مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 195302
تحميل: 7520

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195302 / تحميل: 7520
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

ترك المعارضة وصبر حتى وإن لم يُبايع!

٧) - ومع علمهعليه‌السلام بأنّه ما لم يُبايع يُقتل! ومع إصراره على أن لا يكون هو الذي تُستباح بقتله حُرمة البيت الحرام! يمكننا أن نفهم قولهعليه‌السلام لابن عباسرضي‌الله‌عنه - في ختام هذه المحاورة -:( فإنّي مُستوطن هذا الحرم، ومُقيمٌ فيه أبداً ما رأيت أهله يُحبّوني وينصروني، فإذا هم خذلوني استبدلت بهم غيرهم... ) . أنّهعليه‌السلام أراد أن يُطمئن ابن عباس « والمحاورة في أوائل الأيّام المكيّة» أنّه باقٍ أيّاماً غير قليلة في مكّة، وأنّ هنالك مُتّسعاً من الوقت، وإلاّ، فإنّ الإمامعليه‌السلام قد جعل استيطانه الحرم مشروطاً بحبّ أهله إيّاه ونُصرتهم له! وهوعليه‌السلام يعلم أنّه ليس في «المكيّين» إلاّ نزر قليل جدّاً ممّن يُحبّ أهل البيتعليهم‌السلام (١) ، فليس له في مكّة قاعدة شعبية تحميه وتنصره في مواجهة السلطة الأموية.

المحاورة الثانية:

ويبدو أنّ هذه المحاورة حصلت بين ابن عباسرضي‌الله‌عنه وبين الإمامعليه‌السلام بعد رجوع ابن عباس من المدينة إلى مكّة المكرّمة مرّة أُخرى؛ إذ تقول الرواية التاريخية: « وقدم ابن عباس في تلك الأيّام إلى مكّة، وقد بلغه أنّ الحسين عزم على المسير، فأتى إليه ودخل عليه مُسلِّماً.

ثم قال له: جُعلتُ فداك، إنّه قد شاع الخبر في الناس وأرجفوا بأنّك سائر إلى العراق! فبيّن لي ما أنت عليه(٢) .

____________________

(١) عن الإمام السجّاد عليه‌السلام أنّه قال:( ما بمكّة والمدينة عشرون رجلاً يُحبّنا... ) ، (كتاب الغارات: ٣٩٣، وشرح النهج لابن أبي الحديد، ٤: ١٠٤).

(٢) في تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤؛( فبيّن لي ما أنت صانع ) .

٢٢١

فقال:( نعم، قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي (١) هذه إن شاء الله، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم ) .

فقال ابن عباس: أُعيذك بالله من ذلك، فإنّك إنْ سرت إلى قوم قتلوا أميرهم، وضبطوا بلادهم، واتّقوا عدوّهم(٢) ، ففي مسيرك إليهم - لعَمري - الرشاد والسداد، وإن سرت إلى قوم دعوك إليهم وأميرهم قاهر لهم، وعمّالهم يجبون بلادهم(٣) ، فإنّما دعوك إلى الحرب والقتال! وأنت تعلم أنّه بلدٌ قد قُتل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتِل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله «!» وعبيد الله في البلد يفرض ويُعطي، والناس اليوم عَبيد الدينار والدرهم، فلا آمن عليك أن تُقتل، فاتّقِ الله والزَمْ هذا الحرم، فإن كنت على حال لابدّ أن تشخص، فَصِرْ إلى اليمن، فإنَّ بها حصوناً لك، وشيعة لأبيك، فتكون مُنقطعاً عن الناس.

فقال الحسينعليه‌السلام :( لابُدَّ من العراق! ) .

قال: فإن عصيتني فلا تُخرِج أهلك ونساءَك، فيُقال: إنّ دم عثمان عندك وعند أبيك، فو الله، ما آمَنُ أن تُقتل ونساؤك ينظرن كما قُتل عثمان.

فقال الحسينعليه‌السلام :( والله، يا بن عمّ، لئن أُقتَل بالعراق أحبّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة، وما قضى الله فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر

____________________

(١) وفيه أيضاً:( قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين... ) .

(٢) وفيه أيضاً: ( أخبرني رحمك الله أتسير إلى قوم... ونفوا عدوّهم، فإنْ كانوا قد فعلوا ذلك فَسِرْ إليهم... ).

(٣) في تاريخ الطبري، ٣: ٢٩٤، (... وعمّاله تجبي بلادهم، فإنّهم إنّما دعوك إلى الحرب والقتال، ولا آمن عليك أن يغرّوك ويُكذّبوك ويُخالفوك ويخذلوك، وأن يُستنفروا إليك فيكونوا أشدّ الناس عليك... ).

٢٢٢

ما يكون ) (١) .

تأمُّلٌ ومُلاحظات:

١) - يُمكن تشخيص تأريخ هذه المحاورة - من قرائن متون روايتها - أنّها حصلت في الأيّام الأخيرة من إقامة الإمامعليه‌السلام في مكّة؛ بدليل قولهعليه‌السلام :( قد أزمعتُ على ذلك في أيّامي هذه... ) ، أو أنّها حصلت في اليوم الأخير أو اليوم الذي قبله؛ بدليل قولهعليه‌السلام - كما في رواية الطبري -:( قد أجمعتُ المسير في أحد يوميّ هذين... ) .

٢) - تؤكّد نصوص هذه المحاوُرة، أنّ تصميم الإمامعليه‌السلام على التوجّه إلى العراق قد شاع في الناس في مكّة وغيرها، خصوصاً في الأيّام الأواخر من إقامته فيها، وهذا لا يُنافي أن يبقى موعد السفر سرِّيّاً لو أراد الإمامعليه‌السلام ذلك، مع أنّ نفس موعد سفر الركب الحسيني من مكّة لم يكن سرّيّاً؛ إذ كان الإمامعليه‌السلام قد أعلن عنه في خُطبته قُبيل سفره حين قال فيها:(... مَن كان باذلاً فينا مُهجته، ومُوطّناً على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنَّني راحل مُصبحاً إن شاء الله تعالى ) (٢) .

٣) - في هذه المحاورة يتجلّى المحور الأساس في تفكير ابن عباسرضي‌الله‌عنه ، وموقفه من قيام الإمامعليه‌السلام فهو مع القيام، وضدِّ الخروج إلى العراق قبل أن يتحرّك أهله عملياً لترتيب وتهيئة الأوضاع وتمهيدها؛ استقبالاً لمقدم الإمامعليه‌السلام إليهم، وهذه المقولة صحيحة في حدود منطق النصر الظاهري، الذي كانت تنطلق منه مشورات ابن عباسرضي‌الله‌عنه ونصائحه.

