مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 195314
تحميل: 7520

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195314 / تحميل: 7520
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

أو يقول: إنّ عمرو بن سعيد الأشدق تحاشى الفتك بالإمامعليه‌السلام في مواجهة علنية؛ لأنّه يخشى من تفاقم الأمر على السلطة الأُمويّة؛ بسبب تواجد جموع الحجيج العامرة قلوبهم بحُبّ الإمامعليه‌السلام وتقديسه!

ولا يخفى، أنّ هذا القول صحيح، لو لم تكن هناك أوامر صريحة وصارمة من قِبل يزيد بضرورة تنفيذ المؤامرة، أو أنّ عمرو الأشدق لم يكن ذلك الطاغية الجبّار الأرعن، الذي لم يتورّع أمام أهل المدينة عن إعلان استعداده لحرق الكعبة، إذا تحصّن بها ابن الزبير رغم أنف مَن رغم! غير مُبالٍ بقداسة الكعبة وحُرمتها، ولا بمشاعر الأمّة!

ويؤيّد ما نراه أيضاً، ما ورد في نفس نصّ ابن طاووس (ره)، أنّ يزيد أمر الأشدق بمُناجزة الحسينعليه‌السلام «إن هو ناجزه!» أو يُقاتله «إن هو قدر عليه!»، وفي هذا إشعار كافٍ بخوف يزيد من عدم كفاية القوّة الأُموية، فأين - إذن - ذلك العسكر العظيم والجند الكثيف.

وينبغي التأكيد هنا: أنّ كلّ ما قدّمناه لا يُنافي كون أنّ هذه الخطّة والمؤامرة، كانت السبب الصريح في مُبادرة الإمامعليه‌السلام إلى الخروج من مكّة يوم التروية «قُبيل الشروع بمراسم الحج»؛ وذلك لأنّ أعوان السلطة وعملائها، قد يتمكَّنون من اغتيال الإمامعليه‌السلام أثناء الحجّ حيث يكون هو وأنصاره، وجميع الحجيج عُزّلاً من السلاح.

مُحاولة عمرو الأشدق لمنع الإمام عليه‌السلام من الخروج عن مكّة:

يُحدّثنا التأريخ عن أُسلوبين، سلكتهما السلطة الأمويّة المحليّة في مكّة لمنع الإمامعليه‌السلام من الخروج عن مكّة، أحدهما كان أُسلوباً سلميّاً، عرض فيه عمرو بن سعيد الأشدق الأمان والبِرِّ والصلة للإمامعليه‌السلام في رسالة وجَّهها إليه، والآخر كان

٢٠١

أُسلوباً قمعياً وعسكرياً، حيث تصدّت جماعة من جُند السلطة للركب الحسيني لمنع حركته في الخروج عن مكّة.

ويبدو أنّ الأسلوب الأوّل - أي أسلوب بذل الأمان والصلة - كان قبل الأسلوب القمعي، كما هي العادة في مثل هذه الوقائع.

تقول رواية تاريخية: إنّ الأشدق لما بلغه عزم الحسينعليه‌السلام على مُغادرة مكّة، بعث إليه رسالة ورد فيها: « إنّي أسأل الله أن يُلهمك رُشدك، وأن يصرفك عمّا يُرديك، بلغني أنَّك قد عزمت على الشخوص إلى العراق! وإنّي أُعيذك بالله من الشقاق، فإنّك إن كنت خائفاً فأقبل إليَّ، فلك عندي الأمان والبِرّ والصلة! »(١) .

قد يُستفاد من قوله: « بلغني أنّك قد عزمت على الشخوص... »، أنّ هذه الرسالة كتبها الأشدق والإمامعليه‌السلام في مكّة قبل شخوصه إلى العراق.

لكنّ قوله الآخر فيها: « فإنّك إن كنت خائفاً فأقبل إليّ »، مُشعر بأنّ الأشدق قد كتبها إلى الإمامعليه‌السلام ، وقد خرج بالفعل عن مكّة.

لكنّ رواية الطبري تُصرّح، بأنّ الأشدق بعث بهذه الرسالة إلى الإمامعليه‌السلام بعد خروجه، باقتراح من عبد الله بن جعفر، وأنّ الذي تولّى أمر كتابة هذه الرسالة بالفعل هو عبد الله بن جعفر، ثمّ ختمها الأشدق بختمه.

يقول الطبري: « وقام عبد الله بن جعفر إلى عمرو بن سعيد بن العاص فكلّمه، وقال: أكتبُ إلى الحسين كتاباً تجعل له فيه الأمان، وتمنّيه فيه البرّ والصلة، وتوثّق له في كتابك، وتسأله الرجوع، لعلّه يطمئن إلى ذلك فيرجع. فقال عمرو بن سعيد: اكتُبْ ما شئت واتني به حتى أختمه. فكتب عبد الله بن جعفر الكتاب(٢) ، ثمّ أتى به عمرو بن سعيد،

____________________

(١) البداية والنهاية، ٨: ١٦٥.

