الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 250547 / تحميل: 14282
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

مقارعة الحجة بالحجة :

وكان من عادة الجيش إدخال السبايا على الحاكم المنتصر من أجل إذلالهم والتشفي منهم فالمقدمة هنا كانت إدخال السبايا على والي الكوفة ، والنتيجة هو إذلال أهل البيتعليه‌السلام ولكن الأمر كان مختلفاً مع سبايا العترة الطاهرةعليه‌السلام ، فقد نجحت المقدمة وهي إدخالهم على الوالي ولكن النتيجة باءت بالفشل ، ولم ينجحوا في إذلالهم بل كلما ازداد الضغظ عليهم من قبل بني أمية كانوا يزدادون في عيون الأمة سمواً وعلواً وتألقاً .

فعندما جلس عبيدالله ابن زياد ( والي الكوفة ) في القصر للناس ، وأذن إذناً عاماً ، جيء برأس الحسينعليه‌السلام فوضع بين يديه وأدخل نساء الحسينعليه‌السلام وصبيانه إليه ، فجلست زينب بنت عليعليه‌السلام متنكرة فسأل عنها فقيل زينب بنت عليعليه‌السلام فأقبل إليها ، فقال : الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم فقالت : ( إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ) فقال ابن زياد : كيف رأيت صنع الله بأخيك وأهل بيتك فقالت : ( ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب عليهم القتال فبرزوا إلى مضاجعهم وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاج وتخاصم فانظر لمن يكون الفلج(١) يومئذٍ ) .

ــــــــــــــــ

(١) فلج : ظفر بسما طلب ، وفلج بحجته أثبتها .

٤١

فغضب ابن زياد وكأنه همّ بها ، فقال له عمرو بن حريث : إنها امرأة والمرأة لا تؤخذ بشيء من منطقها فقال لها ابن زياد : لقد شفى الله قلبي من طاغيتك الحسين والعصاة المردة من أهل بيتك فقالت : ( لعمري لقد قتلت كهلي وقطعت فرعي وإختثثت أصلي فإن كان هذا شفاك فقد إشتفيت ) فقال ابن زياد : هذه سجّاعة ولعمري لقد كان أبوك شاعراً وسجّاعاً فقالت : ( يا بن زياد ما للمرأة والسجاعة ) .

ثم التفت ابن زياد إلى علي بن الحسينعليه‌السلام ، فقال من هذا ؟ فقيل : علي بن الحسين ( السجاد ) فقال : أليس الله قد قتل علي بن الحسين ؟ فقال عليعليه‌السلام : ( قد كان لي أخ يقال له علي بن الحسين قتله الناس ) فقال : بل الله قتله فقال عليعليه‌السلام ( اللّهُ يَتَوَفّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا (١). ) . فقال ابن زياد : ألك جرأة على جوابي ثم أمر بضرب عنق زين العابدينعليه‌السلام .

فنهضت له عمته الكريمة زينب بنت عليعليه‌السلام ، ما سكةً بيد الإمامعليه‌السلام صادحةً بقوة الحق : ( حسبك يا بن زياد من دمائنا ما سفكت ، وهل أبقيت أحداً غير هذا ؟ فإن أردت قتله فاقتلني معه ) فقال عليعليه‌السلام لعمته : اسكتي يا عمة حتى أكلمه ثم أقبل ، فقال :

ــــــــــــــــ

(١) سورة الزمر : الآية ٤٢ .

٤٢

 ( أبالقتل تهددني يا ابن زياد ؟ أما علمت أن القتل لنا عادة ، وكرامتنا من الله الشهادة ؟ )(١) .

لقد كانت إرادة العقيلة زينبعليه‌السلام قوية إلى درجة انه تراجع عن قراره وهو في مجلسه ، وقال لجلاوزته بخجل : دعوه لها ، يا للرحم ودّت أنها تقتل معه .

قال الجاحظ في رسائله ان ابن زياد قال لأصحابه في علي ابن الحسين : دعوني أقتله فإنه بقية هذا النسل ـ يعني نسل الحسينعليه‌السلام ـ فأحسم به هذا القرن ، وأميت به هذا الداء ، وأقطع به هذه المادة .

إلا ان موقف زينبعليه‌السلام كان قد غيّر الأمر ، وجعل الحاشية تشير عليه بالإمساك عنهعليه‌السلام ظنّاً منهم ان ما ألّم به من المرض سوف يقضي عليه .

ثم أمر ابن زياد بعلي بن الحسينعليه‌السلام وأهله ، فحملوا إلى دارٍ جنب المسجد الأعظم بالكوفة .

ــــــــــــــــ

(١) عوالم العوالم ج ١٧ ص ٣٨٤ واللهوف ص ٧٠ .

٤٣

مواراة أجساد قتلى آل النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( ١٣ محرم سنة ٦١ هـ )

بقيت أجساد العترة الطاهرة متناثرة في عراء الطف يومين أو ثلاثة أيام وانبرى قومٌ من بني أسد من الذين لم يشتركوا في الحرب لدفنها ، فحفروا قبوراً لتلك الأجساد الطاهرة ، لكنهم تحيروا في معرفتها لأن الرؤوس كانت قد فصلت عنها وأخذت إلى الشام حتى ورد الإمام زين العابدينعليه‌السلام من الكوفة فأوقف بني أسد على شهداء أهل البيت ، وأوقفهم أيضاً على أصحاب الحسينعليه‌السلام وبادر إلى حمل جثمان أبيهعليه‌السلام ، فواراه الثرى ، وهو يقول : ( يا أبتاه ، طوبى لأرض تضمنت جسدك الطاهر ، فان الدنيا بعدك مظلمة ، والآخرة بنورك مشرقة أما الليل فمسهد ، والحزن سرمد أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي أنت بها مقيم ، وعليك مني السلام يا ابن رسول الله ورحمة الله وبركاته ( .

وعلّم قبر أبيهعليه‌السلام بعلامة ، وكتب : ( هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب ، الذي قتلوه عطشاناً غريباً ) ووضع قبر أخيه المشهور بـ ( علي الأكبر ) عند رجلي والده الحسينعليه‌السلام ، وبقية الشهداء من بني هاشم والأنصار في قبر واحد .

ثم انطلق إلى نهر العلقمي فحفر قبراً لعمه أبي الفضل العباس قمر بني هاشم ، وهو يقول : ( على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم ، وعليك مني السلام من شهيد محتسب ورحمة الله و بركاته ( .

٤٤

دلالات رجوع السجادعليه‌السلام إلى كربلاء :

١ ـ لاشك ان انصراف الإمام زين العابدينعليه‌السلام من سحن عبيد الله ابن زياد في الكوفة لتولي أمر أبيهعليه‌السلام في كربلاء دون علمهم به من الكرامات الخاصة بالامام السجادعليه‌السلام وإذا كانت المسافة بين الكوفة وكربلاء حوالي ٨٠ كيلومتراً ، فان قطعها يحتاج الى أكثر من يوم ، بالطريق الطبيعي إلا ان الروايات المتواترة عن أهل البيتعليه‌السلام تثبت بان اختصار تلك المسافة كان من الكرامات الخاصة بالسجادعليه‌السلام وليس هذا غريباً ، فان الله تعالى قد خصهم بكرامات عديدة ، لخصائص مباركة فيهم .

٢ ـ الظاهر ان أمر رجوع الإمام زين العابدينعليه‌السلام الى كربلاء لدفن أبيهعليه‌السلام كان أمراً شائعاً متعارفاً ويؤيده تلك المناظرة بين الإمام الرضاعليه‌السلام وابن ابي حمزة في بدايات القرن الثالث الهجري ، وموضوع المناظرة كان وجوب تغسيل الإمام المعصوم من قبل الإمام آخر .

٤٥

قال الإمام الرضاعليه‌السلام له ، وهما في أوج حمى المناظرة : ( اخبرني عن الحسين بن علي كان إماماً ) قال : بلى قالعليه‌السلام : ( فمن ولي أمره ؟ ) قال : علي بن الحسين فقال الرضاعليه‌السلام : ( وأين كان ؟ ) قال ابن أبي حمزة : ( كان محبوساً بالكوفة عند ابن زياد ولكنه خرج وهم لا يعلمون به حتى ولي أمر أبيه ثم انصرف الى السجن ) فقال الرضاعليه‌السلام : ( ان من مكّن علي بن الحسين أن يأتي كربلاء فيلي أمر أبيه ثم ينصرف ، يمكّن صاحب هذا الأمر ان يأتي بغداد فيلي أمر أبيه(١) وليس هو في حبس ولا أسار )(٢) ودلالة الرواية ان أمر الذهاب من الكوفة الى كربلاء لدفن أبيهعليه‌السلام كان من الكرامات المعروفة المشهورة الخاصة بالسجادعليه‌السلام .

في الشام ( محرم / صفر سنة ٦١ هـ)

وكتب ابن زياد الى يزيد يخبره بقتل الحسينعليه‌السلام وخبر أهل بيته(٣) ولما وصل كتاب ابن زياد الى الشام أمره يزيد بحمل رأس الحسينعليه‌السلام ورؤوس من قتل معه إليه فأمر ابن زياد بنساء الحسينعليه‌السلام

ــــــــــــــــ

(١) يقصد تغسيل الامام الكاظمعليه‌السلام .

(٢) إثبات الوصية للمسعودي ص ١٧٣ طبعة النحف .

(٣) الكامل في التأريخ للجزري ج ٤ ص ٨٣ .

٤٦

وصبيانه فجهّزوا ، وأمر بعلي بن الحسينعليه‌السلام فغلّ بقيدٍ الى عنقه .

وانطلق ركب سبايا آل البيتعليه‌السلام على الأقتاب إلى الشام تاركاً الكوفة ومحنها ومتوجهاً إلى أرض لم يطأها من قبل ، والى أناس لم يعرف ملامحهم ولا أخلاقهم ولم يكلّم علي بن الحسينعليه‌السلام أحداً من جنود ابن زياد في الطريق ولا بحرف ، حتى بلغوا الشام(١) ودمشق مدينة مطردة الأنهار ، كثيرة الأشجار وكان دخول سبايا آل البيتعليه‌السلام مناسبة لأهل الشام للاحتفال ، فعلّق أهلها الستور والحجب والديباج وهم فرحون مستبشرون ، ودفعوا نساءهم للعب بالدفوف والطبول ، كما روى ذلك سهل بن سعد الساعدي .

