مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 195299
تحميل: 7520

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195299 / تحميل: 7520
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

يزيد »(١) .

وكان عبَيد الله قبيح السريرة، فاسقاً ظالماً غشوماً جباناً إذا ضعف، جبّاراً إذا تمكّن، قال الحسن البصري: « قدم علينا عبيد الله، أمّره معاوية غلاماً سفيهاً، سفك الدماء سفكاً شديداً.. وكان عبيد الله جباناً »(٢) .

« وكان الحسن البصري يُسمّيه الشابّ المترف الفاسق، وقال فيه: ما رأينا شرّاً من ابن زياد! »(٣) .

و« جيء إليه بسيّد من سادات العراق، فأدناه منه ثمّ ضرب وجهه بقضيب كان في يده حتى كسر أنفه وشقّ حاجبيه، ونثر لحم وجنته، وكسر القضيب على وجهه ورأسه »(٤) .

« وغضب على رجل تمثّل بآية من القرآن، فأمر أن يُبنى عليه ركن من أركان قصره! »(٥) .

« وكان يقتل النساء في مجلسه، ويتشفّى بمُشاهدتهنّ يُعذَّبن وتُقطّع أطرافهن! »(٦) .

« عاش مكروهاً عند أهل العراق »(٧) و« مهيناً عند أهل الحجاز »(٨) .

____________________

(١) العقد الفريد، ٤: ٣٨٢.

(٢) راجع: سير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٩.

(٣) أنساب الأشراف، ٥: ٨٣.

(٤) مروج الذهب، ٢: ٤٤; ولعلّ ذلك السيّد الوجيه هو هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه .

(٥) المحاسن والمساوئ، ٢: ١٦٥.

(٦) بلاغات النساء: ١٣٤; وأنساب الأشراف، ٥: ٢٨٩.

(٧) الإمامة والسياسة ٢: ١٦.

(٨) الأغاني، ١٨: ٢٧٢.

١٤١

« لما مات يزيد أغرى بعضَ البصريّين أن يُبايعوه، ثمّ جبن عن مواجهة الناس فاستتر ثمّ هرب إلى الشام.. وكان عبيد الله من الأكلة، كان يأكل جديّاً أو عناقاً يُتخيَّر له في كلّ يوم فيأتي عليه! وأكل مرّة عشر بطّات وزبيلاً من عنب، ثمّ عاد فأكل عشر بطّات وزبيلاً من عنب وجديّاً!! »(١) .

« قال التنوخي: إنّ عبيد الله بن زياد لما بنى داره البيضاء بالبصرة بعد قتل الحسين، صوّر على بابها رؤوساً مُقطّعة، وصوّر في دهليزها أسداً وكبشاً وكلباً، وقال: أسد كالح، وكبش ناطح، وكلب نابح.

فمرّ بالباب أعرابي، فرأى ذلك فقال: أما إنّ صاحبها لا يسكنها إلاّ ليلة واحدة لا تتمَّ!

فُرفع الخبر إلى ابن زياد، فأمر بالأعرابي فضُرب وحُبس، فما أمسى حتى قدم رسول ابن الزبير إلى قيس بن السكون ووجوه أهل البصرة في أخذ البيعة له، ودعا الناس إلى طاعته فأجابوه، وراسل بعضهم بعضاً في الوثوب عليه في ليلتهم «أي على ابن زياد»، فأنذره قوم كانت له صنائع عندهم، فهرب من داره في ليلته تلك، واستجار بالأزد فأجاروه، ووقعت الحرب المشهورة بينهم وبين بني تميم بسببه، حتى أخرجوه فألحقوه بالشام، وكُسِر الحبس فخرج الأعرابي، ولم يَعُدْ ابن زياد إلى داره، وقُتل في وقعة الخازر »(٢) .

ولما رأى ابن زياد - بعد فاجعة كربلاء - أنّه لم يجنِ إلاّ غضب الله وسخط الناس عليه(٣) سعى إلى التنصّل من مسؤولية قتل الإمامعليه‌السلام ، فكان يدّعي قائلاً: « أمّا

____________________

(١) أنساب الأشراف، ٥: ٨٦.

(٢) راجع: الفَرَج بعد الشدّة، ٢: ١٠١.

(٣) زار ابن زياد عبد الله بن مغفل الصحابي في مرضه، وقال له: أتعهد إلينا شيئاً قال: لا تُصلِّ عليَّ

١٤٢

قتلي الحسين، فإنّه أشار إليَّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترتُ قتله! »(١) .

ولما جاء نعي يزيد هرب عبيد الله بعد أن كاد يؤسَر، واخترق البرّية إلى الشام، وانضمّ إلى مروان وقاتل معه، فلمّا ظفر مروان ردّه إلى العراق، فلمّا دخل أرض العراق وجّه المختار إليه إبراهيم بن مالك الأشتر، فالتقوا بقرب الزاب، وقتل إبراهيم بن الأشتر عبيد الله بن زياد بضربة نجلاء، قدَّه بها نصفين، وكان ذلك في يوم عاشوراء سنة ٦٧هـ(٢) .

« وأُنفذ رأس عبيد الله بن زياد إلى المختار ومعه رؤوس قوّاده، فأُلقيت في القصر، فجاءت حيّة دقيقة فتخلّلت الرؤوس حتى دخلت في فم عبيد الله بن زياد ثمّ خرجت من منخره، ودخلت في منخره وخرجت من فيه، فعلت هذا مراراً، أخرج هذا الترمذيّ في جامعه »(٣) .

وكانت جثّته قد أُحرقت بعد قطع رأسه(٤) .

وهلك هذا الطاغية حين هلك ولم يكن له عقب(٥) .

____________________

= ولا تقُم على قبري. (سير أعلام النبلاء ٣: ٥٤٩). وقالت له أمّه مرجانة: يا خبيث، قتلت ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! لا ترى الجنّة أبداً (الكامل في التاريخ ٣: ٨).