(٢) إنَّ العارف بشخصية عبد الله بن جعفررضي‌الله‌عنه وبسيرته وعلاقته ومعرفته بالإمام الحسين عليه‌السلام ، =

٢٠٢

فقال له: اختمه وابعث به مع أخيك يحيى بن سعيد؛ فإنّه أحرى أن تطمئنّ نفسه إليه ويعلم أنّه الجدّ منك. ففعل »(١) .

ويُتابع الطبري روايته قائلاً: «... فلحقه يحيى وعبد الله بن جعفر، ثمّ انصرفا بعد أن أقرأه يحيى الكتاب، فقالا: أقرأناه الكتاب وجهدنا به، وكان ممّا اعتذر به إلينا أن قال:( إنّي رأيت رؤيا فيها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأُمرتُ فيها بأمرٍ أنا ماضٍ له عليَّ كان أو لي! ) . فقالا له: فما تلك الرؤيا؟ قال:( ما حدّثت بها أحداً، وما أنا مُحدّث بها حتى ألقى ربّي! ).

قال: وكان كتاب عمرو بن سعيد إلى الحسين بن عليّعليه‌السلام :

« بسم الله الرحمن الرحيم

من عمرو بن سعيد إلى الحسين بن علي: أمّا بعد، فإنّي أسأل الله أن يصرفك عمّا يوبقك، وأن يهديك لما يُرشدك، بلغني أنّك قد توجّهت إلى العراق، وإنّي أُعيذك بالله من الشقاق، فإنّي أخاف عليك فيه الهلاك، وقد بعثت إليك عبد الله بن جعفر ويحيى بن سعيد، فأقبِل إليَّ معهما فإنّ لك عندي الأمان والصلة، والبرّ وحسن الجوار، لك الله عليّ بذلك شهيد وكفيل ومراعٍ ووكيل. والسلام عليك »(٢) .

ولا يخفى على ذي بصيرة، ما في هذه الرسالة وأشباهها من رسائل السلطة الأُموية الظالمة، من مفردات مُتكرّرة مقصودة، فالخروج على النظام الظالم فيها من الموبقات، ومن الشقاق، وسعيٌ في تفريق كلمة الأمّة والجماعة، وما إلى ذلك من أسلحة إعلامية؛ لمواجهة كلّ قيام للحق والعدل والإصلاح!

____________________

= والمتأمِّل بمُحتوى هذا الكتاب، يستبعد كثيراً أن يكون هذا الكتاب من إنشاء عبد الله بن جعفر؛ لما فيه من مضامين الجسارة والجهل بمقام الإمام عليه‌السلام .

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٧.

(٢) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٧.

٢٠٣

ويذكر الطبريّ أنّ الإمامعليه‌السلام كتب إليه:

(... أمّا بعدُ: فإنّه لم يُشاقق الله ورسوله مَن دعا إلى الله عزّ وجلّ وعمِل صالحاً، وقال: إنّني من المسلمين. وقد دعوتَ إلى الأمان والبرّ والصلة، فخير الأمان أمان الله، ولن يؤمن الله يوم القيامة مَن لم يَخفه في الدنيا، فنسأل الله مخافة في الدنيا، توجب لنا أمانه يوم القيامة، فإن كنت نويت بالكتاب صلتي وبرِّي، فجُزيت خيراً في الدنيا والآخرة والسلام ) (١) .

ويبدو أنّ الأشدق لما آيس من أسلوب عرض الأمان(٢) على الإمامعليه‌السلام لجأ

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٧.

(٢) ولا شكّ أنّ الإمام عليه‌السلام أعرف من سواه بحقيقة ومصداقية الأمان الذي يبذله بنو أميّة؛ إذ طالما خان معاوية عهد الأمان الذي بذله لمعارضيه، كمثل حجر بن عديرضي‌الله‌عنه ، إنّ الأمان عند حكّام بني أميّة وولاتهم خدعة من خدع مصائدهم، أفلم يُرسل ابن زياد إلى هاني مَن يؤمنه ويُرغّبه في زيارته ثمّ اعتقله وعذّبه وقتله؟! أوَ لَمْ يخن ابن زياد الأمان الذي بذله لمسلم عليه‌السلام مُمثّله محمّد بن الأشعث؟!

إنّ الأشدق وهو طاغية وجبّار من جبابرة بني أُميّة، لا يختلف عن ابن زياد في قدرته على الغشم والظلم والفتك والغدر. ويُحدّثنا التأريخ أنّ ابن زياد أرسل إلى الأشدق مَن يُبشّره بقتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، والأشدق هو الذي أعلم الناس بالمدينة بقتل الإمام الحسين عليه‌السلام ، وأظهر فرحه لذلك ودعا ليزيد، ولما سمع واعية بني هاشم في دورهم على الحسين عليه‌السلام حين سمعوا النداء بقتله، تمثّل الأشدق بقول عمرو بن معدي كرب:

عجَّت نساء بني زياد عجَّةً

كعجيج نسوتنا غَداة الأرنبِ

ثمّ قال: هذه واعية بواعية عثمان. (راجع: مُستدركات علم رجال الحديث، ٦: ٤١; والإرشاد: ٢٤٧; والبحار، ٤٥: ١٢٢; وسفينة البحار، ٦: ٤٦٥).

