مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 195307
تحميل: 7520

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195307 / تحميل: 7520
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

التجسُّس لمعرفة مكان قيادة الثورة:

لما علم مولانا مسلم بن عقيلعليه‌السلام بالإجراءات الإرهابية المتسارعة، التي اتّخذها عبيد الله بن زياد، « وما أخذ به العرفاء والناس، خرج من دار المختار حتى انتهى إلى دار هانئ بن عروة فدخلها، فأخذت الشيعة تختلف إليه في دار هانئ على تستّر واستخفاء من عبيد اللّه، وتواصوا بالكتمان.

فدعا ابن زياد مولى له يُقال له: معقل. فقال: خُذْ ثلاثة آلاف درهم، واطلب مسلم بن عقيل والتمس أصحابه، فإذا ظفرت بواحد منهم أو جماعة فأعطِهم هذه الثلاثة آلاف درهم، وقل لهم: استعينوا بها على حرب عدوّكم، وأعلمهم أنّك منهم؛ فإنّك لو قد أعطيتهم إيّاها لقد اطمأنّوا إليك ووثقوا بك، ولم يكتموك شيئاً من أمورهم وأخبارهم، ثمّ اغْدُ عليهم ورُحْ حتى تعرف مُستقرّ مسلم بن عقيل وتدخل عليه.

ففعل ذلك، وجاء حتى جلس إلى مسلم بن عوسجة الأسدي في المسجد الأعظم وهو يُصلّي، فسمع قوماً يقولون: هذا يُبايع للحسين، فجاء وجلس إلى جنبه حتى فرغ من صلاته، ثمّ قال: يا عبد الله، إنّي امرؤ من أهل الشام، أنعم الله عليَّ بُحبّ أهل البيت وحبّ مَن أحبّهم. - وتباكى له - وقال: معي ثلاثة آلاف درهم، أردت بها لقاء رجل منهم بلغني أنّه قدم الكوفة يُبايع لابن بنت رسول اللّهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فكنت أُريد لقاءه فلم أجد أحداً يُدلّني عليه، ولا أعرف مكانه، فإنّي لجالس في المسجد الآن، إذ سمعت نفراً من المؤمنين يقولون: هذا رجل له علم بأهل هذا البيت. وإنّي أتيتك لتقبض منّي هذا المال، وتُدخلني على صاحبك؛ فإنّي أخ من إخوانك وثقة عليك، وإن شئت أخذت بيعتي له قبل لقائه.

فقال له ابن عوسجة: أحمُد الله على لقائك إيّاي، فقد سرّني ذلك، لتنال الذي تُحبّ، وليَنصرنّ اللّه بك أهل بيت نبيّه عليه وعليهم السلام، ولقد ساءني معرفة الناس إيّاي بهذا الأمر قبل أن يتمّ؛ مخافة هذا الطاغية وسطوته.

١٨١

فقال له معقل: لا يكون إلاّ خيراً، خذ البيعة عليَّ!

فأخذ بيعته، وأخذ عليه المواثيق المغلّظة ليُناصحنّ وليكتمنّ، فأعطاه من ذلك ما رضي به، ثمّ قال له: اختلف إليَّ أيّاماً في منزلي، فإنّي طالب لك الإذن على صاحبك.

وأخذ يختلف مع الناس، فطلب له الإذن فأُذِنَ له، وأخذ مسلم بن عقيل بيعته، وأمر أبا ثمامة الصّائدي بقبض المال منه، وهو الذي كان يقبض أموالهم وما يُعين به بعضهم بعضاً، ويشتري لهم به السلاح، وكان بصيراً وفارساً من فرسان العرب، ووجوه الشيعة، وأقبل ذلك الرجل يختلف إليهم، فهو أوّل داخل وآخر خارج، وحتى فهم ما احتاج إليه ابن زياد من أمرهم، فكان يُخبره به وقتاً فوقتاً »(١) .

حبس هاني بن عروة المرادي:

ولما كثر تردُّد الرجال من أهل الكوفة على مسلم بن عقيلعليه‌السلام في بيت هاني بن عروة، أوجس في نفسه المحذور « وخاف هاني بن عروة عبيد الله على نفسه، فانقطع عن حضور مجلسه وتمارض، فقال ابن زياد لجُلسائه: ما لي لا أرى هانياً؟!

فقالوا: هو شاكٍ.

فقال: لو علمتُ بمرضه لعُدتُه.

ودعا محمّد بن الأشعث، وأسماء بن خارجة، وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وكانت رويحة بنت عمرو تحت هاني بن عروة، وهي أمّ يحيى بن هاني.

فقال لهم: ما يمنع هاني بن عروة من إتياننا؟

فقالوا: ما ندري، وقد قيل: إنّه يشتكي.

قال: قد بلغني أنّه قد برئ وهو يجلس على باب داره! فالقوه ومُروه ألاّ يدع ما عليه من حقّنا؛ فإنّي لا أُحبّ أن يفسد عندي مثله من أشراف العرب.

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٧، وعنه البحار، ٤٣: ٣٤٢ - ٣٤٣.

١٨٢

فأتوه حتى وقفوا عليه عشيّة وهو جالس على بابه.

وقالوا له: ما يمنعك من لقاء الأمير؛ فإنّه قد ذكرك، وقال: لو أعلم أنّه شاكٍ لَعُدْتُه.

فقال لهم: الشكوى تمنعني.

فقالوا له: قد بلغه أنّك تجلس كلّ عشيّة على باب دارك، وقد استبطأك، والإبطاء والجفاء لا يحتمّله السلطان، أقسمنا عليك لما ركبت معنا.

فدعا بثيابه فلبسها، ثمّ دعا ببغلة فركبها، حتى إذا دنا من القصر، كأنّ نفسه أحسّت ببعض الذي كان.

فقال لحسّان بن أسماء بن خارجة: يا ابن الأخ، إنّي واللّه لِهذا الرجل لخايف، فما ترى؟

فقال: يا عمّ، والله، ما أتخوّف عليك شيئاً ولم تجعل على نفسك سبيلاً.

ولم يكن حسّان يعلم في أيّ شيء بعث إليه عبيد الله.

