مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة12%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260556 / تحميل: 8930
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة

١

٢

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة مركز الدراسات الإسلاميّة

التابع لممثليّة الوليّ الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

« عاشوراء... قراءة في أهمّ أسباب العَظمة والخلود »

الحمد لله الذي جعل الحمد مفتاحاً لذكره ودليلاً على نِعَمه وآلائه، والصلاة والسلام على أشرف الخلائق محمد وآله الطيبين الطاهرين.

لم تزَل واقعة عاشوراء - منذ سنة إحدى وستّين للهجرة - تتعاظم أهميّة وشأناً عاماً بعد عام، وتتسامى قدراً وقداسة، ويزيد ذكرها ولا يبيد، ويمتدّ عزاء الحسينعليه‌السلام انتشاراً في شرق الأرض وغربها.

وتشغل هذه الظاهرة أذهان الكثيرين، ولعلّ أهم ما يتبادر إلى ذهن المتأمّل فيها من أسباب عظمة وخلود هذه الواقعة:

أوّلاً: في وقعة عاشوراء كان قد سُفك (الدم المقّدس)، دم ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وابن سيّد الأوصياءعليه‌السلام ، وابن سيّدة النساءعليها‌السلام ، وأحد سيّدي شباب أهل الجنّةعليهما‌السلام ، وبقيّة أهل آية التطهير، وسورة هل أتى، دمٌ(سكنَ في الخُلد،

٣

فيهنّ وما بينهنّ، ومَن يتقلّب في الجنّة والنار من خَلْق ربّنا، وما يُرى وما لا يُرى...) (١) .

إنَّ قداسة الإمام الحسينعليه‌السلام (المثل الأعلى) في ضمير ووجدان الأمّة، هي التي أسبغت على عاشوراء كلَّ هذه القداسة وهذه الرمزيّة في الزمان فكان(كلُّ يوم عاشوراء) ، وهي التي نشرت كربلاء على كلّ الأرض عنواناً لميدان انتصار دم الحقّ على سيف الباطل، فكانت(كلّ أرض كربلاء) ، فبهِعليه‌السلام صارت فاجعة عاشوراء(مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيّتها في الإسلام وفي جميع السماوات والأرض!) (٢) ، ولولاهعليه‌السلام ؛ لكانت وقعة الطفّ - بكلّ ما غصّت به من فجائع أليمة - مأساة يذكرها الذاكر، فيأسف لها كما يأسف لكثير من وقائع التاريخ الأليمة الأخرى المقيّدة بحدود الزمان والمكان.

ثانياً: كانت كربلاء يوم عاشوراء مسرحاً لمواجهة فريدة من كلّ جهة في عالَم الإنسان، بين ذروة الفضيلة بكلّ مناقبيّتها متمثّلة بالحسينعليه‌السلام وأنصاره الكرام، وبين وهْدة الرذيلة بكلّ انحطاطها متمثّلة في جيش أعدائه، فكانت جميع وقايع عاشوراء تحكي من وجهٍ حركة الفضيلة بأرقى ما تستطيع أن تقدّمة من مُثُل عُليا في الأخلاق الحميدة السامية؛ تصديقاً لحجّتها الواضحة الدامغة، ولحقّانيتها في الصراع، ولمظلوميتها من كلّ جهة، وتجسيداً للأسوة الحسنة الخالدة، كي ما يتأسّى بها أهل الحقّ والإيمان على مدى الأجيال إلى قيام الساعة.

وكانت وقايع عاشوراء تحكي أيضاً من وجهٍ آخر: حركة الرذيلة بأحطّ ما يمكن أن يصدر عنها من مثَل سيّئ، كاشف عن باطلها في الصراع، وعن جَورها وظلمها، وعن وحشيّتها التي طغت حتّى على ما تعوّدته الوحوش الكواسر.

____________________

(١) كامل الزيارات: ٢١٨ باب ٧٩ رقم ٢، نشر مكتبة الصدوق - طهران.

(٢) فقرة من زيارة عاشوراء المشهورة - راجع: مفاتيح الجنان: ص٤٥٧، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

٤

من هنا كانت (عاشوراء) مثلاً أعلى للإنسان المسلم وغير المسلم، في المواجهات بين الحقّ والباطل، وكان الحسينعليه‌السلام نبراساً للإنسانيّة جمعاء، يفخر بالانتساب إليه والإقتداء به كلّ ثائر للحقّ مطالب به.

ثالثاً: وكانت كربلاء في يوم عاشوراء أيضاً مسرحاً لـ (واقعة حاسمة) بين الإسلام المحمديّ الخالص، وبين حركة النفاق بكلّ فصائلها، واقعة حاسمة من كلّ جهة وبلا حدود.

واقعة لم تنتهِ بنصر حاسم محدود كما انتهت (الجَمل)، ولم تنتهِ كما انتهت (صِفّين) بلا حسْم! بل انتهت بكلّ نتائجها لصالح الإسلام المحمديّ الخالص ولو بعد حين، وأعادت جميع مساعي حركة النفاق التي امتدّت خمسين سنة إلى نقطة الصفر؛ وذلك حيث استطاعت عاشوراء - التي أُريق فيها الدّم المقدّس - أن تفصل تماماً بين (الإسلام الأموي) وبين الإسلام المحمديّ الخالص، وأفقدت الحكم الأمويّ وريث حركة النفاق - بارتكابه حماقة سفك الدم المقدّس - قدرته على التلبّس بلباس الحقّ، وتضليل الأمّة على الصعيد الديني والنفسي والإعلامي، وهذا من أوضح آفاق الفتح الحسينيّ في عاشوراء، فلو لم تكن واقعة كربلاء لكان الأمويّون قد واصلوا حكم الناس باسم الدين، حتّى يترسّخ تماماً في أذهان الناس بمرور الأيّام والسنين، أنّه ليس هناك إسلام غير الإسلام الذي يتحدّث به الأمويّون ويؤخذ عنهم! وعلى الإسلام السلام!

لهذا كشفت عاشوراء عن وحدة وجودية لا انفكاك لها بين الإسلام المحمديّ الخالص وبين الحسينعليه‌السلام ، فصارت الدعوة إلى الإسلام بعد عاشوراء هي عين الدعوة إلى الحسينعليه‌السلام ، وبالعكس، وصارت مواجهة الحسينعليه‌السلام ومعاداته بعد عاشوراء هي عين مواجهة هذا الإسلام ومعاداته، وبالعكس، وصار بقاء الإسلام بعد كربلاء ببقاء عاشوراء الحسينعليه‌السلام ، فالإسلام محمّديّ الوجود

٥

حسينيّ البقاء!

رابعاً: إذا نظرنا إلى قيام الإمام الحسينعليه‌السلام في إطار الدَور العام(١) المشترك لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ؛ لرأيناه متمّماً لكلّ مواقف الإمام أمير المؤمنين عليّ والإمام الحسنعليهما‌السلام ، وجهودهما في الحفاظ على الإسلام نقيّاً خالصاً من كلّ شائبة وعالقة ليست منه، أرادت حركة النفاق أن تلصقها به، ومن كلّ نقص عَمدت هذه الحركة إلى إحداثه فيه.

أمّا بعد قيام الإمام الحسينعليه‌السلام ، فإنَّ جميع الأئمّة من بعدهعليهم‌السلام - في إطار هذا الدور العام المشترك - متمّمون لأهداف هذا القيام المقدّس، ومن هنا يمكننا النظر إلى قيامهعليه‌السلام وكأنّه مؤلَّف من مقاطع زمانية ثلاثة:

١ - مقطع عاشوراء: ويقوده الإمام الحسينعليه‌السلام نفسه، ويبدأ برفضه البيعة ليزيد، ثمّ بخروجه من المدينة إلى مكّة، ثمّ من مكّة إلى كربلاء، وينتهي باستشهادهعليه‌السلام .

٢ - مقطع ما بعد عاشوراء إلى عاشوراء الظهور: ويبدأ مباشرة بعد استشهادهعليه‌السلام ، ويمتدّ هذا المقطع طويلاً حتى ظهور الإمام المهديّعليه‌السلام في يوم عاشوراء، ويقود هذا المقطع تباعاً الأئمّة التسعة من ذريّة الحسينعليه‌السلام ، ويلاحِظ المتأمّل في هذا المقطع أنّ أهمّ معالم دورهم العام المشترك - إضافة إلى حفظ الإسلام ونشر وتبيان عقائده ومعارفه وأحكامه - أنّهمعليهم‌السلام كانوا يركزّون تركيزاً مكثّفاً على توجيه الأمّة إلى الارتباط بالحسينعليه‌السلام ، ويحضّون الناس على البكاء عليه، ويَدعون الشعراء إلى إنشاد الشعر فيه وإبكاء الناس، وتهييج أحزان

____________________

(١) لأئمّة أهل البيتعليهم‌السلام دَور عام يشتركون جميعاً في السعي إلى تحقيقه، بالرغم من تفاوت الظروف السياسية والاجتماعية التي يمرّون بها، كمثل مسؤوليتهم جميعاً في الحفاظ على الرسالة الإسلاميّة من كلّ تحريف، كما أنَّ لكلّ منهم دَوراً خاصاً به، تحدّده طبيعة الظروف السياسية والاجتماعية التي يعيشها كلٌّ من الإسلام والإمام والأمّة.

٦

يوم الطفوف(١) ، ويؤكّدون تأكيدات متلاحقة ومبرمة على زيارة الحسينعليه‌السلام ، حتى مع التيقّن من خطر انتقام السلطات الظالمة(٢) !

ولنتبرّك بذكر بعض الشواهد الشريفة:

* قول الإمام السجّادعليه‌السلام :(أيّما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن عليّ دمعة حتى تسيل على خدّه، بوّأه الله بها في الجنّة غُرفاً يسكنها أحقاباً...) (٣) .

* وقول الإمام الصادقعليه‌السلام :(كلّ الجزع والبكاء مكروه، سوى الجزع والبكاء على الحسين عليه‌السلام ) (٤) .

وقولهعليه‌السلام :(ما من أحدٍ قال في الحسين شِعراً فبكى وأبكى به، إلاّ أوجب الله له الجنّة وغفر له) (٥) .

وقول الإمام الرضاعليه‌السلام :(إنّ يوم الحسين أقرح جفوننا، وأسبلَ دموعنا، وأذلّ عزيزنا بأرض كرب وبلاء، أورثتنا الكرب والبلاء إلى يوم الانقضاء، فعلى مثل الحسين فليبكِ الباكون، فإنّ البكاء عليه يحطّ الذنوب العظام) (٦) .

* وقولهعليه‌السلام :(مَن ترك السعي في حوائجه يوم عاشوراء قضى الله له حوائج الدنيا والآخرة، ومَن كان يوم عاشوراء يوم مصيبته وحزنه وبكائه، جعلَ الله عزّ وجلّ يوم القيامة يوم فرحه وسروره، وقرّت بنا في الجنان عينه...) (٧) .

* وقولهعليه‌السلام :(يا بن شبيب، إن سَرَّك أن تلقى الله عزّ وجلّ ولا ذنب عليك فزُر الحسين عليه‌السلام ، يا بن شبيب، إن سَرّك أن تسكن الغرف المبنيّة في الجنّة مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فالعَن قَتَلة الحسين، يا بن شبيب، إن سَرّك أن يكون لك من الثواب مثل ما لِمن استشهدَ مع الحسين فقل متى ما ذكرتهُ: يا ليتني كنتُ معهم فأفوز فوزاً

____________________

(١) ورد في الزيارة الجوادية للإمام الرضاعليه‌السلام :(السلام على الإمام الرؤوف الذي هيّج أحزان يوم الطفوف) ، راجع: البحار: ١٠٢: ٥٥.

(٢) راجع: البحار: ١٠١، باب أنّ زيارته واجبة مفترَضة مأمور بها... وأنّها لا تُترك للخوف.