وروي أنّه لما انهزم الناس في وقعة مرج راهط، قال له عبيد الله بن زياد: ارتدف خلفي. فارتدف، فأراد عمرو بن سعيد أن يقتله، فقال له عبيد الله بن زياد: ألا تكفّ يا لطيم الشيطان؟!! (العقد الفريد، ٤: ٣٩٧).

٢٠٤

إلى ما تعوّد عليه من الأساليب القمعية في المواجهة، فقد روى الطبري عن عقبة بن سمعان قال: « لما خرج الحسين من مكّة، اعترضه رُسلُ عمرو بن سعيد بن العاص عليهم يحيى بن سعيد، فقالوا له: انصرف، أين تذهب؟! فأبى عليهم ومضى، وتدافع الفريقان فاضطربوا بالسياط. ثمّ إنّ الحسين وأصحابه امتنعوا منهم امتناعاً قويّاً، ومضى الحسين عليه‌السلام على وجهه، فنادوه: يا حسين، ألا تتّقي الله، تخرج من الجماعة وتُفرّق بين هذه الأمّة؟! فتأوّل حسين قول الله عزّوجلّ:( لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ) »(١) .

وتقول رواية الدينوري: « ولما خرج الحسين من مكّة، اعترضه صاحب شرطة أميرها عمرو بن سعيد بن العاص في جماعة من الجند، فقال: إنّ الأمير يأمرك بالانصراف، فانصرف وإلاّ منعتك!

فامتنع عليه الحسين، وتدافع الفريقان واضطربوا بالسياط.

وبلغ ذلك عمرو بن سعيد، فخاف أن يتفاقم الأمر، فأرسل إلى صاحب شُرَطهِ يأمره بالانصراف! »(٢) .

والمتأمّل في هذين النصّين، يستشعر بوضوح أنّ القوّة العسكرية الأُموية لم

____________________

= وقد ذاق هذا الأشدق في نهاية مطاف حياته مرارة الغدر الأُموي نفسه، بعدما بذل له عبد الملك بن مروان (الأمان الأُموي!) حيث قتله بيده ذبحاً (راجع: قاموس الرجال، ٨: ١٠٣). وقد روى الذهبي تفصيل قصّة قتله أنّه: ( استخلفه عبد الملك على دمشق لما سار ليملك العراق، فتوثّب عمرو على دمشق وبايعوه، فلمّا توطّدت العراق لعبد الملك وقُتِل مصعب، رجع وحاصر عمرواً بدمشق، وأعطاه أماناً مؤكّداً!! فاغترّ به عمرو، ثمّ بعد أيّام غدر به وقتله. (سير أعلام النبلاء، ٣: ٤٤٩).

(١) تأريخ الطبري، ٣: ٢٩٦.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٤٤.

٢٠٥

تكن كافية لمنع الإمام عليه‌السلام من الخروج، والمفروض في مثل هكذا مواجهة تقع خارج حدود المدينة مع الركب الحسيني الكبير نسبياً حتى ذلك الوقت» أن يستعمل الأشدق كلّ ما لديه من قوّة في مواجهة الإمام عليه‌السلام لمنعه من الخروج، غير أنّ الحال لم تعدُ أن تدافع الفريقان واضطربوا بالسياط، ثمّ خاف الأشدق من تفاقم الأمر! وأمر «رُسله» أو «جماعة من جنده» بالانصراف خائبين.

٢٠٦

الفصل الثالث

حركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عُمر النهضة الحسينية

٢٠٧

٢٠٨

الفصل الثالث

حركة الأمّة

في الأيّام المكيّة من عُمر النهضة الحسينية

سجّل لنا التأريخ في المدّة التي قضاها الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة المكرّمة، وقائع كثيرة وصوراً مهمّة، لحركة الأمّة أفراداً وجماعات، على صعيد مواقفهم التي اتّخذوها إزاء قيام الإمام الحسينعليه‌السلام - سلباً أو إيجاباً - في أهمّ مُدن العالم الإسلامي، التي يمكن آنذاك فيها لحركة المعارضة إذا اشتدّت شوكتها أن تؤثّر في تغيير مجرى حركة الأحداث، أو ترسم للعالم الإسلامي مُستقبلاً آخر.

وعدا دمشق ومُدن الشام الأُخرى التي كانت مُغلقة سياسياً وإعلامياً - بشكل عام - لصالح الحُكم الأمويّ، فإنّ أهمّ مُدن قلب العالم الإسلامي، التي يمكن أن تتحرّك فيها المعارضة السياسية آنذاك بصورة خطيرة هي الكوفة والبصرة والمدينة ومكّة.

وفي مُتابعتنا هنا لحركة الأمّة في الأيّام المكيّة من عمر النهضة الحسينية، نرى من الأفضل - رعاية لترتُّب بدء التحرُّك تاريخياً - أن نبدأ أوّلاً في قراءة حركة الأمّة في الحجاز (في أهمّ مُدنه: مكّة والمدينة)، ثمّ نُتابع هذه الحركة في الكوفة، ثمّ في البصرة.