فجاء هاني حتى دخل على عبيد الله بن زياد وعنده القوم، فلما طلع قال عبيد الله: أتتك بخاينٍ(١) رجْلاه! فلمّا دنا من ابن زياد، وعنده شُريح القاضي(٢) ، التفت نحوه، فقال:

____________________

(١) هذا مَثَلٌ معروف، وقد ضبطه المحقّق السماوي هكذا: ( أتتك بحائن رجلاه تسعى ): الحائن الميّت، من الحَيْن بفتح الحاء وهو الموت. (إبصار العين: ١٤٣).

(٢) شُريح القاضي: ( هو شُريح بن الحارث بن المنتجع الكندي، وقيل: اسم أبيه معاوية، وقيل: هانئ وقيل: شراحيل، ويُكنّى أبا أُميّة.

استعمله عمر بن الخطاب على القضاء بالكوفة، فلم يزل قاضياً ستِّين سنة. لم يتعطّل فيها إلاّ ثلاث سنين في فتنة ابن الزبير امتنع من القضاء، ثمّ استعفى الحجّاج في العمل فأعفاه، فلزم منزله إلى أن مات، وعمّر عمراً طويلاً، قيل: إنّه عاش مئة وثماني سنين. وقيل: مئة سنة، وتوفِّي سنة سبع وثمانين، وكان خفيف الروح مزّاحاً... وأقرّ عليٌّ شُريحاً على =

١٨٣

____________________

= القضاء مع مُخالفته له في مسائل كثيرة من الفقه مذكورة في كتب الفقهاء، وسَخَطَ علي عليه‌السلام مرّة عليه فطرده عن الكوفة، ولم يعزله عن القضاء وأمره بالمقام ببانقيا، وكانت قرية قريبة من الكوفة أكثر ساكنيها اليهود، فأقام بها مدّة حتى رضي عنه، وأعاده إلى الكوفة. وقال أبو عمرو بن عبد البرّ في الاستيعاب: أدرك شريح الجاهلية ولا يُعَدُّ من الصحابة بل من التابعين... ) (راجع البحار، ٤٢: ١٧٥، وشرح النهج لابن أبي الحديد، ١٤: ٢٩).

( روى الأعمش، عن إبراهيم التميمى، قال: قال علي عليه‌السلام لشريح، وقد قضى قضيّة نَقَم عليه أمرها:( والله، لأنفينّك إلى بانقيا شهرين تقضي بين اليهود ) . قال: ثمّ قُتِل علي عليه‌السلام ومضى دهر، فلمّا قام المختار بن أبي عبيد قال لشريح: ما قال لك أمير المؤمنين عليه‌السلام يوم كذا؟ قال: إنّه قال لي كذا. قال: فلا والله، لا تقعد حتى تخرج إلى بانقيا تقضي بين اليهود. فسيّره إليها فقضى بين اليهود شهرين ). (راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد، ٤: ٩٨).

و(... يُقال: إنّه من أولاد الفُرس الذين كانوا باليمن. أدرك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ولم يلقه على الصحيح... استقضاه عمر على الكوفة، وأقرّه علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأقام على القضاء بها ستِّين سنة، وقضى بالبصرة سنة. ويُقال: قضى بالكوفة ثلاثاً وخمسين سنة، وبالبصرة سبع سنين... مات وهو ابن مئة وعشر سنين. وفي رواية أُخرى، مئة وعشرون سنة، قيل: مات سنة سبع وتسعين... ) (تهذيب الكمال، ٨: ٣١٨).

وقال الذهبي: ( عزل ابن الزبير شُريحاً عن القضاء، فلمّا ولي الحجّاج ردّه،.. إنّ فقيهاً جاء إلى شريح فقال: ما الذي أحدثت في القضاء؟ قال: إنّ الناس أحدثوا، فأحدثت... ) (سير أعلام النبلاء ٤: ١٠٣)

وقال المامقاني: (... وقد ذكر المؤرِّخون أنّه ممّن شهِد على حجر بن عدي الكندي بالكفر والخروج عن الطاعة، وكتب زياد شهادته إلى معاوية مع سائر الشهود، وأراد أمير المؤمنين عليه‌السلام عزله فلم يتيسَّر له؛ لأنّ أهل الكوفة قالوا: لا تعزله؛ لأنّه منصوب من قِبل عمر، وبايعناك على أن لا تُغيّر شيئاً قرّره أبو بكر وعمر... وقد أساء الأدب مع أمير المؤمنين في مقامات، مثل طلبه البيّنة منه عليه‌السلام على درع طلحة، وصياحه وا سنّة عُمَراه! عند نهيه عن صلاة التراويح، إلى غير ذلك ممّا تُغني شهرته عن =

١٨٤

____________________

= النقل ) (تنقيح المقال، ٢: ٨٣).

( وروى الطبري عن أبي مخنف ( أنّ الناس قالوا للمختار: اجعل شريحاً قاضياً. فسمع الشيعة يقولون: إنّه عثماني، وإنّه ممّن شهِد على حُجر، وإنّه لم يُبلّغ عن هاني ما أرسله به، وإنّ علياً عليه‌السلام عزله عن القضاء ) (تاريخ الطبري، ٦: ٣٤).

روى في الحلية عن إبراهيم بن زيد التميمي، عن أبيه، قال: وجد علي عليه‌السلام درعاً له عند يهودي التقطها، فعرفها، فقال:( درعي سقطت عن جَمل لي أورَق ) . فقال اليهودي: درعي وفي يدي! ثمّ قال اليهودي: بيني وبينك قاضي المسلمين. فأتوا شريحاً ( إلى أن قال: ) فقال شُريح لعلي عليه‌السلام : صدقت، ولكن لابدّ من شاهدين، فدعا قنبراً مولاه والحسن، وشهدا أنَّه درعه، فقال شريح: أمّا شهادة مولاك، فقد أجزناها، وأمّا شهادة ابنك لك فلا نُجيزها! فقال:( ثكلتك أمّك! أفلا تُجيز شهادة سيد شباب أهل الجنّة به! والله، لأوجِهنّك إلى بانقيا تقضي بين أهلها أربعين يوماً ) . ثمّ قال عليه‌السلام لليهودي:( خُذْ الدرع ) . فقال اليهودي: أمير المؤمنين جاء معي إلى قاضي المسلمين فقضى عليه ورضي! صدقت والله، إنّها لدرعك، سقطت لك عن جَمل، التقطتها، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأنّ محمداً رسوله. فوهبها له عليٌّ عليه‌السلام وأجازه بتسع مئة، وقُتِلَ في يوم صِفّين ) (راجع حلية الاولياء، ٤: ١٣٩ وقاموس الرجال، ٥: ٤٠٨).

