مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة16%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260565 / تحميل: 8931
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

الختام إذاً قتلاً في سبيل الله، وهذا هو البِرُّ الذي ليس فوقه بِرٌّ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، ولهذا فليعمل العاملون!

وأقوى الظنّ: أنّ هذا المعنى الذي أراد أن يوصله الإمامعليه‌السلام في رسالته هذه - التي كتبها من كربلاء أرض المصرع المختار وبقعة الفتح إلى محمد بن الحنفية، وبقية بني هاشم في المدينة المنوّرة وإلى كافّة الأجيال إلى قيام الساعة - متمّم ومكمّل لمعنى رسالته القصيرة الأولى التي بعثهاعليه‌السلام إليهم من مكّة المكرّمة والتي جاء فيها:(بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن عليّ إلى محمّد بن عليّ ومَن قِبَله من بني هاشم: أمّا بعدُ، فإنّ مَن لحق بي استُشهد، ومَن لم يلحق بي لم يُدرك الفتح، والسلام) (١) فتأمّل.

خطبةٌ للإمامعليه‌السلام في أصحابه

روى ابن عساكر يقول: (لما نزل عمر بن سعد بحسين، وأيقن أنّهم قاتلوه قام في أصحابه خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال:(قد نزل بنا ما ترون من الأمر، وإنّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت، وأدبر معروفها، واستمرّت حتّى لم يبقَ منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل، ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله، وإنّي لا أرى الموت إلاّ سعادة، والحياة مع الظالمين إلاّ بَرَما) (٢) .

____________________

(١) كامل الزيارات: ٧٦، باب ٢٣، رقم ١٥.

(٢) تاريخ ابن عساكر؛ ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام ، تحقيق المحمودي: ٣١٤ - ٣١٥، رقم ٢٧١، ورواها الطبراني أيضاً في المعجم الكبير، ٣: ١١٤، رقم ٢٨٤٢، ورواه أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء: ٢: ٣٩، ورواه الخوارزمي بسنده عن أبي نعيم، في المقتل، ٢: ٧، رقم ٧ ورواه المتقي =

١٠١

إشارة:

مرَّ بنا قبل ذلك - في وقائع وأحداث منازل الطريق بين مكّة وكربلاء - كما في رواية الطبري(١) : أنّ الإمامعليه‌السلام خطب هذه الخطبة في منطقة ذي حُسَم، وكان قد تمَّ التعليق على هذه الخطب - هناك - بعدّة ملاحظات، فراجعها(٢) وقد أوردناها أيضاً هنا لاحتمال وقوعها أصلاً في كربلاء، أو لاحتمال أنَّ الإمامعليه‌السلام كان قد كرّر مخاطبة أصحابه بهذا الكلام في الموضعين.

حبيبُ بن مظاهر (رض) (٣) يستنفر حيّاً من بني أسد لنصرة الإمام عليه‌السلام

في المقتل للخوارزمي قال: (والتأمت العساكر عند عمر لستّة أيّام مضين من محرّم، فلمّا رأى ذلك حبيب بن مظاهر الأسدي جاء إلى الحسين فقال له: يا بن رسول الله، إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد قريباً منّا، أفتأذن لي بالمصير إليهم الليلة أدعوهم إلى نصرتك، فعسى الله أن يدفع بهم عنك بعض ما تكره؟

فقال له الحسين:(قد أذنتُ لك).

فخرج إليهم حبيب من معسكر الحسين في جوف الليل متنكّراً، حتى صار إليه فحيّاهم وحيّوه وعرفوه.

فقالوا له: ما حاجتك يا بن عمّ؟

____________________

= الهندي في مجمع الزوائد، ٩: ١٩٢ عن الطبراني.

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣٠٥، وانظر: اللهوف: ٣٤.

(٢) راجعها في وقايع منطقة (ذي حُسم): ص٢٥٤ - ٢٥٧.

(٣) حبيب بن مظهّر (مظاهر)، أبو القاسم الأسديّ الفقعسي: مضت له ترجمة موجزة في الجزء الثاني: ٣٣٣؛ وستأتي له ترجمة مفصّلة في آخر هذا الفصل.

١٠٢

قال: حاجتي إليكم أنّي قد أتيتكم بخير ما أتى به وافد إلى قوم قط، أتيتكم أدعوكم إلى نصرة ابن بنت نبيّكم، فإنّه في عصابة من المؤمنين، الرجل منهم خيرٌ من ألف رجل، لن يخذلوه ولن يُسلموه وفيهم عين تَطرِف، وهذا عمر بن سعد قد أحاط به في اثنين وعشرين ألفاً، وأنتم قَومي وعشيرتي وقد أتيتكم بهذه النصيحة، فأطيعوني اليوم تنالوا شرف الدنيا وحسن ثواب الآخرة، فإنّي أُقسم بالله لا يُقتل منكم رجل مع ابن بنت رسول الله صابراً محتسباً، إلاّ كان رفيق محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله في أعلى علّيين.

فقام رجلٌ من بني أسد يُقال له عبد الله بن بشر فقال: أنا أوّل مَن يجيب إلى هذه الدعوة، ثمّ جعل يرتجز ويقول:

قد علِمَ القوم إذا تناكلوا

وأحجم الفرسان إذ تناضلوا

أنّي الشجاع البطل المقاتل

كأنّني ليثُ عرينٍ باسلُ

ثمّ بادر رجال الحيّ إلى حبيب وأجابوه، فالتأم منهم تسعون رجلاً وجاءوا مع حبيب يريدون الحسين، فخرج رجل من الحيّ، يُقال: فلان بن عمرو حتّى صار إلى عمر بن سعد في جوف الليل، فأخبره بذلك، فدعا عمر برجلٍ من أصحابه يقال له (الأزرق بن الحرث الصدائي) فضمّ إليه أربعمئة فارس، ووجّه به إلى حيّ بني أسد مع ذلك الذي جاء بالخبر، فبينا أولئك القوم من بني أسد قد أقبلوا في جوف الليل مع حبيب يريدون عسكر الحسين، إذ استقبلتهم خيل ابن سعد على شاطئ الفرات، وكان بينهم وبين معسكر الحسين اليسير، فتناوش الفريقان واقتتلوا، فصاح حبيب بالأزرق بن الحرث: ما لك ولنا؟! انصرف عنّا، يا ويلك دعنا واشقَ بغيرنا.

فأبى الأزرق، وعَلمت بنو أسد أن لا طاقة لهم بخيل ابن سعد فانهزموا راجعين إلى حيّهم، ثمَّ تحمّلوا في جوف الليل خوفاً من ابن سعد أن يكبسهم،

١٠٣

ورجع حبيب إلى الحسين فأخبره، فقال:لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم) (١) .

من غرائب ما تفرّد به البلاذري!

وكان البلاذري ممّن روى قصة استنفار حبيب بن مظاهر (رض) حيّاً من بني أسد لنصرة الإمام الحسينعليه‌السلام - وقد أوردنا روايته في الحاشية - لكنّ البلاذري قال في ذيل روايته لهذه القصة:

(وكان فراس بن جعدة بن هبيرة المخزومي مع الحسين، وهو يرى أنّه لا يخاف، فلمّا رأى الأمر وصعوبته هاله ذلك، فأذِن له الحسين في الانصراف، فانصرف ليلاً)(٢) .

ونقول:

أوّلاً: لم يُعرف في كتب التواريخ وكتب الرجال أنَّ لجعدة بن هبيرة

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٥ - ٣٤٦ عن الفتوح، ٥: ١٥٩ - ١٦٢ بتفاوت، وقد اخترنا نصّ الخوارزمي؛ لأنّه خال من الاضطراب، وفي الفتوح: (واقتتلوا قتالاً شديداً)، وانظر: البحار، ٤٤: ٣٨٧ في نقله عن كتاب السيّد محمّد بن أبي طالب.

وروى البلاذري هذه الواقعة أيضاً في كتابه الأشراف، ٣: ٣٨٨، ونصه: (وقال حبيب بن مظهر للحسين: إنّ هاهنا حيّاً من بني أسد أعراباً ينزلون النهرين، وليس بيننا وبينهم إلاّ رَوْحَة، أفتأذن لي في إتيانهم ودعائهم لعلّ الله أن يجرّ بهم إليك نفعاً أو يدفع عنك مكروهاً، فأذِن له في ذلك، فأتاهم فقال لهم: إنّي أدعوكم إلى شرف الآخرة وفضلها وجسيم ثوابها، أنا أدعوكم إلى نصر ابن بنت نبيّكم فقد أصبح مظلوماً، دعاه أهل الكوفة لينصروه فلمّا أتاهم خذلوه وعدوا عليه ليقتلوه، فخرج معه منهم سبعون، وأتى عمر بن سعد رجل ممّن هناك يُقال له (جبلة بن عمرو) فأخبره خبرهم، فوجّه أزرق بن الحارث الصيداوي، في خيل فحالوا بينهم وبين الحسين، ورجع ابن مظهر إلى الحسين فأخبره الخبر فقال:(الحمدُ لله كثيراً) ).

(٢) أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٨.

١٠٤

المخزومي ولداً اسمه فراس (كما ذكر البلاذري)، بل إنّ له ولَدين معروفين: أحدهما يحيى، وله رواية عن الإمام الحسينعليه‌السلام ، وهو من رواة الغدير، وعبد الله (وهو الذي فتح القهندر وكثيراً من خراسان)، وقيل: إنّ له ولداً آخر اسمه عمر(١) .

ولو فرضنا - جدلاً - أنّ لجعدة بن هبيرة المخزومي ولداً اسمه فراس - كما زعم البلاذري -، فإنَّ ما نَسبه البلاذري لهذا الولد من تخلّيه عن الإمام الحسينعليه‌السلام في الشدّة أمرٌ مستبعدٌ جدّاً؛ ذلك لأنّ جعدة بن هبيرة هو ابن أمّ هاني بنت أبي طالبعليه‌السلام ، فجعدة ابن عمّة الإمامعليه‌السلام ، ففراس (المزعوم) هذا - وهو ابن جعدة - يكون ذا قرابة قريبة من الإمامعليه‌السلام .

هذا فضلاً عن أنّ التاريخ - بل البلاذري نفسه - حدّثنا عن: أنّ بني جعدة كانوا من أهل المعرفة بأهل البيتعليهم‌السلام ومن شيعتهم(٢) ، وهذا - أيضاً - فضلاً عن أنّ جعدة وأبناءه قد عُرفوا بالشجاعة والبأس والشدّة في الحرب والكريهة، ولم يُعرف لهم موقف متخاذل، أو أخزاهم خوف من الأعداء، هذا جعدة وقد عُرفت عنه الشدّة في الحرب، يقول له عتبة بن أبي سفيان: إنّما لك هذه الشدّة في الحرب من قِبَل خالك - يعني عليّاً، فيقول له جعدة: لو كان لك خال مثل خالي لنسيتَ أباك(٣) .

فهل يُتصور أنَّ ولداً من أولاد جعدة الشجاع هذا، يُعرّض نفسه وشرفه لعار الجبن على صفحة التاريخ إلى قيام الساعة، فيتخلّى ساعة الشدّة عن رجل محتاج

____________________

(١) راجع: مستدركات علم رجال الحديث، ٢: ١٣١ و٨: ١٩٣، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ١٨: ٣٠٨.

(٢) أنساب الأشراف، ٣: ٣٦٦.

(٣) مستدركات علم رجال الحديث، ٢: ١٣٠، رقم ٢٤٨٩، ومعجم رجال الحديث، ٤: ٤٣، رقم ٢٠٩٧.

١٠٥

إليه وذي رحِم ماسّة به كانت الأعداء قد أحاطت به من كلّ جانب؟! فما بالك إذا كان هذا المحتاج إليه ابن رسول الله وابن خال أبيه وهو الحسينعليه‌السلام ؟!

