مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 195297
تحميل: 7520

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195297 / تحميل: 7520
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

فقال: إنّ الأمير يأمرك بالانصراف، فانصرف وإلاّ منعتك.

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان، واضطربوا بالسياط.

وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطته يأمره بالانصراف »(١) .

إذن؛ فخروج الركب الحسينيّ من مكّة لم يكن سرّاً، وهذا لا يُنافي الحقيقة

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٤٤ / وراجع: الكامل في التاريخ ٢: ٥٤٧ وفيه: ( ثمّ خرج الحسين يوم التروية، فاعترضه رُسل عمرو بن سعيد بن العاص... ). وتاريخ الطبري ٣: ٩٦ وفيه: ( لما خرج الحسين من مكّة اعترضه رُسل عمرو بن سعيد … ). لكنّ ابن عبد ربّه في كتابه العقد الفريد ٤: ٣٧٧ تفرّد بهذا النقل الغريب: ( ثمّ خرج - أي عمرو بن سعيد - إلى مكّة، فقدمها قبل يوم التروية بيوم، ووفدت الناس للحسين يقولون: يا أبا عبد الله، لو تقدّمت فصلّيت بالناس فأنزلتهم بدارك! إذ جاء المؤذّن بالصلاة. فتقدّم عمرو بن سعيد فكبّر، فقيل للحسين: اخرج أبا عبد الله إذ أبيت أن تتقدّم. فقال: ( الصلاة في الجماعة أفضل ). قال: فصلّى، ثمّ خرج، فلمّا انصرف عمرو بن سعيد بلغه أنّ حسيناً قد خرج، فقال: اطلبوه، اركبوا كلّ بعير بين السماء والأرض فاطلبوه! قال: فعجب الناس من قوله هذا، فطلبوه فلم يُدركوه ).

وهذه الرواية مع مُخالفتها لحقائق تاريخية عديدة، أهمّها أنّ التأريخ الموثّق لم يروِ أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام قد صلّى خلف أحد ولاة يزيد بن معاوية في جماعة أبداً، نراها تضطرب اضطراب خيال الأطفال، فتصوّر أنّ الإمام عليه‌السلام ما إنْ يخرج من المسجد حتى يختفي مع الركب الحسيني الكبير، في خروجه من مكّة، إلى درجة أنّ عمرو بن سعيد لما انصرف من نفس الصلاة التي كان الإمام عليه‌السلام معه فيها! ( على فرض الرواية ) طلب من جلاوزته أن يطلبوا الإمام عليه‌السلام على كلّ بعير بين السماء والأرض فلم يُدركوه!!

يقول العلاّمة الأميني ( ره ) في كتابه الغدير ٣: ٧٨ ( قد يحسب القارئ لأوّل وهلة أنّه - أي العقد الفريد - كتاب أدب لا كتاب مذهب، فيرى فيه نوعاً من النزاهة، غير أنّه متى أنهى سَيره إلى مُناسبات المذهب تجد مؤلّفه ذلك المهوّس المهملج، ذلك الأفّاك الأثيم ).

١٠١

التاريخية، في أنّ الإمام الحسين عليه‌السلام قد استبق الأحداث والزمان، فخرج من مكّة مُبادراً قبل أن يغتاله الحُكم الأُمويّ فيها أو يُقبَض عليه؛ لأن خروج الإمام عليه‌السلام من مكّة بالركب الحسيني الكبير نسبيّاً وقتذاك، كان على امتناع وأُهبة واستعداد لكلّ احتمال، في وقت لم يكن من مصلحة الحُكم الأُموي أن تواجه سلطته المحلّية في مكّة - على فرض امتلاكها القوّة العسكرية الكافية(١) - الإمام الحسين عليه‌السلام مواجهة حربية علنيّة في مكّة أو في أطرافها؛ لأنّ الأُمويين يعلمون ما للإمام الحسين عليه‌السلام من مكانة سامية عزيزة، وقُدسية بالغة في قلوب جموع الحجيج الذين لا زالوا آنذاك في مكّة، فهم يخافون من انقلاب الأمر وتفاقمه عليهم.

ولعلَّ رواية الدينوري السابقة، تُشعر بهذه الحقيقة، حيث تقول: «... وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شرطته يأمره بالانصراف ».

وعلى ضوء ما تقدّم؛ تتأكّد صحّة ما تقدّم في الجزء الأوّل(٢) من هذا الكتاب « مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة »: أنّ خروج الإمام الحسينعليه‌السلام من مكّة المكرّمة « وكذلك من المدينة » في السحَر، أو في أوائل الصبح في ستر الظلام، من أجل ألاّ تتصفّح أنظار الناس في مكّة « وكذلك في المدينة » في وضح النهار حرائر

____________________

(١) ( فقد روي أنّه لما كان يوم التروية، قدم عمرو بن سعيد بن العاص إلى مكّة في جُند كثيف، قد أمره يزيد أن يناجز الحسين عليه‌السلام ( إن هو ناجزه!) أو يُقاتله ( إن قدر عليه!)، فخرج الحسين عليه‌السلام يوم التروية ) ( نفس المهموم: ١٦٣)، ويُلاحظ على هذه الرواية - وهي تؤكّد وجود قوّة عسكرية كثيفة لدى السلطة الأُمويّة المحلّية في مكّة - أنّها لا تقطع بأنّ هذه القوّة العسكرية، تملك القدرة على إنزال الهزيمة بقوّة الإمام عليه‌السلام ، بدليل قول الرواية: ( إن قدر عليه). كما أنّ هذه الرواية تؤكّد أنّ السلطة الأُموية لا تريد مُناجزة الإمام عليه‌السلام ( في قتال علَني ) في مكّة، إلاّ إذا اضطرّت إلى ذلك؛ بدليل قول الرواية ( إن هو ناجزه). فتأمّل.

