مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٢

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة0%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 421

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

مؤلف: الشيخ نجم الدين الطبسي
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الصفحات: 421
المشاهدات: 195294
تحميل: 7520

الجزء 2
بحث داخل الكتاب
  • البداية
  • السابق
  • 421 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 195294 / تحميل: 7520
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء 2

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


الامام الحسين (ع) في مكة المكرمة

بسم الله الرحمن الرحيم

من الحسين بن عليّ إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين:

أمّا بعدُ: فإنّ هانياً وسعيداً قدما عليّ بكُتبكم، وكانا آخر مَن قدم عليّ من رُسلكم، وقد

____________________

أشراف العرب، وكان أبوه ممَّن قتله عبيد اللّه بن زياد في شأن الحسين بن علي.. عن شعبة أنّه كان سيّد أهل الكوفة. وزاد أبو حاتم: صالح من سادات أهل الكوفة ) (تهذيب الكمال، ٢٠: ٢٤٦).

أمّا سعيد بن عبد الله الحنفي، فهو في أعلى درجة الوثاقة والجلالة، ومن أفاضل شهداء الطفّ، وهو الذي جعل نفسه وقاية لمولانا الحسين صلوات الله عليه يوم عاشوراء حين الصلاة ). (مُستدركات علم الرجال ٤: ٦٨).

ولو لم يكن إلاّ ما ورد في زيارة الناحية المقدّسة في حقّه، لكفى في الكشف عن ثقته وجلالته، ففي الزيارة:( السلام على سعيد بن عبد الله الحنفي، القائل للحسين - وقد أذن له في الانصراف -: لا والله، لا نُخلّيك حتى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، والله، لو أعلم أنّي أُقتل، ثمَّ أُحيى، ثمّ أُحرق، ثمّ أُذرى، ويُفعل بي ذلك سبعين مرّة ما فارقتك حتى ألقى حمامي دونك، وكيف أفعل ذلك وإنّما هي موتة أو هي قتلة واحدة، ثمّ بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً. فقد لقيتَ حِمامك وواسيت إمامك، ولقيت من الله الكرامة في دار المقامة، حشرنا الله معكم في المستشهدين، ورزقنا مُرافقتكم في أعلى علّيين ) .

كما ازداد شرفاً بوقايته الحسين عليه‌السلام عند الصلاة، كما روى الطبري أنّه لما صلّى الحسين عليه‌السلام الظهر صلاة الخوف، اقتتلوا بعد الظهر فاشتدّ القتال، ولما قرب الأعداء من الحسين عليه‌السلام وهو قائم بمكانه استقدم سعيد الحنفي أمام الحسين عليه‌السلام ، فاستُهدف لهم يرمونه بالنبل يميناً وشمالاً وهو قائم بين يدي الحسين عليه‌السلام ، يقيه السهام طوراً بوجهه وطوراً بصدره وطوراً بجنبه، فلم يكد يصل إلى الحسين عليه‌السلام شيء من ذلك، حتى سقط الحنفي إلى الأرض وهو يقول: اللّهم، العنهم لعن عاد وثمود، اللّهم، أبلغ نبيّك عنِّي السلام، وأبلغه ما لقيت من ألم الجراح، فإنِّي أردت ثوابك في نُصرة نبيّك. ثمّ التفت إلى الحسين عليه‌السلام فقال: أوفيت يا بن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ قال: ( نعم، أنت أمامي في الجنّة ) . ثمّ فاضت نفسه النفيسة ) (تنقيح المقال ٢: ٢٨).

٤١

فهمت كلّ الذي اقتصصتم وذكرتم، ومقالة جُلّكم: إنّه ليس علينا إمام؛ فأقبِل لعلّ الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى. وإنّي باعث إليكم أخي وابن عمّي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليَّ أنَّه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحِجى والفضل منكم على مثل ما قدمتْ به رُسلكم وقرأت في كتبكم، فإنِّي أقدم إليكم وشيكاً إن شاء الله، فلَعَمري، ما الإمام إلاّ الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام ) (١) .

سفير الإمام الحسين عليه‌السلام إلى الكوفة:

« ودعا الحسينعليه‌السلام مسلم بن عقيل، فسرّحه مع قيس بن مُسَّهر الصيداوي(٢) ، وعمارة بن عبد الله السلولي(٣) ، وعبد الله وعبد الرحمان ابني شدّاد الأرحبي(٤) ، وأمره

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٤، وتاريخ الطبري ٣: ٢٧٨. والأخبار الطوال: ٢٣١ وفيه( ليعلم لي كُنه أمركم... ) .

(٢) قيس بن مُسَّهر الصيداوي: تأتي ترجمته في متن البحث فيما يأتي.

(٣) عمارة بن عبيدالله السلولي:

قال النمازي: ( عمارة بن عبد الله السلولي: لم يذكروه، هو حامل كتاب أهل الكوفة إلى مولانا الحسين عليه‌السلام ، ورجع مع مسلم إلى الكوفة ) (مُستدركات علم الرجال ٦: ٢٠).

وقال التستري: ( عمارة بن عبيد السلولي: في الطبري، مرض هاني فجاءه ابن زياد عائداً، فقال له عمارة: إنَّما جماعتنا وكيدنا قتل هذا الطاغية.. فقد أمكنك الله منه فاقتله! قال هاني: ما أُحبّ أن يُقتل في داري.

وهو (أي عمارة) من أواسط رُسل أهل الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام ، حملوا معه ومع قيس بن مُسهَّر وعبد الرحمان الأرحبي نحواً من ٣٥٠ صحيفة، وأرسل الحسين عليه‌السلام معهم مسلماً، كما في الطبري أيضاً ).

(قاموس الرجال ٨: ٥٤).

(٤) عبد الله وعبد الرحمان ابني شدّاد الأرحبي:

قال النمازي: ( عبد الرحمان بن شدّاد الأرحبي: لم يذكروه، هو وأخوه عبد الله بن شدّاد =

٤٢

____________________

= رسولان من قِبَل أهل الكوفة إلى مولانا الحسين صلوات الله عليه، ثمّ أرسلهما الحسين عليه‌السلام مع ابن عمّه مسلم إلى الكوفة. كما عن المفيد في الإرشاد ). ( مُستدركات علم الرجال ٤: ٤٠١).

وقال التستري: ( عبد الرحمان بن عبد الله الأرحبي: عدّه الشيخ في رجاله في أصحاب الحسين عليه‌السلام ، وذكر أهل السير: أنّه أحد الأربعة الذين مضوا إلى مكّة ومعهم نيّف وخمسون صحيفة، ودخلوا مكّة لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، وهو أحد مَن وجّههم الحسين عليه‌السلام مع مسلم، فلمّا قُتل مسلم ردَّ هذا من الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام حتى استُشهد، وورد التسليم عليه في الناحية والرجبية.

