مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة12%

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
تصنيف: الإمام الحسين عليه السلام
الصفحات: 477

الجزء ٤
  • البداية
  • السابق
  • 477 /
  • التالي
  • النهاية
  •  
  • تحميل HTML
  • تحميل Word
  • تحميل PDF
  • المشاهدات: 260802 / تحميل: 8934
الحجم الحجم الحجم
مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة

مع الركب الحسيني من المدينة الى المدينة الجزء ٤

مؤلف:
الناشر: سپهر أنديشه
العربية

هذا الكتاب نشر الكترونيا وأخرج فنيّا برعاية وإشراف شبكة الإمامين الحسنين (عليهما السلام) وتولَّى العمل عليه ضبطاً وتصحيحاً وترقيماً قسم اللجنة العلمية في الشبكة


1

2

3

4

5

6

7

8

9

10

11

12

13

14

15

16

17

18

19

20

21

22

23

24

25

26

27

28

29

30

31

32

33

34

35

36

37

38

39

40

41

42

43

44

45

46

47

48

49

50

51

52

53

54

55

56

57

58

59

60

61

62

63

64

65

66

67

68

69

70

71

72

73

74

75

76

77

78

79

80

81

82

83

84

85

86

87

88

89

90

91

92

93

94

95

96

97

98

99

100

101

102

103

104

105

106

107

108

109

110

111

112

113

114

115

116

117

118

119

120

121

122

123

124

125

126

127

128

129

130

131

132

133

134

135

136

137

138

139

140

مدّته، رمته قسيّ الفناء بنبال الموت، و أصبحت الديار منه خالية، و المساكن معطّلة، و ورثها قوم آخرون. و إنّ لكم في القرون السالفة لعبرة أين العمالقة و أبناء العمالقة أين الفراعنة و أبناء الفراعنة أين أصحاب مدائن الرّسّ الذين قتلوا النبيّين و أطفأوا سنن المرسلين، و أحيوا سنن الجبّارين أين الذين ساروا بالجيوش، و هزموا بالألوف، و عسكروا العساكر، و مدّنوا المدائن

اين عمّار

و من الخطبة السابقة نفسها: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، و أقبل منها ما كان مدبرا، و أزمع التّرحال عباد اللّه الأخيار ما ضرّ إخواننا الذين سفكت دماؤهم و هم بصفّين أن لا يكونوا اليوم أحياء يسيغون الغصص و يشربون الرّنق(١) ؟ أين إخواني الذين ركبوا الطريق و مضوا على الحقّ؟ أين عمّار؟

و أين ابن التّيهان؟ و أين ذو الشّهادتين(٢) ؟ و أين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على النيّة، و أبرد برؤوسهم إلى الفجرة(٣) ؟

____________________

(١) الرنق: الكدر.

(٢) عمار: عمار بن ياسر، و كان ممّن عذّب هو و أبوه و أخوه و أمه في بدء الدعوة.

و ابن التيهان: ابو الهيثم مالك بن التيهان، من أكابر الصحابة. ذو الشهادتين: خزيمة بن ثابت الانصاري، من الصحابة. و هؤلاء الثلاثة شهدوا صفين و استشهدوا بها.

(٣) أبرد برووسهم: أرسلت رؤوسهم مع البريد بعد قتلهم إلى البغاة للتشفّي منهم.

١٤١

الكبر و التّعصّب و البغي

من خطبة له طويلة تسمّى «القاصعة(١) »: و لا تكونوا كالمتكبّر على ابن أمّه من غير ما فضل جعله اللّه فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، و قدحت الحميّة في قلبه من نار الغضب، و نفخ الشيطان في أنفه من ريح الكبر الذي أعقبه اللّه به الندامة.

فاللّه اللّه في كبر الحميّة و فخر الجاهلية، فإنه منافخ الشيطان التي خدع بها الأمم الماضية و القرون الخالية.

و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق اتّخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس، و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم، فجعلكم مرمى نبله و موطى‏ء قدمه و مأخذ يده. فاعتبروا بما أصاب الأمم المستكبرين من قبلكم من بأس اللّه، و اتّعظوا بمثاوي خدودهم(٢) و مصارع جنوبهم. و استعيذوا باللّه من لواقح الكبر(٣) كما تستعيذون به من طوارق الدهر

____________________

(١) قصع فلان فلانا: حقّره. و قد سميت هذه الخطبة «القاصعة» لأن ابن أبي طالب حقّر فيها حال المتكبرين و أهل البغي.

(٢) مثاوي، جمع مثوى، بمعنى المنزل. و منازل الخدود: مواضعها من الأرض بعد الموت. و مصارع الجنوب: مطارحها على التراب.

(٣) لواقح الكبر: محدثاته في النفوس.

١٤٢

و لقد نظرت فما وجدت أحدا من العاملين يتعصّب لشي‏ء من الأشياء إلاّ عن علّة تحتمل تمويه الجهلاء أو حجّة تليط بعقول السفهاء، غيركم، فإنكم تتعصبون لأمر لا يعرف له سبب و لا علّة: أما إبليس فتعصّب على آدم لأصله، و طعن عليه في خلقته، فقال: «أنا ناريّ و أنت طينيّ» و أمّا الأغنياء من مترفة الأمم فتعصّبوا لآثار مواقع النّعم فقالوا: «نحن أكثر أموالا و أولادا و ما نحن بمعذّبين» فإن كان لا بدّ من العصبيّة فليكن تعصبكم لمكارم الخصال و محامد الأفعال و محاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء و النّجداء بالأخلاق الرغيبة و الأحلام العظيمة، فتعصّبوا لخلال الحمد: من الحفظ للجوار و الوفاء بالذمام، و الطاعة للبرّ، و المعصية للكبر، و الكفّ عن البغي، و الإعظام للقتل، و الإنصاف للخلق، و الكظم للغيظ، و اجتناب الفساد في الأرض.

و احذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات(١) بسوء الأفعال و ذميم الأعمال، فتذكّروا في الخير و الشرّ أحوالهم و احذروا أن تكونوا أمثالهم.

أ لا و قد أمرني اللّه بقتال أهل البغي و النكث(٢) و الفساد في الأرض: فأمّا الناكثون فقد قاتلت. و أما القاسطون فقد جاهدت(٣) . و أمّا المارقة

____________________

(١) المثلات: العقوبات.

(٢) النكث: نقض العهد.

(٣) القاسطون: الجائرون على الحق.

١٤٣

فقد دوّخت. و أمّا شيطان الرّدهة(١) فقد كفيته بصعقة سمعت لها وجبة قلبه و رجّة صدره. و بقيت بقيّة من أهل البغي، و لئن أذن اللّه في الكرّة عليهم لأديلنّ منهم(٢) إلاّ ما يتشذّر في أطراف البلاد تشذّرا(٣) .