وروى الشيخ الصدوق (قدّس سرّه): ( أنّ علياً عليه‌السلام كان في مسجد الكوفة، فمرّ به عبد اللّه بن فضل التميمي، ومعه درع طلحة فقال عليه‌السلام :( هذه درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة ) . فقال: اجعل بيني وبينك قاضيك! فقال شريح له عليه‌السلام : هات بيّنة! فأتاه بالحسن عليه‌السلام فقال: هذا واحد ولا أقضي بشاهد حتى يكون معه آخر، فأتى عليه‌السلام بقنبر، فقال: هذا مملوك ولا أقضي بشهادة المملوك!فغضب عليه‌السلام ، وقال: ( خذوا الدرع! فإنّ هذا قضى بجَوْر ثلاث مرّات! ) . فقال شريح: من أين؟!قال: ( قلتُ لك: إنّها درع طلحة أُخذت غلولاً يوم البصرة. فقلت: هاتِ بيّنة، وقد قال النبيُّ: ( حيثما وجد غلول أُخذت بغير بيّنة )، ثمّ أتيتك بالحسن فقلت: لا أقضي حتى يكون معه آخر، وقد قضى النبي بشاهد ويمين، ثمّ أتيتك بقنبر فقلت: هذا مملوك، وما بأسٌ بشهادة المملوك إذا كان عدلاً؟! ) . ثمّ قال: ( يا شُريح، إنّ إمام المسلمين يؤتَمن في أمورهم على ما هو أعظم من هذا ) (مَن لا يحضره الفقيه، ٣: ٦٣).

قال المجلسي الأوّل بعد نقل هذه الرواية: ( فتحوّل شُريح عن مجلسه وقال: لا أقضي بين =

١٨٥

أُريد حياته ويُريد قتلي

عَذيرك من خليلك من مُراد

وقد كان أوّل ما قدم مُكرِماً له مُلطفاً، فقال له هاني: وما ذاك أيُّها الأمير؟!

قال: إيهٍ يا هاني بن عروة! ما هذه الأمور التي تربّص في دارك لأمير المؤمنين وعامّة المسلمين؟ جئت بمسلم بن عقيل، فأدخلته دارك وجمعت له السلاح والرجال في الدور حولك، وظننت أنّ ذلك يخفى عليَّ؟!

قال: ما فعلت ذلك، وما مسلم عندي.

قال: بلى قد فعلت.

فلمّا كثر ذلك بينهما وأبى هاني إلاّ مُجاحدته ومُناكرته، دعا ابن زياد معقلاً ذلك العَين، فجاء حتى وقف بين يديه فقال: أتعرف هذا؟

قال: نعم! وعلم هاني عند ذلك أنّه كان عيناً عليهم، وأنّه قد أتاه بأخبارهم، فأُسقط في يده ساعة، ثمّ راجعَته نفسه.

فقال: اسمع منّي وصدّق مقالتي، فو الله، لا كَذَبت، والله، ما دعوته إلى منزلي، ولا علمت بشيء من أمره، حتّى جاءني يسألني النزول فاستحييتُ من ردّه، ودخلني من ذلك ذمام فضيّفته وآويته، وقد كان من أمره ما بلغك، فإن شئت أن

____________________

= اثنين حتى تُخبرني من أين قضيتُ بجَورٍ ثلاث مرّات؟! ).

قال المجلسي: أمّا تحوّل شريح عن مجلسه، فيدلُّ على كفره، كما هو ظاهرٌ من ردّ قول المعصوم مُستخفّاً. (روضة المتقين، ٦: ٢٦١).

١٨٦

أُعطيك الآن موثقاً مُغلّظاً ألاّ أبغيك سوءاً ولا غائلة، ولآتينّك حتّى أضع يدي في يدك، وإنْ شئت أعطيتك رهينة تكون في يدك حتى آتيك، وأنطلق إليه فآمره أن يخرج من داري إلى حيث شاء من الأرض، فأخرُج من ذمامه وجواره!

فقال له ابن زياد: والله، لا تُفارقني أبداً حتّى تأتيني به.

قال: لا والله، لا أجيئك به أبداً، أجيئك بضيفي تقتله؟!

قال: والله، لتأتينّي به.

قال: لا والله، لا آتيك به.

فلمّا كثر الكلام بينهما قام مسلم بن عمرو الباهلي - وليس بالكوفة شامي ولا بصري غيره - فقال: أصلح الله الأمير، خلّني وإيّاه حتى أكلّمه.

فقام فخلا به ناحية من ابن زياد، وهما منه بحيث يراهما، فإذا رفعا أصواتهما سمع ما يقولان. فقال له مسلم: يا هاني، أنشدك الله أن تقتل نفسك، وأن تدخل البلاء في عشيرتك، فو الله، إنّي لأنفس بك عن القتل، إنّ هذا الرجل ابن عمّ القوم، وليسوا قاتليه ولا ضائريه، فادفعه إليهم؛ فإنّه ليس عليك بذلك مخزاة ولا منقصة، إنّما تدفعه إلى السلطان!

فقال هاني: واللهِ، إنّ عليَّ في ذلك الخزي والعار أن أدفع جاري وضيفي وأنا حيٌّ صحيح، أسمع وأرى، شديد الساعد كثير الأعوان، والله، لو لم أكن إلاّ واحداً ليس لي ناصر لم أدفعه حتّى أموت دونه! فأخذ يُناشده وهو يقول: والله، لا أدفعه إليه أبداً!

فسمع ابن زياد ذلك، فقال: اُدنوه منِّي.

١٨٧

فأدنوه منه، فقال: والله، لتأتينّي به أو لأضربنّ عنقك!

فقال هاني: إذنْ، لكثُر البارقة حول دارك!

فقال ابن زياد: وا لهفاه عليك! أبالبارقة تخوّفني؟! - وهو يظنّ أنّ عشيرته سيمنعونه - ثمّ قال: اُدنوه منّي.

فأُدني منه، فاعترض وجهه بالقضيب، فلم يزل يضرب به أنفه وجبينه وخدَّه، حتى كسر أنفه وسالت الدماء على وجهه ولحيته، ونثر لحم جبينه وخدِّه على لحيته، حتى كُسر القضيب، وضرب هاني يده إلى قائم سيف شرطيّ، وجاذبه الرجل ومنعه.

