مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 195426
تحميل: 7521

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195426 / تحميل: 7521
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

القصر، وعلِم الناس أنّه عبيد الله بن زياد، دخلهم من ذلك كآبة وحزن شديد، وغاظ عبيد الله ما سمع منهم، وقال: ألا أرى هؤلاء كما أرى! »(١) .

إنّ المتون التاريخية، التي وصفت الطريقة التي دخل بها ابن مرجانة الكوفة، تكشف لنا أنّ حالة التأهُّب «بل الغليان!» والتوتُّر، التي كانت تعيشها الكوفة، وهي تنتظر قدوم الإمام الحسينعليه‌السلام ما كانت تسمح لأيِّ مبعوث أُموي أن يدخلها علناً وبسهولة؛ لأنّ الأمّة مُنتفضة على السلطة الأُمويّة أو تكاد، فكان لابدّ لأيِّ مبعوث أو مسؤول أُموي من التخفّي والتنكّر ومُخادعة الناس، فيأتي من طريق غير الطريق التي يأتي منها المسؤولون الرسميّون في العادة، ويتنكّر في زيّ آخر، ويُشبّه على الناس أنّه محبوبهم الذي ينتظرون قدومه بكلّ اشتياق؛ كي يستطيع العبور بسلام والوصول إلى القصر، ليُباشر منه التخطيط والقيام بالإجراءات اللازمة، للقضاء على انتفاضة الأمَّة في الكوفة أوّلاً، ثمّ القضاء على محبوب الأمّة القادم إليها.

خدعة ابن زياد تنطلي حتى على النعمان بن بشير!

وتواصل الرواية التاريخية قصّة خدعة ابن زياد، فتقول: « وسار حتى وافى القصر بالليل، ومعه جماعة قد التقوا به لا يشكّون أنّه الحسينعليه‌السلام ، فأغلق النعمان بن بشير الباب عليه وعلى خاصته، فناداه بعض مَن كان معه ليفتح لهم الباب، فاطّلع عليه النعمان وهو يظنّه الحسينعليه‌السلام .

فقال: أنشدك الله إلاّ تنحَّيت، والله، ما أنا بمُسلّم إليك أمانتي، وما لي في قتالك من أرب. فجعل لا يُكلّمه.

ثمّ إنّه دنا وتدلَّى النعمان من شرف القصر، فجعل يُكلّمه..

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١، وانظر مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٢٩٠، والإرشاد: ٢٠٦.

١٦١

فقال: افتح لا فتحت، فقد طال ليلك!

وسمعها إنسان خلفه، فنكص إلى القوم الذين اتَّبعوه من أهل الكوفة على أنَّه الحسينعليه‌السلام ، فقال: يا قوم، ابن مرجانة، والذي لا إله غيره!

ففتح له النعمان، فدخل وضربوا الباب في وجوه الناس وانفضّوا »(١) .

هذا النصّ كاشف تماماً عن درجة الضعف المذهل، التي كان عليها ممثّلو النظام الأمويّ في الكوفة يومذاك، فابن بشير يلبد في القصر، ويخشى الخروج منه لمقابلة القادم الذي ظنّ أنّه الحسينعليه‌السلام ، وعبيد الله - وهو بين مجموعة من أهل الكوفة - يخشى حتى من إظهار صوته مخافة أن يُعرف.. فما أقوى دلالة هذا النصّ على حالة «الانقلاب» التي كانت الكوفة تعيشها في رفضها النظام الأمويّ، وانتظارها لوصول القيادة الشرعية القادمة إليها.

الخطاب الإرهابيّ الأوّل:

ما إن دخل ابن مرجانة القصر، وهدأت أنفاسه المضطربة من الخوف والتعب، حتى أمر الناس بالاجتماع في المسجد ليُعلن لهم عن وصوله، وعن بداية قرارات الغشم الإرهابية.

تقول الرواية التاريخية: « لما نزل القصر نودي: الصلاة جامعة. قال: فاجتمع الناس، فخرج إلينا، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّ أمير المؤمنين أصلحه الله ولاّني مِصركم وثغركم، وأمرني بإنصاف مظلومكم وإعطاء محرومكم، وبالإحسان إلى سامعكم ومُطيعكم، وبالشدّة على مُريبكم وعاصيكم، وأنا مُتّبع فيكم أمره، ومُنفّذ فيكم عهده، فأنا لمحسنكم ومُطيعكم كالوالد البَرّ، وسوطي وسيفي على مَن ترك أمري وخالف عهدي، فليُبقِ امرؤ على

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٦; وعنه بحار الأنوار، ٤٤: ٣٤٠.

١٦٢

نفسه. الصدق ينبئ عنك لا الوعيد! ثمّ نزل »(١) .

إشارة:

تُلفت انتباه المتأمّل في هذه الخُطبة، دعوى ابن مرجانة بأنّ يزيد أمره فيما أمره به « بالإحسان إلى سامعكم ومُطيعكم! » فمع أنّ هذه الدعوى لم تُصدّقها وثائق التاريخ، وهي أكذوبة من أكاذيب ابن زياد الكثيرة، وهذا الإحسان - لو تحقَّق - مشروط بالانقياد التام والخنوع للسلطة الأموية، فإنّ موعدة الإحسان الكاذبة هذه جاءت مُتأخّرة جدّاً، بعد سنين مُتمادية، تعمّد فيها طاغية الأُمويّين الأكبر معاوية أن يُذيق أهل الكوفة الضيم والجوع والحرمان، وأن يجعلهم وقود حروبه في الثغور وفي مواجهة الخوارج، عقوبة لولائهم لعليعليه‌السلام ، وكان معاوية لا يعبأ بشكاية أهل الكوفة، بل يردّ على مَن يحمل إليه الشكوى منهم أسوأ الردّ، ويُعامله بالاستخفاف والقسوة.