و إني لمن قوم لا تأخذهم في اللّه لومة لائم: سيماهم سيما الصدّيقين، و كلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل و منار النهار(٤) لا يستكبرون و لا يعلون و لا يغلّون(٥) و لا يفسدون: قلوبهم في الجنان و أجسادهم في العمل.

الدّنيا تطوى من خلفكم

من عهد له إلى محمد بن أبي بكر حين قلّده مصر. و فيه تذكير بأحوال الدنيا و ترغيب للولاة في أن يعدلوا و يرحموا لئلاّ يعذّبوا، و ذلك بأروع ما تجري به ريشة العبقرية من بيان: و أنتم طرداء الموت: إن أقمتم له أخذكم، و إن فررتم منه أدرككم،

____________________

(١) الردهة: النقرة في الجبل قد يجتمع فيها. و شيطانها ذو الثدية من رؤساء الخوارج وجد مقتولا في ردهة.

(٢) لأديلن منهم: لأمحقننهم ثم أجعل الدولة لغيرهم.

(٣) يتشذّر: يتفرق، أي: لا يفلت مني إلاّ من يتفرّق في أطراف البلاد.

(٤) عمار، جمع عامر، أي: يعمرون الليل بالسهر للفكر و العبادة.

(٥) يغلون. يخونون.

١٤٤

و هو ألزم لكم من ظلّكم الموت معقود بنواصيكم(١) ، و الدنيا تطوى من خلفكم، فاحذروا نارا قعرها بعيد، و حرّها شديد، و عذابها جديد، ليس فيها رحمة و لا تسمع فيها دعوة

دستور الولاة

من رسالة كتبها للأشتر النخعي لما ولاّه على مصر و أعمالها في عهد خلافته. و هي من جلائل رسائله و وصاياه، و أجمعها لقوانين المعاملات المدنية و الحقوق العامة و التصرّفات الخاصة في نهج الإمام. كما انها من أروع ما أنتجه العقل و القلب جميعا في تقرير علاقة الحاكم بالمحكوم، و في مفهوم الحكومة، حتى أن الإمام سبق عصره أكثر من ألف سنة بجملة ما ورد في هذه الرسالة الدستور، من إشراق العقل النيّر و القلب الخيّر.

ثم اعلم يا مالك أني قد وجّهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك من عدل و جور، و أن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمور الولاة قبلك، و يقولون فيك ما كنت تقول فيهم، و إنّما يستدلّ على الصالحين بما يجري اللّه لهم على ألسن عباده، فليكن أحبّ الذخائر إليك ذخيرة العمل الصالح، فاملك هواك و شحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك

____________________

(١) النواصي، جمع ناصية، و هي: مقدّم شعر الرأس.

١٤٥

فإنّ الشّحّ بالنفس الإنصاف منها في ما أحبّت أو كرهت(١) . و أشعر قلبك الرحمة للرعية، و المحبّة لهم، و اللطف بهم. و لا تكوننّ عليهم سبعا ضاريا تغنتم أكلهم فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل(٢) ، و تعرض لهم العلل، و يؤتى على أيديهم في العمد و الخطأ(٣) ، فأعطهم من عفوك و صفحك مثل الذي تحبّ أن يعطيك اللّه من عفوه و صفحه، فإنك فوقهم و والي الأمر عليك فوقك، و اللّه فوق من ولاّك و لا تندمنّ على عفو، و لا تبجحنّ بعقوبة و لا تسرعنّ إلى بادرة وجدت منها مندوحة(٤) .

أنصف اللّه و أنصف الناس من نفسك و من خاصّة أهلك و من لك فيه هوى من رعيّتك(٥) ، فإنك إلاّ تفعل تظلم و من ظلم عباد اللّه كان اللّه خصمه دون عباده. و ليس شي‏ء أدعى إلى تغيير نعمة اللّه و تعجيل نقمته من إقامة على ظلم، فإنّ اللّه سميع دعوة المضطهدين و هو للظالمين بالمرصاد.

و ليكن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، و أعمّها في العدل و أجمعها لرضا الرعية، فإنّ سخط العامّة يجحف برضا الخاصة،

____________________

(١) الشح: البخل. يقول: انتصف من نفسك في ما أحبت و كرهت، أي ابخل بها و لا تمكّنها من الاسترسال في ما أحبّت، و احرص على صفائها كذلك بأن تحملها على ما تكره إن كان ذلك في الحق.

(٢) يفرط: يسبق. الزلل: الخطأ.

(٣) يؤتى على أيديهم: تأتي السيئات على أيديهم.

(٤) بجح بالشي‏ء: فرح به. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل.

المندوحة: المتّسع الذي يمكّن المرء من التخلّص.

(٥) من لك فيه هوى، أي: من تميل اليه ميلا خاصا.

١٤٦

و إن سخط الخاصّة يغتفر مع رضا العامّة(١) . و ليس أحد من الرعيّة أثقل على الوالي مؤونة في الرّخاء و أقلّ معونة له في البلاء، و أكره للإنصاف، و أسأل بالإلحاف(٢) ، و أقلّ شكرا عند الإعطاء، و أبطأ عذرا عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمّات الدهر، من أهل الخاصة(٣) .

أطلق عن الناس عقدة كلّ حقد، و اقطع عنك سبب كلّ وتر(٤) ، و لا تعجلنّ إلى تصديق ساع فإنّ الساعي غاشّ و إن تشبّه بالناصحين.

إن شرّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيرا، و من شركهم في الآثام، فلا يكوننّ لك بطانة(٥) فإنهم أعوان الأثمة و إخوان

____________________

(١) يحجف: يذهب. يقول للحاكم: إذا رضي عليك الخاصة و سخط عليك العامة، فلا ينفعك رضا أولئك مع سخط هؤلاء. أما إذا رضي عليك العامة، و هؤلاء لا يرضيهم إلا العدل، فسخط الخاصة مغتفر.

(٢) الإلحاف: الإلحاح.

(٣) يقول: ليس هنالك من هم أثقل على الحاكم، و أقل نفعا له و أكثر ضررا عليه من خاصته و المتقربين اليه من ذوي الثروة و الوجاهة يلازمونه و يلحون عليه في قضاء حاجاتهم و يرهقونه بالمسائل و الشفاعات و يغنمون عن سبيله المغانم و يثرون على حساب العامة، ثم يجحدون كل ذلك و لا يساندون الحاكم أو الجمهور في نائبة أو أزمة. فهم لذلك فئة يجب على الحاكم الصالح أن ينبذها و يعتمد على العامة دون سواهم.

(٤) الوتر: العداوة: يقول: احلل عقدة الأحقاد من قلوب الناس بالعدل فيهم و حسن السيرة معهم. و اقطع السبب في عداء الناس لك بالإحسان اليهم قولا و عملا.

(٥) البطانة: الخاصة.