فقال عبيد الله: أحروريّ ساير اليوم؟! قد حلّ لنا دمك، جرّوه!! فجرّوه، فألقوه في بيت من بيوت الدار وأغلقوا عليه بابه.

فقال: اجعلوا عليه حرساً. ففُعِل ذلك به »(١) .

أعوان السلطة.. والخُدعة المشتركة!

في قصّة حبس هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه هناك دَور مُريب لعمرو بن الحجّاج الزبيدي، الذي تفانى في امتثال أوامر ابن زياد وابن سعد في كربلاء، مع أنّ هانياً كان صهراً له! فالرواية التاريخية التي قصّت علينا واقعة حبس هاني، ذكرت أنّ عمرو بن الحجّاج كان أحد الذين أتوا هانياً إلى باب منزله وألحّوا عليه بإتيان عبيد الله، فالظاهر أنّه شهِد ما جرى على هاني في لقائه مع عبيد الله، لكنّ سياقها بعد ذلك يُلفتُ الانتباه؛ حيث تقول: « وبلغ عمرو بن الحجّاج أنّ هانياً قد قُتِل، فأقبل في

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٩.

١٨٨

مذحج حتى أحاط بالقصر ومعه جمع عظيم، ثمّ نادى: أنا عمرو بن الحجّاج، وهذه فرسان مذحج ووجوهها لم نخلع طاعة ولم نُفارق جماعة، وقد بلغهم أنّ صاحبهم قُتل فأعظموا ذلك.

فقيل لعبيد الله بن زياد: هذه مذحج بالباب!

فقال لشُريح القاضي: ادخل على صاحبهم فانظر إليه، ثمّ اخرج وأعلمهم أنّه حيّ لم يُقتل! فدخل شُريح فنظر إليه، فقال هاني لما رأى شريحاً: يا لله! يا للمسلمين! أهلَكَت عشيرتي؟! أين أهل الدين؟! أين أهل المِصر؟! - والدماء تسيل على لحيته إذ سمع الرجّة على باب القصر - فقال: إنّي لأظنّها أصوات مُذحج وشيعتي من المسلمين، إنّه إن دخل عليَّ عشرة نفر أنقذوني! فلمّا سمع كلامه شُريح خرج إليهم فقال لهم: إنّ الأمير لما بلغه مكانكم ومقالتكم في صاحبكم أمرني بالدخول إليه، فأتيته فنظرت إليه، فأمرني أن ألقاكم وأُعرِّفكم أنّه حيّ، وأنّ الذي بلغكم من قتله باطل!

فقال له عمرو بن الحجّاج وأصحابه: أمّا إذا لم يُقتل فالحمد لله. ثمّ انصرفوا »(١) .

فإذا كان المتأمّل في هذا النصّ، لا يشكّ في الدَور الخياني الذي لعبه شُريح القاضي، في مُمارسته التورية؛ حيث أظهر لمذحج وكأنّ هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه هو الذي أمره بلقاء مذحج وأن يُعرّفهم بأنّه حيّ لا بأس عليه، فإنّ المتأمّل ليشكّ كثيراً في نزاهة الدور الذي لعبه عمرو بن الحجّاج، الذي ربّما كان قد شهِد ما فعله ابن زياد بهاني في القصر، حسب ما يُستفاد من السياق الأوّل للرواية.

____________________

(١) الإرشاد: ٢١٠.

١٨٩

متى خرج عمرو بن الحجّاج من القصر؟!

وكيف تصدّى لقيادة مذحج وأتى بجموعها في وقت قصير نسبيّاً؟! ولماذا اكتفى بقول شُريح ولم يدخل - وهو من المقرّبين لابن زياد - ليرى بنفسه هانياً وحقيقة ما جرى عليه داخل القصر؟!

إنّ استمرار ولاء عمرو بن الحجّاج الزبيدي لابن زياد، حتى بعد مقتل هاني بن عروةرضي‌الله‌عنه ؛ ليُقوِّي الريب في أنّ هذا الرجل كان قد تعمّد التصدّي لجموع مذحج، التي أقبلت إلى القصر مُعترضة على حبس هاني، ليركب موجتها ثمّ ليخدعها وليصرفها عن إخراج هاني من القصر بقوّة السلاح، مُتواطئاً في ذلك مع عبيد الله بن زياد وشُريح القاضي في تنفيذ الخدعة المشتركة لتضليل مذحج.

تسخير الأشراف لتخذيل الناس عن مسلم عليه‌السلام :

لما علم مولانا مسلم بن عقيلعليه‌السلام باعتقال هاني قام في الكوفة على ابن زياد، وأعلن عن بدء الثورة، وحاصر القصر بجموع مَن اتَّبعه من أهل الكوفة، أغلق ابن زياد أبواب القصر عليه وعلى مَن كان معه في القصر، من أشراف الناس ومن شرطته وأهل بيته ومواليه، وقبع فيه خائفاً يأكل قلبه الرعب، وأبى من الجبن أن يخرج بمَن معه لمواجهة قوّات مسلمعليه‌السلام .

يقول الطبري: « فلمّا اجتمع عند عبيد الله كثير بن شهاب ومحمد «أي ابن الأشعث» والقعقاع فيمَن أطاعهم من قومهم، فقال له كثير - وكانوا مُناصحين لابن زياد -: أصلح الله الأمير! معك في القصر ناس كثير من أشراف الناس، ومن شُرطك، وأهل بيتك، ومواليك، فاخرج بنا إليهم. فأبى عبيد الله... »(١) .

لكنّ عبيد الله - في ساعات خوفه - لجأ إلى تسخير الأشراف الذين كانوا معه في القصر، وأمرهم بتخذيل الناس عن مسلم.

يقول التاريخ: « فبعث عبيد الله إلى

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٨٧.

١٩٠

الأشراف فجمعهم إليه، ثمّ قال: أشرفوا على الناس، فمنّوا أهل الطاعة الزيادة والكرامة، وخوّفوا أهل المعصية الحرمان والعقوبة، وأعلموهم فصول الجنود من الشام إليهم »(١) .