والملفت للانتباه، أنّ الإمامعليه‌السلام لم يُخطِّئ

____________________

(١) الفتوح، ٥: ٧٢; وعنه مقتل الحسين عليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٠٩ - ٣١٠ ورواها الطبري في تأريخه، ٣: ٢٩٤ بتفاوت أشرنا إلى المهمّ منه.

(٢) مُثير الأحزان: ٣٨; وقد بيّنا في الفصل الأوّل أنّه عليه‌السلام خطب هذه الخُطبة في عامة الناس.

٢٢٣

مثل هذه المشورة والنصيحة في جميع المحاورات التي طُرحت فيها من قِبل ابن عباس وغيره(١) ، بل كان يُعلّق عليها بما يُشعِر بصحّتها في حدود منطق الظاهر(٢) .

٤) - في ضوء منطق «الظاهر»، يُمكن للمتابع المتأمّل أن يُفسّر قول الإمامعليه‌السلام :( لابدّ من العراق ) ، أنّ إصرارهعليه‌السلام على التوجّه إلى العراق كان بسبب رسائل أهل الكوفة إليه؛ إذ شكّلت هذه الرسائل حجّة على الإمامعليه‌السلام في وجوب الاستجابة لهم والتوجّه إليهم، خصوصاً بعد وصول رسالة مسلم بن عقيلعليه‌السلام إليه، وقد أخبره فيها بأنّ عدد المبايعين له في الكوفة بلغ ثمانية عشر ألفاً «أو أكثر»، وطالبه فيها بالقدوم إليهم؛ ويؤيّد هذا ما روي عنهعليه‌السلام أنّه قال لابن عباس - في مُحاورة أخرى -:(... وهذه كُتب أهل الكوفة ورُسلهم وقد وجب عليَّ إجابتهم، وقام لهم العذر عليَّ عند الله سبحانه ) (٣) .

أمّا في ضوء منطق « العمق » فإنّ قولهعليه‌السلام :( لابدّ من العراق ) ، مع علمه بأنّ أهل الكوفة سوف يقتلونه ومَن معه من أنصاره - وتصريحات الإمامعليه‌السلام بأنّه سوف يُقتل كثيرة مُتظافرة - لابدّ أن يُفسّر بأنّ الإمامعليه‌السلام يعلم أيضاً أنّ العراق هو الأرض المختارة للمصرع المختار، وميدان الواقعة الحاسمة، واقعة « الفتح بالشهادة »، الواقعة التي تكون نتائجها جميعاً لصالح الإسلام المحمّدي الخالص وأهل البيتعليهم‌السلام إلى قيام الساعة؛ ذلك لأنّ الشيعة في العراق آنئذٍ أكثر منهم في أيّ

____________________

(١) كعمر بن عبد الرحمان المخزومي، وعمرو بن لوذان، ومحمد بن الحنفيةرضي‌الله‌عنه .

(٢) فقد قال عليه‌السلام لابن عباس في مُحاورة أُخرى بعدها (تأتي)، وقد طرح فيها نفس المشورة:( إنِّي - والله - لأعلم أنّك ناصح مُشفق! ) ، وقال عليه‌السلام لعمر بن عبد الرحمان - وقد عرض نفس هذه المشورة -:( فقد - والله - علمت أنّك مشيت بنصح وتكلّمت بعقل! ) ، وقال عليه‌السلام لعمرو بن لوذان - وقد قدّم نفس هذا الرأي -:( يا عبد الله، ليس يخفى عليَّ الرأي، ولكنّ الله تعالى لا يُغلَب على أمره! ) .

(٣) معالي السبطين، ١:١٥١.

٢٢٤

إقليم إسلامي آخر؛ ولأنّ العراق لم ينغلق إعلامياً ونفسيّاً لصالح الأُمويين كما هو الشام، بل لعلّ العكس هو الصحيح، فالعراق آنذاك هو أرض المصرع المختار؛ لما ينطوي عليه من استعدادات للتأثُّر بالحدث العظيم « واقعة عاشوراء » والتغيّر على هدْي إشعاعاتها.

ويؤيّد هذا التفسير «في العمق» أنّ الإمامعليه‌السلام ظلّ مُصرّاً على التوجّه إلى الكوفة، حتى بعد انتفاء حجّة أهل الكوفة عليه عملياً، حين بلغه خذلانهم لمسلمعليه‌السلام الذي أمسى وحيداً وجاهد وحيداً حتى قُتِل!

٥) - ورد في هذه المحاورة قول ابن عباسرضي‌الله‌عنه للإمامعليه‌السلام : «... وأنت تعلم أنّه بلدٌ قد قُتِل فيه أبوك، واغتيل فيه أخوك، وقُتِل فيه ابن عمّك وقد بايعه أهله!... »، ولا شكّ أنّ المراد بـ (ابن عمّك) هو مسلم بن عقيلعليه‌السلام ، ولذا؛ فإنّ هذه العبارة شاذّة ومُخالفة للمشهور الثابت؛ ذلك لأنّ خبر مقتل مسلمعليه‌السلام أتى الإمام الحسينعليه‌السلام بعد خروجه من مكّة في منزل من منازل الطريق «زرود»، ولعلّ هذه العبارة قد أُدخلت إدخالاً على أصل متن هذه المحاورة عمداً أو سهواً، والله العالم.

كذلك الأمر في قول ابن عباسرضي‌الله‌عنه للإمامعليه‌السلام : «... فاتّقِ الله والزَم هذا الحرم... »؛ ذلك لأنّ فيه من سوء الأدب في مُخاطبة الإمامعليه‌السلام ما يبعد صدوره جدّاً عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه العارف بمقام الإمام الحسينعليه‌السلام خاصّة، وبمقام أهل البيتعليهم‌السلام عامّة.