١٤٧

الظّلمة(١) ، و أنت واجد منهم خير الخلف ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه و لا آثما على إثمه. ثم ليكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحق لك(٢) و أقلّهم مساعدة في ما يكون منك ممّا كره اللّه لأوليائه واقعا [ذلك] من هواك حيث وقع. و الصق بأهل الورع و الصدق ثم رضهم على أن لا يطروك و لا يبجحوك بباطل لم تفعله(٣) .

و لا يكوننّ المحسن و المسي‏ء عندك بمنزلة سواء، فإنّ في ذلك تزهيدا لأهل الإحسان في الإحسان، و تدريبا لأهل الإساءة على الإساءة و ألزم كلاّ منهم ما ألزم نفسه(٤) و اعلم أنه ليس شي‏ء بأدعى إلى حسن ظنّ راع برعيّته من إحسانه إليهم(٥) و تخفيفه المؤونات عنهم، و ترك استكراهه إياهم على ما ليس قبلهم(٦) ، فليكن منك في ذلك أمر يجتمع لك به

____________________

(١) الأثمة: جمع آثم. الظلمة: جمع ظالم.

(٢) آثرهم: أفضلهم. مرارة الحق. صعوبته. يقول: ليكن أفضل وزرائك و أعوانك في نظرك أصدقهم و أكثرهم قولا بالحق مهما كان الحق صعبا على نفسك.

(٣) رضهم: عوّدهم. يطروك: يطنبوا في مدحك. يبجحوك بباطل لم تفعله: يفرّحوك بأن ينسبوا اليك عملا عظيما لم تكن فعلته.

(٤) أي: أحسن الى المحسن بما ألزم نفسه، و هو استحقاق الإحسان. و عاقب المسي‏ء بما ألزم نفسه كذلك، و هو استحقاق العقاب.

(٥) ليس هنالك ما يحمل الوالي على الاطمئنان إلى أن قلوب الناس معه كالاحسان اليهم و العدل فيهم و تخفيف الاثقال عن كواهلهم. و هم في غير هذه الحال أعداء له ينتهزون الفرصة للثورة عليه، و إذ ذاك يسوء ظنه بهم.

(٦) قبلهم، بكسر ففتح: عندهم.

١٤٨

حسن الظنّ برعيّتك، و إنّ أحقّ من حسن ظنّك به لمن حسن بلاؤك عنده، و إنّ أحقّ من ساء ظنّك به لمن ساء بلاؤك عنده(١) .

و أكثر مدارسة العلماء و مناقشة الحكماء(٢) في تثبيت ما صلح عليه أمر بلادك، و إقامة ما استقام به الناس قبلك.

ولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا و أفضلهم حلما: ممّن يبطى‏ء عن الغضب، و يستريح إلى العذر، و يرأف بالضعفاء، و ينبو على الأقوياء(٣) و ممن لا يثيره العنف، و لا يقعد به الضعف.

و إنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، و ظهور مودّة الرعية، و إنه لا تظهر مودّتهم إلا بسلامة صدورهم، و لا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور و قلّة استثقال دولهم(٤) .

ثم اعرف لكلّ امرى‏ء منهم ما أبلى، و لا تضيفنّ بلاء امرى‏ء إلى

____________________

(١) البلاء: الصنع، حسنا أو سيئا.

(٢) المنافثة: المحادثة.

(٣) ينبو: يشتدّ و يعلو. يأمر الحاكم بأن يولّي من جنوده من لا يضعف أمام الأقوياء و الأثرياء و النافذين بل يعلو عليهم و يشتدّ ليمنعهم من ظلم الضعفاء و الفقراء و البسطاء.

(٤) الحيطة، بكسر الحاء: مصدر «حاط» بمعنى: صان و حفظ، يقول: ان مودة الرعية لا تظهر و نصيحتهم لا تصحّ إلا بقدر ما يرغبون في المحافظة على ولاتهم و يحرصون على بقائهم و لا يستثقلون مدة حكمهم.

١٤٩

غيره(١) ، و لا يدعونّك شرف امرى‏ء إلى أن تعظّم من بلائه ما كان صغيرا، و لا ضعة امرى‏ء إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظيما.

ثم اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك(٢) ممّن لا تضيق به الأمور و لا تمحكه الخصوم(٣) و لا يتمادى في الزلّة، و لا تشرف نفسه على طمع، و لا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه(٤) ، و أوقفهم في الشّبهات(٥) و آخذهم بالحجج، و أقلّهم تبرّما بمراجعة الخصم، و أصبرهم على تكشّف الأمور، و أصرمهم عند اتّضاع الحق، ممن لا يزدهيه إطراء، و لا يستميله إغراء، و أولئك قليل. ثم أكثر تعاهد قضائه(٦) و أفسح له في البذل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته الى الناس و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.

ثم انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، و لا تولّهم محاباة

____________________

(١) لا تنسبنّ صنيع امرى‏ء إلى غيره.

(٢) انتقال من الكلام في الجند الى الكلام في القضاة.

(٣) تمحكه: تغضبه.

(٤) لا يكتفي بما يبدو له بأول فهم و أقربه، بل يتأمل و يدرس حتى يأتي على أقصى الفهم و أدناه من الحقيقة.

(٥) الشبهات، جمع شبهة، و هي ما لا يتضح الحكم فيها بالنص، فينبغي العمل لردّ الحادثة التي ينظر فيها إلى أصل صحيح.

(٦) أي: تتبع قضاءه بالاستكشاف و التعرف.

١٥٠

و أثرة فإنهم جماع من شعب الجور و الخيانة(١) . ثم تفقّد أعمالهم و ابعث العيون(٢) من أهل الصدق و الوفاء عليهم، فإنّ تعاهدك في السرّ لأمورهم حدوة لهم(٣) على استعمال الأمانة و الرفق بالرعية. و تحفّظ من الأعوان فإن أحد منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه(٤) عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا فبسطت عليه العقوبة في بدنه، و أخذته بما أصاب به من عمله، ثم نصبته بمقام المذلّة، و وسمته بالخيانة، و قلّدته عار التهمة.

و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنّ في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم. و لا صلاح لمن سواهم إلا بهم، لأنّ الناس كلّهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة. و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلاّ قليلا.

و لا يثقلنّ عليك شي‏ء خفّفت به المؤونة عنهم فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك.

و إن العمران محتمل ما حمّلته، و إنما يؤتى خراب الأرض من

____________________

(١) أي: ولّهم الأعمال بالاختبار و التجربة، لا ميلا منك لمعاونتهم و لا استبدادا منك برأيك، فإن المحاباة و الأثرة يجمعان الظلم و الخيانة معا.

(٢) العيون: الرقباء.

(٣) حدوة: سوق و حثّ.

(٤) اجتمعت عليها أخبار عيونك: اتفقت عليها أخبار رقبائك.

١٥١

إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع(١) و سوء ظننهم بالبقاء و قلّة انتفاعهم بالعبر.

ثم انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، ممّن لا يجهل مبلغ قدر نفسه في الأمور، فإنّ الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل.

