى ، وقوله( تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ترشد إلى السر في هذا الفوز ، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله ، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة ، وما أمكنها من تدبير واستعداد ، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده ، يرشد إلى هذا قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم ، وبالطاعة لرسوله ، وكان هو القائد في تلك الواقعة ـ واقعة بدر ـ وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.

وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم ، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة ، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله ، فنصرهم وفاء بوعده «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».

١٠٥

وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات ، ولما خالفوا ما أمروا به غزوة أحد نزل بهم ما نزل ، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر.

وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا ، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين على بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لمرثد بن أبي مرثد ، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف ، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا ، رأسهم عقبة بن ربيعة ، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير ، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدّا.

ومعنى قوله( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أن المشركين رأوا المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ـ وكانوا نحو ثلاثمائة ـ أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة ، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ».

ومعنى قوله (رأى العين) أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء كسائر المرئيات والمشاهدات.

( وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ) أي والله يقوّى بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.

١٠٦

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) )

تفسير المفردات

الشهوات : واحدة شهوة وهى رغبة النفس في الحصول ، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه ، والأنعام واحدها نعم وهى الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة ، والمسوّمة : هى التي ترعى في الأودية والقيعان ، والحرث : الزرع والنبات.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات ، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم ، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغى أن تجعل هى غاية الحياة ، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها ، والوسيلة لكسب السعادة فيها.

الإيضاح

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ) معنى تزيين حب الشهوات للناس ، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة ، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه ، وهذا أقصى مراتب الحب ، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارّا ، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به ، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شيئا لا زينا ، وضارّا لا نافعا ، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه ، ومن أحب شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عنه يوما ما ، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.

١٠٧

المعنى ـ إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » وقال : «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ».

وقد يسند التزيين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى : «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ».

ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال :

( مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ) .

(فأولها) النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار ، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدّهم وجدّهم ، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن ، فإسرافهم في حبهنّ له الأثر العظيم فى شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.

وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلوّ والإسراف كحب المرأة ، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده ، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملّوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة ، وكم من غنىّ عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر ، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم ، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها.

(وثانيها) البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى : «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ » وفي الحديث «الولد مجبنة مبخلة».

والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهى تسلسل النسل وبقاء النوع ، وهى حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.

١٠٨

وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها :

(1) أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل ، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس.

(2) أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر.

(3) أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.

(4) الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى.

(وثالثها) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد ، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل ، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم ، وقيل هى المنضدة في وضعها.

وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان ، والتي تشغل القلب للتمتع بها ، وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.

ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم ، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين ، انظر إلى قوله تعالى : «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ».

وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم ، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب ، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات ، ورغبات الإنسان غير محدودة ، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر ، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها ، وما وصل إلى غاية فى جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها ، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن

١٠٩

المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة ، والطرق التي تعنّ له ، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب».

ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن ، بل عن حقوق من يعاملهم ، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم ، بل عن أنفسهم ، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته ، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه ، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال. ومن ثم قالوا : المال ميّال.

(ورابعها) الخيل المسوّمة التي ترعى في الأودية ، يقال سام الدابة : رعاها ، وأسامها : أخرجها إلى المرعى ، كما قال تعالى : «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ».

وقال ابن جرير : المسوّمة : المعلّمة من السّومة وهى العلامة. قال النابغة :

بسمر كالقداح مسوّمات

عليها معشر أشباه جنّ

وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة ، والمعلمة المطهّمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء ـ من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون ، حتى لقد يتغالى بعضهم فى ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.

(وخامسها) الأنعام وهى مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم ، وبها تفاخرهم وتكاثرهم ، وقد امتنّ الله بها على عباده بقوله : «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».

١١٠

(وسادسها) الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر ، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة ، والانتفاع به أتمّ منها لكنه أخر عنها ، لأنه لما عمّ الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل ، وقلما يكون الانتفاع به صادّا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق.

وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء ، فلا يستغنى عنهما حىّ من الأحياء ، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما.

( ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) المتاع ما يتمتع به ، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع ، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية ، ويجعلونه وسيلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زيّن لهم حبها في عاجل دنياهم ، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغى لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل.

فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه ، والشغل الشاغل له عن آخرته ، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال : «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ».

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا

١١١

وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17))

تفسير المفردات

النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات ، والتقوى : هى الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه ، والمطهرة : الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان (بضم الراء وكسرها) الرضا ، والصبر : حبس النفس عند كل مكروه يشقّ عليها احتماله ، والصدق يكون في القول والعمل والوصف ؛ يقال فلان صادق في قوله ، وصادق في عمله ، وصادق في حبه ، والقانتين : أي المداومين على الطاعة والعبادة ، والمستغفرين بالأسحار : أي المصلّين وقت السحر.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها ، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا ـ أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.

الإيضاح

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ) أي قل لقومك وغيرهم : أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره ، وجىء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه.

وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها ، ولا شك في ذلك إذ هى من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس ، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها ، فما مثل المسرف في حب النساء حتى

١١٢

يعطى امرأته حق غيرها ، أو يهمل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله فى استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم ، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هى في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة.

ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة ، ويرخص السعر ويفى بالوعد؟ هو فلان فقال :

( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء.

أحدهما جسمانى وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات ، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا.

وثانيهما روحاني عقلى وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب ، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.

وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا.

فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر ، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جرّ بها في الدنيا ، ففى مثلها يرغب.

ومنهم من ارتقى إدراكه ، وعظم قربه من ربه ، فيتمنى رضاه ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.

وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى : «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » وقوله : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ (الزراع)نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ».

١١٣

( وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) أي إنه تعالى هو البصير بعباده ، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم ، العليم بسرهم ونجواهم ، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم ، وهو المجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى ، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيا ، وإنما المتقى من يعلم منه ربه التقوى.

ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم ، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال :

( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) أي إن الذين اتقوا معاصى الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين : ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينيا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول ، ثم تقفو التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك : «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقولك «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها ، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرّحيم.

وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة ، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.

والخلاصة ـ إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به ـ هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات ، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف ، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.

١١٤

ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم ، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال :

( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ) أي إن المتقين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهى :

(1) الصبر وأكمل أنواعه : الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات ، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر ، فهو الذي يثبّت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة ، وهو الحافظ لشرف الإنسان فى الدنيا عند المكاره ، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدى المطامع.

وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.

(2) الصدق وهو منتهى الكمال ، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى : «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ».

(3) القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبّ العبادة وروحها ، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.

(4) الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين ، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة ، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.

(5) الاستغفار بالأسحار : أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام ، وتكون النفس فيه أصفى ، والقلب أفرغ من الشواغل.

والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح ، والعمل وفق حدود الدين ، ولا يكفى الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر ، فإن المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربه ، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه ، أو غرّ في معاملته لربه ، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله : إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

١١٥

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) )

تفسير المفردات

يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال : «ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ » وقال «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية ، وإما بالمشاهدة المعنوية وهى الحجة والبرهان ، وأولو العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع ، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة ، بالقسط : أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة. والدين له في اللغة عدة معان : منها الجزاء ، والطاعة والخضوع ، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله ـ وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس ، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع ، وملة باعتبار أنها أملّت وكتبت ـ والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام ، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه ، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة ، وتسمية الدين الحق إسلاما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ

١١٦

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » وحاجوك : جادلوك ، وأسلمت : أي أخلصت ، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة ، البلاغ : أي التبليغ للناس.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين ، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء ـ ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.

الإيضاح

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) أي بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس ، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك ، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات ، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج ، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه.

وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد ، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به ، والعدل في العبادات والآداب والأعمال ، فعدل بين القوى الروحية والبدنية ، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس ، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته ، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وقوله «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ».

كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل ، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.

١١٧

فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى ، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.

ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله :

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة ، والحكمة إيماء إلى كمال العلم ، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال ، والعدالة لا تكمل إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال ، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ، ولا يخرج من الخليقة شىء عن حكمته البالغة.

ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعوّل في كل دين فقال :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع ، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال ، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك ، مخلصا فى أعماله مع الإيمان من أىّ ملة كان ، وفي أي زمان وجد ، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ».

ذاك أن الله شرع الدين لأمرين :

(1) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.

(2) إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس.

وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره ، ولا يجزى إلا به.

١١٨

وخطب على كرم الله وجهه قال : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ، ولم يأخذه عن رأيه ، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، والكافر يعرف كفره بإنكاره ، أيها الناس دينكم دينكم ، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، إن السيئة فيه تغفر ، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا ، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين ـ والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء ، ولو لا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأى والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف.

والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا ، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض. فآريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشوّ الشرك ، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها ، ولما انتشرت تعاليمه فيما بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون رومانى صدر سنة 628 م ، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا.

والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا ، ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون ، وتفرقنا طرائق قددا ، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئنّ منه ، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته ، ويمدنا بروح من عنده ؛ فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق ، والعودة إلى الوحدة والاتفاق ، حتى يعود

١١٩

المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، ومن تبعهم بإحسان.

( وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ، ويترك الإذعان لها ـ فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات ، والله سريع الحساب.

والمراد بآيات الله هنا هى آياته التكوينية في الأنفس والآفاق ، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.

( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم ـ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه فى دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له ـ بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات ، وجئتهم بالحق ـ فقل لهم : أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له ، معرضا عما سواه ، أنا ومن اتبعنى من المؤمنين.

والخلاصة ـ إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة ، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد ، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.

( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ ) أي وقل لليهود والنصارى ومشركى العرب ـ وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة ، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة ـ أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة ، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه ، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟

ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل ، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه ، ثم يقول له : أفهمتها؟

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

المناجاة الخامسة : مناجاة الراغبين

بسم الله الرحمن الرحيم إلهِي إنْ كانَ قَلَّ زادِي فِي الْمَسِيرِ إلَيْكَ، فَلَقَدْ حَسُنَ ظَنِّي بِالتَّوَكُّلِ عَلَيْكَ، وَإنْ كَانَ جُرْمِي قَدْ أَخافَنِي مِنْ عُقُوبَتِكَ، فَإنَّ رَجآئِي قَدْ أَشْعَرَنِي بِالاَمْنِ مِنْ نِقْمَتِكَ، وَإنْ كانَ ذَنْبِي قَدْ عَرَّضَنِي لِعِقابِكَ، فَقَدْ آذَنَنِي حُسْنُ ثِقَتِي بِثَوابِكَ، وَإنْ أَنامَتْنِي الْغَفْلَةُ عَنِ الاسْتِعْدادِ لِلِقآئِكَ، فَقَدْ نَبَّهَتْنِي الْمَعْرِفَةُ بِكَرَمِكَ وَآلائِكَ، وَإنْ أَوْحَشَ ما بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَرْطُ الْعِصْيانِ وَالطُّغْيانِ، فَقَدْ آنَسَنِي بُشْرَى الْغُفْرانِ وَالرِّضْوانِ، أَسْأَلُكَ بِسُبُحاتِ وَجْهِكَ وَبِأَنْوارِ قُدْسِكَ، وَأَبْتَهِلُ إلَيْكَ بِعَوَاطِفِ رَحمَتِكَ وَلَطائِفِ بِرِّكَ، أَنْ تُحَقِّقَ ظَنِّي بِما أُؤمِّلُهُ مِنْ جَزِيلِ إكْرامِكَ، وَجَمِيلِ إنْعامِكَ فِي الْقُرْبى مِنْكَ، وَالزُّلْفى لَدَيْكَ، وَالتَّمَتُّعِ بِالنَّظَرِ إلَيْكَ، وَها أَنَا مُتَعَرِّضٌ لِنَفَحاتِ رَوْحِكَ وَعَطْفِكَ، وَمُنْتَجِعٌ غَيْثَ جُودِكَ وَلُطْفِكَ، فَارٌّ مِنْ سَخَطِكَ إلى رِضاكَ، هارِبٌ مِنْكَ إلَيْكَ، راج أَحْسَنَ ما لَدَيْكَ مُعَوِّلٌ عَلى مَواهِبِكَ، مُفْتَقِرٌ إلى رِعايَتِكَ.

إلهِي ما بَدَأْتَ بِهِ مِنْ فَضْلِكَ فَتَمِّمْهُ، وَما وَهَبْتَ لِي مِنْ كَرَمِكَ فَلا تَسْلُبْهُ، وَما سَتَرْتَهُ عَلَيَّ بِحِلْمِكَ فَلا تَهْتِكْهُ، وَما عَلِمْتَهُ مِنْ قَبِيحِ فِعْلِي فَاغْفِرْهُ.

إلهِي اسْتَشْفَعْتُ بِكَ إلَيْكَ وَاسْتَجَرْتُ بِكَ مِنْكَ أَتَيْتُكَ طامِعَاً فِي إحْسانِكَ، راغِباً فِي امْتِنانِكَ، مُسْتَسْقِياً وابِلَ طَوْلِكَ مُسْتَمْطِراً غَمامَ فَضْلِكَ، طالِباً مَرْضاتِكَ، قاصِدَاً جَنابَكَ، وارِداً شَرِيعَةَ رِفْدِكَ، مُلْتَمِساً سَنِيَّ الْخَيْراتِ مِنْ عِنْدِكَ، وافِدَاً إلى حَضْرَةِ جَمالِكَ، مُرِيداً وَجْهَكَ، طارِقاً بابَكَ، مُسْتَكِيناً لِعَظَمَتِكَ وَجَلالِكَ، فَافْعَلْ بِي ما أَنْتَ أَهْلُهُ مِنَ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، وَلا تَفْعَلْ بِي ما أَنَا أَهْلُهُ مِنَ الْعَذابِ وَالنِّقْمَةِ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

٣٤١

المناجاة السادسة : مناجاة الشاكرين

بسم الله الرحمن الرحيم إلهِي أَذْهَلَنِي عَنْ إقامَةِ شُكْرِكَ تَتابُعُ طَوْلِكَ، وَأَعْجَزَنِي عَنْ إحْصآءِ ثَنآئِكَ فَيْضُ فَضْلِكَ، وَشَغَلَنِي عَنْ ذِكْرِ مَحامِدِكَ تَرادُفُ عَوآئِدِكَ، وَأَعْيانِي عَنْ نَشْرِ عوارِفِكَ تَوالِي أَيدِيكَ، وَهذَا مَقامُ مَنِ اعْتَرَفَ بِسُبُوغِ النَّعْمآءِ، وَقابَلَها بِالتَّقْصِيرِ، وَشَهِدَ عَلى نَفْسِهِ بِالاهْمالِ وَالتَّضْيِيعِ، وَأَنْتَ الرَّؤُوفُ الرَّحِيمُ الْبَرُّ الْكَرِيمُ، الَّذِي لا يُخَيِّبُ قاصِدِيهِ، وَلا يَطْرُدُ عَنْ فِنآئِهِ آمِلِيهِ، بِساحَتِكَ تَحُطُّ رِحالُ الرَّاجِينَ، وَبِعَرْصَتِكَ تَقِفُ آمالُ الْمُسْتَرْفِدِينَ، فَلا تُقابِلْ آمالَنا بِالتَّخْيِيبِ وَالاياسِ، وَلا تُلْبِسْنا سِرْبالَ الْقُنُوطِ وَالاِبْلاسِ.

إلهِي تَصاغَرَ عِنْدَ تَعاظُمِ آلائِكَ شُكْرِي، وَتَضَاءَلَ فِي جَنْبِ إكْرَامِكَ إيَّايَ ثَنآئِي وَنَشْرِي، جَلَّلَتْنِي نِعَمُكَ مِنْ أَنْوَارِ الاِيْمانِ حُلَلاً، وَضَرَبَتْ عَلَيَّ لَطآئِفُ بِرِّكَ مِنَ الْعِزِّ كِلَلاً، وَقَلَّدْتَنِي مِنْكَ قَلائِدَ لا تُحَلُّ، وَطَوَّقْتَنِي أَطْوَاقَاً لا تُفَلُّ، فَآلاؤُكَ جَمَّةٌ ضَعُفَ لِسانِي عَنْ إحْصائِها، وَنَعْمآؤُكَ كَثِيرَةٌ قَصُرَ فَهْمِي عَنْ إدْرَاكِها فَضْلاً عَنِ اسْتِقْصآئِها، فَكَيْفَ لِي بِتَحْصِيلِ الشُّكْرِ، وَشُكْرِي إيَّاكَ يَفْتَقِرُ إلى شُكْر، فَكُلَّما قُلْتُ: لَكَ الْحَمْدُ، وَجَبَ عَلَيَّ لِذلِكَ أَنْ أَقُولَ: لَكَ الْحَمْدُ.