وقال أخوه عثمان وهو يسمع: لوددتُ أنّه ليس من بني زياد رجلٌ إلاّ وفي أنفه خزامة إلى يوم القيامة وأنَّ حسيناً لم يُقتل. (تاريخ الطبري ٣: ٣٤٢، والكامل في التاريخ ٢: ٥٨٢).

(١) الكامل في التاريخ، ٢: ٦١٢.

(٢) راجع: المعارف: ٣٤٧، وسير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٩.

(٣) الكامل في التاريخ، ٣: ٨، وقد أخرجه الترمذي في المناقب من سُننه، ٥: ٦٦٠ رقم ٣٧٨٠، وقال: حسن صحيح. كما أورده الذهبي في سير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٩ وصحّحه.

(٤) الكامل في التاريخ، ٣: ٨.

(٥) راجع: المعارف: ٣٤٧.

١٤٣

ومع أنّنا نجد في كتاب الله الحكيم، أنّ الله تعالى لعن المفسدين في الأرض القاطعين الرحِم في قوله تعالى:( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ ) (١) ، ولا نظنّ أنّ مسلماً عاقلاً عالماً، يشكّ في أنّ يزيد وعبيد الله بن زياد وأضرابهم كانوا المصداق الأتمّ لمفهوم المفسد في الأرض والقاطع الرحم، كيف لا، وقد قتلوا عامدين ريحانة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الإمام الحسينعليه‌السلام شرّ قتلة مع أنصاره من أهل بيته وأصحابه وسبوا حريم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله على أفجع حالة، يتصفّح وجوههنّ الأعداء والغرباء من كربلاء إلى الشام؟! وهل هناك عند الله وعند المؤمنين رَحِم أعزّ وأولى بالصلة من رحم رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! وهل هناك إفساد مُتصوَّر أكثر وأكبر وأنكر ممَّا اجترحه يزيد وعبيد الله وأضرابهم؟!

مع كلّ هذا، يقول الذهبي في شدّة ورع وتقوى!!: « الشيعي لا يطيب عيشه حتى يلعن هذا ودونه، ونحن نبغضهم في الله! ونبرأ منهم ولا نلعنهم، وأمرهم إلى الله! »(٢) .

ونقول: شنشنة أعرفها من أخزمِ!!(٣) .

هل غيّرت السلطة الأُموية المركزية والي مكّة؟

يذهب بعض المؤرّخين إلى أنّ معاوية مات حين مات: « وعلى المدينة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، وعلى مكّة يحيى بن حكيم بن صفوان بن أميّة(٤) ، وعلى

____________________

(١) سورة محمدصلى‌الله‌عليه‌وآله : الآية ٢٢ و ٢٣.

(٢) سير أعلام النبلاء، ٣: ٥٤٩.

(٣) عجز بيت شِعر قديم، مضى مثلاً للقضية المعروف أصل سببها.

(٤) يحيى بن حكيم بن صفوان بن أميّة: وهو من بني جمح الذين كانوا مع عائشة يوم الجَمل، فقُتل منهم اثنان وهرب الباقون، وكان يحيى هذا ضمن الذين هربوا ونجا بنفسه، ويُروى أنّ أمير المؤمنين

١٤٤

الكوفة النعمان بن بشير الأنصاريّ، وعلى البصرة عبيد الله بن زياد »(١) .

وهذا يعني أنّ السلطة الأُموية المركزية في دمشق، قد عزلت يحيى بن حكيم عن ولاية مكّة، وأحلّت مكانه عمرو بن سعيد الأشدق، ضمن الإجراءات الجديدة التي اتّخذتها على أثر وصول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مكة المكرّمة.

غير أنّ مؤرّخين آخرين، روَوا أنّ عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق هو الذي كان والياً على مكّة حين مات معاوية(٢) ، ثمّ جمع له يزيد الولاية على مكّة والمدينة، بعد عزله الوليد بن عتبة عن منصب الولاية في المدينة.

وممّا يؤيّد هذا ما روي أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لما ورد مكّة قال له عمرو بن سعيد: ما إقدامك؟! فقالعليه‌السلام :( عائذاً بالله وبهذا البيت ) (٣) . فتأمّل.

عزْل الوليد بن عُتبة عن ولاية المدينة:

كان الوليد بن عتبة(٤) أُمويّاً مُخلصاً كلّ الإخلاص للحُكم الأمويّ عن وعي تامٍّ؛

____________________

= علياً عليه‌السلام لما مرَّ بقتلى موقعة الجَمل بعد انتهائها قال:(... لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب! أدركت وتْري من بني عبد مناف وأفلتني أعيار بني جُمح... ) (شرح نهج البلاغة، ١١: ١٢٣، وروى ابن أبي الحديد: أنّ يحيى هذا عاش حتى استعمله عمرو بن سعيد الأشدق على مكّة، لما جمع له يزيد الولاية على مكّة والمدينة، فأقام عمرو بالمدينة ويحيى بمكّة، راجع ١١: ١٢٥).

(١) الأخبار الطوال: ٢٢٧.

(٢) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٢، والكامل في التاريخ، ٢: ٥٢٩.

(٣) تذكرة الخواص: ٢١٤.

(٤) راجع عنوان (شخصية الوليد بن عتبة) في الجزء الأول من هذا الكتاب (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة): ٣٦١ - ٣٦٥.

١٤٥

لانتمائه القبلي وحرص بالغ على تقديم بني أميّة على مَن سِواهم، وكان في نفس الوقت يتمنّى أن لا يصطدم مع بني هاشم عامة وأهل البيت خاصة، ويطلب العافية من ذلك ويرجوها.