٢٠٩

حركّة الأمّة في الحجاز:

سجّل لنا التأريخ على صعيد حركة الأمّة في الحجاز، مجموعة من حوادث ووقائع وصُوَر، في أهمّ حاضرتين فيه آنذاك، وهما مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة، نقرأها هنا على النظم التالي:

احتفاء الناس في مكّة المكرّمة بالإمام عليه‌السلام :

استقبل الناس(١) في مكّة المكرّمة خبر قدوم الإمام الحسينعليه‌السلام استقبال البُشرى، واحتفُّوا به حفاوة بالغة، فكانوا يفِدون ويختلفون إليه ويحوطونه دون غيره؛ إذ كانعليه‌السلام يومذاك بقيّة الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله في هذه الأمّة، وسيّد العرب والحجاز خاصة، وسيّد المسلمين والعالم الإسلاميّ عامة، فما كان ثَمَّ مَن يُنازعه يومذاك من الناس سموّ مرتبته، وعلوّ مقامه وشرف منزلته في قلوب المسلمين.

يقول ابن كثير: « فعكف الناس على الحسين يفدون إليه، ويقدمون عليه، ويجلسون حواليه، ويستمعون كلامه، حين سمعوا بموت معاوية وخلافة يزيد، وأمّا ابن الزبير، فإنّه لزم مُصلاّه عند الكعبة، وجعل يتردّد في غبون ذلك إلى الحسين في جملة الناس، ولا يُمكنه أن يتحرّك بشيء ممّا في نفسه مع وجود الحسين؛ لما يعلم من تعظيم الناس له وتقديمهم إيّاه عليه.. بل الناس إنّما ميلهم إلى الحسين؛ لأنّه السيّد الكبير وابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فليس على وجه الأرض يومئذ أحد يُساميه ولا يُساويه... »(٢) .

____________________

(١) قدّمنا في مقدّمة هذا الكتاب وفي الفصل الأول، أنّ المراد بالناس في النصوص التي تتحدَّث في حفاوة الناس في مكّة بالإمام عليه‌السلام هم جموع الوافدين من المعتمرين والحجّاج، ونزر من أهل مكّة قليل من الذين لا يحملون بُغضاً لعليّ وآل عليّعليهم‌السلام ، فراجع تفصيل هذه الحقيقة في موقعها هناك.

(٢) البداية والنهاية، ٨: ١٥١.

٢١٠

وقال الدينوري: « واختلف الناس إليه، فكانوا يجتمعون عنده حلقاً حلقاً، وتركوا عبد الله بن الزبير، وكانوا قبل ذلك يتحفّلون إليه، فساء ذلك ابن الزبير، وعلم أنّ الناس لا يحفلون به والحسين مُقيم بالبلد، فكان يختلف إلى الحسين رضي الله عنه صباحاً ومساءً »(١) .

وجهاء الأُمّة.. مَشورات ونصائح:

طيلة المدّة التي أقام الإمامعليه‌السلام فيها بمكّة المكرّمة كانعليه‌السلام ، قد التقى مجموعة منوّعة المشارب والميول والأفكار، من وجهاء مرموقين ومعروفين في أوساط الأمّة الإسلامية، وقد عرض هؤلاء على الإمامعليه‌السلام مشوراتهم ونصائحهم واعتراضاتهم، كلٌّ منهم على هَدي مشربه وميله وطريقة تفكيره، ولئن اختلفت تلك المشورات والنصائح والاعتراضات في بعض تفاصيلها، فقد اشتركت جميعها في منطلق التفكير والنظرة إلى القضية؛ إذ إنّ جميعها كان يرى الفوز والنصر في تسلّم الحُكم والسلامة والعافية والأمان الدنيوي، ويرى الخسارة والانكسار في القتل والتشرّد والبلاء والتعرّض للاضطهاد؛ فمن هذا المنطق، انبعثت جميع تلك الاعتراضات والمشورات والنصائح.

وكم هو الفرق كبير والبَون شاسع بين هذا المنطق، وبين منطق العمق، الذي كان قد جعل أساس حساباته مصير الإسلام والأمّة الإسلامية، ولم يغفل في نظرته إلى مُتّجه حركة الأحداث عن « أنّ معاوية بن أبي سفيان (الذي انتهت إليه قيادة حركة النفاق آنذاك)، قد أضلّ جُلّ هذه الأمّة إضلالاً بعنوان الدين نفسه! حيث عتّم على ذكر أهل البيتعليهم‌السلام وعلى ذكر فضائلهم تعتيماً تامّاً، وافتعل من خلال وُضّاع

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٢٩.