وفي الشام تعرض الإمام السجادعليه‌السلام لعدة مواقف نذكر منها ثلاثة لاهميتها أولها : تذكير الناس وإرشادهم ثانياً : مواجهته يزيد ثالثاً : خطبته البليغة في مجلس الطاغية وفيما يلي نعرض لكل موقف من تلك المواقف :

الأول : تذكير الناس وإرشادهم

استثمر آل البيتعليه‌السلام كل مناسبة كانت تسنح لهم للتعبير عن ارتباطهم بالرسالة والرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكان تعاملهم مع الناس تعامل المعلم مع تلميذه ، والوالد مع ولده وكانواعليه‌السلام ينشرون المعارف والعلوم ، ويغفرون الخطأ والزلل ، ويهدون الناس إلى طريق الحق .

ــــــــــــــــ

(١) الارشاد ج ٢ ص ١١٩ .

٤٧

وفي ذلك رواية لها أهمية خاصة ، لانها تكشف طريقة تعامل الإمام زين العابدينعليه‌السلام مع الناس في الشام فقد فتح المسلمون بلاد الشام ، وحكمها خالد بن الوليد ومعاوية بن ابي سفيان ولم ير أهل الشام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو اصحابه ، فاعتبروا سلوك معاوية واصحابه سنّة للمسلمين ، وليس مستغرباً ان نقرأ الرواية التالية :

عندما دنا شيخ طاعن في السن من جمهور المختلفين واقترب من نساء الحسينعليه‌السلام وعياله وهم في ذلك الوضع ، بادرهم بالقول : الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم وأراح البلاد عن رجالكم ، وأمكن أمير المؤمنين ( يزيد ) منكم .

فقال له علي بن الحسينعليه‌السلام : ( يا شيخ هل قرأت القرآن ؟ ) قال : نعم .

قالعليه‌السلام : فهل عرفت هذه الآية :( قُل لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلّا الْمَوَدّةَ فِي الْقُرْبَى ) (١) ، قال الشيخ : نعم قد قرأت ذلك فقال علي بن الحسينعليه‌السلام له : فنحن القربى .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الشورى : آية ٢٣ .

٤٨

يا شيخ فهل قرأت في سورة بني إسرائيل :( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى‏ حَقّهُ ) (١) ، فقال الشيخ : قد قرأت فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : فنحن القربى  .

يا شيخ فهل قرأت هذه الآية :( وَاعْلَمُوا أَنّمَا غَنِمْتُم مِن شَيْ‏ءٍ فَأَنّ للّهِ‏ِ خُمُسَهُ وَلِلرّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى ) (٢) ؟ قال الشيخ : نعم فقال له علي بن الحسينعليه‌السلام : ( فنحن القربى 

يا شيخ فهل قرأت هذه الآية :( إِنّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهّرَكُمْ تَطْهِيراً )  (٣) ؟ قال الشيخ : قد قرأت ذلك فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( فنحن أهل البيت الذي خصصنا الله بآية الطهارة يا شيخ  .

فبقي ذلك الانسان ساكتاً نادماً على ما تلكم به ، وقال : بالله إنكم هم فقال علي بن الحسينعليه‌السلام : ( تالله إنا لنحن هم من غير شك وحق جدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ) .

فبكى الشيخ ، ثم رفع رأسه إلى السماء وقال : اللهم إنا نبرأ إليك من عدو آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جن وإنس ثم قال : هل لي من

ــــــــــــــــ

(١) سورة الاسراء : آية ٢٦ .

(٢) سورة الانفال : آية ٤١ .

(٣) سورة الاحزاب : آية ٣٣ .

٤٩

توبة فقالعليه‌السلام : ( نعم إن تبت تاب الله عليك وأنت معنا ) فقال : أنا تائب فبلغ يزيد بن معاوية حديث الشيخ ، فأمر به ، فقتل(١) .

وفي تلك الرواية دلالات ، منها :

١ ـ ان أهل الشام كانوا يعتقدون بما كان يقوله لهم إعلام بني أمية ولا يستنكرونه ، بل كانوا يأخذونه أخذ المسلّمات .

٢ ـ ان القابلية على التغيير عند الأمة كانت موجودة فما أن احتجّ عليه الإمامعليه‌السلام بالقرآن وبمصاديقه وأفحمه في ذلك ، حتى قبل ذلك الشيخ بالحجة واقتنع بها وهذا المنحى في التغيير أتخذه الإنبياءعليه‌السلام وأئمة أهل البيتعليه‌السلام طريقاً لهداية الناس .

٣ ـ ان طريق أهل البيتعليه‌السلام كانت له مبادئ ، أهمها : الرحمة بالرعية ، والصفح عن اخطائهم ، وقبول توبتهم ولذلك كان الإمام السجادعليه‌السلام يطمع لندم ذلك الإنسان ويرجو الإعتراف بخطائه ولم يشترط عليه شيء لقبول تلك التوبة ، ودرأ ذلك التقصير .

٤ ـ تفصح الرواية عن جهود السلطة الأموية في كمّ أفواه الناس ، فما أن علموا برواية الشيخ وحديثه مع السجادعليه‌السلام ، حتى أمروا بقتله لأن إطلاع الناس على حقائق الدين والتأريخ ، نذيرٌ بزوال حكمهم .

الثاني : مواجهة الظالم

ولا شك ان مواجهة الحاكام الظالم بعد معركة خاسرة عسكرياً أمرٌ صعب بل مرعب خصوصاً إذا كانت السبايا من النساء والصبيان والمرضى إلاّ ان موقفا زينبعليه‌السلام وزين العابدينعليه‌السلام أمام يزيد الطاغية قد قلبا كل المقاييس .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٧٦ .

٥٠

فقد توقع بنو أمية إذلال السبايا واهانتهم والتشفي منهم ، في وقت غابت عنهم فصاحة أهل البيتعليه‌السلام وحجتهم البالغة القوية وعلى أية حال ، فقد خابت آمال بنو أمية عندما انطلقت زينبعليه‌السلام في خطبتها الفصيحة البليغة تعدد مثالبهم وتكشف انحرافهم عن الاسلام وعن تعاليم القرآن المجيد والسنة النبوية الشريفة بينما أرجع الإمام زين العابدينعليه‌السلام مصيبة كربلاء إلى ظلم بني أمية وإرادتهم ، ذلك الظلم المكتوب في الكتاب قبل ان يبرأ الله عزوجل الخلق .

وبتعبير آخر ، أراد الإمام السجادعليه‌السلام تذكير الناس بان المصائب ومنها مصيبة كربلاء مكتوبة في اللوح المحفوظ ، ذلك الكتاب الذي فيه ما كان وما يكون وما هو كائن الى يوم القيامة فالله عزّ وجلّ يعلم ما في اللوح من آجال ، قبل ان يخلق الخلق وهذا المعنى مستخلص من قوله تعالى في سورة الحديد : (( مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ ) )(١) . فواقعة الطف لم تكن مفاجئة لهمعليه‌السلام بل ان الأحاديث المتواترة تشير إلى انهم كانوا يتنبأون بها قبل وقوعها ، في مناسبات معروفة عديدة .

مع يزيد

ولما أدخل ثقل(٢) الحسينعليه‌السلام ونساؤه برفقة السجادعليه‌السلام على الطاغية يزيد وقد أوثقوهم بالحبال ، ابتدأ الإمامعليه‌السلام خطابه ليزيد : ( ما ظنك بجدنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لو يرانا على مثل هذه الحالة ؟ ) .

فأمر يزيد بحلّ الوثاق وقال : قبّح الله ابن مرجانة ( عبيدالله بن زياد ) لو كان بينكم وبينه قرابة لما فعل بكم هذا .

ثم دعا يزيد بقضيب خيزران فجعل ينكت به ثنايا الحسينعليه‌السلام ، فأقبل عليه أبو برزة الأسلمي وقال : ( ويحك يا يزيد أتنكت بقضيبك ثغر الحسين ابن فاطمةعليه‌السلام أشهد لقد رأيت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرشف ثنايا وثنايا أخيه الحسنعليه‌السلام ويقول : أنتما سيدا شباب أهل الجنة ، فقتل الله قاتلكما ولعنه وأعد له جهنم وساءت مصيراً ) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الحديد : الآية ٢٢ .

(٢) ثقل الرجل : عياله .

٥١

فغضب يزيد وأمر بإخراجه فأخرج سحباً من المجلس ، وجعل يزيد يتمثل بأبيات ابن الزبعرى :

ليت أشياخي ببدر شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحي نزل

لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل

خطبة زينب بنت عليعليه‌السلام

فقامت زينب بت علي بن أبي طالبعليه‌السلام وقد ناهزت الخمسين من العمر ، والإمام زين العابدينعليه‌السلام جالس مع السبايا ، فقالت :

(الحمد لله رب العالمين وصلى الله على رسوله وآله أجمعين ، صدق الله سبحانه كذلك يقول) :( ثُمّ كَانَ عَاقِبَةَ الّذِينَ أَسَاءُوا السّوءى‏ أَن كَذّبُوا بِآيَاتِ اللّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ) )(١) ، أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا أقطار الأرض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الأسرى إن بنا هواناً على الله وبك عليه كرامة ، وإن ذلك

ــــــــــــــــ

(١) سورة الروم : الآية ١٠ .

٥٢

لعظم خطرك عنده ، فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوثقة ، والأمور متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا فمهلاً مهلاً أنسيت قول الله تعالى :( وَلاَ يَحْسَبَنّ الّذِينَ كَفَرُوا أَنّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ ) (١) .

أمن العدل يا ابن الطلقاء تخديرك حراثرك وإمائك ، وسوقك بنات رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سبايا قد هتكت ستورهن ، وأبديت وجوههن ، تحدوا بهن الأعداء من بلد إلى بلد ، ويستشرفهن أهل المناهل والمناقل ، ويتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ، ليس معهن من رجالهن ولي ولا من حماتهن حمي وكيف يرتجى مراقبة من لفظ فوه أكباد الأذكياء ، ونبت لحمه من دماء الشهداء ، وكيف ويستبطأ في بغضاء أهل البيت من نظر إلينا بالشنف والشنان ، والإحن والأضغان ، ثم تقول غير متأثم ولا مستعظم :

لاهلّوا واستهلّوا فرحاً

ثم قالوا يا يزيد لا تشل

منتحياً على ثنايا أبي عبداللهعليه‌السلام سيد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك ، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة وإستأصلت الشأفة باراقتك دماء ذرية محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونجوم الأرض من آل عبد المطلب وتهتف بأشياخك ، زعمت إنك تناديهم فلتردن

ــــــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآية ١٧٨ .