(٣) - (٧) راجع: البحار: ٤٤، ثواب البكاء على مصيبته.

٧

عظيماً).

* وقولهعليه‌السلام :(نَفَسُ المهموم لظُلمنا تسبيح، وهمّه لنا عبادة، وكتمان سرّنا جهاد في سبيل الله) (١) .

* وقول الإمام الباقرعليه‌السلام في زيارة عاشوراء:(.. فأسأل الله الذي أكرم مقامك وأكرمني بكَ أن يرزقني طلب ثأرك مع إمام منصور من أهل بيت محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله ... وأن يرزقني طلب ثأركم مع إمام هدىً ظاهر ناطق بالحقّ منكم...) (٢) .

وكأنّهمعليهم‌السلام - من خلال هذه المتون وكثير غيرها - يريدون أن يُفهِموا الأمّة أنّ الأصل عندهم هو: القيام لله بوجه الظلم والانحراف، إذا تهيّأت لهم العدّة المطلوبة(٣) من نوع (الإنسان الحسينيّ)، وأنّ صناعة وصياغة الإنسان الحسينيّ - وهو المؤمن - المسلِّم لأمر أئمّة أهل البيتعليهم‌السلام ، الشجاع، الحرّ، الأبيّ، البصير، الصلب، القاطع، المتأسّي بمناقبية الحسينعليه‌السلام وأنصاره الكرام، لا تكون ولا تتمّ إلاّ في (مصنع عاشوراء).

٣ - مقطع عاشوراء الظهور: ويقود هذا المقطع الطالب بدم المقتول بكربلاء، ثائر الحسين، الإمام المهدي (عجّل الله فرَجه) حين تجتمع إليه العدّة المقرّرة من خاصة أنصاره، ويبدأ بخروجه يوم عاشوراء، والكون يومذاك متوشِّح بأثواب الحزن على جدّه سيّد الشهداءعليه‌السلام ، وأهل الولاء في ذروة الكآبة والأسى والجزع والبكاء، قد انتشروا في مآتم الحسينعليه‌السلام ، أو انتظموا في مواكب العزاء، فتغمر فُجاءة النبأ السارّ المدهش - بظهور القائمعليه‌السلام - قلوب محبّيه ومواليه وشيعته بفرحة نشوى، بعد أن آدَها الغمّ

____________________

(١) راجع البحار: ٤٤، باب ثواب البكاء على مصيبته.

(٢) من فقرات زيارة عاشوراء المشهورة، راجع: مفاتيح الجنان: ص٤٥٦ - ٤٥٧.

(٣) راجع: الجزء الأوّل: الإمام الحسينعليه‌السلام في المدينة المنوّرة: ص٢١٣ - ٢١٦، عنوان: القيام عند أهل البيتعليهم‌السلام .

٨

والهمّ والحزن، وأرهَقها طول الغَيبة وانتظار الفرج، فتزحف كتائبه من جنود الأرض والسماء بشعار(يا لثارات الحسين) ، ويسير في الأرض يفتح البلاد بعد البلاد بعنوان الحسينعليه‌السلام ، ويقتل ذراري قَتلة الحسينعليه‌السلام - لرضاهم بفعال آبائهم - ويقتل الطغاة بعد الطغاة، والجبابرة بعد الجبابرة، حتى يُحقق الفتح العالميّ، ويملأ الأرض قِسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلماً وجَوراً.

فما أعظم بركة عنوان الحسينعليه‌السلام في كلّ شيء!

وما أعظم عاشوراء الحسينعليه‌السلام بدءً ومنتهى!

* * * *

وبعدُ، فهذا الكتاب(الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء) ، هو الجزء الرابع من دراستنا التاريخية التفصيليّة الموسّعة(مع الركب الحسينيّ من المدينة إلى المدينة) ، وهذا الجزء يمثّل المقطع الرابع من مقاطع هذه الدراسة، ويختصّ بتاريخ فترة وجود الإمامعليه‌السلام في كربلاء حتّى استشهاده.

وقد تشاطر حَمل عِبء هذا الجزء اثنان من مجموعة محقّقي هذه الدراسة، هما:

١ - الشيخ المحقّق عزّت الله المولائي: واختصّ ببحث تاريخ فترة وجود الإمام الحسينعليه‌السلام في كربلاء إلى ما قبل صبيحة يوم عاشوراء، وله الفصلان الأوّل والثاني من هذا الجزء الرابع.

٢ - الشيخ المحقّق محمّد جعفر الطبسي: واختصّ ببحث تاريخ وقائع يوم عاشوراء من شهر المحرّم سنة إحدى وستين للهجرة، حتى استشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وانتهاء المعركة، وله الفصلان الثالث والرابع من هذا الجزء الرابع. كما أنّ شيخنا المحقّق الطبسي هذا سيواصل معنا تاريخ فترة ما جرى على الركب الحسينيّ بعد استشهاد الإمامعليه‌السلام حتى وصول الركْب إلى الشام، في هذا الجزء.

٩

وكما قلنا في مقدّمتنا في الجزء الثالث نقول هنا أيضاً: إنّنا لا ندّعي شططاً إذا قلنا: إنّ هذا الجزء - كما الأوّل والثاني والثالث - قد حوى أيضاً من التحقيقات والنظرات والإشارات الجديدة، ما يؤهله لسدّ ثغرات عديدة في تاريخ النهضة الحسينية المقدّسة، كانت قبل ذلك مبهمة وغامضة، لم تتوفر الإجابة الوافية عنها؛ ولفتح نوافذ تحقيقية كثيرة في قضايا النهضة الحسينية، لم تزَل الحاجة ماسّة إلى إنعام النظر وتفصيل القول فيها.

وهنا لابدّ من أن نتقدّم بالشكر الجزيل إلى مؤلِّفي هذا الكتاب: سماحة الشيخ المحقّقعزّت الله المولائي ، وسماحة الشيخ المحقّقمحمّد جعفر الطبسي ؛ لِما بذَلاه من جهد كبير في إعداد مادّة هذا المقطع، وإنجاز هذا البحث القيّم.

كما نتقدّم بالشكر الجزيل إلى فضيلة الأستاذ المحقّق(علي الشاوي) ، الذي تولّى العناية بهذا البحث مراجعةً ونقداً وتنظيماً وتكميلاً، كعنايته من قبل بالجزء الثاني والثالث، داعين له بمزيد من الموفقيّة في ميدان التحقيق ومؤازرة المحقّقين، وفي مواصلة عنايته البالغة في خدمة الأجزاء الباقية من هذه الدراسة القيّمة إن شاء الله تعالى.

مركز الدراسات الإسلامية           

التابع لممثليّة الولي الفقيه في حرس الثورة الإسلامية

١٠

الفصل الأوّل

كربلاء

١١

١٢

الفصل الأوّل

كربلاء

اسم (كربلاء).. الأصل والاشتقاق

اختلف اللّغويون والمؤرّخون والجغرافيون في أصل كلمة كربلاء، وفي اشتقاقها وفي معناها، فذهب بعضهم إلى: أنّ أصل هذه الكلمة عربيٌّ محض، وذهب آخرون إلى أنَّ أصلها غير عربيّ، وقال آخرون: إنّها متداخلة الأصل من العربية وغيرها...

١) - نظرية الأصل العربي لاسم كربلاء

قال ياقوت الحموي: (كربلاءُ، بالمدِّ: وهو الموضع الذي قُتل فيه الحسين بن عليّرضي‌الله‌عنه ، في طرف البريّة عند الكوفة، فأمّا اشتقاقه: فالكربلة رخاوة في القدَمين، يقال: جاء يمشي مُكَرْبِلاً، فيجوز على هذا أن تكون أرض هذا الموضع رخوة فسميّت بذلك.

ويُقال: كَرْبَلْتُ الحنطة، إذا هذّبتها ونقيّتها، ويُنشَدُ في صفة الحنطة:

يحملنَ حمراء رسوباً للثقل

قد غُربلتْ وكُربلت من القصل

فيجوز على هذا أن تكون هذه الأرض منقّاة من الحصى والدغَل، فسميّت بذلك.

والكربل: اسم نبت الحُمّاض، وقال أبو وجرة السعدي يصف عهون الهودج:

وثامرُ كربلٍ وعميم دُفلى

عليها والندى سبط يمورُ

١٣

فيجوز أن يكون هذا الصنف من النبْت يكثر نبْته هناك فَسُمِّي به)(١) .

٢) - نظرية الأصل غير العربي (الأصل الديني)

وقال الدكتورمصطفى جواد في موضوع كتبه تحت عنوان (كربلاء قديماً) في موسوعة العتبات المقدّسة:

(.. وذكر السيّد العلاّمةهبة الدين الشهرستاني : أنّ (كربلاء) منحوتة من كلمتَي: (كور بابل)، بمعنى مجموعة قُرى بابلية(٢) .

وقال الأب اللغويأنستاس الكرملي: (والذي نتذكره فيما قرأناه في بعض كتب الباحثين أنّ كربلاء منحوتة من كلمتين: من (كربل)، و(إل) أي: حرم الله، أو مقدس الله(٣) .

قلنا: إنّ رَجْع الأعلام الأعجمية إلى أصول عربية كان دَيدناً لعلماء اللغة العربية منذ القديم، فقلّما اعترفوا بأنّ عَلماً من الأعلام أصله أعجمي، دون أسماء الجنس، فإنّهم اعترفوا بعُجمتها وسمّوها (المعرّبات)؛ لأنّ الذين يعرفون اللغة الفارسية كثير، ولأنّهم يدرون أصول المعرّبات على التحقيق والتأكيد.

وكان الذي يُسهّل عليهم اجتيال الأعلام وغيرها إلى اللغة العربية، كونها مشابهة وموازنة لكلمات عربية، كما مرَّ في (كربلا) والكربلة، والكربل، فهم قالوا بعروبة تلك الأعلام الأعجمية، ثمّ حاروا في تخريجها اللغوي، فبعثهم ذلك على التكلّف! كما فعلوا في كربلاء وغيرها من الأعلام الأعجمية.

____________________

(١) معجم البلدان: ٤: ٤٤٥، وانظر: مراصد الإطلاع: ٣: ١١٥٤.

(٢) نقلاً عن كتاب نهضة الحسينعليه‌السلام : ٦، مطبعة دار السلام بغداد / ١٣٤٥هـ. ق.

(٣) نقلاً عن كتاب لغة العرب: ٥: ١٧٨ / ١٩٢٧م.

١٤

وأنا أرى محاولة ياقوت الحموي ردّ (كربلاء) إلى الأصول العربية، غير مجدية ولا يصحّ الاعتماد عليها؛ لأنّها من بابة الظنّ والتخمين، والرغبة الجامحة العارمة في إرادة جعْل العربية مصدراً لسائر أسماء الأمكنة والبقاع، مع أنّ موقع كربلاء خارج عن جزيرة العرب، وأنّ في العراق كثيراً من البلدان ليست أسماؤها عربية: كبغداد، وصرورا، وجوخا، وبابل، وكوش، وبعقوبا، وأنّ التاريخ لم ينصّ على عروبة اسم (كربلاء)، فقد كانت معروفة قبل الفتح العربي للعراق، وقبل سكنى العرب هناك، وقد ذكرها بعض العرب الذين رافقوا خالد بن الوليد القائد العربي المشهور، في غزوته لغربيّ العراق سنة ١٢ هجرية / ٦٣٤م، قالياقوت الحموي : (ونزل خالد عند فتحه الحِيرة، كربلاء، فشكا إليه عبد الله بن وشيمة النصري(١) الذبّان، فقال رجل من أشجع في ذلك:

لـقد حُـبسَتْ فـي كربلاء مطيّتي

وفي العين(٢) حتى عاد غثّاً سمينها

إذا رحـلتْ مـن منزل رجعتْ له

لـعـمري وأيْـها إنّـني لأُهـينها

ويـمنعها مـن مـاء كـلّ شريعة

رفـاقٌ مـن الـذُّبانِ زُرقٌ عيونها

ومن أقدم الشِعر الذي ذُكرت فيه كربلاء: قول معن بن أَوْس المزني من مخضرمي الجاهلية والإسلام، وعمَّرَ حتى أدرك عصر عبد الله بن الزبير وصار مصاحباً له، وقد كُفَّ بصرُه في آخِر عمره، وذكر ياقوت الحموي هذا الشعر في

____________________

(١) في معجم البلدان: ٤: ٤٤٥ (البصري) وليس (النصري)، وقال الدكتور مصطفى جواد في الحاشية: (أو النضري، وفي الأصل من طبعة مصر (البصري) وهو محال؛ لأنّ البصرة لم تكن يومئذٍ قد مُصِّرَتْ، ولأنّ العرب القدامى في القرن الأوّل والقرن الثاني، لم يكونوا ينتسبون إلى المدن والأقطار، بل إلى الآباء والقبائل والأفخاذ والعمارات والبطون، أمّا غير العرب فجائز فيهم، كما سرجويه البصري الطبيب (مختصر الدول لابن العبري ص١٩٢).