أقول: إنّما هذا من رُسل أهل الكوفة في الوسط، والطبري جعلهم ثلاثة: هذا، وقيس، وعمارة السلولي، لا أربعة، وورودهم في اليوم الذي قال غير معلوم، وإنّما قال الطبري في الرُّسل الأولين، وكان قدومهم لعشر مضينَ منه، وكان تسريح هؤلاء بعد الأوّلَين بيومين، وأمّا يوم قدومهم فلم يذكره، ولم يُعلم كون سيرهما واحداً، وذكر الطبري أيضاً بعث الثلاثة مع مسلم: وأمّا رجوع هذا إليه عليه‌السلام قبل قتل مسلم أو بعده، فلم أقف عليه، والزيارتان تضمّنتا السلام عليه ). (قاموس الرجال ٦: ١٢٣الرقم ٤٠٢٦).

وقال السماوي: ( هو عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن بن أرحب... وبنو أرحب بطن من همدان، كان عبد الرحمان وجهاً تابعيّاً شجاعاً مقداماً.

قال أهل السيَر: أوفده أهل الكوفة إلى الحسين عليه‌السلام في مكّة مع قيس بن مُسهَّر ومعهما كُتب نحو من ثلاث وخمسين صحيفة.. وكانت وفادته ثانية الوفادات، فإنّ وفادة عبد الله بن سبع وعبد الله بن والٍ الأُولى، ووفادة قيس وعبد الرحمان الثانية، ووفادة سعيد بن عبد الله الحنفي وهاني بن هاني السبعي الثالثة..

وقال أبو مخنف: ولما دعا الحسين مسلماً وسرّحه قبله إلى الكوفة، سرّح معه قيساً وعبد الرحمان وعمارة بن عبيد السلولي، وكان من جملة الوفود. ثمَّ عاد عبد الرحمان إليه، فكان من جملة أصحابه، حتى إذا كان اليوم العاشر ورأى الحال استأذن في القتال، فأذن له الحسين عليه‌السلام ، فتقدّم يضرب بسيفه في القوم وهو يقول:

صبراً على الأسياف والأسنّة

صبراً عليها لدخول الجنّة

٤٣

بالتقوى، وكتمان أمره، واللطف، فإن رأى الناس مُجتمعين مستوسقين عجّل إليه بذلك.. »(١) .

ماذا يعني كتمان الأمر هنا؟ هل يعني أن يكتم مسلم بن عقيلعليه‌السلام أمر سفارته ما دام في الطريق حتى يصل إلى الكوفة؟ أم يعني أن يتّبع مسلم بن عقيلعليه‌السلام الأسلوب السرِّي في تعبئة أهل الكوفة للنهضة مع الإمامعليه‌السلام ؟ أم يعني أن يكتم أمر مكانه وزمان تحرُّكاته ومواقع مخازن أسلحته وأشخاص قياداته ومُعتمديه من أهل الكوفة وكلمة السرّ في وثبته؟ أم غير ذلك؟

وماذا يعني اللطف هنا؟ هل هو اللطف مع الناس وهو من أخلاق الإسلام؟ أم اللطف هنا بمعنى عدم المواجهة المسلّحة مع السلطة المحلّية الأُمويّة في الكوفة، حتى يصل إليها الإمامعليه‌السلام أو يأذن بذلك؟ وهل كانت مهمّة مسلم بن عقيلعليه‌السلام - على ضوء هذه الرواية - مُنحصرة في معرفة الرأي العام الكوفي، ومعرفة صدق أهل الكوفة فيما كتبوا به إلى الإمامعليه‌السلام ؟

هناك رواية أُخرى تقول: إنّ رسالة الإمامعليه‌السلام إلى أهل الكوفة حوَت أيضاً هذه العبارات:

(... وقد بعثت إليكم أخي وابن عمِّي مسلم بن عقيل بن أبي طالب، وأمرته

____________________

= ولم يزل يُقاتل حتى قُتل. رضوان الله عليه). (إبصار العين: ١٣١ - ١٣٢).

وهكذا ذهب المامقاني أيضاً إلى أنّه: عبد الرحمان بن عبد الله بن الكدن الأرحبي، وقال فيه أيضاً: ( وهو أحد النفر الذين وجَّههم الحسين عليه‌السلام مع مسلم، فلمّا خذلوا أهل الكوفة وقُتل مسلم ردَّ عبد الرحمان هذا إلى الحسين عليه‌السلام من الكوفة، ولازمه حتى نال شرفي الشهادة وتسليم الإمام عليه‌السلام في زيارتي الناحية المقدَّسة والرجبية رضوان الله عليه ). (تنقيح المقال ٢: ١٤٥).

(١) الإرشاد: ٤٤.

٤٤

أن يكتب إليَّ بحالكم وخبركم ورأيكم ورأي ذوي الحِجى والفضل منكم، وهو متوجّه إليكم إن شاء الله، ولا قوّة إلاّ بالله، فإن كنتم على ما قدمتْ به رُسلكم وقرأتُ في كُتبكم، فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه، فلعمري، ما الإمام العامل بالكتاب القائم بالقسط كالذي يحكم بغير الحقّ ولا يهتدي سبيلاً... ) (١) .

ومن هذا النصّ؛ يتجلّى لنا أنّ مهمّة مسلم بن عقيلعليه‌السلام في الكوفة لم تنحصر في استطلاع الرأي العام الكوفي ومعرفة حقيقة ومصداقية التوجُّهات فيها، بل كانت مهمَّته الأساسية فيها هي الثورة بأهل الكوفة ضدَّ السلطة المحلّية الأُمويّة فيها والتمهيد للقضاء على الحكم الأُموي كلّه؛ والدليل على هذا قولهعليه‌السلام :

( فقوموا مع ابن عمّي وبايعوه ولا تخذلوه... ).

ويتابع ابن أعثم الكوفي روايته التاريخية قائلاً: « ثمّ طوى الكتاب، وختمه، ودعا بمسلم بن عقيل، فدفع إليه الكتاب، وقال:

« إنّي موجّهك إلى أهل الكوفة، وسيقضي الله من أمرك ما يحبّ ويرضى، وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء، فامضِ ببركة الله وعونه حتى تدخل الكوفة، فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها، وادعُ الناس إلى طاعتي، فإن رأيتهم مُجتمعين على بيعتي فعجِّل عليَّ بالخبر؛ حتى أعمل على حساب ذلك إن شاء الله تعالى. ثمَّ عانقه الحسين عليه‌السلام وودّعه وبكَيا جميعاً » (٢) .