هذه سودة بنت عمارة تأتيه من العراق، وتشكو إليه جور ولاته الذين حكّمهم في رقاب وأموال أهل الكوفة، فتقول: « لا تزال تُقدم علينا مَن ينهض بعِزّك ويبسط سلطانك، فيحصدنا حصاد السنبل، ويدوسنا دياس البقر، ويسومنا الخسيسة ويسألنا الجليلة، هذا ابن أرطاة قدم بلادي، وقتل رجالي وأخذ مالي... »(٢) .

فما كان جواب الطاغية إلاّ أن قال لها: « هيهات، لمَظكم ابن أبي طالب الجُرأة! »(٣) .

وقالت له عكرشة بنت الأطرش: « إنّه كانت صَدَقاتنا تؤخَذ من أغنيائنا فتُرَدُّ

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١، والإرشاد: ٢٠٢.

(٢) العقد الفريد، ٢: ١٠٤.

(٣) نفس المصدر.

١٦٣

على فقرائنا، وإنّا قد فقدْنا ذلك، فما يُجبَر لنا كسير ولا يُنعَشُ لنا فقير، فإنْ كان ذلك عن رأيك فمثلك مَن انتبه عن الغفلة وراجع التوبة، وإنْ كان عن غير رأيك، فما مثلك مَن استعان بالخونة ولا استعمل الظلمة! »(١) .

فما كان جواب معاوية إلاّ أن قال لها: « هيهات يا أهل العراق، نبَّهكم عليّ بن أبي طالب، فلن تُطاقوا... »(٢) .

فلم تكن الكوفة تنتظر من السلطة الأمويّة المركزية، ولا من ولاتها إحساناً ورأفة ورفقاً، طيلة سنين مُتمادية، جرّعها فيها معاوية كأس الهوان والمذلّة والحرمان.

لكنّ بُركان الكوفة لما فارت أعماقه بالحِمم، ودوّت في فمه صرخة النُذُر بالتمرّد والقيام مع الحسينعليه‌السلام ضدّ الحُكم الأُموي، عزف الوالي الجديد ابن زياد نغمة الإحسان لتهدئة ثورة البركان المتأزّم بقذائف الحِمم، بعد سنين طويلة، فلعلّ وعسى! ولكن أيّ إحسان هو؟! إنّه الإحسان الخاص للمنقادين السامعين الطائعين فقط.

الإجراء الإرهابي الأوّل:

ثمّ إنّ عبيد الله بن مرجانة، أتبع خطابه الإرهابي الأوّل بعمل إرهابي كان الأوّل

____________________

(١) نفس المصدر، ٢:١١٢.

(٢) العقد الفريد، ٢: ١١٢; وهناك وافدات أُخريات وفدن على معاوية بالشكاة والتبرّم من جَوره وجَور ولاته، منهنّ: الدارمية، وأمّ الخير، وأروى بنت عبد المطلب، وأم سنان، والزرقاء، وبكارة الهلالية (راجع: العقد الفريد، ٢: ١٠٢ - ١٢١). وظاهرة وفود النساء دون الرجال على معاوية بالشكوى والتظلّم، كاشفة عن أنّ الإرهاب الأُموي بلغ آنذاك حدّاً من التعاظم على رجال الكوفة، إلى درجة أنّ أحداً منهم لم يكن ليستطيع التشكّي والتظلّم؛ خوفاً من قسوة العقوبة والنكال.

١٦٤

أيضاً في سلسلة أعماله القمعية: « فأخذ العُرفاء والناس أخذاً شديداً، فقال: اكتبوا إليّ الغرباء، ومَن فيكم من طلبة(١) أمير المؤمنين، ومَن فيكم من الحرورية(٢) ، وأهل الريب الذين رأيهم الخلاف والشقاق، فمَن كتبهم لنا فبريء، ومَن لم يكتب لنا أحداً فيضمن لنا ما في عرافته ألاّ يُخالفنا منهم مُخالف، ولا يبغي علينا منهم باغٍ، فمَن لم يفعل برئت منه الذمّة، وحلال لنا ماله وسفك دمه، وأيُّما عريف وُجدَ في عرافته من بُغية أمير المؤمنين أحد لم يرفعه إلينا صُلب على باب داره، وأُلغيت تلك العرافة من العطاء، وسُيّر إلى موضع بعُمان الزارة(٣) »(٤) .

إشارة:

كانت العرافة من وظائف الدولة؛ لمعرفة الرعيّة وتنظيم عطائهم من بيت المال، وقد كان في الكوفة مئة عريف، وكان العطاء يُدفع إلى أُمراء أرباع الكوفة الأربعة، فيدفعونه إلى العرفاء والنقباء والأمناء، فيدفعونه هؤلاء إلى أهله في دورهم، وكان يؤمر لهم بعطائهم في المحرّم من كلّ سنة، وبفيئهم عند طلوع الشعرى في كلّ سنة حيث إدراك الغلاَّت.

وكانت العرافة على عهد النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله (٥) ، « وكانت الدولة تعتمد على العرفاء، فكانوا يقومون بأمور القبائل ويوزّعون عليهم العطاء، كما كانوا يقومون بتنظيم السجلاَّت العامة التي فيها أسماء الرجال

____________________

(١) أي الذين يطلبهم يزيد ويبحث عنهم ليُعاقبهم.

(٢) أي الخوارج، نسبة إلى حروراء من نواحي الكوفة، أوّل موضع اجتمع فيه الخوارج في مُنصرفهم من صِفّين قبل وصولهم إلى الكوفة.

(٣) وهي المعروفة على ساحل الخليج قرب عمان، وهي شديدة الحرارة؛ ولذا يوعد ابن مرجانة بتبعيد المخالفين إليها لشدّة وصعوبة العيش فيها (راجع: معجم البلدان، ٤: ١٥٠).

(٤) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨١، والإرشاد: ٢٠٢، وتذكرة الخواص: ٢٠٠.

(٥) وقعة الطفّ: ١١٠.