إلهِي فَكَما غَذَّيْتَنا بِلُطْفِكَ، وَرَبَّيْتَنا بِصُنْعِكَ، فَتَمِّمْ عَلَيْنَا سَوابِـغَ النِّعَمِ، وَادْفَعْ عَنَّا مَكارِهَ النِّقَمِ، وَآتِنا مِنْ حُظُوظِ الدَّارَيْنِ أَرْفَعَهَا وَأَجَلَّها عاجِلاً وَآجِلاً، وَلَكَ الْحَمْدُ عَلى حُسْنِ بَلاَئِكَ وَسُبُوغِ نَعْمآئِكَ حَمْدَاً يُوافِقُ رِضاكَ، وَيَمْتَرِي الْعَظِيمَ مِنْ بِرِّكَ وَنَداكَ، يا عَظِيمُ يا كَرِيمُ، بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

٣٤٢

المناجاة السابعة : مناجاة المطيعين للهِ

بسم الله الرحمن الرحيم أَللَّهُمَّ أَلْهِمْنا طاعَتَكَ، وَجَنِّبْنا مَعْصِيَتَكَ، وَيَسِّرْ لَنا بُلُوغَ ما نَتَمَنّى مِنِ ابْتِغآءِ رِضْوانِكَ، وَأَحْلِلْنا بُحْبُوحَةَ جِنانِكَ، وَاقْشَعْ عَنْ بَصائِرنا سَحابَ الارْتِيابِ، وَاكْشِفْ عَنْ قُلُوبِنا أَغْشِيَةَ الْمِرْيَةِ وَالْحِجابِ، وَأَزْهِقِ الْباطِلَ عَنْ ضَمآئِرِنا، وَأَثْبِتِ الْحَقَّ فِي سَرائِرِنا، فَإنَّ الشُّكُوكَ وَالظُّنُونَ لَواقِحُ الْفِتَنِ، وَمُكَدِّرَةٌ لِصَفْوِ الْمَنآئِحِ وَالْمِنَنِ.

أَللَّهُمَّ احْمِلْنا فِي سُفُنِ نَجاتِكَ، وَمَتِّعْنا بِلَذِيْذِ مُناجاتِكَ، وَأَوْرِدْنا حِياضَ حُبِّكَ، وَأَذِقْنا حَلاوَةَ وُدِّكَ وَقُرْبِكَ، وَاجْعَلْ جِهادَنا فِيكَ، وَهَمَّنا فِي طاعَتِكَ، وَأَخْلِصْ نِيَّاتِنا فِي مُعامَلَتِكَ، فَإنَّا بِكَ وَلَكَ، وَلا وَسِيلَةَ لَنا إلَيْكَ إلاَّ أَنْتَ.

إلهِي اجْعَلْنِي مِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الاَخْيارِ، وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ الاَبْرارِ، السَّابِقِينَ إلَى الْمَكْرُماتِ، الْمسارِعِينَ إلَى الْخَيْراتِ، الْعامِلِينَ لِلْباقِياتِ الصَّالِحاتِ، السَّاعِينَ إلى رَفِيعِ الدَّرَجاتِ، إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ، وَبِالاجابَةِ جَدِيرٌ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

٣٤٣

المناجاة الثامنة : مناجاة المريدين

بسم الله الرحمن الرحيم سُبْحانَكَ ما أَضْيَقَ الطُّرُقَ عَلى مَنْ لَمْ تَكُنْ دَلِيلَهُ! وَما أَوْضَحَ الْحَقَّ عِنْدَ مَنْ هَدَيْتَهُ سَبِيلَه!

إلهِي فاسْلُكْ بِنا سُبُلَ الْوُصُولِ إلَيْكَ، وَسَيِّرْنا فِي أَقْرَبِ الطُّرُقِ لِلْوُفُودِ عَلَيْكَ، قَرِّبْ عَلَيْنَا الْبَعِيدَ، وَسَهِّلَ عَلَيْنَا الْعَسِيرَ الشَّدِيدَ، وَأَلْحِقْنا بِعِبادِكَ الَّذِينَ هُمْ بِالْبِدارِ إلَيْكَ يُسارِعُونَ، وَبابَكَ عَلَى الدَّوامِ يَطْرُقُونَ، وَإيَّاكَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ يَعْبُدُونَ، وَهُمْ مِنْ هَيْبَتِكَ مُشْفِقُونَ، الَّذِينَ صَفَّيْتَ لَهُمُ الْمَشارِبَ، وَبَلَّغْتَهُمُ الرَّغآئِبَ، وَأَنْجَحْتَ لَهُمُ الْمَطالِبَ، وَقَضَيْتَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِكَ الْمَآرِبَ، وَمَلاْتَ لَهُمْ ضَمآئِرَهُمْ مِنْ حُبِّكَ وَرَوَّيْتَهُمْ مِنْ صافِي شِرْبِكَ، فَبِكَ إلى لَذِيذِ مُناجاتِكَ وَصَلُوا، وَمِنْكَ أَقْصى مَقاصِدِهِمْ حَصَّلُوا، فَيا مَنْ هُوَ عَلَى الْمُقْبِلِينَ عَلَيْهِ مُقْبِلٌ، وَبِالْعَطْفِ عَلَيْهِمْ عآئِدٌ مُفْضِلٌ، وَبِالْغافِلِينَ عَنْ ذِكْرِهِ رَحِيمٌ رَؤُوفٌ، وَبِجَذْبِهمْ إلى بابِهِ وَدُودٌ عَطُوفٌ، أَسْأَلُكَ أَنْ تَجْعَلَنِي مِنْ أَوْفَرِهِمْ مِنْكَ حَظّاً، وَأَعْلاهُمْ عِنْدَكَ مَنْزِلاً، وَأَجْزَلِهِمْ مِنْ وُدِّكَ قِسَماً، وَأَفْضَلِهِمْ فِي مَعْرِفَتِكَ نَصِيباً، فَقَدِ انْقطَعَتْ إلَيْكَ هِمَّتِي، وَانْصَرَفَتْ نَحْوَكَ رَغْبَتِي، فَأَنْتَ لاَ غَيْرُكَ مُرادِي، وَلَكَ لا لِسِواكَ سَهَرِي وَسُهادِي، وَلِقاؤُكَ قُرَّةُ عَيْني، وَوَصْلُكَ مُنى نَفْسِي، وَإلَيْكَ شَوْقِي، وَفِي مَحَبَّتِكَ وَلَهِي، وَإلى هَواكَ صَبابَتِي، وَرِضاكَ بُغْيَتي، وَرُؤْيَتُكَ حاجَتِي، وَجِوارُكَ طَلَبِي، وَقُرْبُكَ غايَةُ سُؤْلِي، وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَراحَتِي، وَعِنْدَكَ دَوآءُ عِلَّتِي، وَشِفآءُ غُلَّتِي، وَبَرْدُ لَوْعَتِي، وَكَشْفُ كُرْبَتِي. فَكُنْ أَنِيْسِي فِي وَحْشَتِي، وَمُقِيلَ عَثْرَتِي، وَغافِرَ زَلَّتِي، وَقابِلَ تَوْبَتِي، وَمُجِيبَ دَعْوَتِي، وَوَلِيَّ عِصْمَتِي، وَمُغْنِيَ فاقَتِي، وَلا تَقْطَعْنِي عَنْكَ، وَلا تُبْعِدْنِي مِنْكَ يا نَعِيمِي وَجَنَّتِي، وَيا دُنْيايَ وَآخِرَتِي، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

٣٤٤

المناجاة التاسعة : مناجاة المحبّين

بسم الله الرحمن الرحيم إلهِي مَنْ ذَا الَّذِي ذَاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ، فَرامَ مِنْكَ بَدَلاً؟ وَمَنْ ذَا الَّذِي أَنِسَ بِقُرْبِكَ، فَابْتَغَى عَنْكَ حِوَلاً؟

إلهِي فَاجْعَلْنا مِمَّنِ اصْطَفَيْتَهُ لِقُرْبِكَ وَوِلايَتِكَ، وَأَخْلَصْتَه لِوُدِّكَ وَمَحَبَّتِكَ، وَشَوَّقْتَهُ إلى لِقَآئِكَ، وَرَضَّيْتَهُ بِقَضآئِكَ، وَمَنَحْتَهُ بِالنَّظَرِ إلى وَجْهِكَ، وَحَبَوْتَهُ بِرِضاكَ، وَأَعَدْتَهُ مِنْ هَجْرِكَ وَقِلاكَ، وَبَوَّأْتَهُ مَقْعَدَ الصِّدْقِ فِي جَوارِكَ، وَخَصَصْتَهُ بِمَعْرِفَتِكَ، وَأَهَّلْتَهُ لِعِبادَتِكَ، وَهَيَّمْتَ قَلْبَهُ لارادَتِكَ، وَاجْتَبَيْتَهُ لِمُشاهَدَتِكَ، وَأَخْلَيْتَ وَجْهَهُ لَكَ، وَفَرَّغْتَ فُؤادَهُ لِحُبِّكَ، وَرَغَّبْتَهُ فِيمَا عِنْدَكَ، وَأَلْهَمْتَهُ ذِكْرَكَ، وَأَوْزَعْتَهُ شُكْرَكَ، وَشَغَلْتَهُ بِطاعَتِكَ، وَصَيَّرْتَهُ مِنْ صالِحِي بَرِيَّتِكَ، وَاخْتَرْتَهُ لِمُناجاتِكَ، وَقَطَعْتَ عَنْهُ كُلَّ شَيْء يَقْطَعُهُ عَنْكَ.

أَللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ دَأْبُهُمُ الارْتِياحُ إلَيْكَ وَالْحَنِينُ، وَدَهْرُهُمُ الزَّفْرَةُ وَالاَنِينُ، جِباهُهُمْ سَاجِدَةٌ لِعَظَمَتِكَ، وَعُيُونُهُمْ ساهِرَةٌ فِي خِدْمَتِكَ، وَدُمُوُعُهُمْ سآئِلَةٌ مِنْ خَشْيَتِكَ، وَقُلُوبُهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحَبَّتِكَ، وَأَفْئِدَتُهُمْ مُنْخَلِعَةٌ مِنْ مَهابَتِكَ، يامَنْ أَنْوارُ قُدْسِهِ لاَِبْصارِ مُحِبِّيهِ رآئِقَةٌ، وَسُبُحاتُ وَجْهِهِ لِقُلُوبِ عارِفيهِ شآئِقَةٌ، يا مُنى قُلُوبِ الْمُشْتاقِينَ، وَيا غَايَةَ آمالِ الْمُحِبِّينَ أَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ كُلِّ عَمَل يُوصِلُنِي إلى قُرْبِكَ، وَأَنْ تَجْعَلَكَ أَحَبَّ إلَيَّ مِمَّا سِواكَ وَأَنْ تَجْعَلَ حُبِّي إيَّاكَ قآئِداً إلى رِضْوانِكَ، وَشَوْقِي إلَيْكَ ذآئِداً عَنْ عِصْيانِكَ، وَامْنُنْ بِالنَّظَرِ إلَيْكَ عَلَيَّ، وَانْظُرْ بِعَيْنِ الْوُدِّ وَالْعَطْفِ إلَيَّ، وَلا تَصْرِفْ عَنِّي وَجْهَكَ، وَاجْعَلْنِي مِنْ أَهْلِ الاِسْعادِ وَالْحُظْوَةِ عِنْدَكَ، يا مُجِيبُ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

٣٤٥

المناجاة العاشرة : مناجاة المتوسّلين

بسم الله الرحمن الرحيم إلهِي لَيْسَ لِي وَسِيلَةٌ إلَيْكَ إلاَّ عَواطِفُ رَأفَتِكَ، وَلا لِي ذَرِيعَةٌ إلَيْكَ إلاَّ عَوارِفُ رَحْمَتِكَ، وَشَفاعَةُ نَبِيِّكَ نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، وَمُنْقِذِ الاُمَّةِ مِنَ الْغُمَّةِ، فَاجْعَلْهُما لِي سَبَباً إلى نَيْلِ غُفْرانِكَ، وَصَيِّرْهُمَا لِي وُصْلَةً إلَى الْفَوْزِ بِرِضْوانِكَ، وَقَدْ حَلَّ رَجآئِي بِحَرَمِ كَرَمِكَ، وَحَطَّ طَمَعِي بِفِنآءِ جُودِكَ. فَحَقِّقْ فِيكَ أَمَلِيْ وَاخْتِمْ بِالْخَيْرِ عَمَلِي، وَاجْعَلْنِي مِنْ صَفْوَتِكَ الَّذِينَ أَحْلَلْتَهُمْ بُحْبُوحَةَ جَنَّتِكَ، وَبَوَّأْتَهُمْ دارَ كَرامَتِكَ وَأَقْرَرْتَ أَعْيُنَهُمْ بِالنَّظَرِ إلَيْكَ يَوْمَ لِقآئِكَ، وَأَوْرَثْتَهُمْ مَنازِلَ الصِّدْقِ فِي جِوارِكَ.

يامَنْ لا يَفِدُ الْوافِدُونَ عَلى أَكْرَمَ مِنْهُ، وَلا يَجِدُ الْقاصِدُونَ أَرْحَمَ مِنْهُ، يا خَيْرَ مَنْ خَلا بِهِ وَحِيدٌ، وَيا أَعْطَفَ مَنْ أَوى إلَيْهِ طَرِيدٌ، إلى سَعَةِ عَفْوِكَ مَدَدْتُ يَدِي وَبِذَيْلِ كَرَمِكَ أَعْلَقْتُ كَفِّي، فَلا تُولِنِي الْحِرْمانَ، وَلا تُبْلِنِي بِالْخَيْبَةِ وَالْخُسْرانِ، يا سَمِيعَ الدُّعآءِ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

المناجاة الحادية عشرة : مناجاة المفتقرين

بسم الله الرحمن الرحيم إلهِي كَسْرِي لا يَجْبُرُهُ إلاَّ لُطْفُكَ وَحَنانُكَ، وَفَقْرِي لا يُغْنِيهِ إلاَّ عَطْفُكَ وَإحْسانُكَ، وَرَوْعَتِي لا يُسَكِّنُهَا إلاَّ أَمانُكَ، وَذِلَّتِي لا يُعِزُّها إلاَّ سُلْطانُكَ، وَأُمْنِيَّتِي لا يُبَلِّغُنِيها إلاَّ فَضْلُكَ، وَخَلَّتِي لا يَسُدُّها إلاَّ طَوْلُكَ، وَحاجَتِي لا يَقْضِيها غَيْرُكَ، وَكَرْبِي لاَ يُفَرِّجُهُ سِوى رَحْمَتِكَ، وَضُرِّي لا يَكْشِفُهُ غَيْرُ رَأْفَتِكَ، وَغُلَّتِي لا يُبَرِّدُها إلاَّ وَصْلُكَ، وَلَوْعَتِي لا يُطْفِيها إلاَّ لِقآؤُكَ، وَشَوْقِي إلَيْكَ لا يَبُلُّهُ إلاَّ النَّظَرُ إلى وَجْهِكَ، وَقَرارِي لا يَقِرُّ دُونَ دُنُوِّي مِنْكَ، وَلَهْفَتِي لاَ يَرُدُّها إلاَّ رَوْحُكَ، وَسُقْمِي لا يَشْفِيهِ إلاَّ طِبُّكَ، وَغَمِّي لا يُزِيلُهُ إلاَّ قُرْبُكَ، وَجُرْحِي لا يُبْرِئُهُ إلاَّ صَفْحُكَ، وَرَيْنُ قَلْبِي لا يَجْلُوهُ إلاَّ عَفْوُكَ، وَوَسْواسُ صَدْرِي لا يُزِيحُهُ إلاَّ أَمْرُكَ.

٣٤٦

فَيا مُنْتَهى أَمَلِ الامِلِينَ، وَيا غايَةَ سُؤْلِ السَّآئِلِينَ، وَيا أَقْصى طَلِبَةِ الطَّالِبِينَ، وَيا أَعْلَى رَغْبَةِ الرَّاغِبِينَ، وَيا وَلِيَّ الصَّالِحِينَ، وَيا أَمانَ الْخآئِفِينَ، وَيا مُجِيبَ دَعْوَةِ الْمُضْطَرِّينَ، وَيا ذُخْرَ الْمُعْدِمِينَ، وَيا كَنْزَ الْبآئِسِينَ، وَيا غِياثَ الْمُسْتَغيثِينَ، وَيا قَاضِيَ حَوائِجَ الْفُقَرآءِ وَالْمَساكِينِ، وَيا أَكْرَمَ الاَكْرَمِينَ، وَيا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، لَكَ تَخَضُّعِي وَسُؤالِي، وَإلَيْكَ تَضَرُّعِي وَابْتِهالِيْ، أَسْأَلُكَ أَنْ تُنِيلَنِي مِنْ رَوْحِ رِضْوانِكَ، وَتُدِيمَ عَلَيَّ نِعَمَ امْتِنانِكَ، وَها أَنَا بِبابِ كَرَمِكَ واقِفٌ، وَلِنَفَحاتِ بِرِّكَ مُتَعَرِّضٌ، وَبِحَبْلِكَ الشَّدِيدِ مُعْتَصِمٌ، وَبِعُرْوَتِكَ الْوُثْقى مُتَمَسِّكٌ.