ومن هذه الرواية نستفيد؛ أنّ « كتمان الأمر » في الرواية الأُولى لا يعني اتّباع

____________________

(١) الفتوح ٥: ٣٥، ومقتل الخوارزمي ١: ١٩٥ - ١٩٦.

(٢) الفتوح ٥: ٣٦، ومقتل الخوارزمي ١: ١٩٦.

٤٥

مسلم بن عقيل أُسلوب العمل السرِّي في الدعوة إلى طاعة الإمام عليه‌السلام ؛ ذلك لأنّ ظاهر قوله عليه‌السلام ( وادعُ الناس إلى طاعتي ) ، هو العلانية في العمل.

نعم، قد يلزم الأمر أن تكون البداية والمنطلق من أهل الثقة والولاء، وهذا ما يُشعر به قولهعليه‌السلام :( فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها ) .

ويُستفاد من هذه الرواية أيضاً؛ أنّ الإمامعليه‌السلام قد أشعر مسلم بن عقيلعليه‌السلام أو أخبره بأنّ عاقبة أمره الفوز بالشهادة؛ من خلال قولهعليه‌السلام :( وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء! ) .

والعلم بأنّ المصير هو القتل لا يمنع من المضيّ في أداء التكليف، إذا كان الأمر مُتعلِّقاً بإحدى مصالح الإسلام العُليا.

ومما يدلّ على أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام قد علم من قول الإمامعليه‌السلام أنّه متوجّه إلى الشهادة، وأنّ هذا آخر العهد بابن عمّه الإمام الحسينعليه‌السلام هو أنّهما تعانقا وودّع أحدهما الآخر وبكيا جميعاً! وتقول رواية تاريخية: « فخرج مسلم من مكّة في النصف من شهر رمضان، حتى قَدِم الكوفة لخمسٍ خلون من شوّال... »(١) .

مَن هو مسلم بن عقيل عليه‌السلام :

إنّه مسلم بن عقيل بن أبي طالب، من أصحاب عليّ والحسنينعليهما‌السلام ، وقد تزوّج رقيّة(٢) بنت الإمام عليّعليه‌السلام ، وكان على ميمنة جند أمير المؤمنينعليه‌السلام يوم صِفِّين مع الحسن والحسينعليهما‌السلام وعبد الله بن جعفر(٣) .

____________________

(١) مروج الذهب ٢: ٨٩.

(٢) المجدي في أنساب الطالبيين: ١٨، وأنساب الأشراف ٢: ٨٣٠.

(٣) بحار الأنوار ٤٢: ٩٣.

٤٦

قال الخوئي: « وكيف كان، فجلالة مسلم بن عقيل وعظمته فوق ما تحويه عبارة، فقد كان بصِفِّين في ميمنة أمير المؤمنينعليه‌السلام ... »(١) .

وعليه؛ لا يُعقل أن يكون عمره الشريف يوم بعثه الإمام الحسينعليه‌السلام إلى الكوفة ٢٨ سنة على ما قاله المامقاني(٢) ؛ لأنّ صِفِّين كانت عام ٣٧ للهجرة، ومعناه أنَّ عمره يوم صِفِّين كان أقلَّ من عشر سنين!!.

هذا، وقد أخبر النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله علياًعليه‌السلام بأنّ مسلماًعليه‌السلام سوف يُقتل في محبّة الحسينعليه‌السلام ، فقد روى الصدوق (قدّس سرّه) في أماليه: قال عليّعليه‌السلام لرسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله :( يا رسول الله، إنّك لتُحبّ عقيلاً؟ قال: إيْ والله، إنِّي لأُحبّه حبَّين: حبَّاً له، وحبّاً لحبّ أبي طالب له، وإنّ ولده لمقتول في محبَّة ولَدك، فتدمع عليه عيون المؤمنين، وتُصلّي عليه الملائكة المقرّبون، ثمّ بكى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله حتى جرت دموعه على صدره، ثمّ قال:إلى الله أشكو ما تلْقى عترتي من بعدي ) (٣) .

وكان مسلمعليه‌السلام مثالاً سامياً في الأخلاق الإسلامية عامة، وفي الشجاعة والجُرأة والبأس خاصة، وقد شهدت له ملحمته في الكوفة بتلك الأخلاقية السامية عامة، وتلك الشجاعة خاصة، حتى قال عدوّه محمد بن الأشعث - وهو يصفه لابن زياد -: «.. أوَ لم تعلم - أيُّها الأمير - أنّك بعثتني إلى أسد ضرغام! وسيف حسام في كفِّ بطل هُمام من آل خير الأنام...! »(٤) .

« ونُقل عن بعض كُتب المناقب: أنّ مسلم بن عقيل كان مثل الأسد، وكان من

____________________

(١) معجم رجال الحديث ١٨: ١٥٠.

(٢) تنقيح المقال ٣: ٢١٤.

(٣) أمالي الصدوق: ١١١، المجلس ٢٧، حديث رقم ٣، وعنه البحار: ٢٢:٢٨٨.

(٤) نفَس المهموم: ١١١.

٤٧

قوّته أنّه يأخذ الرجل بيده فيرمي به فوق البيت »(١) .

وفي بعض كتب المناقب: أرسل الحسينعليه‌السلام مسلم بن عقيل إلى الكوفة، وكان مثل الأسد(٢) .

ومن مواقفه الكاشفة عن شجاعته الهاشمية الفذّة، موقفه أمام معاوية أيّام حكمه، وقد طلب منه ردّ المال وأخذ الأرض، حيث قال له مسلم: مَهْ، دون أن أضرب رأسك بالسيف!(٣) .

هل طلب مسلم الاستعفاء من السفارة؟!:

روى الطبري في تأريخه، والشيخ المفيد (قدس سره) في إرشاده: أنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام بعث إلى الإمام الحسينعليه‌السلام أثناء طريقه إلى الكوفة، يطلب منه أن يعفيه من مهمَّة السفارة إلى أهل الكوفة، في قصّة هي على رواية الطبري كما يلي:

« فأقبل مسلم حتى أتى المدينة، فصلّى في مسجد رسول الله، وودَّع مَن أحبّ من أهله، ثمّ استأجر دليلين من قيس فأقبلا به، فضلاَّ الطريق وجارا، وأصابهم عطش شديد، وقال الدليلان: هذا الطريق حتى تنتهي إلى الماء، وقد كادوا أن يموتوا عطشاً « وفي رواية الإرشاد: ومات الدليلان عطشاً »، فكتب مسلم بن عقيل - مع قيس بن مُسهَّر الصيداوي - إلى الحسين، وذلك بالمضيق من بطن الخُبيت « وفي رواية الإرشاد: بطن الخبت »: أمّا بعدُ، فإنّي أقبلت من المدينة معي دليلان لي، فجارا عن الطريق وضلاَّ، واشتدّ علينا العطش، فلم يلبثا أن ماتا، وأقبلنا حتى انتهينا

____________________

(١) نفس المصدر.