١٦٥

والنساء والأطفال، وتسجيل مَن يولد ليُفرض له العطاء من الدولة، وحذف العطاء لمن يموت، كما كانوا مسؤولين عن شؤون الأمن والنظام، وكانوا في أيّام الحرب يندبون الناس للقتال ويحثّونهم على الحرب، ويُخبرون السلطة بأسماء الذين يتخلّفون عن القتال، وإذا قصّر العرفاء أو أهملوا واجباتهم، فإنّ الحكومة تُعاقبهم أقسى العقوبات.

ومن أهمّ الأسباب في تفرّق الناس عن مسلم بن عقيل، هو قيام العرفاء بتخذيل الناس عن الثورة، وإشاعة الإرهاب بين الناس، كما كانوا السبب الفعّال في زجِّ الناس لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام »(١) .

قتْل عبد الله بن يقطر(٢) الحميريرضي‌الله‌عنه

إنّ المشهور عند أهل السيَر(٣) هو أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام سرّح عبد الله بن يقطررضي‌الله‌عنه إلى مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، بعد خروجه من مكّة في جواب كتاب مسلمعليه‌السلام إلى الحسينعليه‌السلام يسأله القدوم ويُخبره باجتماع الناس، فقبض عليه الحُصين بن نمير(٤) «أو بن تميم»(٥) بالقادسية.. إلى آخر قصّة استشهادهرضي‌الله‌عنه .

ولذا؛ فقصّة استشهادهرضي‌الله‌عنه من مُختصّات تأريخ فترة وقائع الطريق بين مكّة

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٤٤٧.

(٢) ضبطه التُّستري: بقطر، وقال إنَّ يقطر غلط. (راجع: قاموس الرجال، ٦: ٦٦٦)، وقال المحقِّق السماوي: ( ضبطه الجزري في الكامل بالباء الموحّدة، لكنّ مشيختنا ضبطوه بالياء المثنّاة تحت ) (إبصار العين: ٩٤).

(٣) راجع: إبصار العين: ٩٣.

(٤) راجع: الإرشاد: ٢٢٣.

(٥) راجع: إبصار العين: ٩٣.

١٦٦

وكربلاء، أي من مُختصّات «الجزء الثالث» من هذه الدراسة.

لكنَّ هناك روايتين تُحدّثتا في قصّة قتلهرضي‌الله‌عنه مفادهما: أنّه قُتل في الفترة التي كان فيها الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة المكرّمة؛ ولذا، فنحن نتعرّض لهاتين الروايتين هنا في هذا الموقع.

الرواية الأُولى: وهي رواية ابن شهر آشوب، وفيها: أنّ عبيد الله بن زياد بعد أن زار شريك بن الأعور الحارثي في مرضه «في بيت هانئ بن عروة»، وجرى ما جرى من حثّ شريك مسلماًعليه‌السلام على قتل عبيد الله من خلال رمز ( ما الانتظار بسلمى أن تُحييها... )، فأوجس عبيد الله منهم خيفة فخرج.

« فلمّا دخل القصر أتاه مالك بن يربوع التميمي، بكتاب أخذه من يدي عبد الله بن يقطر، فإذا فيه: ( للحسين بن علي: أمّا بعدُ، فإنِّي أُخبرك أنّه قد بايعك من أهل الكوفة كذا، فإذا أتاك كتابي هذا فالعَجل العَجل؛ فإنّ الناس معك، وليس لهم في يزيد رأي ولا هوى ) فأمر ابن زياد بقتله »(١) .

أمّا الرواية الثانية: وهي رواية محمّد بن أبي طالب في كتابه «تسلية المجالس»، فتُفصّل القصّة هكذا: أنّه بينما كان عبيد الله يتكلّم مع أصحابه في شأن عيادة هاني: «إذ دخل عليه رجل من أصحابه يُقال له: مالك بن يربوع التميمي.

فقال: أصلح الله الأمير، إنِّي كنت خارج الكوفة أجول على فرَسي، إذ نظرتُ إلى رجل خرج من الكوفة مُسرعاً إلى البادية، فأنكرته. ثمّ إنّي لحقته، وسألته عن حاله فذكر أنّه من أهل المدينة! ثمّ نزلت عن فرسي ففتّشته فأصبت معه هذا الكتاب.

فأخذه ابن زياد ففضّه فإذا فيه: ( بسم اللّه الرحمن الرحيم: إلى الحسين بن علي: أمّا بعدُ، فإنّي أُخبرك أنّه بايعك من أهل الكوفة نيِّفاً على عشرين ألف رجل،

____________________

(١) مناقب آل أبي طالب، ٤: ٩٤، وعنه البحار، ٤٤: ٣٤٣.

١٦٧

فإذا أتاك كتابي فالعَجل العَجل؛ فإنّ الناس كلّهم معك، وليس لهم في يزيد هوى... ).

فقال ابن زياد: أين هذا الرجل الذي أصبت معه الكتاب؟

قال: هو بالباب. فقال: ائتوني به. فلمّا وقف بين يديه قال: ما اسمُك؟

قال: عبد اللّه بن يقطين.

قال: من دفع إليك هذا الكتاب؟

قال: دفعته إليَّ امرأة لا أعرفها!

فضحك ابن زياد وقال: اخْتَر أحد اثنين، إمّا أن تُخبرني مَن دفع إليك الكتاب أو القتل! فقال: أمّا الكتاب فإنّي لا أُخبرك، وأمّا القتل فإنّي لا أكرهه؛ لأنّي لا أعلم قتيلاً عند الله أعظم أجراً ممّن يقتله مثلك!

قال فأمر به، فضربت عنقه »(١) .

فهذا الشهيدرضي‌الله‌عنه في هاتين الروايتين - وخلافاً للمشهور - هو رسول من مسلمعليه‌السلام إلى الإمام الحسينعليه‌السلام (٢) ، وهو في رواية «تسلية المجالس» ابن يقطين

____________________

(١) تسلية المجالس، ٢:١٨٢.