وفي صدد الموقف من الإمام الحسينعليه‌السلام خاصة، كان الوليد يتبنّى نظرة معاوية الذي كان يرى أنّه ليس من مصلحة الحُكم الأُموي أن يدخل في مواجهة علنيّة مع الإمام الحسينعليه‌السلام ، مع ما روي أنّ الوليد كان يرى لأهل البيتعليهم‌السلام حُرمة ومنزلة عند الله تعالى! ولذا؛ فقد اتّسم موقفه من رفض الإمام الحسينعليه‌السلام بالتسامح واللّين؛ الأمر الذي أغضب السلطة الأُموية المركزية في دمشق، وأسخطها على الوليد، فقام يزيد بعزل الوليد عن ولاية المدينة في شهر رمضان من نفس السنة(١) ، وأضاف ولاية المدينة لعمرو بن سعيد الأشدق مع ولاية مكّة المكرّمة.

رسالة يزيد إلى عبد الله بن عبّاس:

ومن الإجراءات التي بادرت إليها السلطة الأُموية المركزية في الشام، بعد وصول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى مكّة، إرسال الكُتب إلى مَن يُحتمل أن يكون له تأثير على موقف الإمام الحسينعليه‌السلام من بني هاشم خاصة، أو من وجهاء الأمّة الإسلامية عامة(٢) ، وقد سجّل لنا التأريخ في هذا الإطار قصّة الرسالة التي بعث بها يزيد إلى عبد الله بن عباس، يطلب إليه فيها أن يردَّ الإمامعليه‌السلام عن الخروج على النظام

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٢، والبداية والنهاية، ٨: ١٥١، وتاريخ الخليفة: ١٤٢.

(٢) نظنّ ظنّاً قويّاً، تدعمه دلائل تاريخية أنّ حماسة عبد الله بن عمر في مُحاولاته ردّ الإمام عليه‌السلام عن القيام، ونهيه عن الخروج إلى العراق، كانت بدفع من السلطة الأُموية، لكنّنا لم نعثر على وثيقة تاريخية تنهض بهذا الظنّ القويّ إلى مستوى القطع، ونُذكِّر هنا بأنّ معاوية في وصيّته ليزيد يقول: ( - فأمّا عبد الله بن عمر فهو معك فالزمه ولا تدعه... ) (أمالي الصدوق: ١٢٩، المجلس ٣٠ حديث رقم ١).

١٤٦

الأُموي، وأن يُحذّره من مغبّة ذلك، ويُمنّيه بالأمان والصلة البالغة والمنزلة الخاصة عند السلطان الأُموي!

« قال الواقدي: ولما نزل الحسين مكّة، كتب يزيد بن معاوية إلى ابن عباس:

أمّا بعدُ: فإنّ ابن عمّك حسيناً وعدوّ الله ابن الزبير التوَيا ببيعتي، ولحقا بمكّة مرصدَين للفتنة، مُعرّضين أنفسهما للهلكة، فأمّا ابن الزبير، فإنّه صريع الفناء وقتيل السيف غداً، وأمّا الحسين فقد أحببت الإعذار إليكم أهل البيت ممّا كان منه، وقد بلغني أنّ رجالاً من شيعته من أهل العراق يُكاتبونه ويُكاتبهم، ويُمنّونه الخلافة ويُمنّيهم الإمرة.

وقد تعلمون ما بيني وبينكم من الوصلة وعظيم الحُرمة ونتايج الأرحام، وقد قطع ذلك الحسين وبتّهُ، وأنت زعيم أهل بيتك وسيّد أهل بلادك، فالْقه فاردُده عن السعي في الفُرقة، وردّ هذه الأمّة عن الفتنة، فإنْ قبل منك وأناب إليك فله عندي الأمان والكرامة الواسعة، وأُجري عليه ما كان أبي يُجريه على أخيه، وإنْ طلب الزيادة فاضمن له ما أراك الله أنفذ ضمانك، وأقوم له بذلك، وله عليَّ الأيمان المغلّظة والمواثيق المؤكّدة بما تطمئنّ به نفسه ويعتمد في كلّ الأمور عليه.

عجّل بجواب كتابي وبكلّ حاجة لك إليَّ وقِبَلي، والسلام »(١) .

وأضاف صاحب تذكرة الخواص قائلاً:

« قال هشام بن محمد: وكتب يزيد في أسفل الكتاب:

يا أيُّها الراكب الغادي لمطيَّته(٢)

على عذافرة في سيرها قحمُ

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢١٥.

(٢) هكذا في الأصل، والصحيح ( لطيّته ) كما هو في رواية الفتوح، ٥: ٧٦.

١٤٧

أَبـلغ قـريشاً على نأي المزار بها

بـيني وبـين الحسين اللهُ والرحمُ

ومـوقف بـفناء الـبيت أنـشده

عـهد الإلـه غـداً يوفى به الذممُ

هـنـيتمُ قـومكم فـخراً بـأمِّكمُ

أُمٌّ لـعَمري حـسانٌ(١) عفَّة كرمُ

هـي الـتي لا يُـداني فضلها أحدٌ

بنت الرسول وخير الناس قد علموا

إنّــي لأعـلم أو ظـنّاً لـعالمه

والـظنّ يـصدق أحـياناً فينتظمُ

أنْ سـوف يـترككم ما تدَّعون به

قـتلى تـهاداكم الـعقبان والرخمُ

يا قومنا لا تشبُّوا الحرب إذ سكنتْ

وأمـسكوا بحبال السلم واعتصموا

قد غرَّت الحرب مَن قد كان قبلكمُ

مـن الـقرون وقد بادت بها الأُممُ

فـأنصفوا قـومكم لا تهلكوا بذخاً

فَرُبَّ ذي بذخ زلَّت به القدمُ »(٢)

مُلاحظات حول هذه الرسالة:

١) - هناك مُشتركات نفسية أساسية بين متن الرسالة وبين أبيات الشعر التي قال (هشام بن محمّد): إنّ يزيد أرفقها مع الرسالة، وأهمُّ هذه المشتركات هو أنّ كليهما تضمّن الترغيب والترهيب معاً، ومُخاطبة الإمامعليه‌السلام عن طريق ابن عبّاس الذي عبّر عنه يزيد بـ (قريش) في الشِعر، وهناك مُشترك نفسي آخر فيهما، وهو أنّ يزيد اجتهد في هذه الرسالة أن يُمسك بزمام حنقه وغضبه، وهو الناصبيّ الفظّ

____________________

(١) هكذا في الأصل، وفي رواية الفتوح، ٥: ٧٦ (حصانٌ) وهو الصحيح.