هذا ما لو تأمّل البلاذريّ نفسه فيه لمَا تجرّأ على الإتيان به.

وممّا يؤسف له أنّ بعض المتتبّعين أخذ هذا عن البلاذري أخذ المسلّمات، ولم يكلّف نفسه مناقشة تلك الدعوى(١) .

وقائعُ اليوم السابع من المحرّم

بعد أن روى الخوارزمي في مقتله قصة المواجهة بين جماعة بني أسد، الذين استجابوا لدعوة حبيب بن مظاهر (رض)، وبين خيل عمر بن سعد (أربعمئة فارس) بقيادة الأزرق بن الحرث الصدائي، وكيف انهزمت مجموعة بني أسد بعد قتال شديد، ورجوعهم إلى حيّهم، ثمّ ارتحالهم عنه في جوف الليل خوفاً من بأس جيش ابن سعد، وعودة حبيب (رض) إلى معسكر الإمامعليه‌السلام .

يتابع الخوارزمي سرد بقيّة قصة كربلاء فيقول: (ورَجَعت تلك الخيل حتّى نَزلت على الفرات، وحالوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، فأضرّ العطش بالحسين وبمَن معه، فأخذ الحسينعليه‌السلام فأساً، وجاء إلى وراء خيمة النساء، فخطا على الأرض تسع عشرة خطوة نحو القِبلة، ثمّ احتفر هنالك فنبعت له هناك عين من الماء العذب، فشربَ الحسين وشرب النّاس بأجمعهم، وملأوا أسقيتهم، ثمّ غارت العين فلم يُرَ لها أثر.

وبلغ ذلك إلى عبيد الله فكتب إلى عمر بن سعد: بلغني أنَّ الحسين يحفر

____________________

(١) راجع: حياة الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام ٣: ١٧١.

١٠٦

الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه، فانظر إذا ورد عليك كتابي هذا فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت، وضيّق عليهم ولا تدعهم أن يذوقوا من الماء قطرة، وافعل بهم كما فعلوا بالزكيِّ عثمان! والسلام)(١) .

(فلمّا ورد على عمر بن سعد ذلك، أمرَ عمرو بن الحجّاج أن يسير في خمسمئة راكب، فينيخ على الشريعة، ويحولوا بين الحسين وأصحابه وبين الماء، وذلك قبل مقتله بثلاثة أيّام، فمكث أصحاب الحسين عطاشى)(٢) .

(وناداه عبد الله بن أبي حصين الأزدي (عبد الله بن حصين الأزدي)(٣) فقال: يا حسين ألا تنظر إلى الماء كأنّه كبد السماء، والله لا تذوق منه قطرة حتّى تموت عطشاً! فقال حسين:(اللّهمّ اقتلهُ عطشاً ولا تغفر له أبداً)، قال حميد بن مسلم(٤) : والله

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ١: ٣٤٦ عن كتاب الفتوح، ٥: ١٦٢، ولكنّ كتاب الفتوح - النسخة التي عندنا - ليس فيها قصة كيف حفر الإمامعليه‌السلام بئراً خلف خيمة النساء، وانظر: تاريخ الطبري: ٤: ٣١١ - ٣١٢، وأنساب الأشراف، ٣: ٣٨٩.

(٢) الأخبار الطوال: ٢٥٥.

(٣) كما في رواية أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٩.

(٤) حميد بن مسلم الأزدي الكوفي: هو في الاصطلاح الرجالي من أصحاب الإمام السجادعليه‌السلام ، ومن المجاهيل. (راجع: معجم رجال الحديث، ٦: ٢٩٧، رقم ٤٠٩٠، ومستدركات علم رجال الحديث، ٣: ٢٨٩، رقم ٥١١٩).

وقد حضر حميد بن مسلم هذا واقعة عاشوراء، ونقل جملة من قضاياها فيما يشبه دور المراسل الصحفي، لكنَّ نفس نقله لهذه الوقائع دليل تام على أنّه كان في صفّ أعداء الإمام الحسينعليه‌السلام ، بل كان له أكثر من دور في خدمة جيش ابن سعد لعنه الله، فقد روى الطبري في تاريخه، ٤: ٣٤٨، ونقل أيضاً العلاّمة المجلسي (ره) عن كتاب السيّد محمد بن أبي طالب (ره): أنّ عمر بن سعد سرّح برأس الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء مع خولّي بن يزيد الأصبحي وحميد بن =

١٠٧

لعُدْتُه بعد ذلك في مرضه، فو الله الذي لا إله إلاّ هو لقد رأيته يشرب حتى يبغر(١) ! ثمّ يقيء ثمّ يعود فيشرب حتّى يبغر فما يروى، فما زال ذلك دأبه حتّى لفظ غُصَّته - يعني نفسه -)(٢) .

ويواصل الطبري قصة منع الماء يوم السابع من المحرّم قائلاً: (ولمّا اشتدّ على الحسين وأصحابه العطش دعا العبّاس بن عليّ بن أبي طالب أخاه، فبعثه في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً، وبعث معهم بعشرين قِربة، فجاءوا حتّى دنوا من الماء ليلاً، واستقدمَ أمامهم باللواء نافع بن هلال الجملي، فقال عمرو بن الحجّاج الزبيدي: مَن الرجل؟ فَجِيءْ، ما جاء بك؟!

قال: جئنا نشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه.

قال: فاشرب هنيئاً.

قال: لا والله، لا أشرب منه قطرة وحسين عطشان ومَن ترى من أصحابه، فطلعوا عليه، فقال: لا سبيل إلى سقي هؤلاء، إنّما وضِعنا بهذا المكان لنمنعه الماء.

فلمّا دنا منه - أي نافع - أصحابه قال لرجاله: املأوا قِرَبِكم.

فشدَّ الرجّالة فملأوا قِرَبِهم، وثار إليهم عمرو بن الحجاج وأصحابه، فحمل عليهم العبّاس بن عليّ ونافع بن هلال فكفّوهم، ثمّ انصرفوا إلى رحالهم فقالوا:

____________________

= مسلم إلى ابن زياد (راجع البحار، ٤٥: ٦٢)، وقد نقل العلاّمة المجلسي (ره) عن السيّد محمد بن أبي طالب (ره) أيضاً: أنّ حميد بن مسلم هذا حضر أيضاً واقعة (عين الوردة) مع جيش التوّابين، بقيادة سليمان بن صُرد الخزاعي في قتالهم طلائع جيش الشام الذي كان أميره العام عبيد الله بن زياد. (راجع: البحار، ٤٥: ٣٦٠ - ٣٦١).

(١) بغر: شربَ فلم يروَ، فأخذهُ داء من الشرب.

(٢) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢.

١٠٨

إمضوا! ووقفوا دونهم، فعطف عليهم عمرو بن الحجّاج وأصحابه، واطّردوا قليلاً، ثمّ إنّ رجلاً من صُدَاء طُعِن، من أصحاب عمرو بن الحجّاج، طعنه نافع بن هلال، فظنّ أنّها ليست بشيء، ثمّ إنّها انتقضت بعد ذلك فمات منها، وجاء أصحاب الحسين بالقِرَب فأدخلوها عليه)(١) .

وفي رواية ابن أعثم الكوفي: (... فاقتتلوا على الماء قتالاً عظيماً، فكان قوم يقتتلون وقوم يملأون القِرب حتّى مَلأوها، فقُتل من أصحاب عمرو جماعة ولم يُقتل من أصحاب الحسين أحد، ثُمَّ رجع القوم إلى معسكرهم وشرب الحسين من القِرب ومَن كان معه)(٢) .

وفي رواية البلاذري: (ويُقال: إنّهم حالوا بينهم وبين ملئها، فانصرفوا بشيء يسير من الماء، ونادى المهاجر بن أوس التميمي: يا حسين ألا ترى إلى الماء يلوح كأنّه بطون الحيَّات، والله لا تذوقه أو تموت! فقال:(إنّي لأرجو أن يُوردنيه الله ويَحلأكم عنه).

ويُقال: إنّ عمرو بن الحجّاج قال: يا حسين، إنّ هذا الفرات تلغ فيه الكلاب وتشرب منه الحمير والخنازير، والله لا تذوق منه جرعة حتّى تذوق الحميم في نار جهنّم!)(٣) .

أمّا الدينوري يصف واقعة الشريعة يوم السابع وصفاً مختصراً ودقيقاً حيث يقول: (فمضى العبّاس نحو الماء، وأمامهم نافع بن هلال، حتّى دنوا من الشريعة، فمنعهم عمرو بن الحجّاج، فجالدهم العبّاس على الشريعة بمَن معه حتّى أزالوهم

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢، وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٨٩، والكامل في التاريخ، ٣: ٢٨٣.

(٢) الفتوح، ٥: ١٦٤، وعنه مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٦ - ٣٤٦، بتفاوت يسير.

(٣) أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٠.

١٠٩

عنها، واقتحم رجّالة الحسين الماء فملأوا قِرَبهم، ووقف العبّاس في أصحابه يذبّون عنهم حتّى أوصلوا الماء إلى عسكر الحسين)(١) .

مَن هو أبو الفضل العبّاس بن أمير المؤمنينعليهما‌السلام ؟

مولانا أبو الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين عليّعليهما‌السلام ، وأمّه أمّ البنين فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّ صلوات الله عليها، وهو أكبر أولادها، ولَدَته في الرابع من شعبان سنة ستّ وعشرين من الهجرة، وكان عمره الشريف عند شهادته أربعاً وثلاثين سنة(٢) .

والحديث حول هذه الشخصيّة الإسلاميّة المقدّسة الفذّة يستدعي بالضرورة أنْ يُفرد له كتاب مستقل(٣) ، وحيث لا يسعنا ذلك في إطار هذه الدراسة (مع الركب الحسيني من المدينة إلى المدينة)، فإنّنا هنا - لكي لا نُحرَم من توفيق أداء بعض حقّه العظيم علينا - نُقدّم تبرّكاً باقة من النصوص الواردة في حقّهعليه‌السلام ، الكاشفة عن عظمته وسموّ منزلته:

قال الإمام زين العابدين عليّ بن الحسينعليهما‌السلام :

(رحمَ الله العبّاس، فلقد آثر وأبلى وفدى أخاه بنفسه حتى قُطعت يداه، فأبدلهُ الله عزّ وجلّ بها جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل

____________________

(١) الأخبار الطوال: ٢٥٥.

(٢) راجع: مستدركات علم رجال الحديث، ٤: ٣٥٠، رقم ٧٤٤٨.

(٣) وبالفعل فهناك دراسات وكتب قيّمة حول شخصيّة مولانا أبي الفضل العبّاسعليهما‌السلام ، منها على سبيل المثال: كتاب (العبّاس بن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالبعليهما‌السلام ) للمحقّق المرحوم السيّد عبد الرزاق المقرّم، وكتاب (بطل العلقمي) للشيخ المرحوم عبد الواحد المظفّر.

١١٠

لجعفر بن أبي طالب، وإنّ للعباس عند الله تبارك وتعالى منزلة يغبطه بها جميع الشهداء يوم القيامة) (١) .

وعن الإمام الصادقعليه‌السلام :(كان عمّنا العبّاس نافذ البصيرة، صُلب الإيمان، جاهدَ مع أبي عبد الله عليه‌السلام ، وأبلى بلاءً حسناً ومضى شهيداً..) (٢) .