(٢) وقال بهذا أيضاً ابن قتيبة وابن مسكويه، أي: أنّ الذي أرسله الحسين قيس بن مُسهّر.. وأنّ عبد اللّه بن يقطر بعثه الحسين عليه‌السلام مع مسلم، فلمّا رأى مسلم الخذلان قبل أن يتمّ عليه ما تمَّ، بعث عبد اللّه إلى الحسين يُخبره بالأمر الذي انتهى، فقبض عليه الحصين وصار ما صار من الأمر عليه. =

١٦٨

وليس ابن يقطر أو بقطر.

وهنا قد ينقدح في الذهن احتمال أنّ عبد الله بن يقطر هو غير عبد الله بن يقطين هذا، بقرينة:

اختلاف اسم الأب أوّلاً.

وثانياً: اختلاف اسم الرجل الذي ألقى القبض على ابن يقطر، وهو حسب المشهور الحصين بن نمير «أو ابن تميم» عن اسم الرجل الذي ألقى القبض على ابن يقطين هذا، وهو مالك بن يربوع التميمي.

وثالثاً: أنّ الأوّل أُلقيَ عليه القبض خارج الكوفة.

ورابعاً: أنّ الأوّل كما هو مشهور قُتل برميهِ من فوق القصر، بينما الثاني ضُربت عنقه.

ويُمكن أن يُردّ على هذه المرتكزات التي يقوم عليها هذا الاحتمال:

أولاً: أنّ هناك ظنّاً قوياً في أن يكون اسم يقطين تصحيفاً لاسم يقطر، خصوصاً في الكُتب المخطوطة قديماً، ويقوّي هذا الظنّ أنّ اسم يقطين لم يرد إلاّ في كتاب تسلية المجالس، كما أنّ اسم الأب في رواية ابن شهر آشوب المشابِهة لهذة الرواية هو يقطر(١) وليس يقطين،

هذا فضلاً عن أنّ رواية كتاب تسلية المجالس نفسها تذكر أنّ عبد الله هذا رجل من أهل المدينة، والتأريخ لم يذكر لنا رجلاً من شهداء النهضة الحسينية من أهل المدينة بهذا الاسم «من غير بني هاشم» سوى عبد الله بن يقطر.

وثانياً: أنّه لا يمنع من وحدة الشخص أنّ الأوّل ألقى القبض عليه الحصين بن

____________________

= (راجع: إبصار العين: ٩٤).

(١) ويُستفاد من كلام السيد الخوئي أنّه يرى عبد الله بن يقطر شخصاً واحداً في روايات القصّة المشهورة، وفي رواية ابن شهر آشوب الشاذّة عن المشهور، حيث يقول: ( وقد ذكر قصّة قتله غير واحد من الأعلام، إلاّ أنّ ابن شهر آشوب ذكر أنّه كان رسول مسلم إلى الحسين عليه‌السلام وأنّ مالك بن يربوع أخذ الكتاب منه ). (مُعجم رجال الحديث، ١٠: ٣٨٤).

١٦٩

نمير (أو تميم) وأنّ الثاني ألقى القبض عليه مالك بن يربوع التميمي؛ إذ قد يكون مالك بن يربوع أحد مأموري الحصين، فتصحّ عندئذ نسبة إلقاء القبض إلى كليهما.

وثالثاً: أنّ قول مالك بن يربوع كما في رواية تسلية المجالس: « كنت خارج الكوفة أجول على فرسي، إذ نظرت إلى رجل خرج من الكوفة مُسرعاً يُريد البادية... ». قد يعني أنّه نظر إلى رجل أقبل من ناحية الكوفة مُسرعاً يُريد البادية، ولا يُنافي ذلك أنّه نظر إليه في القادسية أو قريباً منها (من ناحية الكوفة)، حيث تنتشر قوّات الرصد الأُموي على اتِّساع تلك المنطقة.

ورابعاً: أنّه لا مُنافاة في الإخبار عن قتله: بأنّه ضُربت عنقه. في حين أنّ ابن يقطررضي‌الله‌عنه رُمي به من فوق القصر فتكسّرت عظامه وبقي به رمق ثمَّ ذبحه اللخمي كما هو مشهور؛ ذلك لأنّ هذا التفاوت في التعبير عن القتل غير مُستغرب في الاستعمال العرفي، وهو ليس في مستوى دقّة التعبير الفقهي أو الرياضي كما نعلم، ثمّ إنّ رواية ابن شهر آشوب ذكرت فقط أنّ ابن زياد أمر بقتله، ولم تتعرّض لطريقة القتل.

مَن هو عبد الله بن يقطر الحميري؟

« كانت أمّه حاضنة للحسينعليه‌السلام ، كأمّ قيس بن ذريح للحسنعليه‌السلام ، ولم يكن رضع عندها، ولكنّه يُسمَّى رضيعاً له لحضانة أمّه له.

وأمُّ الفضل بن العبّاس لبابة كانت مربِّية للحسينعليه‌السلام ولم تُرضعه أيضاً، كما صحّ في الأخبار أنّه لم يرضع من غير ثدي أمّه فاطمة صلوات الله عليها، وإبهام رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله تارة، وريقه تارة أُخرى »(١) .

____________________

(١) إبصار العين: ٩٣ لكنّ هناك روايات تذكر أنّه عليه‌السلام لم يرتضع حتى من ثدي أمّه فاطمةعليها‌السلام :منها =

١٧٠

وذكر ابن حجر في الإصابة: أنّ عبد الله بن يقطر كان صحابياً؛ لأنّه لِدَةٌ للحسينعليه‌السلام (١) .

وكان عبد الله بن يقطر رضوان الله تعالى عليه من أهل اليقين والشجاعة الفائقة؛ إذ لما أمره ابن مرجانة قائلاً: « اصعد القصر والعن الكذّاب ابن الكذّاب، ثمّ انزل حتى أرى فيك رأيي »(٢) . صعد هذا البطل القصر « فلمّا أشرف على الناس قال: أيُّها الناس، أنا رسول الحسين بن فاطمة بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله إليكم لتنصروه وتوازروه على ابن مرجانة وابن سميّة الدعيّ ابن الدعيّ! »(٣) .