(٢) الإمام الحسين عليه‌السلام في المدينة المنوّرة:٣٩٩ - ٤٠١.

١٠٢

بيت العصمة والرسالة، والنساء الأُخريات في الركب الحسيني؛ وهذا هو السبب الأقوى - إن لم يكن السبب الوحيد - في مجموعة الأسباب التي دفعت الإمام عليه‌السلام إلى الخروج في السحَر أو في أوائل الصبح، وهذا ما يتناسب تماماً مع الغيرة الحسينية الهاشمية.

لماذا حمل الإمام عليه‌السلام النساء والأطفال معه!؟

في السحَر الذي ارتحل فيه الإمام الحسينعليه‌السلام خارجاً عن مكّة إلى العراق، كان أخوه محمد بن الحنفية « رض » قد هرع إليه، حتى إذا أتاه أخذ زمام ناقته التي ركبها، « فقال له: يا أخي، ألم تعدْني النظر فيما سألتك؟!

قالعليه‌السلام :( بلى ) .

قال: فما حداك على الخروج عاجلاً؟!

فقالعليه‌السلام :( أتاني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعدما فارقتك فقال: يا حسين، اُخرج فإنّ اللّه شاء أن يراك قتيلاً! ) .

فقال له ابن الحنفية: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! فما معنى حمْلك هؤلاء النساء معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال؟!

فقال لهعليه‌السلام :( قد قال لي: إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا! ) . وسلّم عليه ومضى »(١) .

وفي إحدى مُحاوراتهعليه‌السلام مع ابن عباس « رض»:

____________________

(١) اللهوف: ١٢٨.

١٠٣

قال له ابن عبّاس: « جُعلتُ فداك يا حسين، إن كان لابدّ من المسير إلى الكوفة، فلا تَسِرْ بأهلك ونسائك، فو الله، إنّي لخائف أن تُقتل...

فقالعليه‌السلام :يا ابن العمّ، إنّي رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في منامي، وقد أمرني بأمر لا أقدر على خلافه، وإنّه أمرني بأخذهم معي، إنّهنّ ودائع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا آمن عليهنّ أحداً، وهنّ أيضاً لا يُفارقنني... »(١) .

وفي محاورتهعليه‌السلام مع أمّ سلمةرضي‌الله‌عنه في المدينة:

كانعليه‌السلام قد قال لها:( يا أُمّاه، قد شاء الله عزّ وجلّ أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مُشرّدين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيّدين، وهم يستغيثون فلا يجدون ناصراً ولا مُعيناً ) (٢) .

لقد علّل الإمامعليه‌السلام حمله لأهله ونسائه معه - في مُحاوراته مع ثلاثة من أشدّ الناس إخلاصاً له - بأنّ ذلك تحقيق لمشيئة الله سبحانه، وامتثال لأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّهعليه‌السلام يخاف أن تتعرّض ودائع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله للأذى والمكروه من بعده إذا فارقْنَه وبقين في المدينة، أو في مكّة! كما علّل ذلك بإصرارهنّ على الخروج معه!(٣) .

____________________

(١) مدينة المعاجز، ٣: ٤٥٤.

(٢) بحار الأنوار، ٤٤: ٣٣١.

(٣) بعدما أنهى الإمام عليه‌السلام قوله لابن عبّاسرضي‌الله‌عنه :(... وإنّهنّ ودائع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ولا آمن عليهنّ أحداً وهنّ أيضاً لا يُفارقنني ) . سمع ابن عبّاس بكاءً من ورائه وقائلة تقول: ( يا بن عبّاس، أتُشير على شيخنا وسيّدنا أن يُخلّفنا هاهنا ويمضي وحده؟! وهل أبقى الزمان لنا غيره؟! لا والله، بل نحيى معه ونموت معه! ). (راجع: مدينة المعاجز، ٣: ٤٥٤).

١٠٤

فكيف نفهم ملامح الحِكمة في هذه المشيئة الإلهية وهذا الأمر النبوي، وفي مخافة الإمامعليه‌السلام على ودائع النبوّة، وفي إصرارهن على الخروج معه؟

ماذا سيجري على عقائل بيت الرسالة لو بقين خلاف الإمامعليه‌السلام في المدينة أو في مكّة مثلاً؟

يرى الشيخ المرحوم عبد الواحد المظفّر في كتابه: « توضيح الغامض من أسرار السنن والفرائض » أنّ: « الحسينعليه‌السلام لو أبقى النساء في المدينة لوضعت السلطة الأُموية عليها الحَجْر، لا بل اعتقلتها علناً وزجَّتها في ظلمات السجون، ولابدّ له حينئذ من أحد أمرين خطيرين، كلّ منهما يشلُّ أعضاء نهضته المقدّسة!