(٢) راجع: البحار ٤٤: ٣٥٤.

(٣) راجع البحار ٤٢: ١١٦.

٤٨

إلى الماء، فلم ننجُ إلا بحشاشة أنفسنا، وذلك الماء بمكان يُدعى المضيق من بطن الخبيت، وقد تطيّرتُ من وجهي هذا، فإن رأيت أعفيتني منه وبعثت غيري، والسلام.

فكتب إليه الحسين:

( أمّا بعدُ، فقد خشيت ألاّ يكون حملك على الكتاب إليَّ في الاستعفاء من الوجه الذي وجّهتك له إلاَّ الجُبن، فامضِ لوجهك الذي وجَّهتك له، والسلام عليك ).

فقال مسلم لمن قرأ الكتاب «وفي رواية الإرشاد: فلمَّا قرأ مسلم الكتاب قال:»: هذا ما لستُ أتخوّفه على نفسي... »(١) .

إنّ مَن يُراجع ترجمة حياة مسلم بن عقيل - على اختصارها في الكُتب - وله معرفة بالعُرف العربي آنذاك عامة، وبالشمائل الهاشمية خاصة لا يتردّد في أنّ هذه القصّة مُختلَقة، وأنّها من وضع أعداء أهل البيتعليهم‌السلام لتشويه صورة وسُمعة هذا السفير العظيم؛ فإنّ مسلماًعليه‌السلام كان أحد قيادات ميمنة جيش أمير المؤمنين عليّعليه‌السلام ، وهو الذي خاطب معاوية - وكان آنذاك الطاغية ذا اليد المطلقة في العالم الإسلامي -: مَهْ، دون أن أضرب رأسك بالسيف! وهو الذي ودّع الإمام الحسينعليه‌السلام وداع فراق لا لقاء بعده إلاّ في الجنّة، بعد أن عرف أنّه مُتوجّه إلى الشهادة لا محالة من قول الإمامعليه‌السلام له:( وأنا أرجو أن أكون أنا وأنت في درجة الشهداء ).

____________________

(١) تاريخ الطبري ٣: ٢٧٨، والإرشاد: ٢٠٤، والأخبار الطوال: ٢٣٠.

٤٩

تُرى، هل تخشى الموت نفس مُطمئنّة بالسعادة بعده؟! وهل تتطيّر من لقاء الموت نفس مُشتاقة إلى لقاء الله ولقاء رسولهصلى‌الله‌عليه‌وآله والأحبّة الماضين من أهل البيتعليهم‌السلام ؟! وهل فارقت الطمأنينة نفس مسلمعليه‌السلام لحظة ما؟! وهذه سيرته في الكوفة تشهد له بثبات وطمأنينة مُستيقن من أمره، لا يفوقه في مستوى ثباته إلاّ الإمام المعصومعليه‌السلام . وهل يعقل العارف المتأمّل أو يقبل أنّ الإمام الحسينعليه‌السلام يُرسل في هذه السفارة الخطيرة مَن يعتوره جُبن، أو يتطيّر من وجْهته لعارض من المألوف أن يُصيب كثيراً من المسافرين في تلك الأيام؟! ثمّ، هل من الأدب الحسيني أنّ يُخاطب الإمامعليه‌السلام ابن عمّه مسلماًعليه‌السلام بهذا النوع من الخطاب ويتّهمه بالجُبن؟!

يقول السيّد المقرَّم (قدس سره): « فإنّ المتأمّل في صكِّ الولاية الذي كتبه سيد الشهداء لمسلم بن عقيل، لا يفوته الإذعان بما يحمله من الثبات والطمأنينة ورَباطة الجأش، وأنّه لا يهاب الموت، وهل يعدو بآل أبي طالب إلاّ القتل الذي لهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة؟! ولو كان مسلم هيّاباً في الحروب؛ لَما أقدم سيد الشهداء على تشريفه بالنيابة الخاصة عن التي يلزمها كلّ ذلك.

فتلك الجملة التي جاء بها الرواة، وسجّلها ابن جرير للحطِّ من مقام ابن عقيل الرفيع، مُتفكِّكة الأطراف واضحة الخلل!

كيف، وأهل البيت ومَن استضاء بأنوار تعاليمهم لا يعبأون بالطيرة ولا يُقيمون لها وزناً؟!

وليس العجب من ابن جرير إذا سجّلها؛ ليشوّه بها مقام شهيد الكوفة، كما هي عادته في رجالات هذا البيت، ولكنَّ العجب، كيف خفيت على بعض أهل النظر والتدقيق حتى سجّلها في كتابه، مع أنّه لم يزل يلهج بالطعن في أمثالها ويحكم

٥٠

بأنّها من وضع آل الزبير ومَن حذا حذوهم؟! »(١) .

ويظهر أنّ السيّد المقرّم يرى صحّة أصل الحادثة وموت الدليلين، وأنّ مسلم ابن عقيلعليه‌السلام بعث برسالة إلى الإمامعليه‌السلام وأنّ الإمامعليه‌السلام قد بعث إليه بجواب، ولكن المضمون الذي يُنسب فيه التطيّر والجُبن إلى مسلم بن عقيلعليه‌السلام هو من الموضوعات المختلقة التي لا صحّة لها(٢) .

غير أنّ الشيخ باقر شريف القرشي يُنكر أصل الرسالة والجواب، ويراهما من الموضوعات حيث يقول:

١- « إنّ مضيق الخبت الذي بعث منه مسلم رسالته إلى الإمام يقع ما بين مكّة والمدينة حسب ما نصّ عليه الحموي (معجم البلدان ٢: ٣٤٣)، في حين أنّ الرواية تنصّ على أنّه استأجر الدليلين من يثرب، وخرجوا إلى العراق، فضلّوا عن الطريق ومات الدليلان. ومن الطبيعي أنّ هذه الحادثة وقعت ما بين المدينة والعراق، ولم تقع ما بين مكّة والمدينة.

٢- إنّه لو كان هناك مكان يُدعى بهذا الاسم يقع ما بين يثرب والعراق لم يذكره الحموي، فإنّ السفر منه إلى مكّة ذهاباً وإياباً يستوعب زماناً يزيد على عشرة أيّام، في حين أنّ سفر مسلم من مكّة إلى العراق قد حدّده المؤرّخون فقالوا: إنّه سافر من مكّة في اليوم الخامس عشر من رمضان، وقَدم إلى الكوفة في اليوم الخامس من شوّال، فيكون مجموع سفره عشرين يوماً، وهي أسرع مدّة يقطعها المسافر

____________________

(١) مسلم بن عقيل: ١٣٨.

(٢) راجع نفس المصدر: ١١١ - ١١٣.