والظاهر أنّ عبد الله بن يقطر رضوان الله تعالى عليه، قُتل قبل قيس بن مُسهّر الصيداوي رضوان الله تعالى عليه، الذي قُتل بعد قتل مسلمعليه‌السلام ، بدليل أنّ خبر مقتل عبد الله ورد إلى الإمامعليه‌السلام بـ (زُبالة) في الطريق إلى العراق في نفس خبر مقتل مسلمعليه‌السلام وهاني رضوان الله تعالى عليه، فنعاهم الإمامعليه‌السلام قائلاً:( أمّا بعدُ، فقد أتانا خبر فظيع، قُتِل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلنا

____________________

= عن الإمام الصادق عليه‌السلام : (... ولم يرضع الحسين من فاطمة عليها‌السلام ولا من أُنثى، كان يُؤتى به النبيّ فيضع إبهامه في فيه فيمصّ منها ما يكفيه اليومين والثلاث، فنبت لحم الحسين عليه‌السلام من لحم رسول الله ودمه ) . (الكافي، ١: ٤٦٥، الحديث رقم ٤).

وعن الإمام أبي الحسن الرضا عليه‌السلام :( أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يؤتى به الحسين فيُلقمه لسانه، فيمصّه فيجتزئ به، ولم يرتضع من أُنثى ) (الكافي، ١: ٤٦٥).

لكنّ العلامة المجلسي رمى هاتين الروايتين بالإرسال. (مرآة العقول، ٥: ٣٦٥)، وللسيد عبد الحسين شرف الدين فيهما نظر (راجع: أجوبة موسى جار الله).

(١) إبصار العين: ٩٣.

(٢) نفس المصدر.

(٣) نفس المصدر.

١٧١

شيعتنا... ) .(١)

وبذلك يكون عبد الله بن يقطر رضوان الله تعالى عليه ثاني رُسُل الإمام الحسينعليه‌السلام الذين استُشهدوا أثناء أداء مُهمّة الرسالة، بعد شهيد النهضة الحسينية الأوّل سليمان بن رزين رضوان الله تعالى عليه، رسول الإمامعليه‌السلام إلى أشراف البصرة، بل إنّ عبد الله بن يقطر هو الشهيد الثاني في النهضة الحسينية المباركة، إذا ثبت تاريخياً أنّه قُتِل قبل قيام انتفاضة مسلمعليه‌السلام في الكوفة.

اضطهاد رجال المعارضة وحبْسهم وقتْلهم:

« إنّ ابن زياد لما اطّلع على مكاتبة أهل الكوفة الحسينعليه‌السلام حبس أربعة آلاف وخمسمئة رجل من التوّابين، من أصحاب أمير المؤمنين وأبطاله الذين جاهدوا معه، منهم سليمان بن صرد، وإبراهيم بن مالك الأشتر و... وفيهم أبطال وشُجعان، ولم يكن له سبيل إلى نصر الحسينعليه‌السلام ؛ لأنّهم كانوا مُقيّدين مغلولين، وكانوا يوماً يُطعَمون ويوماً لا يُطعمون »(٢) .

وينقل المحقّق الشيخ باقر شريف القرشي، عن كتاب «المختار مرآة العصر الأُموي»: أنّ عدد الذين اعتقلهم ابن زياد في الكوفة اثنا عشر ألفاً، كما ينقل عن كتاب «الدرّ المسلوك في أحوال الأنبياء والأوصياء» أنّ من بين أولئك المعتقلين سليمان بن صرد الخزاعي، والمختار بن أبي عبيد الثقفي وأربعمئة من الوجوه والأعيان(٣) .

____________________

(١) نفس المصدر: ٩٤.

(٢) تنقيح المقال، ٢: ٦٣، وانظر: قاموس الرجال، ٥: ٢٨٠.

(٣) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ، ٢: ٤١٦، وقال المحقِّق القرشي: ( وقد أثارت هذه الإجراءات عاصفة من الفزع والهلع، لا في الكوفة فحسب، وإنّما في جميع أنحاء العراق، وقد ابتعد الكوفيُّون عن التدخُّل في أيّة مشكلة سياسية، ولم تَبْدُ منهم أيّة حركة من حركات المعارضة، وأيقنوا =

١٧٢

وذكر الطبري: أنّ ابن زياد « أمر أن يُطلب المختار وعبد الله بن الحارث(١) ، وجعل فيهما جُعلاً، فأُتي بهما فحبسا »(٢) .

وقال البلاذري: « أمر ابن زياد بحبسهما - المختار وابن الحارث - بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر عينه، وبقيا في السجن إلى أن قُتل الحسين »(٣) .

« ثمّ إنّ الحصين(٤) - صاحب شرطة ابن زياد - وضع الحرس على أفواه

____________________

= أنّ لا قدرة لهم على الإطاحة بالعرش الأمويّ، وظلّوا قابعين تحت وطأة سياطه القاسية ) (نفس المصدر، ٢: ٤١٦).

ولنا تأمّل في هذا القول، ولعلّنا نُناقشه في فصل حركة الأُمّة من هذا الكتاب، إن شاء الله تعالى.

(١) عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب: وهو الذي أنفذه الحسن عليه‌السلام إلى معاوية، وله رواية عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في فضل فاطمة، وهو الذي حبسه ابن زياد مع المختار وميثم. (مُستدركات علم رجال الحديث، ٤: ٥٠٨).

ولِد في حياة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ، واجتمع أهل البصرة عند موت يزيد على تأميره عليهم، وقال الزبير بن بكّار: هو ابن أخت معاوية بن أبي سفيان، واسمها هند، اصطلح عليه أهل البصرة فأمّروه عند هروب عبيد الله بن زياد، وكتبوا إلى ابن الزبير بالبيعة له فأقرّه عليهم، خرج هارباً من البصرة إلى عمان خوفاً من الحجّاج عند فتنة عبد الرحمان بن محمد بن الأشعث، فمات بها عام ٨٤هـ، (راجع: سير أعلام النبلاء، ١: ٢٠٠) ; وكان من سادة بني هاشم. (نفس المصدر، ٣: ٥٣١).