٦) - يُمكن حمل قول الإمامعليه‌السلام :(... لئن أُقتل بالعراق أحبُّ إليَّ من أن أُقتل بمكّة... )، على أصل إصرار الإمامعليه‌السلام ألاّ يكون هو القتيل في مكّة، الذي تُستحلّ به حرمة هذا البيت، ويمكن حمل هذا القول أيضاً على حقيقة علمهعليه‌السلام بأنّ العراق هو أفضل أرض للمصرع المختار - كما قدّمنا قبل ذلك -؛ ولأنّ الواقعة التي يُقتلعليه‌السلام

٢٢٥

فيها على أرض العراق سوف تكون إعلامياً وتبليغياً «على الأقلّ» في صالح الإمام عليه‌السلام تماماً بحيث لا يتمكّن العدوّ فيها أن يُعتّم على مصرعه، فتختنق الأهداف المرجوّة من وراء هذا المصرع الذي سيهزّ الأعماق في وجدان هذه الأمّة، ويُحرّكها بالاتجاه الذي أراده الحسين عليه‌السلام ، وهذا بخلاف ما لو قُتِل الإمام عليه‌السلام بمكّة غيلة في خفاء أو علانية، قتلة يمكن للعدوّ أن يُغطّي عليها ويتنصّل من مسؤوليته عنها، بل يستفيد من نفس الحادثة لصالحه إعلامياً؛ إذ يقتل القاتل - الذي كان قد أمره هو بقتل الإمام عليه‌السلام - فيظهر للأمّة بمظهر المطالب بدم الإمام عليه‌السلام الثائر له، فتنطلي اللعبة على أكثر الناس، وتبقى مأساة الإسلام على ما هي عليه، بل تترسّخ المصيبة وتشتدّ.

٧) - في ختام هذه المحاورة نقف أمام قول الإمامعليه‌السلام :( وما قضى اللّه فهو كائن، ومع ذلك أستخير الله وأنظر ما يكون ) ، وقد تكرّر قولهعليه‌السلام :( أستخير الله ) ، في بعض مُحاوراتهعليه‌السلام مع ابن الزبير وابن مطيع، وفي ردّه على كتاب المسور بن مخرمة.

فهل عنى الإمامعليه‌السلام بالاستخارة طلب معرفة ما فيه الخيرة من الأمور؟! وهل يعني هذا أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام لم تكن لديه خطّة على الأرض في مسار نهضته منذ البدء، ولم يكن لديه علم بما هو قادم عليه من مصير في مُستقبل أيّامه وأنّ بَوْصَلَة الاستخارة هي التي كانت توجّه حركته؟!

وهل يوافق هذا: الاعتقاد الحقّ بالشرائط اللازمة للإمامة المطلقة المتجسّدة في شخصيّات أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام بعد النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله ، خصوصاً على صعيد «علم الإمامعليه‌السلام »؟!

وهل يُصدّق هذا التراث الروائي الكبير المتظافر المأثور عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله

٢٢٦

وعنهمعليهم‌السلام في إخباراتهم عن «الملاحم والفتن» إلى قيام الساعة، وخصوصاً الإخبارات المأثورة عن النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعن عليّ والحسن والحسينعليهما‌السلام بصدد «ملحمة عاشوراء»؟!

قبل الإجابة يحسُن بنا أن نتعرّض هنا إلى معنى الاستخارة لُغةً واصطلاحاً.

معنى الاستخارة:

الاستخارة لُغةً: طلب الخِيرَة في الشيء، واستخار الله: طلب منه الخيرة، و: اللّهمّ خِر لي. أي: اختر لي أصلح الأمرين(١) .

وهي اصطلاحاً - كما ورد في الروايات - على معانٍ:

١- بمعنى طلب الخِيَرة من الله، بأن يسأل الله في دعائه أن يجعل له الخير ويوفّقه في الأمر الذي يُريده.

٢- بمعنى تيسّر ما فيه الخِيَرة. وهو قريب من الأوّل.

٣- طلب العزم على ما فيه الخير، بمعنى أن يسأل الله تعالى أن يوجِد فيه العزم على ما فيه الخير.

٤- طلب معرفة ما فيه الخِيَرة، وهو المتداول في العُرف(٢) .

____________________

(١) لسان العرب، ٤: ٢٦٦ - ٢٦٧.

(٢) راجع: مفتاح الكرامة، ٣:٢٧٢; والحدائق الناضرة، ١٠:٥٢٤ وقال صاحب الجواهر: ( فيه معنيان: الأول:أن يسأل من الله أن يجعل الخير فيما أراد إيقاعه من الأفعال. والثاني:أن يوفّقه لما يختاره له ويُيسّره له. ولمعرفة الثاني طُرق، ولعلّها تتبع إرادة المستخير بالمعرفة:

١- أن يوجد فيه العزم على الفعل.

٢- أن يوقع ما يختاره له على لسان المستشار =

٢٢٧

لنرجع إلى أصل المسألة..

لا شكّ أنّ مراد الإمامعليه‌السلام من الاستخارة ليس معناها المتداول في يومنا هذا، وهو: طلب معرفة ما فيه الخيرة، وأنّهعليه‌السلام كان يُريد استكشاف الغيب بطريق الرجاء بلا جزم ويقين!!

إذ إنّ هذا يُنافي الاعتقاد الحقَّ بأنّ النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمّةعليهم‌السلام عندهم علم ما كان وما هو كائن وما يكون إلى قيام الساعة، موهبة من الله تبارك وتعالى، كما يُنافي هذا روايات أخبار (الملاحم والفتن) الكثيرة المأثورة عنهمعليهم‌السلام ، والكاشفة عن علمهم بمسار وتفاصيل حركة أحداث العالم إلى قيام الساعة، وخصوصاً أخبار (ملحمة عاشوراء) المأثورة عن الخمسة أصحاب الكساء، الذين نزلت فيهم آية التطهير صلوات الله عليهم أجمعين(١) .

____________________

= ٣- يُعيّنه بالرقاع، السبحة، أو المصحف ) (راجع: جواهر الكلام، ١٢: ١٦٢).

وقال السبزواري: ( والظاهر أنّ ما ذُكِر في هذه الأخبار من السبحة والحصى والمشورة وحدوث العزم وغيرها - ممّا مرّ - من باب الغالب والمثال لا الخصوصية، ومُقتضى الأصل جواز استكشاف خيرة الله تعالى بكلّ وجه أمكن ذلك ما لم يكن فيه نهي شرعي، أو عنوان محرّم أو مكروه؛ إذ لا دليل على حرمة استكشاف الغيب بلا جزم ويقين، بل بطريق الرجاء. وقد كان رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يُحبّ الفأل ويكره الطيرة ). (مهذّب الأحكام، ٩: ١٠٠).