٥٣

وشيكاً موردهم ولتودن إنك شللت وبكمت ولم تكن قلت ما قلت ، وفعلت ما فعلت اللهم خذ لنا بحقنا ، وانتقم ممن ظلمنا ، وأحلل غضبك بمن سفك دمائنا ، وقتل حماتنا فوالله ما فريت إلا جلدك ، ولا حززت إلا لحمك ، ولتردن على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما تحملت من سفك ذريته ، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته ، وحيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم ،( وَلاَ تَحْسَبَنّ الّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبّهِمْ يُرْزَقُونَ ) )(١) . وحسبك بالله حاكماً وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خصيماً وبجبرائيل ظهيراً ، وسيعلم من سوّل لك ومكنك من رقاب المسلمين ، بئس للظالمين بدلاً وأيكم شر مكاناً وأضعف جنداً.

ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك ، إني لأستصغر قدرك ، وأستعظم تقريعك ، وأستكثر توبيخك لكن العيون عبرى ، والصدور حرى ألا فالعجب كل العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء فهذه الأيدي تنطف من دمائنا ، والأفواه تتحلب من لحومنا ، وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل وتعفرها أمهات الفراعل ولئن اتخذتنا مغنماً ، لتجدنا وشيكاً مغرماً ، حين لا تجد إلا ما قدمت يداك وما ربك بظلام للعبيد فإلى الله المشتكى وعليه المعول .

ــــــــــــــــ

(١) سورة آل عمران : الآية ١٦٩ .

٥٤

فكد كيدك ، وأسع سعيك ، وناصب جهدك ، فوالله لا تمحو ذكرنا ، ولا تميت وحينا ، ولا تدرك أمدنا ، ولا ترحض عنك عارها وهل رأيك إلا فند ، وأيامك إلا عدد ، وجمعك إلا بدد ، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين فالحمد لله رب العالمين الذي ختم لأولنا بالسعادة والمغفرة ، ولآخرنا بالشهادة والرحمة ، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب ويوجب لهم المزيد ويحسن علينا الخلافة إنه رحيم ودود وحسبنا الله ونعم الوكيل.

تصاغر يزيد :

فقال يزيد بن معاوية :

يا صيحة تحمد من صوائح

ما أهون الموت على النوائح

ثم قال يزيد : أية يا علي بن الحسين أبوك الذي قطع رحمي ، وجهل حقي ، ونازعني في سلطاني ، فصنع الله به ما رأيت .

فقال السجادعليه‌السلام : بسم الله الرحمن الرحيم( : مَا أَصَابَ مِن مُصِيَبةٍ فِي الْأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلّا فِي كِتَابٍ مِن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنّ ذلِكَ عَلَى‏ اللّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى‏ مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ كُلّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ) (١) .

ــــــــــــــــ

(١) سورة الحديد : آية ٢٢ ـ ٢٣ .

٥٥

قال يزيد : بل قل :( وَمَا أَصَابَكُم مِن مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ) (١) فردّ الإمامعليه‌السلام : ( هذا في حق من ظلم ، لا في حق من ظلم ) .

ثم قالعليه‌السلام : ( يا ابن معاوية وهند وصخر لم تنزل النبوة والإمرة إلا لآبائي وأجدادي من قبل أن تولد ولقد كان جدي علي بن أبي طالب في بدر وأحد والأحزاب في يده راية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبوك وجدك في أيديهما راية الكفار ويلك يا يزيد لو تدري ما صنعت وما الذي ارتكبت بأبي وأهل بيته لهربت في الجبال ، وافترشت الرماد ، ودعوت بالويل والثبور ، فابشر بالخزي والندامة إذا اجتمع الناس ليوم الحساب ) .

وفي رواية المسعودي ان يزيد سأل زين العابدينعليه‌السلام : كيف رأيت يا علي بن الحسين ؟ قالعليه‌السلام : ( رأيت ما قضاه الله عز وجل قبل ان يخلق السموات والأرض ) .

فشاور يزيد جلساءه في أمره ، فاشاروا بقتله فابتدر زين العابدينعليه‌السلام الكلام ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ( يا يزيد لقد أشار عليك هؤلاء بخلاف ما أشار جلساء فرعون عليه ، حيث شاورهم في موسى وهارون ، فانهم قالوا له : ارجه وأخاه وقد أشار هؤلاء عليك بقتلنا ان أولئك كانوا الراشدة ، وهؤلاء لغير رشدك

ــــــــــــــــ

(١) سورة الشورى : آية ٣٠ .

٥٦

 [ ماضون ] ولا يقتل الأنبياء وأولادهم إلا أولاد الأدعياء ) فأمسك يزيد مطرقاً(١)

الثالث : خطبة الإمامعليه‌السلام في مجلس يزيد

ثم أوعز يزيد إلى خطيبٍ من خطباء السوء اعتلاء المنبر ، والنيل من عليعليه‌السلام والحسينعليه‌السلام فقام وبالغ في الذم وأطنب في مدح معاوية ويزيد فانبرى السجادعليه‌السلام مخاطباً : ( ويلك أيها المتكلم اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق فتبوأ مقعدك من النار ) .

وكان من أدب الإمامعليه‌السلام الجمّ أن يسأل يزيد ، وهو صاحب المجلس على كل حال ، كي يسمح له بالكلام والكلام في المجالس يحتاج إلى إذن فقالعليه‌السلام : ( أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلمات فيهن لله رضا ، ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب ) فرفض يزيد في البداية ولكن الحاضرين ـ وهم من خلّص حاشية يزيد ـ أصروا عليه وهم يتوقعون انهعليه‌السلام لا يحسن الخطابة أو هكذا تظاهروا فوافق يزيد فقام الإمامعليه‌السلام ، فقال :

(الحمد لله الذي لا بداية له والدائم الذي لا نفاد له ، والأول الذي لا أولية له ، والآخر الذي لا آخرية له ، والباقي بعد فناء الخلق ،

ــــــــــــــــ

(١) إثبات الوصية لعلي بن الحسين المسعودي ص ١٤٠ طبعة النجف .

٥٧

قدّر الليالي والأيام ، وقسّم فيما بينها ، فتبارك الله الملك العلام). ثم استطرد في ذلك كثيراً إلى أن قال :

أيها الناس أعطينا ستّاً ، وفضّلنا بسبع أعطينا : العلم ، والحلم ، والسماحة ، والفصاحة ، والشجاعة ، والمحبة في قلوب المؤمنين وفضّلنا : بأن منّا النبيّ المختار محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا الصدّيق ، ومنّا الطيار ، ومنّا أسد الله وأسد رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنّا سيدّة نساء العالمين فاطمة البتول ، ومنّا سبطا هذه الأمة وسيدا شباب الجنة .

فمن عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي أنا ابن مكة ومنى أنا ابن زمزم والصفا أنا ابن من حمل الركن بأطراف الرداء أنا ابن خير من اثتزر وارتدى أنا ابن خير من انتعل واحتفى أنا ابن خير من طاف وسعى أنا ابن خير من حجّ ولبّى أنا ابن من حمل على البراق في الهواء أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى ، فسبحان من أسرى .

أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى أنا ابن من دنا فتدلّى فكان قاب قوسين أو أدنى أنا ابن من صلّى بملائكة السماء أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى أنا ابن محمد المصطفى أنا ابن علي المرتضى أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا : لا إله إلا الله .

أنا ابن من ضرب بين يدي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بسيفين ، وطعن برمحين ، وهاجر الهجرتين ، وبايع البيعتين ، وصلّى القبلتين ، وقاتل ببدر وحنين ، ولم يكفر بالله طرفة عين .

أنا ابن صالح المؤمنين ووراث النبيين ، وقامع الملحدين ، ويعسوب المسلمين ، وزين العابدين ، وتاج البكّائين ، وأصبر الصابرين ، وأفضل القائمين من آل ياسين ، رسول رب العالمين أنا ابن المؤيد بجبرئيل ، المنصور بميكائيل .

أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين ، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين ، والمجاهد أعداءه الناصبين ، وأفخر من مشى من قريش أجمعين ، وأوّل من أجاب واستجاب لله ولرسوله من المؤمنين ، وأقدم السابقين ، وقاصم المعتدين ، ومبيد المشركين ، وسهم من مرامي الله على المنافقين ، ولسان حكمة العابدين .

٥٨

وناصر دين الله ، ووليّ أمر الله ، ولسان حكمة الله ، وعيبة علمه ، سمح سخيّ ، بهلول زكيّ ، أبطحيّ رضيّ مرضيّ ، مقدام همام ، صابر صوّام ، مهذّب قوّام ، شجاع قمقام ، قاطع الأصلاب ، ومفرق الأحزاب أربطهم عناناً ، وأثبتهم جناناً ، وأجرأهم لساناً ، وأمضاهم عزيمةً ، وأشدّهم شكيمة .

أسد باسل ، وغيث هاطل ، يطحنهم في الحروب ، اذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنة ، طحن الرحى ويذروهم ذرو الريح الهشيم .

ليث الحجاز ، وصاحب الإعجاز ، وكبش العراق ، الإمام بالنص والستحقاق مكيّ مدنيّ ، أبطحيّ تهامي ، خيفيّ عقبي ، بدري أحدي ، شجري مهاجري من العرب سيّدها ، ومن الوغى ليثها وارث المشعرين ، وأبو السبطين الحسن والحسين ، مظهر العجائب ، ومفرق الكتائب ، والشهاب الثاقب ، والنور العاقب ، أسد الله الغالب ، مطلوب كلّ طالب ، غالب كلّ غالب ، ذاك جدي علي بن أبي طالبعليه‌السلام .

أنا ابن فاطمة الزهراء أنا ابن سيدة النساء أنا ابن الطهر البتول أنا ابن بضعة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنا ابن المزمّل بالدماء أنا ابن ذبيح كربلاء أنا ابن من بكى عليه الجنّ في الظلماء ، وناحت عليه الطير في الهواء ( .

ولم يزلعليه‌السلام يقول : أنا ، أنا حتى ضج الناس بالبكاء ، وخشي يزيد من وقوع الفتنة ، فأمر المؤذن حتى يقطع على الإمامعليه‌السلام كلامه .

فصاح المؤذن : ( الله اكبر ) فالتفت إليه الإمامعليه‌السلام فقال له : (كبّرت كبيراً لا يقاس ، ولا يدرك بالحواسّ ، لا شيء أكبر من الله ) فلما قال المؤذن : ( أشهد أن لا إله إلا الله ) قال علي بن الحسين : ( شهد بها شعري وبشري ، ولحمي ودمي ، ومخّي وعظمي ) ولما قال المؤذن : ( أشهد أن محمداً رسول الله ) التفت الإمامعليه‌السلام الى يزيد فقال له : ( يا يزيد ، محمد هذا جدي أم جدك ؟ فإن زعمت أنه جدّك فقد كذبت وإن قلت : إنه جدّي فم قتلت عترته ) ولم يجر يزيد جواباً لأن جدّ السجادعليه‌السلام هو رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجدّ يزيد هو ابو سفيان عدو الإسلام الذي ما قال الشهادتين إلا حقناً لدمه .