إمّا الاستسلام لأعدائه وإعطاء صفقته لهم طائعاً؛ ليستنقذ العائلة المصونة، وهذا خلاف الإصلاح الذي يَنشده وفرض على نفسه القيام به مهما كلّفه الأمر من الأخطار، أو يمضي في سبيل إحياء دعوته ويترك المخدّرات اللواتي ضرب عليهنَّ الوحي ستراً من العظمة والإجلال، وهذا ما لا تُطيق احتماله نفس الحسين الغيور.

ولا يردع أميّة رادع من الحياء، ولا يزجرها زاجرٌ من الإسلام، إنّ أميّة لا يُهمّها اقتراف الشائن في بلوغ مقاصدها وإدراك غاياتها، فتتوصّل إلى غرضها ولو بارتكاب أقبح المنكرات الدينية والعقلية!

ألم يطرق سمعك سجن الأُمويين لزوجة عمرو بن الحمق الخزاعي، وزوجة عبيد الله بن الحرّ الجعفي، وأخيراً زوجة الكُميت الأسدي؟! »(١) .

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن علي عليه‌السلام ، ٣٠٠:٢؛ وروي أُطلق من سجن الحجّاج ثلثمئة ألف ما بين رجل وامرأة - ومات في حبسه خمسون ألف رجل وثلاثون ألف امرأة، منهن ستّة عشر ألفا مُجرّدات، عاريات، (حياة الحيوان ١: ٩٦ و ٢٤١). وأنّ أمّ خالد ( الأحمسية) حُبست بأمر من يوسف =

١٠٥

وهذا الاحتمال الذي نظر إليه الشيخ المظفّر (ره) وارد بقوّة؛ لأنّ السلطة الأُمويّة كانت تريد منع الإمامعليه‌السلام من القيام والخروج إلى العراق بكلّ وسيلة، حتى وإن كانت هذه الوسيلة اعتقال الودائع النبويّة من نساء وأطفال يعزُّ على الإمام الحسينعليه‌السلام تعرّضهم للأذى والإهانة والسجن، فيضطّر إلى التحرّك لإنقاذهم، الأمر الذي يشلّ حركة النهضة أو يقضي عليها!

وإمكان إقدام السلطة الأموية على مثل هذه الفعلة لا يحتاج إلى أدنى تأمّل، لقد كان ضغط السلطة الأُموية على المناهضين لها، وإحراجها إيّاهم من خلال إيذاء عوائلهم وإرهابها وسجنها سُنّة من سنن الحُكم الأُموي، وإضافة إلى الأمثلة التي قدّمها الشيخ المظفّر (ره)، فإنّ ما قامت به السلطة الأُمويّة في واقعة الحَرَّة من انتهاك حُرمات الأعراض واستباحتها، بل ما فعلته السلطة الأُموية بالودائع النبوية نفسها في السبي، بعد استشهاد الإمامعليه‌السلام دليل على سهولة مثل هذه الجسارة العظيمة عند طغاة بني أميّة.

وبهذا قد يتجلّى لنا هنا بُعدٌ من أبعاد الحِكمة في الأمر النبوي بحملهن! وهذا المحذور - حدث تعرُّض الودائع النبوية للأذى والسجن - سواء وقع قبل خروج الإمامعليه‌السلام «من المدينة أو مكّة »، أم بعد خروجه «وقبل استشهاده»، سيكون حدثاً خارجاً عن مسار حركة أحداث النهضة وأجنبيّاً عنها، وذا أثر مُضادّ لمتَّجه آثارها، بخلاف ما إذا وقع هذا الحدث في إطار حركة أحداث هذه النهضة وفي مسارها المرسوم؛ إذ إنَّه يكون حينذاك امتداداً لها، وتبليغاً بحقائقها، وتحقيقاً لغاياتها.

____________________

= بن عمر - حاكم العراق - ثمّ أيّام ثورة زيد - ثمّ أمر بها فقُطعت يداها. (انظر: مُعجم رجال الحديث، ٤: ١٠٩).

١٠٦

فكان لابدّ للإمامعليه‌السلام من حمْل هذه الودائع العزيزة ونسائه معه؛ كي لا يُعوِّق العدوُّ من خلالها على مسار النهضة المقدّسة.

ومع تفويت الإمامعليه‌السلام الفُرصة على أعدائه بذلك - والحمد لله الذي جعل أعداء أهل البيتعليهم‌السلام من الحمقى - كان الإمامعليه‌السلام عالماً منذ البدء بضرورة حمل هذه الودائع النبوية معه؛ تحقيقاً «لمسيرة التبليغ الكبرى» - بعد استشهاده - بدواعي النهضة الحسينية، وبأهدافها، وبمظلومية أهل البيتعليهم‌السلام وأحقِّيتهم بالخلافة، وبحقيقة كفر آل أميّة ونفاقهم وعدائهم للإسلام الحقّ وأهله.

كان الإمامعليه‌السلام عالماً منذ البدء بضرورة هذه المسيرة الإعلامية التبليغية الكبرى من بعده، والتي ينهض بأعبائها بقيّة الله الإمام السجّادعليه‌السلام وودائع النبوّة في أيّام السبي والترحيل من بلد إلى بلد؛ إذ لولا هذه المسيرة الإعلاميّة التبليغية، لما كان يمكن للثورة الحسينية أن تُحقّق كامل أهدافها في عصرها وفي ما بعده من العصور إلى قيام الساعة، ولعلّ هاهنا مكمن السرّ في:( إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا ) ، وفي الأمر النبوي بحملهنّ.