(١) ولقد كان الإمام الحسين(علي ه السلام) خاصة يُنبِّئ عن نهضته وعن مصرعه، وعن قاتليه منذ طفولته، فعن حذيفة بن اليمان قال: ( سمعت الحسين بن علي يقول:( والله، ليجتمعنّ على قتلي طُغاة بني أميّة، ويقدمهم عمر بن سعد ) . - وذلك في حياة النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ! - فقلتُ: أنبّأك بهذا رسول الله؟قال: ( لا ) . فأتيت النبيّ فأخبرته، فقال: ( علمي علمه، وعلمه علمي، وإنّا لنعلم بالكائن قبل كينونته ) . (دلائل الإمامة: ١٨٣ - ١٨٤).

لا يُقال: كيف يمكن هذا في حقّ الحسين عليه‌السلام ؟! هذا من الغلوّ فيه وفي أهل البيتعليهم‌السلام !! =

٢٢٨

إذن؛ فمعنى الاستخارة هنا من الممكن أن يكون هو الدعاء إلى الله تبارك وتعالى، في أن يجعل لهعليه‌السلام الخِيَر في مسعاه، ويوفّقه في الأمر الذي يُريده، أو أن يُيسّر له ما فيه الخير بتذليل كلّ الصعوبات والعوائق؛ لبلوغ ما يبتغيهعليه‌السلام في طريق نهضته المقدّسة، أو الدعاء إلى الله تبارك وتعالى في طلب المزيد من العزم، والتصميم على ما فيه الخير وجزيل المثوبة.

ولا شكّ أنّ المتابع المتأمّل، يُدرك أنّ الإمامعليه‌السلام - في جميع مُحاوراته التي ذكر فيها أمر الاستخارة - أراد بذلك أن يُسكت المخاطَب عن الإلحاح في نهيه عمّا هو عازم عليه.

ولا يُنافي ما قدّمنا، إذا حدّثنا التأريخ أنّ الإمامعليه‌السلام لجأ لقطع إلحاح المحاور إلى الاستفتاح بالقرآن - وهو يعلم نتيجة الاستفتاح مُسبقاً - كما فعل ذلك مع ابن عباس نفسه، فقد روي: « أنّ ابن عباس ألحّ على الحسينعليه‌السلام في منعه من المسير إلى الكوفة، فتفأَّل بالقرآن لإسكاته، فخرج الفأل قوله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ... ) (١) .

فقالعليه‌السلام :( إنّا لله وإنّا إليه راجعون، صدق الله ورسوله -. ثمّ قال: - يا بن عباس، فلا تُلحَّ عليَّ بعد هذا؛ فإنّه لا مردّ لقضاء الله عزّ وجلّ ) (٢) .

المحاورة الثالثة:

يقول التاريخ: « فلمّا كان من العشيّ أو من الغد، أتى الحسين عبد الله بن

____________________

= ذلك؛ لأنّ القوم يعتقدون بهذا لحذيفة بن اليمانرضي‌الله‌عنه ، ويروون عنه من هذا القبيل، بل أكثر من هذا، فقد رووا عنه أنّه قال: ( والله، إنّي لأعلم الناس بكلّ فتنة هي كائنة فيما بيني وبين الساعة ). (راجع: سير أعلام النبلاء: ٢:٣٦٥ - عن أحمد ومسلم).

(١) سورة آل عمران، الآية ١٨٥.

(٢) ناسخ التواريخ، ٢:١٢٢; ووسائل الشيعة، ٤:٨٧٥.

٢٢٩

عباس...

فقال: يا بن عم، إنّي أتصبَّر ولا أصبر، إنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك والاستئصال، إنّ أهل العراق قوم غدر، فلا تقربنَّهم، أقمْ بهذا البلد؛ فإنّك سيّد أهل الحجاز، فإن كان أهل العراق يُريدونك - كما زعموا - فاكتب إليهم فلينفوا عدوّهم، ثمّ أقدم عليهم، فإنْ أبيت إلاّ أن تخرج، فَسِرْ إلى اليمن فإنّ بها حصوناً وشعاباً، وهي أرض عريضة طويلة، ولأبيك بها شيعة وأنت عن الناس في عزلة، فتكتب إلى الناس وتُرسل وتبثُّ دُعاتك، فإنّي أرجو أن يأتيك عند ذلك الذي تُحبّ في عافية!

فقال له الحسينعليه‌السلام :( يا بن عم، إنّي - والله - لأعلم أنّك ناصحٌ مُشفق، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير! ) .

فقال له ابن عباس: فإن كنت سائراً، فلا تَسِرْ بنسائك وصبيتك، فو الله، إنّي لخائف أن تُقتلَ كما قُتِل عثمان ونساؤه وولْده ينظرون إليه!

ثمّ قال ابن عباس: لقد أقررت عين ابن الزبير بتخليتك إيّاه والحجاز والخروج منها، وهو اليوم لا ينظر إليه أحدٌ معك، والله الذي لا إله إلاّ هو، لو أعلم أنّك إذا أخذتُ بشعرك وناصيتك حتى يجتمع عليَّ وعليك الناس أطعتني لفعلتُ ذلك!!

قال: ثمّ خرج ابن عباس من عنده، فمرَّ بعبد الله بن الزبير فقال: قرّت عينك يا بن الزبير!

ثمّ قال:

٢٣٠

يالك من قُنبُرَة بمَعمْرِ

خلا لك الجوُّ فَبيِضي واصفري

ونقّري ما شئتِ أن تُنقّري

هذا حسينٌ يخرج إلى العراق! وعليك بالحجاز! »(١) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٣:٢٩٥ وقد روى ابن عساكر هذه المحاورة بتفاوت غير يسير، وأهمّ تفاوت فيها: (... فكلّمه ليلاً طويلاً وقال: أنشدك الله أن تهلك غداً بحال مضيعة، لا تأتِ العراق، وإن كنت لابدّ فاعلاً فأقمْ حتىْ ينقضي الموسم وتلقى الناس وتعلم على ما يصدرون، ثمّ ترى رأيك. وذلك في عشر ذي الحجّة سنة ستيّن - فأبى الحسين إلاّ أن يمضي إلى العراق... ). (راجع: تاريخ ابن عساكر (ترجمة الامام الحسين عليه‌السلام )، تحقيق المحمودي: ٢٠٤، رقم ٢٥٥).

ولا يخفى، أنّ تأريخ المحاورة الذي ذكره ابن عساكر لا يتوافق مع المشهور الثابت، في أنّ الإمام عليه‌السلام قد ارتحل عن مكّة في اليوم الثامن من ذي الحجّة.