(٢) يعني عين التمر، المعروف حِصنها اليوم بالأخيضر.

١٥

(النوائح) من معجمه للبلدان.. وذكره قبله أبو الفرج الأصبهاني في ترجمة معن من الأغاني (١٢: ٦٣ / دار الكتاب)، وقال وهي قصيدة طويلة:

إذا هي حلّت كربلاءَ فلعلعاً

فجوز العذيب دونها فالنوائحا

وقال الطبري في حوادث سنة ١٢هـ: (وخرج خالد بن الوليد(١) في عمل عياض بن غنم؛ ليقضي ما بينه وبينه ولإغاثته، فسلكَ الفلّوجة حتى نزل بكربلاء، وعلى مسلحتها عاصم بن عمرو... وأقام خالد على كربلاء أيّاماً، وشكا إليه عبد الله بن وثيمة الذباب، فقال له خالد: اصبر فإنّي إنّما أريد أن أستفرغ المسالح التي أمر بها عياض فنُسكنها العرب، فتأمن جنود المسلمين أن يُؤتَوا من خلفهم، وتجيئنا العرب آمنة غير متعتعة، وبذلك أمرَنا الخليفة، ورأيه يعدل نجدة الأمّة، وقال رجل من أشجع فيما شكا ابن وثيمة:

لقد حُبستْ في كربلاء مطيّتي..)(٢) الأبيات.

وقال ياقوت الحموي في كلامه على الكوفة: (.. ثمّ توجّه سعد نحو المدائن إلى يزدجرد، وقدَّم خالد بن عرفطة(٣) حليف بني زهرة بن كلاب، فلم يقدر عليه

____________________

(١) في المصدر: خالد فقط، وليس خالد بن الوليد.

(٢) راجع: تاريخ الطبري: ٢/٥٧٤.

(٣) كان خالد بن عرفطة هذا من قيادات جيش عُمَر بن سعد لقتال الحسينعليه‌السلام ، ففي كتاب بصائر الدرجات بسندٍ عن سويد بن غفلة قال: (أنا عند أمير المؤمنينعليه‌السلام إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، جئتك من وادي القرى، وقد مات خالد بن عرفطة، فقال له أمير المؤمنين:(إنّه لم يمُت، فأعادها عليه: فقال له عليٌّعليه‌السلام :لم يمُتْ والذي نفسي بيده لا يموت، فأعادها عليه الثالثة فقال: سبحان الله أُخبرك أنّه مات وتقول لم يمُت؟! فقال له عليٌّعليه‌السلام :لم يمُت والذي نفسي بيده، لا يموت حتّى يقود جيش ضلالة يحمل رايته حبيب بن جمّاز، قال: فسمع بذلك حبيب، فأتى أمير المؤمنين فقال له: أُناشدكَ فيَّ وإنّي لك شيعة، وقد ذكرتني بأمر لا والله ما أعرفه من نفسي! =

١٦

سعد حتّى فتح خالد ساباط المدائن، ثمّ توجّه إلى المدائن فلم يجد معابر فدلّوه على مخاضة عند قرية الصيّادين أسفل المدائن، فأخاضوها الخيل حتى عبروا، وهرب يزدجرد إلى اصطخر، فأخذ خالد كربلاء عنوة وسبى أهلها، فقسّمها سعد بين أصحابه...)(١) .

ولقائلٍ أن يقول: إنّ العرب أوطنوا تلك البقاع قبل الفتح العربي، فدولة المناذرة بالحيرة ونواحيها كانت معاصرة للدولة الساسانية الفارسية، وفي حمايتها وخدمتها.

والجواب: إنّ المؤرّخين لم يذكروا لهم إنشاء قرية سمّيت بهذا الاسم - أعني كربلاء - غير أنَّ وزن كربلاء أُلحق بالأوزان العربية، ونُقل (فَعْللا) إلى (فَعْلَلاء) في الشِعر حَسْبُ...(٢)

أمّا قول الأب اللغوي أنستاس ما معناه: أنّ كربلاء منحوتة من (كرب) و(إل)، فهو داخل في الإمكان؛ لأنّ هذه البقاع قد سكنها الساميّون، وإذا فسّرنا (كرب) بالعربية أيضاً دلّ على معنى (القُرب)، فقد قالت العرب: (كرب يكرب كروباً: أي دنا)، وقالت: (كرب فلان يفعل، وكرب أن يفعل: أي كاد يفعل، وكاد تفيد القُرب، قال ابن مقبل يصف ناقته:

فبعثتها تَقِصُ المقاصر بعدما

كربتْ حياةُ النار للمتنوّر (٣)

____________________

= فقال له عليٌعليه‌السلام :إنْ كنتَ حبيب بن جمّاز لتحملنّها!) ، فولّى حبيب بن جمّاز وقال: إنْ كنت حبيب بن جمّاز لتحملنّها!!

قال أبو حمزة: فو الله ما مات حتّى بَعث عُمَر بن سعد إلى الحسين بن عليّعليه‌السلام ، وجعل خالد بن عرفطة على مقدّمته، وحبيب صاحب رايته). (راجع: بحار الأنوار: ٤٤: ٢٥٩ - ٢٦٠ باب ٣١، حديث رقم ١١).

(١) راجع: معجم البلدان: ٤: ٤١٩.

(٢) أي: في الشِعر فقط.

(٣) أي: قرُب انطفاؤها، راجع: مادة (قصر) من الصحاح.

١٧

وقال أبو زيد الأسلمي:

سقاها ذوو الأرحام سجْلاً على الظما

وقد كربتْ أعناقها أن تقطّعا (١)

وإذا فسّرنا (إل) كان معناه (الإله) عند الساميّين أيضاً، ودخول تفسير التسمية في الإمكان لا يعني أنّها التسمية الحقيقية لا غيرها؛ لأنّ اللّغة والتأريخ متعاونان دائماً فهي تؤيّده عند احتياجه إليها، وهو يؤيّدها عند احتياجها إليه، فهل ورد في التاريخ أنّ موضع كربلاء كان (حرم إله) قوم من الأقوام الذين سكنوا العراق؟(٢) ، أو مَقْدَسَ إلهٍ لهم؟ لا يُجيبنا التاريخ عن ذلك، ومن الأسماء المضافة إلى (إل) بابل وأربل وبابلي.

ومن العجيب أنّ لفظ (كرب) تطوّر معناه في اللغة العبريّة، قال بعض الأدباء الأمريكيين: (ممّا يصوّر لنا فكرة عن سوء أُسلوب الحياة أن نجد الكلمة العبرية (كَرَبَ Karab) - ومعناها يقترب - تعني في الوقت نفسه (يُقاتل ويحارب)، ومن هنا كانت كلمة (كِراب Kerab) بمعنى معركة(٣) .

لذلك يمكن القول بتطوّر الاسم (كربلاء) من الحقيقة إلى المجاز، وبذلك لا يجب الالتزام بأصل معناه بل يجوز، وممّا قدّمنا يُفهم أنّ (كربلا) مقصور في

____________________

(١) راجع: الكامل للمبرد: ١: ١٢٨ / طبعة الدلجموني الأزهري.

(٢) لعلّ اسم (كربلاء) بمعنى (حرم الإله)، كان قد أُطلق على هذا الوضع في إحدى اللغات القديمة (غير العربية) بواسطة أحد الأنبياء الماضينعليهم‌السلام ، من باب الإخبار بما سوف يقع على أرض هذا الموضع في مستقبل الأيام من قتل ابن بنت خاتم الأنبياءصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأنّ هذا الموضع سوف يكون من البقاع المقدّسة، لا أنّ سبب هذه التسمية بالضرورة هو أنّ قوماً من الأقوام كانوا قد اتخذوا هذا الموضع معبداً لهم، فتأمّل.

(٣) راجع: المؤرّخون والشِعر: ٤٦ / ترجمة توفيق إسكندر إلى العربية.

١٨

الأصل، وأنّ الهمزة أُدخلت عليها لضرورة الشعر...

وعلى حسبان (كربلا) من الأسماء الساميّة الآرامية أو البابلية، تكون القرية من القُرى القديمة الزمان كبابل وأربيل، وكيف لا وهي من ناحية نينوى الجنوبية..(١) ، ونينوى من الأسماء الآشورية...)(٢) .

وقال الشيخمحمّد باقر المدرّس في كتابه مدينة الحسينعليه‌السلام : (إنّ كربلاء تلخّصت من كلمتين في لغة الآراميين، وهما (كرب) بمعنى معبد أو الحرم، و(إيلا) بمعنى آلهة، فالمعنى: حرم الآلهة)(٣) .

ثمّ يقولالشيخ المدرّس : (لو أنّنا رجعنا إلى تاريخ هذه المدينة إلى عهد البابليين لوجدنا لها اسماً وأثراً؛ لأنّه بناءً على ما قاله المستشرق الفرنسي ماسينسيون - في كتابه (خطط الكوفة / ترجمة تقي المصعبي) - إنّ كربلاء كانت معبد الكلدانيين الذين كانوا يقطنون في مدينة نينوى والعقر البابلي، وكلاهما كان بقرب كور كربلاء)(٤) .

____________________

(١) ميزاً لها عن نينوى الشمالية، إحدى عواصم الدولة الآشورية السامية، ولا تزال أطلالها معروفة.

(٢) راجع: موسوعة العتبات المقدّسة: ٨ / قسم كربلاء / مقالة للدكتور مصطفى جواد بعنوان (كربلاء قديماً) ص٩ - ١٥.

(٣) و(٤) راجع: كتاب (شهر حسينعليه‌السلام ): ص١٠ / كما ذكر المؤلّف أيضاً: أنّ اسم كربلاء يرجع إلى عصر الملك شابور ذي الأكتاف من ملوك الفرس من الساسانيين الذي بويع سنة ٣١م في إيران، وأنّهم قسّموا العراق بعد فتحها إلى عشرة ألوية، وكلّ لواء إلى طسوج، وكلّ طسج إلى رساتيق، وكانت الأرض الواقعة بين عين التمر والفُرات تُعدُّ اللواء العاشر، وكانت كربلاء أحد طسوج هذا اللواء.

١٩

نبذة مختصرة من تاريخ كربلاء وجغرافيتها إلى سنة ستين للهجرة

(كربلاء) بلدة عُرفت بهذا الاسم قبل الإسلام بزمن بعيد، بل لعلّ الظاهر من بعض الروايات أنّ اسم كربلاء موغل في القِدم إلى زمن آدم أبي البشرعليه‌السلام (١) ، بل هي معروفة في السماء بـ(أرض كرب وبلاء) ، كما في رواية عن أمير المؤمنينعليه‌السلام (٢) .