٥٩

دلالات خطبة السجادعليه‌السلام :

١ ـ كان الإمام السجادعليه‌السلام في غاية الأدب وسمو الخلق عندما طلب الإذن بالتحدث وهو سجين مظلوم ، وكان يستطيع ان يصرخ بوجه الطغاة دون إذن إلا انها أخلاق الإمامة ، ومشاعر أبناء الأنبياءعليه‌السلام .

٢ ـ وصف الإمامعليه‌السلام الكرسي الذي يجلس عليه الخطيب بالأعواد لا المنبر ، لأن المنبر مكان شريف يجلس عليه الأولياء المتقون والأعواد يجلس عليها الصالح والطالح وقد صعد على تلك الأعواد آنفاً خطيب من خطباء السوء .

٣ ـ أجملت الخطبة كل إنجازات أهل البيتعليه‌السلام تحت إمرة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقيادته ، وأجملت تضحياتهم في سبيل الدين ، وعلو منزلتهم ، وعظيم دورهم في بناء الإسلام في نفوس الناس وظهور البيان وفصاحته اغنانا عن التفصيل .

٤ ـ أظهرت الرواية بلاغة السجادعليه‌السلام وجرأته وهو لا يزال في مقتبل العشرينات من عمره الزاخر بالعطاء الفكري والروحي والتشريعي .

٦٠

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

يوم عاشوراء

«إنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برما»

أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام

٢٢١

يوم عاشوراء

لَو كان يدري يوم عاشوراء

مـا كان يجري فيه من بلاء

مـا لاح فـجره ولا استنارا

ولا أضـاءت شمسه نهارا

سـوّد حـزناً أوجـه الأيام

وأوجـه الـشهور والأعوام

الله مـا أعـظمه مـن يوم

أزال صـبري وأطار نومي

الـيوم أهـل آيـة التطهير

بـين صـريع فيه أو عفير

اليوم قد مات الحفاظ واُلوفا

اليوم كاد الدّين يقضي أسفا

الـيوم نامت أعين الأعداء

وسـهدِّت عيون ذي الولاء

وَيلي وهل يجدي حزيناً ويل

لأضـلع تـدوسهنَّ الـخيل

وارؤس عـلى الرماح ترفع

وجثث على الصعيد تُوضَع

وثـاكل تـبدو من الخدور

تـعـجُّ بـالويل وبـالثبور

ومـرضع ترنو إلى رضيع

على التراب فاحص صريع

ونـسوة تـسبى على النياق

حـسرى تـعاني ألم الفراق

أهـمّ شـيء لـذوي الولاء

أن يـجلسوا للنوح و العزاء

فـيه تـقام سـنن المصاب

والترك للطعام والشراب(١)

لقد مرّ هذا اليوم على آل محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّه شجاء مترامي الأطراف، أثّرت فجائعه في القلوب فأذابتها وفي المدامع فأدمتها، فلا تسمع فيه إلاّ صرخة فاقد وزفرة ثاكل وحنة محزون، ولا تبصر إلاّ كلّ أشعث قد أنهكه ألم المصاب، و مغبر يذري على رأسه التراب، إلى لادم صدراً وصاك جبهته وقابض على فؤاد وصافق بيده الاُخرى، وترى النّاس سكارى وما هم بسكارى؛ لكن لوعة المصاب أليمة وكوارثه عظيمة. ولَو يكشف لك عن الملأ الأعلى لسمعت لعالم الملكوت صرخة وحنة، وللحور في غرف الجنان نشيجاً ونحيباً ولأئمّة الهدى بكاءاً وعويلاً.

ولا بدع؛ فالفقيد فيه عبق الرسالة وألق الخلافة وإكليل تاج الإمامة، وهو سبط المصطفى وبضعة فاطمة الزهراء وفلذة كبد الوصي المرتضى وشقيق السّبط

____________________________

(١) المقبولة الحسينية / ٦٢، لحجة الإسلام آية الله الشيخ هادي آل كاشف الغطاء قدس الله سره.

٢٢٢

المجتبى و حجّة الله على الورى، نعم هو الآية المخزونة والرحمة الموصولة والأمانة المحفوظه والباب المبتلى به النّاس.

فمصابه يقلّ فيه البكاء، ويعز عنه العزاء. فلو تطايرت شظايا القلوب وزهقت النّفوس جزعاً لذلك الحادث الجلل لكان دون واجبه. أو ترى للحياة قيمة والمؤدّى به هو ذلك العنصر الحيوي الزاكي. وما قدر الدمع المراق والموتور ثار الله في الأرض؟ أو يهدأ الكون والذاهب مرساه ومنجاه في مسراه؟ وهل ترقأ العين وهي ترنو بالبصيرة إلى ضحايا آل محمّد مجزّرين على وجه الصعيد مبضعة أجسادهم بين ضريبة للسيوف ودرية للرماح ورمية للنبال؟ وقد قضوا وهم رواء الكون ظماء على ضفة الفرات الجاري، تلغ فيه الكلاب وتشرب منه وحش الفلا، غير أنّ آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله محلأون عنه؟ وللمذاكي عقرن فلا يلوى لهنّ لجام، تجوال على تلك الصدور الزواكي ولصدر الحسين حديثه الشجي:

وأعـظم خـطب أنّ شمراً له على

جـناجن صـدر ابْـن النبيّ مقاعد

فـشُلَّت يـداه حـين يفري بسيفه

مـقلّد مـن تـلقى إلـيه الـمقالد

وأىّ فـتى أضـحت خـيول اُميّة

تـعادى عـلى جـثمانه وتـطارد

فـلهفي لـه والـخيل منهنَّ صادر

خضيب الحوافي في دماه ووارد(١)

فاللازم على الموالي المتأسّي بالنّبي الأعظم الباكي على ولده بمجرّد تذكّر مصابه(٢) أنْ يقيم المأتم على سيّد الشهداء، و يأمر مَن في داره بالبكاء عليه، و ليعزّ بعضهم بعضاً بالحسين، فيقول كما في حديث الباقرعليه‌السلام :

«عظّم الله اُجورنا و اُجوركم بمصابنا بالحسين، و جعلنا و إيّاكم من الطالبين بثأره مع وليّه المهدي من آل محمّد عليهم‌السلام » (٣) .

دخل عبد الله بن سنان على أبي عبد الله الصادقعليهم‌السلام في يوم عاشوراء، فرآه كاسف اللون ظاهر الحزن و دموعه تنحدر على خدّيه كاللؤلؤ فقال له: مِمَّ بكاؤك يابن رسول الله؟ قالعليه‌السلام :«أوَفي غفلة أنت؟! أما علمت أنّ الحسين اُصيب في هذا اليوم؟» ، ثمّ أمره أنْ يكون كهيئة أرباب المصائب، يحلل

____________________________

(١) للشيخ جعفر الخطي، كما في الدر النضيد / ٩٣.

(٢) الخصائص للسيوطي ٢ / ١٢٥، وأعلام النبوّة للماوردي / ٨٣.

(٣) كامل الزيارات / ١٧٥، ومصباح المتهجّد للشيخ الطوسي / ٣٩.

٢٢٣

أزراره ويكشف عن ذراعَيه ويكون حاسراً، ولا يصوم يوماً كاملاً، وليكن الافطار بعد العصر بساعة على شربة من ماء؛ ففي ذلك الوقت تجلّت الهيجاء عن آل محمّد. ثم قالعليه‌السلام :«لَو كان رسول الله حيّاً لكان هو المعزّى به» (١) .

وأمّا الإمام الكاظمعليه‌السلام فلَم يرَ ضاحكاً أيّام العشرة وكانت الكآبه غالبة عليه، ويوم العاشر يوم حزنه ومصيبته.

ويقول الرضاعليه‌السلام :«فعلى مثل الحسين فليبك الباكون، إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء» .

وفي زيارة النّاحية يقول حجّة آل محمّد عجّل الله فرجه:«فلأندبنّك صباحاً ومساءً، ولأبكينَّ عليك بدل الدموع دماً» .

وبعد هذا فهلاّ يجب علينا أن نخرق ثوب الاُنس ونتجلبب بجلباب الحزن والبكاء ونعرف كيف يجب أن نعظّم شعائر الله بإقامة المأتم للشهيد العطشان في العاشر من المحرّم؟!

الـيوم ديـنُ الهدى خرَّت دعائمُه

ومـلّة الـحقّ جـدّت في تداعيها

الـيوم ضلّ طريق العرف طالبه

وسُـدّ باب الرجا في وجه راجيها

الـيوم عـادت بنو الآمال متربةً

الـيوم بـان العفا في وجه عافيها

الـيوم شـقّ عـليه الـمجد حلّته

الـيوم جـزَّت له العليا نواصيها

اليوم عقد المعالي أرفض جوهره

الـيوم قد أصبحت عطْلٌ معاليها

الـيوم أظلم نادي العزّ من مضر

اليوم صرْفُ الردى أرسى بواديها

الـيوم قامت به الزهراء نادبةً

الـيوم آسـية وافـت تواسيها

الـيوم عـادت لدين الكفر دولتُه

الـيوم نـالت بـنو هـند أمانيها

مـا عذر ارجاس هند يوم موقفه

والمصطفى خصمهم والله قاضيها

مـا عـذرها ودِمـا ابنائه جعلت

خضاب أعيادها في راح ناديها(٢)

****

____________________________

(١) مزار ابن المشهدي من أعلام القرن السادس.

(٢) في شعراء الحلّة ٥ / ٥٤٠، إنّها للشيخ هادي النّحوي المتوفى سنة ١٢٢٥ ﻫ.

٢٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء

قال ابن قَولويه و المسعودي(١) : لما أصبح الحسين يوم عاشوراء وصلّى بأصحابه صلاة الصبح، قام خطيباً فيهم حمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:«إنّ الله تعالى أذِن في قتلكم و قتلي في هذا اليوم، فعليكم بالصبر والقتال» .