ورواها أيضاً ابن أعثم الكوفي باختصار وتفاوت، وفي آخرها ( فقال الحسين: فإنّي أستخير الله في هذا الأمر وأنظر ما يكون. فخرج ابن عباس وهو يقول: وا حسيناه! )، كما روى الشعر الذي خاطب ابن عباس به ابن الزبير هكذا:

يا لك من قُنبرة بمعمرِ

خلا لك الجوُّ فبيضي واصفري

ونقّري ما شئت أن تُنقِّري

إن ذهب الصائد عنك فابشري

قد رُفع الفخّ فما من حذر

هذا الحسين سائر فانتشري

(راجع الفتوح، ٥:٧٣; ورواها عنه الخوارزمي في المقتل، ١: ٣١١).

وقد روى العلاّمة المجلسي (ره) في البحار، عن الشهيد الثاني (ره) بإسناده عن ابن قولويه (ره)، بإسناد عن الإمام الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه عليه‌السلام أنّه:( لما تجهّز الحسين عليه‌السلام إلى الكوفة أتاه ابن عباس فناشده الله والرحم أن يكون هو المقتول بالطفّ، فقال: أنا أعرف بمصرعي منك، وما وكدي من الدنيا إلاّ فراقها... ) . (البحار، ٧٨: ٢٧٣، باب ٢٣، حديث ١١٢).

والوكد: المراد والقصد.

٢٣١

المحاورة الرابعة:

روى الطبري «الإمامي» عن عبد الله بن عباس قال: لقيتُ الحسين بن عليّ وهو يخرج إلى العراق.. فقلت له: يا بن رسول الله، لا تخرج!

قال: فقال لي:( يا بن عباس، أما علمتَ أنَّ مَنيّتي من هناك وأنّ مصارع أصحابي هناك؟! ) .

فقلتُ له: فأنّى لك ذلك؟

قال:( بسِرٍّ سُّرَّ لي وعِلمٌ أُعطيتُه! ) (١) .

إشارة:

لا يخفى على المتأمّل في ما عثرنا عليه، من متون مُحاورات عبد الله بن عباسرضي‌الله‌عنه مع الإمام الحسينعليه‌السلام ظهور حقيقة - ما قدّمناه من قبل - أنّ المحور الأساس في تفكير ابن عباسرضي‌الله‌عنه هو تأييده لقيام الإمامعليه‌السلام ، ومُعارضته لخروجه إلى العراق قبل تحرّك أهله عملياً لنصرته.

ولم نعثر - حسب تتبُّعنا - على نصٍّ منسوب إلى ابن عباسرضي‌الله‌عنه ، يُفيد أنّه كان مُعارضاً لقيام الإمامعليه‌السلام ، أو أنّهرضي‌الله‌عنه نهى عن القيام، إلاّ ما ورد في كتاب «أسرار الشهادة» للدربندي (ره) نقلاً عن كتاب «الفوادح الحسينية»(٢) ، عن ابن

____________________

(١) دلائل الإمامة: ٧٤.

(٢) هناك كتابان بهذا الاسم ذكرهما صاحب الذريعة: الأول:هو (الفوادح الحسينية والقوادح البينية) المشهور بمقتل العصفور، للشيخ حسين العصفور ابن أخي صاحب الحدائق، المتوفَّى ليلة ٢١ شوال ١٢١٦ هـ ق، وهو على نهج مُنتخب الطريحى، وضعه لأن يُقرأ في عشرة المحرّم يوماً وليلة؛ ولذا

٢٣٢

عباسرضي‌الله‌عنه ، أنّه قال للإمام الحسين عليه‌السلام في ختام واحدة من مُحاوراته - بعد أن بكى بكاءً شديداً -: « يعزُّ - واللّهِ - عليَّ فراقك يا بن العم »، « ثمّ أقبل على الحسين وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة والدخول في صلح بني أميّة!! ».

فقال الحسينعليه‌السلام :( هيهات! هيهات! يا بن عباس، إنّ القوم لم يتركوني، وإنّهم يطلبونني أين كنت حتى أُبايعهم كُرهاً ويقتلوني، والله، لو كنتُ في جُحر هامّة من هوامّ الأرض لاستخرجوني منه وقتلوني، واللّه، إنّهم ليعتدُون عليَّ كما اعتدت اليهود في يوم السبت، وإنّي ماضٍ في أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، حيث أمرني، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون ) (١) .

ونقل صاحب كتاب « معالي السبطين » هذه المحاورة قائلاً: « وفي بعض الكُتب: جاء عبد الله بن عباس إلى الحسينعليه‌السلام ، وتكلّم معه بما تكلّم، إلى أن أشار عليه بالدخول في طاعة يزيد وصلح بني أميّة!! ».

وفي نقله إضافة إلى نقل الدربندي: أنّ ابن عباس قال للإمامعليه‌السلام بعد ذلك: يا بن العمّ، بلغني أنّك تُريد العراق، وإنّهم أهل غدر، وإنّما يدعونك للحرب؛ فلا تعجل، فأقم بمكّة!

فقالعليه‌السلام :( لإنْ أُقتل - والله - بمكان كذا أُحبّ إليَّ من أن أُستحلُّ بمكّة، وهذه كُتب أهل الكوفة ورُسلهم، وقد وجب عليَّ إجابتهم وقام لهم العُذر عليَّ عند الله سبحانه!

____________________

= رتّبه على عشرين مُصيبة بعدد الأيّام والليالي.

والثاني:هو (الفوادح الحسينية) للشيخ نمر بزّة، طُبع بمطبعة العرفان بصيدا، ٣٣ صفحة في تسعة مجالس، كلّ مجلس حاوٍ لحديث ومرثيّة. (الذريعة، ١٦: ٣٦٤).

والظاهر أنّ الكتاب الذي نقل عنه صاحب أسرار الشهادة هو الأوّل.

(١) أسرار الشهادة: ٢٤٦ - ٢٤٧.

٢٣٣

فبكى عبد الله حتى بُلَّت لحيته، وقال: وا حسيناه، وا أسفاه على حسين »(١) .

والملاحِظ المتأمّل يرى:

١) - أنّ ما ورد في هذين الكتابين، من دعوى « أنّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه أشار على الإمامعليه‌السلام بالدخول في صلح بني أميّة وطاعة يزيد » شاذّ غريب، مُخالف للمشهور الوارد في الكتب المعتبرة.