(٢) تذكرة الخواص: ٢١٥ - ٢١٦.

١٤٨

الغليظ الجلف الذي لا يتناهى عن منكراته(١) ، وهذا التماسك فرضته الضرورة السياسية على مزاج يزيد الذي تعوّد الاستهتار، ولا يبعد أن تكون هذه الموازنة في الترغيب والترهيب من تأثير وإملاء سرجون المستشار النصراني المعتَّق، صاحب الخبرة في الحرب النفسية، ومعالجة الأزمات السياسية منذ عهد معاوية.

٢) - ونقف في هذه الرسالة مرّة أخرى أيضاً، أمام نفس النغمة التي يعزفها الحُكم الأمويُّ بوجه المعارضة، وهي التحذير من شقّ عصا الأمّة، وتفريق كلمة المسلمين وإرجاعهم إلى الفتنة وما إلى ذلك.

هذا السلاح الذي ابتكره معاوية، واستخدمه في وجه مُعارضيه، بعد أن روّج له في الأمّة من خلال أحاديث مُفتريات على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تدعو الأمّة إلى الخنوع للحاكم الظالم والصبر على جَوره، وتدعو إلى قتل كلّ مَن ينهض للخروج على الحُكّام الجائرين بتُهمة شقّ عصا الأمّة وتفريق كلمتها.

فليس من المستغرب أن يُخاطب يزيد ابن عبّاس بذلك فيقول: ( فالقَه فاردُده عن السعي في الفرقة، ورُدَّ هذه الأمّة عن الفتنة! )، وليس بمُستغرب أن يُخاطب ابن زياد مسلم بن عقيل قائلاً: ( أتيتَ الناسَ وهم جميع فشققتَ بينهم! وفرّقتَ كلمتهم! وحملت بعضهم على بعض! )(٢) ، فمن قبل كان معاوية يدسُّ تلك التُّهم إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ويعزف نفس النغمة، من خلال تحذيره بألاّ يشقّ عصا هذه الأمّة وألاّ يردّها في الفتنة، وكان الإمام أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام يُجيبه قائلاً:(... فلا

____________________

(١) يقول الذهبي في يزيد: ( كان ناصبياً، فظّاً غليظاً، جلفاً، يتناول المسكر ويفعل المنكر.. وقال فيه النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله :( لا يزال أمرُ أمّتي قائماً حتى يثلمه رجل من بني أميّة، يُقال له: يزيد... ) (سير أعلام النبلاء، ٣: ٣٧).

(٢) الإرشاد: ٢١٦، وعنه البحار، ٤٤: ٣٥٧.

١٤٩

أعرف فتنة أعظم من ولايتك عليها، ولا أعلم نظراً لنفسي وولْدي وأمّة جدّي أفضل من جهادك، فإن فعلتُه فهو قربة إلى الله عزّ وجلّ، وإن تركته فأستغفر الله لذنبي وأسأله توفيقي لإرشاد أموري... ) (١) .

٣) - سعى يزيد في هذه الرسالة إلى اتِّهام الإمامعليه‌السلام بأنّ غاية خروجه طلب الملك والدنيا؛ ولذا فقد طلب في الرسالة إلى ابن عبّاس أن يُمنّي الإمامعليه‌السلام - في حال تخلّيه عن القيام - بالأمان والكرامة الواسعة! وإجراء ما كان معاوية يُجريه على أخيهعليه‌السلام ! وأنّ له ما يشاء من الزيادة على ذلك!

ويزيد يعلم تمام العلم أنّ الإمامعليه‌السلام لم يقُمْ ولم يخرج أشِراً ولا بطراً، ولا ظالماً ولا مفسداً، وإنّما خرج لطلب الإصلاح في هذه الأمّة المنكوبة بكارثة الحُكم الأُموي الجاثم على صدرها سنين طويلة، لكنّها عادة الطغاة في مواجهة الثائرين، وعادة الضلال في مواجهة الهدى، فمن قبل سعى أبو سفيان جدُّ يزيد وأعلام جاهلية قريش إلى اتِّهام النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله بتُهمة طلب الملك والدنيا، وشرطوا لأبي طالبعليه‌السلام أن يُحقِّقوا لهصلى‌الله‌عليه‌وآله كلّ ما يتمنّاه من ذلك فيهم، إذا هو تخلّى عن دعوته، لكنّ النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ردّ على إغرائهم وتُهمتهم بقاطعيّة يخلُد ذِكرها ما خلد الدهر:( يا عم، والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يُظهره الله، أو أهلَك فيه، ما تركته ) (٢) .

٤) - ومع ما قدّمناه من ملاحظات حول متن هذه الرسالة، ينبغي أن نُلفت الانتباه إلى أنّ الواقدي الذي رويت عنه قصّة هذه الرسالة، قد تأمّل علماء الرجال فيه أو رموه بالكذب، فقد قال الذهبي: « قال البخاري: سكتوا عنه، تركه أحمد وابن

____________________

(١) الاحتجاج، ٢: ٢١.

(٢) السيرة النبوية، ١: ٢٨٥.