ثمّ صفّهم للحرب وكانوا اثنين وثمانين فارساً وراجلاً، فجعل زهير بن القين في المَيمنة، وحبيب بن مظاهر في المَيسرة، وثبت هوعليه‌السلام وأهل بيته في القلب(٢) ، وأعطى رايته أخاه العباس(٣) ؛ لأنّه وجد قمر الهاشميين أكفأ ممَّن معه لحملها، وأحفظهم لذمامه وأرأفهم به، وأدعاهم إلى مبدئه وأوصلهم لرحمه، وأحماهم لجواره وأثبتهم للطعان، وأربطهم جأشاً وأشدّهم مراساً(٤) .

وأقبل عمر بن سعد نحو الحسينعليه‌السلام في ثلاثين ألفاً وكان رؤساء

____________________________

(١) كامل الزيارات / ٧٣، وإثبات الوصيّة / ١٣٩، المطبعة الحيدرية.

(٢) مقتل الخوارزمي ٢ / ٤.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١، وتذكرة الخواص / ١٤٣ الطبعة الحجريّة.

(٤) اختلف المؤرّخون في عدد أصحاب الحسين؛

الأول: أنّهم اثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ذكره الشيخ المفيد في الإرشاد، والطبرسي في إعلام الورى / ١٤٢، والفتال في روضة الواعظين / ١٥٨، وابن جرير في التأريخ ٦ / ٢٤١، وابن الأثير في الكامل ٤ / ٢٤، والقرماني في أخبار الدول / ١٠٨، والدينوري في الأخبار الطوال / ٣٥٤.

الثاني: إنّهم إثنان وثمانون راجلاً، نسبه في الدمعة الساكبة / ٣٢٧ إلى الرواية وهو المختار.

الثالث: ستون راجلاً، ذكره الدميري في حياة الحيوان في خلافة يزيد ١ / ٧٣.

الرابع: ثلاثة وسبعون رجلاً، ذكره الشريشي في شرح مقامات الحريري ١ / ١٩٣.

الخامس: خمسة وأربعون فارساً ونحو مئة راجل ذكره ابن عساكر كما في تهذيب تاريخ الشام ٤ / ٣٣٧.

السادس: إثنان وثلاثون فارساً وأربعون راجلاً، ذكره الخوارزمي في المقتل ٢ / ٤.

السابع: واحد وستّون رجلاً، ذكره المسعودي في إثبات الوصيّة / ٣٥، طبع المطبعة الحيدرية.

الثامن: خمسة وأربعون فارساً ومئة راجل ذكره ابن نما في مثير الأحزان / ٢٨، وفي اللهوف / ٥٦: أنّه المروي عن الباقرعليه‌السلام .

التاسع: إثنان وسبعون رجلاً، ذكره الشبراوي في الإتحاف بحبِّ الأشراف / ١٧.

العاشر: ما في مختصر تاريخ دول الإسلام للذهبي ١ / ٣١: أنّهعليه‌السلام سار في سبعين فارساً من المدينة.

٢٢٥

الأرباع بالكوفة يومئذ: عبد الله بن زهير بن سليم الأزدي على ربع أهل المدينة، وعبد الرحمن بن أبي سبرة الحنفي على ربع مذحج وأسد، وقيس بن الأشعث على ربع ربيعة وكندة، والحرّ بن يزيد الرياحي على ربع تميم وهمدان(١) ، وكلّهم اشتركوا في حرب الحسين إلاّ الحرّ الرياحي.

وجعل ابنُ سعد على المَيمنة عمرو بن الحَجّاج الزبيدي، وعلى المَيسرة شمر بن ذي الجوشن العامري، وعلى الخيل عزرة بن قيس الأحمسي، وعلى الرجّالة شبث بن ربعي، والراية مع مولاه ذويد(٢) .

وأقبلوا يجولون حول البيوت فيرون النّار تضطرم في الخندق، فنادى شمر بأعلى صوته: يا حسين، تعجّلت بالنّار قبل يوم القيامة؟ فقال الحسينعليه‌السلام :«مَن هذا؟ كأنّه شمر بن ذي الجوشن»، قيل نعم فقالعليه‌السلام :«يابن راعية المعزى، أنت أولى بها منّي صِليّا». ورام مسلم بن عوسجة أنْ يرميه بسهم، فمنعه الحسين و قال:«أكره أنْ أبدأهم بقتال» (٣) .

دعاء الحسين

ولما نظر الحسينعليه‌السلام إلى جمعهم كأنّه السيل، رفع يدَيه بالدعاء وقال:«اللهمّ، أنت ثقتي في كلّ كرب، ورجائي في كلّ شدّة، وأنت لي في كلّ أمر نزل بي ثقة وعدّة، كم من همٍّ يضعف فيه الفؤاد وتقلّ فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق ويشمت فيه العدوّ، أنزلته بك وشكوته إليك، رغبةً منّي إليك عمَّن سواك فكشفته وفرّجته، فأنت ولي كلّ نعمة ومنتهى كلّ رغبة» (٤) .

____________________________

(١) في شرح النّهج لابن أبي الحديد ١ / ٨١، الطبعة المصرية: كانت الكوفة اسباعاً.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

(٣) الإرشاد للشيخ المفيد، وتاريخ الطبري ٦ / ٢٤٢.

(٤) ابن الاثير في الكامل ٤ / ٢٥، وتاريخ ابن عساكر ٤ / ٢٣٣، وذكر الكفعمي في المصباح / ١٥٨، طبعة الهند: إنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله دعا به يوم بدر. واختصره الذهبي في سير أعلام النبلاء ٣ / ٢٠٢.

٢٢٦

الخطبة الاُولى

ثمّ دعا براحلته فركبها، و نادى بصوت عال يسمعه جلّهم:

«أيّها النّاس اسمعوا قَولي، ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما هو حقّ لكم عليَّ، وحتّى أعتذر إليكم من مَقدمي عليكم، فإن قبلتم عذري وصدقتم قولي وأعطيتموني النّصف من أنفسكم، كنتم بذلك أسعد، ولم يكن لكم عليَّ سبيل. وإنْ لَم تقبلوا مِنّي العذر ولَم تعطوا النّصف من أنفسكم، فأجمعوا أمركم و شركاءكم ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة. ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون. إنّ ولييّ الله الذي نزل الكتاب وهو يتولّى الصالحين» .

فلمّا سمعنَ النّساء هذا منه صحنَ وبكينَ وارتفعت أصواتهنَّ، فأرسل إليهنَّ أخاه العبّاس وابنه علياً الأكبر وقال لهما:«سكّتاهنَّ فلعمري ليكثر بكاؤهنَّ» .

ولما سكتنَ، حمد الله وأثنى عليه وصلّى على محمّد وعلى الملائكة والأنبياء وقال في ذلك ما لا يحصى ذكره ولَم يُسمع متكلّم قبله ولا بعده أبلغ منه في منطقه(١) ، ثمّ قال:«عباد الله، اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر؛ فإنّ الدنيا لَو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد لكانت الأنبياء أحقّ بالبقاء وأولى بالرضا وأرضى بالقضاء، غير أنّ الله خلق الدنيا للفناء، فجديدها بالٍ ونعيمها مضمحل وسرورها مكفهر، والمنزل تلعة والدار قلعة، فتزوّدوا فإنّ خير الزاد التقوى، واتقوا الله لعلّكم تفلحون (٢) .

أيّها النّاس إنّ الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال متصرفة بأهلها حالاً بعد حال، فالمغرور من غرّته والشقي من فتنته، فلا تغرّنكم هذه الدنيا، فإنّها تقطع رجاء من ركن إليها وتُخيّب طمع من طمع فيها. وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم وأعرض بوجهه الكريم عنكم وأحلَّ بكم نقمته، فنِعمَ الربّ ربّنا وبئس العبيد أنتم؛ أقررتم بالطاعة وآمنتم بالرسول محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ إنّكم زحفتم إلى ذريّته وعترته تريدون قتلهم، لقد استحوذ عليكم

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٢.

(٢) زهر الآداب للحصري ١ / ٦٢، طبعة دار الكتب العربية، سنة ١٣٧٢.

٢٢٧

الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم، فتبّاً لكم ولِما تريدون. إنّا لله وإنّا إليه راجعون هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم فبُعداً للقوم الظالمين (١) .

أيّها النّاس أنسبوني مَن أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألستُ ابن بنت نبيّكم وابن وصيّه وابن عمّه وأول المؤمنين بالله والمصدّق لرسوله بما جاء من عند ربّه؟ أوَ ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي؟ أوَ ليس جعفر الطيّار عمّي، أوَ لَم يبلغكم قول رسول الله لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنّة؟ فإنْ صدّقتموني بما أقول وهو الحقّ - والله ما تعمدتُ الكذب منذ علمت أنّ الله يمقت عليه أهله ويضرّ به من اختلقه - وإنْ كذّبتموني فإنّ فيكم مَن إنْ سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد الله الأنصاري، وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنّهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله لي ولأخي، أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي؟!»

فقال الشمر: هو يعبد الله على حرف إنْ كان يدري ما يقول.

فقال له حبيب بن مظاهر: والله إنّي أراك تعبد الله على سبعين حرفاً، وأنا أشهد أنّك صادق ما تدري ما يقول، قد طبع الله على قلبك.

ثمّ قال الحسينعليه‌السلام :«فإنْ كنتم في شكّ من هذا القول، أفتشكّون أنّي ابن بنت نبيّكم، فوالله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم، ويحكم اتطلبوني بقتيل منكم قتلته؟! أو مال لكم استهلكته؟! أو بقصاص جراحة؟!»، فأخذوا لا يكلّمونه!

فنادى:«يا شبث بن ربعي، ويا حَجّار بن أبجر، ويا قيس بن الأشعث، ويا زيد بن الحارث ألم تكتبوا إليَّ أنْ اقدم قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب، وإنّما تقدم على جند لك مجنّدة؟»

فقالو: لَم نفعل.

قال:«سبحان الله! بلى والله لقد فعلتم». ثمّ قال:«أيّها النّاس، إذا كرهتموني

____________________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب الحايري.

٢٢٨

فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمن من الأرض». فقال له قَيس بن الأشعث: أولا تنزل على حكم بني عمّك؟ فإنّهم لَن يروك إلاّ ما تُحبّ ولَن يصل إليك منهم مكروه.

فقال الحسينعليه‌السلام :«أنت أخو أخيك، أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل؟ لا والله لا اُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أفرّ فرار العبيد (١) ، عباد الله إنّي عذتُ بربّي وربّكم أنْ ترجمون، أعوذ بربّي وربّكم من كلّ متكبِّر لا يؤمن بيوم الحساب» .

ثمّ أناخ وأمر عقبة بن سمعان فعقلها(٢) .