٥١

من مكّة إلى المدينة « ثمّ إلى الكوفة »(١) وإذا استثنينا من هذه المدّة سفر رسول مسلم من ذلك المكان ورجوعه إليه، فإنّ مدّة سفره من مكّة إلى الكوفة تكون أقلّ من عشرة أيّام، ويستحيل - عادة - قطع تلك المسافة بهذه الفترة من الزمن.

٣- إنّ الإمام اتّهم مسلماً - في رسالته - بالجُبن، وهو يُناقض توثيقه له: من أنّه ثقته وكبير أهل بيته، والمبرّز بالفضل عليهم، ومع اتّصافه بهذه الصفات، كيف يتّهمه بالجُبن؟!

٤- إنّ اتّهام مسلم بالجُبن يتناقض مع سيرته، فقد أبدى هذا البطل العظيم من البسالة والشجاعة النادرة ما يُبْهر العقول؛ فإنّه حينما انقلبت عليه جموع أهل الكوفة قابلها وحده، من دون أن يُعينه أو يقف إلى جنبه أيُّ أحد، وقد أشاع في تلك الجيوش المكثّفة القتل؛ ممّا ملأ قلوبهم ذُعراً وخوفاً، ولما جيء به أسيراً إلى ابن زياد لم يَظهر عليه أيّ ذلٍّ أو انكسار، ويقول فيه البلاذري: إنّه أشجع بني عقيل وأرجلهم (أنساب الأشراف ٢: ٨٣٦)، بل هو أشجع هاشمي عرفه التأريخ بعد أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام .

إنّ هذا الحديث من المفتريات الذي وضِع للحطِّ من قيمة هذا القائد العظيم، الذي هو من مفاخر الأمّة العربية والإسلامية »(٢) .

ولذا؛ فنحن نُرجِّح رأي القرشي على رأي المقرّم في هذه المسألة، ونذهب للذي ذهب إليه، في أنّ أصل الرسالة والجواب لا صحّة لهما، والظنُّ قويّ في أنّ الحادثة أيضاً لا صحّة لها.

____________________

(١) ما بين القوسين ليس من الأصل، ولكنّ الصحيح هو هكذا.

(٢) حياة الإمام الحسين عليه‌السلام ٢: ٣٤٣ - ٣٤٤.

٥٢

مسلم بن عقيل عليه‌السلام في الكوفة:

كان الإمام الحسينعليه‌السلام قد أوصى مسلم بن عقيلعليه‌السلام - كما مرَّ بنا - أن يكون نزوله في الكوفة، عند أوثق أهلها( فإذا دخلتها فانزل عند أوثق أهلها ) (١) ؛ ذلك لأنّ من الطبيعي أن تكون انطلاقة عمله السياسي الثوري، في دعوة الناس إلى طاعة الإمامعليه‌السلام وتعبئتهم للقيام معه، وتخذيلهم عن آل أبي سفيان، من منزل يكون صاحبه من أوثق أهل الكوفة في الولاء لأهل البيتعليهم‌السلام .

قال ابن كثير في تأريخه: « فلمّا دخل الكوفة نزل على رجل يُقال له: مسلم بن عوسجة الأسدي(٢) .

____________________

(١) الفتوح ٥: ٣٦.

(٢) مسلم بن عوسجة الأسدي: ويُكنَّى أبا حجل، الأسدي السعدي، كان رجلاً شريفاً سريَّاً عابداً مُتنسِّكاً. وكان صحابياً ممّن رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكان فارساً شجاعاً، له ذكر في المغازي والفتوح الإسلامية.

قال أهل السير: إنّه ممّن كاتب الحسين عليه‌السلام من الكوفة ووفّى له، وممَّن أخذ البيعة له عند مجيء مسلم بن عقيل إلى الكوفة. ولما دخل عبيد الله بن زياد الكوفة، وسمع به مسلم بن عقيل خرج إليه ليُحاربه، فعقد لمسلم بن عوسجة على ربع مذحج وأسد، و...، فنهدوا إليه حتى حبسوه في قصره، ثمّ لما دارت رحى الأحداث على غير ما يتمنّاه أنصار الحق، وقُبض على مسلم بن عقيل وهاني بن عروة اختفى مسلم بن عوسجة مدّة، ثمّ فرّ بأهله إلى الحسين عليه‌السلام فوافاه بكربلاء، وفداه بنفسه رضوان الله تعالى عليه. وهو القائل للإمام عليه‌السلام لما رخّص أنصاره ليلة العاشر بالانصراف عنه: أنحن نُخلّي عنك ولم نُعذر إلى الله في أداء حقّك؟! أم والله، لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رُمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه بيدي ولا أُفارقك، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت معك. ولمزيد من معرفة فضائل وتأريخ هذا الشهيد المقدّس راجع ترجمته في كتاب ( إبصار العين في أنصار الحسين عليه‌السلام : ١٠٧ - ١١١).

٥٣

وقيل: نزل في دار المختار بن أبي عبيد الثقفي(١) ... »(٢) .

____________________

(١) المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي: ولِد عام الهجرة، وحضر مع أبيه بعض الحروب، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان يتفلَّت للقتال فيمنعه عمّه، فنشأ مقداماً شجاعاً لا يتَّقي شيئاً، وتعاطى معالي الأمور، وكان ذا عقل وافر، وجواب حاضر، وخِلال مأثورة، ونفس بالسخاء موفورة.

وهو الذي فتك بمُعظم الذين شركوا في دم الإمام الحسين عليه‌السلام وزعمائهم أيّام ولايته التي دامت ثمانية عشر شهراً، وقُتل على يد مصعب بن الزبير وعمره ٦٧ سنة.

وقد اختلفت الروايات فيه، فبعضها مادحة، وبعضها ذامَّة، والذامّة منها ضعيفة السند، ومنها قاصرة الدلالة، أو صدرت تقيّة، والمادحة فيها روايات صحيحة. كما اختلفت الأقوال فيه، ويكفينا هنا قول خمسة من المعاصرين:

١- الخوئي: ( يكفي في حُسن حال المختار إدخاله السرور في قلوب أهل البيتعليهم‌السلام ؛ بقتله قَتَلَة الحسين عليه‌السلام ، وهذه خدمة عظيمة لأهل البيتعليهم‌السلام يستحقُّ بها الجزاء من قِبَلهم. أفهل يُحتمل أنّ رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وأهل البيتعليهم‌السلام يغضُّون النظر عن ذلك، وهم معدن الكرم والإحسان...؟! وهذا محمد بن الحنفيّة، بينما هو جالس في نفر من الشيعة وهو يعتب على المختار - في تأخير قتله عمر بن سعد - فما تمّ كلامه إلاَّ والرأسان عنده، فخرَّ ساجداً وبسط كفَّيه وقال: اللّهمَّ، لا تنسَ هذا اليوم للمختار، وأجزِأه عن أهل بيت نبيّك محمّد خير الجزاء، فو الله، ما على المختار بعد هذا من عتب... ). (معجم رجال الحديث ١٨: ١٠٠).