٢١١

الأحاديث - افتراءً على النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله - قداسة مكذوبة(١) له ولبعض مَن مضى مِن الصحابة، الذين قادوا حركة النفاق أو ساروا في ركابها، وتآزروا على غصب أهل البيتعليهم‌السلام حقّهم الذي فرضه الله لهم، وخدّر معاوية بن أبي سفيان الأمّة المسلمة عن القيام والنهوض ضدّ الظلم، من خلال تأسيس فرق دينية تُقدِّم للناس تفسيرات دينية تخدم سلطة الأُمويين وتُبرّر أعمالهم، كما في مذهب الجبر ومذهب الإرجاء، وأعانه على ذلك ما بذله من جُهد كبير في تمزيق الأمّة قبلياً وطبقياً، وفي اضطهاد الشيعة اضطهاداً كبيراً.

ومع طول مدّة حكمه، انخدع جُلّ هذه الأمّة بالتضليل الديني الأمويّ، واعتقدوا أنّ حُكم معاوية حُكم شرعي، وأنّه امتداد للخلافة الإسلامية بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ معاوية إمام هذه الأمّة، وأنّ مَن ينوب عنه في مكانه إمام هذه الأمّة وامتداد لأئمتها الشرعيّين!!

ومن المؤسف حقّاً، أنّ جُلّ هذه الأمّة خضع خضوعاً أعمى لهذا التضليل وانقاد له، فلم يَعُدْ يُبصر غيره، بل لم يعُدْ يُصدّق أنّ الحقيقة شيء آخر غير هذا!!... ولقد كان أضمن السبل لتحطيم هذا الإطار الديني، هو أن يثور عليه رجلٌ ذو مركز دينيّ مُسلَّم به عند الأمّة الإسلامية، فثورة مثل هذا الرجل كفيلة بأن تُمزّق الرداء الديني، الذي يتظاهر به الحُكّام الأُمويون، وأن تكشف هذا الحُكم على حقيقته، وجاهليته، وبُعده الكبير عن مفاهيم الإسلام، ولم يكن هذا الرجل إلاّ الحسينعليه‌السلام ، فقد كان له في قلوب الأكثرية القاطعة من المسلمين رصيد كبير من الحُبّ والإجلال والتعظيم... ولو لم تكن واقعة كربلاء؛ لكان

____________________

(١) قال ابن تيمية:... طائفة وضعوا لمعاوية فضائل ورووا أحاديث عن النبيّ في ذلك كلّها كذب.

وقال الشوكاني: اتّفق الحُفّاظ على أنّه لم يصحّ في فضل معاوية حديث. (انظر: الفوائد المجموعة: ٤٠٣ - ٤٠٨).

٢١٢

الأُمويون قد واصلوا حُكم الناس باسم الدين، حتى يترسَّخ في أذهان الناس بمرور الأيّام والسنين، أنّه ليس هناك إسلام غير الإسلام الذي يتحدّث به الأُمويون ويؤخذ عنهم!! وعلى الإسلام السلام!

لو لم تكن واقعة عاشوراء، لما كان بالإمكان فصل الإسلام والأُموية عن بعضهما البعض، ممّا يعني أنّ زوال الأمويّة يوماً ما كان سيعني زوال الإسلام أيضاً! ولكانت جميع الانتفاضات والثورات التي قامت على الظلم الأمويّ، تقوم - حين تقوم - على الإسلام نفسه! لكنّ الفتح الحسيني في عاشوراء، هو الذي جعل كلّ هذه الانتفاضات والثورات التي قامت بعد عاشوراء، إنّما تقوم باسم الإسلام على الأُموية! »(١) .

إشارة:

ونُلفت الانتباه هنا، إلى أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام في الوقت الذي كان يتحرّك بالفعل على أساس منطق العمق هذا - منطق الفتح بالشهادة - كان يتعاطى أيضاً بمنطق الحُجج الظاهرة في تعامله مع منطق الظاهر، منطق تكلُّم المشورات والنصائح، كما أنّهعليه‌السلام كان يُراعي في ردوده وإجاباته، في مُحاوراته مع أصحاب تلك المشورات والنصائح نوع المخاطَب، من حيث قدر عقله ومستوى بصيرته، ودرجة ولائه لأهل البيتعليهم‌السلام ، ونوع اعتقاده بهم ومدى علاقته بأعدائهم.

فنراهعليه‌السلام - مثلاً - يردُّ على أمّ سلمةرضي‌الله‌عنه ومحمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه وعبد الله بن عبّاسرضي‌الله‌عنه ردوداً، تختلف عن ردوده على عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن مطيع العدوي وأمثالهم.

____________________

(١) راجع الجزء الأوّل، عنوان: (آفاق الفتح الحسيني): ١٧٢ - ١٧٦.

٢١٣

هذه الحقيقة لابدّ من استحضارها وعدم الغفلة عنها في قراءتنا لمحاوراتهعليه‌السلام ؛ حتّى نفهم سرّ التفاوت الظاهري في إجاباته وردودهعليه‌السلام .