وقـام لـسان الله يـخطب واعـظاً

فـصمّوا لـما عن قدس أنواره عموا

وقال انسبوني مَن أنا اليوم وانظروا

حـلالٌ لـكم مـنّي دمـي أم محرّم

فـمـا وجـدوا إلاّ الـسِّهام بـنحره

تــراش جـواباً والـعوالي تـقَّوم

ومـذ أيـقن السّبط انمحى دين جَدّه

ولَم يبقَ بين النّاس في الأرض مسلم

فـدى نـفسه في نصرة الدين خائضاً

عـن الـمسلمين الـغامرات ليسلموا

وقـال خـذيني يا حتوف وهاك يا

سـيوف فـأوصالي لـك اليوم مغنم

وهـيهات أن أغدو على الضّيم جاثماً

ولـو لا عـلى جـمر الأسـنَّة مجثم

وكـرّ وقد ضاق الفضا وجرى القضا

وسـال بـوادي الـكفر سيل عرمرم

ومـذ خـرّ بـالتعظيم لله سـاجداً

لـه كـبّروا بـين السّيوف وعظموا

وجـاء إلـيه الـشّمر يـرفع رأسه

فـقـام بـه عـنه الـسّنان الـمقوّم

وزُعْـزع عـرش الله وانـحطَّ نوره

فـأشرق وجه الأرض والكون مظلم

____________________________

(١) (بالفاء الموحّدة فيهما)، رواه ابن نما في مثير الأحزان / ٢٦، وهو أصح ممّا يمضي على الألسن، ويوجد في بعض المقاتل (بالقاف) من الإقرار؛ لأنّه على هذا تكون الجملة الثانية غير مفيدة، إلاّ ما أفادته التي قبلها بخلافه على قراءة الفرار، فإنّ الجملة الثانية تفيد أنّه لا يفرّ من الشدة والقتل، كما يصنعه العبيد. وهو معنى غير ما تؤدي إليه الجملة التي قبلها، على أنّه يوجد في كلام أمير المؤمنين ما يشهد له، ففي تاريخ الطبري ٦ / ٧٦ الطبعة الاُولى وكامل ابن الأثير ٣ / ١٤٨، ونهج البلاغة ١ / ١٠٤، المطبعة الأميريّة: إنّ أمير المؤمنين قال في مصقلة بن هبيرة لمّا فرّ إلى معاوية:«ما لَه فعل فعل السيّد، وفرّ فرار العبد، وخان خيانة الفاجر؟!»، وقصّته على ما ذكرها ابن حزم في جمهرة أنساب العرب / ١٦٤: إنّ أصحاب الحريث بن راشد من بني عبد البيت بن الحارث ارتدّوا أيام عليعليه‌السلام فحاربهم وقتلهم وسبى نساءهم وأبناءهم، فابتاعهم مصقلة الشيباني وأعتقهم ثمّ هرب إلى معاوية، فأمضى عليعليه‌السلام عتقه لهم.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٣.

٢٢٩

ومذ مال قطب الكون مال وأوشك

انـقلاباً يـميل الـكائنات ويـعدم

وحين ثوى في الأرض قرَّ قرارها

وعادت ومن أوج السّما وهي أعظم

فـلهفي لـه فـرداً عليه تزاحمت

جـموع الـعدى تزداد جهلاً فيحلم

ولـهفي لـه ظـامٍ يـجود وحوله

الـفرات جـرى طامٍ وعنه يحرَّم

ولـهفي لـه مـلقىً وللخيل حافر

يـجول عـلى تلك الضلوع وينسم

ولـهفي على أعضاك يابن محمد

تُــوزّع فـي أسـيافهم وتـسهم

فـجسمك مـا بين السّيوف موزَّع

ورحـلك مـا بـين الأعادي مقسّم

فـلهفي عـلى ريحانة الطُّر جسمه

لـكلّ رجـيم بـالحجارة يرجم(١)

كرامة وهداية

وأقبل القوم يزحفون نحوه، وكان فيهم عبد الله بن حوزة التميمي(٢) فصاح: أفيكم حسين؟ وفي الثالثة قال أصحاب الحسين: هذا الحسين فما تريد منه؟ قال: يا حسين، أبشر بالنّار، قال الحسين:«كذبت، بل أقدم على ربّ غفور كريم مطاع شفيع. فمَن أنت؟» قال: أنا ابن حوزة. فرفع الحسين يدَيه حتّى بانَ بياض ابطَيه وقال: «اللهمّ، حزه إلى النّار، فغضب ابن حوزة وأقحم الفرس إليه وكان بينهما نهر فسقط عنها وعلقت قدمه بالركاب، وجالت به الفرس وانقطعت قدمه وساقه وفخذه، وبقي جانبه الآخر معلّقاً بالركاب، وأخذت الفرس تضرب به كلّ حجر وشجر(٣) ، وألقته في النّار المشتعلة في الخندق فاحترق بها ومات. فخرّ الحسينعليه‌السلام ساجداً شاكراً حامداً على إجابة دعائه، ثمّ إنّه رفع صوته يقول:«اللهمّ، إنّا أهل بيت نبيّك وذريّته وقرابته، فاقصم مَن ظلمنا وغصبنا حقّنا إنّك سميع قريب» فقال له: محمّد بن الأشعث أيّ قرابة بينك وبين محمّد؟ فقال الحسين:«اللهمّ إنّ

____________________________

(١) من قصيدة لآية الله الحجّة الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء، ذُكرت بتمامها في كتابنا (قمر بن هاشم).

(٢) في مجمع الزوائد للهيثمي ٩ / ١٩٣: ابن جويرة أو جويزة.

وفي مقتل الحسين للخوارزمي ١ / ٢٤٨: مالك بن جريرة.

وفي روضة الواعظين للفتال / ١٥٩ الطبعة الاُولى: يقال له: ابن أبي جويرة المزني، وإنّ فرسه نفرت به وألقته في النّار التي في الخندق.

(٣) كامل ابن الأثير ٤ / ٢٧.

٢٣٠

محمد بن الأشعث يقول: ليس بيني و بين محمّد قرابة. اللهمّ أرني فيه هذا اليوم ذلاً عاجلاً» ، فاستجاب الله دعاءه، فخرج محمّد بن الأشعث من العسكر، ونزل عن فرسه لحاجته، وإذا بعقرب أسود يضربه ضربة تركته متلوّثاً في ثيابه ممّا به(١) ومات باديَ العورة(٢) .

قال مسروق بن وائل الحضرمي: كنتُ في أوّل الخيل التي تقدّمت لحرب الحسين؛ لعلّي أنْ اُصيب رأس الحسين فأحظى به عند ابن زياد، فلمّا رأيت ما صُنع بابن حوزة عرفت أنّ لأهل هذا البيت حرمة ومنزلة عند الله، وتركت النّاس وقلت: لا اُقاتلهم فأكون في النّار(٣) .

خطبة زهير بن القين

وخرج إليهم زهير بن القين على فرس ذنوب وهو شاك في السّلاح فقال: يا أهل الكوفة، نذار لكم من عذاب الله إنَّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد، ما لَم يقع بيننا وبينكم السّيف، وأنتم للنصيحة منّا أهل، فإذا وقع السّيف انقطعت العصمة، وكنّا اُمّة وأنتم اُمّة، إنّ الله ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون. إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية يزيد وعبيد الله بن زياد، فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ سوء عمر سلطانهما، يسملان أعينكم ويقطعان أيديكم وأرجلكم ويمثّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النّخل، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم أمثال حِجر بن عدي وأصحابه، وهاني بن عروة وأشباهه. فسبّوه وأثنوا على عبيد الله بن زياد ودعوا له وقالوا: لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَن معه أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلماً.

فقال زهير: عباد الله إنّ ولد فاطمة أحقّ بالودّ والنّصر من ابن سميّة، فإنْ لم

____________________________

(١) مقتل الحسين للخوارزمي ج١ ص٢٤٩ فصل ١١: واقتصر الصدوق في الأمالي على دعائه على محمّد بن الأشعث.

(٢) روضة الواعظين للفتال ص١٥٩ طبع أول.

(٣) الكامل لابن الأثير ج٤ ص٢٧.

٢٣١

تنصروهم، فاُعيذكم بالله أنْ تقتلوهم، فخلّوا بين هذا الرجل وبين يزيد، فلَعمري إنّه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسينعليه‌السلام .

فرماه الشمر بسهم وقال: اسكت أسكت الله نامتك، أبرمتنا بكثرة كلامك.

فقال زهير: يابن البوّال على عقبيه، ما إيّاك اُخاطب، إنّما أنت بهيمة والله ما أظنّك تحكم من كتاب الله آيتَين، فأبشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم.

فقال الشمر: إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة.

فقال زهير: أفبالموت تخوّفني؟ فوالله لَلموت معه أحبّ إليَّ من الخلد معكم. ثمّ أقبل على القوم رافعاً صوته وقال:

عباد الله، لا يغرّنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه، فوالله لا تنال شفاعة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله قوماً هرقوا دماء ذريّته وأهل بيته، وقتلوا مَن نصرهم وذبَّ عن حريمهم.

فناداه رجل من أصحابه، إنّ أبا عبد الله يقول لك:«أقبِل، فلَعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء، فلقد نصحتَ هؤلاء وأبلغت لَو نفع النّصح والإبلاغ» (١) .

خطبة بُرير

واستأذن الحسينَ برير بن خضير(٢) في أنْ يكلّم القوم، فأذن له وكان شيخاً تابعياً ناسكاً قارئاً للقرآن ومن شيوخ القرّاء في جامع الكوفة، وله في الهمدانيّين شرف وقدر.

فوقف قريباً منهم ونادى: يا معشر النّاس، إنّ الله بعث محمداً بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السّواد وكلابه

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٣.

(٢) قال ابن الأثير في الكامل ٤ / ٣٧: برير (بالباء الموحّدة، وفتح الراء المهملة، وسكون الياء المثناة من تحتها، وآخره راء). وخضير (بالخاء والضاد المعجمتين).

٢٣٢

وقد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله، أفجزاء محمّد هذا؟!(١) .

فقالوا: يا بُرير، قد أكثرت الكلام، فاكفف عنّا، فوالله ليعطش الحسين كما عطش مَن كان قبله.

قال: يا قوم، إنّ ثقل محمّد قد أصبح بين أظهركم، وهؤلاء ذرّيته وعترته وبناته وحرمه، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أنْ تصنعوه بهم؟ فقالوا: نريد أنْ نمكنّ منهم الأمير عبيد الله بن زياد، فيرى فيهم رأيه.