يقول شاهد عَيان كان مع الناس خارج القصر - وهو عبد الله بن حازم الكبري من الأزد من بني كبير -: « أشرف علينا الأشراف، فتكلّم كثير بن شهاب أوّل الناس، حتى كادت الشمس أن تجب، فقال: أيُّها الناس، الحقوا بأهاليكم! ولا تعجلوا الشرّ! ولا تُعرِّضوا أنفسكم للقتل؛ فإنّ هذه جنود أمير المؤمنين يزيد قد أقبلت، وقد أعطى الله الأميرُ عهداً، لئن أتممتم على حربه ولم تنصرفوا من عشيّتكم أن يحرم ذرّيتكم العطاء، ويُفرّق مقاتلتكم في مغازي أهل الشام على غير طمع، وأن يأخذ البريء بالسقيم، والشاهد بالغائب، حتى لا يبقى له فيكم بقيّة من أهل المعصية إلاّ أذاقها وبال ما جرّت أيديها.

وتكلّم الأشراف بنحو من كلام هذا، فلمّا سمع مقالتهم الناس، أخذوا يتفرّقون وأخذوا ينصرفون »(٢) .

تفتيش دور الكوفة بحثاً عن مسلم عليه‌السلام :

وبعد أن آل أمر مولانا مسلم بن عقيلعليه‌السلام إلى أن يبقى وحيداً مُتخفّياً، قد تفرّقت عنه جموع مَن كانوا معه من أهل الكوفة، وبعد أن اطمأنّ عبيد الله بن زياد إلى أنّ القوم قد تفرّقوا، وأنّ المسجد قد خلا تماماً من أنصار مسلمعليه‌السلام ، عمد « ففتح باب السدّة التي في المسجد، ثمّ خرج فصعد المنبر وخرج أصحابه معه، فأمرهم فجلسوا قُبيل العُتمة، وأمر عمرو بن نافع فنادى: ألا برئت الذمّة من رجل من الشُرَط والعُرفاء والمناكب أو المقاتلة، صلّى العُتمة إلاّ في المسجد. فلم يكن إلاّ

____________________

(١) تاريخ الطبري،: ٢٨٧.

(٢) نفس المصدر.

١٩١

ساعة حتى امتلأ المسجد من الناس، ثمّ أمر مُناديه فأقام الصلاة، وأقام الحرس خلفه وأمرهم بحراسته من أن يدخل عليه أحدٌ يغتاله، وصلّى بالناس، ثمّ صعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّ ابن عقيل.. قد أتى ما قد رأيتم من الخلاف والشقاق، فبرئت ذمّة الله من رجل وجدناه في داره، ومَن جاء به فله ديّته، اتّقوا الله عباد الله، والزموا طاعتكم وبيعتكم، ولا تجعلوا على أنفسكم سبيلاً.

يا حصين بن نمير، ثكلتك أمّك إن ضاع باب سكّة من سكك الكوفة، أو خرج هذا الرجل ولم تأتني به، وقد سلّطتك على دور أهل الكوفة، فابعث مراصد على أهل السكك، وأصبح غداً فاستبرئ الدور وجِس خلالها، حتى تأتيني بهذا الرجل... »(١) .

تجميد الثغور وتوجيه عساكرها إلى حرب الحسين عليه‌السلام :

ومن الإجراءات المهمّة والخطيرة التي اتّخذها ابن زياد، تجميده حركة عدد كبير من الجيوش المتوجّهة نحو الحدود لتُرابط فيها؛ ليُعبّئها تحضيراً لحرب الإمام الحسينعليه‌السلام .

يروي الطبري: « عن شهاب بن خراش، عن رجل من قومه: كنتُ في الجيش الذي بعثهم ابن زياد إلى حسين، وكانوا أربعة آلاف يُريدون الديلم، فصرفهم عبيد الله إلى حسين »(٢) .

____________________

(١) الإرشاد: ٢١٣، والأخبار الطوال: ٢٤٠.

(٢) تاريخ دمشق، ١٤: ٢١٥.

١٩٢

حركة السُّلطة الأُمويّة المحلّية في مكّة المكّرمة:

قَلقُ الوالي من تواجد الإمام عليه‌السلام في مكّة:

ذُعِر عمرو بن سعيد بن العاص«الأشدق» (١) والي مكّة آنذاك من دخول الإمام

____________________

(١) عُرِف هذا الجبّار الأمويّ بنصبه وبُغضه الشديد لأمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام وكثرة شتمه إيّاه، ولُقّب بالأشدق لأنّه أصابه اعوجاج في حلقه لإغراقه في الشتم! (راجع: مُعجم الشعراء: ٢٣١).

لقد كان عمرو بن سعيد الأشدق شديد التعصّب لأُمويّته، شديد البُغض لبني هاشم عامة ولأهل البيتعليهم‌السلام خاصة، وكان فظّاً غليظاً، جبّاراً مُتكبّراً، لا يُبالي ولا يستحي من قلب الحقائق وادّعاء ما ليس أهلاً له، ومن خُطبه - التي كشف منها عن اعتزازه بجاهليّته وأُمويّته وبُغضه لأهل البيتعليهم‌السلام ، وفظاظته وغلظته وتجبُّره - ما رواه لنا ابن عبد ربّه الأندلسي عن العتبي قال:

( استعمل سعيد بن العاص وهو والٍ على المدينة، ابنه عمرو بن سعيد والياً على مكّة، فلمّا قدم لم يلقه قرشيٌّ ولا أُموي إلاّ أن يكون الحارث بن نوفل. فلمّا لقيه قال: لِمَ يا حارِ؟! ما الذي منع قومك أن يلقوني كما لقيتني؟!

قال: ما منعهم من ذلك إلاّ ما استقبلتني به! والله، ما كنّيتني ولا أتممتَ اسمي! وإنّما أنهاك عن التكبّر على أكفَّائك؛ فإنّ ذلك لا يرفعك عليهم ولا يضعهم لك.

قال: والله، ما أسأت الموعظة ولا أتّهمك على النصيحة، وإنّ الذي رأيت منّي لخُلق!!

فلمّا دخل مكّة قام على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، مَعشر أهل مكّة، فإنّا سكنّاها حُقبةً، وخرجنا عنها رغبةً، وكذلك كنّا إذا رُفعت لنا لهوة - عطيّة - بعد لهوة، أخذنا أسناها ونزلنا أعلاها، ثمّ شَدَخ أمرٌ بين أمرين فقتلنا وقُتلنا، فو اللهِ، ما نُزعنا ولا نُزع عنّا، حتى شرب الدم دماً، وأكل اللحم لحماً، وقرع العظم عظماً، فَوَلي رسول الله برسالة الله إيّاه، واختياره له.