إذن؛ فحمل الإمامعليه‌السلام لودائع النبوّة معه ضرورة من ضرورات نجاح الثورة الحسينية، وكان لابدّ للإمامعليه‌السلام أن يقوم بذلك، حتى ولو لم يكن هناك احتمال لتعرّض هذه الودائع النبوية للأذى والسجن، إذا بقين خلاف الإمامعليه‌السلام في المدينة أو مكّة! فما بالك واحتمال سجنهنّ وارد بقوّة؟! والمتأمّل في تفاصيل ما جرى على بقيّة الركب الحسيني بعد استشهاد الإمامعليه‌السلام حتى عودتهم إلى المدينة المنوّرة، يُشاهد بوضوح الأثر العظيم المترتِّب على العمل الإعلامي والتبليغي الكبير، الذي قام بأعبائه أعلام بقيّة الركب الحسيني،

١٠٧

ويؤمِن أنّ الثورة الحسينية لم تكن لتصل إلى تمام غاياتها، لو لم تكن تلك الودائع النبوية في الركب الحسيني(١) .

____________________

(١) يقول المرحوم المحقّق الكبير السيّد المقرّم: ( إنّ الكلمة الناضجة في وجه حمل الحسين عياله إلى العراق، مع علمه بما يُقدم عليه ومَن معه على القتل هو أنّه عليه‌السلام لما علم بأنّ قتْلَته سوف تذهب ضياعاً؛ لو لم يتعقّبها لسان ذرِب وجنان ثابت يُعرِّفان الأمّة ضلال ابن ميسون وطغيان ابن مرجانة باعتدائهما على الذرّية الطاهرة، الثائرة في وجه المنكر، ودحض ما ابتدعوه في الشريعة المقدّسة.

كما عرف ( أبيّ الضيم ) خوف رجال الدين من التظاهر بالإنكار وخضوع الكلّ للسلطة الغاشمة، ورسوف الكثير منهم بقيود الجور، بحيث لا يمكن لأكبر رجل الإعلان بفظاعة أعمالهما، وما جرى على ابن عفيف الأزدي يؤكّد هذه الدعوى المدعومة بالوجدان الصحيح.

وعرف سيد الشهداء من حرائر الرسالة الصبر على المكاره، وملاقاة الخطوب والدواهي بقلوب أرسى من الجبال، فلا يفوتهنّ تعريف الملأ المغمور بالترهات والأضاليل نتائج أعمال هؤلاء المضلِّين، وما يقصدونه من هدم الدين، وإنّ الشهداء أرادوا بنهضتهم مع إمامهم قتيل الحنيفية إحياء شريعة جدّه صلى‌الله‌عليه‌وآله .

والعقائل من آل الرسول وإن استعرت أكبادهنّ بنار المصاب وتفاقم الخطب عليهنّ وأشجاهنّ الأسى، لكنَّهنّ على جانب عظيم من الأخذ بالثأر والدفاع عن قدس الدين.

وفيهن ( العقيلة ) ابنة أمير المؤمنينعليها‌السلام التي لم يرُعْها الأسر وذلَّ المنفى، وفقد الأعزَّاء وشماتة العدوّ، وعويل الأيامى، وصراخ الأطفال، وأنين المريض، فكانت تُلقي خواطرها بين تلك المحتشدات الرهيبة أو فقل بين المخلب والناب غير مُتلعثمة، وتقذفها كالصواعق على مُجتمع خصومها، فوقفت أمام ابن مرجانة ذلك الألدّ، وهي امرأة عزلاء، ليس معها من حماتها حميٌّ ولا من رجالها وليّ، غير الإمام الذي أنهكته العلّة ونسوة مُكتنفة بها، بين شاكية وباكية، وطفل كظّه العطش، إلى أخرى أقلقها الوَجَل، وأمامها رأس علَّة الكائنات ورؤوس صحبه وذويه، وقد تركت تلك الأشلاء المقطّعة في البيداء تصهرها الشمس، والواحدة من هذه تهدُّ القوى وتُبلبل الفكر.

لكنّ ( ابنة حيدرة ) كانت على جانب عظيم من الثبات والطمأنينة، فأفرغت عن لسان أبيها بكلام أنفَذ من السهم، وألقمت ابن مرجانة حجراً؛ إذ قالت له: ( هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل، فبرزوا =

١٠٨

____________________

= إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتُحاجُّ وتُخاصم، فانظر لمن الفَلَج ثكلتك أمّك يا ابن مرجانة ).

وأوضحت للملأ المتغافل خُبثه ولؤمه، وأنّه لن يرحض عنه عارها وشَنارها، كما أنّها أدهشت العقول وحيّرت الفكر في خُطبتها بكناسة الكوفة، والناس يومئذ حيارى يبكون لا يدورن ما يصنعون ( وأنَّى يرحض عنهم العار بقتلهم سليل النبوة ومَعدِن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنّة، وقد خاب السعي وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وباءوا بغضب من الله وخزي في الآخرة، ولعذاب الله أكبر لو كانوا يعلمون ).

وبعد أن فرغت من خطابها، اندفعت فاطمة ابنة الحسين بالقول الجزل، مع ثبات جأش، وهدوء بال، فكان خطابها كوخز السنان في القلوب، ولم يتمالك الناس دون أن ارتفعت أصواتهم بالبكاء، وعرفوا عظيم الجناية والشقاء فقالوا لها: حسبك يا ابنة الطاهرين، فقد أحرقت قلوبنا وانضجعت نحورنا!