ثم لا يكن اختيارك إياهم على فراستك و استنامتك(٢) و حسن الظنّ منك، فإنّ الرجال يتعرّفون لفراسات الولاة بتصنّعهم و حسن خدمتهم(٣) ، و ليس وراء ذلك من النصيحة و الأمانة شي‏ء. و مهما كان في كتّابك من عيب فتغابيت عنه ألزمته(٤) .

ثم استوص بالتجّار و ذوي الصّناعات و أوص بهم خيرا: المقيم منهم و المضطرب بماله(٥) ، فإنهم موادّ المنافع و أسباب المرافق، و تفقّد أمورهم بحضرتك و في حواشي بلادك. و اعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقا فاحشا و شحّا قبيحا و احتكارا للمنافع و تحكّما في البياعات، و ذلك باب مضرّة للعامّة و عيب على الولاة، فامنع من الاحتكار فإن رسول اللّه صلى

____________________

(١) إشراف انفس الولاة على الجمع: تطلّعهم الى جمع المال و ادّخاره لأنفسهم طمعا و جشعا.

(٢) الفراسة: قوة الظن و إدراك الباطن من النظر في الظاهر. الاستنامة: الاطمئنان إلى حسن الرأي. أي: لا يكن اختيارك للكتاب متأثرا بميلك الخاص و فراستك التي قد تخطى‏ء.

(٣) أي يخدمون الولاء بما يطيب لهم توسّلا إلى حسن ظنّ هؤلاء بهم.

(٤) إذا تغابيت عن عيب في كتابك كان ذلك العيب لاصقا بك.

(٥) المتردد بأمواله بين البلدان.

١٥٢

اللّه عليه و سلّم منع منه. و ليكن البيع بيعا سمحا: بموازين عدل، و أسعار لا تجحف بالفريقين من البائع و المبتاع(١) فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكّل به و عاقبه في غير إسراف(٢) .

ثم يتحدّث الإمام في رسالته هذه إلى مالك الأشتر عن الطققة المعوزة فيقول: و احفظ للّه ما استحفظك من حقّه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك فإنّ للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، و كلّ قد استرعيت حقّه، فلا يشغلنّك عنهم بطر(٣) فإنك لا تعذر بتضييعك التافه(٤) لإحكامك المهمّ، فلا تشخص همّك عنهم(٥) و لا تصعّر خدّك لهم(٦) و تفقّد أمور من لا يصل إليك منهم ممّن تقتحمه العيون(٧) و تحقره الرجال، فإنّ هؤلاء من بين الرعية أحوج إلى الإنصاف من غيرهم. و تعهّد

____________________

(١) المبتاع: المشتري.

(٢) قارف: خالط. الحكرة: الاحتكار. نكل به: أوقع به العذاب عقوبة له. يقول: من احتكر بعد النهي عن الاحتكار عاقبه لكن من غير إسراف في العقوبة يتجاوز عن حد العدل فيها.

(٣) البطر: طغيان النعمة.

(٤) يقول: لا عذر لك بإهمالك القليل إذا أحكمت الكثير.

(٥) لا تشخص همك عنهم: لا تصرف همك عنهم.

(٦) صعّر خده: أماله عن النظر إلى الناس تهاونا و كبرا.

(٧) تقتحمه العيون: تكره أن تنظر اليه احتقارا.

١٥٣

أهل اليتم و ذوي الرقّة في السن(١) ممّن لا حيلة له، و لا ينصب للمسألة نفسه، و ذلك على الولاة ثقيل، و الحقّ كلّه ثقيل و اجعل لذوي الحاجات منك قسما تفرّغ لهم فيه شخصك، و تجلس لهم مجلسا عاما فتتواضع فيه للّه الذي خلقك، و تقعد عنهم جندك و أعوانك(٢) من أحراسك و شرطك حتى يكلّمك متكلّمهم غير متتعتع(٣) فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه و سلم يقول في غير موطن(٤) : «لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع» ثم احتمل الخرق منهم و العيّ(٥) و نحّ عنهم الضيق و الأنف(٦) .

ثم أمور من أمورك لا بدّ لك من مباشرتها: منها إجابة عمّالك بما يعيا عنه كتّابك. و منها إصدار حاجات الناس يوم ورودها عليك بما تحرج به صدور أعوانك(٧) ، و أمض لكلّ يوم عمله فإنّ لكلّ يوم ما فيه.

____________________

(١) ذوو الرقة في السن: المتقدمون فيه.

(٢) أي: تأمر بأن يقعد عنهم جندك و أعوانك و بألا يتعرضوا لهم.

(٣) التعتعة في الكلام: التردد فيه من عجز و عيّ، أو من خوف.

(٤) في مواطن كثيرة.

(٥) الخرق: العنف. العي: العجز عن النطق. أي: لا تضجر من هذا و لا تغضب من ذاك.

(٦) الأنف: الاستنكاف و الاستكبار.

(٧) تحرج: تضيق. يقول: إن الأعوان تضيق صدورهم بتعجيل الحاجات، و يحبون المماطلة في قضائها، استجلابا للمنفعة أو إظهارا للجبروت.

١٥٤

و لا تطوّلنّ احتجابك عن رعيّتك، فإنّ احتجاب الولاة عن الرعيّة شعبة من الضيق و قلّة علم بالأمور. و الاحتجاب منهم يقطع عنهم علم ما احتجبوا دونه فيصغر عندهم الكبير و يعظم الصغير، و يقبح الحسن و يحسن القبيح، و يشاب الحقّ بالباطل. و إنما الوالي بشر لا يعرف ما توارى عنه الناس به من الأمور، و ليست على الحقّ سمات(١) تعرف بها ضروب الصدق من الكذب، و إنما أنت أحد رجلين: إمّا امرؤ سخت نفسه بالبذل في الحق ففيم احتجابك(٢) من واجب حقّ تعطيه أو فعل كريم تسديه؟ أو مبتلى بالمنع فما أسرع كفّ الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك(٣) ، مع أنّ أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة أو طلب إنصاف في معاملة.

ثم إنّ للوالي خاصّة و بطانة فيهم استئثار و تطاول، و قلّة إنصاف في معاملة، فاحسم مادّة أولئك بقطع أسباب تلك الأحوال(٤) و لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك و حامّتك قطيعة(٥) و لا يطمعنّ منك في اعتقاد عقدة تضرّ بمن يليها من الناس في شرب أو عمل مشترك يحملون مؤونته على

____________________

(١) سمات: علامات.

(٢) لأي سبب تحتجب عن الناس في أداء حقهم، أو في عمل تمنحهم إياه؟

(٣) يقول: و إن قنط الناس من قضاء مطالبهم منك أسرعوا الى البعد عنك، فلا حاجة للاحتجاب.

(٤) احسم: اقطع. يقول: اقطع مادة شرورهم عن الناس بقطع أسباب تعدّيهم، و إنما يكون ذلك بالأخذ على أيديهم و منعهم من التصرّف في شؤون العامة.