وفي زيارته الواردة عن الإمام الصادقعليه‌السلام من العبائر العجيبة الكاشفة عن جلالة رتبة مولانا أبي الفضلعليه‌السلام ، وعظمة منزلته ما يحيّر الألباب! فلنقرأ معاً: (قال الصادقعليه‌السلام :(إذا أردتَ زيارة قبر العبّاس بن عليّ، وهو على شطّ الفرات بحذاء الحائر، فقف على باب السقيفة وقل:

سلامُ الله، وسلام ملائكته المقرّبين، وأنبيائه المرسلين، وعباده الصالحين، وجميع الشهداء والصدّيقين، والزاكيات الطيّبات فيما تغتدي وتروح، عليك يا بن أمير المؤمنين، أشهدُ لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله المُرسل، والسبط المنتجب، والدليل العالِم، والوصيّ المبلّغ، والمظلوم المهتضم، فجزاك الله عن رسوله، وعن أمير المؤمنين، وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم، أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت وأعنتَ، فنِعمَ عُقبى الدار، لعن الله مَن قتلك، ولعن الله مَن جهل حقّك واستخفّ بحرمتك، ولعن الله مَن حال بينك وبين ماء الفُرات، أَشهدُ أنّك قُتلت مظلوماً، وأنّ الله منجزٌ لكم ما وعدكم.

جئتك يا بن أمير المؤمنين وافداً إليكم، وقلبي مُسلّم لكم، وأنا لكم تابع، ونُصرتي لكم مُعدَّة حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين، فمعكم معكم لا مع عدوّكم، إنّي بكم وبإيابكم من

____________________

(١) أمالي الصدوق: ٣٧٣ - ٣٧٤، المجلس السبعون حديث رقم ١٠، ورواه أيضاً في كتاب الخصال، ١: ٦٨ باب الاثنين حديث رقم ١٠١.

(٢) قاموس الرجال، ٦: ٢٩، رقم ٣٩٠٣ عن عمدة الطالب: ٣٥٦.

١١١

المؤمنين، وبمَن خالفكم وقتلكم من الكافرين، قتلَ الله أمّة قتلتكم بالأيدي والألسُن .

ثمَّ ادخل وانكبّ على القبر وقُلْ:

السّلام عليك أيها العبدُ الصالح، المطيع لله، ولرسوله، ولأمير المؤمنين، والحسن، والحسينعليهم‌السلام ، السلام عليك ورحمة الله وبركاته ورضوانه، وعلى روحك وبدنك، وأُشهدُ الله أنّك مضيتَ على ما مضى عليه البدريّون، المجاهدون في سبيل الله المناصحون له في جهاد أعدائه، المبالغون في نصرة أوليائه، الذابّون عن أحبّائه، فجزاك الله أفضل الجزاء، وأكثر الجزاء، وأوفر الجزاء، وأوفى جزاء أحد ممّن وفى ببيعته، واستجاب له دعوته، وأطاع ولاة أمره.

أشهدُ أنّك قد بالغتَ في النصيحة، وأعطيتَ غاية المجهود، فبعثك الله في الشهداء، وجعل روحك مع أرواح الشهداء (السعداء) (١) ، وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً، وأفضلها غرفاً، ورفع ذكرك في عليّين، وحشرك مع النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسُن أولئك رفيقاً، أَشهدُ أنّك لم تَهِنْ ولم تنكُل، وأنّك مضيت على بصيرة من أمرك، مقتدياً بالصالحين، ومتّبعاً للنبيين، فجمع الله بيننا وبينك وبين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين، فإنّه أرحم الراحمين) (٢) .

وورد السلام عليه في زيارة الناحية المقدّسة:(السلام على أبي الفضل العبّاس بن أمير المؤمنين، المواسي أخاه بنفسه، الآخذ لغده من أمْسه، الفادي له، الواقي، الساعي إليه بمائه، المقطوعة يداه، لعن الله قاتله يزيد (٣) بن الرُقّاد الجُهَنيّ، وحكيم بن الطُّفيل الطّائي) (٤) .

وكان مولانا أبو الفضلعليه‌السلام قد قدّم إخوته لأمّه وأبيه وهم: عبد الله، وجعفر،

____________________

(١) في البحار، ١٠١: ٢٧٨، باب ٣٠، حديث رقم ١، السعداء بدل الشهداء.

(٢) كامل الزيارات: ٢٦٩ - ٢٧، باب ٨٥، حديث رقم ١.

(٣) زيد بن رقاد الجهني، كما في مقاتل الطالبيين: ٥٦، وتاريخ الطبري، ٤: ٣٥٨.

(٤) البحار، ٤٥: ٦٦.

١١٢

وعثمان إلى القتال يوم عاشوراء؛ ليستشهدوا قبله فيحتسبهم عند الله تعالى، فقد قال لأوّلهم:(تقدّم بين يديّ حتى أراك واحتسبك فإنّه لا ولدَ لك) (١) .

(وكان العبّاس رجلاً وسيما جميلاً، يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطّان في الأرض، وكان يُقال له: قمر بني هاشم، وكان لواء الحسين بن عليعليه‌السلام معه يوم قُتل)(٢) .

وفي اليوم العاشر (لمّا نَشبت الحرب بين الفريقين تقدّم عمرو بن خالد الصيداوي، ومولاه سعد، ومجمع بن عبد الله، وجنادة بن الحرث، فشدّوا مُقدمين بأسيافهم على الناس، فلمّا وغلوا فيهم عطف عليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم، فندب الحسينعليه‌السلام لهم أخاه العبّاس، فحمل على القوم وحده، فضرب فيهم بسيفه حتّى فرّقهم عن أصحابه وخلَص إليهم فسلّموا عليه، فأتى بهم، ولكنّهم كانوا جرحى فأبوا عليه أن يستنقذهم سالمين، فعاودوا القتال وهو يدفع عنهم حتّى قُتلوا في مكان واحد، فعاد العباس إلى أخيه وأخبره خبرهم)(٣) .

وكان صلوات الله عليه يُلقّب بالسقّاء(٤) ، وهو حامل لواء الحسينعليه‌السلام (٥) .

وكان الإمام الحسينعليه‌السلام يحبّ أخاه العبّاس حبّاً خاصاً فائقاً، حتّى كانعليه‌السلام

____________________

(١) مقاتل الطالبيين: ٥٤.

(٢) مقاتل الطالبيين: ٥٦.

(٣) إبصار العين: ٦١، وانظر تاريخ الطبري، ٤: ٣٤٠.

(٤) راجع: إبصار العين: ٦٢، وانظر مقاتل الطالبيين: ٥٥، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٧ و ٢: ٣٤.

(٥) راجع: الأخبار الطوال: ٢٥٦، والإرشاد: ٢٦٠.

١١٣

يُفدّي أبا الفضلعليه‌السلام بنفسه القدسيّة.

روى الطبري: أنّ عمر بن سعد (لعنه الله) لمّا زحف يوم الخميس التاسع من المحرّم بعد صلاة العصر بجيوشه نحو معسكر الإمام الحسينعليه‌السلام ، قال الإمامعليه‌السلام لأخيه أبي الفضلعليه‌السلام :(يا عبّاس، اركب بنفسي أنتَ يا أخي حتّى تلْقاهم فتقول لهم مالَكم وما بدالكم، وتسألهم عمّا جاء بهم؟!) (١) .

ولقد نجح أبو الفضل العبّاسعليه‌السلام في جميع الاختبارات الإلهية الصعبة التي تعرّض لها، حتّى استُشهد صلوات الله عليه، لكنّ أسمى وأروع تلك الاختبارات في مراقي الكمال والفداء والإيثار، كان يوم العاشر بعد أن قُتل أنصار الإمامعليه‌السلام من أهل بيته وصحبه الكرام، وضاق صدر أبي الفضلعليه‌السلام بالبقاء في دار الفناء وسئم الحياة، فجاء إلى الإمام الحسين يستأذنه في قتال القوم، فقال له الحسينعليه‌السلام :(إنْ عزمتَ فاستقِ لنا ماءً) (٢) ، فأخذَ قِربته وحملَ على آلاف الأعداء حتّى كشفهم عن الشريعة، ثمَّ ملأ القربة، واغترف من الماء غرفة ليشرب وقلبه كما الجمر من العطش، لكنّه ذكر عطش الحسينعليه‌السلام ومَن معه فرمى بالماء من يده وقال:

يا نفس مِنْ بعدِ الحسين هوني

وبعده لا كُنـتِ أن تكوني

هذا الحسين وارد المـنون

وتشربيـن باردَ المعين

تالله ما هذا فعال ديني (٣)

ولمّا صُرع أبو الفضل وخرّ إلى الأرض - بلا يدين - نادى بأعلى صوته:أدركني يا أخي، فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر، فرآهُ مقطوع اليمين واليسار، مرضوخ

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٥.

(٢) راجع: إبصار العين: ٦٢.

(٣) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٦٨.

١١٤

الجبين، مشكوك العين بسهم، مرتثّاً بالجراحة، فوقف عليه منحنياً، وجلسَ عند رأسه يبكي حتى فاضت نفسه المقدّسة، ثمّ حمل الإمامعليه‌السلام على القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً، فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المِعزى إذا شدَّ فيها الذئب، وهو يقول:(أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟! أين تفرّون وقد فَتتُّم عضُدي؟!) ثمّ عاد إلى موقفه منفرداً(١) .

ولمّا قُتل العباس قال الحسينعليه‌السلام :(الآن انكسر ظهري وقلّت حيلتي) (٢) .

ولقد تركه الإمام الحسينعليه‌السلام في المكان الذي صُرع فيه، ولم يحمله إلى خيمة الشهداء كما فعل بمَن سبقه منهم.

ولقد أجاد المحقّق المرحوم السيّد المقرّم حيث قال: (وتركهُ في مكانه لسرٍّ مكنون أظهرته الأيّام، وهو أن يُدفن في موضعه منحازاً عن الشهداء؛ ليكون له مشهدٌ يُقصد بالحوائج والزيارات، وبقعة يزدلف إليها النّاس، وتتزلّف إلى المولى سبحانه تحت قبّته التي ضاهت السماء رفعة وسناءً، فتظهر هنالك الكرامات الباهرة، وتعرف الأمّة مكانته السامية، ومنزلته عند الله تعالى، فتؤدّي ما وجب عليهم من الحبّ المتأكد والزيارات المتواصلة، ويكونعليه‌السلام حلقة الوصل فيما بينهم وبين الله تعالى، فشاء حُجّة الوقت أبو عبد اللهعليه‌السلام ، كما شاء المهيمن سبحانه أن تكون منزلة (أبي الفضل) الظاهرية شبيهة بالمنزلة المعنوية الأُخروية، فكان كما شاءا وأَحبّا)(٣) .

والسلام على مولانا أبي الفضل العباس ما دام الليل والنهار!

____________________

(١) راجع: إبصار العين: ٦٢ - ٦٣.

(٢) راجع البحار، ٤٥: ٤٢، ومقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ٢: ٣٤.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٧٠.

١١٥

المحاورةُ بين الإمامعليه‌السلام وبين عمر بن سعد لعنه الله

قال ابن أعثم الكوفي: (ثمَّ أرسل(١) الحسينرحمه‌الله إلى عمر بن سعد:(إنّي أُريد أنْ أُكلّمك، فالقِني الليلة بين عسكري وعسكرك) .

قال: فخرجَ إليه عمر بن سعد في عشرين فارساً، وأقبل الحسين في مثل ذلك، فلمّا التقيا أمر الحسين أصحابه فتنحّوا عنه، وبقيَ معه أخوه العبّاس وابنه عليّ الأكبررضي‌الله‌عنهم ، وأمرَ عمر بن سعد أصحابه فتنحّوا، وبقيَ معه حفص ابنه وغلامٍ له يُقال له لاحق.

فقال له الحسينرضي‌الله‌عنه :

(ويحكَ يا بن سعد، أما تتّقي الله الذي إليه معادك أن تقاتلني، وأنا ابن مَن علمتَ يا هذا من رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ؟! فاترك هؤلاء وكنْ معي، فإنّي أُقرّبك إلى الله عزّ وجلّ.