وما سكتت حتى ابتدرت أمّ كلثوم، زينب بنت علي بن أبي طالب عليه‌السلام فعرّفت الحاضرين عظيم ما اقترفوه، فولول الجمع وكثر الصراخ، ولم يُرَ إذ ذاك أكثر باكٍ وباكية.

فهل يا ترى، يمكنك الجزم بأنّ أحداً يستطيع في ذلك الموقف الرهيب الذي تحفّه سيوف الجور أن يتكلّم بكلمة واحدة مهما بلغ من المنعة في عشيرته؟! وهل يقدر أحد أن يُعلن بمُوبقات ابن هند وابن مرجانة، غير بنات أمير المؤمنين عليه‌السلام ؟... كلاَّ.

إنّ على الألسن أوكية! والأيدي مغلولة! والقلوب مُشفقة!

على أنّ هذا إنّما يقبح ويُستهجن إذا لم يترتب عليه إلاّ فوائد دنيوية مثارها رغبات النفس الأمّارة، وأمّا إذا ترتّبت عليه فوائد دينيّة أهمُّها تنزيه دين الرسول عمّا ألصقوه بساحته من الباطل، فلا قُبح فيه عقلاً ولا يستهجنه العُرف، ويُساعد عليه الشرع.

والمرأة، وإن وضع الله عنها الجهاد ومُكافحة الأعداء، وأمرها سبحانه وتعالى أن تقرَّ في بيتها، فذاك فيما إذا قام بتلك المكافحة غيرها من الرجال، وأمّا إذا توقَّف إقامة الحقّ عليها فقط، بحيث لولا قيامها لدُرِست أُسُس الشريعة، وذهبت تضحية أولئك الصفوة دونه أدراج التمويهات، كان الواجب =

١٠٩

أمّا قولهعليه‌السلام :( وهنّ أيضاً لا يُفارقنني! ) ، الحاكي عن إصرارهنّ على السفر معه ومُلازمته في رحلة الفتح بالشهادة، فيمكن أن يُفسّر بأنّ الودائع النبوية «خصوصاً بنات أمير المؤمنينعليه‌السلام وعلى رأسهنّ زينب الكبرىعليها‌السلام » كنّ قد أصررن على ملازمة الإمامعليه‌السلام في نهضته لأنَّهنّ - إضافة إلى البُعد العاطفي والتعلّق الروحي بالإمامعليه‌السلام - كنّ يعلمن بأهمِّية الدور الإعلامي والتبليغي الذي بإمكانهنّ القيام به في مسار النهضة، خصوصاً بعد استشهاد الإمامعليه‌السلام ؛ إذ من المحتمل جدّاً أنّ(١) الإمامعليه‌السلام كان قد أطلعهنَّ على تفاصيل ما يجري عليه وعلى مَن معه، وكشف لهنّ عن أهمّيّة الدور الذي يُمكنهنّ أن يضطلعن بأعبائه من بعده، وإن كان من الثابت عندنا أنّ العقيلة زينبعليها‌السلام كانت تعلم كلّ ذلك بالعلم اللدُنيّ، موهبة من الله تبارك وتعالى، فقد وصفها الإمام السجّادعليه‌السلام ذات مرّة بأنّها:( عالمة غير مُعلّمة وفَهِمَة غير مُفهّمة! ) (٢) ، ولقد كشفت هيعليها‌السلام عن علمها حتى بما يجري

____________________

= عليها القيام به؛ ولذلك نهضَت سيدة نساء العالمين ( الزهراء )عليها‌السلام للدفاع عن خلافة الله الكبرى، حين أخذ العهد على سيد الأوصياء بالقعود، فخطبت في مسجد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله الخطبة البليغة في مُحتشد من المهاجرين والأنصار.

على أنّ الحسين عليه‌السلام ، كان على علم بإخبار جدّه الأمين، بأنّ القوم وإن بلغوا الغاية وتناهوا في الخروج عن سبيل الحميّة لا يمدّون إلى النساء يد السوء، كما أنبأ عنه ( سلام الله عليه ) بقوله لهنّ ساعة الوداع الأخيرة:( البسوا أُزرَكم، واستعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله حاميكم وحافظكم وسيُنجيكم من شرِّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويُعذّب أعاديكم بأنواع العذاب، ويعوّضكم عن هذه البليّة بأنواع النِعم والكرامة! فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما يُنقص من قدركم ) ، ( مقتل الحسين عليه‌السلام : ١١٥ - ١١٨).

(١) بل كان الإمام أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام قد أطلع زينبعليها‌السلام على جميع ما يجري عليها (راجع: كتاب زينب الكبرى: ٣٦).

(٢) الاحتجاج، ٢: ٣١.

١١٠

على جثمان أخيها عليه‌السلام إلى قيام الساعة، حينما رأت الإمام السجّاد عليه‌السلام يجود بنفسه حزناً وهو ينظر إلى مصارع شهداء الطفّ، فقالت:( ما لي أراك تجود بنفسك، يا بقيّة جدّي وأبي وإخوتي؟! فوالله، إنّ هذا لعهدٌ من الله إلى جدّك وأبيك، ولقد أخذ الله ميثاق أُناس لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض، وهم معروفون في أهل السموات أنّهم يجمعون هذه الأعضاء المقطّعة والجسوم المضرّجة، فيوارونها وينصبون بهذا الطفّ عَلَماً لقبر أبيك سيّد الشهداء، لا يُدرَس أثَرُه ولا يُمحى رسمه، على كرور الليالي والأيّام، وليجتهدنَّ أئمة الكفر وأشياع الضلال في محوِه وتطميسه، فلا يزداد أثره إلاّ علوّاً! ) (١) .