٢- المحدّث القمّي: الروايات في المختار الثقفي مُختلفة، لكنَّ المسلّم بأنّه أدخل السرور والفرح إلى قلب الإمام زين العابدين، بل إنّه أدخل السرور والفرح إلى قلوب آل الرسولعليهم‌السلام والثَّكالى واليتامى، الذين استُشهد آباؤهم مع الإمام الحسين عليه‌السلام ، فخمس سنوات كان العزاء والحزن يُخيِّمان على بيوت أصحاب المصيبة، فلم تُرَ مُكحَّلة ولا خاضبة ولا دخانٌ يتعالى من بيوتهنّ حتى شاهدن رأس عُبيد الله بن زياد، فخرجن من العزاء. وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المختار أشاد البيوت التي هُدمت، وبعث بالعطايا إلى المظلومين، فهنيئاً للمختار الذي بعمله هذا أدخل الفرح إلى قلوب أهل بيت رسول اللهعليهم‌السلام المطهّرين ( وقايع الأيّام ص ٤٠).

٣- النمازي: ( والمختار - يعني الذي أنا أختاره - أنّه المختار لطلب الثار، شفى الله به صدور =

٥٤

____________________

= الأطهار، وسرَّ به قلوب الأبرار، وينجو بشفاعة سيدنا الحسين صلوات الله عليه من درك النار، جزاه الله خيراً من لطف الغفّار). ( مُستدركات علم الرجال ٧: ٣٨٥).

٤- الأميني: ( مَن عَطَفَ على التأريخ والحديث وعلم الرجال نظرة تشفعها بصيرة نفّاذة، علم أنّ المختار في الطليعة من رجالات الدين والهدى والإخلاص، وأنّ نهضته الكريمة لم تكن إلاَّ لإقامة العدل باستئصال شأفة الملحدين، واجتياح جذوم الظلم الأمويّ، وأنّه بمَنزح من المذهب الكيساني، وأنّ كلّ ما نبزوه من قذائف وطامّات لا مقيل لها من مستوى الحقيقة والصدق … وقد أكبره ونزّهه العلماء الأعلام منهم: ابن طاووس في رجاله، والعلاّمة في الخلاصة، وابن داود في الرجال، والفقيه ابن نما فيما أفرد فيه من رسالته.. والمحقِّق الأردبيلي في حديقة الشيعة، وصاحب المعالم في التحرير الطاووسي، والقاضي نور الله في المجالس، وقد دافع عنه الشيخ أبوعلي في مُنتهى المقال (٦: ٢٤٠) وغيرهم … ). (الغدير ٢: ٣٤٣).

٥- المامقاني: ( … ولا إشكال في إسلامه، بل كونه إماميّ المذهب، بل الظاهر اتّفاق الخاصة والعامة عليه، بل الحق أنّه كان يقول بإمامة مولانا السّجاد عليه‌السلام .. فتلخّص من جميع ما ذكرنا، أنّ الرجل إماميّ المذهب، فإنّ سلطنته برخصة الإمام، وإنّ وثاقته غير ثابتة. نعم، هو ممدوح مدحاً مُدرِجاً له في الحسان … ). (تنقيح المقال ٣: ٢٠٦).

هذا، وقد توقّف المجلسيّ في شأنه، فلم يمدحه ولم يذمّه.

وإذا ثبت تاريخياً نزول مسلم بن عقيل عليه‌السلام دار المختار - كما صرّح بذلك المؤرّخون - فإنَّ ذلك يُثبت وثاقته، بل يُثبت أنّه من أوثق أهل الكوفة؛ وذلك لأنّ الإمام الحسين عليه‌السلام أمر مسلماً عليه‌السلام أن ينزل عند أوثق أهلها فنزل عند المختار؛ فيكون هذا النزول من باب تعيين المصداق لكلام الإمام الحسين عليه‌السلام ، إن لم يكن هذا النزول بأمر من الإمام نفسه عليه‌السلام ، والله العالم.

ولعلّ هناك علّة أُخرى لاختيار مسلم دار المختار دون غيرها - مع فرض ثبوت ذلك - وهو أنّه كان صهراً للنعمان بن بشير، حاكم الكوفة يومها - أي كان زوجاً لابنته عمرة - فلا تُمدُّ يد سوء إلى مسلم عليه‌السلام طالما هو في بيت صهر والي الكوفة.

(٢) البداية والنهاية ٣: ٢٧٩.

٥٥

وقال الشيخ المفيد (قدس سره): «... ثمّ أقبل مسلم حتى دخل الكوفة، فنزل في دار المختار بن أبي عبيدة، وهي التي تُدعى اليوم دار مسلم بن المسيّب، وأقبلت الشيعة تختلف إليه، فلمّا اجتمع إليه منهم جماعة، قرأ عليهم كتاب الحسينعليه‌السلام وهم يبكون، وبايعه الناس حتى بايعه منهم ثمانية عشر ألفاً، فكتب مسلم إلى الحسينعليه‌السلام يُخبره ببيعة ثمانية عشر ألفاً، ويأمره بالقدوم... »(١) .

لكنّ مسلم بن عقيلعليه‌السلام بعد قدوم عبيد الله بن زياد إلى الكوفة والياً عليها من قِبَل يزيد، وحصول التطوُّرات السريعة المتلاحقة التي أدّت إلى ضرورة تحوّل عمل مسلم بن عقيل من حالة العلانية إلى السرِّ، اضطرّ إلى تغيير مقرِّه؛ فتحوّلَ إلى دار هاني بن عروة(٢) زعيم مُراد وشيخها، وهو شريف من أشراف الكوفة ومن

____________________

(١) الإرشاد: ٢٠٥، وتاريخ الطبري ٣: ٢٧٩ بتفاوت يسير.

(٢) هاني بن عروة المرادي: كان هاني من أشراف الكوفة وأعيان الشيعة ومن رؤسائهم، وشيخ مُراد وزعيمها، يركب في أربعة آلاف درع وثمانية آلاف راجل. روي: أنّه أدرك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله وتشرّف بصحبته، واستُشهد وله من العمر تسع وثمانون سنة (انظر: سفينة البحار ٨: ٧١٤ و قاموس الرجال ٩: ٢٩٢ / الطبعة القديمة).