فقال له عمر بن سعد: أبا عبد الله، أخاف أن تُهدَم داري!

فقال له الحسينرضي‌الله‌عنه :أنا أبنيها لك.

فقال: أخاف أن تؤخذ ضيعتي!

فقال الحسين:أنا أُخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز.

فقال: لي عيال أخاف عليهم!

فقال:أنا أضمن سلامتهم (٢) .

قال: فلم يُجب عمر إلى شيء من ذلك، فانصرف عنه الحسينرضي‌الله‌عنه

____________________

(١) في رواية الطبري: أنّ الإمامعليه‌السلام أرسل عمرو بن قرظة بن كعب الأنصاري (رض) إلى عمر بن سعد (تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢).

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٧.

١١٦

وهو يقول:ما لكَ؟! ذبحكَ الله (من) (١) على فراشك سريعاً عاجلاً، ولا غفر الله لك يوم حشرك ونشرك، فو الله إنّي لأرجو أن لا تأكل من بُرّ العراق إلاّ يسيراً) (٢) .

(فقال له عمر: يا أبا عبد الله، في الشعير عوض عن البُرّ! ثمّ رجع عمر إلى معسكره)(٣) .

ولقد روى الطبري هذا اللقاء بين الإمامعليه‌السلام وبين عمر بن سعد، من طريق أحد مجرمي جيش ابن سعد وهو (هانئ بن ثبيت الحضرميّ)، وفي روايته: (... فلمّا التقوا أمر الحسين أصحابه أن يتنحّوا عنه، وأمر عمر بن سعد أصحابه بمثل ذلك، قال: فانكشفنا عنهما بحيث لا نسمع أصواتهما ولا كلامهما، فتكلّما فأطالا حتى ذهب من الليل هزيغٌ، ثمّ انصرف كلّ واحد منهما إلى عسكره بأصحابه..)(٤) .

وهنا يُقحم الظنّ الآثم ليختلط بالحق.

يقول الطبري بعد هذا: (وتحدّث النّاس فيما بينهما ظنّاً يظنونه أنّ حسيناً قال لعمر بن سعد: أُخرج معي إلى يزيد بن معاوية، ونَدَع العسكرين! قال عمر: إذاً تُهدم داري! قال: أنا أبنيها لك، قال: إذاً تؤخذ ضياعي! قال: إذاً أعطيك خيراً منها من مالي بالحجاز، قال فتكرّه ذلك عمر، قال: فتحدّث الناس بذلك وشاع فيهم من غير أن يكونوا سمعوا من ذلك شيئاً ولا علموه)(٥) .

____________________

(١) ليست في مقتل الخوارزمي.

(٢) الفتوح، ٥: ١٦٤ - ١٦٦.

(٣) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي، ١: ٣٤٧.

(٤) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢ - ٣١٣.

(٥) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٢ - ٣١٣.

١١٧

ثُمَّ يُزيد الطبري الطين بَلَّة!

حيث يقول بعد ذلك: (وأمّا ما حَدّثنا به الماجد بن سعيد، والصقعب بن زهير الأزدي وغيرهما من المحدّثين، فهو ما عليه جماعة المحدّثين، قالا: إنّه قال: (اختاروا مني خصالاً ثلاثاً، إمّا أن أرجع إلى المكان الذي أقبلتُ منه، وإمّا أن أضع يدي في يد يزيد بن معاوية فيرى فيما بيني وبينه رأيه، وإمّا أن تُسيّروني إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئتم، فأكون رجلاً من أهله، لي ما لهم وعليَّ ما عليهم)(١) .

لكنَّ شاهد عيان يروي الحقيقة فيقول:

وممّا يخفّف الغمَّ والهمَّ عن قلب طالب الحقيقة التاريخية: أنّ الطبري مع روايته لتلك المظنونات الكاذبة الآثمة، روى أيضاً حقيقة القضيّة عن لسان عقبة بن سمعان (رض) مولى الرباب زوج الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان ممّن صحب الإمامعليه‌السلام من المدينة إلى كربلاء، وكان في خدمة الإمامعليه‌السلام فلم يغِب عن شيء ممّا خاطب الإمامعليه‌السلام به الناس.

قال الطبري: (قال أبو مخنف: فأمّا عبد الرحمان بن جندب فحدّثني عن عقبة بن سمعان(٢) قال: صحبتُ حسيناً، فخرجت معه من المدينة إلى مكّة، ومن مكّة إلى العراق، ولم أفارقه حتّى قُتل، وليس من مخاطبته الناس كلمة بالمدينة، ولا بمكّة، ولا في الطريق، ولا بالعراق، ولا في عسكر إلى يوم مقتله إلاّ وقد سمعتها، ألا والله ما أعطاهم ما يتذاكر النّاس وما يزعمون من أن يضع يده في يد يزيد بن معاوية، ولا أن يسيّروه إلى ثغر من ثغور المسلمين، ولكنّه قال:(دعوني فلأذهب في هذه الأرض العريضة حتى ننظر ما يصير أمر النّاس..) )(٣) .

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٣، وانظر: أنساب الأشراف، ٣: ٣٩٠، وفيه: (ويقال: إنّه لم يسأله إلاّ أن يشخص إلى المدينة فقط).

(٢) عقبة بن سمعان: مضت ترجمته في الجزء الأوّل: ٤١٠ - ٤١١.

(٣) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٣.

١١٨

أُكذوبة عمر بن سعد التي افتراها على الإمامعليه‌السلام

ويروي الطبري: أنّ عمر بن سعد بعد لقائه مع الإمامعليه‌السلام كان قد كتب إلى ابن زياد كتاباً نصّه: (أمّا بعدُ، فإنَّ الله قد أطفأ النائرة، وجمعَ الكلمة، وأصلحَ أمر الأمّة، هذا حسين قد أعطاني أن يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أن نسيّره إلى أيّ ثغر من ثغور المسلمين شئنا، فيكون رجلاً من المسلمين، له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أن يأتي يزيد أمير المؤمنين فيضع يده في يده، فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا لكم رضاً وللأمّة صلاح!)(١) .

إشارة:

يلفت انتباه المتتبع: أنّ رواية هذا الكتاب والرواية التي ذكرت المطالب الثلاثة المفتراة على الإمامعليه‌السلام ، قد رواهما الطبري عن أبي مخنف، عن مجالد بن سعيد(٢) الهمداني، والصقعب بن زهير(٣) ، فإن كان خبر هذه الرسالة صادقاً، وقد علم هذان الراويان بمحتواها، فالظنّ قويّ بأنّ خبر المطالب الثلاثة المفتراة على الإمامعليه‌السلام

____________________

(١) تاريخ الطبري، ٤: ٣١٣.

(٢) مجالد بن سعيد الهمداني: لم نعثر عليه في كتب الرجال الشيعيّة، وأمّا عند علماء الرجال السُنّة، فقد ذكرهُ الذهبي قائلاً: (ولِد في أيّام جماعة من الصحابة ولكن لا شي له عنهم، ويُدرج في عداد صغار التابعين، وفي حديثه لين.

قال البخاري: كان يحيى بن سعيد يُضعّفه، وكان عبد الرحمان بن مهدي لا يروي له شيئاً، وكان أحمد بن حنبل لا يراه شيئاً، يقول ليس بشيء، وقال ابن معين: لا يُحتجّ به، وقال مرّةً: ضعيف) (راجع: سير أعلام النبلاء، ٦: ٢٨٥، دار الرسالة بيروت).

(٣) الصقعب بن زهير: لم نعثر عليه في كتاب الرجال - حسب متابعتنا - إلاّ ما وجدناه عند النمازي حيث يقول: (لم يذكروه، روى نصر بن مزاحم عن عمر بن سعد عنه قضايا صِفّين، كتاب صفّين ص١١ وص٥١٩) (مستدركات علم رجال الحديث، ٤: ٢٦٨، رقم ٧١١٨).

١١٩

قد نُسِجَ عن محتوى هذه الرسالة، وإنْ لم يكن حتّى خبر هذه الرسالة صادقاً؛ فإنَّ الخبر الأوّل والثاني كليهما قد صدرا عن منبع واحد كاذب.

وعلى فرض صحة خبر هذه الرسالة، فما هو الداعي الذي دفع عمر بن سعد إلى أن يفتري على الإمامعليه‌السلام هذه الفِرية؟!

لا شكَّ أنّ عمر بن سعد - كغيره من مجرمي جيش ابن زياد - كان يعلم عِلماً يقيناً بأحقيّة الإمامعليه‌السلام بهذا الأمر، كما كان يعلم بما لا يرتاب فيه بالعار العظيم وبالسقوط الفظيع الذي سيلحقه مدى الدهر، إذا ما قتلَ الإمامعليه‌السلام في هذه المواجهة التي صار هو فيها على رأس الجيش الأموي، ولكنّه كان في باطنه أيضاً أسير رغبته الجامحة في ولاية الريّ ونعمائها، من هنا فقد سعى إلى أن يجد المخرج من هذه الورطة فيُعافى من ارتكاب جريمة قتل الإمامعليه‌السلام ، ولا يخسر أُمنيَته في ولاية الري.

وفي صفوف جيش ابن زياد أفراد كثيرون من نوع عمر بن سعد يتمنّون بقاء مواقعهم ومنافعهم الدنيوية، مع العافية من الاشتراك في جريمة قتل الإمامعليه‌السلام ، كشبث بن ربعي وغيره كثير، لكنّ هؤلاء قد غَلبت عليهم شقوتهم - إذ سلبهم الشلل النفسي والروحي كلّ قدرة على اتخاذ الموقف الصحيح - فاستحوذَ عليهم الشيطان، فدفعهم إلى ارتكاب أفحش وأفجع الجرائم وهم يتوهمون نوال ما يتمنّونه من هذه الدنيا الفانية، أو بقاء ما في أيديهم - الخالية - منها.

شمرُ بن ذي الجوشن يُحبط خطّة عمر بن سعد

ويواصل الطبري رواية مجرى هذا الحدث فيقول: (فلمّا قرأ عبيد الله الكتاب قال: هذا كتاب رجل ناصح لأميره مشفق على قومه! نعم، قد قبلتُ!

١٢٠

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

أمّاالخوارزمي فقد قال: (ثمّ خرجَ من بعده العبّاس بن عليّ - أي من بعد أخيه عبد الله - وأمّه أمّ البنين أيضاً، وهو (السقّاء) فحملَ وهو يقول:

أقـسمتُ بالله الأعزّ الأعظم

وبـالحجون صـادقاً وزمزم

وبـالحطيم والـفنا الـمحرَّم

لـيخضبنّ اليوم جسمي بدمي

دون الحسين ذي الفخار الأقدم

إمـام أهـل الفضل والتكرّم

فلم يزل يقاتل حتّى قتلَ جماعةً من القوم، ثمّ قُتل، فقال الحسين:(الآن انكسرَ ظهري وقلّت حيلتي) (١) .

أمّاابن شهرآشوب السروي فقال: (وكان عبّاس السقّاء قمر بني هاشم، صاحب لواء الحسين، وهو أكبر الإخوان، مضى يطلب الماء(٢) ، فحملوا عليه

____________________

= اللهوف: ١٧٠.

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٣٤، وانظر: الفتوح: ٥: ٢٠٧.

(٢) قال العلاّمة المجلسي (ره): (أقول: وفي بعض تأليفات أصحابنا أنّ العبّاس لمّا رأى وحدتهعليه‌السلام أتى أخاه وقال: يا أخي هل من رخصة؟ فبكى الحسينعليه‌السلام بكاء شديداً ثمّ قال:(يا أخي، أنت صاحب لوائي، وإذا مضيت تفرّق عسكري! فقال العبّاس: قد ضاقَ صدري وسئمتُ من الحياة، وأريد أن أطلب ثأري من هؤلاء المنافقين.