(٥) الاقطاع: المنحة من الأرض. القطيعة: الممنوح منها. الحامة، كالطّامة: الخاصة و القرابة. الاعتقاد: الامتلاك. العقدة: الضيعة.

١٥٥

غيرهم فيكون مهنأ ذلك(١) لهم دونك، و عيبه عليك في الدنيا و الآخرة.

و ألزم الحقّ من لزمه من القريب و البعيد، و كن في ذلك صابرا محتسبا، واقعا ذلك من قرابتك و خاصّتك حيث وقع، و ابتغ عاقبته بما يثقل عليك منه، فإنّ مغبّة ذلك محمودة(٢) .

و إن ظنّت الرعيّة بك حيفا فأصحر(٣) لهم بعذرك، و اعدل عنك ظنونهم بإصحارك فإنّ في ذلك رياضة منك لنفسك(٤) و رفقا برعيّتك و إعذارا(٥) تبلغ به حاجتك من تقويمهم على الحق.

و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا، فإنّ في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك. و إن عقدت بينك و بين عدوّك عقدة أو ألبسته منك ذمّة فحط عهدك بالوفاء و ارع ذمّتك بالأمانة و اجعل نفسك جنّة دون ما أعطيت(٦) و لا تغدرنّ بذمّتك و لا تخيسنّ بعهدك

____________________

(١) المهنأ: المنفعة الهنيئة.

(٢) المغبة: العاقبة، يقول: إن إلزام الحق لمن لزمهم، و إن ثقل على الوالي و عليهم، محمود العاقبة يحفظ الدولة.

(٣) الحيف: الظلم. أصحر بهم: ابرز لهم.

(٤) رياضة منك لنفسك: تعويدا لنفسك على العدل.

(٥) الإعذار: تقديم العذر أو إبداؤه.

(٦) أصل معنى الذمة: وجدان مودع في جبلة الانسان ينبهه لرعاية حق ذوي الحقوق و يدفعه لأداء ما يجب عليه منها، ثم أطلقت على معنى العهد. الجنة: الوقاية.

يقول: حافظ بروحك على ما أعطيت من العهد.

١٥٦

و لا تختلنّ(١) عدوّك. و لا تعقد عقدا تجوّز فيه العلل(٢) و لا تعوّلنّ على لحن قول بعد التأكيد و التوثقة، و لا يدعونّك ضيق أمر لزمك فيه عهد اللّه إلى طلب انفساخه بغير الحقّ(٣) .

و لا تقوّينّ سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه و يوهنه بل يزيله و ينقله، و لا عذر لك عند اللّه و لا عندي في قتل العمد و إيّاك و المنّ على رعيّتك بإحسانك، أو التزيّد في ما كان من فعلك(٤) أو أن تعدهم فتتبع موعدك بخلفك، فإنّ المنّ يبطل الإحسان، و التزيّد يذهب بنور الحق، و الخلف يوجب المقت عند اللّه و الناس.

و إياك و العجلة بالأمور قبل أوانها، أو التسقّط فيها عند إمكانها(٥) أو الوهن عنها إذا استوضحت. فضع كلّ أمر موضعه، و أوقع كلّ أمر موقعه.

____________________

(١) خاس بعهده: خانه و نقضه. الختل: الخداع.

(٢) العلل: جمع علة و هي في النقد و الكلام بمعنى ما يصرفه عن وجهه و يحوّله الى غير المراد، و ذلك يطرأ على الكلام عند إبهامه و عدم صراحته.

(٣) لحن القول: ما يقبل التوجيه كالتورية و التعريض. يقول: إذا ريت ثقلا من التزام العهد فلا تركن إلى لحن القول لتتملص منه، بل خذ بأصرح الوجوه لك و عليك.

(٤) التزيّد: إظهار الزيادة في الأعمال و المبالغة في وصف الواقع منها في معرض الافتخار.

(٥) التسقط: يريد به هنا: التهاون.

١٥٧

و إياك و الاستئثار بما الناس فيه أسوة(١) ، و التغابي عما تعنى به مما قد وضح للعيون، فإنه مأخوذ منك لغيرك، و عمّا قليل تنكشف عنك أغطية الأمور و ينتصف منك للمظلوم. إملك حميّة أنفك(٢) و سورة حدّك و سطوة يدك و غرب لسانك(٣) و احترس من كلّ ذلك بكفّ البادرة(٤) و تأخير السطوة حتى يسكن غضبك فتملك الاختيار.

و الواجب عليك أن تتذكّر ما مضى لمن تقدّمك من حكومة عادلة أو سنّة فاضلة، و تجتهد لنفسك في اتّباع ما عهدت إليك في عهدي هذا، و استوثقت به من الحجّة لنفسي عليك، لكي لا تكون لك علّة عند تسرّع نفسك إلى هواها. و أنا أسأل اللّه أن يوفّقني و إياك لما فيه رضاه من الإقامة على العذر الواضح اليه و إلى خلقه(٥) .

____________________

(١) احذر أن تخصّ نفسك بشي‏ء تزيد به عن الناس، و هو مما تجب فيه المساواة من الحقوق العامة.

(٢) أي: أملك نفسك عند الغضب.

(٣) السورة: الحدة: و الحد: البأس. و الغرب: الحد، تشبيها للسان بحدّ السيف و نحوه.

(٤) البادرة: ما يبدر من اللسان عند الغضب، و إطلاق اللسان يزيد الغضب اتقادا، و السكون يطفى‏ء من لهبه.

(٥) يريد من العذر الواضح: العدل، فإنه عذر لك عند من قضيت عليه، و عذر عند اللّه في من أجريت عليه عقوبة أو حرمته من منفعة.

١٥٨

حدود الضّريبة

من وصية كان الإمام يكتبها لمن يستعمله على الصدقات، و هي تزخر بحنان الحاكم الأب على أبنائه، و تصلح لأن تدخل في دستور الدولة المثالية التي يحلم بها صفوة الخلق إذا قدمت على الحيّ فانزل بمائهم من غير أن تخالط أبياتهم، ثم امض إليهم بالسكينة و الوقار حتى تقوم بينهم فتسلّم عليهم، و لا تخدج بالتحية لهم(١) ، ثم تقول: عباد اللّه، أرسلني اليكم وليّ اللّه و خليفته لآخذ منكم حقّ اللّه في أموالكم، فهل للّه في أموالكم من حقّ فتؤدّوه إلى وليّه؟

فإن قال قائل: لا فلا تراجعه. و إن أنعم لك منعم(٢) فانطلق معه من غير أن تخيفه و توعده أو تعسفه أو ترهقه(٣) فخذ ما أعطاك من ذهب أو فضّة. فإن كان له ماشية أو إبل فلا تدخلها إلاّ بإذنه. فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلّط عليه و لا عنيف به، و لا تنفّرنّ بهيمة و لا تفزّعنّها و لا تسوءنّ صاحبها فيها. و اصدع المال صدعين(٤) ثم خيّره:

____________________

(١) أخدجت السحابة: قلّ مطرها.