تحرُّك عبد الله بن عبّاس:

سجّل لنا التأريخ أكثر من مُحاورة تمَّت بين الإمامعليه‌السلام وبين عبد الله بن عبّاس، وقد كشفت هذه المحاورات في مجموعها، عن أنّ ابن عبّاسرضي‌الله‌عنه كان قد تحرّك في حدود السعي لمنع الإمامعليه‌السلام من الخروج إلى العراق - لا من القيام والثورة على الحُكم الأُمويّ - ، وكانت حجّته في اعتراضه على خروج الإمامعليه‌السلام إلى الكوفة، أنّ على أهل الكوفة - قبل أن يتوجّه إليهم الإمامعليه‌السلام - أن يتحرّكوا عملياً لتهيئة الأمور وتمهيدها للإمامعليه‌السلام ، كأن يطردوا أميرهم الأمويّ أو يقتلوه، وينفوا جميع أعدائهم من الأُمويّين وعملائهم وجواسيسهم في الكوفة، ويضبطوا إدارة بلادهم، وآنئذٍ يكون من الرشاد والسداد أن يتوجّه إليهم الإمامعليه‌السلام ، وإلاّ فإنّ خروج الإمامعليه‌السلام إليهم - وهم لم يُحرّكوا ساكناً بعدُ - مُخاطرة لا تكون نتيجتها إلاّ القتل والبلوى.

وممّا قاله ابن عبّاس للإمامعليه‌السلام في صدد هذه النقطة: « أخبرني رحمك الله، أتسير إلى قوم قد قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، ونفوا عدوّهم؟! فإن كانوا قد فعلوا ذلك فَسِرْ إليهم، وإن كانوا إنّما دعوك إليهم وأميرهم عليهم قاهر لهم، وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويُكذّبوك ويُخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك، فيكونوا أشدّ الناس عليك! »(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤.

٢١٤

وقال له أيضاً: «... فإن كان أهل العراق يُريدونك - كما زعموا - فاكتب إليهم، فلينفوا عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، فإن أبيت إلاّ أن تخرج فَسِرْ إلى اليمن، فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، وتبثّ دعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تُحبّ في عافية »(١) .

هذه أهمّ نقطة أثارها عبد الله بن عبّاس في مجموع مُحاوراته مع الإمامعليه‌السلام ، وهي كاشفة عن محور أساس في تفكير ابن عبّاس، يتلخّص في تأييده لقيام الإمامعليه‌السلام واعتراضه فقط على الخروج إلى العراق قبل تحرّك أهله وقيامهم، وهذا فارق كبير من مجموع الفوارق بين موقف ابن عباس وموقف عبد الله بن عمر، الذي كان يعترض على أصل القيام ضدّ الحاكم الأُموي الجائر.

لكنّ هذه النقطة بالذات، كاشفة - أيضاً - عن انتماء ابن عباس إلى مجموعة الناصحين والمشفقين، الذين نظروا إلى القضية بمنظار النصر الظاهري، الذي لم تكن مُتطلّباته لتخفى على الإمامعليه‌السلام لو كان قد تحرّك بالفعل للوصول إلى ذلك النصر.

والآن، فلنأتِ إلى نصوص مُحاورات ابن عباس مع الإمامعليه‌السلام :

المحاورة الأُولى:

وهي مُحاورة ثلاثية كان عبد الله بن عمر، الثالث فيها، ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت في الأيّام الأُولى من إقامة الإمام الحسينعليه‌السلام في مكّة المكرّمة، وكان بها يومئذ ابن عباس وابن عمر «وقد عزما أن ينصرفا إلى المدينة»، ونحن نركّز هنا على نصوص التحاور فيها بين الإمامعليه‌السلام وبين ابن عباس؛ لأنَّنا

____________________

(١) تاريخ ابن عساكر (ترجمة الإمام الحسين عليه‌السلام ): ٢٠٤، رقم ٢٥٥.

٢١٥

بصدد تشخيص أبعاد موقفه وتحرّكه.

وقد ابتدأ ابن عمر القول في هذه المحاورة، مُحذّراً الإمامعليه‌السلام من عداوة البيت الأُموي وظلمهم وميل الناس إلى الدنيا، وأظهر له خشيته عليه من أن يُقتل، وأنّه سمع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:( حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه؛ ليخذلهم الله إلى يوم القيامة ) (١) ، ثمّ أشار على الإمامعليه‌السلام أن يدخل في صلح ما دخل فيه الناس، وأن يصبر كما صبر لمعاوية!!(٢) .

فقال له الحسينعليه‌السلام :( أبا عبد الرحمان! أنا أُبايع يزيد وأدخل في صُلحه؛ وقد قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيه وفي أبيه ما قال؟! ) .

فقال ابن عباس: صدقتَ أبا عبد الله، قال النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله في حياته:( ما لي وليزيد؟! لا بارك الله في يزيد!، وإنّه يقتل ولدي وولَد ابنتي الحسين عليه‌السلام ، والذي نفسي بيده، لا يُقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه؛ إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم! ) .

ثمّ بكى ابن عباس، وبكى معه الحسينعليه‌السلام ، وقال:( يا بن عباس، تعلم أنّي ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟! ) .

فقال ابن عباس: اللّهمّ نعم، نعلم ونعرف أنّ ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله غيرك، وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة، كفريضة الصلاة والزكاة، التي لا يقدر أن يقبل أحدهما دون الأُخرى!