(وعلى حسبان كربلا من الأسماء الساميّة الآراميّة أو البابليّة، تكون القرية من القُرى القديمة الزمان كبابل وأربيل، وكيف لا؟ وهي من ناحية نينوى الجنوبية.. ونينوى من الأسماء الآشورية..)(٣) .

ويوحي احتمال كون اسمها منحوتاً من كلمتَي: (كور بابل) أي مجموعة قُرى بابلية، أنّها كانت آنذاك أُمَّ القُرى لقرى عديدة، منها: نينوى، والعقر البابلي، والنواويس، والحَيْر، والعين: عين التمر، وغيرها من القرى العديدة التي كانت تقع بين البادية وشاطئ الفرات.

ولعلّ (كربلاء) كانت قد أُسّست منذ عهد البابليين والآشوريين، وورثها عنهم التنوخيون واللخميّون، أُمراء المناذرة وسكّان الحيرة تحت حماية الأكاسرة في إيران، الذين كانت سيطرتهم يومذاك قد امتدّت على مساحة واسعة جدّاً من آسيا.

كانت كربلاء عامرة ومتقدّمة من الناحية الزراعية آنذاك؛ لخصوبة أرضها وقُربها من الفرات، وملائمة مناخها لكثير من الزراعات، وكانت تُموّن المنطقة

____________________

(١) راجع: البحار: ٤٤: ٢٤٢ - ٢٤٣، باب ٣٠، حديث ٣٧.

(٢) فعنهعليه‌السلام قوله:(وإنّها لفي السماوات معروفة تُذكر أرض كرب وبلاء، كما تُذكر بقعة الحَرَمين، وبقعة بيت المقدس) (راجع: أمالي الصدوق: ٤٧٨ - ٤٨٠، المجلس ٨٧، رقم ٥).

(٣) موسوعة العتبات المقدّسة: ٨ / قسم كربلاء، ص٩ - ١٥.

٢٠

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

141

142

143

144

145

146

147

148

149

150

151

152

153

154

155

156

157

158

159

160

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

روى أبو عبد الله الصادقعليه‌السلام :«إنّ الحسين دخل على أخيه الحسن في مرضه الذي استشهد فيه فلمّا رأى ما به بكى، فقال له الحسن: ما يبكيك يا أبا عبد الله؟ قال: أبكي لما صنع بك، فقال الحسن عليه‌السلام : إنّ الذي اُوتي إليَّ سمّ اُقتل به، ولكن لا يوم كيومك يا أبا عبد الله وقد ازدلف إليك ثلاثون ألفاً يدَّعون أنّهم من اُمّة جدّنا محمّد وينتحلون دين الإسلام فيجتمعون على قتلك وسفك دمك وانتهاك حرمتك وسبي ذراريك ونسائك وانتهاب ثقلك، فعندها تحلّ ببني اُميّة اللعنة، وتمطر السّماء رماداً ودماً، ويبكي عليك كلّ شيء حتّى الوحوش في الفلوات والحيتان في البحار» (١) .

وكتب ابن زياد إلى ابن سعد: إنّي لَم أجعل لك علّة في كثرة الخيل والرجال، فانظر لا تمسي ولا تصبح إلاّ وخبرك عندي غدوة وعشية. وكان يستحثّه على الحرب لست خلون من المحرم(٢) .

حشدت كتائبها على ابن محمّد

بـالطَّف حيث تذكَّرت آباءها

الله أكـبر يـا رواسي هذه الأ

رض البسيطة زايلي ارجاءها

يلقى ابن منتجع الصلاح كتائباً

عقد ابن منتجع السّفاح لواءها

ما كان أوقحها صبيحة قابلت

بـالبيض جبهته تريق دماءها

المشرعة

مـا بـلَّ أوجـهها الحيا ولو أنّه

قـطع الـصفا بلَّ الحيا ملساءها

مـن أيـن تـنجل أوجـهٌ اُمويّةٌ

سـكبت بـلذّات الفجور حياءها

قهرت بني الزهراء في سلطانها

واسـتأصلت بـصفاحها امراءها

مـلكت عليها الأمر حتّى حرَّمت

في الأرض مطرح جنبها وثواءها

____________________________

(١) أمالي الصدوق / ٧١ المجلس الثلاثون، وفي مطالب السؤول: إنّهم عشرون ألفاً. وفي هامش تذكرة الخواص: أنّهم مئة ألف. وفي تحفة الأزهار لابن شدقم: ثمانون ألفاً. وفي أسرار الشهادة / ٢٣٧: سنة آلاف فارس وألف ألف راجل. ولم يذكر أبو الفدا في تأريخه ٢ / ١٩٠: غير خروج ابن سعد في أربعة آلاف والحر في ألفين. وفي عمدة القارئ للعيني ٧ / ٦٥٦: كتاب المناقب كان جيش ابن زياد ألف فارس رئيسهم الحر، وعلى مقدمتهم الحصين بن نمير.

(٢) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠١، ومقتل محمّد بن أبي طالب.

٢٠١

ضـاقت بـها الدنيا فحيث توجَّهت

رأت الـحتوف امـامها ووراءهـا

فـاستوطأت ظـهر الحِمام وحوَّلت

لـلعزِّ عـن ظـهر الهوان وطاءها

طـلعت ثـنيّات الـحتوف بعصبة

كـان الـسيوف قضاءها ومضاءها

لـقلبوبها امـتحن الإلـه بـموقف

مـحضته فـيهِ صـبرها وبـلاءها

كـانت سـواعد آل بـيت محمّد

وسـيوف نـجدتها على من ساءها

كـره الـحمام لـقاءها فـي ضنكه

لـكـنْ أحــبَّ الله فـيه لـقاءها

فـثوت بـأفئدة صـواد لـم تـجد

ريـاً يـبلُّ سـوى الردى أحشاءها

وأراك تـنشىء يا غمام على الورى

ظـلا وتـروي مـن حياك ظماءها

وقـلـوب أبـناء الـنبي تـفطَّرت

عـطشاً بـقفر ارمـضت أشلاءها

وامضّ ما جرعت من الغصص التي

قـدحت بـجانحة الـهدى ايراءها

هـتك الـطغاة عـلى بـنات محمّد

حـجب الـنبوة خـدرها وخـباءها

فـتنازعت احـشاءها حرق الجوى

وتـجاذبت أيـدي الـعدوُّ رداءهـا

عـجـباً لـحلم الله وهـي بـعينه

بـرزت تـطيل عـويلها وبـكاءها

ويـرى مـن الـزفرات تجمع قلبها

بـيـد وتـدفع فـي يـد اعـداءها

مـا كـان اوجـعها لمهجة (أحمد)

وامـضَّ في كبد (البتولة) داءها(١)

وأنزل ابن سعد الخيل على الفرات فحموا الماء وحالوا بينه وبين سيّد الشهداء، ولَم يجد أصحاب الحسين طريقاً إلى الماء حتّى أضرّ بهم العطش، فأخذ الحسين فأساً وخطا وراء خيمة النّساء تسع عشرة خطوة نحو القبلة وحفر فنبعت له عين ماء عذب، فشربوا ثمّ غارت العين ولَم يرَ لها أثر، فأرسل ابن زياد إلى ابن سعد: بلغني أنّ الحسين يحفر الآبار ويصيب الماء فيشرب هو وأصحابه فانظر إذا ورد عليك كتابي، فامنعهم من حفر الآبار ما استطعت وضيّق عليهم غاية التضيّيق. فبعث في الوقت عمرو بن الحجّاج في خمسمئة فارس ونزلوا على الشريعة(٢) ، وذلك قبل مقتل الحسين بثلاثة أيّام(٣) .

____________________________

(١) من قصيدة للسيّد حيدر الحلّي رضوان الله عليه.

(٢) نفس المهموم للمحدث القمي / ١١٦، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٤، ومقتل العوالم / ٧٨.

(٣) الطبري ٦ / ٢٣٤، وإرشاد المفيد، ومقتل الخوارزمي الجزء الأول، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٢.

٢٠٢

اليوم السّابع

وفي اليوم السّابع اشتدّ الحصار على سيّد الشهداء ومَن معه، وسُدّ عنهم باب الورود ونفد ما عندهم من الماء، فعاد كلّ واحد يعالج لهب العطش. وبطبع الحال كان العيال بين أنة وحنة وتضور ونشيج ومتطلّب للماء إلى متحر له بما يبلّ غلّته وكلّ ذلك بعين أبي علي والغيارى من آله والأكارم من صحبه، وماعسى أنْ يجدوا لهم شيئاً وبينهم وبين الماء رماح مشرعة وسيوف مرهفة، لكن ساقي العطاشى لَم يتطامن على تحملّ تلك الحالة.

أو تشتكي العطش الفواطم عنده

وبـصدر صعدته الفرات المفعم

ولَـو استقى نهر المجرّة لارتقى

وطـويـل ذابـله إلـيها سُـلَّم

لَـو سدَّ ذو القرنين دون وروده

نـسَفَته هـمَّته بـما هو أعظم

فـي كـفِّه اليسرى السّقاء يقلّه

وبـكفّه الـيُمنى الحسام المخذم

مـثل الـسّحابة للفواطم صوبه

فيصيب حاصبه العدو فيرجم(١)

هنا قيض أخاه العبّاس لهذه المهمّة، في حين أنّ نفسه الكريمة تنازعه إليه قبل المطلب، فأمره أنْ يستقي للحرائر والصبية، وضمّ إليه عشرين راجلاً مع عشرين قربة، وقصدوا الفرات بالليل غير مبالين بمَن وُكِّل بحفظ الشريعة؛ لأنّهم محتفون بأسد آل محمّد وتقدّم نافع بن هلال الجملي باللواء، فصاح عمرو بن الحَجّاج: مَن الرجل؟ قال: جئنا لنشرب من هذا الماء الذي حلأتمونا عنه. فقال: اشرب هنيئاً ولا تحمل إلى الحسين منه. قال نافع: لا والله، لا أشرب منه قطرة والحسين ومَن معه من آله وصحبه عطاشى.

وصاح نافع بأصحابه: املأوا أسقيتكم. فشدّ عليهم أصحاب ابن الحَجّاج فكان بعض القوم يملأ القرب وبعض يقاتل وحاميهم ابن بجدتها المتربّي في حجر البسالة الحيدريّة أبو الفضل، فجاؤا بالماء. وليس في أعدائهم من تحدثه

____________________________

(١) من قصيدة للسيّد جعفر الحلّي نوّر الله ضريحه.

٢٠٣

نفسه بالدنوّ منهم فرقاً من ذلك البطل المغوار، فبلت غلة الحرائر والصبية الطيّبة من ذلك الماء(١) .

ولكن لا يفوتنا أنّ تلك الكميّة القليلة من الماء ما عسى أن تجدي اُولئك الجمع الذي هو أكثر من مئة وخمسين رجالاً ونساءً وأطفالاً أو أنّهم ينيفون على المئتين، ومن المقطوع به أنّه لَم ترو أكبادهم إلاّ مرّة واحدة فسرعان أنْ عاد إليهم الظما، وإلى الله ورسوله المشتكى.