____________________

(١) كامل الزيارات: ٢٥٩، باب ٨٨ فضل كربلاء وزيارة الحسين عليه‌السلام .

١١١

١١٢

الفصل الثاني

حركة السلطة الأُموية في الأيّام المكّيّة من عُمر النهضة الحسينية

١١٣

١١٤

الفصل الثاني

حركة السلطة الأُموية

في الأيّام المكّيّة من عُمر النهضة الحسينية

وصل الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مكّة المكرّمة بعد أن استطاععليه‌السلام النفاذ من حصار خطّة «البيعة أو القتل» في المدينة المنوّرة، تلك الخُطّة التي أرادها يزيد، وتمنَّاها وسعى إلى تنفيذها مروان بن الحكم، لكنَّ الوليد بن عُتبة والي المدينة آنذاك تردّد في تنفيذها وتمنّى النجاة من تبعاتها.

وبذلك كان الإمام الحسينعليه‌السلام بدخوله مكّة المكرّمة قد اخترق المرحلة الأُولى من الحصار العام، الذي بادرت السلطة الأُمويّة إلى فرضه عليه.

ولقد انتاب السلطة الأُمويّة خوف شديد، واعتراها اضطراب لا تماسك معه، وقلق لا استقرار فيه، حينما علمت بدخول الإمامعليه‌السلام مكّة المكرّمة في الأيّام التي تتقاطر إليها جموع المعتمرين والحجّاج من جميع أقطار العالم الإسلامي آنذاك؛ فهرعت هذه السلطة على جميع مستوياتها، إلى اتِّخاذ التدابير اللازمة لمواصلة فرض الحصار على حركة الإمامعليه‌السلام من جديد، ولمنع انفلات الأُمور في الولايات المهمّة عامة، وفي الكوفة منها خاصة.

فما إن رُفعت إلى يزيد تقارير جواسيسه في الكوفة، عن ضعف موقف والِيها النعمان بن بشير في مواجهة التحوّلات الناشئة عن تواجد مسلم بن عقيلعليه‌السلام فيها، حتى اجتمع يزيد مع مُستشار القصر الأُمويّ سرجون النصراني؛ ليتلقَّى منه

١١٥

تعليماته في كيفيّة معالجة مُستجدّات الأُمور، قبل انفلاتها وفقدان السيطرة عليها.

وينتهي الاجتماع باتِّخاذ قرارات خطيرة، شملت عزل بعض الولاة ونشر سلطة بعض آخر، وتوجيه رسائل إلى بعض وجهاء الأمّة، تدعوهم إلى التدخُّل ومُمارسة الضغط على الإمامعليه‌السلام وبذل قُصارى سعيهم لإخراج السلطة الأمويّة من مأزقها الكبير، ورسائل أُخرى أيضاً تضمّنت تهديداً وإنذاراً لأهل المدينة عامة وبني هاشم خاصة، تُحذّرهم من مغبّة الالتحاق بالإمامعليه‌السلام والانضمام إلى حركته. ومن قرارات هذا الاجتماع أيضاً، أن خطّطت حركة النفاق الحاكمة أن تغتال الإمامعليه‌السلام في مكّة، وقد بعثت جمعاً من جلاوزتها بالفعل إلى مكّة لتنفيذ هذه المهمّة، إذا لم تُوفّق هذه الزمرة الغادرة بمساعدة السلطة المحلّية في مكّة، في مُحاولة لإلقاء القبض على الإمامعليه‌السلام وإرساله إلى دمشق، هذا على صعيد قرارات السلطة المركزية في الشام.

ولم يقلَّ حال السلطات المحلّية في المدينة ومكّة، والكوفة والبصرة، في خوفها وقلقها واضطرابها، عن حال السلطة المركزية في الشام، ففي مكّة يجتهد واليها في مُتابعة الصغيرة والكبيرة من حركات الإمامعليه‌السلام ، ويطلب منه البقاء في مكّة، ويبذل له الأمان والصلة ويتعهّد له بذلك، ثمّ حيث يُصرُّ الإمامعليه‌السلام على الخروج، نرى هذا الوالي يبعث بقوّة عسكرية لمنع الإمامعليه‌السلام من ذلك، ثمّ يكفُّ عن منع الإمامعليه‌السلام خشية من تفاقم الأمر وانقلابه عليهم.

وفي البصرة نرى ابن مرجانة يُبادر إلى تهديد أهلها ويحذّرهم من مغبّة التمرّد والاستجابة لنداء الإمامعليه‌السلام والانضمام إلى حركته، كما يُبادر ابن مرجانة قُبيل تركه البصرة إلى قتل سليمان بن رزين (قدس سره) رسول الإمامعليه‌السلام إلى أشراف البصرة ورؤساء الأخماس فيها، ثمّ يُبادر مُسرعاً لا يثنيه شيء في سفره إلى الكوفة؛ ليستبق الزمن والأحداث في الوصول إليها، وليُدير دفَّة الأُمور هناك في أصعب

١١٦

أيّامه، والكوفة تكاد تسقط حينها في يد سفير الإمام عليه‌السلام مسلم بن عقيل رضوان الله تعالى عليه.