٢) - أنّ صاحب أسرار الشهادة، ينسب هذه الدعوى إلى كتاب الفوادح الحسينية ( لا نعرفه في الكتب المعتبرة )، وصاحب معالي السبطين ينسبها إلى (بعض الكُتب!)، ولا يخفى أنّها نسبة ظاهرة الضعف.

٣) - أنّ عبارة الدعوى نفسها ليست قولاً نطق به ابن عباس فنُقل عنه، بل هي من إنشاء صاحب أسرار الشهادة وصاحب معالي السبطين.

٤) - وهناك أيضاً تعارضٌ بيِّن بين عبارة صاحبي أسرار الشهادة ومعالي السبطين، ففي الأُولى: ( وأشار عليه بالرجوع إلى مكّة )، أي أنّ المحاورة حصلت بعد خروج الإمامعليه‌السلام من مكّة، وفي الثانية: ( فلا تعجل فأقم بمكّة ) أي أنّ المحاورة حصلت في مكّة.

كما لا يخفى أنّ القول: بأنّ المحاورة حصلت بعد خروج الإمامعليه‌السلام من مكّة أشدّ شذوذاً من أصل الدعوى نفسها؛ لأنَّ المشهور الثابت أنّ ابن عباسرضي‌الله‌عنه لم يلتقِ الإمامعليه‌السلام بعد خروجه من مكّة المكرّمة.

خُلاصة القضية: إنّ هذه الدعوى الشاذّة لا تستند إلى دليل مُعتبر يمكن الاطمئنان إليه، بل لا دليل عليها، ويبقى الأصل المستفاد من المتون المعتبرة

____________________

(١) معالي السبطين، ١:١٥١.

٢٣٤

صحيحاً، في أنّ موقف ابن عباسرضي‌الله‌عنه يتلخّص في تأييده لقيام الإمام عليه‌السلام ، ومُعارضته لخروجه إلى العراق قبل تحرّك أهله عملياً لنُصرته. نعم، هناك قول للسيّد ابن طاووس (ره) مُبهم الدلالة، وهو: وجاء عبد الله بن عباس رضوان الله عليه، وعبد الله بن الزبير فأشارا إليه بالإمساك. فقال لهما:( إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قد أمرني بأمر وأنا ماضٍ فيه ) . قال فخرج ابن عباس وهو يقول: وا حسيناه! »(١) .

ولا دلالة في هذه العبارة الغامضة: « فأشارا عليه بالإمساك » على أنّ ابن عباس أشار على الإمامعليه‌السلام بترك القيام، بل الأقوى دلالتها على ترك الخروج إلى العراق، بقرينة المتون التفصيلية الأُخرى ذات المضمون نفسه، التي أجاب فيها الإمامعليه‌السلام ابن عباسرضي‌الله‌عنه بأنّه ماضٍ إلى العراق بأمر رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله .

لماذا تخلَّف ابن عباسرضي‌الله‌عنه عن الإمام عليه‌السلام ؟!

عبد الله بن العبّاس بن عبد المطلّب بن هاشم رضي الله عنهم أجمعين، كان مؤمناً بإمامة أئمّة أهل البيت الاثني عشرعليهم‌السلام من بعد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله (٢) ، عارفاً

____________________

(١) اللهوف: ١٠١.

(٢) ويكفي في الدلالة على ذلك متن المحاورة - التي رواها سليم بن قيس - بين معاوية وعبد الله بن جعفررضي‌الله‌عنه وعبد الله بن عباسرضي‌الله‌عنه بمحضر الحسنينعليهما‌السلام (راجع: كتاب سليم بن قيس: ٢٣١ - ٢٣٨ / دار الفنون - لبنان)، وما رواه الخزاز القمّي في كفاية الأثر من روايات مُسندة عن ابن عباسرضي‌الله‌عنه في الأئمة الاثني عشر، وفي أسمائهمعليهم‌السلام (راجع: كفاية الأثر: ١٠ - ٢٢ / انتشارات بيدار)، ويكفي هنا أن ننتقي منه هذه الرواية عن عطا قال: ( دخلنا على عبد الله بن عباس، وهو عليل بالطائف، في العلّة التي توفِّي فيها، ونحن زهاء ثلاثين رجلاً من شيوخ الطائف، وقد ضعف، فسلّمنا عليه وجلسنا، فقال لي: يا عطا مَن القوم؟ قلت: يا سيّدي، هم شيوخ هذا البلد: منهم عبد الله بن سلمة بن حضرمي الطائفي، وعمارة بن أبي الأجلح، وثابت بن مالك، فما زلتُ أعدُّ له واحداً بعد واحد، ثمّ =

٢٣٥

بحقّهم، موقناً بأنّ نصرهم والجهاد تحت رايتهم فرض كفرض الصلاة والزكاة(١) ، وكانت سيرته مع الإمام أمير المؤمنين والإمام الحسن والإمام الحسينعليهما‌السلام كاشفة عن هذا الإيمان، وهذا اليقين، وهذه المعرفة(٢) ، وكانرضي‌الله‌عنه لا يتردّد في إظهار

____________________

= تقدّموا إليه فقالوا: يا بن عمّ رسول الله، إنّك رأيت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وسمعت منه ما سمعت، فأخبرنا عن اختلاف هذه الأمّة، فقوم قد قدّموا عليّاً على غيره، وقوم جعلوه بعد ثلاثة!

قال: فتنفّس ابن عباس، وقال: سمعت رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:( عليٌّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ، وهو الإمام والخليفة من بعدي، فمَن تمسّك به فاز ونجا، ومَن تخلّف عنه ضلّ وغوى. بلى، يُكفّنني ويُغسّلني ويقضي دَيني، وأبو سبطيَّ الحسن والحسين، ومن صُلب الحسين تخرج الأئمة التسعة، ومنّا مهديّ هذه الأمّة ) .

فقال له عبد الله بن سلمة الحضرمي: يا بن عمّ رسول الله، فهل كنت تُعرِّفنا قبل هذا؟!

فقال: والله، قد أدّيت ما سمعت، ونصحت لكم، ولكنَّكم لا تُحبّون الناصحين!

ثم قال: اتّقوا الله عباد الله، تقيّة مَن اعتبر بهذا... واعملوا لآخرتكم قبل حلول آجالكم، وتمسّكوا بالعُروة الوثقى من عترة نبيّكم؛ فإنِّي سمعتهصلى‌الله‌عليه‌وآله يقول:( مَن تمسّك بعترتي من بعدي كان من الفائزين ) .

ثمّ بكى بكاءً شديداً، فقال له القوم: أتبكي ومكانك من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله مكانك؟!