إذا كان ساقي الحوض في الحشر حيدر

فـساقي عـطاشي كربلاء أبو الفضل

عـلى أنّ الـناس فـي الـحشر قلبه

مـريع وهـذا بـالظلما قـلبه يـغلي

وقـفتُ عـلى مـاء الفرات ولَم أزل

أقـول لـه والـقول يـحسنه مـثلي

عـلامك تـجري لا جـريت لـوارد

وأدركـت يـوماً بعض عارك بالغسل

أمــا نـشـفت أكـبـاد آل محمّد

لـهـيباً ولا ابـتلَّت بـعلٍّ ولا نـهل

مـن الـحقّ أنْ تـذوي غصونك ذبّلا

أسـىً وحـياء مـن شـفاههِمُ الـذُبل

فـقال اسـتمع للقول إنْ كنت سامعاً

وكـنْ قـابلا عذري ولا تكثرنْ عذلي

ألا إنّ ذا دمـعي الـذي أنـت نـاظر

غـداى جـعلت الـنوح بعدهُمُ شغلي

بـرغـمي أرى مـائي يـلذ سـواهمُ

بـه وهـم صرعي على عطش حولي

جـزى الله عـنهم في المواساة عمَّهم

أبـا الفضل خيراً لو شهدت أبا الفضل

لـقـد كـان سـيفاً صـاغه بـيمينه

عـليّ فـلم يـحتج شباه إلى الصقل

إذا عــدَّ ابـنـاء الـنـبيِّ محـمّد

رآه أخـاهـم مـن رآه بـلا فـضل

ولـم أرَ ظـامٍ(٢) حـوله الـماء قبله

ولَـم يـرو مـنه وهو ذو مهجة تغلي

ومـا خـطبه إلاّ الـوفاء وقـلَّ مـا

يـرى هـكذا خـلا وفـيّاً مـع الخلِّ

يـمـيناً بـيـمناك الـقطيعة والـتي

تـسمى شـمالاً وهـي جامعة الشمل

بـصبرك دون ابـن الـنبيِّ بـكربلا

عـلى الـهَول امر لا يحيط به عقلي

و وافــاك لا يـدري افـقدك راعـه

أم الـعرش غـالته الـمقادير بـالثل

____________________________

(١) مقتل محمّد بن أبي طالب. وعلى هذه الرواية يكون طلبهم للماء في السابع، ولعلّه هو المنشأ في تخصيص ذكر العبّاس بيوم السابع. وفي أمالي الصدوق / ٩٥، المجلس الثالث: أرسل الحسين بن علي ولده علياً الأكبر في ثلاثين فارساً وعشرين راجلاً ليستقوا الماء.

(٢) كذا ورد في ديوان الشاعر أبي الحب.

٢٠٤

أخي كنتَ لي درعاً ونصلا كلاهما

فقدتُ فلا درعي لديَّ ولا نصلي(١)

غرور ابن سعد

وأرسل الحسين عمرو بن قرظة الأنصاري إلى ابن سعد يطلب الاجتماع معه ليلاً بين المعسكرين، فخرج كلّ منهما في عشرين فارساً، وأمر الحسين مَن معه أنْ يتأخّر إلاّ العبّاس وابنه علياً الأكبر، وفعل ابن سعد كذلك وبقي معه ابنه حفص وغلامه.

فقال الحسين:«يابن سعد أتقاتلني؟ أما تتقي الله الذي إليه معادك؟! فأنا ابن مَن قد علمتَ! ألا تكون معي وتدع هؤلاء فإنّه أقرب إلى الله تعالى؟» قال عمر: أخاف أنْ تهدم داري. قال الحسين:«أنا أبنيها لك». فقال: أخاف أنْ تؤخذ ضيعتي. قالعليه‌السلام :«أنا أخلف عليك خيراً منها من مالي بالحجاز» (٢) ، ويروى أنّه قال لعمر:«أعطيك البغيبغة» ، وكانت عظيمة فيها نخل وزرع كثير، دفع معاوية فيها ألف ألف دينار فلَم يبعها منه(٣) . فقال ابن سعد: إنّ لي بالكوفة عيالاً وأخاف عليهم من ابن زياد القتل. ولما أيس منه الحسين قام وهو يقول:«مالك، ذبحك الله على فراشك عاجلاً، ولا غفر لك يوم حشرك، فوالله إنّي لأرجو أنْ لا تأكل من بَرّ العراق إلا يسيراً». قال ابن سعد مستهزءاً: في الشعير كفاية(٤) .

وأول ما شاهده من غضب الله عليه ذهاب ولاية الري، فإنّه لمّا رجع من كربلاء طالبه ابن زياد بالكتاب الذي كتبه بولاية الري، فادّعى ابن سعد ضياعه، فشدّد عليه باحضاره، فقال له ابن سعد: تركته يقرأ على عجائز قريش اعتذاراً منهن، أما والله لقد نصحتك بالحسين نصيحة لَو نصحتها أبي سعداً كنت قد أديت حقّه. فقال عثمان بن زياد أخو عبيد الله: صدق، وددتُ أنّ في أنف كلّ

____________________________

(١) للشيخ محسن أبو الحب الحائريرحمه‌الله .

(٢) مقتل العوالم / ٧٨.

(٣) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠٣.

(٤) تظلّم الزهراءعليها‌السلام / ١٠٣، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٥.

٢٠٥

رجل من بني زياد خزامة إلى يوم القيامة وإنّ الحسين لَم يُقتل(١) .

وكان من صنع المختار معه أنّه لمّا أعطاه الأمان، استأجر نساء يبكين على الحسين ويجلسن على باب دار عمر بن سعد، وكان هذا الفعل يلفت نظر المارّة إلى أنّ صاحب هذا الدار قاتل سيّد شباب أهل الجنّة، فضجر ابن سعد من ذلك وكلّم المختار في رفعهن عن باب داره، فقال المختار: ألا يستحقّ الحسين البكاء عليه(٢) .

ولمّا أراد أهل الكوفة أنْ يؤمّروا عليهم عمر بن سعد بعد موت يزيد بن معاوية؛ لينظروا في أمرهم، جاءت نساء همدان وربيعة، إلى الجامع الأعظم صارخات يقلن: ما رضي ابن سعد بقتل الحسين حتّى أراد أنْ يتأمّر. فبكى النّاس وأعرضوا عنه(٣) .

افتراء ابن سعد

وافتعل ابن سعد علي أبي الضيم ما لَم يقله، وكتب إلى ابن زياد زعماً منه أنّ فيه صلاح الاُمّة وجمال النظام فقال في كتابه:

أمّا بعد فإنّ الله أطفأ النّائرة وجمع الكلمة وأصلح أمر الاُمّة، وهذا حسين أعطاني أنْ يرجع إلى المكان الذي منه أتى، أو أنْ يسير إلى ثغر من الثغور، فيكون رجلاً من المسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم، أو أنْ يأتي أمير المؤمنين يزيد فيضع يده في يده فيرى فيما بينه وبينه رأيه، وفي هذا رضىً لكم وللاُمّة صلاح(٤) .

وهيهات أنْ يكون ذلك الأبي ومَن علَّم النّاس الصبر على المكاره وملاقاة الحتوف - طوع ابن مرجانة ومنقاداً لابن آكلة الأكباد! أليس هو القائل لأخيه الأطرف:«والله لا أعطي الدنيّة من نفسي» . ويقول لابن الحنفيّة:«لَو لَم يكن ملجأ لما بايعت يزيد» . وقال لزرارة بن صالح:«إنّي أعلم علماً يقيناً أنّ هناك مصرعي ومصارع أصحابي، ولا ينجو منهم إلاّ ولدي علي». وقال لجعفر بن

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٦٨.

(٢) العقد الفريد، باب نهضة المختار.

(٣) مروج الذهب ٢ / ١٠٥، في أخبار يزيد.

(٤) الاتحاف بحبّ الأشراف / ١٥، وتهذيب التهذيب ٢ / ٢٥٣.

٢٠٦

سليمان الضبعي:«إنّهم لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي» .

وآخر قوله يوم الطف:«ألا وإنّ الدعيّ ابن الدعيّ قد ركز بين اثنتين بين السلّة والذلّة وهيهات منّا الذلّة، يأبي الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وحجور طابت وطهرت واُنوف حميّة ونفوس أبيّة من أنْ تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

وإنّ حديث عقبة بن سمعان يفسّر الحال التي كان عليها أبو عبد اللهعليه‌السلام ، قال: صحبت الحسين من المدينة إلى مكّة ومنها إلى مكّة ومنها إلى العراق ولَم اُفارقه حتّى قُتل، وقد سمعت جميع كلامه فما سمعتُ منه ما يتذاكر فيه النّاس من أنْ يضع يده في يد يزيد ولا أنْ يسيره إلى ثغر من الثغور لا في المدينة ولا في مكّة ولا في الطريق ولا في العراق ولا في عسكره إلى حين قتله، نعم سمعته يقول:«دعوني أذهب إلى هذه الأرض العريضة» (١) .

طغيان الشمر

ولمّا قرأ ابن زياد كتاب ابن سعد قال: هذا كتاب ناصح مشفق على قومه. وأراد أن يجيبه، فقام الشمر(٢) ، وقال: أتقبل هذا منه بعد أنْ نزل بأرضك؟ والله،

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٢٣٥.

(٢) في البداية لابن كثير ج ٨ ص ١٨٨ كان الحسين يحدث أصحابه في كربلا بما قاله جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله : كأني انظر إلى كلب ابقع يلغ في دماء أهل بيتي ولما رأى الشمر ابرص قال هو الذي يتولى قتلي! وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين ابرص. وفي ميزان الاعتدال للذهبي ج ١ ص ٤٤٩ كان شمر بن ذي الجوشن احد قتلة الحسينعليه‌السلام فليس للرواية بأصل ولما قيل له كيف اعنت على ابن فاطمة قال: ان امراءنا امرونا فلو خالفناهم كنا أشد من الحمر الشقاء قال الذهبي وهذا عذر قبيح فانما الطاعة في المعروف. وفي كتاب صفين لنصر بن مزاحم ص ٣٠٣ وما بعدها. طبع مصر: كان شمر بن ذي الجوشن مع أمير المؤمنينعليه‌السلام في صفين، وخرج من أصحاب معاوية (أدهم بن محرز) يطلب المبارزة فخرج اليه شمر بن ذي الجوشن واختلفا بضربتين، ضربه أدهم على جبينه فاسرع السيف حتى خالط العظم وضربه شمر فلم يصنع فيه شيئاً، فرجع الشمر الى عسكره يشرب الماء واخذ رمحاً وقال:

(إني زعيم لاخي بأهلة

بطعنة ان لم امت عاجلة

وضربة تحت الوغى فاصلة

شبيهة بالقتل أو قاتله)

فحمل على أدهم وهو ثابت فطعنه فوقع عن فرسه وحمله أصحابه فانصرف شمر...

وفي نفح الطيب للمقريزي ج ٢ ص ١٤٣ مطبعة ١ عيسى البابي مطبوعات دار المأمون ان الصميل بن حاتم بن الشمر بن ذي الجوشن كان رأس المضرية متحاملاً على اليمانية (وهذه العبارة واردة في طبعة بيروت ج ١ ص ٢٢٢ تحقيق محمد محيي الدين).

٢٠٧

لئن رحل من بلادك ولَم يضع يده في يدك ليكونّن أولى بالقوّة وتكون أولى بالضعف والوهن، فاستصوب رأيه وكتب إلى ابن سعد: أمّا بعد، إنّي لَم أبعثك إلى الحسين لتكفّ عنه ولا لتطاوله ولا لتمنيه السّلامة ولا لتكون له عندي شفيعاً، اُنظر فإنْ نزل حسين وأصحابه على حكمي، فابعث بهم إليَّ سِلماً. وإنْ أبوا فازحف إليهم حتّى تقتلهم وتمثّل بهم؛ فإنّهم لذلك مستحقّون، فإنْ قُتل حسين فاوطىء الخيل صدره وظهره، ولستُ أرى أنّه يُضرّ بعد الموت، ولكن على قول قلته: لَو قتلتُه لفعلتُ هذا به. فإنْ أنت مضيتَ لأمرنا فيه جزيناك جزاء السّامع المطيع، وإنْ أبيتَ فاعتزل عملنا وجندنا وخلّ بين شمر بن ذي الجوشن وبين العسكر، فإنّا قد أمرناه بذلك(١) .

فلمّا جاء الشمر بالكتاب، قال له ابن سعد: ويلك لا قرب الله دارك، وقبّح الله ما جئت به، وإنّي لأظنّ أنّك الذي نهيته وافسدت علينا أمراً رجونا أنْ يصلح، والله لا يستسلم حسين فانّ نفس أبيه بين جنبَيه.