إلهِي ارْحَمْ عَبْدَكَ الذَّلِيلَ، ذَا اللِّسانِ الْكَلِيلِ وَالْعَمَلِ الْقَلِيلِ، وَامْنُنْ عَلَيْهِ بِطَوْلِكَ الْجَزِيلِ، وَاكْنُفْهُ تَحْتَ ظِلِّكَ الظَّلِيلِ يا كَرِيمُ يا جَمِيلُ، يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

المناجاة الثانية عشرة : مناجاة العارفين

بسم الله الرحمن الرحيم إلهِي قَصُرَتِ الاَلْسُنُ عَنْ بُلُوغِ ثَنآئِكَ، كَما يَلِيقُ بِجَلالِكَ، وَعَجَزَتِ الْعُقُولُ عَنْ إدْراكِ كُنْهِ جَمالِكَ، وَانْحَسَرَتِ الاَبْصارُ دُونَ النَّظَرِ إلى سُبُحاتِ وَجْهِكَ، وَلَمْ تَجْعَلْ لِلْخَلْقِ طَرِيقاً إلى مَعْرِفَتِكَ إلاَّ بِالْعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَتِكَ.

إلهِي فَاجْعَلْنا مِنَ الَّذِينَ تَرَسَّخَتْ أَشْجارُ الشَّوقِ إلَيْكَ فِي حَدآئِقِ صُدُورِهِمْ، وَأَخَذَتْ لَوْعَةُ مَحَبَّتِكَ بِمَجامِعِ قُلُوبِهِمْ، فَهُمْ إلَى أَوْكارِ الاَفْكارِ يَأْوُونَ، وَفِي رِياضِ الْقُرْبِ وَالْمُكاشَفَةِ يَرْتَعُونَ، وَمِنْ حِياضِ الْمَحَبَّةِ بِكَأْسِ الْمُلاطَفَةِ يَكْرَعُونَ، وَشَرايعَ الْمُصافاةِ يَرِدُونَ، قَدْ كُشِفَ الْغِطآءُ عَنْ أَبْصَارِهِمْ، وَانْجَلَتْ ظُلْمَةُ الرَّيْبِ عَنْ عَقآئِدِهِمْ، وَانْتَفَتْ مُخالَجَةُ الشَّكِّ عَنْ قُلُوبِهِمْ وَسَرآئِرِهِمْ، وَانْشَرَحَتْ بِتَحْقِيقِ الْمَعْرِفَةِ صُدُورُهُمْ، وَعَلَتْ لِسَبْقِ السَّعادَةِ فِي الزَّهادَةِ هِمَمُهُمْ، وَعَذُبَ فِي مَعِينِ الْمُعامَلَةِ شِرْبُهُمْ وَطابَ فِي مَجْلِسِ الاُنْسِ سِرُّهُمْ، وَأَمِنَ فِي مَوْطِنِ الْمَخافَةِ سِرْبُهُمْ، وَاطْمَأَنَّتْ بِالرُّجُوْعِ إلى رَبِّ الاَرْبابِ أَنْفُسُهُمْ، وَتَيَقَّنَتْ بِالْفَوْزِ وَالْفَلاحِ أَرْواحُهُمْ، وَقَرَّتْ بِالنَّظَرِ إلى مَحْبُوبِهِمْ أَعْيُنُهُمْ، وَاسْتَقَرَّ بِإدْراكِ السُّؤْلِ وَنَيْلِ الْمَأْمُولِ قَرَارُهُمْ، وَرَبِحَتْ فِي بَيْعِ الدُّنْيَا بِالاخِرَةِ تِجارَتُهُمْ.

٣٤٧

إلهِي ما أَلَذَّ خَواطِرَ الاِلْهامِ بِذِكْرِكَ عَلَى الْقُلُوبِ، وَما أَحْلَى الْمَسِيرَ إلَيْكَ بِالاَوْهامِ فِي مَسالِكِ الْغُيُوبِ، وَما أَطْيَبَ طَعْمَ حُبِّكَ، وَما أَعْذَبَ شِرْبَ قُرْبِكَ، فَأَعِذْنا مِنْ طَرْدِكَ وَإبْعادِكَ، وَاجْعَلْنا مِنْ أَخَصِّ عارِفِيكَ، وَأَصْلَحِ عِبادِكَ، وَأَصْدَقِ طآئِعِيكَ وَأَخْلَصِ عُبَّادِكَ، يا عَظِيمُ، يا جَلِيلُ، يا كَرِيمُ، يا مُنِيلُ، بِرَحْمَتِكَ وَمَنِّكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

المناجاة الثالثة عشرة : مناجاة الذاكرين

بسم الله الرحمن الرحيم إلهِي لَوْلا الْواجِبُ مِنْ قَبُولِ أمْرِكَ لَنَزَّهْتُكَ مِنْ ذِكْرِي إيَّاكَ، عَلى أَنَّ ذِكْرِي لَكَ بِقَدْرِي، لا بِقَدْرِكَ، وَما عَسى أَنْ يَبْلُغَ مِقْدارِي، حَتّى أُجْعَلَ مَحَلاًّ لِتَقْدِيسِكَ، وَمِنْ أَعْظَمِ النِّعَمِ عَلَيْنا جَرَيانُ ذِكْرِكَ عَلى أَلْسِنَتِنَا، وَإذْنُكَ لَنا بِدُعآئِكَ، وَتَنْزِيهِكَ وَتَسْبِيحِكَ.

إلهِي فَأَلْهِمْنا ذِكْرَكَ فِي الْخَلاءِ وَالْمَلاءِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهارِ، وَالاِعْلانِ وَالاِسْرارِ، وَفِي السَّرَّآءِ وَالضَّرَّآءِ وَآنِسْنا بِالذِّكْرِ الْخَفِيِّ، وَاسْتَعْمِلْنا بِالْعَمَلِ الزَّكِيِّ، وَالسَّعْي الْمَرْضِيِّ، وَجازِنا بِالْمِيزانِ الَوَفِيِّ.

إلهِي بِكَ هامَتِ الْقُلُوبُ الْوالِهَةُ، وَعَلى مَعْرِفَتِكَ جُمِعَتِ الْعُقُولُ الْمُتَبايِنَةُ، فَلا تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ إلاَّ بِذِكْراكَ، وَلا تَسْكُنُ النُّفُوسُ إلاّ عِنْدَ رُؤْياكَ، أَنْتَ الْمُسَبَّحُ فِي كُلِّ مَكان، وَالْمَعْبُودُ فِي كُلِّ زَمان، وَالْمَوْجُودُ فِي كُلِّ أَوان، وَالْمَدْعُوُّ بِكُلِّ لِسان، وَالْمُعَظَّمُ فِي كُلِّ جَنان، وَأَسْتَغْفِرُكَ مِنْ كُلِّ لَذَّة بِغَيْرِ ذِكْرِكَ، وَمِنْ كُلِّ راحَة بِغَيْرِ أُنْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ سُرُور بِغَيْرِ قُرْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ شُغْل بِغَيْرِ طاعَتِكَ.

إلهِي أَنْتَ قُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) وَقُلْتَ وَقَوْلُكَ الْحَقُّ: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ) فَأَمَرْتَنا بِذِكْرِكَ، وَوَعَدْتَنا عَلَيْهِ أَنْ تَذْكُرَنا تَشْرِيفاً لَنا وَتَفْخِيمَاً وَإعْظامَاً، وَها نَحْنُ ذاكِرُوكَ كَما أَمَرْتَنا، فَأَنْجِزْ لَنا مَا وَعَدْتَنا يا ذاكِرَ الذَّاكِرِينَ، وَيا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