قال الحسينعليه‌السلام :( يا بن عباس، فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله من داره وقراره ومولده، وحرم رسوله، ومُجاورة قبره، ومولده،

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٢٦ - ٢٧.

(٢) سوف نكشف عن سِرّ منطق ابن عمر هذا في تحليلنا لشخصيّته، فتابع.

٢١٦

ومسجده، وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً لا يستقرّ في قرار ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يُشرك بالله شيئاً، ولا اتّخذ من دونه وليّاً، ولم يتغيّر عمّا كان عليه رسول الله؟! ) .

فقال ابن عباس: ما أقول فيهم: إلاّ( ... أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى... ) (١) ،( ... يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) (٢) ، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى، وأمّا أنت يا بن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإنّك رأس الفخار برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وابن نظيرة البتول، فلا تظنّ - يا بن بنت رسول الله - أنّ الله غافل عمّا يعمل الظالمون، وأنا أشهد أنّ مَن رغب عن مُجاورتك، وطمع في مُحاربتك ومُحاربة نبيّك محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله فماله من خَلاق.

فقال الحسينعليه‌السلام :( اللّهمَّ اشهد ) .

فقال ابن عباس: جُعلتُ فداك يا بن بنت رسول الله، كأنّك تُريدني إلى نفسك، وتُريد منّي أن أنصرك! والله الذي لا إله إلاّ هو، أن لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلعَ جميعاً من كفّي، لما كنت ممَّن أُوفِّي من حقّك عُشر العُشر، وها أنا بين يديك مُرْني بأمرك.

وهنا يتدَّخل ابن عمر ليُغيّر مجرى الحوار - حين أحسَّ أنّ الكلام بلغ الدرجة الحرجة بقول الإمامعليه‌السلام :( اللّهمّ اشهد ) ، أنّ الحُجّة قائمة على المخاطَب، وصار الحديث على لسان ابن عباس، الذي أدرك مغزى( اللّهمّ اشهد ) في وجوب نُصرة الإمامعليه‌السلام ووجوب الانضمام إلى رايته في القيام ضدِّ الحُكم الأُموي، الأمر الذي

____________________

(١) سورة التوبة، الآية ٤٥.

(٢) سورة النساء، الآية ١٤٢.

٢١٧

يعني أنّه «أي ابن عمر» مقصود أيضاً بالامتثال لهذا الواجب - فقال لابن عباس: مهلاً، ذرْنا من هذا يا بن عباس!!

ثمّ عطف يُخاطب الإمامعليه‌السلام ، داعياً إيّاه إلى الرجوع إلى المدينة والتخلّي عمّا عزم عليه من القيام، وطالباً منه الدخول في صلح القوم، والصبر حتى يهلك يزيد!!.

ويدّعي ابن عمر هنا، أنّ الإمامعليه‌السلام متروك ولا بأس عليه إن هو ترك القيام حتى وإنْ لم يُبايع!!

وهنا يُظهر الإمامعليه‌السلام تبّرمه من منطق ابن عمر، ثمّ يُلزمه بالتسليم لحقيقة أنّ ابن بنت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله في طُهره ورُشده ومنزلته الخاصة، ليس كيزيد بن معاوية، ويُعلمه أنّ الأُمويين لا يتركونه حتى يُبايع أو يُقتل، ثمّ يدعوه إلى نُصرته، فإن لم ينصره فلا أقلّ من أن لا يُسارع بالبيعة!! ثمّ أقبل الإمام الحسينعليه‌السلام على ابن عباس رحمه الله..

فقال:( يا ابن عباس، إنّك ابن عمّ والدي، ولم تزل تأمر بالخير منذ عرفتك، وكنت مع والدي تُشير عليه بما فيه الرشاد، وقد كان يستنصحك ويستشيرك فتُشير عليه بالصواب، فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شيءٌ من أخبارك، فإنّي مُستوطنٌ هذا الحرم، ومُقيمٌ فيه أبداً ما رأيتُ أهله يُحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلتُ بهم غيرهم، واستعصمتُ بالكلمة التي قالها إبراهيم الخليل عليه‌السلام يومَ أُلقي في النار: ( حسبي الله ونِعْمَ الوكيل ) ،فكانت النار عليه برداً وسلاماً... ) .

فبكى ابن عباس وابن عمر في ذلك الوقت بكاءً شديداً، والحسينعليه‌السلام

٢١٨

يبكي معهما ساعة، ثمّ ودّعهما، وصار ابن عمر وابن عباس إلى المدينة(١) .

تأمُّل ومُلاحظات:

١) - أكّد ابن عباسرضي‌الله‌عنه - في أوّل ما نطق به خلال هذه المحاورة - أنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان قد بلّغ الأمّة بأنّ يزيد قاتل الحسينعليه‌السلام ، وأنّ على الأمّة أن تحمي الإمامعليه‌السلام وتنصره، وقد حذَّرصلى‌الله‌عليه‌وآله الأمّة بأنّ الإمامعليه‌السلام لا يُقتل بين ظهراني قوم فلا يمنعونه، إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم! وقد أكّد ابن عمر أيضاً على وقوع هذا التحذير والإنذار النبوي، حيث قال: إنّه سمع الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:( حسين مقتول، ولئن قتلوه وخذلوه، ولن ينصروه؛ ليخذلهم الله إلى يوم القيامة ) .