(٢) أنعم لك منعم، أي: قال لك: نعم.

(٣) تعسفه: تأخذه بشدة. ترهقه: تكلفه ما يصعب عليه.

(٤) أي: اقسمه قسمين.

١٥٩

فإذا اختار فلا تعرّضنّ لما اختاره. فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحقّ اللّه في ماله، فاقبض حقّ اللّه منه. فإن استقالك فأقله(١) ، ثم اخلطهما، ثم اصنع مثل الذي صنعت أولا حتى تأخذ حق اللّه في ماله.

السفهاء و التجار

من كتاب بعث به الإمام الى أهل مصر مع مالك الاشتر لما ولاّه إمارتها: إني و اللّه لو لقيتهم واحدا و هم طلاع الأرض كلّها(٢) ما باليت و لا استوحشت. و إني من ضلالهم الذي هم فيه و الهدى الذي أنا عليه لعلى بصيرة من نفسي و يقين من ربّي، و لكني آسى(٣) أن يلي أمر هذه الأمة سفهاؤها و فجّارها فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا(٤) و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا، فلو لا ذلك ما أكثرت تأليبكم و تأنيبكم، و جمعكم و تحريضكم

____________________

(١) أي: فإن ظنّ في نفسه سوء الاختيار و أنّ ما أخذت منه من الزكاة اكرم مما في يده، و طلب الإعفاء من هذه القسمة، فاعفه منها، و اخلط، و أعد القسمة.

(٢) الطلاع: مل‏ء الشي‏ء. يقول: لو كنت واحدا و هم يملأون الأرض للقيتهم غير مبال بهم. و الضمير يعود هنا على خصومه و محاربيه من وجهاء ذلك الزمان.

(٣) آسى: أحزن.

(٤) دولا، جمع دولة «بالضم»: أي شيئا يتداولونه بينهم و يتصرفون به في غير حق اللّه. الخول: العبيد.

١٦٠

161

162

163

164

165

166

167

168

169

170

171

172

173

174

175

176

177

178

179

180

181

182

183

184

185

186

187

188

189

190

191

192

193

194

195

196

197

198

199

200

201

202

203

204

205

206

207

208

209

210

211

212

213

214

215

216

217

218

219

220

221

222

223

224

225

226

227

228

229

230

231

232

233

234

235

236

237

238

239

240

241

242

243

244

245

246

247

248

249

250

251

252

253

254

255

256

257

258

259

260

261

262

263

264

265

266

267

268

269

270

271

272

273

274

275

276

277

278

279

280

281

282

283

284

285

286

287

288

289

290

291

292

293

294

295

296

297

298

299

300

فما زال يُرمى حتى سقط إلى الأرض وهو يقول: (اللّهمَّ العنهم لعن عادٍ وثمود، اللّهمّ أبلغ نبيّك عنّي السلام، وأبلِغه ما لقيتُ من ألَم الجراح؛ فإنّي أردت بذلك نصرة نبيّك)، ثمّ مات، فوجِدَ به ثلاثة عشر سهماً سوى ما به من ضرب السيوف وطعن الرماح)(١) ، ثمّ التفتَ إلى الحسينعليه‌السلام فقال: أوَفيت يا بن رسول الله؟ فقالعليه‌السلام :نعم، أنت أمامي في الجنّة) ، ثمّ فاضت نفسه النفيسة(٢) .

وينبغي التذكير هنا: بأنّ السلام على سعيد بن عبد الله الحنفي (رض) الوارد في زيارة الناحية المقدّسة، كاشف عن مكانة سامية خاصة له عند أهل البيتعليهم‌السلام ، فقد وردَ السلام عليه فيها هكذا:

(السلام على سعد (٣) بن عبد الله الحنفيّ، القائل للحسين وقد أذِن له في الانصراف: لا والله لا نخلّيك حتّى يعلم الله أنّا قد حفظنا غيبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فيك، والله، لو أعلم أنّي أُقتل ثمّ أُحيا، ثمّ أُحرق، ثمّ أُذرى ويُفعل ذلك بي سبعين مرَّة ما فارقتك حتّى ألقى حِمامي دونك، وكيف أفعل ذلك وإنّما هي موتة أو قتلة واحدة؟ ثمّ هي بعدها الكرامة التي لا انقضاء لها أبداً.

فقد لقيتَ حِمامك، وواسيتَ إمامك، ولقيتَ من الله الكرامة في دار المقامة، حشرنا الله معكم في المستشهدين، ورزقنا مرافقتكم في أعلى علّييّن) (٤) .

____________________

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٢٠ - ٢١، وانظر: اللهوف: ١٦٥، وتسلية المجالس: ١: ٢٩١، والبحار: ٤٥: ٢١، ونَفَس المهموم: ٢٧٥.

(٢) إبصار العين: ٢١٨.

(٣) هكذا ورد اسمه في هذه الزيارة.

(٤) البحار: ٤٥: ٧٠.

٣٠١

مقتلُ أنس بن الحارث الكاهلي (رض)(١)

واستأذن الصحابي الجليل أنس بن الحارث الكاهلي (رض) الإمام الحسينعليه‌السلام لمبارزة الأعداء فأذِن له، (وبرز شادّاً وسطه بالعمامة، رافعاً حاجبيه بالعصابة، ولمّا نظر إليه الحسينعليه‌السلام بهذه الهيئة بكى وقال:(شكرَ الله لك يا شيخ) ، فقتلَ على كِبَره ثمانية عشر رجلاً، وقُتل)(٢) .

وكان في قتاله يرتجز قائلاً:

قد عَلِمتْ كاهلُها ودودان

والخندفيّون وقيس عيلان

بأنّ قومي آفة للأقران(٣)

____________________

(١) ذكره الشيخ الصدوق في الأمالي: ١٣٧ المجلس ٣٠ ح١ باسم (مالك بن أنس الكاهلي)، وأنّه كان يقول أثناء القتال:

قد عَلمتْ كاهلها ودودان

والخندفيّون وقيس عيلان

بأنّ قَومي قصم الأقران

يا قوم كونوا كأسود الجان

آل عليّ شيعة الرحمان

وآل حرب شيعة الشيطان

وذكر أيضاً أنّه قتلَ ثمانية عشر رجلاً، وكذلك ذكرهُ بهذا الاسم ابن شهرآشوب في المناقب: ٤: ١٠٢، وذكر أنّه قتلَ أربعة عشر رجلاً، وذكره بهذا الاسم أيضاً الخوارزمي في المقتل: ٢: ٢١، لكنّ أكثر المصادر التاريخية والمقاتل ذكرت هذا الصحابيّ الجليل باسم (أنس بن الحارث الكاهلي)، كما ورد عن ابن حجر في الإصابة: ١: ٦٨، وابن حبّان في كتاب الثقات: ٤: ٤١، والطبري في ذخائر العقبى: ١٤٦، وابن الأثير في أُسد الغابة: ١: ١٢٣ وغيرهم.