١٥٠

نمير، وقال أسلم وغيره: متروك الحديث، وقال النسائي: ليس بثقة. وقال الشافعي: كُتُب الواقدي كَذِب. وقال ابن معين: ليس الواقدي بشيء. وقال مرّة: لا يُكتب حديثه. وقال أحمد بن حنبل: الواقديّ كذّاب. وقال إسحاق: هو عندي يضع الحديث. وقال النسائي: المعروفون بوضع الحديث على رسول الله أربعة.. والواقدي ببغداد. وقال أبو زرعة: ترك الناس حديث الواقدي. وروى عبد الله بن علي المديني، عن أبيه قال: عند الواقدي عشرون ألف حديث لم أسمع بها. ثمّ قال: لا يُروى عنه وضعّفه »(١) .

هذا عند رجاليّي العامة، وأمّا عندنا فلم يتعرّضوا له بمدح أو ذم(٢) ، وإن حاول المامقاني جعله في سلك الحسان(٣) ، كما تفرّد ابن النديم في نسْبته إلى التشيّع.

هذا فضلاً عن أنّ الرواية مُرسلة؛ لأنّ الواقدي وراوي الرسالة ولِد بعد المئة والعشرين للهجرة، والرسالة - على الفرض التاريخي - تكون قد صدرت عام ستِّين للهجرة.

والظاهر أنّ أوّل مَن ذكر أنّ هذه الرسالة كانت موجّهة إلى ابن عباس هو ابن عساكر المتوفّى سنة ٥٧١ هـ(٤) ، وبعده سبط ابن الجوزي المتوفَّى ٦٥٤ هـ، ثمَّ المزّي المتوفَّى ٧٤٢هـ، أمّا الكُتب التاريخية التي هي أقدم من هذه الكُتب، كالفتوح، وتاريخ الطبري، فهي خالية من هذه الرسالة، والأبيات الشعرية التي أوردها سبط ابن الجوزي في ذيل الرسالة أوردها صاحب الفتوح، على أنّ المخاطب بها همْ أهل

____________________

(١) سير أعلام النبلاء، ٩: ٤٦٢.

(٢) مُعجم رجال الحديث، ١٧: ٧٢.

(٣) تنقيح المقال، ٣: ١٦٦.

(٤) مُعجم المؤلّفين، ٧: ٦٩.

١٥١

المدينة - وسيأتي ذكرها - ممَّا يُثير الشبهة في أنّ هذا الكتاب - الرسالة - ربّما كان من مُفتعلات مُرتزقة التاريخ، الساعين في خدمة الشجرة الملعونة؛ ظنّاً منهم أنّ ذكر مثل هذه الرسالة يُشكّل تبريراً لموقف يزيد، بأنّه قد بادر وكتب إلى ابن عبّاس «بني هاشم» وخاطب الحسين عليه‌السلام من خلالهم، وأنّه قد أعذر من أنذر!

رسالة يزيد إلى (القرشيّين) في المدينة:

ويروي التاريخ أيضاً، أنّ يزيد بعث برسالة إلى أهل المدينة تتضمّن أبياتاً من الشعر - وهي التي مرّ ذكرها - تحتوي على تهديدهم وتحذيرهم من أيِّ تحرُّك يتنافى ومصالح السلطة الأمويّة، فعن ابن أعثم الكوفي: « وإذا كتاب يزيد بن معاوية قد أقبل من الشام إلى أهل المدينة على البريد - من قريش وغيرهم من بني هاشم، وفيه هذه الأبيات..

قال: فنظر أهل المدينة إلى هذه الأبيات، ثمّ وجّهوا بها وبالكتاب إلى الحسين بن عليّ - رضي الله عنهما - فلمّا نظر فيه، علم أنّه كتاب يزيد بن معاوية، فكتب الحسين الجواب:

( بسم الله الرحمن الرحيم:

( وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) .(١) والسلام ) (٢) .

ويظهر من قول المزّي، أنّ يزيد كان قد كتب هذه الأبيات إلى ابن عبّاس، وإلى مَن كان في مكّة والمدينة من قريش، حيث يقول: « كتب بهذه الأبيات إليه وإلى مَن

____________________

(١) سورة يونس عليه‌السلام : الآية ٤١.

(٢) الفتوح، ٥: ٧٧.

١٥٢

بمكّة والمدينة من قريش »(١) .

والملفت للانتباه هنا، أنّ جواب الإمامعليه‌السلام كاشف عن ازدرائهعليه‌السلام الكامل ليزيد؛ إذ لم يذكر في الجواب اسمه، كما لم يُلقِّبه بلقب، ولم يُسلِّم عليه؛ ممّا يتبيّن منه أنّ يزيد لعنه الله مصداق تام للمكذِّب بالدين وبالرُّسل والأوصياءعليهم‌السلام ، وقد فصّلنا القول في التعليق على هذه الرسالة في الفصل الأوّل فراجع.

التخطيط لاغتيال الإمام عليه‌السلام أو اعتقاله في مكّة:

ومن الإجراءات السرّية التي اتّخذتها السلطة الأُموية المركزية في الشام، بعد فشل خُطّتها الرامية إلى اعتقال الإمامعليه‌السلام أو قتله في المدينة المنوّرة(٢) ، هو قيامها بالتدابير اللازمة لاغتيال الإمامعليه‌السلام أو اعتقاله في مكّة المكرّمة.

وخُطّة السلطة الأُموية لاغتيال الإمامعليه‌السلام في مكّة المكرّمة أو اعتقاله، من المسلّمات التاريخية، التي يكاد يُجمع على أصلها المؤرّخون، وكفى بتصريح الإمام الحسينعليه‌السلام لأخيه محمّد بن الحنفية:

( يا أخي، قد خفتُ أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم؛ فأكون الذي يُستباح به حُرمة هذا البيت! ) (٣) .