قال: أفلا تقبلون منهم أنْ يرجعوا إلى المكان الذي جاؤا منه؟ ويلكم يا أهل الكوفة، أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها وعليكم؟! أدعوتم أهل بيت نبيّكم وزعمتم أنّكم تقتلون أنفسكم دونهم حتّى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد وحلأتموهم عن ماء الفرات؟ بئسما خلفتم نبيّكم في ذريّته! ما لكم؟ لا سقاكم الله يوم القيامة فبئس القوم أنتم!

فقال له نفر منهم: يا هذا، ما ندري ما تقول!

قال: الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة، اللهمّ إنّي أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم، اللهمّ القِ بأسهم بينهم حتّى يلقوك وأنت عليهم غضبان.

فجعل القوم يرمونه بالسّهام، فتقهقر(٢) .

خطبة الحسين الثانية

ثمّ إنّ الحسينعليه‌السلام ركب فرسه، وأخذ مصحفاً ونشره على رأسه، ووقف بإزاء القوم وقال:«يا قوم، إنّ بيني وبينكم كتاب الله وسنّة جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله » (٣) .

ثمّ استشهدهم عن نفسه المقدّسة وما عليه من سيف النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولامته

____________________________

(١) في أمالي الصدوق / ٩٦، المجلس الثلاثون، الطبعة الاُولى: لمّا بلغ العطش من الحسين وأصحابه، استأذن برير أن يكلّم القوم فأذِن له.

(٢) البحار ج١٠: عن محمّد بن أبي طالب. [ بحار الأنوار ٤٥ / ٥ ].

(٣) تذكرة الخواص / ١٤٣.

٢٣٣

وعمامته فأجأبوه بالتصديق. فسألهم عمّا أخذهم على قتله؟ قالوا: طاعةً للأمير عبيد الله بن زياد، فقالعليه‌السلام :

«تبّاً لكم أيّتها الجماعة و ترحاً، أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوّنا وعدوّكم، فأصبحتم إلباً لأعدائكم على أوليائكم، بغير عدل أفشوه فيكم ولا أمل أصبح لكم فيهم. فهلاّ - لكم الويلات! - تركتمونا والسّيف مشيم والجأش طامن والرأي لَما يستحصف، ولكنْ أسرعتم إليها كطيرة(١) الدبا وتداعيتم عليها كتهافت الفراش، ثمّ نقضتموها، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة وشذاذ الأحزاب ونبذة الكتاب ومحرّفي الكلِم وعصبة الإثم ونفثة الشيطان ومطفئيّ السّنَن! ويحكم أهؤلاء تعضدون وعنّا تتخاذلون! أجل والله غدر فيكم قديم وشجت عليه اُصولكم وتأزّرت فروعكم فكنتم أخبث ثمرة، شجى للناظر وأكلة للغاصب!

ألا وإنّ الدّعيّ بن الدعيّ قد ركز بين اثنتَين؛ بين السّلة والذلّة، وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة، من أن نؤثر طاعة اللئام من مصارع الكرام، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة على قلّة العدد وخذلان النّاصر». ثمّ أنشد أبيات فروة بن مُسيك المرادي(٢) .

____________________________

(١) بالكسر فالفتح، تاج العروس.

(٢) نقلناها من اللهوف / ٥٤، ورواها ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٣، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٦، وفي نقليهما خلاف لما هنا.

وقال ابن حجر في الإصابة ٣ / ٢٠٥: وفد فروة بن مسيك (بالتصغير) على النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله سنة تسع مع مذحج، واستعمله النبي على مراد ومذحج وزبيد.

وفي الاستيعاب: سكن الكوفة أيام عمر. وذكر ابن هشام في السيرة بهامش الروض الانف ٢ / ٣٤٤: لمّا كانت الوقعة بين مراد وهمدان، أنشأ أبياتاً تسعة ولَم يكن فيها البيت الثالث والرابع. وفي اللهوف ذكر سبعة مع البيتين. وفي الأغاني ١٩ / ٤٩: نسب الفرزدق إلى خاله العلاء بن قرظة قوله:

إذا ما الدهر جر على اناس

بكلكله أناخ بآخرينا

فقل للشامتين الخ.

وذكر ابن عساكر في تاريخ الشام ٤ / ٣٣٤، والخوارزمي في المقتل ٢ / ٧، الأول والثاني ولَم ينسباهما إلى أحد.

ونسبهما المرتضى في الأمالي ١ / ١٨١ إلى ذي الإصبع العدواني. وفي عيون الأخبار لابن قتيبة ٣ / ١١٤، وشرح الحماسة للتبريزي ٣ / ١٩١: أنّها للفرزدق.

وفي الحماسة البصريّة / ٣٠: أنّهما من قصيدة فروة بن مسيك، ويرويان لعمر بن قعاس.

٢٣٤

فـإن نـهزم فـهزّامون قدماً

وإن نـهْزَم فـغير مُـهزَّمينا

ومـا أن طبنا(١) جبن ولكن

مـنـايانا ودولــة آخـرينا

فـقل لـلشامتين بـنا أفيقوا

سـيلقى الـشامتون كما لقينا

إذا مات الموت رفَّع عن اُناس

بـكـلكله أنــاخ بـآخرينا

أما والله، لا تلبثون بعدها إلاّ كريثما يركب الفرس، حتّى تدور بكم دور الرحى وتقلق بكم قلق المحور، عهدٌ عَهَده إليَّ أبي عن جدّي رسول الله، فاجمعوا أمركم وشركاءكم، ثمّ لا يكن أمركم عليكم غمّة ثمّ اقضوا إليَّ ولا تنظرون، إنّي توكّلت على الله ربّي وربّكم، ما من دابّة إلاّ هو آخذ بناصيتها إنّ ربّي على صراط المستقيم» (٢) .

ثمّ رفع يدَيه نحو السّماء وقال:«اللهمّ، احبس عنهم قطر السّماء، وابعث عليهم سنين كسنيّ يوسف، وسلّط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأساً مصبرة، فإنّهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربّنا عليك توكّلنا وإليك المصير (٣) .

والله لا يدع أحداً منهم إلاّ انتقم لي منه، قتلةً بقتلة وضربةً بضربة، وإنّه لينتصر لي ولأهل بيتي وأشياعي» (٤) .

ضلال ابن سعد

واستدعى الحسينعليه‌السلام عمر بن سعد، فدُعي له - وكان كارهاً لا يحبّ أن يأتيه - فقالعليه‌السلام :«أي عمر، أتزعم أنّك تقتلني ويولّيك الدعيّ بلاد الري وجرجان؟ والله لا تتهنّأ بذلك، عهد معهود فاصنع ما أنت صانع، فإنّك لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأنّي برأسك على قصبة يتراماه الصبيان بالكوفة ويتّخذونه غرضاً بينهم»، فصرف بوجهه عنه مغضباً(٥) .

____________________________

(١) الطب (بالكسر): الإرادة والعادة.

(٢) تاريخ ابن عساكر ٤ / ٣٣٤، والمقتل للخوارزمي ٢ / ٧، واللهوف / ٥٤.

(٣) اللهوف / ٥٦، طبعة صيدا، والمقتل للخوارزمي ٣ / ٧.

(٤) مقتل العوالم / ٨٤.

(٥) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١١٠، ومقتل العوالم / ٨٤، ومقتل الخوارزمي ٢ / ٨.

٢٣٥

توبة الحرّ

ولمّا سمع الحرّ بن يزيد الرياحي كلامه واستغاثته، أقبل على عمر بن سعد وقال له: أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله، قتالاً أيسره أن تسقط فيه الرؤوس وتطيح الأيدي. قال: ما لكم فيما عرضه عليكم من الخصال؟ فقال: لَو كان الأمر إليَّ لقبلت، ولكن أميرك أبى ذلك. فتركه ووقف مع النّاس، وكان إلى جنبه قرّة بن قيس فقال لقرّة: هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فهل تريد أن تسقيه؟ فظنّ قرّة من ذلك أنّه يريد الاعتزال ويكره أن يشاهده، فتركه فأخذ الحرّ يدنو من الحسين قليلاً، فقال له المهاجر بن أوس: أتريد أن تحمل؟ فسكت وأخذته الرعدة، فارتاب المهاجر من هذا الحال وقال له: لَو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة؟ لَما عدوتك، فما هذا الذي أراه منك؟ فقال الحرّ: إنّي اُخيِّر نفسي بين الجنّة والنّار، والله لا أختار على الجنّة شيئاً ولو اُحرقت. ثمّ ضرب جواده نحو الحسين(١) منكّساً رمحه قالباً ترسه(٢) وقد طأطأ برأسه؛ حياءً من آل الرسول بما أتى إليهم وجعجع بهم في هذا المكان على غير ماء ولا كلأ، رافعاً صوته:

اللهمّ إليك اُنيب فتب عليَّ، فقد أرعبت قلوب أوليائك وأولاد نبيّك. يا أبا عبدالله إنّي تائب، فهل لي من توبة؟

فقال الحسينعليه‌السلام :«نعم يتوب الله عليك» (٣) . فسرّه قوله وتيقّن الحياة الأبديّة والنّعيم الدائم، ووضح له قول الهاتف لمّا خرج من الكوفة، فحدّث الحسينعليه‌السلام بحديث قال فيه: لمّا خرجت من الكوفة نُوديت: أبشر يا حرّ بالجنّة. فقلت: ويلٌ للحر

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٤.

(٢) في البداية لابن كثير ٧ / ٦٣: في واقعة اليرموك قال جرجه، وهو من النصارى لخالد بن الوليد: ما منزلة مَن يدخل منّا في هذا الأمر؟ قال خالد: له من الأجر أفضل ممّا لنا؛ لأنا صدقنا نبينا وهو حي بين أظهرنا يأتيه وحي السّماء ونرى الآيات، ومَن يسلم منكم وهو لَم يسمع ما سمعنا ولَم يرَ ما رأينا من العجائب والحجج وكان دخوله في هذا الأمر بيّنة صادقة، كان أفضل منّا. فعند ذلك قلب جرجه الترس ومال مع خالد وقال: علِّمني الإسلام....

وفي أنساب الأشراف للبلاذري ١ / ٤٢، طبعة دار المعارف، مصر: كان العرب إذا خافوا ووردوا على من يستجيرون به وجاؤا للصلح نكسوا رماحهم. وقال في صفحة ٤٣: وفد الحارث بن ظالم على عبد الله بن جدعان بـ (عكاظ) وهم يرون حرب قيس، فكذلك نكّس رمحه ثمّ رفعه حين عرفوه وأمن.

(٣) اللهوف / ٥٨، وأمالي الصدوق / ٩٧ المجلس الثلاثون، وروضة الواعظين / ١٥٩.