وقال المرحوم الشيخ عباس القمّي في نَفَس المهموم: ٢٨٩: (وأحتمل قوّياً أنّ مالك بن أنس الكاهلي المذكور هو أنس بن الحارث الكاهلي الصحابي)، وقد ورد السلام عليه في الناحية المقدّسة هكذا:(السلام على أنس بن كاهل الأسديّ) (البحار: ٤٥: ٧١).

(٢) ذخيرة الدارين: ٢٠٨، وفي المناقب لابن شهرآشوب: ٤: ١٠٢ (فقتل أربعة عشر رجلاً).

(٣) إبصار العين: ١٠٠.

٣٠٢

مقتلُ يزيد بن زياد بن مهاصر الكندي (رض)

روى الطبري، عن أبي مخنف، عن فضيل بن خديج الكندي: (أنّ يزيد بن زياد(١) ، وهو أبو الشعثاء الكندي - من بني بهدلة - جثا على ركبتيه بين يدي الحسين فرمى بمئة سهم ما سقط منها إلاّ خمسة أسهم، وكان رامياً، فكان كلّما رمى قال:

لَـنِعمَ الـحرُّ حـرُّ بني رياح

ونِعمَ الحرُّ عند مختلف الرماحِ

أنا ابنُ بهدله فرسان العرجله

ويقول حسين:(الّلهمّ سدّد رميته، واجعل ثوابه الجنّة) .

فلمّا رمى بها قام فقال: ما سقط منها إلاّ خمسة أسهم، ولقد تبيّن لي أنّي قد قتلتُ خمسة نفر، وكان في أوّل مَن قُتل..)(٢) .

ثمَّ حملَ على القوم بسيفه وقال:

أنـا يـزيدٌ وأبي مُهاصرُ

كـأنّني لـيثٌ بِغيلٍ خادرُ

يا ربّ إنّي للحسين ناصرُ

ولابن سعدٍ تاركٌ وهاجرُ

فلم يزل يُقاتل حتّى قُتل رضوان الله عليه)(٣) .

وروى الصدوق (ره): أنّ أبا الشعثاء (رض) قتل تسعة من الأعداء، وذكر

____________________

(١) في الإرشاد: ٢: ٨٣ ذكره المفيد (ره) باسم (يزيد بن المهاجر الكناني، وفي تسمية مَن قُتل: ١٥٠ ورد باسم (يزيد بن زيد بن المهاصر، وفي مثير الأحزان: ٦١ (يزيد بن المهاجر)، وفي أمالي الصدوق: ١٣٧ المجلس ٣٠ ح١ (زياد بن مهاصر (مهاجر))، وفي الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٣ (يزيد بن أبي زياد)، وذكره ابن شهرآشوب في المناقب: ٤: ١٠٣ (يزيد بن المهاصر الجعفي).

(٢) تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٠، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٣ وفيه: (وكان أوّل مَن قُتل بين يدي الحسين).

(٣) إبصار العين: ١٧٢.

٣٠٣

مبارزته بعد مبارزة الكاهلي (رض)(١) .

أمّا ابن شهرآشوب، فذكرَ مبارزته بعد مبارزة أنيس بن معقل الأصبحي(٢) .

وهذا بخلاف ما ذكر الطبري في روايته أنّه: (كان في أوّل مَن قُتل)، وما ذكره ابن الأثير (وكان أوّل مَن قُتل بين يدي الحسين)(٣) .

وقد وردَ السلام عليه من الناحية المقدّسة:(السلام على يزيد بن زياد بن مُهاصر الكندي) (٤) .

مقتلُ وهب بن وهب (رض)

روى الشيخ الصدوق (ره)(٥) في أماليه يصف جملة من وقائع فاجعة عاشوراء

____________________

(١) أمالي الصدوق: ١٣٧ المجلس ٣٠، ح١، وانظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٢٣.

(٢) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٤: ١٠٣.

(٣) الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٣.

(٤) البحار: ٤٥: ٧٢.

(٥) يبدو أنّ العلامة المجلسي (ره) يذهب إلى أنّ وهب هذا هو نفسه: وهب بن عبد الله بن حبّاب الكلبي، فقد ذكر في البحار: ٤٥: ١٦ - ١٧ قائلاً: (ثمّ برز من بعده - أي من بعد برير بن خضير الهمداني (رض) - وهب بن عبد الله بن حبذاب الكلبي، وقد كانت معه أمّه يومئذٍ، فقالت: قمْ يا بُنيّ فانصر ابن بنت رسول الله، فقال: أفعل يا أمّاه ولا أُقصّر، فبرزَ وهو يقول:

إنْ تنكروني فأنا ابن الكلب

سوف تروني وترون ضربي

وحَملتي وصَولتي في الحرب

أُدرك ثأري بعد ثأر صَحبي

وأدفعُ الكرب أمام الكرب

ليس جهادي في الوغى باللغبِ

ثمّ حملَ فلم يزل يقاتل حتى قتلَ منهم جماعة، فرجع إلى أمّه وامرأته فوقفَ عليهما فقال: يا أمّاه، أرضيتِ؟ فقالت: ما رضيتُ أو تُقتل بين يدي الحسينعليه‌السلام . =

٣٠٤

وتتابعَ أصحاب الإمامعليه‌السلام في التقدّم إلى القتال والمبارزة قائلاً: (وبرز من بعده - أي

____________________

= فقالت امرأته: بالله لا تفجعني في نفسك، فقالت أمّه: يا بنيّ لا تقبل قولها، وارجع فقاتل بين يدي ابن رسول الله فيكون غداً في القيامة شفيعاً لك بين يدي الله، فرجع قائلاً:

إنّي زعيمٌ لكِ أمَّ وهـبِ

بالطعن فيهم تارة والضرب

ضربُ غلامٍ مؤمنٍ بالربِّ

حتّى يُذيقَ القوم مُرَّ الحربِ

إنّي امرؤ ذو مرَّ وعصبِ

ولستُ بالخوّار عند النكبِ

حسبي إلهي من عليم حسبي

فلم يزل يقاتل حتى قتلَ تسعة عشر فارساً واثني عشر راجلاً. (إلى هنا راجع أيضاً: مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٤: ١٠٠ - ١٠١) ثمّ قُطعت يداه، فأخذت امرأتُه عموداً وأقبلت نحوه وهي تقول:فداك أبي وأمّي، قاتِل دون الطيبين حُرَم رسول الله، فأقبلَ كي يردّها إلى النساء فأخذت بجانب ثوبه وقالت: لن أعود أو أموت معك.

فقال الحسينعليه‌السلام :(جُزيتم من أهل بيتٍ خيراً، ارجعي إلى النساء رحمكِ الله) ، فانصرَفت، وجعل يُقاتل حتى قُتل رضوان الله عليه، فذهبت امرأته تمسح الدّم عن وجهه، فبصرَ بها شمر، فأمرَ غلاماً له فضربها بعمود كان معه فشدَخها وقتلها، وهي أوّل امرأة قُتلت في عسكر الحسين.