فقال الحسينعليه‌السلام :فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء) ، فذهبَ العبّاس ووعظهم وحذّرهم فلم ينفعهم، فرجعَ إلى أخيه فأخبره، فسمع الأطفال يُنادون: العطش العطش!

فركبَ فرسه وأخذه رمحه والقِربة وقصد نحو الفرات، فأحاط به أربعة آلاف ممّن كانوا موكّلين بالفرات، ورموهُ بالنبال، فكشفهم وقتل منهم على ما روي ثمانين رجلاً حتى دخلَ الماء، فلمّا أراد أن يشرب غُرفة من الماء ذكرَ عطش الحسين وأهل بيته، فرَمى الماء وقال على ما روي:

يا نفس من بعد الحسين هوني

وبـعده لا كُـنتِ أن تكوني

=

٤٠١

وحملَ هو عليهم وجعل يقول:

لا أرهبُ الموتَ إذا الموت رقى(١)

حتى أُوارى في المصاليت لُقى(٢)

نـفسي لنفس المصطفى الطهر وقا

إنّـي أنـا الـعبّاس أغـدو بـالسقا

ولا أخاف الشرَّ يوم الملتقى

ففرّقهم، فكمنَ له زيد بن ورقاء الجهني من وراء نخلة، وعاونه حكيم بن طفيل السنبسي فضربه على يمينه(٣) فأخذَ السيف بشماله، وحملَ عليهم وهو يرتجز:

واللهِ إنْ قـطعتُم يـميني

إنّي أُحامي أبداً عن ديني

وعـن إمامٍ صادق اليقينِ

نجل النبيّ الطاهر الأمينِ

فقاتل حتّى ضعُف، فكمنَ له الحكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلة فضربه

____________________

=

هـذا الـحسين وارد المنونِ

وتـشـربين بـارد الـمعينِ

تالله ما هذا فعال ديني

ومَلأ القربة، وحَملها على كتفه الأيمن، وتوجّه نحو الخيمة، فقطعوا عليه الطريق، وأحاطوا به من كلّ جانب، فحاربهم حتّى ضربه نوفل الأزرق على يده اليمنى فقطعها، فحملَ القربة على كتفه الأيسر، فضربه نوفل فقطع يده اليسرى من الزند، فحملَ القربة بأسنانه فجاءه سهم فأصاب القربة وأُريق ماؤها، ثمّ جاءه سهم آخر فأصاب صدره، فانقلب عن فرسه وصاح إلى أخيه الحسين: أدركني! فلمّا أتاه رآه صريعاً، فبكى وحمله إلى الخيمة..). (البحار: ٤٥: ٤١ - ٤٥).

(١) وفي بعض المصادر: (زقا): أي صاح.

(٢) المصاليت: جمع مصلات، هو الرجل السريع المتشمّر، والمصلات مبالغة من الصالت: وهو من الرجال: الشجاع الماضي، ومن السيوف: الصقيل الحادّ.

(٣) في إبصار العين: ٦٢: (فضربهُ حكيم بن طفيل الطائي السنبسي على يمينه فبراها فأخذ اللواء بشماله..).

٤٠٢

على شماله(١) فقال:

يا نفسُ لا تخشَي من الكفّار

وأبـشري بـرحمة الجبّارِ

مـع الـنبيّ السيّد المختار

قـد قطعوا ببَغيِهم يساري

فاصلِهم يا ربّ حرَّ النّارِ

فقتله الملعون بعمود من حديد)(٢) .

ومن الجميل في ساحة عزاء أبي الفضلعليه‌السلام ، أن نورد هذه الفقرة الحزينة الرائعة التي جادت بها روح المرحوم المحقّق السيّد المقرّم، الطافحة بالولاء لأهل البيتعليهم‌السلام ، قالرحمه‌الله :

____________________

(١) في إبصار العين: ٦٢ - ٦٣: (فضربه زيد بن ورقاء الجهني على شماله فبراها، فضمَّ اللواء إلى صدره كما فعل عمّه جعفر إذ قطعوا يمينه ويساره في مؤتة، فضمّ اللواء إلى صدره وهو يقول:

ألا ترونَ معشر الفجّار

قد قطعوا ببغيهم يساري

فحملَ عليه رجل تميمي من أبناء أبان بن دارم فضربه بعمود على رأسه فخرّ صريعاً إلى الأرض، ونادى بأعلى صوته: أدركني يا أخي!

فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر فرآه مقطوع اليمين واليسار، مرضوخ الجبين، مشكوك العين بسهم، مرتثّاً بالجراحة، فوقف عليه منحنياً، وجلس عند رأسه يبكي حتّى فاضت نفسه، ثمّ حملَ على القوم فجعلَ يضرب فيهم يميناً وشمالاً، فيفرّون من بين يديه كما تفرّ المعزى إذا شدَّ فيها الذئب وهو يقول:(أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟! أين تفرّون وقد فتتُّم عضُدي؟!) ثمّ عاد إلى موقفه منفرداً، وكان العبّاس آخر مَن قُتل من المحاربين لأعداء الحسينعليه‌السلام ، ولم يُقتل بعده إلاّ الغلمان الصغار من آل أبي طالب الذين لم يحملوا السلاح).

(٢) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ٤: ١٠٨، ويلاحظ أنّ البلاذري في كتابه أنساب الأشراف: ٣: ٤٠٦ يقول: (وقال بعضهم: قتلَ حرملة بن كاهل الأسدي ثمّ الوالبي العبّاس بن علي بن أبي طالب مع جماعة وتعاوروه، وسلبَ ثيابه حكيم بن طفيل الطائي).

٤٠٣

(وسقطَ على الأرض ينادي:عليك منّي السلام أبا عبد الله! فأتاه الحسينعليه‌السلام ، وليتني علمتُ بماذا أتاه؟ أبحياة مستطارة منه بهذا الفادح الجلل؟ أم بجاذب من الأخوّة إلى مصرع صِنوه المحبوب؟

نعم، حصلَ الحسينعليه‌السلام عنده، وهو يبصر قُربان القداسة فوق الصعيد قد غشيته الدماء وجللّته النبال(١) ! فلا يمين تبطش، ولا منطق يرتجز، ولا صولة تُرهب، ولا عين تبصر، ومرتكز الدماغ على الأرض مبدَّد!

أصحيحٌ أنّ الحسينعليه‌السلام ينظر إلى هذه الفجائع ومعه حياة ينهض بها؟

لم يبقَ الحسين بعد أبي الفضل إلاّ هيكلاً شاخصاً مُعرّى عن لوازم الحياة، وقد أعربَ سلام الله عليه عن هذا الحال بقوله:(الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي) ،

وبـانَ الانـكسارُ في جبينه

فـاندكّت الـجبال من حنينه

وكيف لا؟ وهو مجال بهجته

وفـي مـحيّاه سرور مهجته

كـافل أهـله وساقي صِبيَته

وحامل اللوا بعالي همّته(٢)

ورجعَ الحسين إلى المخيّم منكسراً حزيناً باكياً، يُكفكف دموعه بكمّه، وقد تدافعت الرجال على مخيمه فنادى:(أمَا من مغيث يُغيثنا؟ أمَا من مُجير يُجيرنا؟ أمَا من طالب حقّ ينصرنا؟ أمَا من خائف من النّار فيذبّ عنّا؟ (٣) فأتتهُ سكينة وسألته عن عمّها، فأخبرها بقتله، وسمعتهُ زينب فصاحت: وا أخاه! وا عبّاساه! وا ضيعتنا بعدك! وبكينَ النسوة وبكى الحسين معهنّ وقال:وا ضيعتنا بعدك!) (٤) .

____________________

(١) في كتاب الحدائق الوردية: ١٢٠: (ورموه (العبّاس) حتّى لم يبقَ قدر الدرهم من جسده إلاّ وفيه سهم!).

(٢) هذه الأبيات الثلاثة من أرجوزة آية الله الشيخ محمّد حسين الأصفهانيقدس‌سره .

(٣) راجع: المنتخب للطريحي: ٣١٢.

(٤) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٦٩ - ٢٧٠.

٤٠٤

الإمام الحسينعليه‌السلام وحيداً فريداً في الميدان

(ولمّا قُتل العبّاسعليه‌السلام التفت الحسينعليه‌السلام فلم يرَ أحداً ينصره، ونظرَ إلى أهله وصحبه مُجزّرين كالأضاحي، وهو إذْ ذاك يسمع عويل الأيامى وصراخ الأطفال، صاحَ بأعلى صوته:(هل من ذابٍّ عن حُرم رسول الله؟ هل من موحّدٍ يخاف الله فينا؟ هل من مُغيث يرجو الله في إغاثتنا؟) فارتفعت أصوات النساء بالبكاء!)(١) .

خروج الإمام زين العابدينعليه‌السلام

(فخرجَ علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، وكان مريضاً لا يقدر أن يقلّ سيفه، وأمّ كلثوم(٢) تنادي خلفه: يا بنيَّ ارجع، فقال:(يا عمّتاه، ذريني أُقاتل بين يدي ابن رسول الله، وقال الحسينعليه‌السلام :يا أمَّ كلثوم، خُذيه؛ لئلاّ تبقى الأرض خالية من نسل آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ) (٣) .

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٧١، وانظر اللهوف: ١٦٨.

(٢) وسوف تأتي ترجمتهاعليها‌السلام وافية في الجزء الخامس من هذه الدراسة إن شاء الله.

(٣) تسلية المجالس ٢: ٣١٤، وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٣٦ : (وخبر أنّ الإمام عليّ بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام كان مريضاً قبل يوم عاشوراء وفيه، فممّا اتفقت عليه كلمة جُلّ المؤرّخين، (راجع على سبيل المثال: تاريخ الطبري: ٣: ٣١٥، وترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من القسم غير المطبوع من كتاب الطبقات الكبير: ٧٧، والإرشاد: ٢: ٩٣، وإثبات الوصيّة: ١٧٧ و ١٨١، ونسب قريش: ٥٨، وإعلام الورى: ١: ٤٦٩، وتذكرة الخواص: ٢٢٩ عن الواقدي، والمناقب لابن شهرآشوب: ٤: ١١٣، وعمدة الطالب: ١٨٢).

لكنّ هناك قولاً شاذّاً أتى به الفضيل بن الزبير بن عمر بن درهم الكوفي الأسديّ (الزيدي) في كتابه الموسوم بـ (تسمية مَن قُتل مع الحسينعليه‌السلام ): ص١٥٠ حيث قال:

(وكان عليّ بن الحسينعليه‌السلام عليلاً، وارتُثَّ يومئذٍ، وقد حضرَ بعض القتال فدفع الله عنه). =

٤٠٥

مقتلُ الرضيع عبد الله بن الحسينعليه‌السلام

النصوص الواردة في مقتل ابنه الرضيععليه‌السلام يوم الطف مختلفة جدّاً، وهي أقسام:

١ - النصوص التي تُصرّح باسمه وهو عبد الله.

٢ - النصوص التي لا تصريح فيها باسمه.

٣ - النصوص التي تقول بأنَّ الطفل اسمه عليّ الأصغر.

٤ - النصوص التي تصرّح بمقدار سِنّه فقط.

أمّا الطائفة الأولى: فقد روى الشيخ المفيد قائلاً: (ثمّ جلسَ الحسينعليه‌السلام أمام الفسطاط فأُتي بابنه عبد الله بن الحسين وهو طفل فأجلسه في حِجره، فرماهُ رجل من بني أسد بسهم فذبحه، فتلقى الحسينعليه‌السلام دمه فلمّا مَلأ كفّه صبّه في الأرض ثمّ قال:(ربّ إن تكن حبستَ عنّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لِما هو خير، وانتقِم لنا من هؤلاء القوم الظالمين) ، ثمّ حملهُ حتى وضعه مع قتلى أهله)(١) .

