الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين14%

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين مؤلف:
الناشر: المؤلف
تصنيف: الإمام علي بن الحسين عليه السلام
الصفحات: 413

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين
  • البداية
  • السابق
  • 413 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 250565 / تحميل: 14283
الحجم الحجم الحجم
الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) زين العابدين

مؤلف:
الناشر: المؤلف
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

الإصباح في الشام :

وفي بيان ما جرى عليهعليه‌السلام وعلى بقية العترة من مصاعب في الشام ، وقد قيل له كيف أصبحت ، فقالعليه‌السلام : ( كيف حال من اصبح وقد قتل أبوه ، وقلّ ناصره ، وينظر الى حرم من حوله أسارى ، قد فقدوا الستر والغطاء ، وقد أعدموا الكافل والحمى فما تراني إلا أسيراً ذليلاً قد عدمت الناصر والكفيل ، قد كسيت أنا وأهل بيتي ثياب الأسى ، وقد حرمت علينا جديد العرى فإن تسأل فها أنا كما ترى ، قد شمتت فينا الأعداء ، ونترقب الموت صباحاً ومساءً ) ثم قالعليه‌السلام : ( قد أصبحت العرب تفتخر على العجم لأن محمداصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، وأصبحت قريش تفتخر على سائر الناس لأن محمداًصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منهم ، ونحن أهل بيته أصبحنا مقتولين مظلومين ، قد حلّت بنا الرزايا ، نساق سبايا ، ونجلب هدايا ، كأن حسبنا من أسقط الحسب ، ونسبنا من أرذل النسب كأن لم نكن على هام المجد رقينا ، وعلى بساطٍ جليلٍ سعينا ، وأصبح الملك ليزيد لعنه الله وجنوده ، وأصبحت بنو المصطفىصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أدنى عبيده )(١)

تنصل يزيد من مسؤولية قتل الحسينعليه‌السلام

وعندما واجه السجادعليه‌السلام يزيد بتلك البلاغة والشجاعة ، أدرك يزيد انه خسر معركة القلوب بعد ان تغلب ظاهراً في معركة الأجساد فحاول تدارك ذلك عبر أمرين :

الأول : إلقاء مسؤولية قتل الحسينعليه‌السلام على عبيدالله بن زياد والي الكوفة والتنصل منها شخصياً فقال موجهاً خطابه للسجادعليه‌السلام : ( لعن الله ابن مرجانة أما والله لو أني صاحبه ما سألني خصلة أبداً إلا أعطيته إياها ، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ، ولو بهلاك بعض ولدي ولكن قضى الله ما رأيت يا بني كاتبني بكل حاجة تكون لك وانه سيكون في قومك أمور فلا تدخل معهم في شيء )(٢) فسكت زين العابدينعليه‌السلام ولم يجبه بشيء .

الثاني : تطييب خاطر السجادعليه‌السلام مكراً وخداعاً عبر الإلحاح عليه إن كان له حاجة فقال الإمامعليه‌السلام في نهاية المطاف : ( أريد منك أن تريني وجه أبي وأن تعيد على النساء ما أخذ منهن ، ففيها مواريث الآباء والأمهات وإذا كنت تريد قتلي ، فأرسل مع العيال من يؤدي بهن الى المدينة ).

ــــــــــــــــ

(١) ناسخ التواريخ ـ من أحوالهعليه‌السلام ج ٢ ص ٤٤ .

(٢) الكامل في التاريخ ج ٤ ص ٨٧ ـ ٨٨ .

٦١

وتلك المطالب الثلاثة ، تدخل ضمن منهج الإدانة الذي استخدمه الإمام زين العابدينعليه‌السلام في تعرية حكم بني امية :

١ ـ فالطلب برؤية أبيه الحسينعليه‌السلام هي إدانة واضحة لقاتليه فكيف يسمح الضمير الإسلامي لهؤلاء الفجار بقتل ابن بنت نبيهمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهم لا زالوا يقرون بالإسلام ديناً وبمحمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نبياً ؟ فهنا توجيه ضمني من السجادعليه‌السلام بانحراف النظام الأموي الظالم عن مبادئ الإسلام .

٢ ـ والطلب بإعادة ما أخذ من نساء آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهباً وسلباً ، هو إدانة ثانية لطريقتهم الوحشية بالتعامل مع ذرية الأنبياءعليه‌السلام ومواريثهم خصوصاً وان ما سلب من النساء كان من خصوصيات فاطمة الزهراءعليه‌السلام بنت النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كمغزلها ومقنعتها وقلادتها وقميصها .

٣ ـ والطلب بإرسال مع من يؤدي بالنساء الى المدينة ، على افتراض قتل السجادعليه‌السلام صبراً ، فيه إدانة ثالثة للنظام السلياسي الأموي ، فكيف يقبل الضمير الإسلامي قتل مريض ألّمت به علّته ؟ ولو كان الأمر لهم لقتلوهعليه‌السلام ولكنهم كانوا دائماً يخشون لوم العرب على فعلتهم .

٦٢

وإذا كان زين العابدينعليه‌السلام يطالب بحق مهضوم ، فان يزيد أجابة بنفش درجة الظلم التي وضعها منهاجاً لحكمه ، فقال : ( أما وجه أبيك فلن تراه وأما ما أخذ منكم فيردّ إليكم وأما النسوة فلا يردهن غيرك ، وقد عفوت عن قتلك )(١) وهو بذلك قرر ثلاث حقائق :

١ ـ إمضاء قتل الحسينعليه‌السلام كسياسة معلنة للدولة الأموية وبذلك فلا ندم ولا اعتذار في ذلك من قبل يزيد .

٢ ـ الإقرار بعدم صحة سلب سبايا آل البيتعليه‌السلام وهو إقرار رسمي أموي بعدم صحة السبي لآل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكنه كان قراراً شكلياً لم يترتب عليه أثر رجعي بمعاقبة المجرمين الذين ارتكبوه .

٣ ـ العفو عن قتل السجادعليه‌السلام وهو لم ينم عن تبدل في أخلاقية الخليفة الطاغية ، بل ان الظروف الإجتماعية التي خلقها مقتل الحسينعليه‌السلام وخطبة السجاد وزينبعليه‌السلام هما اللذان أثنيا يزيد عن قتلهعليه‌السلام .

وروي ان رأس الحسينعليه‌السلام أعيد لاحقاً فدفن بكربلاء مع جسده الشريفعليه‌السلام ، وكان عمل الطائفة على هذا المعنى .

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٥ .

٦٣

إلى المدينة ( صفر / ربيع أول سنة ٦١ هـ)

وعهد يزيد إلى النعمان بن بشير بمصاحبة ركب آل البيتعليه‌السلام ، وأمر بإخراجهم ليلاً خوفاً من الفتنة ، واضطراب الوضع وكان اختيار النعمان بن بشير لمصاحبة الركب له دلالات :

١ ـ انه سبق وإن كان والياً على الكوفة من قبل بني أمية قبل عبيد الله بن زياد فهو يعرف خلفيات الوضع السياسي والاجتماعي لواقعة الطف .

٢ ـ انه كان والياً مسالماً آثر عدم محاربة الحسينعليه‌السلام ، وأتهم على أثرها بالضعف ولذلك استبدل من قبل يزيد بن معاوية ، وبعبيد الله بن زياد .

وعندما سار الركب ، طلب السجادعليه‌السلام من المكلف على حراسته ان يعرج إلى كربلاء ليجددوا العهد مع الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه من الشهداء وكان ذلك في العشرين من صفر سنة ٦١ هـ ، أي بعد مضي أربعين يوماً من أحداث العاشر من محرم من نفس السنة .

وكان جابر بن عبدالله الأنصاري ، وهو من أواخر من بقي على قيد الحياة من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قد شدّ الرحال لزيارة الحسينعليه‌السلام فورد كربلاء في وقت مقارب لوصول السبايا ونترك

٦٤

الوصف لكتاب ( اللهوف في قتلى الطفوف ) ، فيقول عن ركب بني هاشمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( أنهم لما وصلوا الى كربلاء وجدوا جابر بن عبدالله وجماعة من بني هاشم ورجالاً من آل الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبلوا لزيارة قبور الحسينعليه‌السلام والشهداء من أهله وأصحابه فتلاقوا بالبكاء وأقاموا المأتم ، وأجتمع إليهم من كان في جوار كربلاء من القبائل النازلة على الفرات )(١) وكان مما قاله السجادعليه‌السلام لجابر : (يا جابر ، ها هنا والله قتلت رجالنا ، وذبحت أطفالنا ، وسبيت نساؤنا ، وحرقت خيامنا ) .

وبعد أيام مضى الركب يسير حثيثاً الى المدينة ولما وصل الى أطرافها ، أمر زين العابدينعليه‌السلام بشير بن خزيم بدخول المدينة ونعي الحسينعليه‌السلام فدخل بشير مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ينادي :

يا أهل يثرب لا مقام لكم بها

قتل الحسين فأدمعي مدرار

الجسم منه بكربلاء مضرّج

والرأس منه على القناة يدار

في مدينة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

وكانت تلك مقدمة مناسبة لدخولهعليه‌السلام إلى المدينة الباكية على فدح المصاب فقام خطيباً بالناس :

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ٨٦ .