ثمّ ولي أبو بكر لسابقته وفضله، ثمّ ولي عمر، ثمّ أُجيلت قداح نُزعن من شُعب حول نبعة، ففاز بحظِّها أصلبها وأعنفها، فكنّا بعض قداحها، ثمّ شَدَخ أمرٌ بين أمرين، فقتلنا وقُتلنا، فو اللهِ، ما نُزعنا ولا نُزع عنّا حتى شرب الدم دماً، وأكل اللحم لحماً وقرَعَ العظم عظماً، وعاد الحرام حلالاً، وأسكت كلُّ ذي حسٍّ عن ضرب مُهنّد، عَرْكاً عَرْكاً، وعسفاً عسفاً ووخزاً ونهساً، حتى طابوا عن حقّنا نفساً، واللهِ، ما أعطوه عن هوادة، ولا رضوا فيه بالقضاء، أصبحوا يقولون: حَقُنا غُلبنا عليه! فجزَينا هذا بهذا وهذا في هذا! =

١٩٣

الحسين عليه‌السلام مكّة المكرّمة ومن تواجده فيها، ومن تقاطر الوفود عليه والتفاف الناس حوله، فلم يُطِق الوالي صبراً، ولم يجد بُدَّاً من أن يسأل الإمام عليه‌السلام عن سِرّ قدومه إلى مكّة، « فقال له عمرو بن سعيد: ما إقدامك؟!

فقال:( عائذاً بالله وبهذا البيت! ) (١) .

وفي جواب الإمامعليه‌السلام دلالة قاطعة، على أنّ السلطة الأُمويّة كانت قد أرادت بالإمامعليه‌السلام سوءاً في المدينة المنوّرة، كأن تفرض عليه الإقامة الجبرية مثلاً، أو تغتاله، أو تُلقي عليه القبض، فتدفع به إلى يزيد؛ ولذا فقد خرج منها خائفاً يترقّب، وقد أشرنا من قبل إلى أنّ خوفه على نفسه، وإن كان سبباً في خروجه منها، إلاّ أنّه يقع في طول السبب الأهمّ؛ وهو خوفه على ثورته من أن تؤسَر في حدود المدينة، أو تُخمد في مهدها قبل اندلاعها، فلا تصلُ إشعاعاتها المباركة إلى حيث أرادعليه‌السلام . هذا فضلاً عن حرصهعليه‌السلام ألاّ تُهتك حُرمة حَرم الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله بقتله.

____________________

= يا أهل مكّة، أنفسكم أنفسكم، وسفهاءكم سفهاءكم، فإنّ معي سوطاً نكالاً، وسيفاً وبالاً، وكلّ مصبوب على أهله. ثمّ نزل ). (العقد الفريد، ٤: ١٣٤).

وكان هذا الأشدق من جملة أولئك الذين أظهروا ولاءهم ليزيد في حياة أبيه معاوية، وهذا بلا شكّ من جملة الأسباب التي أبقت هذا الأشدق والياً على مكّة حتى بعد موت معاوية، بل أضاف إليه يزيد الولاية على المدينة بعد عزل الوليد بن عتبة. تقول رواية تاريخية: ( لما عقد معاوية ليزيد البيعة قام الناس يخطبون، فقال لعمرو بن سعيد: قم يا أبا أُميّة. فقام، فحمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: أمّا بعدُ، فإنّ يزيد بن معاوية أملٌ تأملونه وأجل تأمنونه، إن استضفتم إلى حِلمه وَسِعكم، وإن احتجتم إلى رأيه أرشدكم، وإن افتقرتم إلى ذات يده أغناكم جَذَع قارح، سُوبق فَسَبق، ومُوجِد فَمَجد، وقورِع فقرع، فهو خَلف أمير المؤمنين ولا خَلَف منه.

فقال له معاوية: أوسعت أبا أميّة فاجلس ). (العقد الفريد، ٤: ١٣٢).

(١) تذكرة الخواص: ٢١٤.

١٩٤

سفر الأشدق إلى المدينة المنوّرة وتهديده أهلها:

تتحدَّث روايات تاريخية عديدة، عن قدوم عمرو بن سعيد الأشدق إلى المدينة المنوّرة في شهر رمضان، سنة ستّين للهجرة، والظاهر أنّ سفر هذا الطاغية إلى المدينة كان بعد عزل الوليد بن عتبة عن منصب الولاية عليها في شهر رمضان نفسه، والأظهر أنّ سفر هذا الطاغية الأمويّ إلى المدينة كان من مكّة إليها؛ لأنّ جُلّ المؤرّخين ذكروا أنّه كان والياً على مكّة عند موت معاوية، وأُضيفت إليه ولاية المدينة بعد عزل الوليد عنها.

و« قدم عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق المدينة أميراً، فخرج إلى منبر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فقعد عليه وغمّض عينيه، وعليه جُبّة خَزّ قرمز، ومُطرَف خزّ قرمز، وعمامة خزّ قرمز، فجعل أهل المدينة ينظرون إلى ثيابه إعجاباً بها، ففتح عينيه، فإذا الناس ينظرون إليه، فقال: ما بالكم يا أهل المدينة؟! ترفعون إليَّ أبصاركم، كأنّكم تُريدون أن تضربونا بسيوفكم! أغرّكم أنّكم فعلتم ما فعلتم فعفونا عنكم! أما إنّه لو أُثبتُم بالأُولى ما كانت الثانية! أغرّكم أنّكم قتلتم عثمان فوافقتم ثائرنا منّا رفيقاً، قد فَني غضبه، وبَقي حِلمه! اغتنموا أنفسكم، فقد - والله - ملكناكم بالشباب المقتبَل، البعيد الأمل، الطويل الأجل، حين فرغ من الصغر، ودخل في الكبر، حليمٌ حديدٌ، ليّن شديد، رقيق كثيف، رفيق عنيفٌ، حين اشتدّ عَظْمهُ، واعتدل جسمه، ورقى الدهرَ ببصره، واستقبله بأسره، فهو إن عضَّ نهس، وإن سطا فرس لا يُقلقل له الحصى، ولا تُقرَع له العصا، ولا يَمشي السُّمَهى. قال: فما بقيَ «أي يزيد» بعد ذلك إلاّ ثلاث سنين وثمانية أشهُر حتى قصمه الله! »(١) .