فقال الشمر: أخبرني ما أنت صانع، أتمضي لأمر أميرك؟ وإلاّ فخلّ بيني وبين العسكر. قال له عمر: أنا أتولّي ذلك، ولا كرامة لك، ولكن كن أنت على الرجّالة(٢) .

____________________________

= وفي حاشية الكتاب، كان حاتم بن الشمر مع أبيه في الكوفة ولما قتل المختار شمر بن ذي الجوشن هرب ابنه الى قنسرين. وفي ص ١٤٥ ذكر ان الصميل كان والياً على سر قسطة ثم فارقها وتولى على طليطلة. وفي كتاب الحلة السيراء لابن الأبار ج ١ ص ٦٧ لما ظهر المختار بالكوفة فر الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين بن علي الى الشام بأهله وولده، فاقام بها في عز ومنعة، وقيل قتله المختار وفر ولده إلى ان خرج كلثوم بن عياض القشيري غازياً الى المغرب، فكان الصميل ممن ضرب عليه البعث في اشراف أهل الشام ودخل الأندلس في طاعة بلج بن بشر وهو الذي قام بأمر المضرية في الاندلس عندما أظهر أبو الخطار الحسام بن ضرار الكلبي العصبية لليمانية ومات الصميل في سجن عبد الرحمن بن معاوية سنة ١٤٢ وكان شاعراً. وفي تاريخ علماء الاندلس لابن الفوطي ج ١ ص ٢٣٤ باب الشين، شمر بن ذي الجوشن الكلاعي من أهل الكوفة هو الذي قدم برأس الحسينعليه‌السلام على يزيد بن معاوية ولما ظهر المختار هرب بعياله منه ثم خرج كلثوم بن عياض غازياً المغرب ودخل الى الاندلس في طالعة بلج، وهو جد الصميل بن حاتم بن شمر القيسي صاحب الفهرى ا هـ والاصح ما ذكره الدينوري في الأخبار الطوال ٢٩٦ ان شمر بن ذي الجوشن قتله أصحاب المختار بالمذار وبعث برأسه الى محمد ابن الحنفية وفي الاعلاق النفيسة لابن رسته ص ٢٢٢ كان الشمر بن ذي الجوشن ابرص وفي تاريخ الطبري ج ٧ ص ١٢٢ وكامل ابن الاثير ج ٤ ص ٩٢ حوادث سنة ٦٥ كان الشمر ابرص يرى بياض برصه على كشحه.

(١) ابن الأثير ٤ / ٢٣.

(٢) الطبري ٦ / ٢٣٦.

٢٠٨

الأمان

وصاح الشمر بأعلى صوته: أين بنو اُختنا(١) ؟ أين العبّاس وإخوته؟، فأعرضوا عنه، فقال الحسين:«أجيبوه ولَو كان فاسقاً» ، قالوا: ما شأنك وما تريد؟ قال: يا بني اُختي أنتم آمنون، لا تقتلوا أنفسكم مع الحسين، والزموا طاعة أمير المؤمنين يزيد. فقال العبّاس: لعنك الله ولعن أمانك، أتؤمننا وابن رسول الله لا أمان له(٢) ، وتأمرنا أنْ ندخل في طاعة اللعناء وأولاد اللعناء(٣) .

أيظنّ هذا الجلف الجافي أن يستهوي رجل الغيرة والحميّة إلى الخسف والهوان، فيستبدل أبو الفضل الظلمة بالنور، ويدع عَلَم النبوّة وينضوي إلى راية ابن ميسون؟! كلاّ.

ولمّا رجع العبّاس، قام إليه زهير بن القين وقال: اُحدّثك بحديث وعيته؟ قال: بلى، فقال: لمّا أراد أبوك أن يتزوّج، طلب من أخيه عقيل - وكان عارفاً بأنساب العرب - أنْ يختار له امرأةً ولدتها الفحولة من العرب؛ ليتزوّجها فتلد غلاماً شجاعاً ينصر الحسين بكربلاء، وقد ادّخرك أبوك لمثل هذا اليوم، فلا تقصّر عن نصرة أخيك وحماية أخواتك. فقال العبّاس: أتشجّعني يا زهير في مثل هذا اليوم؟! والله لأرينّك شيئاً ما رأيتَه(٤) ، فجدّل أبطالاً ونكس رايات في حالة لَم يكن من همّه القتال ولا مجالدة الأبطال، بل همّه إيصال الماء إلى عيال أخيه.

____________________________

(١) في جمهرة أنساب العرب لابن حزم / ٢٦١ و ٢٦٥ قال: أولاد كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن حفصة بن قيس عيلان بن مضر، أحد عشر ولداً منهم؛ كعب، والضباب. فمن ولد كعب بنو الوحيد الذين منهم اُمّ البنين بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد كانت تحت علي بن أبي طالب فولدت له محمداً الأصغر وعثمان وجعفر والعبّاس، وفي صفحة٢٧٠ ذكر بني الضباب فقال: منهم الشمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين واسم ذي الجوشن جميل بن الأعور عمرو بن معاوية وهو الضاب. ومن ولده الصميل بن حاتم بن شمر بن ذي الجوشن ساد بالاندس وله بها عقب ونزالتهم بالخشيل من شوذر من عمل جيّان.

وفي العقد الفريد ٢ / ٨٣ عند ذكر مذحج قال: الضباب في بني الحارث بن كعب مفتوحة الضاد وفي بني عامر بن صعصعة مسكورة وحيث أنّ الشمر من بني عامر بن صعصعة يكون الضباب بكسر الضاد.

(٢) تذكرة الخواص / ١٤٢: حكاه عن جده أبي الفرج في المنتظم وإعلام الورى / ٢٨.

(٣) ابن نما / ٢٨.

(٤) أسرار الشهادة / ٣٨٧.

٢٠٩

يـمثل الـكرّار فـي كـرّاته

بل في المعاني الغرّ من صفاته

لـيس يـد الله سـوى أبـيه

وقــدرة الله تـجـلَّت فـيه

فـهو يـد الله وهـذا سـاعده

تـغنيك عـن إثـباته مشاهده

صـولته عـند النزال صولته

لولا الغلوُّ قلت جلت قدرته(١)

بنو أسد

واستأذن حبيب بن مظاهر من الحسين أنْ يأتي بني أسد وكانوا نزولاً بالقرب منهم فأذِن له، ولمّا أتاهم وانتسب لهم عرفوه، فطلب منهم نصرة ابن بنت رسول الله فإنّ معه شرف الدنيا والآخرة، فأجابه تسعون رجلاً، وخرج من الحي رجل أخبر ابن سعد بما صاروا إليه، فضمّ إلى الأزرق أربعمئة رجل وعارضوا النّفر في الطريق واقتتلوا، فقُتل جماعة من بني أسد وفرّ مَن سلِم منهم إلى الحي فارتحلوا جميعاً في جَوف الليل خوفاً من ابن سعد أنْ يبغتهم، ورجع حبيب إلى الحسين وأخبره، فقال:«لا حول ولا قوّة إلاّ بالله العظيم» (٢) .

اليوم التاسع

ونهض ابن سعد عشيّة الخميس لتسع خلون من المحرّم، ونادى في عسكره بالزحف نحو الحسين، وكانعليه‌السلام جالساً أمام بيته محتبياً بسيفه، وخفق برأسه فرأى رسول الله يقول: انّك صائر إلينا عن قريب. وسمعت زينب أصوات الرجال وقالت لأخيها: قد اقترب العدوّ منّا.

فقال لأخيه العبّاس:«اركب بنفسي أنت (٣) حتّى تلقاهم، واسألهم عمّا

____________________________

(١) للحجّة آية الله الشيخ محمّد حسين الاصفهانيقدس‌سره .

(٢) البحار عن مقتل محمّد بن أبي طالب الحائري، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٤٣.

(٣) الطبري ٦ / ١٣٧، وروضة الواعظين / ١٥٧، والارشاد للمفيد، والبداية لابن كثير ٨ / ١٧٦.

غير خاف ما في هذه الكلمة الذهبية من مغزى دقيق، ترى الفكر يسف عن مداه وأنّى له أن يحلق إلى ذروة الحقيقة من ذات طاهرة تُفتدى بنفس الإمام علّة الكائنات والفيض الأقدس للممكنات. نعم، عرفها البصير الناقد بعد أنْ جربها بمحك النزاهة فوجدها مشبوبة بجنسها ثمّ أطلق عليها تلك الكلمة الغالية، ولا يعرف الفضل إلاّ أهله. ولا يذهب بك الوهم أيّها القارئ إلى القول بعدم الأهميّة في هذه الكلمة بعد قول الإمامعليه‌السلام في زيارة الشهداء من زيارة وارث: «بأبي أنتم واُمّي، طبتم وطابت الأرض التي فيها دفنتم»؛ لأنّ الإمامعليه‌السلام في هذه الزيارة لَم يكن هو المخاطب لهم وانّما هوعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان الجمّال عند زيارتهم أنْ يخاطبهم بذلك، فإنّ الرواية تنصّ كما في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي أنّ صفوان استأذن الصادق في زيارة الحسين وأنْ يعرّفه ما يقوله ويعمل عليه فقال له: «يا صفوان، صم قبل خروجك ثلاثة أيّام - إلى أنْ قال -: ثمّ إذا أتيت الحائر فقُل: الله أكبر - ثمّ ساق الزيارة إلى أنْ قال -: ثمّ اخرج من الباب الذي يلي رجلَي علي بن الحسين وتوجّه إلى الشهداء وقُل: السّلام عليكم يا أولياء الله...» إلى آخرها. فالإمام الصادقعليه‌السلام في مقام تعليم صفوان أنْ يقول في السّلام على الشهداء ذلك، وليس في الرواية ما يدلّ على أنّهعليه‌السلام كيف يقول لو أراد السّلام على الشهداء.

٢١٠

جاءهم وما الذي يريدون؟» ، فركب العبّاس في عشرين فارساً فيهم زهير وحبيب، وسألهم عن ذلك قالوا: جاء أمر الأمير أنْ نعرض عليكم النّزول على حكمه، أو ننازلكم الحرب.

فانصرف العبّاسعليه‌السلام يُخبر الحسين بذلك، ووقف أصحابه يعظون القوم. فقال لهم حبيب بن مظاهر: أما والله لبئس القوم عند الله غداً، قوم يقدمون عليه وقد قتلوا ذريّة نبيّه وعترته وأهل بيته وعبّاد أهل هذا المصر المتهجدين بالأسحار الذاكرين الله كثيراً. فقال له عزرة بن قيس: إنّك لتزكّي نفسك ما استطعت. فقال زهير: يا عزرة، إنّ الله قد زكّاها وهداها فاتّق الله يا عزرة، فإنّي لك من النّاصحين، اُنشدك الله يا عزرة أنْ لا تكون ممَّن يعين أهل الضلالة على قتل النّفوس الزكيّة. ثمّ قال عزرة: يا زهير ما كنتَ عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنّما كنتَ على غير رأيهم. قال زهير: أفلستَ تستدلّ بموقفي هذا أنّي منهم، أما والله ما كتبتُ إليه كتاباً قطّ، ولا أرسلت إليه رسولاً، ولا وعدته نصرتي ولكنّ الطريق جمع بيني وبينه، فلمّا رأيته ذكرتُ به رسول الله ومكانه منه، وعرفتُ ما يقدم عليه عدوّه، فرأيت أنْ أنصره وأن أكون من حزبه وأجعل نفسي دون نفسه؛ لما ضيّعتم من حقّ رسوله.