٣٤٨

المناجاة الرابعة عشرة : مناجاة المعتصمين

بسم الله الرحمن الرحيم أَللَّهُمَّ يا مَلاَذَ اللائِذِينَ، وَيا مَعاذَ الْعآئِذِينَ، وَيا مُنْجِيَ الْهالِكِينَ، وَيا عاصِمَ الْبآئِسِينَ، وَيا راحِمَ الْمَساكِينِ، وَيا مُجِيبَ الْمُضْطَرِّينَ، وَيا كَنْزَ الْمُفْتَقِرِينَ وَيا جابِرَ الْمُنْكَسِرِينَ، وَيا مَأْوَى الْمُنْقَطِعِينَ، وَيا ناصِرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَيا مُجِيرَ الْخآئِفِينَ، وَيا مُغِيثَ الْمَكْرُوبِينَ وَيا حِصْنَ اللاَّجِينَ، إنْ لَمْ أَعُذْ بِعِزَّتِكَ فَبِمَنْ أَعُوذُ؟ وَإنْ لَمْ أَلُذْ بِقُدْرَتِكَ فَبِمَنْ أَلُوذُ؟ وَقَدْ أَلْجَأَتْنِي الذُّنُوبُ إلَى التَّشَبُّثِ بِأَذْيالِ عَفْوِكَ، وَأَحْوَجَتْنِي الْخَطايا إلَى اسْتِفْتاحِ أَبْوابِ صَفْحِكَ، وَدَعَتْنِي الاِسآءَةُ إلَى الاِناخَةِ بِفِنآءِ عِزِّكَ، وَحَمَلَتْنِي الْمَخافَةُ مِنْ نِقْمَتِكَ عَلَى التَّمَسُّكِ بِعُرْوَةِ عَطْفِكَ، وَما حَقُّ مَنِ اعْتَصَمَ بِحَبْلِكَ أَنْ يُخْذَلَ، وَلا يَلِيقُ بِمَنِ اسْتَجَارَ بِعِزِّكَ أَنْ يُسْلَمَ أَوْ يُهْمَلَ. إلهِي فَلا تُخْلِنا مِنْ حِمايَتِكَ، وَلاَ تُعْرِنَا مِنْ رِعَايَتِكَ، وَذُدْنا عَنْ مَوارِدِ الْهَلَكَةِ، فَإنَّا بِعَيْنِكَ وَفِي كَنَفِكَ، وَلَكَ أَسْأَلُكَ بِأَهْل خاصَّتِكَ مِنْ مَلائِكَتِكَ ، وَالصَّالِحِينَ مِنْ بَرِيَّتِكَ، أَنْ تَجْعَلَ عَلَيْنا واقِيَةً تُنْجِينا مِنَ الْهَلَكاتِ، وَتُجَنِّبُنا مِنَ الافاتِ، وَتُكِنُّنا مِنْ دَواهِي الْمُصِيباتِ، وَأَنْ تُنْزِلَ عَلَيْنا مِنْ سِكَيْنَتِكَ، وَأَنْ تُغَشِّيَ وُجُوهَنا بِأَنْوارِ مَحَبَّتِكَ، وَأَنْ تُؤْوِيَنا إلى شَدِيدِ رُكْنِكَ، وَأَنْ تَحْوِيَنا فِي أَكْنافِ عِصْمَتِكَ بِرأْفَتِكَ وَرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

المناجاة الخامسة عشرة : مناجاة الزاهدين

بسم الله الرحمن الرحيم إلهِي أَسْكَنْتَنا داراً حَفَرَتْ لَنا حُفَرَ مَكْرِها. وَعَلَّقَتْنا بِأَيْدِي الْمَنايا فِي حَبائِلِ غَدْرِها، فَإلَيْكَ نَلْتَجِئُ مِنْ مَكآئِدِ خُدَعِها، وَبِكَ نَعْتَصِمُ مِنَ الاغْتِرارِ بِزَخارِفِ زِيْنَتِهَا، فَإنَّهَا الْمُهْلِكَةُ طُلاَّبَهَا، الْمُتْلِفَةُ حُلاَّلَهَا، الْمَحْشُوَّةُ بِالافاتِ، الْمَشْحُونَةُ بِالنَّكَباتِ.

٣٤٩

إلهِي فَزَهِّدْنا فِيها، وَسَلِّمْنا مِنْها بِتَوْفِيقِكَ وَعِصْمَتِكَ، وَانْزَعْ عَنَّا جَلابِيبَ مُخالَفَتِكَ، وَتَوَلَّ أُمُورَنا بِحُسْنِ كِفايَتِكَ، وَأَوْفِرْ مَزِيدَنا مِنْ سَعَةِ رَحْمَتِكَ، وَأَجْمِلْ صِلاتِنا مِنْ فَيْضِ مَواهِبِكَ، وَاغْرِسْ فِي أَفْئِدَتِنا أَشْجارَ مَحَبَّتِكَ، وَأَتْمِمْ لَنا أَنْوارَ مَعْرِفَتِكَ، وَأَذِقْنا حَلاوَةَ عَفْوِكَ، وَلَذَّةَ مَغْفِرَتِكَ، وَأَقْرِرْ أَعْيُنَنا يَوْمَ لِقآئِكَ بِرُؤْيَتِكَ، وَأَخْرِجْ حُبَّ الدُّنْيا مِنْ قُلُوبِنا كَما فَعَلْتَ بِالصَّالِحِينَ مِنْ صَفْوَتِكَ، وَالاَبْرارِ مِنْ خاصَّتِكَ بِرَحْمَتِكَ يا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَيا أَكْرَمَ الاَكْرَمِينَ.

رسالة الحقوق

ورسالة الحقوق من أهم الوثائق الدينية التي تطرقت إلى المباني الحقوقية للإجتماع الإنساني ولعل كل من جاء بعد الإمام السجادعليه‌السلام ( ت ٩٥ هـ ) كابن الوردي ( ت ٧٤٩ هـ ) وابن خلدون ( ت ٨٠٨ هـ ) وأبو بكر الهيثمي ( ت ٨٠٧ هـ ) استفاد منها في صياغة فكرة إجتماعية أو نظرية في بناء الدولة والإدارة أو فهم لطبيعة الحقوق الشخصية والإجتماعية والإلهية .

أ ـ في سند الرسالة ووحدة موضوعها

روى ( رسالة الحقوق ) الشيخ الصدوق ( ت ٣٨١ هـ ) في كتابيه : ( الخصال ) ، و( من لا يحضره الفقيه ) ، وتلاها في ( الأمالي ) عن ثابت بن أبي صفية المعروف بأبي حمزة الثمالي ( الثقة ) ، وقال : ( هذه رسالة علي بن الحسينعليه‌السلام إلى بعض أصحابه )(١)

ورواها الكليني ( ت ٣٢٩ هـ ) ونقلها الحراني في ( تحف العقول )(٢)

ــــــــــــــــ

(١) الخصال ج ٢ ص ١٢٦ ، ومن لا يحضره الفقيه ج ٢ ص ٣٧٦ ـ ٣٨١ ، وأمالي الصدوق ص ٢٢١ مجلس ٥٩ .

(٢) تحف العقول للحراني ص ١٨٤ .

٣٥٠

ثم نقلها المحدث النوري في كتابه ( المستدرك )(١) عن ( تحف العقول ) قائلاً : ( قلت : قال السيد علي بن طاووس في فلاح السائل : وروينا باسنادنا في كتاب الرسائل عن محمد بن يعقوب الكليني باسناده إلى مولانا زين العابدينعليه‌السلام أنه قال : فأما حقوق الصلاة فأن تعلم أنها وفادة ) ، وساق مثل ما مرّ في (تحف العقول( .

والخبير الذي يأنس بالأحاديث الشريفة يستطيع أن يجزم بأن الخبر المعروف بحديث الحقوق الذي رواه الشيخ الصدوق في (الخصال) و (من لا يحضره الفقيه) هو مختصر ما رواه الكليني المنقول في (تحف العقول) والمعلوم ان الشيخ الصدوق قد ذكر في مقدمة كتاب (من لا يحضره الفقيه) بأنه قد ألفه على طراز (من لا يحضره الطبيب) لكنه في الفقه والحلال والحرام والشرايع والأحكام بدل الطب فهو مختصر مستخرَج من الكتب المعتمدة المشهورة عند الإمامية .

والنتيجة أن الخبرين متحدان في الموضوع ، وليس هناك أي احتمال للتعدد قال النجاشي (ت ٤٥٠ هـ) في ترجمة أبي حمزة : (وله رسالة الحقوق عن علي بن الحسينعليه‌السلام أخبرنا أحمد بن علي قال حدثنا الحسن بن حمزة قال : حدثنا علي بن إبراهيم عن أبيه عن

ــــــــــــــــ

(١) المستدرك للنوري ج ٢ ص ٢٧٤ .

٣٥١

محمد بن الفضيل عن أبي حمزة عن علي بن الحسينعليه‌السلام ، وهذا السند أعلى وأصح من طريق الصدوق رحمه الله في الخصال ...)(١)

أقول : ان طريق الصدوق في (الأمالي)(٢) صحيح أيضاً .

فرواها عن علي بن أحمد بن موسى ، عن محمد بن جعفر الكوفي الأسدي ، عن محمد بن اسماعيل البرمكي ، عن عبد الله بن أحمد ، عن أسماعيل بن الفضل ، عن ثابت بن دينار الثمالي عن سيد العابدين علي بن الحسين .

فالأول علي بن أحمد بن موسى الدقاق من مشايخ الصدوق الذين يكثر النقل عنهم مع الترحم عليهم والثاني محمد بن جعفر من وكلاء الإمام المهدي (عج) الذين رأوه ووقفوا على بعض خصوصياته والثالث محمد البرمكي وهو ثقة مستقيم عند النجاشي والرابع عبد الله بن أحمد بن نهيك ثقة صدوق والخامس اسماعيل بن الفضل وهو ابن يعقوب بن الفضل بن عبد الله ثقة جليل القدر كان الصادقعليه‌السلام يقول هو كهل من كهولنا وسيدٌ من ساداتنا وثابت بن دينار هو أبو حمزة الثمالي وهو ثقة بل وتد من الأوتاد .