نشر ابن مرجانة في الكوفة جوّاً رهيباً، من الرعب والخوف وحبس الأنفاس، من خلال أعمال منوَّعة بادر إليها، منها خُطب وبيانات التهديد والوعيد بالتعذيب والتنكيل، ومنها حملة واسعة من مُمارسات القمع والاعتقالات، ومنها مُحاولات اختراق صفوف الثوّار، بواسطة جواسيس ذوي خبرة وفنّ من أجل الوصول إلى مكان ومخبأ قيادة الثورة في الكوفة، ومنها سلسلة من الإعدامات، كان من أبرز ضحاياها نخبة من سفراء النهضة الحسينية، مثل مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، وقيس بن مُسهّر الصيداويرضي‌الله‌عنه ، وعبد الله بن يقطررضي‌الله‌عنه ، ومن أبرز ضحاياها أيضاً الوجيه الكوفي الصحابي الشيعي المبرز هاني بن عروة المراديرضي‌الله‌عنه .

هذا استعراض مُجمل لأهمِّ معالم تحرّك السلطة الأُموية، في مواجهة حركة الأحداث الناشئة عن قيام الإمام الحسينعليه‌السلام في الأيام المكّيّة من عُمر نهضته المباركة.

وفي المتابعة التاريخية لتفاصيل حركة السلطة الأمويّة، في مواجهة قيام الإمام الحسينعليه‌السلام يحسن بنا - على ضوء التسلسل التاريخي - أن نقرأ حركة الأحداث في إطار الترتيب التالي:

١- حركة السلطة الأمويّة المحلّية في الكوفة.

٢- حركة السلطة الأمويّة المركزية في الشام.

٣- حركة السلطة الأمويّة المحلّية في البصرة.

٤- حركة السلطة الأمويّة المحلّية الجديدة في الكوفة.

٥- حركة السلطة الأمويّة المحلّية في مكّة.

١١٧

حركة السلطة الأمويّة المحلّية في الكوفة:

كان والي الكوفة حينما دخلها مسلم بن عقيلعليه‌السلام هو النعمان بن بشير(١) ، فلمّا رأى النعمان استقبال أهل الكوفة الكبير لمسلمعليه‌السلام وحفاوتهم البالغة به وتجاوبهم الرهيب معه، خرج إلى المسجد وخطب في الناس يُحذّرهم من إثارة الفتنة والفُرقة وشقّ عصا الأمّة.

يقول الطبري: «... عن أبي الودّاك قال: خرج إلينا النعمان بن بشير فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أمّا بعدُ، فاتّقوا الله عبادَ الله، ولا تُسارعوا إلى الفتنة والفُرقة؛ فإنّ فيهما يهلك الرجال وتُسفك الدماء وتُغصب الأموال - وكان حليماً ناسكاً يُحبّ العافية! -. قال: إني لم أُقاتل مَن لم يُقاتلني، ولا أثب على مَن لا يثب عليَّ، ولا أُشاتمكم، ولا أتحرّش بكم، ولا آخذ بالقرف(٢) ولا الظنّة ولا التُّهمة، ولكنّكم إنْ أبدَيتم صفحتكم لي ونكثتم بيعتكم، وخالفتم إمامكم، فو الله الذي لا إله غيره، لأضربنّكم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، ولو لم يكن لي منكم

____________________

(١) النعمان بن بشير بن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي، ولِد في العام الثاني من الهجرة - أو عام الهجرة - وعُدَّ من الصحابة الصبيان، وكان من أُمراء معاوية، فولاَّه الكوفة مدّة، ثمّ ولّيَ قضاء دمشق، ثمّ ولّي إمرة حمص، وقيل: إنّه لما دعا أهل حمص إلى بيعة ابن الزبير ذبحوه. وقيل: قُتل بقرية بيرين - من قرى حمص - قتله خالد بن خَلي بعد وقعة مرج راهط، في آخر سنة أربع وستّين. (راجع: سير أعلام النبلاء، ٣: ٤١٢). وهو الذي أخذ أصابع نائلة امرأة عثمان التي قُطعت، وقميص عثمان الذي قُتل فيه وهرب إلى معاوية بالشام، ولم يكن مع معاوية في صِفِّين من الأنصار إلاَّ هو ومسلمة بن مخلّد الأنصاري. (راجع: وقعة صِفِّين: ٤٤٥ و ٤٤٨; ومُستدركات علم الرجال، ٨: ٧٩).

(٢) قرف فلان فلاناً: إذا عابه واتَّهمه. (مجمع البحرين، ٥: ١٠٨).

١١٨

ناصر، أما إنِّي أرجو أن يكون مَن يعرف الحقّ منكم أكثر ممّن يُرديه الباطل.

قال: فقام إليه عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي(١) - حليف بني أميّة - فقال: إنّه لا يُصلح ما ترى إلاَّ الغشم، إنّ هذا الذي أنت عليه فيما بينك وبين عدوّك رأي المستضعفين!!

فقال: أن أكون من المستضعفين في طاعة الله أحبُّ إليَّ من أن أكون من الأعزّين في معصية الله.

ثمّ نزل،...