وقولعليه‌السلام للفرزدق:( لو لم أُعجِّل لأُخذت ) (٤) .

____________________

(١) تهذيب الكمال، ٤: ٤٩٣، والبداية والنهاية، ٨: ١٦٧.

(٢) راجع الجزء الأول من هذه الدراسة (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة): الفصل الرابع، عنوان: لماذا لم يبقَ الإمام عليه‌السلام في المدينة المنوّرة؟ ص٣٧٣ - ٣٧٦.

(٣) اللهوف: ١٢٨.

(٤) الإرشاد: ٢٠١.

١٥٣

ذكرت بعض المصادر التاريخية: « أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاجّ، وولاّه أمر الموسم، وأوصاه بالفتْك بالحسين أينما وجِد... »(١) .

ويقول مصدر آخر: « وبعث ثلاثين من بني أميّة مع جمع، وأمرهم أن يقتلوا الحسين »(٢) .

ويقول آخر: « إنّهم جدُّوا في إلقاء القبض عليه وقتله غيلة، ولو وجِد مُتعلّقاً بأستار الكعبة »(٣) .

ومن الوثائق التاريخية الكاشفة عن هذه الحقيقة، رسالة ابن عباس إلى يزيد، والتي ورد فيها: «... وما أنسَ من الأشياء، فلست بناس اطّرادك الحسين بن علي من حرم رسول الله إلى حرم الله، ودسّك عليه الرجال تغتاله... فأكْبِر من ذلك ما لم تُكْبِر حيث دسست عليه الرجال فيها ليُقاتَل في الحرم... »(٤) .

وفي هذا القدر من المتون التاريخية كفاية في الدلالة على خُطّة السلطة الأُمويّة المركزية في الشام؛ لإلقاء القبض على الإمامعليه‌السلام أو اغتياله في مكّة المكرّمة.

____________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٦٥.

(٢) تذكرة الشهداء: ٦٩.

(٣) الخصائص الحسينية: ٣٢، طبعة تبريز.

(٤) تاريخ اليعقوبي، ٢: ٢٤٨ - ٢٤٩، والبحار، ٤٥: ٣٢٣ - ٣٢٤، وفي تذكرة الخواص: ٢٤٨ ( أنسيت إنفاذ أعوانك إلى حرم الله لقتل الحسين... ).

١٥٤

حركة السلطة الأُمويّة المحليّة في البصرة:

كان عبيد الله بن زياد مدّة ولايته على البصرة قد هيمن على ظاهر الحياة السياسية والاجتماعية فيها؛ لِما عُرف عنه من قدرة على الغَشم والظلم والجَور، والتفريق بين القبائل، وخَلْقِ الكراهية بين الوجهاء والأشراف، وما إلى ذلك من فنون المكر في إدارة شؤون الأمّة التي تعرف فساد حكّامها وفسقهم، وتنطوي على كرههم.

لكنّ باطن الحياة السياسية والاجتماعية في البصرة آنذاك، كان يشهد أمراً آخر، وهو النشاط السرّي للمعارضة الشيعية بشكل أساسي، فقد كان للشيعة في الخفاء منتدياتهم الخاصة، التي يتداولون فيها الأخبار ووقائع الأحداث ومستجدّات الأمور، ويتشاورون بصددها فيما بينهم، وكان ابن زياد على علم إجمالي بمثل هذه الحركة الخفيَّة، وكان يتوجّس منها؛ والدليل على ذلك لحن الخطاب الأخير، الذي ألقاه في البصرة قبل سفره منها إلى الكوفة.

تلقّى ابن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه مسلم بن عمرو الباهلي، والتي ولاّه فيها على الكوفة إضافة إلى البصرة، ودعاه فيها إلى المبادرة - حين قراءة الرسالة - إلى التوجّه إلى الكوفة؛ ليطلب مسلم بن عقيل طلب الخرزة حتى يُثْقِفه فيُوثقه أو يقتله أو ينفيه.

وما إنْ قرأ ابن زياد الرسالة حتى أمر بالجهاز والتهيُّؤ والمسير إلى الكوفة من الغد(١) ، لكنّ المفاجأة التي أذهلته قُبيل سفره إليها، هي معرفته بأنّ الإمامعليه‌السلام قد أرسل رسولاً إلى البصرة إلى الأشراف ورؤساء الأخماس فيها، يدعوهم فيها إلى تأييده والانضمام إليه في قيامه « وإن كان المتيقّن أنّ عبيد الله بن زياد قد اطّلع

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١.

١٥٥

بالفعل على نسخة رسالة الإمام عليه‌السلام إلى المنذر بن الجارود فقط، لكن ممّا لا ريب فيه، أنّ خبرة ابن زياد الإدارية والسياسية، تجعله على يقين بأنّ المنذر بن الجارود كان واحداً من الأشراف الذين كتب إليهم الإمام عليه‌السلام ، ولم يكن الوحيد فيهم ».

ولم يُحدّثنا التاريخ - بل لم نقع على وثيقة تُحدّثنا - أنّ ابن زياد قد سعى إلى معرفة الأشراف الآخرين الذين كتب إليهم الإمامعليه‌السلام ، أو سعى إلى مُطاردتهم واضطهادهم مثلاً؛ ولعلّ ذلك بسبب ضيق الوقت والعجالة التي كان عليها في عزمه على السفر إلى الكوفة، وهي الساحة الأهمّ والمضطربة الأحداث آنذاك؛ أو لأنّه كان مُطمئنّاً لولاء أكثر هؤلاء الأشراف للحُكم الأمويّ.

لنَعُدْ إلى مجرى حركة الأحداث في البصرة قُبيل يوم واحد من سفر ابن زياد إلى الكوفة..