وأعلم العبّاس أخاه أباعبد الله بما عليه القوم فقالعليه‌السلام :«ارجع إليهم، واستمهلهم هذه العشيّة إلى غد، لعلّنا نصلّي لربّنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو

٢١١

يعلم أنّي اُحبّ الصلاة له وتلاوة كتابه وكثرة الدعاء والاستغفار».

فرجع العبّاس واستمهلهم العشيّة. فتوقّف ابن سعد وسأل من النّاس فقال عمرو بن الحَجّاج: سبحان الله! لو كانوا من الديلم وسألوك هذا لكان ينبغي لك أنْ تجيبهم إليه. وقال قيس بن الأشعث: أجبهم إلى ما سألوك، فلَعمري ليستقبلك بالقتال غدوة. فقال ابن سعد: والله لو أعلم أنّه يفعل ما أخّرتهم العشية. ثمّ بعث إلى الحسين: إنّا أجّلناكم إلى غد، فإنْ استسلمتم سرحنا بكم إلى الأمير ابن زياد، وإنْ أبيتم فلسنا تاركيكم(١) .

ضـلّـت اُمـيّـة مـاتر

يـد غـداة مقترع النصول

رامـت تـسوق المصعب

الـهـدار مـستاق الـذليل

ويــروح طـوع يـمينها

قـود الـجنيب أبو الشبول

رامـت لـعمرو ابْن النبي

الـطُّهر مـمتنع الحصول

وتـيمَّمت قـصد الـمحال

فـما رعـت غير المحول

ورنـت على السغب السرا

ب بـأعين في المجد حول

وغـوى بـها جـهل بـها

والبغي من خلق الجهول(٢)

الضمائر الحرّة

وجمع الحسين أصحابه قرب المساء قبل مقتله بليلة(٣) فقال:«اُثني على الله أحسن الثناء وأحمده على السرّاء والضرّاء، اللهمّ إنّي أحمدك على أنْ أكرمتنا بالنبوّة، وعلّمتنا القرآن وفقّهتنا في الدين، وجعلت لنا أسماعاً وأبصاراً وأفئدةً، ولَم تجعلنا من المشركين. أمّا بعد، فإنّي لا أعلم أصحاباً أولى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهل بيت أبرّ ولا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عنّي جميعاً (٤) .

____________________________

(١) الطبري ٦ / ٣٣٧.

(٢) للكعبيرحمه‌الله .

(٣) اثبات الرجعة للفضل بن شاذان، هكذا عرفه وهو بالغيبة أنسب فانّه لو يوجد فيه من أخبار الرجعة إلا حديث واحد.

(٤) الطبري ٦ / ٢٣٨ - ٢٣٩، وكامل ابن الأثير ٤ / ٣٤.

٢١٢

وقد أخبرني جدّي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بأنّي ساُساق إلى العراق فأنزلُ أرضاً يقال لها عمورا وكربلاء، وفيها اُستشهد. وقد قرب الموعد.

ألا وإنّي أظنّ يومنا من هؤلاء الأعداء غداً. وإنّي قد أذِنت لكم فأنطلقوا جميعاً في حلّ ليس عليكم منّي ذمام. وهذا الليل قد غشيكم فاتّخذوه جملاً، وليأخذ كلّ رجل منكم بيد رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعاً خيراً! وتفرّقوا في سوادكم ومدائنكم، فإنّ القوم إنّما يطلبونني، ولَو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري» (١) .

فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعل ذلك؟ لنبقى بعدك؟! لا أرانا الله ذلك أبداً. بدأهم بهذا القول العبّاس بن علي وتابعه الهاشميّون.

والتفت الحسين إلى بني عقيل وقال:«حسبكم من القتل بمسلم، اذهبوا قد أذِنت لكم» . فقالوا: إذاً ما يقول النّاس، وما نقول لهم؟ أنّا تركنا شيخنا وسيّدنا وبني عمومتنا خير الأعمام؟! ولَمْ نرمِ معهم بسهم ولَمْ نطعن برمح ولَمْ نضرب بسيف، ولا ندري ما صنعوا؟! لا والله لا نفعل، ولكن نفيدك بأنفسنا وأموالنا وأهلينا، نقاتل معك حتّى نرد موردك، فقبّح الله العيش بعدك(٢) .

نـفوس أبـت إلاّ تراب أبيهم

فـهم بـين موتور لذاك وواتر

لقد ألفت أرواحهم حومة الوغى

كما أنست أقدامهم بالمنابر(٣)

وقال مسلم بن عوسجة: أنحن نخلّي عنك؟ وبماذا نعتذر إلى الله في أداء حقّك؟ أما والله، لا اُفارقك حتّى أطعن في صدورهم برمحي وأضرب بسيفي ما ثبت قائمه بيدي، ولو لَمْ يكن معي سلاح اُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة حتّى أموت معك.

وقال سعيد بن عبدالله الحنفي: والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد

____________________________

(١) إثبات الرجعة.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٣٨، والكامل ٤ / ٢٤، والإرشاد للمفيد، وإعلام الورى / ١٤١، وسِير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢٠٢.

(٣) مثير الأحزان لابن نما / ١٧.

٢١٣

حفظنا غيبة رسوله فيك، أما و الله لو علمتُ أنّي اُقتل ثمّ اُحيا ثمّ اُحرق حيّاً ثمّ اُذرّى، يُفعل بي ذلك سبعين مرّة، لَما فارقتك حتّى ألقى حمامي دونك، وكيف لا أفعل ذلك وإنّما هي قتلة واحدة ثمّ هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً؟!

وقال زهير بن القين: و الله وددتُ أنّي قُتلتُ ثمّ قُتلت حتّى اُقتل كذا ألف مرّة، و إنّ الله عزّ وجلّ يدفع بذلك القتل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.

وتكلّم باقي الأصحاب بما يشبه بعضه بعضاً فجزّاهم الحسين خيراً(١) .

وفي هذا الحال قيل لمحمد بن بشير الحضرمي قد اُسِر ابنك بثغر الري فقال: ما اُحبّ أنْ يؤسر و أنا أبقى بعده حيّاً فقال له الحسين:«أنت في حلّ من بيعتي، فاعمل في فكاك ولدك»، قال: لا والله لا أفعل ذلك، أكلتني السّباع حيّاً إنْ فارقتك. فقالعليه‌السلام :«إذاً اعط ابنك هذه الأثواب الخمسة ليعمل في فكاك أخيه» - وكان قيمتها ألف دينارـ(٢) .

وتـناديت لـلذبّ عنه عصبة

ورثـوا الـمعالي اشيباً وشبابا

مـن يـنتدبهم للكريهة ينتدب

مـنهم ضراغمة الاسود غضابا

خفّوا لداعي الحرب حين دعاهم

ورسوا بعرصة كربلاء هضابا

اسـد قد اتخذوا الصوارم حلية

وتـسربلوا حـلق الدروع ثيابا

تـخذت عيونهم القساطل كحلها

واكـفُّهم فـيض النجيع خضابا

يـتمايلون كـأنّما غـنى لـهم

وقـع الـظّبي وسـقاهم اكوابا

برقت سيوفهم فأمطرت الطّلي

بـدمائها والـنقع ثـار سحابا

وكـأنّهم مـستقبلون كـواعباً

مـسـتقبلين أسـنّـة وكـعابا

وجدوا الردى من دون آل محمّد

عـذباً وبعدهم الحياة عذابا(٣)

ولما عرف الحسين منهم صدق النيّة والإخلاص في المفاداة دونه، أوقفهم على غامض القضاء فقال:«إنّي غداً اُقتل وكلّكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد (٤)

____________________________

(١) إرشاد المفيد وتاريخ الطبري ج٦ ص٢٣٩.

(٢) اللهوف ص٥٣.

(٣) للعلامة السيد رضا الهنديرحمه‌الله .

(٤) نفس المهموم ص١٢٢.

٢١٤

حتّى القاسم وعبد الله الرضيع، إلاّ ولدي علياً زين العابدين؛ لأنّ الله لَمْ يقطع نسلي منه وهو أبو أئمّة ثمانية» (١) .

فقالوا بأجمعهم الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك وشرّفنا بالقتل معك، أولا نرضى أنْ نكون معك في درجتك يابن رسول الله؟، فدعا لهم بالخير(٢) ، وكشف عن أبصارهم فرأوا ما حباهم الله من نعيم الجنان وعرّفهم منازلهم فيها(٣) ، وليس ذلك في القدرة الإلهيّة بعزيز، ولا في تصرّفات الإمام بغريب، فإنّ سحرة فرعون لمّا آمنوا بموسىعليه‌السلام وأراد فرعون قتلهم أراهم النّبي موسى منازلهم في الجنّة(٤) .

وفي حديث أبي جعفر الباقرعليه‌السلام قال لأصحابه:«أبشروا بالجنّة، فوالله إنّا نمكث ماشاء الله بعد ما يجري علينا ثمّ يخرجنا الله وإيّاكم حتّى يظهر قائمنا فينتقم من الظالمين، وأنا وأنتم نشاهدهم في السّلاسل والأغلال وأنواع العذاب» فقيل له: من قائمكم يابن رسول الله؟ قال:«السّابع من ولد ابني محمّد بن علي الباقر وهو الحُجّة ابن الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي، ابني وهو الذي يغيب مدّة طويلة ثمّ يظهر ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً» (٥) .

ليلة عاشوراء

كانت ليلة عاشوراء أشدّ ليلة مرّت على أهل بيت الرسالة، حُفّت بالمكاره والمحن وأعقبت الشرّ وآذنت بالخطر وقد قطعت عنهم الحالة القاسية من بني اُميّة وأتباعهم كلّ الوسائل الحيويّة وهناك ولولة النساء وصارخ الاطفال من العطش المبرح والهم المدلهم.

إذاً فما حال رجال المجد من الأصحاب وسروات الشرف من بني هاشم

____________________________

(١) أسرار الشهادة.

(٢) نفس المهموم / ١٢٢.

(٣) الخرايج للراوندي.

(٤) أخبار الزمان للمسعودي / ٢٤٧.

(٥) إثبات الرجعة.

٢١٥

بين هذه الكوارث، فهل أبقت لهم مهجة ينهضون بها أو أنفساً تعالج الحياة والحرب في غد؟!

نعم كانت ضراغمة آل عبد المطّلب والصفوة من الأصحاب عندئذ في أبهج حالة وأثبت جأش، فرحين بما يلاقونه من نعيم وحبور، وكلّما اشتدّ المأزق الحرج أعقب فيهم انشراحاً بين ابتسامة ومداعبة إلى فرح ونشاط.

ومذ أخذت في نينوى منهم النوى

ولاح بـها لـلغدر بعض العلائم

غـدا ضـاحكا هذا وذا متبسّماً

سـروراً وما ثغر المنون بباسم

هازل برير عبد الرحمن الأنصاري، فقال له عبد الرحمن: ما هذه ساعة باطل؟ فقال برير: لقد علم قومي ما أحببت الباطل كهلاً ولا شاباً، ولكنّي مستبشر بما نحن لا قون، والله ما بيننا وبين الحور العين إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم، ولوددتُ أنّهم مالوا علينا السّاعة(١) .

وخرج حبيب بن مظاهر يضحك، فقال له يزيد بن الحصين الهمداني: ما هذه ساعة ضحك. قال حبيب: وأي موضع أحقّ بالسرور من هذا؟ ما هو إلاّ أنْ يميل علينا هؤلاء بأسيافهم فنعانق الحور(٢) .

تجري الطلاقة في بهاء وجوههم

أنْ قـطبت فـرقاً وجوه كماتها

وتـطلّعت بـدجى الـقتام أهلَّة

لـكن ظـهور الخيل من هالاتها

فتدافعت مشي النزيف إلى الردى

حتّى كـأنَّ الموت من نشواتها

وتـعانقت هي والسّيوف وبعد ذا

ملكت عناق الحور في جنّاتها(٣)

فكأنّهم نشطوا من عقال، بين مباشرة للعبادة، وتأهّب للقتال، لهم دوي كدويّ النّحل، بين قائم وقاعد وراكع وساجد.