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤.

(٣) أنساب الأشراف، ٥: ٢١٥; عنه مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٥٧.

(٤) الحصين بن نمير: ( ملعون خبيث، من رؤساء جُند ابن زياد، وكان من أتباع معاوية ) (الغدير، ١٠: ٢٩٥)، وكان مأموراً من قِبل يزيد لقتال ابن الزبير بمكّة. (البحار، ٣٨: ١٩٣ ومُستدركات علم رجال الحديث، ٣: ٢٢١).

١٧٣

السكك، وتتبّع الأشراف الناهضين مع مسلم، فقبض على عبد الأعلى بن يزيد الكلبي(١) ، وعمارة بن صلخب الأزدي(٢) فحبسهما، ثمّ قتلهما، وحُبس جماعة من

____________________

(١) عبد الأعلى بن يزيد الكلبي: فارس شجاع من الشيعة بالكوفة، بايع مسلماً وكان يأخذ البيعة له وللحسين عليه‌السلام ، فلمّا قُتل مسلم حبسه ابن زياد، وأمر بقتله فقُتل. (مُستدركات علم رجال الحديث، ٤: ٣٦٦).

قال الطبري: ( ثمّ إنّ عبيد الله بن زياد لما قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة دعا بعبد الأعلى الكلبي، الذي كان أخذه كثير بن شهاب في بني فتيان، فأُتي به فقال له: أخبرني بأمرك. فقال: أصلحك الله، خرجت لأنظر ما يصنع الناس، فأخذني كثير بن شهاب. فقال له: فعليك وعليك من الأيمان المغلّظة إن كان أخرجك إلاَّ ما زعمت. فأبى أن يحلف! فقال عبيد الله: انطلقوا بهذا إلى جبّانة السبع فاضربوا عُنقه. قال: فانطلقوا به، فضُربت عنقه ). (تاريخ الطبري ٣: ٢٩٢).

وفي رواية أُخرى للطبري عن أبي مخنف قال: ( حدّثني أبو جناب الكلبي: أنّ كثيراً ألفى رجلاً من كلب يُقال له: عبد الأعلى بن يزيد. قد لبس سلاحه يريد ابن عقيل في بني فتيان، فأخذه حتى أدخله على ابن زياد، فأخبره خبره، فقال لابن زياد: إنّما أردتك. قال: وكنت وعدتني ذلك من نفسك! فأمر به فحُبس ). (تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧).

(٢) عمارة بن صلخب الأزدي: ذكر أهل السير أنّه كان فارساً شجاعاً، من الشيعة الذين بايعوا مسلماً، وكان يأخذ البيعة للحسين عليه‌السلام ، فلمّا تخاذل الناس عن مسلم أمر ابن زياد بقبضه وحبسه، ثمّ بعد شهادته أمر بضرب عُنقه فضرب رضوان الله عليه. (تنقيح المقال، ٢: ٣٢٣).

وقال الطبري: ( وخرج محمد بن الأشعث حتى وقف عند دور بني عمارة، وجاءه عمارة بن صلخب الأزدي وهو يُريد ابن عقيل، عليه سلاحه، فأخذه فبعث به إلى ابن زياد فحبسه ). (تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٢).

ثمّ إنّ عبيد الله - بعد قتل مسلم وهاني - ( أخرج عمارة بن صلخب الأزدي، وكان ممَّن يريد أن يأتي مسلم بن عقيل بالنُّصرة لينصره، فأُتيَ به أيضاً عبيد الله، فقال له: ممَّن أنت؟ قال: من الأزد. قال: انطلقوا به إلى قومه. فضُربت عُنقه فيهم ). (تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٢).

١٧٤

الوجوه استيحاشاً منهم، وفيهم الأصبغ بن نُباتة(١) ، والحارث الأعور الهمداني(٢) »(٣) .

حبس ميثم التمّار:

يُستفاد من ظاهر بعض المتون، التي تروي قصّة مقتل الشهيد الفذّ ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه ، أنّ قتله كان في أواخر شهر ذي الحجّة سنة ستِّين للهجرة، كقول الشيخ المفيد (ره): « وحجّ في السنة التي قُتل فيها »(٤) ، وتُصرّح بعض المتون أنّهرضي‌الله‌عنه قُتل قبل وصول الإمام الحسينعليه‌السلام إلى العراق: « وكان مقتل ميثم قبل

____________________

(١) الأصبغ بن نباتة: مشكور، من خواصّ أصحاب أمير المؤمنين والحسنينعليهم‌السلام ، وروى عنه عهد الأشتر ووصيّته إلى ابنه محمد بن الحنفية، وهو من شَرطة الخميس، الذين ضمنوا له الذبح وضمن لهم الفتح. وعدّه أمير المؤمنين عليه‌السلام من ثقاته العشرة، وهو الذي أعانه على غُسل سلمان الفارسي، وممّن حمل سرير سلمان لما أراد أن يُكلّم الموتى. وكان الأصبغ يوم صِفِّين على شَرطة الخميس وقال لعلي عليه‌السلام : قدّمني في البقية من الناس؛ فإنّك لا تفقد لي اليوم صبراً ولا نصراً. قال عليه‌السلام :( تقدّم باسم الله والبركة ) . فتقدّم وأخذ رايته وسيفه، فمضى بالراية مُرتجزاً، فرجع وقد خضّب سيفه ورمحه دماً، وكان شيخاً ناسكاً عابداً، وكان إذا لقي القوم لا يَغمد سيفه، وكان من ذخائر علي، ممّن قد بايعه على الموت، وكان من فرسان العراق، وهو الذي يقول: حفظت مئة فصل من مواعظ أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وحفظت من خطاباته كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة وكثرة. (مُستدركات علم رجال الحديث، ١: ٦٩٢).