٦٥

(الحمد لله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، مالك يوم الدين ، بارئ الخلائق أجمعين ، الذي بعد فارتفع في السماوات العلى ، وقرب فشهد النجوى ، نحمده على عظائم الأمور ، وفجائع الدهور ، وألم الفجائع ، ومضاضة اللواذع ، وجليل اللرزء ، وعظيم المصائب الفاظعة ، الكاظة ، الفادحة ، الجائحة .

أيها القوم ، إن الله تعالى وله الحمد ابتلانا بمصائب جليلة ، وثلمة في الإسلام عظيمة ، قتل أبو عبدالله الحسينعليه‌السلام وعترته ، وسبيت نساؤه وصبيته ، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان ، وهذه الرزية ما مثلها رزية .

أيها الناس ، فأي رجالات منكم يسرّون بعد قتله ، أم أيّ فؤاد لا يحزن من أجله ، أم أية عين منكم تحبس دمعها ، أو تضن عن انهمالها ، فلقد بكت السبع الشداد لقتله ، وبكت البحار بأمواجها ، والسماوات بأركانها ، والأرض بأرجائها ، والأشجار بأغصانها ، والحيتان في لجج البحار ، والملائكة المقرّبون ، وأهل السماوات أجمعون ؟!

أيها الناس ، أي قلب لا ينصدع لقتله ، أم أي فؤاد لا يحنّ إليه ، أم أي سمعٍ يسمع بهذه الثلمة التي ثلمت في الإسلام ولا يصمّ ؟!

أيها الناس ، أصبحنا مشردين ، مطرودين ، مذودين ، شاسعين عن الأمصار ، كأننا أولاد ترك وكابل من غير جرم أجرمناه ، ولا مكروه ارتكبناه ، ولا ثلمة في الإسلام ثلمناها ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، إن هذا إلا اختلاق والله لو أن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تقدم إليهم في قتالنا كما تقدم إليهم في الوصية بنا لما زادوا على ما فعلوا بنا فإنا لله وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وأفجعها ، وأكظمها وأفظعها ، وأمرّها وأفدحها ، فعنده نحتسب ما أصابنا ، فانه عزيز ذو انتقام ) .

المدينة بعد مقتل الحسينعليه‌السلام :

وصف ابن طاووس ( ـ ٦٦٤ هـ ) وضع المدينة بعد مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، فقال : ان زين العابدينعليه‌السلام رحل إلى المدينة بأهله وعياله ونظر إلى منازل قومه ورجاله فوجد تلك المنازل تنوح بلسان أحوالها ، وتبوح باعلال الدموع وإرسالها ، لفقد حماتها ، وتندب عليهم ندب الثواكل ، وتسأل عنهم أهل المناهل ، وتهيج أحزانه على مصارع قتلاه ، وتنادي لأجلهم واثكلاه ، وتقول يا قوم أعذروني على النياحة والوليل ، وساعدوني على المصاب الجليل ، فإن القوم الذين أندب لفراقهم وأحن إلى كرم أخلاقهم كانوا سمار ليلي ونهاري ، وأنوار ظلمي وأسحاري ، وأطناب شرفي وإفتخاري ، وأسباب قوتي وإنتصاري ، والخلف من شموسي وأقماري .

٦٦

كم ليلة شردوا باكرامهم وحشتي ، وشيدوا بأنعامهم حرمتي ، وأسمعوني مناجات أسحارهم ، وأمتعوني بإبداع أسرارهم ، وكم يوم عمروا آمالي بمحافلهم ، وعروا طبعي بفضائلهم ، وأورقوا عودي بماء عهودهم ، وأذهبوا نحوسي بماء سعودهم .

وكم غرسوالي من المناقب ، وحرسوا محلي من النوائب ، وكم أصبحت بها أشرف على المنازل والقصور ، وأميس في ثوب الجذل والسرور وكم اعتاشوا في شعابي من أموات الدهور وكم إنتاشوا على أعتابي من رفات المحذور .

فأقصدني فيهم منهم الحمام ، وحسدني عليهم حكم الأيام ، فأصبحوا غرباء بين الأعداء وغرضاً لسهام الإعتداء وأصبحت المكارم تقطع بقطع أناملهم ، والمناقب تشكو لفقد شمائلهم ، والمحاسن تزول بزوال أعضائهم ، والأحكام تنوح لوحشة أرجائهم .

فيا لله من ورع أريق دمه في تلك الحورب ، وكمال نكس علمه بتلك الخطوب ولئن عدمت مساعدة أهل العقول ، وخذلني عند المصائب جهل العقول ، فإن لي مسعداً من السنن الدارسة والأعلام الطامسة ، فإنها تندب كندبي ، وتجد مثل وجدي وكربي .

فلو سمعتم كيف ينوح عليهم لسان حال الصوات ، ويحن إليهم إنسان الخلوات ، وتشتاقهم طوية المكارم ، وترتاح إليهم أندية الأكارم ، وتبكيهم محاريب المساجد ، وتناديهم مآريب الفوائد ، لشجاكم سماع تلك الواعية النازلة ، وعرفتم تقصيركم في هذه المصيبة الشاملة بل لو رأيتم وحدتي وانكساري ، وخلو مجالسي وآثاري ، لرأيتم ما يوجع قلب الصبور ، ويهيج أحزان الصدور لقد شمت بي من كان يحسدني من الديار ، وظفرت بي أكف الأخطار فيا شوقاه إلى منزل سكنوه ، ومنهل أقاموا عنده واستوطنوه ليتني كنت إنساناً أفديهم حز السيوف ، وأدفع عنهم حر الحتوف ، وأشفي غيظي من السنان ، وأرد عنهم سهام العدوان ...

٦٧

ولقد أحسن ابن قتيبة (رض) وقد بكى على المنازل المشار إليها فقال(١) :

مررت على أبيات آل محمد

فلم أر أمثالها يوم حلت

لا يبعد الله الديار وأهلها

وإن أصبحت منهم بزعمي تخلت

ألا إن قتلى الطف من آل هاشم

أذلت رقاب المسلمين فذلت

وكانوا غياثاً ثم أضحوا رزية

لقد عظمت تلك الرزايا وجلت

ألأم تر أن الشمس أضحت مريضة

لفقد حسين والبلاد إقشعرت

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١١٨ ـ ١٢١ .

٦٨

مواريث الإمامة

واستلم الإمام زين العابدينعليه‌السلام بعد دخوله المدينة ، مواريث الإمامة تقول المصادر التاريخية : ان الحسينعليه‌السلام لما سار إلى العراق استودع مواريث النبوة والإمامة التي تسلمها من أخيه الحسنعليه‌السلام ، عند أم سلمة ( أم المؤمنين ) وأمرها ان تدفعها الى ولده زين العابدينعليه‌السلام فلما رجع السجادعليه‌السلام إلى المدينة بعد واقعة كربلاء ، تسلم الوديعة من أم سلمة ( رضوان الله عليها )(١)

وفي حديث الإمام الصادقعليه‌السلام ان علياً بن الحسينعليه‌السلام لما انتهى إليه الأمر ، فتح الخاتم الرابع من الوصية المنزلة على جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقرأ فيها : ( يا علي اطرق واصمت )(٢)

فقامعليه‌السلام بما أمر من السكوت والاعتزال ، واختلى عن الاختلاط بالناس حتى ضرب له بيتاً من الشعر خارج المدينة(٣) ، تفرغاً فيه للعبادة والابتهال لله عز وجل ، وحفظاً لدماء شيعته لكنه استثمرعليه‌السلام الدعاء في تلك الفترة الحرجة من أجل تعريف الناس بخالقهم سبحانه ، وإرشادهم إلى طرق الإتصال به وبدينهم .

ــــــــــــــــ

(١) أصول الكافي باب النص على السجاد ج ١ ص ٣٠٤ .

(٢) الغيبة للنعماني ص ٢٤ وأمالي الشيخ الطوسي ص ٢٨٢ .

(٣) فرحة الغري لابن طاووس ص ٣٣ طبعة النجف .

٦٩

وكانعليه‌السلام دائم الاتصال بعمته زينب الكبرى ، فكانتعليه‌السلام تتلقى منه الأحكام الإلهية وتفيضها على الشيعة ستراً على زين العابدين من عادية اعدائه(١)

ويروى ان الإمام الحسينعليه‌السلام كان مديناً لجماعة بمبلغ سبعين ألف دينار ، فأهتمّ السجادعليه‌السلام بذلك حتى قيل أنه أمتنع عن الطعام و الشراب حتى جمع المبلغ ودفعه إلى دائنيه ، وفاءً منهعليه‌السلام لتفريغ ذمة أبيهعليه‌السلام (٢)

روايات أخر :

وذكرت روايات أخرى بمعان وألفاظ مختلفة ، منها :

أ ـ سئل الإمام الصادقعليه‌السلام عن خاتم الحسين بن عليعليه‌السلام إلى من صار ؟ وذكر له أنه أخذ من إصبعه فيما أخذ قالعليه‌السلام : ( ليس كما قالوا إن الحسينعليه‌السلام أوصى إلى ابنه علي بن الحسينعليه‌السلام ، وجعل خاتمه في أصبعه ، وفوّض إليه أمره ، كما فعله رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأمير المؤمنينعليه‌السلام ، وفعله أمير المؤمنين بالحسنعليه‌السلام ، وفعله الحسن بالحسينعليه‌السلام ، ثم صار ذلك الخاتم إلى أبيعليه‌السلام بعد أبيه ، ومنه صار إليّ ، فهو عندي وإني لألبسه كل جمعة وأصلي فيه ) .