وخرج عبد الله بن مسلم، وكتب إلى يزيد بن معاوية:

أمّا بعدُ، فإنّ مسلم بن عقيل قد قدم الكوفة، فبايعته الشيعة للحسين بن عليّ، فإن كان لك بالكوفة حاجة فابعث إليها رجلاً قوياً، يُنفذ أمرك، ويعمل مثل عملك في عدوّك، فإنّ النعمان بن بشير رجلٌ ضعيف أو هو يتضعَّف!

فكان أوّل مَن كتب إليه، ثمّ كتب إليه عمارة بن عقبة(٢) بنحو من كتابه، ثمّ كتب

____________________

(١) عبد الله بن مسلم بن سعيد الحضرمي: كان أحد الذين شهدوا للإيقاع بالشهيد البطل حُجر بن عديرضي‌الله‌عنه . (راجع: وقعة الطف: ١٠١، وتاريخ الطبري ٥: ٢٦٩).

(٢) هو أخو الوليد بن عقبة بن أبي معيط، خرج هو وأخوه الوليد من مكّة إلى المدينة، يسألان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أن يردّ عليهما أختهما أمّ كلثوم المهاجرة بعد الحديبية، فأبىصلى‌الله‌عليه‌وآله . وكان منزل عمارة مع أخيه الوليد برحبة الكوفة، وكانت ابنته أمُّ أيّوب تحت المغيرة بن شعبة، فلمّا مات تزوّجها زياد بن أبيه، وعمارة هو الذي سعى عند زياد على عمرو بن الحمقرضي‌الله‌عنه ، وكان حاضراً في القصر يوم مقتل مسلم، وهو الذي سعى على المختار عند ابن زياد يوم خروج مسلم. (راجع: وقعة الطفّ: ١٠٢).

١١٩

إليه عمر بن سعد بن أبي وقّاص(١) بمثل ذلك »(٢) .

____________________

(١) عمر بن سعد بن أبي وقّاص الزهري، المدنيّ، ولِد سنة ٢٣ للهجرة يوم مات عمر بن الخطّاب، فيكون عمره يوم كربلاء سنة ٦١ للهجرة ٣٨ سنة. وهو الذي أطمع أباه في حضور التحكيم، وقال له: يا أبت، اشهدهم، فإنّك صاحب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأحد الشورى، فاحضر فإنّك أحقّ الناس بالخلافة!!، وهو ممَّن شهد على حجر بن عدي، وقد أفشى لابن زياد وصيّة مسلم بن عقيل عليه‌السلام التي أسرَّ إليه بها قبل قتله، فوبّخه ابن زياد قائلاً: لا يخونك الأمين، ولكن قد يؤتمن الخائن. وقد أراد ابن الأشعث أن يؤمّره على الكوفة بعد قتل ابن زياد، فجاء رجال بني همدان متقلّدين السيوف، وجاءت نساؤهم يبكين حسيناً عليه‌السلام ، وقد بعث إليه المختار أبا عمرة فقتله وجاءه برأسه، ثمّ قتل ابنه حفص بن عمر. وقال المختار: والله، لو قتلت ثلاثة أرباع قريش ما وفوا بأنملة من أنامل الحسين عليه‌السلام . وبعث برأسيهما إلى المدينة إلى محمد بن الحنفية. (راجع: وقعة الطف: ١٠٢) و(تاريخ الطبري، ٣: ٤٦٥).( وروى عبد الله بن شريك العامري قال: كنت أسمع أصحاب عليّ عليه‌السلام إذا دخل عمر بن سعد من باب المسجد يقولون: هذا قاتل الحسين بن علي عليهما‌السلام . وذلك قبل أن يُقتل بزمان. وروى سالم بن أبي حفصة قال: قال عمر بن سعد للحسين: يا أبا عبد الله، إنّ قِبَلنا ناساً سفهاء يزعمون أنّي أقتلك. فقال له الحسين عليه‌السلام : ( إنّهم ليسوا بسفهاء، ولكنّهم حُلماء، أما إنّه تقرُّ عيني أن لا تأكل من بُرِّ العراق بعدي إلاّ قليلاً ) . (الإرشاد: ٢٥١، وتهذيب الكمال، ١٤: ٧٤).

و( عن الأعمش قال: سمعت أبا صالح التمّار يقول: سمعت حذيفة يقول: سمعت الحسين بن علي يقول:( والله، ليجتمعنّ على قتلي طغاة بني أميّة ويَقدمهم عمر بن سعد ) . - وذلك في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله -. فقلت له: أنبأك بهذا رسول الله؟ قال:( لا ) . فأتيت النبيّ فأخبرته، فقال:( علمي علمه، وعلمه علمي، وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته ) . (دلائل الإمامة: ٧٥).

( وعن أصبغ بن نباتة قال: بينا أمير المؤمنين عليه‌السلام يخطب الناس وهو يقول:( سلوني قبل أن تفقدوني؛ فو الله، لا تسألونني عن شيء مضى ولا عن شيء يكون إلاّ أنبأتكم به ) . فقام إليه سعد بن أبي وقّاص فقال: يا أمير المؤمنين، أخبرني كم في رأسي ولحيتي من شعرة؟! فقال له:( أما والله، لقد سألتني عن مسألة حدّثني خليلي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّك ستسألني عنها، وما في رأسك ولحيتك من شعرة =

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٤٦٥، وراجع الإرشاد: ٢٠٥.

١٢٠