____________________

= وتبعه في هذا الرأي (زيديٌّ آخر) وهو صاحب الحدائق الوردية في ص١٢٠ من كتابه هذا، ونحتمل قويّاً أنّه أخذه عنه، وقد استفادَ أحد المحققّين المعاصرين من قول الفضيل بن الزبير فقال: (إنّ مفروض الأدلّة السابقة أنّ الإمام زين العابدينعليه‌السلام قد أُصيب بالمرض بعد اشتراكه أوّل مرّة في القتال وبعد أن ارتُثّ وجرح، فلعلّ عدم الإذن له في أن يُقاتل كان في المرّة الثانية وهو في حال المرض والجراحة). (راجع: جهاد الإمام السجّاد: ٤٤)، وهذا الاستنتاج لا أساس له إلاّ ذلك القول الشاذ، مع أنّ الطبري، والمفيد، وابن شهرآشوب، والمسعودي، وغيرهم يروون أنّهعليه‌السلام كان مريضاً قبل يوم عاشوراء وفيه، في عبارات صريحة ودالّة، (راجع: المصادر التي ذكرناها أعلاه).

(١) الإرشاد ٢: ١٠٨، وانظر: تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٢، وأنساب الأشراف ٣: ٤٠٧، والمعجم الكبير ٣: ١٠٣، والحدائق الوردية: ١٠٣، ونسب قريش: ٥٩، وفيه: قُتل مع أبيه صغيراً، سرّ السلسلة =

٤٠٦

وفي ضمن رواية عن أبي حمزة الثمالي، عن الإمام السجّادعليه‌السلام يصف فيها كيف جمع الإمام الحسينعليه‌السلام أصحابه ليلة عاشوراء، وردت هذه المحاورة بين الإمامعليه‌السلام وبين ابن أخيه القاسمعليه‌السلام هكذا:(فقال له القاسم بن الحسن عليه‌السلام : وأنا فيمن يُقتل؟ فأشفقَ عليه فقال له: يا بُنيّ كيف الموت عندك؟

قال: يا عمّ، أحلى من العسل!

فقالعليه‌السلام : إي والله، فداك عمّك، إنّك لأحد مَن يُقتل من الرجال معي بعد أن تبلو ببلاء عظيم، وابني عبد الله!

فقال: يا عمّ، ويصِلون إلى النساء حتّى يُقتل عبد الله وهو رضيع؟!

فقالعليه‌السلام : فداك عمّك، يُقتل عبد الله إذا جفّت روحي عطشاً، وصرتُ إلى خِيَمنا فطلبتُ ماءً ولبناً فلا أجد قطّ! فأقول: ناولوني ابني لأشرب مِن فيه! فيأتوني به فيضعونه على يدي، فأحملهُ لأُدنيه من فيَّ، فيرميه فاسقٌ بسهم فينحره

____________________

= العلوية: ١٠٣، وفيه: وهو صبي رضيع، أخبار الدول وآثار الأُول: ١٠٨، والدر النظيم: ٥٥٦، وجواهر المطالب ٢: ٢٨٧، ترجمة الإمام الحسينعليه‌السلام من الطبقات الكبرى: ٧٣، إعلام الورى ١: ٤٦٦، مثير الأحزان: ٧٠، البحار ٤٥: ٤٦، اللهوف: ١٦٩ وفيه: فتقدّم إلى باب الخيمة وقال لزينب:(ناوليني ولدي الصغير حتى أودّعه، فأخذهُ وأمال إليه ليقبّله، فرماه حرملة بن الكاهل الأسدي بسهم فوقع في نحره فذبحه، فقال لزينب:خذيه، ثمّ تلقّى الدم بكفيه حتى امتلأتا، ورمى به نحو السماء وقال:هوّن عليّ ما نزلَ بي أنّه بعين الله).

قال الباقرعليه‌السلام :(فلم تسقط من ذلك الدم قطرة إلى الأرض) ، وروي أنّ زينبعليها‌السلام هي التي أخرجت الصبي وقالت: يا أخي هذا ولدك له ثلاثة أيام ما ذاق الماء، فاطلب له شربة ماء، فأخذهُ على يده وقال:(يا قوم، قد قتلتم شيعتي وأهل بيتي، وقد بقيَ هذا الطفل يتلظّى عطشاناً فاسقوهُ شربة من الماء)، فبينما هو يخاطبهم إذ رماه رجل منهم بسهم فذبحه (راجع المجدي: ٩١، والشجرة المباركة: ٧٣).

٤٠٧

وهو يناغي! فيفيض دمه في كفّي! فأرفعه إلى السماء وأقول: اللّهمّ صبراً واحتساباً فيك...) (١) .

ومن الملفت للانتباه والمثير للعجب والحزن والمصاب في هذه الرواية هو: أنّ الإمامعليه‌السلام لجفاف روحه من العطش الشديد أراد أن يروي ظمأه من نداوة ورطوبة فم الطفل عبد الله الرضيع! لا أنّ الإمامعليه‌السلام كان قد أخذ الطفل الرضيع العطشان ليعرضه على القوم لعلّهم يسقونه ماء كما هو المشهور!

وجاء في تسمية مَن قُتل مع الحسينعليه‌السلام : (وعبيد الله بن الحسينعليه‌السلام ، وأُمّه الرباب بنت امرئ القيس..، قتلهُ حرملة بن الكاهل الأسدي الوالبي، وكان ولِدَ للحسينعليه‌السلام في الحرب فأُتي به وهو قاعد، وأخذه في حجره ولبّاه بريقه وسمّاه عبد الله، فبينما هو كذلك إذ رماه حرملة بن الكاهل بسهم فنحره، فأخذ الحسينعليه‌السلام دمه فجمعه ورمى به نحو السماء فما وقعت منه قطرة إلى الأرض!

قال فضيل: وحدّثني أبو الورد: أنّه سمعَ أبا جعفر يقول:(لو وقعت منه إلى الأرض قطرة لنزلَ العذاب) ، وهو الذي يقول الشاعر فيه:

وعند غني قطرة من دمائنا

وفي أسد أخرى تُعد وتُذكر (٢)

أمّا الطائفة الثانية من النصوص: فمنها ما رواه الدينوري قائلاً: فدعا بصبي له صغير فأجلسه في حِجره، فرماه رجل من بني أسد، وهو في حِجر الحسينعليه‌السلام بمشقص، فقتله(٣) .

____________________

(١) مدينة المعاجز: ٤: ٢١٤ رقم ٢٩٥، وعنه نَفَس المهموم: ٢٣٠ - ٢٣١، وقال الشيخ القمّي: (روى الحسين بن حمدان الحضيني (الخصيبي) بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، والسيّد البحراني مُرسلاً عنه...)، وراجع الرواية مفصّلة في الفصل الثاني: ص١٣٧ - ١٣٩.

(٢) تسمية مَن قُتل مع الحسينعليه‌السلام : ١٥٠.

(٣) الأخبار الطوال: ٢٥٨، بغية الطلب ٦: ٢٦ - ٢٩، المشقص: بمعنى نصل السهم إذا كان طويلاً غير عريض.

٤٠٨

ومنها ما رواه سبط ابن الجوزي عن هشام بن محمد، قال: (فالتفت الحسين فإذا بطفل له يبكي عطشاً، فأخذهُ على يده وقال:(يا قوم، إنْ لم ترحموني فارحموا هذا الطفل، فرماه رجل منهم بسهم فذبحه، فجعل الحسين يبكي ويقول:اللّهمّ احكُم بيننا وبين قومٍ دَعَونا لينصرونا فقتلونا)، فنوديَ من الهواء:دعهُ يا حسين فإنّ له مرضعاً في الجنّة) (١) .

وأمّا النصوص المصرّحة أنّ الطفل القتيل اسمه عليّ الأصغر: فمنها ما رواه ابن أعثم الكوفي قائلاً: (وله ابن آخر يقال له عليّ في الرضاع، فتقدّم إلى باب الخيمة فقال:

(ناولوني ذلك الطفل حتى أودّعه، فناولوه الصبي فجعل يقبّلهُ وهو يقول:يا بني، ويل لهؤلاء القوم إذا كان غداً خصمهم جدّك محمّد)، قال: وإذا بسهم قد أقبلَ حتى وقعَ في لبّة الصبي فقتلهُ.

فنزلَ الحسين عن فرسه وحفر له بطرف السيف ورمّله(٢) بدمه وصلّى عليه ودفنه)(٣) .

وقال ابن الطقطقى: (وعلي الأصغر أصابهُ سهم بكربلاء فمات)(٤) .

____________________

(١) تذكرة الخواص: ٢٢٧، روضة الواعظين: ١٥٠، سير أعلام النبلاء ٣: ٣٠٩، تهذيب الكمال ٦: ٤٢٨، المنتظم ٥: ٣٤٠.

(٢) وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٣٧: (ثمّ نزلَ الحسين عن فرسه، وحفر للصبيّ بجفن سيفه، وزمّله بدمه، وصلّى عليه...).

(٣) الفتوح ٥: ١٣١.

(٤) الأصيلي في أنساب الطالبيين: ١٤٣، النفحة العنبرية: ٤٦، كشف الغمّة ٢: ٢٥٠، المناقب ٤: ١٠٩.

٤٠٩

وأمّا النصوص التي تُصرّح بمقدار عمره الشريف، فما ورد عن الذهبي قوله: (فوقعت نبلة في ولدٍ له ابن ثلاث سنين)(١) .

أمّااليعقوبي فقد قال: (ثمّ تقدّموا رجلاً رجلاً حتّى بقيَ وحده ما معه أحد من أهله ولا ولده ولا أقاربه، فإنّه لواقف على فرسه إذ أُتي بمولود قد ولِد في تلك الساعة، فأذَّن في أُذنه وجعل يُحنّكه إذ أتاه سهم فوقعَ في حلق الصبي فذبحهُ، فنزعَ الحسين السهم من حلقه وجعل يلطّخه بدمه ويقول:(واللهِ، لأنتَ أكرم على الله من الناقة، ولَمحمّد أكرم على الله من صالح)، ثمّ أتى فوضعه مع وِلده وبني أخيه)(٢) .

____________________

(١) سير أعلام النبلاء: ٣: ٣٠٢.

هذه عمدة النصوص الواردة في الباب، ويمكن أن يستفاد من جميع ذلك: أنّ الإمام كان له ولَدان صغيران قُتلا في الطف، أحدهما: اسمه عبد الله بن الحسينعليه‌السلام أمّه الرباب بنت امرئ القيس، كما صرّح بذلك في تسميّة مَن قُتل مع الحسينعليه‌السلام ، والآخر: اسمه عليّ الأصغر، والأوّل وُلدِ كما عن اليعقوبي يوم عاشوراء، والثاني كان معه حينما خرجَ من المدينة، والله العالم.

وعلى جميع التقادير، فإنّ قتلَ الأطفال الأبرياء ممنوع في الشريعة الإسلامية، ولكنّ السَفلة من بني أميّة تعدّوا حدود الله وقتلوا الأطفال بأبشع وأفجع القتلات، والنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله كان ينهى عن ذلك، فإنّ خالد بن الوليد لمّا قَتلَ بالعميصاء الأطفال، رفع النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يديه حتى رأى المسلمون بياض إبطيه وقال:(اللّهمّ إنّي أبرأ إليك ممّا صنعَ خالد) ، ثمّ بعثَ عليّاً فوادّهم.