ــــــــــــــــ

(١) إكمال الدين للصدوق ص ٢٧٥ والغيبة للطوسي ص ١٤٨ .

(٢) سر السلسلة العلوية ص ٣٢ .

٧٠

قال محمد بن مسلم : فدخلت عليه يوم الجمعة وهو يصلي ، فلما فرغ من الصلاة مدّ إلي يده ، فرأيت في إصبعه خاتماً نقشه : لا إله إلا الله عدّة للقاء الله فقال : هذا خاتم جدي أبي عبدالله الحسين بن عليعليه‌السلام (١)

ب ـ قال الإمام الباقرعليه‌السلام : إن الحسينعليه‌السلام لما حضره الذي حضره ، دعا ابنته الكبرى فاطمة ، فدفع إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة ووصية باطنة ، وكان علي بن الحسينعليه‌السلام مريضاً فلما تم شفاؤه دفعت فاطمة الكتاب الى أخيها علي بن الحسينعليه‌السلام ، ثم صار الكتاب إلينا فقلت : فما في ذلك الكتاب ؟ فقال : ( فيه والله جميع ما يحتاج إليه ولد آدم إلى أن تفنى الدنيا )(٢) وإذا صحت هذه الرواية سنداً ، فان الحفاظ على ذلك الكتاب في تلك الظروف الحرجة من أسر وترحل ، كان من أعظم كرامات أهل البيتعليه‌السلام .

وفي المدينة لم يكن حال الناس بأفضل من حال أهل الكوفة أو أهل الشام ومن أهل المدينة من يقف كإبراهيم بن طلحة بن عبيد الله ، فيخاطب السجادعليه‌السلام على صيغة الاستفهام ، متشمتاً : من الغالب ؟ فيجيبه زين العابدينعليه‌السلام : ( إذا دخل وقت الصلاة فإذّن

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الصدوق ص ١٤٤ .

(٢) بصائر الدرجات ج ٣ باب ١٣ .

٧١

وأقم ، تعرف الغالب )(١) وظاهر مراد السجادعليه‌السلام ان آل محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باقون منصورون ما بقي الدهر وبقيت الصلاة وبقي الإسلام وما كان خروج الإمام الحسينعليه‌السلام إلاّ لنصرة الدين وإحيائه ، في حين أمات بنو أمية شعائر الإسلام وعلى رأسها إقامة الصلاة واستبدلوها بعادات جاهلية كالفجور والفسوق والغناء وشرب الخمر .

السجاد الحزينعليه‌السلام

لا ينكر أحد من المؤرخين حزن السجادعليه‌السلام على مقتل أبيه الحسينعليه‌السلام وأهل بيته وأصحابه الذين ذبحوا عطشى على رمضاء كربلاء ، فكانت تخنقه العبرة عندما يتذكر مصرع أبيهعليه‌السلام وأهل بيته .

وهذا هو الذي دفع بعض العلماء المتقدمين إلى القول : روي عن مولانا زين العابدينعليه‌السلام ، وهو ذو الحلم الذي لا يبلغه الوصف ، انه كان كثير البكاء لتلك البلوى وعظيم البث والشكوى(٢)

ــــــــــــــــ

(١) أمالي الشيخ الطوسي ص ٦٦ .

(٢) اللهوف لابن طاووس .

٧٢

وقد روي عن الإمام الصادقعليه‌السلام قوله : إن زين العابدينعليه‌السلام بكى على أبيه أربعين سنة صائماً نهاره وقائماً ليله فإذا حضر الإفطار وجاء غلامه بطعامه وشرابه فيضعه بين يديه فيقول : كل يا مولاي فيقول : قتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جائعاً ، قتل ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عطشاناً ، فلا يزال يكرر ذلك ويبكي حتى يبتل طعامه من دموعه ثم يمزج شرابه بدموعه فلم يزل كذلك حتى لحق بالله عز وجل(١)

أقول : وربما كان ذكر أربعين سنة في لفظ الرواية من قبيل المبالغة اللفظية من قبل الراوي ، لأنهعليه‌السلام عاش بعد مقتل أبيه الحسينعليه‌السلام أربع وثلاثين سنة فقط .

ويروى أيضاً : أنه برز يوماً الى الصحراء فاتبعه أحد غلمانه فوجده قد سجد على حجارة خشنة باكياً شاهقاً وهو يقول لألف مرة : ( لا إله إلا الله حقاً حقاً لا إله إلا الله تعبداً ورقاً لا إله إلا الله إيماناً وتصديقاً وصدقاً ) .

ثم رفع رأسه من سجوده بينما غمرت الدموع لحيثه ووجهه فقيل له : يا سيدي أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقلّ ؟ فقالعليه‌السلام : ( ويحك إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، كان نبياً ابن نبي له أثنى عشر أبناً فغيّب الله واحداً منهم فشاب رأسه من

ــــــــــــــــ

(١) اللهوف ص ١٢١ ـ ١٢٢ .

٧٣

الحزن واحدودب ظهره من الغم وذهب بصره من البكاء وابنه حي في دار الدنيا وأنا رأيت وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي صرعى مقتولين ، فكيف ينقضي حزني ويقل بكائي )(١)

إلا ان بكاءه لم يكن ليمنعه من مواصله عمله الشرعي التكليفي في إمامة الأمة وإرشادها إلى طريق الخير والصلاح واصبح البكاء ـ من دون قصد ـ من وسائل التوعية الدينية .

واشتهرعليه‌السلام بوصف ( السجاد ) لكثرة سجوده لله حينما يرى تواتر نعمه وآلائه عليه فكانعليه‌السلام لا يذكر نعمة لله إلا سجد ، ولا يقرأ آية فيها سجدة إلا سجد ، ولا يدفع الله عنه سوءً إلا سجد ، ولا يفرغ من صلاة مفروضة إلا سجد ، ولا يوفق لإصلاح بين اثنين إلا سجد(٢)

وكأنك ترى أثر السجود في مواضع سجودهعليه‌السلام ولم يشتهر عن انسان غيره أن سجوده لله عزوجل قد أثر على جسده ، كما اشتهر عنهعليه‌السلام وكان يلقب أيضاً بذي الثفنات وهي آثار ناتئة تبرز في مواضع السجود ، وكان مشهوراً بوجودها على جبهته ولا شك ان السجود يقرّب العبد من مولاه ، والمخلوق من خالقه ،

ــــــــــــــــ

(١) الخصال للصدوق ص ٢٧٢ ح ١٥ .

(٢) في رواية للامام الباقرعليه‌السلام يصف أبيه السجادعليه‌السلام : معاني الأخبار للصدوق ص ٢٤ .

٧٤

وقد قال تعالى : ( واسجُد واقترب )(١) وهكذا زين العابدينعليه‌السلام قريباً من مولاه العظيم سبحانه وتعالى .

والمشهور في روايات الطريفين ان السجادعليه‌السلام كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة واذا افترضنا ان الركعة الواحدة تستغرق دقيقة واحدة ، فان اداء ألف ركعة يستغرق ألف دقيقة ، وهو ما يساوي سبعة عشر ساعة تقريباً في اليوم الواحد وهذا الوقت يستوعب كل كل يوم المرء وليله خصوصاً إذا ما علمنا بان على المكلّف تأدية واجباته العبادة الأخرى والقيام بما تمليه عليه وظيفته من حقوق الزوجية والأبوة والجيرة والقرابة وعيادة المرضى ، ودعوة عينيه للاسترخاء لمقدار من النوم .

وعبادتهعليه‌السلام كانت لا تنفك عن تلاوة القرآن ، وكان أحسن الناس صوتاً بالقرآن الكريم(٢) ، وكان يرشد الأمة بتفسير القرآن(٣) وكانعليه‌السلام يردد : ( عليك بالقرآن ، فإنّ الله خلق الجنّة بيده لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وجعل ملاطها المسك وترابها الزعفران وحصاها اللؤلؤ ، وجعل درجاتها على قدر آيات القرآن ،

ــــــــــــــــ

 (١) سورة العلق : الآية ١٩ .

(٢) بحار الأنوار ج ٤٦ ص ١٠٧ .

(٣) الاحتجاج ص ٣١٢ ـ ٣١٩ .

٧٥

وكان والي المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان قد أرسل وفداً من وجهائها إلى يزيد الخليفة الأموي ، فيهم : عبدالله بن حنظلة ، وعبدالله بن أبي عمرو ، والمنذر بن الزبير وغيرهم وكان الهدف من ذلك هو تثبيت ميولهم نحو الخلافة الأموية عبر النيل من هدايا السلطان ، إلاّ انهم رجعوا ـ على الرغم من كل ما أغدق عليهم من جوائز وهدايا ـ وهم ناقمون على يزيد لما شاهدوا من استهتاره وفسقه ومجونه وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، وتعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسمر عنده الحراب(١)

قال عبدالله بن حنظلة : ( والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء إنه رجل ينكح الأمهات والبنات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت فيه بلاءً حسناً )(٢) ) ويقول المنذر بن الزبير : ( ان يزيد قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي ، أن أخبركم خبره ، والله إنه ليشرب الخمر ، والله أنه ليسكر حتى يدع الصلاة )(٣)

والغريب في ذلك ان قتل الحسينعليه‌السلام بتلك الفظاعة والوحشية لم يكن ليحرك عواطفهم ، ولكن رحلة واحدة إلى الشام أطلعتهم على فجور يزيد وفسقه ! فخلعوا بيعته بعد رجوعهم وولّوا عليهم عبدالله بن حنظلة ، وعبدالله بن مطيع ، وطردوا عامل يزيد على المدينة .

ــــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٨٠ والحراب : اللصوص .

(٢) طبقات ابن سعد .

(٣) تأريخ الطبري ج ٤ ص ٣٦٨ .

٧٦

فبعث يزيد جيشاً قوياً في العدّة والعدد بقيادة مسلم بن عقبة المري ، فالتقى الفريقان في ( الحرة ) واقتتلا في حرب طاحنة وقتل عبدالهل بن حنظلة مع أولاده ، وانتصر جيش الشام على جيش المدينة ، بعد ان قتل من أبناء الأنصار والمهاجرين والوجوه ما لا يحصى .

ويمكننا إدراك صورة الواقعة من خلال الأمور التالية :

١ ـ لم يشارك الإمام السجادعليه‌السلام في معركة الحرة ، ولم يمل إلى طرف عبدالله بن حنظلة أو عبدالله بن مطيع ومع ان عدداً من رجال بني هاشم قد قتل في هذه الحرب ، إلاّ ان الموقف العلني للإمام زين العابدينعليه‌السلام كان عدم المشاركة بالسيف في هذه المرحلة فقد كان له وسائل أخرى أمضى من السيف في مواجهة حكم بني أمية الظالم .

٢ ـ عندما طرد أهل المدينة والي يزيد ، هرب مروان وبنو أمية الى الشام ، وتركو عيالهم في المدينة فالتمس مروان بن الحكم رفيقه عبد الله بن عمر لرعاية عياله إلاّ ان عبدالله بن عمر أبى عليه ولم يوافق فكلم الإمام علي بن الحسينعليه‌السلام فوافق على ذلك ، وبقيت عيال مروان بن الحكم في رعاية السجادعليه‌السلام حتى انتهاء المعركة وهذا في غاية الخلق الديني ، لأن مروان كان عدواً صريحاً لأهل البيتعليه‌السلام وهو الذي هدد الحسينعليه‌السلام عندما دعي لمبايعة يزيد بن معاوية في رجب سنة ٦٠ هـ .

٣ ـ أرسل يزيد تعليمات بل أوامر واضحة إلى ( مسلم بن عقبة ) للقضاء على ثورة المدينة : ( أدع القوم ثلاثاً فإن أجابوك وإلاّ فقاتلهم ، فإذا ظهرت عليهم فأبحها [ أي المدينة ] ثلاثاً [ أي ثلاثة أيام ] فما فيها من مال أو دابّة أو سلاح أو طعام فهو للجند )(١) وأمره أن يجهز على جريحهم ويقتل مدبرهم(٢)

دافع الناس عن مدينة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستشهد أغلب المدافعين عنها بمن فيهم عبدالله بن حنظلة وعدد من صحابة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأباح مسلم بن عقبة ، الذي يقول فيه السلف مسرف بن عقبة ، المدينة ثلاثة أيام كما أمره يزيد وقتل خلقاً من أشرافها وقرّاتها ، وانتهب أموالاً كثيرة منها وجاءته امرأة فقالت : أنا مولاتك وابني في الأسارى ، فقال : عجّلوه لها ، فضرب عنقه ، وقال :

أعطوها رأسه ، ووقعوا على النساء حتى قيل إنه حبلت ألف امرأة في تلك الأيام من غير زوج .

ــــــــــــــــ

 (١) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٨٤ .

(٢) التنبيه والاشراف ص ٢٦٣ طبعة مصر .

٧٧

قال المدائني ، عن هشام بن حسان : ولدت ألف امرأة من أهل المدينة بعد واقعة الحرّة من غير زوج وروي عن الزهري أنه قال : كان القتلى يوم الحرّة سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار ، ووجوه الموالي ممن لا أعرف من حرّ وعبدٍ وغيرهم عشرة آلاف(١)

ثم نصب لمسلم بن عقبة كرسيّ ، وجيء بالاسارى من أهل المدينة فكان يطلب من كل واحد منهم أن يبايع ويقول : إنّني عبد مملوك ليزيد بن معاوية يتحكّم فيّ وفي دمي وفي مالي وفي أهلي ما يشاء(٢)

ومن كان يمتنع ولم يبايع بالعبودية ليزيد وكان يصرّ على القول بأنّه عبدّ لله سبحانه وتعالى ، كان مصيره القتل(٣)

وجيء له بيزيد بن عبد الله ـ وجدّته أمّ سلمة زوج رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ مع محمد بن حذيفة العدوي ، فطلب إليهما أن يبايعها ،

ــــــــــــــــ

(١) البداية والنهاية ج ٨ ص ٢٢٠ .

(٢) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٩٣ و٤٩٥ .

(٣) الكامل في التأريخ ج ٤ ص ١١٨ ، ومروج الذهب ج ٣ ص ٧٠ .

٧٨

فقالا : نحن نبايع على كتاب الله وسنّة نبيّه ، فقال مسلم : لا والله لا أقيلكم هذا أبداً ، فقدمهما فضرب أعناقهما(١)

٤ ـ عندما بلغهعليه‌السلام توجه جيش يزيد إلى المدينة ، لاذ السجادعليه‌السلام بقبر النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يدعو هذا الدعاء : ( رب كم من نعمة أنعمت بها عليّ ، قلّ لك عندها شكري وكم بلية ابتليتني بها قلّ لك عندها صبري فيا من قل عند نعمه شكري فلم يحرمني ، وقلّ عند بلائه صبري فلم يخذلني يا ذا المعروف الذي لا ينقطع أبداً ويا ذا النعماء التي لا تحصى ابداً صلي على محمد وآله ، وادفع عني شره ، فاني ادرأ بك في نحره ، واستعيذ بك من شره )(٢)

فجاؤا بهعليه‌السلام الى مسلم بن عقبة وكان سباباً بذيئاً يعشق سفك الدماء لكنه لما رآه ، أخذته هيبة السجادعليه‌السلام وأرتعد وقام له وأقعده إلى جانبه ، ثم قال له : سلني حوائجك ، فلم يسأله في أحدٍ ممن قدم إلى السيف إلا شفعه فيه ، ثم انصرف عنه .

وكان السجادعليه‌السلام يحرك شفتيه ، في محضر مسلم بن عقبة ، بهذا الدعاء : اللهم ربّ السموات السبع وما أظللن ، والأرضين السبع وما أقللن(٣) ، ربّ العرش العظيم ، رب محمدٍ وآله الطاهرين ،

ــــــــــــــــ

(١) تأريخ الطبري ج٥ ص ٤٩٢ .

(٢) الإرشاد للمفيد .

(٣) وما أقللن : أي وما حملن .

٧٩

أعوذ بك من شرّه ، وادرأ بك في نحره ، أسألك ان تؤتيني خيره ، وتكفيني شره (١) .

وعندما خرج السجادعليه‌السلام منه ، انبرت حاشية مسلم بن عقبة تسأله : رأيناك تسب زين العابدين وسلفه ، فلما أتي به إليك رفعت منزلته فقال : ما كان لرأيٍ مني ، لقد ملئ قلبي منه رعباً(٢)

٥ ـ وكان مسلم بن عقبة قد تجاوز التسعين من عمره وقت إباحته المدينة ، فكان قريباً من حتفه ، وقد هلك بعيد واقعة الحرّة وقبل أن يصل إلى مكة المكرمة لمهاجمتها والقضاء على ثورتها بقيادة عبدالله بن الزبير وعندما لقى مسلم بن عقبة حتفه في الطريق ، تسلّم الحصين بن نمير قيادة الجيش الأموي ، ففرض حصاراً على مكة وضرب الكعبة بالمنجنيق وأحرقها(٣)

وفي الوقت الذي كانت فيه مكة تحت الحصار ، مات يزيد بن معاوية في ربيع الأول سنة ٦٤ هـ ، وهو في سن الثامنة والثلاثين من عمره بعد ان قضى ثلاث سنوات وبضعة أشهر في الحكم .

ــــــــــــــــ

(١) الصحيفة السجادية الخامسة ص ٨٠ دعاء ٢٧ في إستدفاع شر الأعداء .

(٢) مروج الذهب ج ٢ ص ٩٦ .

(٣) تأريخ الطبري ج ٥ ص ٤٩٨ .

٨٠

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

أن جعل في الدين مجالا لبحث العقل بما أودع فيه من المتشابه ، إذ بحثه يستلزم النظر فى الأدلة الكونية ، والبراهين العقلية ، ووجوه الدلالة ليصل إلى فهمه ويهتدى إلى تأويله.

(3) إن الأنبياء بعثوا إلى الناس كافة وفيهم العالم والجاهل والذكي والبليد ، وكان من المعاني الحكم الدقيقة التي لا يمكن التعبير عنها بعبارة تكشف عن حقيتها ، فجعل فهم هذا من حظ الخاصة ، وأمر العامة بتفويض الأمر فيه إلى الله ، والوقوف عند فهم المحكم ، ليكون لكلّ نصيبه على قدر استعداده ، فإطلاق كلمة الله وروح من الله على عيسى يفهم منه الخاصة ما لا يفهمه العامة ، ومن ثم فتن النصارى بمثل هذا التعبير إذ لم يقفوا عند حد المحكم وهو التنزيه واستحالة أن يكون لله أم أو ولد بمثل ما دل عليه قوله :إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ ».

( وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ) أي وما يعقل ذلك ويفقه حكمته إلا ذوو البصائر المستنيرة ، والعقول الراجحة التي امتازت بالتدبر والتفكر في جميع الآيات المحكمة التي هى الأصول ، حتى إذا عرض لهم المتشابه بعد ذلك سهل عليهم أن يتذكروها ويردّوا المتشابه إليها ، ويقولوا في المتشابه الذي هو نبأ عالم الغيب : إن قياس الغائب على الشاهد قياس مع الفارق لا ينبغى للعقلاء أن يعتبروه.

ثم ذكر ما يدعون به ليهبهم الثبات على فهم المتشابه فقال :

( رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ) أي إن أولئك الراسخين في العلم مع اعترافهم بالإيمان بالمتشابه يطلبون إلى الله أن يحفظهم من الزيغ بعد الهداية ، ويهبهم الثبات على معرفة الحقيقة والاستقامة على الطريقة فهم يعرفون ضعف البشر ، وكونهم عرضة للتقلب والنسيان والذهول ، فيخافون أن يقعوا فى الخطأ ، والخطأ قرين الخطر.

وقد روى عن عائشة رضى الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يدعو «يا مقلّب القلوب ثبت قلبى على دينك» قلت : يا رسول الله

١٠١

ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء فقال : «ليس من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرّحمن ، إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه».

( رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ ) أي ربنا إنك تجمع الناس للجزاء في يوم لا شك فيه وإنا موقنون به ، لأنك أخبرت به وقولك الحق ، ووعدت وأوعدت بالجزاء فيه ، وأنت لا تخلف وعدك.

وقد جاءوا بهذا الدعاء بعد الإيمان بالمتشابه ، ليستشعروا أنفسهم الخوف من تسرّب الزيغ الذي يسلبهم الرحمة في ذلك اليوم ، وهذا الخوف هو مبعث الحذر والتوقي منه.

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) )

تفسير المفردات

تغنى : أي تنفع ، وقود (بفتح الواو) أي حطب ونحوه ، والدأب : العادة ؛ من دأب على العمل إذا جدّ فيه وتعب ، ثم غلب في العادة ، والمهاد : الفراش ، يقال مهدّ الرجل المهاد إذا بسطه ، والآية : العلامة على صدق ما يقول الرسول.

١٠٢

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه الدين الحق وقرر التوحيد ، وذكر الكتب الناطقة به ، وألمع إلى شأن القرآن الكريم وإيمان العلماء الراسخين به ـ شرع يذكر حال أهل الكفر والجحود ، ويبين أسباب اغترارهم بالباطل واستغنائهم عن الحق أو اشتغالهم عنه ، ومن أهم ذلك الأموال والأولاد ، وأرشد إلى أنها لا تغنى عنهم شيئا في ذلك اليوم الذي يجمع الله فيه الناس ليحاسبهم على ما عملوا ، والكافرون في أشد الحاجة إلى مثل هذه العظة ، لأن الجحود إنما يقع لغرور الناس بأنفسهم وأموالهم ، فيتوهمون الاستغناء عن الحق ، ويتبعون الهوى.

وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء الكافرين الذين استغنوا بما أوتوا في الدنيا عن الحق ، فعارضوه وناصبوا أهله العداء حتى ظفروا بهم مثل آل فرعون ومن قبله ممن كذبوا الرسل ؛ فقد أهلكهم الله ونصر موسى على آل فرعون ، ونصر الرسل ومن آمن معهم على أممهم لصلاحهم وإصلاحهم ، فالله لا يحابى ولا يظلم وهو شديد العقاب.

الإيضاح

( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) أي إن الذين جحدوا ما قد عرفوه من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم سواء كانوا من بنى إسرائيل أم من كفار العرب ـ لن تنجيهم أموالهم التي يبذلونها في جلب المنافع ودفع المضار ، ولا أولادهم الذين يتناصرون بهم في مهامّ أمورهم ويعوّلون عليهم فى الخطوب النازلة من عذاب الله شيئا ، وقد كانوا يقولون نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين ، فردّ الله عليهم بقوله : «وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً » وسيكونون يوم القيامة حطبا لجهنم التي تسعر بهم.

١٠٣

ثم ضرب لهم مثلا لينبههم إلى ما حلّ بمن قبلهم من الأمم التي كانت أقوى منهم جندا وأكثر عددا لعلهم يتعظون فقال :

( كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ ) أي إن صنيع هؤلاء في تكذيبهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وكفرهم بشريعته ، كدأب آل فرعون مع موسى عليه السلام ، ودأب من قبلهم من الأمم ، كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم ، فأهلكهم ونصر الرسل ومن آمن معهم ، ولم يجدوا من بأس الله محيصا ولا مهربا ، إذ عقابه أثر طبيعي لاجتراح الذنوب وارتكاب الموبقات.

ثم تهددهم وتوعدهم بالعقاب في الدنيا قبل الآخرة فقال :

( قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ ) المراد بالكافرين هنا اليهود لما روى عن ابن عباس رضى الله عنهما أن يهود المدينة لما شاهدوا غلب رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين يوم بدر قالوا والله إنه النبي الأمى الذي بشرنا به موسى ، وفي التوراة نعته وهمّوا باتباعه ، فقال بعضهم : لا تعجلوا حتى تنظروا إلى وقعة أخرى ، فلما كان يوم أحد شكّوا ، وقد كان بينهم وبين رسول الله عهد إلى مدة فنقضوه ، وانطلق كعب بن الأشرف في ستين راكبا إلى أهل مكة فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.

وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع فحذرهم أن ينزل بهم ما نزل بقريش ، فقالوا له : لا يغرنّك أنك لقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة ، لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس فنزلت.

أي قل لأولئك اليهود إنكم ستغلبون في الدنيا وسينفذ فيكم وعيدي ، وتساقون فى الآخرة إلى جهنم سوقا ، وبئس المهاد ما مهدتموه لأنفسكم.

وقد صدق الله وعده فقتل المسلمون بنى قريظة الخائنين ، وأجلوا بنى النّضير المنافقين ، وفتحوا خيبر وضربوا الجزية على من عداهم.

١٠٤

ثم حذرهم وأنذرهم بألا يغتروا بكثرة العدد والعدد فلهم مما يشاهدون عبرة فقال :

( قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا ، فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أي قل لأولئك اليهود الذين غرتهم أموالهم واعتروا بأولادهم وأنصارهم : لا تغرنكم كثرة العدد ، ولا المال والولد ، فليس هذا سبيل النصر والغلب ، فالحوادث التي تجرى في الكون أعظم دليل على تفنيد ما تدّعون.

انظروا إلى الفئتين اللتين التقتا يوم بدر ، فئة قليلة من المؤمنين تقاتل في سبيل الله كتب لها الفوز والغلب على الفئة الكثيرة من المشركين.

وفي هذا عبرة أيّما عبرة لذوى البصائر السليمة التي استعملت العقول فيما خلقت لأجله من التأمل في الأمور والاستفادة منها ، لا لمثل من نعتهم الله بقوله : «لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها ، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها ، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ ».

ووجه العبرة في هذا أن هناك قوة فوق جميع القوى قد تؤيد الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه تعالى ، وقوله( تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ ) ترشد إلى السر في هذا الفوز ، لأنه متى كان القتال في هذا السبيل أي لحماية الحق والدفاع عن الدين وأهله ، فإن النفس تقبل عليه بكل ما أوتيت من قوة ، وما أمكنها من تدبير واستعداد ، علما منها بأن وراء قوتها معونة الله وتأييده ، يرشد إلى هذا قوله تعالى : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » فها أنت ذا ترى أن الله أمر المؤمنين بالثبات وبكثرة ذكره لشدّ العزائم والنهوض بالهمم ، وبالطاعة لرسوله ، وكان هو القائد في تلك الواقعة ـ واقعة بدر ـ وطاعة القائد من أهم أسباب الظفر والنجاح في ميدان القتال.

وقد امتثل المؤمنون ما أوصاهم به ربهم بقدر طاقتهم ، فوجد لديهم الاستعداد والعزيمة الصادقة ، فقاتلوا ثابتين واثقين بنصر الله ، فنصرهم وفاء بوعده «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ ».

١٠٥

وغزوات الرسول وأصحابه تفسر ما ورد في هذه الآيات ، ولما خالفوا ما أمروا به غزوة أحد نزل بهم ما نزل ، وفي هذا أكبر عبرة لمن تذكر واعتبر.

وقد روى أرباب السير أن جيش المسلمين كان ثلاثمائة وثلاثة وعشرين رجلا ، سبعة وسبعون منهم من المهاجرين ، ومائتان وستة وثلاثون من الأنصار ، وصاحب راية المهاجرين على بن أبي طالب ، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة ، وكان في العسكر تسعون بعيرا وفرسان أحدهما للمقداد بن عمرو ، والآخر لمرثد بن أبي مرثد ، وكان معهم ست دروع وثمانية سيوف ، وجميع من قتل منهم يومئذ أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين وثمانية من الأنصار.