وصلت نسخة من رسالة الإمام الحسينعليه‌السلام إلى أشراف البصرة، بيد رسوله سليمان بن رزين إلى المنذر بن الجارود - الذي كانت ابنته بحرية زوجة لعبيد الله بن زياد - فلم يُخفِ أمر الرسالة كما فعل الآخرون، ولم يحفظ الأمان للرسول، بل عزم على الخيانة التي تعوّدها من قبل، فأقبل بالرسالة وبالرسول إلى عبيد الله بن زياد؛ زعماً منه(١) أنّه خاف أن يكون الكتاب دسيسة من عبيد الله نفسه، فصلبه عبيد الله بن زياد(٢) ، أو قدّمه فضرب عنقه على رواية أُخرى(٣) . ثمّ صعد عبيد الله منبر البصرة، وقلبه يرتعد خيفة من استجابة أهلها لنداء الإمامعليه‌السلام ، ويعتصره القلق من انتفاضة المعارضة الخفية وقيامها مع الإمامعليه‌السلام ،

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠.

(٢) راجع: اللهوف: ١١٤.

(٣) راجع: تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠، وإبصار العين: ٢٧.

١٥٦

فكان خطابه مليئاً بالتهديد والوعيد، كاشفاً بذلك عن قلقه وخوفه، وعن قوّة المعارضة التي يخشاها، فقد قال في خطابه - بعد أن حمد الله وأثنى عليه -: « أمّا بعدُ، فو الله، ما تُقْرَنُ بي الصعبة(١) ، ولا يُقعقع لي بالشّنان(٢) ، وإنّي لَنَكِلٌ(٣) لمن عاداني، وسمٌّ لمن حاربني، أنصف القارَّة مَن راماها(٤) .

يا أهل البصرة، إنَّ أمير المؤمنين ولاّني الكوفة، وأنا غادٍ إليها الغداة، وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان(٥) ، وإيّاكم والخلاف والإرجاف،

____________________

(١) الصعبة: الناقة صعبة القياد.

(٢) القعقعة: الصوت، كأنّه يقول: لا أدَع الناس يتكلّمون ببُغضي وكراهتي.

(٣) نكل: أي مُعذِّب لمن عاداني، من النكال: أي العذاب والانتقام.

(٤) أنصف القارّة مَن راماها: رجز لرجل من قبيلة (القارّة)، وكانوا حُذَّقاً في الرماية، فالتقى رجل منهم بآخر من غيرهم، فقال له القارَّي: إنْ شئتَ صارعتك، وإنْ شئت سابقتك، وإنْ شئت راميتك. فقال الآخر: قد اخترتُ المراماة.

فقال القارّي:

قد أنصف القارَّة مَن راماها

إنّا إذا ما فئة نلقاها

نردُّ أُولاها على أُخراها

فرماه بسهم فشكَّ به فؤاده.

فكأنّ ابن زياد أراد أن يدّعي: أنّ بني أميّة حُذَّق في أمور السياسة والمواجهات السياسية، وأنّ مَن أراد مواجهتهم - وقد أنصفهم - لابدّ أنّه سيخسر في المواجهة.

(٥) عثمان بن زياد بن أبيه: أخو عبيد الله، توفِّي شابَّاً وله ثلاث وثلاثون سنة. (راجع: تاريخ الإسلام للذهبي: حوادث سنة ٦١ إلى ٨٠: ص ٥). وقد استخلفه أخوه عبيد الله على البصرة حين ذهب إلى الكوفة (راجع: البداية والنهاية، ٨: ١٦٠).

ويبدو أنّه كان أهون من أخيه عبيد الله بكثير، وكان إدراكه لعواقب الأمور فيه بقية من بصيرة، حيث قال في محضر أخيه عبيد الله: (... ولوددت والله، إنّه ليس من بني زياد رجلٌ إلاّ وفي أنفه خزامة =

١٥٧

فو الذي لا إله غيره، لئن بلغني عن رجل منكم خلافٌ لأقتلنّه وعريفه ووليّه، ولآخُذنّ الأدنى بالأقصى حتى تستمعوا لي ولا يكون فيكم مُخالفٌ ولا مشاقٌّ، أنا ابن زياد، أشبهته من بين مَن وطَأ الحصى ولم ينتزعني شَبهُ خالٍ ولا ابن عمّ »(١) .

ويُلاحِظ المتأمّل هنا أيضاً، أنّ عبيد الله بن مرجانة مع كلّ ما أظهره من استعداد للظلم والغَشم والقتل، الكاشف عن خوفه وتوجُّسه من قدرة المعارضة الخفيّة على التحرّك لنصرة الإمام الحسينعليه‌السلام ، كان قد افتخر بانتسابه الموهوم إلى أبي سفيان؛ حيث قال: ( وقد استخلفتُ عليكم عثمان بن زياد بن أبي سفيان )، ومراده من هذا الافتخار تحذير أهل البصرة وتخويفهم، بتذكيرهم أنّه وأخوه امتداد لعائلة معروفة بالحيلة والمكر والدهاء، وبسابقة طويلة في الممارسة السياسية.

حركة السلطة الأُمويّة المحلِّية الجديدة في الكوفة:

السفر السريع إلى الكوفة:

بعد أن تسلّم عبيد الله بن زياد رسالة يزيد التي حملها إليه مسلم بن عمرو الباهلي، أمر بالجهاز من وقته والمسير والتهيُّؤ إلى الكوفة من الغد(٢) ، فلم يبقَ في البصرة بعدها إلاّ يوماً، قتل فيه سليمان بن رزينرضي‌الله‌عنه رسول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى أشراف البصرة، وألقى فيه خطاباً على منبر البصرة، أعلن فيه لأهلها عن استخلافه أخاه عثمان بن زياد عليها، وهدّد فيه أهل البصرة وحذّرهم من الخلاف والإرجاف! وتوعّدهم على ذلك، وفي غد ذلك اليوم خرج من البصرة إلى الكوفة.