وسبب اختلاف النسختين يرجع إلى إحتمالين :

ــــــــــــــــ

(١) رجال النجاشي .

(٢) أمالي الصدوق ص ٢٢١ مجلس ٥٩ .

٣٥٢

١ ـ إما ان الإمامعليه‌السلام ذكر رسالة الحقوق في مناسبتين مختلفتين وهذا بعيد لأن الرسالة نقلها ثابت بن دينار (أبو حمزة الثمالي) فقط ، ولم ينقلها راوٍ آخر فيتعين أن الإمامعليه‌السلام ذكرها له تلك المرة ، ولم يكررها لغيره .

٢ ـ واما ان الرواة اختلفوا في نقل مضامينها فنقلها الكليني عن طريق صحيح يصل إلى ثابت بن دينار ، ونقلها الشيخ الصدوق ملخصة عن طريق سندي آخر صحيح أيضاً وهذا الإحتمال أقرب .

وتأكيد النجاشي على علو رواية الكليني ودقتها يجعلنا نطمئن لها ولذلك عرضنا رسالة الحقوق برواية الكليني لذلك الإعتبار وعلى أي تقدير ، فالروايتان لا تختلفان في الألفاظ إلا يسيراً أما المعنى فهو واحد .

ب ـ الدلالات الإجتماعية لرسالة الحقوق

وهذا الكتاب الذي كتبه الإمام السجادعليه‌السلام إلى بعض أصحابه ، المعروف برسالة الحقوق ، يعدُّ معلماً من معالم النظام الإجتماعي والحقوقي الإسلامي وهو نظام كلي ثابت للدولة الحديثة ، ومتجدد بتجدد الحياة الإجتماعية وعندما نقرأه اليوم ، نجده وكأنه ابن الساعة في منظومة أفكاره وتسلسله ، وتنظيمه لحقوق الإنسان مع نفسه وربه وغيره من بني البشر فقد تناول الإمامعليه‌السلام في رسالته حقوق الأسرة ، والتعليم ، والسلطة السياسية ، والعبادات ، والمعاملات ، والأخلاق الإجتماعية ، والسلام الإجتماعي عبر نبذ الجريمة والفساد والسرقة ، وحقوق الجيرة ، والإدارة المالية ، والقيادة الدينية ، والشِركة التجارية ، والقضاء ، والاستشارة والنصيحة ، وحرية الرأي والحقوق الإجتماعية وهي بكلها تمثل صورة المؤسسات الإجتماعية في الدولة الحديثة ، بل الدولة في كل زمان ومكان .

ولا شك ان الإمامعليه‌السلام في نظرته الشاملة حول الحقوق ، كان يشدد على مباني الهيئات الحقيقية والحقوقية التي تدير الناس وتدبر شؤونهم الحياتية والاقتصادية وهذا الفكر الرباني يعدُّ من أرقى أفكار التنظيم الإداري قبل نشوء الدولة الحديثة والإعجاز فيه أنه صورة دينية أخلاقية إلزامية لكل مجتمع على وجه الأرض من افريقيا إلى اوروبا إلى اسيا وفي كل حقبة زمنية من زمن النص وحتى اليوم .

٣٥٣

فعلى مستوى القضاء : إرشادٌ إلى المدعي والمدعى عليه فالمدعي على إنسان ما حقاً لا تبطل دعوته والمدعى عليه ينبغي معاملته باللطف والرفق ومن ساءه القضاء على يدي شخص بقولٍ أو فعلٍ فالعفو أولى به وللمستشير حق الاستشارة ، والشكر للمشير عليكَ على ما ابداه من رأي مهما كان وللمستنصِح الحق في طلب النصيحة ، وعلى الناصح الرفق واللين بالمنصوح وتعتبر الاستشارة اليوم من أعظم الحقول المهنية في المجتمعات المتطورة ، وهي ترتبط بالقضاء والقانون والتجارة .

وعلى مستوى النظام السياسي : مهما كان لونه ، فهناك : حاكم ومحكوم فللحاكم ان يلحظ بعين العطف ضعف الرعية وحاجتهم للعزّة ، وللمحكوم أن يَعينَ الحاكم العادل على حكمه وتعزيز قوته وإمام الصلاة جماعةً متفضلٌ على المأمومين بما كفاهم ذلك المقام أمام الله ، وللمؤذن حق الشكر .

وعلى مستوى نظام التعليم : فالأصل في التعلم هو العلاقة الطيبة بين الاستاذ والتلميذ والمنهج فللمعلم حق التعظيم والإقبال عليه ، وللمتعلم حق النصح والإرشاد .

وعلى مستوى الأسرة : فالزوجية هي المستراح والأنس والوقاية ، ولكلٍ من الزوجين حقوق وواجبات وحقوق الأبوين برّهما لأنهما أصل الإنسان ومصدر رزقه يوم كان عاجزاً عن كسبه ، وحق الأولاد حسن التأديب ، وحق الأخ أن تنصحه وتحنّ إليه وأن تتخذه ظهراً لك .

وعلى مستوى الناس : الإحسان إلى الجار ونصرته ، وإظهار الحسن الطيب للجليس ، وصحبة الصديق بالفضل ، والإخلاص للشريك ، وتوقير الكبير ، والعفو عن الصغير ، ونشر جناح الرحمة على جميع الناس .

وعلى مستوى الأمان الإجتماعي : حرمة بسط اليد إلى ما لا تحلّ للإنسان ، أي حرمة العنف والإعتداء والغصب والسرقة .

وعلى مستوى العبادة : فحق الله الأكبر هو عبادته بإخلاص وتفانٍ عبر الصلاة التي هي وفادةٌ بخشوع وذلّة ورهبة إلى الله تعالى ، والصوم وهو سترٌ على الإنسان من النّار ، والحج وهو وفادةٌ اخرى إلى الله تعالى عندما يفرٌّ الإنسان من ذنوبه .

٣٥٤

وعلى مستوى الإنسان والأخلاق : فعلى الإنسان أن يستعمل نفسه في طاعة الله ، وان يعوّد لسانه على ألفاظ الخير ، وأن ينزّه سمعه من الغيبة وفاحش القول ، وأن يغض بصره عن المحارم ، وأن لا يمشي برجليه إلى ما لا يحلّ له ، وأن لا يبسط يديه إلى ما لا تحلّ له ، وأن لا يأكل الحرام ولا يعمل الحرام .

وعلى مستوى الإدارة المالية في المجتمع : فأن لا يأخذ المال إلاّ من حلّه ، ولا يصرفه إلاّ في ذلك ، وأن يردَّ مال الغريم ، وأن يعطي السائل ما يكفيه ، فيُشكَرْ على ذلك ، وأن ينفق ما يستطيع بالكتمان والعلانية ، والكتمان أولى .

ج ـ نص الرسالة

اعلم ـ رحمكَ الله ـ أن لله عز وجل عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركةٍ تحركتَها ، أو سكنةٍ سكنتَها ، أو حالٍ حلتَها ، أو منزلةٍ نزلتَها ، أو جاريةٍ قلبتَها ، أو آلةٍ تصرفتَ بها ، بعضُها أكبرُ من بعض ، وأكبرُ حقوقِ اللهِ عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصلُ الحقوقِ ومنه تتفرع .

ثم ما أوجبَهُ عليكَ لنفسِكَ من قرنك إلى قدمِكَ على اختلاف جوارحك فجعل لبصرك عليك حقاً ، ولسمعك عليك حقاً ، وللسانك عليك حقاً ، وليدك عليك حقاً ، ولرجلك عليك حقاً ، ولبطنك عليك حقاً ، ولفرجك عليك حقاً فهذه الجوارحُ السبع التي بها تكونُ الأفعالُ .

ثم جعل عزّ وجلّ لأفعالكَ عليك حقوقاً ، فجعلَ لصلاتك عليك حقاً ، ولصومك عليك حقاً ، ولصدقتك عليك حقاً ، ولهديك عليك حقاً ، ولأفعالك عليك حقاً .

٣٥٥

ثم تخرُجُ الحقوقُ منك إلى غيرك من ذوي الحقوق الواجبة عليك ، وأوجبها عليك حق أئمتك ، ثم حقوقُ رعيتكَ ، ثم حقوقُ رَحمِكَ ، فهذه حقوقٌ تنشعبُ منها حقوقٌ فحقوقُ أئمتك ثلاثةٌ أوجبها عليك : حقّ سائسك بالسلطان ، ثم سائِسِكَ بالعلمِ ، ثم حقّ سائسك بالملكِ ، وكلّ سائسٍ إمام(١)

وحقوقُ رعيتك ثلاثة أ,جبها عليك : حقّ رعيتك بالسلطان ، ثم حقّ رعيتك بالعلم فإنّ الجاهل رعيّة العالم ، وحقّ رعيتك بالملك من الأزواج وما ملكت من الإيمان .