وأن جيش المشركين كان تسعمائة وخمسين مقاتلا ، رأسهم عقبة بن ربيعة ، وفيهم أبو سفيان وأبو جهل ، وكان في معسكرهم من الخيل مائة فرس وسبعمائة بعير ، ومن الأسلحة ما لا يحصى عدّا.

ومعنى قوله( يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ) أن المشركين رأوا المسلمين مثلى عدد المشركين أي قريبا من ألفين ـ وكانوا نحو ثلاثمائة ـ أراهم الله إياهم مع قلتهم أضعافهم ليهابوهم ويجبنوا عن قتالهم ، وكان ذلك مددا لهم من الله كما أمدهم الله بالملائكة ، بعد ما قللهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم وتوجهوا إليهم كما جاء في خطاب أهل بدر «وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ».

ومعنى قوله (رأى العين) أنها رؤية مكشوفة لا لبس معها ولا خفاء كسائر المرئيات والمشاهدات.

( وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ ) أي والله يقوّى بمعونته من يشاء كما أيد أهل بدر بتكثيرهم في عين العدو.

( إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ ) أي إن في هذا النصر مع قلة عددهم وكثرة عدوهم عظة لمن عقل وتدبر فعرف الحق وثلج قلبه ببرد اليقين.

١٠٦

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) )

تفسير المفردات

الشهوات : واحدة شهوة وهى رغبة النفس في الحصول ، والمراد بها المشتهيات كما يقال هذا الطعام شهوة فلان أي ما يشتهيه ، والأنعام واحدها نعم وهى الإبل والبقر والغنم ولا تطلق النعم إلا على الإبل خاصة ، والمسوّمة : هى التي ترعى في الأودية والقيعان ، والحرث : الزرع والنبات.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه قبل هذا اشتغال الكافرين بالأموال والأولاد وإعراضهم عن الحق وانهماكهم في اللذات ، ذكر هنا وجه غرورهم بذلك تحذيرا لهم من جعلها مطية لشهواتهم ، وتذكيرا لهم بأنه لا ينبغى أن تجعل هى غاية الحياة ، فتشغلهم عن أعمال الآخرة التي جعلت الدنيا مزرعتها ، والوسيلة لكسب السعادة فيها.

الإيضاح

( زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ ) معنى تزيين حب الشهوات للناس ، أن حبها مستحسن لديهم لا يرون فيه قبحا ولا غضاضة ، ومن ثم لا يكادون يرجعون عنه ، وهذا أقصى مراتب الحب ، وصاحبه قلما يفطن لقبحه أو ضرره إن كان قبيحا أو ضارّا ، ولا يحب أن يرجع عنه وإن تأذى به ، وقد يحب الإنسان شيئا وهو يراه شيئا لا زينا ، وضارّا لا نافعا ، ويود لذلك لو لم يحبه كما يحب بعض الناس شرب الدخان على تأذيهم منه ، ومن أحب شيئا ولم يزيّن له يوشك أن يرجع عنه يوما ما ، ومن زين له حبه فلا يكاد يرجع عنه.

١٠٧

المعنى ـ إن الله فطر الناس على حب هذه الشهوات المبينة بعد كما قال : «إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً » وقال : «كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ».

وقد يسند التزيين إلى الشيطان بالوسوسة في قبيح الأعمال كما قال تعالى : «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ ».

ثم فصل هذه المشتهيات الستة التي ملأت قلوب الناس حبا فقال :

( مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ) .

(فأولها) النساء وهن موضع الرغبة ومطمح الأنظار ، وإليهن تسكن النفوس كما قال تعالى «وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً » وعليهن ينفق أكثر ما يكسب الرجال بكدّهم وجدّهم ، فهم القوامون عليهن لقوتهم وقدرتهم على حمايتهن ، فإسرافهم في حبهنّ له الأثر العظيم فى شئون الأمة وفي إضاعة الحقوق أو حفظها.

وقدم حب النساء على حب الأولاد مع أن حبهنّ قد يزول وحب الأولاد لا يزول لأن حب الولد لا يعظم فيه الغلوّ والإسراف كحب المرأة ، فكم من رجل جنى حبه للمرأة على أولاده ، فكثير ممن تزوجوا بما فوق الواحدة وأفرطوا في حب واحدة وملّوا أخرى أهملوا تربية أولاد المبغوضة وحرموهم سعة الرزق وقد وسعوه على أولاد المحبوبة ، وكم من غنىّ عزيز يعيش أولاده عيشة الذل والفقر ، وليس لهذا من سبب إلا حب والدهم لغير أمهم ، فهو يفعل ذلك للتقرب وابتغاء الزلفى إليها.

(وثانيها) البنون والمراد بهم الأولاد مطلقا كما قال تعالى : «أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ » وفي الحديث «الولد مجبنة مبخلة».

والعلة في حب الزوجة وحب الولد واحدة وهى تسلسل النسل وبقاء النوع ، وهى حكمة مطردة في غير الإنسان من الحيوانات الأخرى.

١٠٨

وحب البنين أقوى من حب البنات لأسباب كثيرة منها :

(1) أنهم عمود النسب الذي به تتصل سلسلة النسل ، وبه يبقى ما يحرص عليه الإنسان من بقاء الذكر وحسن الأحدوثة بين الناس.

(2) أمل الوالد في كفالتهم له حين الحاجة إليه لضعف أو كبر.

(3) أنه يرجى بهم من الشرف ما لا يرجى من الإناث كنبوغ في علم أو عمل أو رياسة أو قيادة جيش للدفاع عن الوطن وحفظ كيان الأمة.

(4) الشعور بأن الأنثى حين الكبر تنفصل من عشيرتها وتتصل بعشيرة أخرى.

(وثالثها) القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، والعرب تريد بالقنطار المال الكثير والمقنطرة مأخوذة منه على سبيل التوكيد ، وقد جرت عادتهم بأن يصفوا الشيء بما يشتق منه مبالغة كما قالوا ألوف مؤلفة وظل ظليل ، وقيل المقنطرة المضروبة من دنانير ودراهم ، وقيل هى المنضدة في وضعها.

وهذا التعبير يشعر بالكثرة التي تكون مظنة الافتتان ، والتي تشغل القلب للتمتع بها ، وتستغرق في تدبيرها الوقت الكثير حتى لا يبقى بعد ذلك منفذ للشعور بالحاجة إلى نصرة الحق والاستعداد لأعمال الآخرة.

ومن ثم كان الأغنياء في كل الأمم لدى بعثة الرسل أول الكافرين بهم المستكبرين عن تلبية دعوتهم ، وإن أجابوها وآمنوا فهم أقل الناس عملا وأكثرهم بعدا عن هدى الدين ، انظر إلى قوله تعالى : «سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا ».

وحب المال مما أودع في غرائز البشر واختلط بلحمهم ودمهم ، وسر هذا أنه وسيلة إلى جلب الرغائب ، وسبيل إلى نيل اللذات والشهوات ، ورغبات الإنسان غير محدودة ، ولذاته لا عدّ لها ولا حصر ، وكلما حصل على لذة طلب المزيد منها ، وما وصل إلى غاية فى جمع المال إلا تاقت نفسه إلى ما فوقها ، حتى لقد يبلغ به النهم في جمعه أن ينسى أن

١٠٩

المال وسيلة لا مقصد فيفتنّ في الوصول إليه الفنون المختلفة ، والطرق التي تعنّ له ، ولا يبالى أمن حلال كسب أم من حرام؟

روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قوله صلى الله عليه وسلم «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب».

ولقد أعمت فتنة المال كثيرا من الناس فشغلتهم عن حقوق الله وحقوق الأمة والوطن ، بل عن حقوق من يعاملهم ، بل عن حقوق بيوتهم وعيالهم ، بل عن أنفسهم ، ومنهم من يقصر في النفقة على نفسه وعياله بالقدر الذي يزرى بمروءته ، فيظهر بمظهر المسترذل بين الناس في مأكله ومشربه وملبسه ، ومنهم من يثلم شرفه ويفتح ثغرة للطاعنين والقائلين فيه بالحق وبالباطل لأجل المال. ومن ثم قالوا : المال ميّال.

(ورابعها) الخيل المسوّمة التي ترعى في الأودية ، يقال سام الدابة : رعاها ، وأسامها : أخرجها إلى المرعى ، كما قال تعالى : «وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ».

وقال ابن جرير : المسوّمة : المعلّمة من السّومة وهى العلامة. قال النابغة :

بسمر كالقداح مسوّمات

عليها معشر أشباه جنّ

وكل من الخيل الراعية التي تقتنى للتجارة ، والمعلمة المطهّمة التي يقتنيها العظماء والأغنياء ـ من المتاع الذي يتنافس فيه الناس ويتفاخرون ، حتى لقد يتغالى بعضهم فى ذلك إلى حد هو أشبه بالجنون.

(وخامسها) الأنعام وهى مال أهل البادية ومنها تكون ثروتهم ومعايشهم ومرافقهم ، وبها تفاخرهم وتكاثرهم ، وقد امتنّ الله بها على عباده بقوله : «وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ ».