فقال لي: يا عطا، إنّما أبكي لخصلتين: هول المطّلع، وفِراق الأحبّة!

ثمّ تفرّق القوم، فقال لي: يا عطا، خُذْ بيدي واحملني إلى صحن الدار. ثمّ رفع يديه إلى السماء وقال: اللّهمّ، إنّي أتقرّب إليك بمحمّد وآله، اللّهمّ، إنّي أتقرّب إليك بولاية الشيخ علي بن أبي طالب. فما زال يُكررّها حتى وقع على الأرض، فصبرنا عليه ساعة، ثمّ أقمناه فإذا هو ميّت رحمة الله عليه ) (كفاية الأثر: ٢٠ - ٢٢; وانظر اختيار معرفة الرجال: ٥٦، الرقم ١٠٦).

(١) مرّ بنا في المحاورة الأُولى أنّهرضي‌الله‌عنه قال للإمام عليه‌السلام : ( وأنّ نصرك لفرض على هذه الأمّة، كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقدر أن يقبل أحدهما دون الأُخرى ).

(٢) قال العلاّمة في الخلاصة: ( عبد الله بن العباس من أصحاب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، كان مُحبّاً لأمير المؤمنين عليه‌السلام وتلميذه، حاله في الجلالة والإخلاص لأمير المؤمنين أشهر من أن يخفى... )، =

٢٣٦

____________________

= (ص١٠٣، ذكره في القسم الأوّل من كتابه / وانظر مُستدركات علم الرجال: ٥: ٤٣).

( وقد علم الناس حال ابن عباس في مُلازمته له - أي عليّ عليه‌السلام - وانقطاعه إليه، وأنّه تلميذه وخرّيجُه، وقيل له: أين علمك من علم ابن عمّك؟ فقال: كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط... ). (شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ١: ١٩)، وقال الشيخ حسن بن الشهيد الثاني: ( عبد الله بن العباس حاله في المحبّة والإخلاص لمولانا أمير المؤمنين والموالاة والنُّصرة له، والذبّ عنه والخصام في رضاه والموازرة، ممّا لا شُبهة فيه... ). (التحرير الطاووسي: ٣١٢).

وبعد أن أنهى الإمام الحسن عليه‌السلام خُطبته في الناس بعد وفاة أمير المؤمنين عليه‌السلام قام عبد الله بن عباس بين يديه فقال: ( معاشر الناس، هذا ابن نبيّكم ووصيّ إمامكم؛ فبايعوه... ) (كشف الغُمَّة:٢:١٥٩ وراجع: مقاتل الطالبيين: ٣٣).

وكانرضي‌الله‌عنه والياً للإمام الحسن عليه‌السلام على البصرة، كما كان والياً لأمير المؤمنين عليه‌السلام عليها.

وقد حاول أعداء أهل البيتعليهم‌السلام الطعن في هذه الشخصية الهاشمية الجليلة، فافتروا عليه أكذوبة اختلاس أموال بيت المال في البصرة، أيّام كان والياً عليها في حياة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وقد انبرى مُحقِّقون كثيرون من علمائنا لتفنيد هذه الأكذوبة، ولتنزيه ساحة حَبر الأمّة من أدرانها. ويحسن هنا أن ننتقي بعض المتون الواردة؛ دفاعاً عن ساحة ابن عباسرضي‌الله‌عنه :

( دخل عمرو بن عبيد على سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس بالبصرة، فقال لسليمان: أخبرني عن قول عليّ عليه‌السلام في عبد الله بن العباس: يُفتينا في النملة والقملة، وطار بأموالنا في ليلة! فقال له: كيف يقول هذا؟! وابن عباس لم يُفارق علياً حتى قُتِل، وشهد صلح الحسن عليه‌السلام ! وأيّ مال يجتمع في بيت مال البصرة مع حاجة عليّ عليه‌السلام إلى الأموال، وهو يُفرِّغ بيت مال الكوفة في كلّ خميس ويرشَّه، وقالوا: إنّه كان يُقيل فيه! فكيف يترك المال يجتمع بالبصرة؟! وهذا باطل! ) (أمالي المرتضى، ١: ١٧٧).

وقال السيّد الخوئي: ( هذه الرواية - أي رواية اختلاس أموال البصرة - وما قبلها من طُرق العامة، وولاء ابن عباس لأمير المؤمنين وملازمته له عليه‌السلام ؛ هو السبب الوحيد في وضع هذه الأخبار الكاذبة وتوجيه التهم والطعون عليه، حتى إنّ معاوية لعنه الله كان يلعنه بعد الصلاة! مع لعنه عليّاً =

٢٣٧

____________________

= والحسنين وقيس بن سعد بن عبادة والأشتر، كما عن الطبري وغيره... والمتحصّل ممّا ذكرنا:أنّ عبد الله بن عباس كان جليل القدر، مُدافعاً عن أمير المؤمنين والحسنين عليهم‌السلام كما ذكره العلاّمة وابن داود ) (مُعجم رجال الحديث، ١٠: ٢٣٩).

وقال ابن أبي الحديد: ( وقال آخرون وهم الأقلّون: هذا لم يكن، ولا فارق عبد الله بن عباس عليّاً عليه‌السلام ولا باينه ولا خالفه، ولم يزل أميراً على البصرة إلى أن قُتِل عليّ عليه‌السلام ... ويدلّ على ذلك ما رواه أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني، من كتابه الذي كتبه إلى معاوية من البصرة لما قُتل عليّ عليه‌السلام . قالوا: وكيف يكون ذلك ولم يخدعه معاوية ويجرّه إلى جهته، فقد علمتم كيف اختدع كثيراً من عمّال أمير المؤمنين عليه‌السلام واستمالهم إليه بالأموال، فمالوا وتركوا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فما باله وقد علم النبوّة التي حدثت بينهما، لم يستمل ابن عباس ولا اجتذبه إلى نفسه، وكلّ مَن قرأ السير وعرف التواريخ يعرف مُشاقّة ابن عباس لمعاوية بعد وفاة عليّ عليه‌السلام ، وما كان يلقاه به من قوارع الكلام وشديد الخصام، وما كان يُثني به على أمير المؤمنين عليه‌السلام ويذكر خصائصه وفضائله، ويصدع به من مناقبه ومآثره، فلو كان بينهما غبار أو كدر، لما كان الأمر كذلك، بل كانت الحال تكون بالضدّ، لما اشتهر من أمرهما. وهذا عندي هو الأمثل والأصوب ) (شرح نهج البلاغة، ٤: ١٧١).