وحقوقُ رحمك كثيرة متصلةٌ بقدر اتصال الرحم في القرابة فأوجبُها عليك : حقّ أمّك ، ثم حقّ أبيك ، ثم حقّ ولدك ، ثم حقّ أخيك ، ثم الأقرب فالأقرب ، والأولى فالأولى ، ثم حقّ مولاك المنعمُ عليكَ ، ثم حقّ مولاك الجارية نعمته عليك ، ثم حقّ ذي المعروف لديك ، ثم حقّ مؤذّنك بالصلوة ، ثم حقّ إمامك في صلاتك ، ثم حقّ جليسك ، ثم حقّ جارك ، ثم حقّ صاحبك ، ثم حقّ شريكك ، ثم حقّ مالك ، ثم حقّ غريمك الذي تطالبه ، ثم حقّ غريمك الذي يطالبك ، ثم خليطك ، ثم حقّ خصمك المدعى عليك ، ثم حقّ خصمك الذي تدعى عليه ، ثم حقّ مستشيرك ، ثم المشير عليك ، ثم مستنصحك ، ثم حقّ سائلك ، ثم حقّ من سألته ، ثم حقّ من جرى لك على يديه مساءةٌ بقولٍ أو فعلٍ ، أو مسَّرةٌ بذلك بقولٍ أو فعل عن تعمد منه أو غير تعمدٍ منه ، ثم حقّ أهل ملّتك عامة ، ثم حقّ أهلِ الذمةِ ، ثم الحقوق الجارية بقدر علل الأحوال وتصرّف الأسباب ، فطوبى لمن أعانهُ الله على قضاء ما أوجبه عليه من حقوقه ، ووفقهُ وسددهُ .

ــــــــــــــــ

(١) السائس : القائم بأمرٍ والمدبر له .

٣٥٦

١ ـ ( فأما حقّ اللهِ الأكبرُ عليكَ ( :

فأن تعبدُهُ لا تشرِكَ به شيئاً ، فاذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمرَ الدنيا والآخرة ، ويحفظَ لكَ ما تحِبُّ منهما .

٢ ـ ( وأما حقّ نفسِك عليك ( :

فأن تستوفيها في طاعة الله عزّ وجلّ فتؤدي إلى لسانِك حقّهُ ، وإلى سمعك حقّه ، وإلى بصرِك حقّه وإلى يدكَ حقّها ، وإلى رجلكَ حقّها ، وإلى بطنك حقّه ، وإلى فَرجِك حقّه ، وستعين بالله على ذلك .

٣ ـ ( وأما حقّ اللسان ( :

فإكرامه عن الخنا(١) ، وتعويدُهُ على الخير ، وحملُهُ على الأدبِ ، وإجمامه إلا لموضع الحاجة والمنفعة للدين والدنيا ، وإعفاؤه من الفضول الشنعة القليلة الفائدة التي لا يؤمنُ ضررها مع قلة عائدتها .

ويعدّ شاهد العقل والدليل عليه ، وتزين العاقل بعقله حسن سيرته في لسانه ، ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم .

ــــــــــــــــ

(١) الخنا : الفحش من الكلام .

٣٥٧

٤ ـ ( وأما حقّ السمع ( :

فتنزيهه عن أن تجعله طريقاً إلى قلبك ، إلاّ لفوهة كريمة ، تُحدثُ في قلبك خيراً ، أو تكسبُ خلقاً كريماً ، فإنه بابُ الكلام إلى القلب ، يؤدي إليه ضروبُ المعاين على ما فيها من خير أو شرّ ، ولا قوة إلا بالله .

٥ ـ ( وأما حقُّ بصرك ( :

فغضُّهُ عما لا تَحِلّ لك ، وتركُ ابتذاله إلاّ لموضع عبرة تستقبِلُ بها بصراً ، أو تستفيدُ بها علماً ، فإنّ البصر بابُ الاعتبار .

٦ ـ ( وأما حقّ رجليك ) :

فان لا تمشي بهما إلى ما لا يَحِلّ لك ، ولا تجعلهما مطيَّتك في الطريق المستخفة بأهلها فيها ، فإنها حاملتُك ، وسالكةٌ بك مسَلك الدين ، والسبقُ لك ، ولا قوة إلاّ بالله .

٧ ـ ( وأما حقّ يدِكَ ) :

فأن لا تبسطها إلى ما لا يَحِلّ لك ، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجلِ ، ومن الناس اللائمة في العاجل(١) ، ولا تقبضَها عما افترض اللهُ عليها ، ولكن توقّرها بقبضها عن كثيرٍ مما لا يحلّ لها ، وبسطها إلى كثيرٍ مما ليس عليها ، فإذا هي قد عُقِلَت وشُرّفت في العاجل ، ووجبَ لها حسن الثواب من الله في الآجل .

٨ ـ ( وأما حقُّ بطنكَ ) :

فأن لا تجعَلُه وعاءً لقليلٍ من الحرام ولا لكثيرٍ ، وأن تقتصدَ له في الحلال ، ولا تخرجَهُ من حدّ التقوية إلى حد التهوين ، وذهاب المرؤة وضبطُهُ إذا هُمَّ بالجوع والظمأ ، فان الشبع المنتهي بصاحبه إلى التُّخَم مكسلةٌ ومثبتطةٌ ومقطعةٌ عن كلّ برٍّ وكرمٍ وإنّ الريّ المنتهي بصاحبه إلى السّكر مسخفةٌ ومجهلةٌ(٢) ، ومذهبةٌ للمرؤة .

ــــــــــــــــ

(١) أي عذاب الدنيا والآخرة فعذاب الدنيا هو لسان اللائمة من الناس ، واما عذاب الآخرة فعقوبة الله .

(٢) المجهلة : ما يحملك على الجهل .

٣٥٨

٩ ـ ( وأما حقُّ فرجِكَ ( :

فحِفظُهُ مما لا يَحِلّ لك ، والاستعانة عليه بغضّ البصر فإنه من أعون الأعوان ، وكثرة ذكر الموت ، والتهدّد لنفسك بالله ، والتخويفِ لها به ، وباللهِ العصمةُ والتأييدُ ، ولا حول ولا قوة إلاّ به .

ثم حقوقُ الأفعال :

١٠ ـ ( وأما حقُّ الصلاةِ ( :

فأنْ تعلمَ أنها وفادةٌ إلى اللهِ ، وأنك قائمٌ بها بين يدي الله ، فإذا علمتَ ذلك كنتَ خليقاً أن تقومَ فيها مقام الذليل الراغب الراهب ، والخائف الراجي المسكين المتضرع ، المعظّم من قام بين يديه بالسكونِ أو الإطراق(١) وخشوع الأطراف ، ولين الجناحِ ، وحُسنِ المناجاة له في نفسه ، والرغبة إليه في فكاك رقبتك التي أحاطت بها خطيئتُك ، واستهلكتها ذنوبُكَ ، ولا قوة إلاّ بالله .

ــــــــــــــــ

(١) الإطراق ( من أطرق الرجل ) : أرخى عينيه فينظر إلى الأرض .

٣٥٩

وحقُّ الحجِ(١)

أن تعلم أنه وفادةٌ إلى ربك ، وفرارٌ إليه من ذنوبك ، وبه قبول توبتك ، وقضاءُ الفرضِ الذي أوجبهُ الله عليك .

١١ ـ ( وأما حقّ الصوم ( :

فأن تعلم انه حجابٌ ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ، ليسترك به من النار ، وهكذا جاء في الحديث : ( الصّوم جنّة من النّار ) فإن سكنت أطرافك في حجبتها(٢) ، رجوت أن تكون محجوباً ، وإن أنت تركتها تضطرب في حجابها ، وترفع جنبات الحجاب فتطلع إلى ما ليس لها بالنظرة الداعية للشهوة ، والقوة الخارجة عن حدّ التقية لله لم تأمنْ من أن تخرقَ الحجاب وتخرج منه ، ولا قوة إلاّ بالله .

١٢ ـ ( وأما حقُّ الصدقة ( :

فأنْ تعلمَ أنها ذخرك عند ربّك ، ووديعتك التي لا تحتاج إلى الإشهاد ، فإذا علمت ذلك كنت بما استودعته سراً أوثق منك بما استودعتهُ علانيةً ، وكنتَ جديراً أن لا تكونَ أسررتَ إليه أمراً أعلنتَهُ ،

ــــــــــــــــ

(١) ولم يذكر حق الحج في (تحف العقول) ، وذكره في (الخصال) .

(٢) الحَجَبَة بالتحريك : جمع حاجب .

٣٦٠

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413