____________________

= إلى يوم القيامة وأنّ حسيناً لم يُقتل ). (البداية والنهاية، ٨: ٢١٠).

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٠، وتذكرة الخواص: ٢١٨، والأخبار الطوال: ٢٣٢.

(٢) راجع: الإرشاد: ٢٠٦.

١٥٨

تقول رواية تاريخية: « وأقبل إلى الكوفة، ومعه مسلم بن عمرو الباهلي، وشريك بن الأعور الحارثي(١) ، وحشمه وأهل بيته، حتى دخل الكوفة وعليه عمامة سوداء وهو مُتلثّم... »(٢) .

____________________

(١) شريك بن الأعور الحارثي: كان من شيعة عليّ، وكان ساكناً بالبصرة (سفينة البحار، ٤: ٤٢٤ - الغارات: ٢٨١)، وكان من رؤوس الأخماس، وكان على خُمس العالية، وقدم معهم برفقة ابن عبّاس إلى عليّ عليه‌السلام تلبية لدعوته لحرب معاوية (وقعة صِفِّين: ١١٧).

كان اسم والده الحارث، ومن ثَمَّ يُطلق على شريك: الحارثي. (مُعجم رجال الحديث، ٩: ٢٤). وكان من خواص أصحاب عليّ عليه‌السلام ، شهد معه الجَمل وصِفِّين، وكان قويّ الإيمان صُلب اليقين، وكان ردءاً لجارية بن قدامة في مُحاربة ابن الحضرمي بالبصرة، ولمعقل بن قيس الرياحي في مُحاربة الخوارج بالكوفة، وهو في ثلاثة آلاف مقاتل من أهل البصرة.

جاء من البصرة مع ابن زياد إلى الكوفة فمرض، فنزل دار هاني أيّاماً، ثمّ قال لمسلم بن عقيل: إنّ عبيد الله يعودني، وإنّي مُطاوله الحديث، فاخرج إليه واقتله...

وعن المحدّث القمّي: أنّه مات قبل شهادة مسلم وهاني، ودُفِن في الكوفة.

وله حوار صاخب مع معاوية، أغضبه في الحوار فخرج من عنده وهو يقول:

أيشتمني معاوية بن صخر

وسيفي صارم ومعي لساني

فلا تبسط علينا يا بن هند

لسانك أن بلغت ذُرى الأماني

وإنْ تَكُ للشقاء لنا أميراً

فإنّا لا نقرُّ على الهوانِ

وإنْ تكُ في أميّة من ذراها

فإنّا من ذُرى عبد المدانِ

(راجع: سفينة البحار، ٤: ٤٢٦; ومُستدركات علم الرجال، ٤: ٢٠٩).

استُعمل على اصطخر فارس فبنى مسجداً عام ٣١ هـ. ق، وولي كرمان من قِبَل عبيد الله بن زياد عام ٥٩ هـ. ق، ولبث بعد وصوله الكوفة أيّاماً فمات، فصلّى عليه ابن زياد. (تاريخ الطبري، ٥: ٣٦٤).

(٢) الإرشاد: ٢٠٦; وقال المزّي في تهذيب الكمال، ١٤: ٧٥ ( وبلغ مسيره - أي الحسين عليه‌السلام - عبيدَ الله بن زياد وهو بالبصرة، فخرج على بغالهم هو واثنا عشر رجلاً حتى بلغ الكوفة ).

١٥٩

وتقول رواية أُخرى: « فتعجّل ابن زياد المسير إلى الكوفة مع مسلم بن عمرو الباهلي، والمنذرُ بن الجارود، وشريك الحارثي، وعبد الله بن الحارث بن نوفل، في خمسمئة رجل انتخبهم من أهل البصرة، فجدَّ في السير، وكان لا يلوي على أحد يسقط من أصحابه، حتى إنّ شريك بن الأعور سقط أثناء الطريق، وسقط عبد الله بن الحارث رجاء أن يتأخّر ابن زياد من أجلهم، فلم يلتفت ابن زياد إليهم؛ مخافة أن يسبقه الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة، ولما ورد القادسية سقط مولاه مهران. فقال له ابن زياد: إنْ أمسكتَ على هذا الحال، فتنظر القصر فلك مئة ألف.

قال: والله، لا أستطيع.

فتركه عبيد الله، ولبس ثياباً يمانية وعمامة سوداء وانحدر وحده، وكلّما مرّ «بالمحارس» ظنّوا أنّه الحسينعليه‌السلام فقالوا: مرحباً بابن رسول الله. وهو ساكت، فدخل الكوفة ممَّا يلي النجف »(١) .

ونتابع القصَّة على رواية الطبري، حيث يقول: « والناسُ قد بلغهم إقبال الحسين إليهم، فهم ينتظرون قدومه، فظنّوا حين قدم عبَيد الله أنّه الحسين، فأخذ لا يمرّ على جماعة من الناس إلاّ سلّموا عليه(٢) وقالوا: مرحباً بك - يا بن رسول الله -! قدمت خير مقدم. فرأى من تباشيرهم بالحسينعليه‌السلام ما ساءه، فقال مسلم بن عمرو - لما أكثروا -: تأخّروا، هذا الأمير عبيد الله بن زياد!

فأخذ - حين أقبل - على الظَهر(٣) ، وإنّما معه بضعة عشر رجلاً. فلمّا دخل

____________________

(١) مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٤٩ - دار الكتاب الإسلامي.

(٢) وفي رواية (الأخبار الطوال: ٢٣٢): ( فكان لا يمرّ بجماعة إلاّ ظنّوا أنّه الحسين، فيقومون له ويدعون، ويقولون: مرحباً بابن رسول الله، قدمت خير مقدم! ).

(٣) الظَهر: أي ظهر الكوفة وهو النجف.

١٦٠