فلم يُعهد ذبح الأطفال بعد ذلك إلاّ ما كان من معاوية في قتله أطفال المسلمين في الأنبار وفي اليمن، على يدي عامله بسر بن أرطأة، وكان فيمن قتلهم ولَدان صغيران لعبيد الله بن عباس، وكرّرت ذلك أشياعه في الطف فذبحوا من الصبية والأطفال ما ظهروا عليهم وظفروا بهم، بغير ما رحمة منهم ودون أدنى رقّة أو رأفة، الأمر الذي برهنَ على غلوّهم في القسوة والفسوق عن الدين، وأوضحُ بلا مراء ولا خفاء أنّ قصد التشفّي والانتقام بلغَ بهم إلى العزم على استئصال ذرّية الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقطع نسله ومحو أصله. (راجع: مختصر نهضة الحسينعليه‌السلام : ١٠٧).

(٢) تاريخ اليعقوبي ٢: ١٧٧، الحدائق الوردية: ١٢٠، وفي مقتل الحسين للخوارزمي ٢: ٣٧: (ثمّ =

٤١٠

ومن الشعر الذي أنشدهُ الإمامعليه‌السلام في مواجهته القوم وحيداً - بعد مقتل عبد الله الرضيع - على ما روي:

كـفـرَ الـقـوم وقِـدماً رغـبوا

عــن ثـواب الله ربّ الـثقلين

قـتـلَ الـقـوم عـلـيّاً وابـنه

حـسن الـخير كـريم الأبـوين

حـنـقاً مـنهم وقـالوا أجـمِعوا

واحشروا الناس إلى حرب الحسين

ثــمّ سـاروا وتـواصوا كـلّهم

بـاجـتياحي لـرضاء الـملحدين

لـم يـخافوا الله فـي سفكِ دمي

لـعـبيد الله نَـسـل الـكافرين

وابـن سـعد قـد رمـاني عنوة

بـجـنود كـوكـوف الـهاطلين

لا لـشيءٍ كـان مـنّي قـبل ذا

غـير فـخري بـضياء النيّرين

بـعليّ الـخير مـن بـعد النبيّ

والـنـبيّ الـقـرشيّ الـوالدين

خـيـرة الله مـن الـخلق أبـي

ثـمّ أمّـي فـأنا ابـن الخيرَتين

فـضّةٌ قـد خَـلصت مـن ذهبٍ

فـأنـا الـفضّة وابـن الـذَهبين

مَـن لـه جـدّ كجدّي في الورى

أو كـشيخي فـأنا ابـن الـعلَمَين

فـاطـمُ الـزهراء أمّـي وأبـي

قـاصـمُ الـكفر بـبدرٍ وحُـنين

عَــبـدَ الله غـلامـاً يـافـعاً

وقـريـش يـعـبدون الـوثنَينْ

يـعبدونَ الـلاّت والـعُزّى مـعاً

وعـلـيّ كـان صـلّى الـقبلتين

وأبــي شـمـس وأُمـي قـمر

فـأنا الـكوكبُ وابـن الـقمرَيْن

ولــه فـي يـوم أُحـدٍ وقـعةٌ

شَـفت الـغلّ بـفضّ العسكرين

ثـمّ فـي الأحـزاب والـفتح معاً

كـان فـيها حـتف أهل الفَيلقين

فـي سـبيل الله، مـاذا صنَعت

أُمّــة الـسوء مـعاً بـالعترتين

____________________

= نزلَ الحسين عن فرسه، وحفرَ للصبي بجفن سيفه وزمّله بدمه، وصلّى عليه).

٤١١

عـترة الـبَرّ الـنبيّ الـمصطفى

وعَـليّ الـورد يـوم الـجحفلين

ثمّ وقفَ صلوات الله عليه قبالة القوم وسيفه مُصلت في يده آيساً من الحياة عازماً على الموت، وهو يقول:

أنـا ابن عليّ الطهر من آل هاشم

كـفاني بـهذا مـفخراً حين أفخر

وجدّي رسول الله أكرم مَن مضى

ونحن سراج الله في الأرض نزهر

وفـاطمُ أُمـي مـن سـلالة أحمد

وعـمّيَ يُدعى ذو الجناحين جعفر

وفـينا كـتاب الله أُنـزل صادقاً

وفـينا الهدى والوحي بالخير يُذكر

ونـحن أمـان الله لـلناس كـلّهم

نـسرّ بـهذا فـي الأنـام ونجهر

ونـحن ولاة الحوض نسقي ولاتنا

بـكأس رسـول الله ما ليس يُنكر

وشـيعتنا فـي الناس أكرمُ شيعة

ومـبغضنا يـوم الـقيامة يخسر

وذكر أبو علي السلامي في تاريخه أنّ هذه الأبيات للحسينعليه‌السلام من إنشائه وقال: وليس لأحد مثلها:

وإنْ تـكـن الـدنيا تُـعدّ نـفيسة

فـإنّ ثـواب الله أعـلى وأنـبلُ

وإن تـكن الأبـدان للموت أُنشئت

فقتلُ امرئ بالسيف في الله أفضل

وإن تـكن الأرزاق قـسماً مقدّراً

فقلّة سعي المرء في الكسب أجملُ

وإن تـكن الأمـوال للتَرك جمعها

فـما بـال متروك به المرءُ يبخلُ

سأمضي وما بالقتل عارٌ على الفتى

إذا فـي سـبيل الله يمضي ويُقتل

ثمّ إنّهعليه‌السلام دعا الناس إلى البراز، فلم يزل يقتل كلّ مَن دنا منه من عيون الرجال، حتى قتلَ منهم مقتلة عظيمة(١) .

____________________

(١) تسلية المجالس ٢: ٣١٤ - ٣١٨، نَفَس المهموم: ٣٥٣، الإمام الحسين وأصحابه: ٢٩٠، مقتل

٤١٢

ثمّ حملَ على الميمنة وقال:

الموت خير من ركوب العار

والعار أَولى من دخول النار

ثمّ حملَ على الميسرة وقال:

أنـا الحسين بن علي

أحـمي عـيالات أبي

آلـيتُ أن لا أنـثني

أمضي على دين النبي

وجعل يقاتل حتى قتل ألفاً وتسعمائة وخمسين سوى المجروحين(١) .

الإمام الحسينعليه‌السلام يَطلب ثوباً لا يُرغبُ فيه!

روى الطبري يقول: (ولمّا بقيَ الحسين في ثلاثة رهط أو أربعة، دعا بسراويل(٢) محققة يلمع(٣) فيها البصر، يمانيّ محقَّق، ففرزه(٤) ونكثه؛ لكيلا يُسلبه، فقال له بعض أصحابه: لو لبستَ تحته تُبّاناً (٥) قال:(ذلك ثوب مذلّة، ولا ينبغي لي أن ألبسه) (٦) .

____________________

= الخوارزمي ٢: ٣٨، الفتوح ٥: ١٣٢، المناقب ٤: ٨٠، المنتخب للطريحي: ٤٤٠، كشف الغمّة ٢: ٢٧، عبرات المصطفى ٢: ٩٣، مطالب السؤول ٢: ٢٩.

(١) مناقب آل أبي طالب ٤: ١١٠، تسلية المجالس ٢: ٣١٨، البحار ٤: ٤٩، العوالم ١٧: ٢٩٣.

(٢) لباس يلبسه الأعاجم من قديم الأيام ويلبسه الأشراف والأعاظم من الأعراب، وقد حثّ الشرع في لبسه وجعله من المستحبات والمسنونات. (راجع الحسين وأصحابه: ٣٠٢).

(٣) محققة، أي محكمة النسج.

(٤) فرزه: أي نقض نسجه، مزّقه.

(٥) التبّان: شبه السراويل الصغيرة. (راجع: لسان العرب: ٢: ١٨).

(٦) تاريخ الطبري ٣: ٣٣٣، مجمع الزوائد ٩: ١٩٣، بغية الطلب ٦: ٢٤١٧، تهذيب الكمال ٦: ٤٢٨، =

٤١٣

وروى الطبراني عن ابن أبي ليلى قال: (قال حسين بن عليعليه‌السلام حين أحسّ بالقتل:(ائتوني ثوباً لا يرغب فيه أحد أجعلهُ تحت ثيابي...) (١) .

وذكر ابن شهرآشوب أنّهعليه‌السلام قال:(ائتوني بثوبٍ لا يُرغب فيه ألبسهُ غير ثيابي لئلاّ أُجرّد؛ فإنّي مقتول مسلوب، فأتوه بتبّان فأبى أن يلبسه، وقال:هذا لباس أهل الذمّة)، ثمّ أتوه بشيء أوسع منه دون السراويل وفوق التبّان فلبسه)(٢) .

وقال الطريحي: (لما قُتل أصحاب الحسين كلّهم وتفانوا وأُبيدوا ولم يبقَ أحد، بقيَعليه‌السلام يستغيث فلا يُغاث، وأيقنَ بالموت، أتى إلى نحو الخيمة وقال لأخته:(ائتيني بثوبٍ عتيق لا يرغب فيه أحد من القوم، أجعلهُ تحت ثيابي لئلاّ أُجرّد منه بعد قتلي)، قال: فارتفعت أصوات النساء بالبكاء والنحيب، ثمّ أوتيَ بثوبٍ فخرقهُ ومزّقه من أطرافه وجعله تحت ثيابه، وكانت له سراويل جديدة فخرَقها أيضاً؛ لئلاّ تُسلب منه)(٣) .

ثباتُ الإمام الحسينعليه‌السلام ورباطة جأشه

يروي الطبري عن عبد الله بن عمّار بن عبد يغوث البارقيّ قوله في وصف شجاعة الإمامعليه‌السلام : (فو الله ما رأيت مكثوراً قطّ قد قُتل وِلدهُ وأهل بيته وأصحابه أربط جاشاً، ولا أمضى جناناً منه، ولا أجرأ مَقدماً! والله، ما رأيتُ قبله ولا بعده مثله! إنْ كانت الرجّالة لتنكشف من عن يمينه وشماله انكشاف المِعزى إذا شدّ فيها

____________________

= الإرشاد ٢: ١١١، الدر النظيم: ٥٥٨، إعلام الورى: ١: ٤٦٨.

(١) المعجم الكبير ٣: ١٢٥، مثير الأحزان: ٧٤، لواعج الأشجان: ١٦٢، اللهوف ١٧٤.

(٢) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٤: ١٠٩.

(٣) المنتخب: ٤٥١، وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٧١ - ٢٧٢.

٤١٤

الذئب...)(١) .

وفي عيون الأخبار عن هذا البارقيّ (٢) أيضاً: (ما رأيتُ قطّ أربط جأشاً من الحسين! قُتل وِلده وجميع أصحابه حوله، وأحاطت به الكتائب، فو الله لكان يشدّ عليهم فينكشفوا عنه انكشاف المِعزى إذا شدّ عليها الأسد! فمكثَ مليّاً والناس يدافعونه ويكرهون الإقدام عليه)(٣) .

ويقول السيّد ابن طاووس (ره) فيما يرويه: (.. ولقد كان يحمل فيهم، ولقد تكمّلوا ثلاثين ألفاً فيُهزمون بين يديه كأنّهم الجراد المنتشر! ثمّ يرجع إلى مركزه وهو يقول:(لا حول ولا قوّة إلاّ بالله!) )(٤) .

ويقول ابن شهرآشوب: (وجعلَ يُقاتل حتّى قتلَ ألفاً وتسعمئة وخمسين سوى المجروحين، فقال عمر بن سعد لقومه: ويلكم أتدرون مَن تبارزون؟! هذا ابن الأنزع البطين! هذا ابن قتّال العرب! فاحمِلوا عليه من كلّ جانب! فحملوا بالطعن مئة وثمانين! وأربعة آلاف بالسهام!...)(٥) .

الإمامُعليه‌السلام يستولي على شريعة الفرات

قال ابن شهرآشوب: (وروى أبو مخنف عن الجلودي: أنّ الحسين حملَ على

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٣ - ٣٣٤، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٥.

(٢) اسمه في عيون الأخبار: عبيد الله بن عمارة بن عبد يغوث.