قال الضحّاك بن عبد الله المشرقي: مرّت علينا خيل ابن سعد فسمع رجل منهم الحسينعليه‌السلام يقرأ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ ِلأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ ) (٤) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤١.

(٢) رجال الكشي / ٥٣، طبعة الهند.

(٣) للعلامة السيّد محمّد حسين الكيشوانرحمه‌الله .

(٤) سورة آل عمران / ١٧٨ - ١٧٩.

٢١٦

فقال الرجل نحن وربّ الكعبة الطيّبون ميّزنا منكم.

قال له برير: يا فاسق، أنت يجعلك الله في الطيّبين؟! هلمّ إلينا وتُب من ذنوبك العظام، فوالله لنحن الطيّبون وأنتم الخبيثون.

فقال الرجل مستهزئاً: وأنا على ذلك من الشاهدين(١) .

ويقال: أنّه في هذه الليلة انضاف إلى أصحاب الحسين من عسكر ابن سعد اثنان وثلاثون رجلاً(٢) حين رأوهم متبتّلين متهجدين عليهم سيماء الطاعة والخضوع لله تعالى.

قال علي بن الحسين:«سمعتُ أبي في الليلة التي قُتل في صبيحتها يقول، وهو يصلح سيفه:

يا دهر اُفٍّ لك من خليل

كم لك بالاشراق والأصيل

مِنْ صاحب وطالب قتيل

والـدهر لا يقنع بالبديل

وانّـما الأمر إلى الجليل

وكـلّ حـيٍّ سالك سبيل

فأعادها مرّتين أو ثلاثاً، ففهمتُها وعرفتُ ما أراد وخنقتني العبرة، ولزمتُ السكوت وعلمتُ أنّ البلاء قد نزل.

وأمّا عمّتي زينب لمّا سمعتْ ذلك وثبتْ تجرّ ذيلها حتّى انتهت إليه وقالت: وآثكلاه! ليتَ الموت أعدمني الحياة! اليوم ماتت اُمّي فاطمة وأبي عليٌ وأخي الحسن (٣) ، يا خليفة الماضي وثمال الباقي! فعزّاها الحسين وصبَّرها وفيما قال: يا اُختاه تعزّي بعزاء الله واعلمي أنّ أهل الأرض يموتون، وأهل السّماء لا يبقون وكلّ شيء هالك إلاّ وجهه، ولي ولكلّ مسلم برسول الله اُسوة حسنة.

فقالت عليها‌السلام : افتغصب نفسك اغتصاباً، فذاك أقرح لقلبي وأشدّ على نفسي (٤) .

____________________________

(١) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٠، الطبعة الاُولى.

(٢) اللهوف، وتاريخ اليعقوبي ٢ / ٢١٧، طبعة النجف، وسير أعلام النبلاء للذهبي ٣ / ٢١٠.

(٣) تايخ الطبري ٤ / ٢٤٠، وكامل ابن الأثير ٤ / ٢٤، ومقتل الخوارزمي ١ / ٢٣٨، الفصل الحادي عشر، ومقاتل الطالبيين لأبي الفرج / ٤٥، طبعة ايران.

(٤) اللهوف.

٢١٧

وبكت النّسوة معها ولطمن الخدود، وصاحت اُمّ كلثوم: وآ محمداه! وآ علياه! وآ اُمّاه! وآ حسيناه! وآ ضيعتنا بعدك!

فقال الحسين: يا اُختاه يا اُمّ كلثوم، يا فاطمة، يا رباب، انظرْنَ اذا قُتلت فلا تشققن عليَّ جيباً ولا تخمشن وجهاً ولا تقلن هجراً» (١) ثمّ إنّ الحسين أوصى اُخته زينب بأخذ الأحكام من علي بن الحسينعليه‌السلام وإلقائها إلى الشيعة ستراً عليه. وبذلك يحدِّث أحمد بن إبراهيم قال: دخلتُ على حكيمة بنت محمّد بن علي الرضا، اُخت أبي الحسن العسكريعليه‌السلام سنة ٢٨٢ بالمدينة، وكلّمتها من وراء حجاب وسألتها عن دينها، فسمّت من تأتمّ بهم، وقالت: فلان بن الحسن. قلت: معاينةً أو خبراً؟ قالت: خبر عن أبي محمّدعليه‌السلام كتب به إلى اُمّه. قلت لها: أقتدي بمَن وصيّته إلى امرأة؟! قالت: اقتداءً بالحسين بن علي بن أبي طالبعليه‌السلام فإنّه أوصى إلى اُخته زينب في الظاهر، فكان ما يخرج من علي بن الحسينعليه‌السلام من علم ينسب إلى زينب؛ ستراً على علي بن الحسينعليه‌السلام . ثمّ قالت: إنّكم قوم أخبار، أما رويتم أنّ التاسع من ولد الحسين يقسم ميراثه في الحياة « اكمال الدين للصدوق » ص ٢٧٥ باب ٤٩ طبع حجر أول.

ثمّ إنّهعليه‌السلام أمر أصحابه أنْ يقاربوا البيوت بعضها من بعض؛ ليستقبلوا القوم من وجه واحد. وأمر بحفر خندق من وراء البيوت يوضع فيه الحطب ويلقى عليه النّار إذا قاتلهم العدو؛ كيلا تقتحمه الخيل، فيكون القتال من وجه واحد(٢) .

وخرجعليه‌السلام في جوف الليل إلى خارج الخيام يتفقّد التلاع والعقبات، فتبعه نافع بن هلال الجملي، فسأله الحسين عمّا أخرجه قال: يابن رسول الله أفزعني خروجك إلى جهة معسكر هذا الطاغي، فقال الحسين:«إنّي خرجت أتفقّد التلاع والروابي؛ مخافة أنْ تكون مكمناً لهجوم الخيل يوم تحملون ويحملون» . ثمّ رجععليه‌السلام وهو قابض على يد نافع ويقول:«هي هي والله، وعد لا خلف فيه».

ثمّ قال له:«ألا تسلك بين هذين الجبلين في جوف الليل وتنجو بنفسك؟»

____________________________

(١) الإرشاد.

(٢) تاريخ الطبري ٦ / ٢٤٠.

٢١٨

فوقع نافع على قدمَيه يقبّلهما ويقول: ثكلتني اُمّي، إنّ سيفي بألف وفرسي مثله، فوالله الذي مَنّ بك عليَّ، لا فارقتك حتّى يكلاّ عن فرّي وجرّي.

ثمّ دخل الحسينعليه‌السلام خيمة زينب، ووقف نافع بإزاء الخيمة ينتظره فسمع زينب تقول له: هل استعلمت من أصحابك نيّاتهم؟ فإنّي أخشى أنْ يسلّموك عند الوثبة.

فقال لها:«والله، لقد بلوتهم فما وجدت فيهم إلاّ الأشوس الأقعس، يستأنسون بالمنيّة دوني استيناس الطفل إلى محالب اُمّه» .

قال نافع: فلمّا سمعتُ هذا منه، بكيتُ وأتيت حبيب بن مظاهر وحكيت ما سمعت منه ومن اُخته زينب.

قال حبيب: والله، لو لا انتظار أمره لعاجلتهم بسيفي هذه الليلة. قلت: إنّي خلّفته عند اُخته وأظنّ النّساء أفقن وشاركنها في الحسرة، فهل لك أنْ تجمع أصحابك وتواجهوهنّ بكلام يطيّب قلوبهن؟ فقام حبيب ونادى: يا أصحاب الحميّة وليوث الكريهة. فتطالعوا من مضاربهم كالاُسود الضارية، فقال لبني هاشم: ارجعوا إلى مقرّكم لا سهرت عيونكم.

ثمّ التفت إلى أصحابه وحكى لهم ما شاهده وسمعه نافع، فقالوا بأجمعهم: والله الذي مَنّ علينا هذا الموقف، لو لا انتظار أمره لعاجلناهم بسيوفنا السّاعة، فطب نفساً وقر عيناً. فجزّاهم خيراً.

وقال هلمّوا معي لنواجه النّسوة ونطيّب خاطرهنّ، فجاء حبيب ومعه أصحابه وصاح: يا معشر حرائر رسول الله، هذه صوارم فتيانكم آلَوا ألاّ يغمدوها إلاّ في رقاب مَن يريد السّوء فيكم، وهذه أسنّة غلمانكم أقسَموا ألاّ يركزوها إلاّ في صدور مَن يفرّق ناديكم.

فخرجن النّساء إليهم ببكاء وعويل وقلن: أيّها الطيّبون حاموا عن بنات رسول الله وحرائر أمير المؤمنين.

فضجّ القوم بالبكاء حتّى كأنّ الأرض تميد بهم(١) .

____________________________

(١) الدمعة الساكبة / ٣٢٥، وتكرّر في كلامه (هلال بن نافع) وهو اشتباه فإنّ المضبوط (نافع بن هلال) كما في زيارة الناحية، وتاريخ الطبري، وكامل ابن الأثير.

٢١٩

وفي السّحر من هذه الليلة خفق الحسين خفقة ثمّ استيقظ وأخبر أصحابه بأنّه رأى في منامه كلاباً شدّت عليه تنهشه وأشدّها عليه كلب أبقع، وإنّ الذي يتولّى قتله من هؤلاء رجل أبرص.

وإنّه رأى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بعد ذلك ومعه جماعة من أصحابه وهو يقول له:«أنت شهيد هذه الاُمّة، وقد استبشر بك أهل السّماوات وأهل الصفيح الأعلى وليكن افطارك عندي الليلة عجّل ولا تؤخّر، فهذا ملك قد نزل من السّماء ليأخذ دمك في قارورة خضراء» (١) .

وانـصاع حـامية الشريعة ظامئاً

مـا بـلَّ غـلَّته بـعذب فـراتها

أضـحى وقـد جـعلته آل اُمـيّة

شـبح الـسهام رمـيَّة لـرماتها

حتّى قضى عطشاً بمعترك الوغى

والـسمر تـصدر منه في نهلاتها

وجرت خيول الشرك فوق ضلوعه

عـدواً تـجول عـليه في حلباتها

ومـخدَّرات مـن عـقائل أحـمد

هـجمت عـليها الخيل في أبياتها

مـن ثـاكل حرّى الفؤاد مروعة

أضـحت تـجاذبها العدى حبراتها

ويـتمية فـزعت لـجسم كـفيلها

حـسرى القناع تعجُّ في أصواتها

أهـوت على جسم الحسين وقلبها

المصدوع كاد يذوب من حسراتها

وقـعت عـليه تشمُّ موضع نحره

وعـيونها تـنهلُّ فـي عـبراتها

تـرتاع من ضرب السّياط فتنثني

تـدعو سـرايا قـومها وحـماتها

أيـن الحفاظ وفي الطّفوف دماؤكم

سُـفكت بـسيف اُمـيّة وقـناتها

أيـن الـحفاظ وهـذه أشـلاؤكم

بـقيت ثـلاثاً فـي هجير فلاتها

أيــن الـحفاظ وهـذه أبـناؤكم

ذُبحت عطاشى في ثرى عرصاتها

أيــن الـحفاظ وهـذه فـتياتكم

حُـملت على الأقتاب بين عداتها

حـملت بـرغم الدين وهي ثواكل

عـبرى تـردّد بـالشّجى زفراتها

فـمَن الـمعزِّي بـعد أحمد فاطماً

فـي قـتل أبناها وسبي بناتها(٢)

____________________________

(١) نفس المهموم / ١٢٥، عن الصدوق.

(٢) للعلامة السيد محمّد حسين الكيشوان ترجمته في شعراء الغري ٨ / ٣.

٢٢٠

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

301

302

303

304

305

306

307

308

309

310

311

312

313

314

315

316

317

318

319

320

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477