وقال التُّستري: ( الأصل في جعلهم هذا الخبر - اختلاس أموال البصرة - في ابن عباس، إرادتهم دفع الطعن عن فاروقهم باستعماله في أيّام إمارته المنافقين والطُلقاء - كالمغيرة بن شعبة ومعاوية - وتركه أقرباء النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ... ) (قاموس الرجال، ٦: ٤٤١).

ويحسن هنا أن ننظر إجمالاً في سندَي خبرَي الاختلاس، اللذين أوردهما الكشّي: سند الخبر الأوّل:( قال الكشّي: روى عليّ بن يزداد الصائغ الجرجاني، عن عبد العزيز بن محمّد بن عبد الأعلى الجزري، عن خلف المحرومي البغدادي، عن سفيان بن سعيد، عن الزهري قال: سمعت الحارث يقول:... ) (اختيار معرفة الرجال، ١:٢٧٩، رقم ١٠٩).

ويكفي هذا السند ضعفاً وجود سفيان بن سعيد (الثوري) فيه، الذي هو ليس من أصحابنا، وورد في ذمّه أحاديث صحيحة. (راجع: مُنتهى المقال، ٣: ٣٥١).

هذا فضلاً عن عدائه لعليّ عليه‌السلام ، ولا ننسى قوله المعروف: ( أنا أبغض أن أذكر فضائل علي! ) =

٢٣٨

____________________

= ( سير أعلام النبلاء، ٧: ٣٥٣).

وفي السند أيضاً: الزهري الذي عُرف بأنّه كان يُدلِّس عن الضعفاء (راجع: تهذيب الكمال،٣٠:٤٧١ وميزان الاعتدال،٢:١٦٩ وتهذيب التهذيب، ١١: ٢١٨).

وعُرِف الزهري بأنّه أفسد نفسه بصحبة الملوك، وترك بعضهم حديثه؛ لكونه كان مُداخلاً للخلفاء! (راجع: سير أعلام النبلاء، ٥: ٣٣٩).

أمّا سند الخبر الثاني فهو:

( قال الكشّي: قال شيخ من أهل اليمامة، يذكر عن مُعلّى بن هلال، عن الشعبي قال:... ) (اختيار معرفة الرجال، ١:٢٧٩، رقم ١١٠).

ونقول:

١) - لكلمة الشيخ إطلاقات عديدة: منها: مَن له إلمام بالحديث، الزعيم الديني، رئيس القبيلة. لكنّ هذا العنوان لا محالة مُهمل ولا يمكن الاعتماد عليه؛ إذ لا يخرج عن الإبهام والترديد.

٢) - مُعلّى بن هلال: قال فيه أحمد بن حنبل: متروك الحديث، حديثه موضوع كذب. وقال فيه ابن معين: هو من المعروفين بالكذب ووضع الحديث. وقال فيه أبو داود: غير ثقة ولا مأمون. وقال سفيان: هذا من أكذب الناس.

وقال في المغني: كذّاب بالاتّفاق. ( راجع: ميزان الاعتدال، ٤:١٥٢. وتهذيب التهذيب، ١٠: ٢٤١).

٣) - الشعبي: وهو عامر بن شراحيل، قال الشيخ المفيد (ره): وبلغ من نُصب الشعبي وكذبه أنّه كان يحلف بالله، أنّ عليّاً دخل اللحد وما حفظ القرآن، وبلغ من كذبه أنّه قال: لم يشهد من الجَمل من الصحابة إلاّ أربعة، فإن جاؤوا بخامس فأنا كذّاب... كان الشعبي سكّيراً خمّيراً مُقامراً، روي عن أبي حنيفة أنّه خرَّق ما سمع منه لما خمّره وقمّره. (راجع: الفصول المختارة: ١٧١ وقاموس الرجال، ٥: ٦١٢).

وروى أبو نعيم، عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق قال: ثلاثة لا يُؤمَنون على عليّ بن أبي طالب: مسروق، ومرّة، وشُريح، وروي أنّ الشعبي رابعهم. (انظر: شرح نهج البلاغة لابن أبي =

٢٣٩

اعتزازه وافتخاره بما أنعم الله عليه به، من موالاتهم وحبّهم، والانقياد لهم والامتثال لأمرهم.

ومن جميل ما يُروى في ذلك، أنّ مُدرك بن زياد اعترض على ابن عباس، حين رآه ذات يوم وقد أمسك للحسن والحسينعليهما‌السلام بالركاب وسوّى عليهما، قائلاً: « أنت أسنُّ منهما تُمسك لهما بالركاب؟!

فقال: يا لُكع، وتدري مَن هذان؟! هذان ابنا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو ليس ممّا أنعم الله به عليَّ أن أُمسك لهما وأسوِّي عليهما؟! »(١) .

وكان ابن عباسرضي‌الله‌عنه قد حفظ ما سمع من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ومن أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، ما أخبرا به حول مقتل الإمام الحسينعليه‌السلام ، والأرض التي يُقتل فيها، وأسماء أصحابه، فها هو يروي قائلاً: « كنت مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في خرجته إلى صِفِّين، فلمّا نزل بنينوى وهو بشطّ الفرات قال بأعلى صوته:( يا بن عباس، أتعرف هذا الموضع؟! ) .

قلت له: ما أعرفه يا أمير المؤمنين!

فقالعليه‌السلام :( لو عرفته كمعرفتي لم تكن تجوزه حتّى تبكي كبكائي! ) .

قال: فبكى طويلاً حتّى اخضلّت لحيته، وسالت الدموع على صدره، وبكينا

____________________

= الحديد، ٤: ٩٨).

قال الشهيد الثاني: ( جملة ما ذكره الكشّي من الطعن فيه - أي ابن عباس - خمسة أحاديث كلّها ضعيفة السند... ). (انظر: سفينة البحار، ٦: ١٢٨).

وقال العلاّمة الحلّي: (... وقد ذكر الكشّي أحاديث تتضمّن قدحاً فيه، وهو أجلّ من ذلك، وقد ذكرناها في كتابنا الكبير وأجبنا عنها ) ( خلاصة الأقوال: ١٠٣).

وقال التفرشي: ( وما ذكره الكشّي من الطعن فيه ضعيف السند ) ( نقد الرجال، ٣: ١١٨).

(١) مناقب آل أبي طالب، ٣:٤٠٠ ؛ وفيات الأعيان ٦:١٧٩.

٢٤٠