(٢) الحارث الأعور الهمداني: كان من أولياء أمير المؤمنين، وعدّه عليّ عليه‌السلام من ثقاته العشرة، وعن ابن أبي الحديد: وكان أحد الفقهاء. توفِّي عام ٦٥ هـ. ق (مُستدركات علم رجال الحديث، ٢: ٢٦٠).

( وعن الطبري: كان من مُقدّمي أصحاب عليّ في الفقه والعلم بالفرائض والحساب ) (قاموس الرجال، ٣: ١٤).

وثّقهُ العامّة ومدحوه، ونقلوا الروايات عنه في الصحاح وغيرها. (الغدير، ١١: ٢٢٢).

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٥٧.

(٤) الإرشاد: ١٧٠.

١٧٥

قدوم الحسين بن عليعليهما‌السلام إلى العراق بعشرة أيّام »(١) ، بل تُصرّح أُخرى قائلة: « وشهادته قبل يوم عاشوراء بعشرين يوماً أو عشرة أيام »(٢) .

وعلى أيٍّ من هذه الأقوال؛ يكون ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه قد قُتل فيما بعد خروج الإمام الحسينعليه‌السلام من مكّة، وفي أثناء أيّام الرحلة إلى العراق.

أمّا حبسهرضي‌الله‌عنه في سجن ابن زياد، فهناك إشارة تاريخية، يُمكن الاستفادة منها أنه حُبس مع المختار في وقت معاً، كما في قول الشيخ المفيد (ره): « فحبسه وحبس معه المختار... »(٣) ، أي قبل مقتل مسلمعليه‌السلام ، وعلى هذا؛ يكون حبسهرضي‌الله‌عنه في الفترة التي كان فيها الإمامعليه‌السلام بمكّة المكرّمة.

ميثم التمّار رضوان الله تعالى عليه:

يندُر أن ترى كتاباً يتناول تأريخ النهضة الحسينية وفاجعة عاشوراء، يذكر ميثم التمّاررضي‌الله‌عنه في جُملة شهداء فترة تأريخ تلك النهضة المقدّسة، مع أنّهرضي‌الله‌عنه من طليعة الأبرار وخواصّ الأولياء، الذين استُشهدوا في تلك الفترة؛ لولائهم لأهل البيتعليهم‌السلام وعدائهم للحُكم الأمويّ، ولشهادته نفسها خصوصية تجعلها في العلياء من روائع تأريخ وقائع الاستشهاد في سبيل الله تعالى، وفي القمّة من نوادره.

هو ميثم بن يحيى - أو عبد الله - التمّار الأسديّ الكوفي، وهو من حواريّ أمير المؤمنين والحسن والحسين صلوات الله عليهم، والروايات في مدحه وجلالته، وعظم شأنه وعلمه بالمغيّبات كثيرة لا تحتاج إلى البيان، ولو كان بين

____________________

(١) إعلام الورى: ١٧٤، وعنه تنقيح المقال، ٣: ٢٦٢، وانظر أيضاً: الإرشاد: ١٧١.

(٢) مُستدركات علم رجال الحديث، ٨: ٤٤.

(٣) الإرشاد: ١٧١.

١٧٦

العصمة والعدالة مرتبة وواسطة لأطلقناها عليه(١) .

كان ميثمرضي‌الله‌عنه لمنزلته الخاصة عند الله تبارك وتعالى وعند أهل البيتعليهم‌السلام قد رُزِق علم المنايا والبلايا، وقد شاعت عنه إخباراته بمُغيّبات كثيرة، ومنها أنّه أخبر حبيب بن مظاهر باستشهاده في نُصرة الحسينعليه‌السلام ، وأنّه يُجال برأسه في الكوفة، كما أخبر المختار بأنّه ينجو من سجن ابن زياد، ويخرج ثائراً مُطالباً بدم الحسينعليه‌السلام فيقتل ابن زياد ويطأ بقدميه على وجْنتَيه(٢) ، بل أخبر ابن زياد نفسه بأنّه يقتله، وبالطريقة التي يقتله بها، وأنّه أوّل مَن يُلجَم في الإسلام(٣) .

روي « أنّ ميثم التمّار كان عبداً لامرأة من بني أسد، فاشتراه أمير المؤمنينعليه‌السلام منها فأعتقه، فقال له:( ما اسمك؟ ) .

فقال: سالم.

فقال:( أخبرني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّ اسمك الذي سمّاك به أبواك في العَجم ميثم ) .

قال: صدق اللّه ورسوله وصدقت يا أمير المؤمنين، والله، إنّه لاسمي!

قال:( فارجع إلى اسمك الذي سمّاك به رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله ودعْ سالماً ) .

فرجع إلى ميثم واكتنى بأبي سالم.

فقال له عليّعليه‌السلام ذات يوم:( إنك تُؤخذ بعدي فتُصلب وتُطعن بحربة، فإذا كان اليوم الثالث ابتدر منخراك وفمك دماً يُخضّب لحيتك، فانتظر ذلك الخضاب، فتُصلب على باب

____________________

(١) راجع: مُستدركات علم رجال الحديث، ٨: ٤٤، وانظر: تنقيح المقال، ٣: ٢٦٢، فقد قال المامقاني أيضاً: ( بل لو كانت بين العصمة والعدالة مرتبة واسطة لأطلقناها عليه ).

(٢) راجع: بحار الأنوار، ٤٥: ٣٥٣.

(٣) كما سيأتي في نفس رواية الإرشاد الآتية.

١٧٧

عمرو بن حُريث عاشر عشرة، أنت أقصرهم خشبة، وأقربهم من المطهّرة، وامضِ حتى أُريك النخلة التي تُصلَب على جذعها ) .

فأراه إيّاها. وكان ميثم يأتيها فيُصلّي عندها ويقول: بوركتِ من نخلة! لكِ خُلِقتُ، ولي غُذِيتِ، ولم يزل يتعاهدها حتى قُطعت، وحتى عرف الموضع الذي يُصلب عليها(١) بالكوفة.