ويشهد على كماله وجلالة قدره وعظيم شأنه الزيارة التي نقلها السيّد ابن طاووس له:( سلام الله العظيم وصلواته عليك يا هاني بن عروة، السلام عليك أيُّها العبد الصالح، الناصح لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهما‌السلام ، أشهد أنّك قُتِلت مظلوماً، فلعن الله مَن قتلك واستحلَّ دمك، وحشا الله قبورهم ناراً، أشهد أنّك لقيت الله وهو راضٍ عنك بما فعلت ونصحت، وأشهد أنَّك قد بلغت درجة الشهداء، وجعل روحك مع أرواح السعداء بما نصحت لله ولرسوله مجتهداً، وبذلت نفسك في ذات الله ورضائه، فرحمك الله ورضي عنك، وحشرك مع محمد وآله الطاهرين، وجمعنا وإيّاكم معهم في دار النعيم، وسلام عليك ورحمة الله... ) ( بحار الأنوار ١٠٠: ٤٢٩، نقلاً عن مصباح الزائر والمزار الكبير ومزار الشهيد ).

كما أنّه شارك في حرب الجَمل بين يدي أمير المؤمنين، ومن شِعره فيها: =

٥٦

____________________

يا لكِ حرباً حثَّها جمَّالُها

قائدة ينقصها ضُلاّلها

هذا عليٌّ حوله أقيالُها

(البحار ٣٢: ١٨١).

* مؤاخذات وردود:

رغم الموقف المشرّف لهاني، وتضحيته بنفسه الزكيّة دون سفير الحسين عليه‌السلام لم يسلم هذا الشهيد البطل من المؤاخذات والانتقادات، وأهمّ هذه المؤاخذات:

الأُولى: إنّ دفاعه عن مسلم بن عقيل عليه‌السلام لم يكن عن بصيرة دينية، بل لمجرّد الحميّة وحفظ الذمام ورعاية حقّ الضيف، فهو مثل مدلج بن سويد الطائي، الذي يُضرب به المثل، فيُقال: أحمى من مُجير الجُراد. وقصته معروفة، وهي: أنّه خلا ذات يوم في خيمته، فإذا بقوم من طيء ومعهم أوعيتهم، فقال: ما خطبكم؟ قالوا: جُراد وقع بفنائك فجئنا لنأخذه. فركب فرسه، وأخذ رمحه، وقال: والله، لا يتعرّض له أحد منكم إلاّ قتلته، أيكون الجُراد في جواري ثمّ تُريدون أخذه؟!

ولم يزل يحرسه حتى حميت عليه الشمس فطار، فقال: شأنكم الآن به، فقد تحوّل عن جواري! (راجع مجمع الأمثال ١: ٣٩٣، والكُنى والألقاب ٣: ١٥٢).

قد أُجيب على هذه المؤاخذة أنّه: ( اتّفقت الأخبار على أنّ هانياً قد أجار مسلماً وحماه في داره، وقام بأمره، وبذل النصرة وجمع له الرجال والسلاح في الدور حوله، وامتنع من تسليمه لابن زياد، وأبى كلّ الإباء واختار القتل على التسليم، حتى أُهين وضُرب وعُذِّب وحُبس وقُتل صبراً على يد الفاجر اللعين، وهذه كافية في حُسن حاله وجميل عاقبته، ودخوله في أنصار الحسين وشيعته المستشهدين في سبيله، ويدلّ عليه أُمور:

١- قوله لابن زياد: فإنّه قد جاء مَن هو أحقّ من حقّك وحقّ صاحبك.

٢- قوله: لو كانت رجْلي على طفل من أطفال أهل البيت ما رفعتها حتى تُقطع.

٣- قول الحسين عليه‌السلام لما بلغه قتله وقتل مسلم : ( قد أتانا خبرٌ فظيع، قتل مسلم وهاني وعبد الله بن يقطر ).

٤- بعدما أُخبر الحسين عليه‌السلام بقتل مسلم وهاني استعبر باكياً، ثمّ قال: ( اللّهم، اجعل لنا ولشيعتنا منزلاً كريماً، واجمع بيننا وبينهم في مُستقرّ رحمتك ). =

٥٧

____________________

= ٥- زيارته المعروفة التي ذكرها أصحابنا رضوان الله عليهم. (تنقيح المقال ٣: ٢٨٩).

أقول: قد تضمّنت هذه الإجابة على دلائل ومؤكَّدات، على أنَّ ما فعله هاني كان عن بصيرة دينية، لا مُجرّدحميّة وحفظ للذمام ورعاية لحقّ الضيف.

الثانية: دخول هاني على ابن زياد حين أتى الكوفة، واختلافه إليه فيمَن اختلف إليه من أعيانها وأشرافها حتى جاء مسلم، ممّا يدلّ على أنّه كان مع السلطة.

وقد أُجيب عنها بأنّ: ( هذا أيضاً لا يُعدُّ طعناً فيه؛ لأنّ أمر مسلم كان مبنيّاً على التستر والاستخفاء، وكان هاني رجلاً مشهوراً يعرفه ابن زياد ويُصادفه، فكان انزواؤه عنه يُحقِّق عليه الخلاف، وهو خلاف ما كانوا عليه من التستُّر؛ فلذا ألزمه الاختلاف - أي المراودة - إليه؛ دفعاً للوهم. فلمّا لجأ إليه مسلم انقطع عنه خوفاً، وتمارض حتى يكون المرض عذراً، فجاءه من الأمر ما لم يكن في حسابه ). (تنقيح المقال ٣: ٢٨٩).

الثالثة:أنّ هانياً نهى مسلماً عن الخروج على ابن زياد!

وأُجيب عنها: ( فلعلّه رأى أنّ المصلحة في التأخير حتى يتكاثر الناس وتكمل البيعة، ويصل الحسين عليه‌السلام إلى الكوفة، ويتهيّأ لهم الأمر بسهولة، ويكون قتالهم مع الإمام مرّة واحدة ). (تنقيح المقال ٣: ٢٨٩).

الرابعة: أنّ هانياً منع مسلماً من قتل ابن زياد في داره!

وأُجيب عنها: ( فقد عرفت اختلاف الأخبار في ذلك؛ إذ في بعضها: أنّه هو الذي أشار بقتله، وتمارض لابن زياد حتى يأتيه عائداً فيقتله مسلم، وأنّه عاتبه على ترك قتله بعد تهيُّؤه له بسهولة، وقد اعتذر مسلم تارة: بتعلّق المرأة وبكائها في وجهه ومُناشدتها في ترك ما همّ به. وأُخرى: بحديث الفتك. وهو المشهور عنه، وأشار إليه المرتضى في تنزيه الأنبياء ). (تنقيح المقال ٣: ٢٨٩).

( وراجع: في أنّ هانياً هو الذي أشار بقتل ابن زياد: شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ١٦: ١٠٢).