٢٣٦

يُبشّر بالجنّة وهو يسير إلى حرب ابن بنت رسول الله؟!(١) .

فقال له الحسينعليه‌السلام :«لقد أصبت خيراً وأجراً» (٢) . وكان معه غلام تركي(٣) .

نصيحة الحر لأهل الكوفة

ثمّ استأذن الحسينَعليه‌السلام في أنْ يكلّم القوم فأذن له، فنادى بأعلى صوته: يا أهل الكوفة لاُمّكم الهبل والعبر؛ إذ دعوتموه وأخذتم بكظمه وأحطتم به من كلّ جانب فمنعتموه التوجّه إلى بلاد الله العريضة حتّى يأمن وأهل بيته، وأصبح كالأسير في أيديكم لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضرّاً، وحلأتموه ونساءه وصبيته وصحبه عن ماء الفرات الجاري الذي يشربه اليهود والنّصارى والمجوس، وتمرغ فيه خنازير السواد وكلابه. وها هم قد صرعهم العطش، بئسما خلفتم محمداً في ذريّته! لا سقاكم الله يوم الظمأ! فحملت عليه رجّالة ترميه بالنّبل، فتقهقر حتّى وقف أمام الحسين(١) .

الحملة الاُولى

وتقدّم عمر بن سعد نحو عسكر الحسين ورمى بسهم وقال: اشهدوا لي عند الأمير إنّي أول من رمى. ثمّ رمى النّاس(٢) ، فلَم يبقَ من أصحاب الحسين أحد إلاّ أصابه من سهامهم(٣) ، فقالعليه‌السلام لأصحابه:«قوموا رحمكم الله إلى الموت الذي لا بدّ منه، فإنَّ هذه السّهام رسل القوم إليكم» . فحمل أصحابه حملةً واحدةً(٤) واقتتلوا ساعة، فما انجلت الغبرة إلاّ عن خمسين صريعاً(٥) .

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٩٣، المجس الثلاثون.

(٢) مثير الأحزان لابن نما / ٣١، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢ / ٩: كان معه غلام له تركي.

(٣) الهبل (بالتحريك): الثكل. والعبر (بالفتح): الحزن، وجريان الدمعة كاستعبر، تاج العروس.

(٤) ابن الأثير ٤ / ٢٧.

(٥) الخطط المقريزيّة ٢ / ٢٨٧.

(٦) مقتل العوالم / ٨٤.

(٧) اللهوف / ٥٦.

(٨) البحار عن محمّد بن أبي طالب.

٢٣٧

سـطت ورحى الهيجاء تطحن شوسها

ووجـه الـضحى فـي نقعها متنقِّب

تـهـلّل بـشراً بـالقراع وجـوهها

وكـم وجـه ضـرغام هناك مقطّب

وتـلتذّ أن جـاءت لـها السمر تلتوي

وللبيض ان سُلّت لدى الضرب تطرب

أعـزّاء لا تـلوي الـرقاب لـفادح

ولا مـن اُلـوف في الكريهة ترهب

فـما لـسوى الـعلياء تـاقت نفوسهم

ولَـم تك في شيء سوى العزّ ترغب

فـلَـو أنَّ مـجداً في الـثرّيا لـحلقت

إلـيه وشـأن الـشّهم لـلمجد يطلب

فـأسيافهم يـوم الـوغى تمطر الدّما

وأيـديهم مـن جودها الدهر مخضب

ومـا برحت تقري المواضي لحومها

ومـن دمـها السّمر العواسل تشرب

إلـى أنْ تهاوت كالكواكب في الثرى

ومـا بعدهم يا ليت لا لاح كوكب(١)

تـهاووا فـقل زهـر النّجوم تهافتت

وأهـووا فـقل شـمّ الجبال تهدّم(٢)

وخرج يسار مولى زياد وسالم مولى عبيد الله بن زياد فطلبا البراز، فوثب حبيب وبرير، فلم يأذن لهما الحسينعليه‌السلام . فقام عبد الله بن عمير الكلبي، من بني عليم، وكنيته أبو وهب، وكان طويلاً شديد السّاعدين بعيد ما بين المنكبين، شريفاً في قومه شجاعاً مجرّباً، فأذن له وقال:«أحسبه للأقران قتّالاً». فقالا له: مَن أنت؟ فانتسب لهما، فقالا: لا نعرفك ليخرج إلينا زهير أو حبيب أو برير، وكان يسار قريباً منه فقال له: يابن الزانية أوَبك رغبةً عن مبارزتي؟ ثمّ شدّ عليه بسيفه يضربه، وبينا هو مشتغل به إذ شدّ عليه سالم، فصاح أصحابه قد رهقك العبد فلم يعبأ به، فضربه سالم بالسّيف فاتقاها عبد الله بيده اليسرى فأطار أصابعه، ومال عليه عبد الله فقتله. وأقبل إلى الحسين يرتجز وقد قتلهما.

وأخذت زوجته اُمّ وهب بنت عبد الله بن النمر بن قاسط، عموداً، وأقبلت نحوه تقول له: فداك أبي واُمّي قاتل دون الطيّبين ذريّة محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . فأراد أنْ يردّها إلى الخيمة، فلَم تطاوعه وأخذت تجاذبه ثوبه وتقول: لن أدعك دون أنْ أموت معك. فناداها الحسينعليه‌السلام :«جزيتم عن أهل بيت نبيكم خيراً،

____________________________

(١) من قصيدة للشيخ حسون الحلي، شعراء الحلة ٢ / ١٠٤.

(٢) من قصيدة للحجة للشيخ محمّد حسين كاشف الغطاءقدس‌سره ، طبعت في كتابنا (قمر بني هاشم).

٢٣٨

ارجعي إلى الخيمة، فإنّه ليس على النّساء قتال». فرجعت(١) .

مبارزة الاثنين والاربعة

ولمّا نظر مَن بقي من أصحاب الحسين إلى كثرة مَن قُتل منهم، أخذ الرجلان والثلاثة و الأربعة يستأذنون الحسين في الذبّ عنه والدفع عن حرمه، وكلّ يحمي الآخر من كيد عدوّه. فخرج الجابريّان وهما: سيف بن الحارث بن سريع، ومالك بن عبد بن سريع، وهما ابنا عمّ وأخوان لاُمّ، وهما يبكيان قال الحسينعليه‌السلام :«ما يبكيكما؟ إنّي لأرجو أنْ تكونا بعد ساعة قريرَي العين» . قالا: جعلنا الله فداك، ما على أنفسنا نبكي ولكن نبكي عليك؛ نراك قد اُحيط بك ولا نقدر أنْ ننفعك. فجزاهما الحسين خيراً. فقاتلا قريباً منه حتّى قُتلا(٢) .

وجاء عبد الله وعبد الرحمن ابنا عروة الغفاريّان فقالا: قد حازنا النّاس إليك. فجعلا يقاتلان بين يدَيه حتّى قُتلا.

وخرج عمرو بن خالد الصيداوي وسعد مولاه وجابر بن الحارث السلماني ومجمع بن عبد الله العائذي(٣) ، وشدّوا جميعاً على أهل الكوفة فلمّا أوغلوا فيهم، عطف عليهم النّاس وقطعوهم عن أصحابهم، فندب إليهم الحسين أخاه العبّاس فاستنقذهم بسيفه، وقد جُرحوا بأجمعهم، و في أثناء الطريق اقترب منهم العدوّ فشدّوا بأسيافهم مع ما بهم من الجراح، و قاتلوا حتّى قتلوا في مكان واحد(٤) .

استغاثة و هداية

ولمّا نظر الحسين إلى كثرة مَن قُتل من أصحابه، قبض على شيبته المقدّسة وقال:«اشتدّ غضب الله على اليهود إذ جعلوا له ولداً، واشتدّ غضبه على النّصارى إذ جعلوه ثالث ثلاثة، واشتدّ غضبه على المجوس إذ عبدوا الشمس

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٥، وابن الأثير ٤ / ٣٧.

(٢) ابن الأثير ٤ / ٢٩.

(٣) في الإصابة ٣ / ٩٤ القسم الثالث: مجمع بن عبد الله بن مجمع بن مالك بن أياس بن عبد مناة بن سعد، قُتل مع الحسين بن عليعليه‌السلام بالطفّ، ولأبيه إدراك.

(٤) تاريخ الطبري ٦ / ٢٥٥.

٢٣٩

والقمر دونه، واشتدّ غضبه على قوم اتّفقت كلمتهم على قتل ابن بنت نبيّهم. أما والله، لا اُجيبهم إلى شيء ممّا يريدون حتّى ألقى الله وأنا مخضّب بدمي، ثمّ صاح: أما من مغيث يغيثنا! أما من ذابّ يذبُّ عن حرم رسول الله!» (١) فبكت النّساء وكثر صراخهن.

وسمع الأنصاريّان سعد بن الحارث وأخوه أبو الحتوف استنصار الحسينعليه‌السلام واستغاثته وبكاء عياله - وكانا مع ابن سعد - فمالا بسيفيهما على أعداء الحسينعليه‌السلام وقاتلا حتّى قُتلا(٢) .

ثبات الميمنة

وأخذ أصحاب الحسينعليه‌السلام - بعد أن قلّ عددهم وبان النّقص فيهم - يبرز الرجل بعد الرجل فأكثروا القتل في أهل الكوفة. فصاح عمرو بن الحَجّاج لأصحابه: أتدرون مَن تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وأهل البصائر وقوماً مستميتين، لا يبرز إليهم أحد منكم إلاّ قتلوه على قلّتهم، والله لَو لَم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم. فقال عمر بن سعد: صدقت، الرأي ما رأيت، ارسِل في النّاس مَن يعزم عليهم أنْ لا يبارزهم رجل منهم، ولَو خرجتم إليهم وحداناً لأتوا عليكم(٣) .

ثمّ حمل عمرو بن الحَجّاج على مَيمنة الحسينعليه‌السلام ، فثبتوا له وجثوا على الركب وأشرعوا الرماح، فلَم تقدم الخيل. فلمّا ذهبت الخيل لترجع، رشقهم أصحاب الحسينعليه‌السلام بالنّبل فصرعوا رجالاً وجرحوا آخرين(٤) .

وكان عمرو بن الحَجّاج يقول لأصحابه: قاتِلوا مَن مَرق عن الدِّين وفارق الجماعة. فصاح الحسينعليه‌السلام :«ويحك يا عمرو! أعليَّ تحرّض النّاس؟ أنحن مرقنا من

____________________________

(١) اللهوف / ٥٧.

(٢) الحدايق الورديّة مخطوط.

(٣) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٩.

(٤) كامل ابن الأثير ٤ / ٢٧.

٢٤٠

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413