قال: وكان يلقى عمرو بن حُريث فيقول له: إنّي مُجاورك فأحسن جواري!

فيقول له عمرو: أُتريد أن تشتري دار ابن مسعود أو دار ابن حكيم؟

وهو لا يعلم ما يريد.

وحجّ في السنة التي قُتل فيها، فدخل على أمّ سلمة رضي اللّه عنها.

فقالت: مَن أنت؟

قال: أنا ميثم.

قالت: واللّه، لربّما سمعت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله يذكرك ويوصي بك عليّاً في جوف الليل.

فسألها عن الحسينعليه‌السلام ، فقالت: هو في حايط له.

قال: أخبريه أنّني قد أحببت السلام عليه، ونحن مُلتقون عند ربّ العالمين إن شاء اللّه تعالى(٢) .

____________________

(١) هكذا في الأصل، والصحيح (عليه).

(٢) في قول الشيخ المفيد (قدّس سرّه): ( وحجّ في السنة التي قُتِل فيها )، وفي قوله: ( فسألها عن الحسين عليه‌السلام ، فقالت: هو في حايط له.

قال: أخبريه أنّني قد أحببت السلام عليه، ونحن مُلتقون عند ربّ العالمين... ) مُدعاة للاستغراب والتأمّل! =

١٧٨

فدعت أمّ سلمة بطيب وطيّبت لحيته، وقالت له: أما إنّها ستُخضّب بدم!

فقدم الكوفة، فأخذه عبيد اللّه بن زياد لعنه الله، فأُدخل عليه

فقيل له: هذا كان من آثر الناس عند عليّ!

قال: ويحكم! هذا الأعجميّ!

قيل له: نعم!

قال له عبيد اللّه: أين ربّك؟!

قال: لبالمرصاد لكلّ ظالم، وأنت أحد الظلمة!

قال: إنّك على عُجمتك لتبلغ الذي تريد! ما أخبرك صاحبك أنّي فاعل بك؟!

قال: أخبرني أنّك تصلبني عاشر عشرة، أنا أقصرهم خشبة، وأقربهم إلى المطهّرة.

قال: لنُخالفنّه.

____________________

= تُرى كيف يكون قد حجّ في تلك السنة، ولم يكن قد رأى أو التقى الإمام عليه‌السلام في مكّة المكرّمة طيلة المدّة الطويلة التي كان الإمام عليه‌السلام فيها بمكة؟!

الراجح أنّ مراد الشيخ المفيد (قدس سره) من قوله: ( وحجّ ) أصل زيارة بيت اللّه الحرام، وإن كانت هذه الزيارة عُمرة، ولدينا في رواية أُخرى تصريح من ابنه وهو حمزة بن ميثم ( يصف أحداث نفس هذه الزيارة ) يقول فيه: ( خرج أبي إلى العمرة... ) (بحار الأنوار، ٤٢: ١٢٩). فهذه الزيارة كانت عمرة. والراجح أيضاً، أنّ وصوله إلى المدينة المنوّرة كان قبل شهر رجب سنة ستّين أو فيه، فيما قبل وصول نبأ موت معاوية إلى المدينة، أي قبل مُطالبة السلطة الأُموية الإمام الحسين عليه‌السلام بالبيعة ليزيد؛ ذلك لأنّ الظاهر من تأريخ ما بعد ذلك إلى خروج الإمام عليه‌السلام من المدينة هو أنّ الإمام عليه‌السلام لم يخرج إلى حائط له خارج المدينة.

١٧٩

قال: كيف تخالفه؟! فوالله، ما أخبرني إلاّ عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله عن جبرئيل عن الله تعالى، فكيف تخالف هؤلاء؟! ولقد عرفت الموضع الذي أُصلب عليه أين هو من الكوفة، وأنا أوّل خلق اللّه أُلجم في الإسلام!

فحبسه وحبس معه المختار بن أبي عبيدة، قال له ميثم: إنّك تفلِت وتخرج ثائراً بدم الحسينعليه‌السلام فتقتل هذا الذي يقتلنا.

فلمّا دعا عبيد اللّه بالمختار ليقتله، طلع بريد بكتاب يزيد إلى عبيد الله، يأمره بتخلية سبيله فخلاّ عنه(١) ، وأمر بميثم أن يُصلب، فأُخرج.

فقال له رجل لقيه: ما كان أغناك عن هذا يا ميثم؟!

فتبسّم وقال - وهو يومي إلى النخلة -: لها خُلِقتُ، ولي غُذِّيتْ!

فلمّا رُفع على الخشبة، اجتمع النّاس حوله على باب عمرو بن حُريث. قال عمرو: قد كان واللّه، يقول: إنّي مُجاورك! فلمّا صُلب أمر جاريته بكنس تحت خشبته ورشّه وتجميره، فجعل ميثم يُحدّث بفضائل بني هاشم، فقيل لابن زياد: قد فضحكم هذا العبد! فقال: ألْجِموه. وكان أوّل خلق الله أُلجم في الإسلام، وكان قَتْلُ ميثم رحمة الله قبل قدوم الحسين بن عليعليه‌السلام بعشرة أيّام، فلمّا كان اليوم الثالث من صلبه طُعن ميثم بالحرْبة، فكبّر، ثمّ انبعث في آخر النهار فمه وأنفه دماً »(٢) .

____________________

(١) إنّ المتأمّل في دلالة هذا، يستنتج أنّ المختار كان طليقاً قبل وصول الإمام عليه‌السلام إلى العراق - لأنّ ميثم قُتل قبل وصول الإمام عليه‌السلام إلى العراق - وهذا خلاف المشهور؛ وعليه يُمكن القول: لعلّ المختار (ره) كان تحت رقابة شديدة أو إقامة جبرية منعته من الالتحاق بالإمام عليه‌السلام ، والله العالم.

(٢) الإرشاد: ١٧١.

١٨٠