الخامسة: قوله لابن زياد: والله، ما دعوته إلى منزلي، ولا علمت بشيء من أمره حتى جاءني يسألني النزول، فاستحييت من ردّه وداخلني من ذلك ذمام... =

٥٨

____________________

= وأُجيب عنها بـ: ( أنّه قال ذلك يُريد التخلُّص منه، ومن البعيد أن يأتيه مسلم من غير ميعاد ولا استيثاق، ويدخل في أمانه وهو لا يدري به ولم يعرفه ولم يختبره، وكذا عدم اطّلاع هاني - وهو شيخ المصر وسيّده ووجه الشيعة - على شيء من أمره في تلك المدّة، حتى دخل عليه بغتة وفاجأه باللقاء مرّة ). (تنقيح المقال ٣: ٢٨٩).

السادسة: تصريح صاحب - (روضة الصفا) و(حبيب السير): بأنّ هانياً قال لمسلم حين دخل عليه: لقد أوقعتني في عناء وتكليف، ولولا أنّك دخلت داري لرددتك!

أقول:إنّ سائر الكتب المعتبرة خالية من هذا القول، فهما قد تفرّدا بهذا النقل، ولم يثبت ذلك.

السابعة:ولعلّها من أشدّ المؤاخذات عليه، وهي أنّ هانياً كان مُروِّجاً ومُبلّغاً لولاية عهد يزيد في الكوفة على عهد معاوية؛ استناداً إلى ما أورده ابن أبي الحديد في شرح النهج: ( وفد أهل الكوفة على معاوية حين خطب لابنه يزيد بالعهد بعده، وفي أهل الكوفة هاني بن عروة المرادي وكان سيّداً في قومه، فقال يوماً في مسجد دمشق والناس حوله: العجب لمعاوية! يريد أن يقسرنا على بيعة يزيد، وحاله حاله، وما ذاك والله بكائن! وكان في القوم غلام من قريش جالساً، فتحمّل الكلمة إلى معاوية، فقال معاوية: أنت سمعت هانئاً يقولها؟ قال: نعم. قال: فاخرج فأتِ حلقته، فإذا خفّ الناس عنه فقل له: أيُّها الشيخ، قد وصلت كلمتك إلى معاوية، ولستَ في زمن أبي بكر وعمر، ولا أُحبّ أن تتكلّم بهذا الكلام؛ فإنّهم بنو أميّة، وقد عرفت جرأتهم وإقدامهم، ولم يدعني إلى هذا القول لك إلاّ النصيحة والإشفاق عليك. فانظر ما يقول فإتني به. فأقبل الفتى إلى مجلس هانئ، فلمّا خفّ مَن عنده دنا منه فقصّ عليه الكلام، وأخرجه مخرج النصيحة له. فقال هاني: والله، يا بن أخي، ما بلغت نصيحتك كلّ ما أسمع، وإنّ هذا الكلام كلام معاوية أعرفه! فقال الفتى: وما أنا ومعاوية! والله، ما يعرفني. قال: فلا عليك، إذا لقيته فقل له: يقول لك هاني: والله، ما إلى ذلك من سبيل. انهض - يا بن أخي - راشداً. فقام الفتى فدخل على معاوية فأعلمه، فقال: نستعين بالله عليه. ثمّ قال معاوية بعد أيّام للوفد: ارفعوا حوائجكم - وهانئ فيهم -، فعرض عليه كتابه فيه ذكر حوائجه، فقال: يا هاني، ما أراك صنعت شيئاً! زِدْ. فقام هاني، فلم يدع حاجة عرضت له إلاّ وذكرها، ثمّ عرض عليه الكتاب، فقال: أراك قصّرت فيما طلبت! زِدْ. فقام هاني، فلم يدع حاجة لقومه ولا لأهل مصره إلاّ ذكرها، ثمّ عرض =

٥٩

وجوه الشيعة فيها.

رسالة الإمام عليه‌السلام إلى محمد بن الحنفية ومن قِبَله من بني هاشم:

روى ابن عساكر وابن كثير: أنّ الإمامعليه‌السلام بعث إلى المدينة (وهو في مكّة) يستقدم إليه مَن خفّ من بني هاشم، فخفَّ إليه جماعة منهم، وتبعهم إليه محمد

____________________

= عليه الكتاب، فقال: ما صنعت شيئاً! زِدْ.

فقال: يا أمير المؤمنين، حاجة بقيت! قال: ما هي؟! قال: أن أتولّى أخذ البيعة ليزيد بن أمير المؤمنين بالعراق!

قال: افعل، فما زلت لمثل ذلك أهلاً.

فلمّا قدم هاني العراق قام بأمر البيعة ليزيد بمعونة من المغيرة بن شعبة، وهو الوالي بالعراق يومئذ ). (شرح النهج ١٨: ٤٠٨).

وقد أُجيب عن هذه المؤاخذة من وجوه:« أولاً: أنّها قصّة مُرسلة تفرَّد الحديدي بنقلها، ولم يذكر لها مأخذاً، رغم أنّ طريقته غالباً نقل المأخذ والمستند. ثانياً:المتن يُستظهر منه الكذب؛ إذ كيف يقول هاني بملأ من قومه وأهل الشام جهراً: إنّ معاوية يُريد أن يقسرنا على بيعة يزيد، ثمّ يكون هو الطالب للقيام ببيعة يزيد؟!!. ثالثاً:إنّ ما ختم به لهاني من ردِّه بيعة يزيد وقيامه بنصر الحسين عليه‌السلام حتى قُتِل، يأتي على كلّ ما فرط منه قبل ذلك لو كان، وما أشبه حاله بحال الحرّ؛ إذ تاب وقُبِلت توبته بعدما وقع وصدر ما صدر، وقد كان الأمر فيه أشدّ، وفي هاني أهون، فهو إلى القبول أقرب ). (تنقيح المقال ٣: ٢٨٩، وانظر الفوائد ٤: ٤١، ونفَس المهموم: ١١٥).

ويُلاحظ في كلّ الردود التي أوردناها عن صاحب تنقيح المقال: أنّه ينقلها عن السيد الطباطبائي، وهو بحر العلوم (ره).).

الثامنة: وقوفه بوجه عليّ عليه‌السلام واعتراضه عليه، حينما عزل الأشعث بن قيس عن رئاسة كندة ونصّب حسّان بن مخدوج مكانه، حيث قام إلى عليّ عليه‌السلام وقال: إنّ رئاسة الأشعث لا تصلح إلاّ لمثله! وما حسّان مثل الأشعث …

وأُجيب عنها: أولاً:لم يكن هو المعترض فحسب، بل كان الأشتر، وعدي بن حاتم الطائي، و... ضمن المعترضين. ثانياً:أنّهم رجعوا عن قولهم ورضوا بما فعله أمير المؤمنين عليه‌السلام كما يظهر من نص ( وقعة صِفِّين: ١٣٧).

٦٠