« وعرض في خطابه لابن الزبير فقال: فو الله، لنغزونّه، ثمّ لئن دخل الكعبة

____________________

(١) العقد الفريد، ٤: ١٣٢.

١٩٥

لنُحرقنّها عليه، على رغم أنف مَن رغم..

ورعف الطاغية على المنبر، فألقى إليه رجل عمامة، فمسح بها دمَه، فقال رجل من خثعم: دم على المنبر في عمامة! فتنة عمّت وعلا ذكرها، وربِّ الكعبة! »(١) ، وقد أُثر عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال:( ليرعفنّ على منبري جبّار من جبابرة بني أُميّة، فيسيل رعافه! ) »(٢) .

وقال ابن عبد ربّه الأندلسي: « قدم عمرو بن سعيد أميراً على المدينة والموسم، وعزل الوليد، فلمّا استوى على المنبر رعف، فقال أعرابي: مَهْ! جاءنا بالدم!

فتلقّاه رجل بعمامته، فقال: مَهْ! عمَّ الناسَ، واللهِ!

ثمّ قام فخطب فناولوه عصا لها شُعبتان، فقال: تشعّبَ، واللهِ... »(٣) .

والملفتُ للانتباه هنا، هو أنّ الأشدق في هذه الخطبة بعد تهديده أهل المدينة وإرعابهم(٤) ، وتذكيرهم بِتِرَةِ دم عثمان الذي قتله الصحابة(٥) ، وبعد مدحه يزيد وثنائه عليه وتحذير أهل المدينة من بأسه، نراه لا يتطرّق بشيء إلى قضية الإمام

____________________

(١) حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ٢: ٣١٦ - ٣١٧ ; وقد أخذ متن الخُطبة عن تأريخ الإسلام للذهبي، ٢: ٢٦٨، وقصّة الرعاف عن سمط النجوم العوالي، ٣: ٥٧.

(٢) مجمع الزوائد، ٥: ٢٤٠.

(٣) العقد الفريد، ٤: ٣٧٦.

(٤) حيث ضرب عبيد الله بن أبي رافع مئتي سوط، ثمّ شفع فيه أخوه. (راجع: المعارف: ١٤٥)، و( ذكر محمّد بن عمر، أنّ عمرو بن سعيد بن العاص الأشدق قدم المدينة في رمضان سنة ستّين، فدخل عليه أهل المدينة، فدخلوا على رجل عظيم الكبر... فأرسل إلى نفر من أهل المدينة فضربهم ضرباً شديداً! ) (تاريخ الطبري، ٣: ٢٧٢).

(٥) أورد الشيخ الأميني في كتابه الغدير، ٩:١٩٥ - ١٦٣، قائمة بأسماء ستّين صحابيّاً شاركوا في قتل عثمان.

١٩٦

الحسين عليه‌السلام بصورة مُباشرة، وإن كان تهديده أهل المدينة كاشفاً عن خوفه من تأييد أهل المدينة للإمام عليه‌السلام خاصة ولكل مُعارض عامة؛ ولعلّ سبب عدم تعرّضه مُباشرة لقضية الإمام عليه‌السلام هو معرفته بمكانة الإمام عليه‌السلام وقُدسيته في قلوب الأمّة، فهو يخشى أن يُهيّج قلوب الناس على السلطة الأُموية بما يدفع الناس عملياً نحو الالتفاف حول الإمام عليه‌السلام .

ثمّ نرى الأشدق يُعلن صراحة عن عزم السلطة على قتل ابن الزبير، ولعلّ علمه بأنّ ابن الزبير لا يتمتّع بمكانة ومنزلة خاصة في قلوب الناس هو الذي جرّأه على تلك الصراحة، لكنّنا نجد هذا الجبّار الأُموي لا يتورّع عن سحق مشاعر الأمّة في إجلالها لحُرمة الكعبة، حين يُهدّد بإحراقها على رغم أنف مَن رغم! وفي هذا مؤشر واضح على الدرجة الخطيرة، التي بلغها مرض الشلل النفسي والروحي في كيان الأمّة، حيث تسمع مثل هذا التحدّي لمشاعرها في مُقدّساتها ولا تثور على مثل هذا الجبّار العنيد!

تنفيذ أمر يزيد باعتقال الإمام عليه‌السلام أو اغتياله في مكّة:

قلنا - فيما مضى في مُتابعتنا لحركة السلطة الأُموية المركزية في الشام تحت عنوان «التخطيط لاغتيال الإمامعليه‌السلام أو اعتقاله في مكّة» -: إنّ هذه الخطّة من المسلّمات التاريخية، التي يكاد يُجمع على أصلها المؤرّخون، وقدّمنا هناك مجموعة كافية من الدلائل التاريخية على وجود هذه الخطّة، التي كانت السبب الصريح لمبادرة الإمامعليه‌السلام إلى الخروج من مكّة يوم التروية، كما هو المشهور والصحيح، إضافة إلى الأسباب الأُخرى الداعية إلى مُبادرة الخروج، والتي تقع في طول ذلك السبب الصريح.

ويُهمّنا هنا، في متابعتنا لحركة السلطة الأُموية المحلّية في مكّة المكرّمة، أن نتعرّف على حدود مسؤولية هذه السلطة المحلِّية في تنفيذ خطّة السلطة المركزية لاغتيال الإمامعليه‌السلام ، أو إلقاء القبض عليه في مكّة المكرّمة.

١٩٧

إنّ المتأمّل في النصوص الواردة عن الإمامعليه‌السلام نفسه في هذا الصدد، يرى أنّهعليه‌السلام يُلقي بمسؤولية هذه الخطّة على النظام الأُموي ككلّ، وينسب هذه المسؤولية صراحة إلى يزيد، كما في قوله لأخيه محمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه :( يا أخي، قد خفت أن يغتالني يزيد بن معاوية بالحرم؛ فأكون الذي يُستباح به حُرمة هذا البيت ) (١) ، وفي قولهعليه‌السلام للفرزدق:( لو لم أُعجِّل لأُخذتُ ) (٢) .

وفي قولهعليه‌السلام لابن الزبير:( لأن أُقتل خارجاً منها بشِبرين أحبُّ إليّ من أن أُقتل خارجاً منها بشبر، وأيمُ الله، لو كنت في جُحر هامّة من هذه الهوامّ لاستخرجوني حتى يقضوا بي حاجتهم! ) (٣) .