١١٠

(وسادسها) الحرث وعليه قوام حياة الإنسان والحيوان في البدو والحضر ، والحاجة إليه أشد من الحاجة إلى الأنواع السالفة ، والانتفاع به أتمّ منها لكنه أخر عنها ، لأنه لما عمّ الارتفاق به كانت زينته في القلوب أقل ، وقلما يكون الانتفاع به صادّا عن الاستعداد لأعمال الآخرة أو مانعا من نصرة الحق.

وهناك ما هو أعم نفعا وأعظم فائدة في الحياة وهو الضوء والهواء ، فلا يستغنى عنهما حىّ من الأحياء ، ومع ذلك قلما يلتفت الإنسان إليهما ولا يفكر في غبطته بهما.

( ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ ) المتاع ما يتمتع به ، والمآب المرجع من آب يئوب إذا رجع ، أي هذا الذي ذكر من الأصناف الستة المتقدمة هو ما يتمتع به الناس قليلا في هذه الحياة الفانية ، ويجعلونه وسيلة في معايشهم ، وسببا لقضاء شهواتهم وقد زيّن لهم حبها في عاجل دنياهم ، والله عنده حسن المآب في الحياة الآخرة التي تكون بعد موتهم وبعثهم فلا ينبغى لهم أن يجعلوا كل همهم في هذا المتاع القريب العاجل بحيث يشغلهم عن الاستعداد لخير الآجل.

فعلى المؤمن ألا يفتن بهذه الشهوات ويجعلها أكبر همه ، والشغل الشاغل له عن آخرته ، فإذا استمتع بها بالقصد والاعتدال ووقف عند حدود الله سعد في الدارين ووفق لخير الحياتين كما قال : «رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ ».

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا

١١١

وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17))

تفسير المفردات

النبأ والإنباء لم يردا في القرآن إلا لما له شأن عظيم كما قاله أبو البقاء في الكليات ، والتقوى : هى الإخبات إلى الله والإعراض عما سواه ، والمطهرة : الخالية من الشوائب الجسمية والنفسية والرضوان (بضم الراء وكسرها) الرضا ، والصبر : حبس النفس عند كل مكروه يشقّ عليها احتماله ، والصدق يكون في القول والعمل والوصف ؛ يقال فلان صادق في قوله ، وصادق في عمله ، وصادق في حبه ، والقانتين : أي المداومين على الطاعة والعبادة ، والمستغفرين بالأسحار : أي المصلّين وقت السحر.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه زخارف الدنيا وزينتها ، وذكر ما عنده من حسن المآب إجمالا ـ أمر رسوله بتفصيل ذلك المجمل للناس مبالغة في الترغيب والحث على فعل الخيرات.

الإيضاح

( قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ ) أي قل لقومك وغيرهم : أأخبركم بخير من جميع ما تقدم ذكره من النساء والبنين إلى آخره ، وجىء بالكلام على صورة الاستفهام لتوجيه النفوس إلى الجواب وتشويقها إليه.

وقوله خير يشعر بأن تلك الشهوات خير في ذاتها ، ولا شك في ذلك إذ هى من أجلّ النعم التي أنعم الله بها على الناس ، وإنما يعرض الشر فيها كما يعرض في سائر نعم الله على عباده كالحواس والعقول وغيرها ، فما مثل المسرف في حب النساء حتى

١١٢

يعطى امرأته حق غيرها ، أو يهمل لأجلها تربية ولده إلا مثل من يستعمل عقله فى استنباط الحيل ليبتز حقوق الناس ويؤذيهم ، فسلوك الناس في الانتفاع بالنعم لا يدل على أنها هى في ذاتها شر ولا كون حبها شرا مع القصد والاعتدال والوقوف عند حدود الشريعة.

ثم أجاب عن هذا الاستفهام على طريق قولك هل أدلك على تاجر عظيم في السوق يصدق في المعاملة ، ويرخص السعر ويفى بالوعد؟ هو فلان فقال :

( لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ ) أي للذين أخبتوا إلى ربهم وأنابوا إليه نوعان من الجزاء.

أحدهما جسمانى وهو الجنات وما فيها من النعيم والخيرات ، والأزواج المبرأة من العيوب التي في نساء الدنيا خلقا وخلقا.

وثانيهما روحاني عقلى وهو رضوان الله الذي لا يشوبه سخط ولا يعقبه غضب ، وهو أعظم اللذات كلها في الآخرة عند المتقين.

وفي الآية إيماء إلى أن أهل الجنة مراتب وطبقات كما نرى ذلك في الدنيا.

فمنهم من لا يفقه لرضوان الله معنى ولا يكون ذلك باعثا له على فعل الخير وترك الشر ، وإنما يفقه اللذات الحسية التي جرّ بها في الدنيا ، ففى مثلها يرغب.

ومنهم من ارتقى إدراكه ، وعظم قربه من ربه ، فيتمنى رضاه ويجعله الغاية القصوى والسعادة التي ليس وراءها سعادة.

وجاء في معنى هذه الآية قوله تعالى : «وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » وقوله : «اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ (الزراع)نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً ، وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوانٌ ، وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ ».

١١٣

( وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ) أي إنه تعالى هو البصير بعباده ، الخبير بقرارة نفوسهم ودخائل أحوالهم ، العليم بسرهم ونجواهم ، فلا تخفى عليه خافية من أمرهم ، وهو المجازى كل نفس بما كسبت من خير أو شر.

وقد ختم سبحانه هذه الآية بتلك الجملة ليحاسب الإنسان نفسه على التقوى ، فليس كل من ادعاها لنفسه أو تحرك بها لسانه يعدّ متقيا ، وإنما المتقى من يعلم منه ربه التقوى.

ثم وصف المتقين الذين تتأثر قلوبهم بثمرات إيمانهم ، فتفيض ألسنتهم بالاعتراف بهذا الإيمان حين الدعاء والابتهال فقال :

( الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ ) أي إن الذين اتقوا معاصى الله وتضرعوا إليه خاشعين يقولون مبتهلين متبتلين : ربنا إننا آمنا بما أنزلته على رسلك إيمانا يقينيا راسخا في القلب مهيمنا على العقل له السلطان على أعمالنا البدنية التي لا تتحول عن طاعتك إلا لنسيان أو جهالة كغلبة انفعال يعرض ثم لا يلبث أن يزول ، ثم تقفو التوبة إثره لتمحوه كما أرشدت إلى ذلك بقولك : «إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » وقولك «وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى » فاستر اللهم ذنوبنا بعفوك عنها وترك العقوبة عليها ، وادفع عنا عذاب النار إنك أنت الغفور الرّحيم.

وقد خصوا هذا العذاب بالمسألة ، لأن من زحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة وحسن المآب.

والخلاصة ـ إن مرادهم بالإيمان الذي أقروا به ـ هو الإيمان الصحيح الذي تصدر عنه آثاره من ترك المعاصي وفعل الصالحات ، إذ الإيمان اعتقاد وقول وعمل كما أجمع على ذلك السلف ، ويرشد إليه العقل والعلم بطبيعة البشر.

١١٤

ثم ذكر من أوصافهم ما امتازوا به من غيرهم ، وبه استحقوا المثوبة عند ربهم فقال :

( الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ) أي إن المتقين جمعوا هذه الصفات التي لكل منها درجة في الفضل وشرف ورفعة وبها نالوا هذا الوعد وهى :

(1) الصبر وأكمل أنواعه : الصبر على أداء الطاعات وترك المحرمات ، فإذا هبت أعاصير الشهوات وجمحت بالنفس إلى ارتكاب المعاصي فلا سبيل لردعها إلا بالصبر ، فهو الذي يثبّت الإيمان ويقف بها عند الحدود المشروعة ، وهو الحافظ لشرف الإنسان فى الدنيا عند المكاره ، ولحقوق الناس أن تغتالها أيدى المطامع.

وهو كالشرط في كل ما يذكر بعده من الصدق والقنوت والاستغفار بالأسحار.

(2) الصدق وهو منتهى الكمال ، وحسبك في بيان فضيلته قوله تعالى : «وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ، لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ ».

(3) القنوت وهو المداومة على الطاعة والإخبات إلى الله مع الخشوع والخضوع وهو لبّ العبادة وروحها ، وبدونه تكون العبادة بلا روح وشجرة بلا ثمرة.

(4) الإنفاق للمال في جميع السبل التي حث عليها الدين ، سواء أكانت النفقة واجبة أم مستحبة ، فالإنفاق في أعمال البر جميعا مما حث عليه الشارع وندب إليه.

(5) الاستغفار بالأسحار : أي التهجد في آخر الليل وهو الوقت الذي يطيب فيه النوم ويشقّ القيام ، وتكون النفس فيه أصفى ، والقلب أفرغ من الشواغل.

والاستغفار المطلوب ما يقرن بالتوبة النصوح ، والعمل وفق حدود الدين ، ولا يكفى الاستغفار باللسان مع الإدمان على فعل المنكر ، فإن المستغفر من الذنب وهو مصرّ عليه كالمستهزئ بربه ، ولا يغتر بمثل هذا الاستغفار إلا جاهل بدينه ، أو غرّ في معاملته لربه ، ومن ثم أثر عن بعض الصوفية قوله : إن استغفارنا يحتاج إلى استغفار.