وهذا يعني أنّ الأمّة كان قد شاع في أوساطها خبر ملحمة مقتل الحسينعليه‌السلام ، وأنّ يزيد قاتله، وأنّ على الأمّة التحرُّك لحماية الإمامعليه‌السلام ونُصرته!! لكنّ الأمّة بعد خمسين سنة من ارتحال الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله أعمتها أضاليل حركة النفاق عامة، وفصيل الحزب الأُموي منها خاصة، فتناءت عن وصايا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وتحذيراته، الأمر الذي استشعر ابن عباس مرارته ونتائجه الخطيرة فبكى، وشاركه الإمامعليه‌السلام في البكاء!

٢) - أكّد ابن عباسرضي‌الله‌عنه في هذه المحاورة على معرفته بمقام الحسينعليه‌السلام ، وضرورة موالاته ونصرته، بدليل قوله: «... وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة كفريضة الصلاة والزكاة... »، وفي قوله: «... لو ضربتُ بين يديك بسيفي هذا حتى

____________________

(١) راجع: الفتوح، ٥: ٢٦ - ٢٧ ومقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٢٧٨ - ٢٨١ / لقد تفرّد ابن أعثم الكوفي في كتابه ( الفتوح ) برواية تمام هذه المحاورة، ونقلها عنه الخوارزمي في كتابه ( مقتل الحسين عليه‌السلام )، وقد تضمّنت هذه المحاورة بعض الفقرات التي لا يمكن للمتتبِّع المتأمّل إلاّ أن يتحفّظ حيالها، إنْ لم يقطع بكذبها ورفضها، خصوصاً في بعض نصوص التحاور بين الإمام وبين ابن عمر، وقد أرجأنا الكلام فيها إلى حيث موقع دراسة موقف ابن عمر ونوع تحرّكه وحقيقة انتمائه.

٢١٩

انخلع جميعاً من كفّي، لما كنت ممّن أوفِّي من حقّك عُشر العُشر... ».

٣) - كما أكّدرضي‌الله‌عنه على معرفته بكفر الأُمويّين ونفاقهم، وأنّهم ومَن أطاعهم في مُحاربة الإمامعليه‌السلام ممّن لا نصيب لهم من الخير في الآخرة.

٤) - قد يُستفاد من قولهرضي‌الله‌عنه : « كأنّك تُريدني إلى نفسك، وتُريد منّي أن أنصرك... - إلى قوله: - وها أنا بين يديك مُرْني بأمرك »، أنّه وإن كان كبير السنّ يومذاك، لكنّه كان صحيح القُوى سليم الجوارح، وإلاّ لما عرض استعداده للنُّصرة والجهاد، فلم يكن مكفوف البصر مثلاً - كما يُستفاد ذلك من رواية لقائه بأمّ سلمةرضي‌الله‌عنه بعد سماع صراخها تنعى الحسينعليه‌السلام (١) - نعم، يُمكن القول: إنّ الإمامعليه‌السلام في جميع مُحاوراته مع ابن عباس، لم يطلب منه الالتحاق به ونُصرته، ممّا يقوّي القول: بأنّه كان ضعيف البصر جدّاً أو مكفوفاً آنذاك، ومعذوراً عن الجهاد، إلاّ أنّهرضي‌الله‌عنه عرض للإمامعليه‌السلام استعداده للجهاد والتضحية بين يديه؛ استشعاراً منه لوجوب نُصرة الإمامعليه‌السلام والذبِّ عنه، وإنْ كان معذوراً.

٥) - وقد يُستفاد أيضاً من أحد نصوص هذه المحاورة، أنّ الإمامعليه‌السلام رخّص لابن عباسرضي‌الله‌عنه بالبقاء وعدم الالتحاق بركبه، حيث قالعليه‌السلام له:( فامضِ إلى المدينة في حفظ الله وكلائه، ولا يَخفَ عليَّ شيء من أخبارك ) .

٦) - أخبر الإمامعليه‌السلام ابن عباسرضي‌الله‌عنه - في الأيّام الأُولى من إقامته في مكّة المكرّمة - أنّ الأُمويّين يُريدون قتله وسفك دمه! والإمامعليه‌السلام بهذا ربّما أراد أن يُخبر عن وجود خطّة وضعتها السلطة الأُموية المركزية بالفعل لقتله في المدينة أو في مكّة، أو أراد أن يُخبر عن حقيقة أنّه(ما لم يُبايع يُقتل) ، مؤكِّداً بذلك على عدم صحّة دعوى بعض مَن يقول - كابن عمر مثلاً -: إنّهعليه‌السلام لا بأس عليه ولا خطر، إن

____________________

(١) أمالي الطوسي: ٣١٤ - ٣١٥، المجلس ١١، الحديث ٦٤٠/ ٨٧.

٢٢٠