(٣) راجع: عيون الأخبار: ١٣٤، وسعد السعود: ١٣٦، وشرح الأخبار: ٣: ١٦٣، وأنساب الأشراف: ٣: ٤٠٨.

(٤) اللهوف: ١٠٥.

(٥) مناقب آل أبي طالب: ٤: ١١١.

٤١٥

الأعور السلمي وعمرو بن الحجّاج الزبيدي، وكانا في أربعة آلاف رجل على الشريعة، وأقحمَ الفرس على الفرات، فلما أولغَ الفرَس برأسه ليشرب قالعليه‌السلام :(أنت عطشان، وأنا عطشان، والله، لا أذوقُ الماء حتّى تشرب!) ، فلمّا سمعَ الفرَس كلام الحسين شالَ رأسه ولم يشرب كأنّه فهم الكلام! فقال الحسين:اشرب فأنا أشرب) ، فمدَّ الحسين يده فغرفَ من الماء، فقال فارس: يا أبا عبد الله، تتلذّذ بشرب الماء وقد هُتكت حُرمتك؟! فنفضَ الماء من يده، وحملَ على القوم فكشفهم فإذا الخيمة سالمة)(١) .

الوداع الأخير

قال العلاّمة المجلسي (ره) في كتابه (جلاء العيون): (ثمّ ودّع ثانياً أهل بيته،

____________________

(١) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٤: ٥٧ وقال المرحوم المحقّق السيّد المقرّم في كتابه المقتل: ٢٧٥: (لا أضمن صحة هذا الحديث المتضمن لامتناع الفرس من الشرب، ولِرمي الحسين الماء من يده لمجرّد قول الأعداء، وهو العالِم بأنّه مكيدة، ولكنّ خصائص هذا اليوم المختصة بسيد الشهداء ومَن معه على أن يقضوا عطاشى، خارجة عمّا نعرفهُ ولا سبيل لنا إلاّ التسليم بعد أن كان الإمامعليه‌السلام حكيماً في أفعاله وأقواله، لا يعلم إلاّ بما تلقّاه من جدّه الذي لا ينطق عن الهوى، كل قضايا الطف محدودة الظرف والمكان لأسرار ومصالح لا يعلمها إلاّ ربّ العالمين تعالى شأنه.

وهناك شيء آخر لاحظهُ سيّد الشهداء وكانت العرب تتفانى دونه وهو حماية الحَرم بأنفس الذخائر، وأبو عبد الله سيد العرب وابن سيدها فلا تفوته هذه الخصلة التي يستهلك دونها النفس والنفيس، ولمّا ناداه الرجل هُتكت الحَرم لم يشرب الماء! إعلاماً للجَمع لِما يحمله من الغيرة على حَرمه، ولو لم يُبالِ بالنداء لَتيقّنَ الناس فقدانه الحميّة العربية، ولا يقدِم عليه أبيّ الضيم حتى لو علِم بكذب النداء، وفعلُ سيد الأُباة من عدم شرب الماء ولو في آنٍ يسير هو غاية ما يمدح به الرجل).

٤١٦

وأمَرهم بالصبر، ووعدهم بالثواب والأجر، وأمرَهم بلبس أُزرهم، وقال لهم:

(استعدّوا للبلاء، واعلموا أنّ الله تعالى حافظكم وحاميكم، وسينجّيكم من شرّ الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويُعذّب أعاديكم بأنواع البلاء، ويعوّضكم الله عن هذه البلية بأنواع النِعم والكرامة، فلا تشكوا، ولا تقولوا بألسِنتكم ما ينقص من قدركم ) (١) .

وقال المحقّق السيّد المقرّم (ره): (حقاً لو قيل بأنّ هذا الموقف من أعظم ما لاقاه سيد الشهداءعليه‌السلام في هذا اليوم، فإنّ عقائل النبوة تشاهد عماد أخبيتها، وسياج صونها، وحِمى عزّها، ومعقد شرفها مؤذِناً بفِراق لا رجوع بعده، فلا يدرين بمَن يعتصمن من عادية الأعداء، وبمَن العزاء بعد فقْده، فلا غرو إذا اجتمعنَ عليه وأحطن به وتعلّقن بأطرافه بين صبيٍّ يئنُّ، ووالهةٍ أذهلها المصاب، وطفلة تطلب الأمن، وأخرى تنشد الماء!

إذاً فما حال سيد الغيارى ومثال الحنان وهو ينظر بعلمه الواسع إلى ودائع الرسالة وحرائر بيت العصمة، وهنّ لا يعرفن إلاّ سجف العزّ وحجب الجلال، كيف يتراكضن في هذه البيداء المقفرة بعَولة مشجية، وهتاف يُفطّر الصخر الأصم، وزفرات متصاعدة من أفئدة حرّى! فإنْ فررنَ فعن السلب، وإن تباعدنَ فمن الضرب، ولا محام لهنّ غير الإمام الذي أنهكته العلّة)(٢) .

____________________

(١) جلاء العيون: ٢٠١، وعنه نَفَس المهموم: ٣٥٥.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٧٦.

٤١٧

الإمامعليه‌السلام وابنته سكينةعليها‌السلام

والتفت الحسين إلى ابنته سكينة التي يصفها للحسن المثنّى بأنّ الاستغراق مع الله غالب عليها! فرآها منحازة عن النساء باكية نادبة فوقف عليها مصبّراً، ومسلّياً ولسان حاله يقول:

هذا الوداع عزيزتي والملتقى

يوم القيامة عند حوض الكوثر

فدعي البكاء وللأسار تهيأي

واستشعري الصبر الجميل وبادري

وإذا رأيتني على وجه الثرى

دامي الوريد مبضَّعاً فتصبّري(١)

فقال عمر بن سعد: ويحكم اهجموا عليه ما دام مشغولاً بنفسه وحُرَمه، والله، إن فرغَ لكم لا تمتاز ميمنتكم عن ميسرتكم، فحملوا عليه يرمونه بالسهام حتى تخالفت السهام بين أطناب المخيّم، وشكّ سهم بعض أزر النساء فدُهشن وأُرعبن وصِحن ودخلنَ الخيمة ينظرن إلى الحسين كيف يصنع، فحملَ عليهم كالليث الغضبان فلا يلحق أحداً إلاّ بَعجه بسيفه فقتله، والسهام تأخذه من كل ناحية وهو يتّقيها بصدره ونحره)(٢) .

وقال ابن شهرآشوب: (ثمّ ودّع النساء وكانت سكينة تصيح فضمّها إلى صدره وقال:

سيطولُ بعدي يا سكينة فاعلَمي

مـنك البكاء إذا الحِمام دَهاني

لا تـحرقي قلبي بدمعكِ حسرة

ما دام منّي الروح في جثماني

فـإذا قُـتلتُ فأنتِ أَولى بالذي

تـأتينه يا خيرة النسوان(٣)

____________________

(١) هذه الأبيات للخطيب الشاعر الشيخ مسلم بن محمد علي الجابري النجفي (ره) (راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٢٧).

(٢) مقتل الحسين للمقرّم: ٢٧٧ - ٢٧٨.

(٣) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٤: ١٠٩.

٤١٨

وصايا الإمامعليه‌السلام

من جملة الأعمال المهمّة التي قام بها الإمام الحسينعليه‌السلام يوم عاشوراء قبل مقتله، دَفعُ الوصايا إلى ابنه الإمام علي بن الحسين زين العابدينعليه‌السلام ، حيث كان مريضاً ولم يستطع الجهاد بين يدي أبيه الحسينعليه‌السلام .

قال المسعودي: (ثُمّ أُحضر علي بن الحسينعليه‌السلام - وكان عليلاً - فأوصى إليه بالاسم الأعظم ومواريث الأنبياءعليهم‌السلام ، وعرّفه أن قد دفعَ العلوم والصحف والمصاحف والسلاح إلى أمّ سلمةرضي‌الله‌عنها وأمرَها أن تدفع جميع ذلك إليه)(١) .

وفي دعوات الراوندي للراوندي: عن الإمام زين العابدينعليه‌السلام قال:

(ضمّني والديعليه‌السلام إلى صدره حين قُتل والدماء تغلي، وهو يقول: يا بني احفظ عنّي دعاءً علّمتنيه فاطمة صلوات الله عليها، وعلّمها رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وعلّمه جبرئيل في الحاجة، والهمّ والغمّ، والنازلة إذا نزلت، والأمر العظيم الفادح.

قال: أُدع: (بحقّ يس والقرآن الحكيم، وبحقّ طه والقرآن العظيم، يا مَن يقدر على حوائج السائلين، يا مَن يعلم ما في الضمير، يا مُنفّس عن المكروبين، يا مُفرّج عن

____________________

(١) إثبات الوصية: ١٧٧، وفيه أيضاً في حديث عن خديجة بنت محمد بن علي الرضا أخت أبي الحسن العسكريعليه‌السلام : أنَّ الإمام أوصى إلى أخته زينب بن عليعليها‌السلام في الظاهر، فكان ما يخرج من علي بن الحسينعليهما‌السلام في زمانه من علمٍ يُنسب إلى زينب بنت علي عمّته، ستراً على علي بن الحسينعليه‌السلام وتقية واتقاء عليه (إثبات الوصيّة: ٢٠٦)، راجع: نَفَس المهموم: ٣٤٧، إثبات الهداة: ٥: ٢١٦، حديث ٩، وفيه ص١٨١: (فلمّا قرُب استشهاد أبي عبد اللهعليه‌السلام دعاه وأوصى إليه، وأمره أن يتسلم ما خلّفه عند أمّ سلمة رحمها الله مع مواريث الأنبياء والسلاح والكتاب).

٤١٩

المغمومين، يا راحمَ الشيخ الكبير، يا رازق الطفل الصغير، يا مَن لا يحتاج إلى التفسير، صلّ على محمد وآل محمد وافعل بي كذا وكذا) (١) .

وروي عن أبي جعفرعليه‌السلام أنّه قال:(إنّ الحسين عليه‌السلام لمّا حضرهُ الذي حضره دعا ابنته الكبرى فاطمة بنت الحسين عليها‌السلام (٢) ،فدفعَ إليها كتاباً ملفوفاً ووصية ظاهرة، وكان علي بن الحسين عليهما‌السلام مبطوناً معهم لا يرون إلاّ أنّه لِما به، فدَفعت فاطمة الكتاب إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام ثمّ صار ذلك إلينا) (٣) .

الهجوم على رَحْل الإمامعليه‌السلام وعياله

روى الطبري عن أبي مخنف: (ثمّ إنّ شمر بن ذي الجوشن أقبلَ في نفر من عشرة من رجّالة أهل الكوفة قِبَل منزل الحسين الذي فيه ثقله وعياله، فمشى نحوه، فحالوا بينه وبين رحله، فقال الحسين:

(ويلكم إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون يوم المعاد، فكونوا في أمر دنياكم أحراراً ذوي أحساب، امنَعوا رحلي وأهلي من طغامكم (٤) وجهّالكم).

فقال ابن ذي الجوشن: ذلك لك يا بن فاطمة(٥) .

____________________

(١) دعوات الرواندي: ٥٤، ح١٣٧، البحار: ٩٥: ١٩٦، ح٢٩.

(٢) هي فاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب القرشية الهاشمية المدنية، أخت علي بن الحسين زين العابدين... وكانت فيمن قدِم دمشق بعد قَتل أبيها، ثمّ خرجت إلى المدينة (راجع: تهذيب الكمال ٣٥: ٢٥٥).

(٣) بصائر الدرجات: ١٦٤، إثبات الهداة: ٥: ٢١٥، ح٥، البحار: ٢٦: ٣٥، ح٦٢.

(٤) تاريخ الطبري، ٣: ٣٣٣، وأنساب الأشراف ٣: ٤٠٧، والكامل في التاريخ ٤: ٧٦.

(٥) اللهوف: ١٧١.

٤٢٠

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477