١١٥

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) )

تفسير المفردات

يقال شهد الشيء وشاهذه إذا حضره كما قال : «ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ » وقال «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » والشهادة بالشيء الإخبار به عن علم إما بالمشاهدة الحسية ، وإما بالمشاهدة المعنوية وهى الحجة والبرهان ، وأولو العلم هم أهل البرهان القادرون على الإقناع ، وهم يوجدون في هذه الأمة وفي جميع الأمم السالفة ، بالقسط : أي بالعدل في الدين والشريعة وفي الكون والطبيعة. والدين له في اللغة عدة معان : منها الجزاء ، والطاعة والخضوع ، ومجموعة التكاليف التي بها يدين العباد لله ـ وما يكلف به العباد يسمى شرعا باعتبار وضعه وبيانه للناس ، ودينا باعتبار الخضوع وطاعة الشارع ، وملة باعتبار أنها أملّت وكتبت ـ والإسلام يأتي بمعنى الخضوع والاستسلام ، وبمعنى الأداء تقول أسلمت الشيء إلى فلان إذا أديته إليه ، وبمعنى الدخول في السلم أي الصلح والسلامة ، وتسمية الدين الحق إسلاما يناسب كل هذه المعاني وأولها أوفقها بالتسمية ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ

١١٦

أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً » وحاجوك : جادلوك ، وأسلمت : أي أخلصت ، والأميون مشركو العرب واحدهم أمي نسبوا إلى الأم لجهلهم كأنهم على الفطرة ، البلاغ : أي التبليغ للناس.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه جزاء المتقين ، وشرح أوصافهم التي استحقوا بها هذا الجزاء ـ ذكر هنا أصول الإيمان وأسسه.

الإيضاح

( شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ) أي بيّن سبحانه وحدانيته بنصب الدلائل التكوينية في الآفاق والأنفس ، وإنزال الآيات التشريعية الناطقة بذلك ، والملائكة أخبروا الرسل بهذا وشهدوا شهادة مؤيدة بعلم ضرورى وهو عند الأنبياء أقوى من جميع اليقينيات ، وأولو العلم أخبروا بذلك وبيّنوه وشهدوا به شهادة مقرونة بالدلائل والحجج ، لأن العالم بالشيء لا تعوزه الحجة عليه.

وقوله بالقسط أي بالعدل في الاعتقاد ، فالتوحيد هو الوسط بين إنكار الإله والشرك به ، والعدل في العبادات والآداب والأعمال ، فعدل بين القوى الروحية والبدنية ، فأمر بشكره في الصلاة وغيرها لترقية الروح وتزكية النفس ، وأباح كثيرا من الطيبات لحفظ البدن وتربيته ، ونهى عن الغلوّ في الدين والإسراف في حب الدنيا وبالعدل في الأحكام في نحو قوله : «إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ » وقوله «وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ».

كما جعل سنن الخليقة قائمة على أساس العدل ، فمن نظر في هذه السنن ونظمها الدقيقة تجلى له عدل الله فيها على أتم ما يكون وأوضحه.

١١٧

فقيامه تعالى بالقسط في كل هذا برهان على صدق شهادته تعالى ، فإن وحدة النظام في هذا العالم تدل على وحدة واضعه.

ثم أكد كونه منفردا بالألوهية وقائما بالعدل بقوله :

( لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) فإن العزة إشارة إلى كمال القدرة ، والحكمة إيماء إلى كمال العلم ، والقدرة لا تتم إلا بالتفرد والاستقلال ، والعدالة لا تكمل إلا بالاطلاع على المصالح والأحوال ، ومن كان كذلك فلا يغلبه أحد على ما قام به من سنن القسط ، ولا يخرج من الخليقة شىء عن حكمته البالغة.

ثم ذكر الدستور العام الذي عليه المعوّل في كل دين فقال :

( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ ) أي إن جميع الملل والشرائع التي جاء بها الأنبياء روحها الإسلام والانقياد والخضوع ، وإن اختلفت في بعض التكاليف وصور الأعمال ، وبه كان الأنبياء يوصون. فالمسلم الحقيقي من كان خالصا من شوائب الشرك ، مخلصا فى أعماله مع الإيمان من أىّ ملة كان ، وفي أي زمان وجد ، وهذا هو المراد بقوله عز اسمه «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ».

ذاك أن الله شرع الدين لأمرين :

(1) تصفية الأرواح وتخليص العقول من شوائب الاعتقاد بسلطة غيبية للمخلوقات بها تستطيع التصرف في الكائنات لتسلم من الخضوع والعبودية لمن هم من أمثالها.

(2) إصلاح القلوب بحسن العمل وإخلاص النية لله وللناس.

وأما العبادات فإنما شرعت لتربية هذا الروح الخلقي ليسهل على صاحبه القيام بسائر التكاليف الدينية.

أخرج ابن جرير عن قتادة قال : الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء من عند الله ، وهو دين الله تعالى الذي شرع لنفسه وبعث به رسله ، ودلّ عليه أولياءه لا يقبل غيره ، ولا يجزى إلا به.

١١٨

وخطب على كرم الله وجهه قال : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق ، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل ، ثم قال : إن المؤمن أخذ دينه عن ربه ، ولم يأخذه عن رأيه ، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله ، والكافر يعرف كفره بإنكاره ، أيها الناس دينكم دينكم ، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره ، إن السيئة فيه تغفر ، وإن الحسنة في غيره لا تقبل.

( وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ) أي وما خرج أهل الكتاب من الإسلام الذي جاء به أنبياؤهم على نحو ما فصلناه آنفا ، وصاروا مذاهب وشيعا يقتتلون في الدين ـ والدين واحد لا مجال فيه للاختلاف والاقتتال إلا بسبب البغي وتجاوز الحدود من الرؤساء ، ولو لا بغيهم ونصرهم مذهبا على مذهب وتضليلهم من خالفهم بتفسيرهم نصوص الدين بالرأى والهوى وتأويل بعضه أو تحريفه لما حدث هذا الاختلاف.

والتاريخ شهيد بأن الملوك والأحبار هم الذين جعلوا الدين المسيحي مذاهب ينقض بعضها بعضا ، وجعلوا أهله شيعا يفتك بعضهم ببعض. فآريوس وأتباعه الذين دعوا إلى التوحيد بعد فشوّ الشرك ، قد حكم عليهم المجمع الذي ألفه الملك قسطنطين سنة 325 م بالإلحاد وإحراق كتبهم وتحريم اقتنائها ، ولما انتشرت تعاليمه فيما بعد حكم تيودوسيوس الثاني بإبادة الآريوسية بقانون رومانى صدر سنة 628 م ، وبقيت مذاهب التثليث تتطاحن ويغالب بعضها بعضا.

والعبرة من هذا القصص أن نبتعد عن الخلاف في الدين والتفرق فيه إلى شيع ومذاهب كما فعل من قبلنا ، ولكن وا أسفا وقعنا فيما وقع فيه السالفون ، وتفرقنا طرائق قددا ، وأصابنا من الخذلان والذل بسبب هذا التفرق ما لا نزال نئنّ منه ، ونرجو أن يشملنا الله بعفوه ورحمته ، ويمدنا بروح من عنده ؛ فيسعى أهل الإيمان الصادق في نبذ الاختلاف والشقاق ، والعودة إلى الوحدة والاتفاق ، حتى يعود

١١٩

المسلمون إلى سيرتهم الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين ، ومن تبعهم بإحسان.

( وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ ) أي ومن يكفر بآيات الله الدالة على وجوب الاعتصام بالدين ووحدته وحرمة الاختلاف والتفرق فيه ، ويترك الإذعان لها ـ فالله يجازيه ويعاقبه على ما اجترح من السيئات ، والله سريع الحساب.

والمراد بآيات الله هنا هى آياته التكوينية في الأنفس والآفاق ، ويدخل في ترك الإذعان لها صرفها عن وجهها لتوافق مذاهب أهل الزيغ والإلحاد وآياته التشريعية التي أنزلها على رسله.

( فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ ) أي فإن جادلك أهل الكتاب أو غيرهم ـ وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اليهود في المدينة إلى ترك ما أحدثوه فى دينهم وتعودوه من التحريف والتأويل والرجوع إلى حقيقة الدين وإسلام الوجه لله والإخلاص له ـ بعد أن أقمت لهم البراهين والبينات ، وجئتهم بالحق ـ فقل لهم : أقبلت بعبادتي على ربى مخلصا له ، معرضا عما سواه ، أنا ومن اتبعنى من المؤمنين.

والخلاصة ـ إنه لا فائدة من الجدل مع مثل هؤلاء لأنه لا يكون إلا فيما فيه خفاء أما وقد قامت الأدلة ، وبطلت شبهات الضالين فهو مكابرة وعناد ، ولا يستحق منك إلا الإعراض وعدم إضاعة الوقت سدى.

( وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ؟ ) أي وقل لليهود والنصارى ومشركى العرب ـ وخص هؤلاء بالذكر مع أن البعثة عامة ، لأنهم هم الذين خوطبوا أولا بالدعوة ـ أأسلمتم كما أسلمت بعد أن وضحت لكم الحجة ، وجاءكم من البينات ما يوجبه ويقتضيه ، أم تصرّون على كفركم وعدم ترككم للعناد؟

ومثل هذا مثل من يلخص مسألة لسائل ، ولا يدع طريقا من طرق البيان إلا سلكه ، ثم يقول له : أفهمتها؟

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413