لكنّ متوناً تاريخية أُخرى تُصرِّح، بأنّ المكلّف بتنفيذ هذه الخطّة والإشراف عليها في مكّة، هو واليها عمرو بن سعيد بن العاص «الأشدق»، يقول الطريحي في تعليله لعدم أداء الإمامعليه‌السلام مناسك الحج تلك السنة: «... وذلك لأنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر عظيم، وولاّه أمر الموسم، وأمّره على الحاجّ كلّه، وكان قد أوصاه بقبض الحسين سِرّاً، وإن لم يتمكّن منه يقتله غيلة. ثمَّ إنّه لعنه الله دسّ مع الحجّاج في تلك السنة ثلاثين رجلاً من شياطين بني أميّة، وأمرهم بقتل الحسين على كلّ حال اتّفق... »(٤) .

ومن قبله كان السيّد ابن طاووس (قدس سره) قد أشار إلى ذلك قائلاً: « فلمّا كان يوم التروية، قدم عمر بن سعد بن أبي وقاص إلى مكّة في جُند كثيف، قد أمره يزيد أن

____________________

(١) اللهوف: ١٢٨.

(٢) الإرشاد: ٢٠١.

(٣) نور الأبصار: ٢٥٨.

(٤) المنتخب: ٢٤٣، والبحار، ٤٥: ٩٩.

١٩٨

يُناجز الحسين القتال إن هو ناجزه، أو يُقاتله إن قدر عليه، فخرج الحسين يوم التروية »(١) .

ولا شكّ أنّ تصحيفاً وقع من سهو النُّسَّاخ في بعض نُسخ كتاب السيّد ابن طاووس (قدس سره)، حيث ورد فيه اسم «عمر بن سعد بن أبي وقّاص» بدلاً من «عمرو بن سعيد بن العاص»؛ ذلك لأنّ الثابت والمشهور تاريخياً أنّ عمر بن سعد كان في الكوفة في الأيّام التي كان فيها الإمامعليه‌السلام في مكّة(٢) .

ويذكر السيّد المقرّم (ره): « أنّ يزيد أنفذ عمرو بن سعيد بن العاص في عسكر، وأمّره على الحاج، وولاّه أمر الموسم، وأوصاه بالفتك بالحسين أينما وجِد... »(٣) .

ممّا مرّ يتّضح أنّ والي مكّة آنذاك - عمرو بن سعيد بن العاص «الأشدق» - كان مأموراً بتنفيذ خطّة اغتيال الإمامعليه‌السلام ، أو إلقاء القبض عليه في مكّة سرّاً، أو في مواجهة عسكرية علنيّة.

لكنّ لنا تحفّظاً على هذه المتون في نقطتين هما:

١) - أنّ المستفاد من متون تاريخية أُخرى، هو أنّ عمرو الأشدق كان في مكّة

____________________

(١) اللهوف: ١٢٧.

(٢) كان عمر بن سعد في الكوفة في الأيّام التي كان فيها مسلم بن عقيل عليه‌السلام ، منذ كان النعمان بن بشير والياً عليها؛ لأنّه أحد الذين كتبوا إلى يزيد حول ضعف النعمان ليستبدله بوالٍ غيره، وبقي عمر في الكوفة إلى يوم التروية وما بعده؛ لأنّه كان في مجلس عبيد الله حينما جيء بمسلم عليه‌السلام أسيراً، وقد أوصى إليه مسلم عليه‌السلام لكنّه خان الوصية، فالثابت أنّ عمر كان في القصر ساعة مقتل مسلم عليه‌السلام .

(٣) مقتل الحسين عليه‌السلام للمقرّم: ١٦٥.

١٩٩

منذ أوّل يوم دخل إليها الإمام الحسين عليه‌السلام (١) ، وقد كان هذا الأشدق والياً على مكّة منذ أيّام معاوية، وعلى هذا جُلّ المؤرّخين. ولم نعثر على نصّ تأريخي يُفيد أنّ الأشدق سافر إلى الشام ثمّ عاد إلى مكّة في المدّة التي كان الإمام عليه‌السلام فيها بمكّة.

ولذا؛ فإنّ ما ورد في نصّ الطريحي: أنّ « يزيد أنفذ عمرو » يحمل على معنى أنّ يزيد أمر عمرو، وما ورد في نصّ ابن طاووس: أنّ عمرو قدم إلى مكّة يوم التروية. قد يُحمل على عودته من المدينة إلى مكّة بعد أن سافر إليها لإرعاب أهلها.

ومع هذا؛ فإنّ من المستبعد جدّاً، أن يعود الأشدق إلى مكّة يوم التروية ويتركها أياماً طويلة والإمامعليه‌السلام فيها، ووفود الناس تُقبل عليه وتلتفّ حوله!

٢) - ورد في بعض هذه المتون أنّ يزيد أنفذ الأشدق في عسكر عظيم، أو في جُند كثيف.

لكنّ المستفاد من دلائل تاريخية أُخرى، هو أنّ والي مكّة الأشدق لم تكن لديه تلك القوّة العسكرية المبالغ فيها، بل كان لديه جماعة من الجُند والشرطة، قد تكفي لضبط الأمور الإدارية داخل مكّة، ولتنظيم حركة الحجيج آنذاك وحراسة السلطان فقط، وسنأتي على ذكر بعض هذه الدلائل التاريخية لاحقاً، في مُتابعتنا لمحاولة عمرو بن سعيد الأشدق منع الإمامعليه‌السلام من الخروج عن مكّة.

ويؤكّد صحّة ما نراه: أنّ الأشدق لم يُحقِّق ما أُمِر به من إلقاء القبض على الإمامعليه‌السلام داخل مكّة، أو الفتك به سِرّاً، أو جهراً في مواجهة علنيّة!

ولعلّ قائلاً يقول: إنّ وجود الحماية الكافية التي كان الإمامعليه‌السلام يتمتّع بها حيثما حلّ في مكّة؛ كان السبب في عجز الأشدق عن تنفيذ ما أُمِر به!

ولا يخفى، أنّ هذا القول اعتراف ضمنيّ بعدم كفاية القوّة الأُمويّة!

____________________

(١) راجع مثلاً: تذكرة الخواص: ٢١٤.

٢٠٠