ورأيتُ حديثاً: أنّ وهب هذا كان نصرانيّاً، فأسلمَ هو وأمّه على يدي الحسينعليه‌السلام ، فقتلَ في المبارزة أربعة وعشرين راجلاً واثني عشر فارساً، ثمّ أُخذ أسيراً، فأُتي به عمر بن سعد فقال: ما أشدَّ صولتك؟! ثمّ أمرَ فضُربت عُنقه، ورُمي برأسه إلى عسكر الحسينعليه‌السلام ، فأخذت أمّه الرأس فقبّلته، ثمّ رمت بالرأس إلى عسكر ابن سعد فأصابت به رجلاً فقتلته، ثمّ شدّت بعمود الفسطاط فقتلت رجلين، فقال لها الحسين:(ارجعي يا أمَّ وهب، إنّكِ وابنك مع رسول الله، فإنّ الجهاد مرفوع عن النساء، فرَجعت وهي تقول: إلهي لا تقطع رجائي، فقال لها الحسينعليه‌السلام :لا يقطع الله رجاكِ يا أمَّ وهب).

ويلاحظ المتتبِّع: أنّ هناك خلطاً في بعض المصادر التاريخية بين قصة عبد الله بن عمير الكلبي (رض)، وبين قصة وهب بن وهب (رض)، خصوصاً في رجزها وفي طريقة مقتل زوجة عبد الله بن عمير (رض) أمّ وهب، وقتل زوجة وهب على يد رستم غلام شمر.

٣٠٥

من بعد يزيد بن زياد بن المهاصر، أبي الشعثاء الكندي (رض) - وهب بن وهب، وكان نصرانياً أسلمَ على يدي الحسينعليه‌السلام هو وأمّه، فاتّبعوه إلى كربلاء، فركبَ فرساً وتناول بيده عود الفسطاط (عمود الفسطاط)، فقاتل وقتلَ من القوم سبعة أو ثمانية، ثمّ استؤسِر فأُتي به عمر بن سعد لعنه الله، فأمرَ بضرب عنقه، ورمى به إلى عسكر الحسينعليه‌السلام ، وأخذت أمّه سيفه وبرزت، فقال لها الحسينعليه‌السلام :

(يا أُمَّ وهب، اجلسي فقد وضعَ الله الجهاد عن النساء، إنّك وابنك مع جدّي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله في الجنّة) (١) .

مقتلُ الحجّاج بن مسروق المذحجي الجعفي (رض)

وهو (رض) مؤذّن الإمام الحسينعليه‌السلام في أوقات الصلاة، وكان قد خرج من الكوفة إلى الإمامعليه‌السلام والتحق به في مكّة المكرّمة، ولمّا كان يوم العاشر وبرز بقية أصحاب الإمامعليه‌السلام بعد الحملة الأولى إلى مقاتلة الأعداء تباعاً، برز الحجّاج بن مسروق الجعفي (رض) بعد أبي الشعثاء الكندي يزيد بن زياد (رض) - على رواية الخوارزمي وابن شهرآشوب - وهو يقول:

أقـدِم حـسين هادياً مهديّا

الـيوم نـلقى جـدّك النبيّا

ثـمَّ أبـاك ذا الـعُلا عليّا

والحسن الخير الرضا الوليّا

وذا الـجناحين الفتى الكميّا

وأسد الله الشهيد الحيّا(٢)

ثمّ حملَ فقاتل حتّى قُتل(٣) ، وكان قد قتل خمسة وعشرين رجلاً(٤) .

____________________

(١) أمالي الصدوق: ١٣٧ المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

(٢) يمرُّ بنا في مصرع زهير بن القين (رض): أنّ زهيراً أنشد هذه الأبيات، ولا مانع من أن يكون قد أنشدها أكثر من رجل واحد من الأنصار (رض).

(٣) انظر: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٢٣.

٣٠٦

وقد ذكر كلٌّ من المحقّق السماوي (ره)، والمحقّق المقرّم (ره): أنّ مسروق بن الحجّاج (رض) بعد أن استأذن الإمامعليه‌السلام قاتلَ قتالاً شديداً ثمّ عاد إليه وأنشده:

فَدتكَ نفسي هادياً مهديّا

اليوم ألقى جدّك النبيّا

ثمّ أباك ذا الندى عَليّا

ذاك الذي نعرفهُ الوصيّا

فقال له الحسينعليه‌السلام :(نعم، وأنا ألقاهما على أثرك) ، فرجع يُقاتل حتى قُتلرضي‌الله‌عنه (٥) .

مقتلُ زهير بن القين (رض)

قال الطبري بعد ذكره مقتل سعيد بن عبد الله (رض): (وقاتلَ زهير بن القين قتالاً شديداً، وأخذ يقول:

أنا زهير وأنا ابن القَيْنِ

أذودهم بالسيف عن حسينِ

.. وأخذ يضرب على منكب حسين(٦) ويقول:

أَقدِمْ هُديتَ(٧) هادياً مهديّا

فاليوم نلقى جدّك النبيّا

وحَسناً والمرتضى عَليّا

وذا الجناحينِ الفتى الكميّا

وأسدَ اللهِ الشهيدَ الحيّا

... فشدَّ عليه كثير بن عبد الله الشعبي، ومهاجر بن أوس، فقتلاه)(٨) .

____________________

(١) انظر: مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ، ٤: ١٠٣.

(٥) راجع: إبصار العين: ١٥٢ - ١٥٣، ومقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٥٣ - ٢٥٤.

(٦) أي: وهو يستأذنه ويودّعه.

(٧) وفي إبصار العين: ١٦٧ (فدتك نفسي هادياً مهديّاً).

(٨) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٨، وانظر: أمالي الصدوق: ١٣٦ المجلس ٣٠ ح١، وأنساب الأشراف: =

٣٠٧

وقال الخوارزمي في مقتله: فقال الحسين حين صُرع زهير:(لا يبعدنّك الله يا زهير، ولعنَ الله قاتلك لعنَ الذين مسخَهم قردة وخنازير) (١) .

وذكر الشيخ الصدوق (ره): أنّ زهيراً (رض) قتلَ من الأعداء تسعة عشر رجلاً(٢) .

وذكر ابن شهرآشوب (ره)، والسيّد محمّد بن أبي طالب (ره): أنّ زهيراً قتل مئة وعشرين رجلاً(٣) .

إنّ السلام الوارد في زيارة الناحية المقدّسة على زهير بن القين، كاشف عن منزلة خاصة له (رض) عند أهل البيتعليهم‌السلام ، إذ وردَ فيها:

(السلام على زهير بن القين البجلي، القائل للحسين وقد أذِن له في الانصراف: لا والله لا يكون ذلك أبداً، أتركُ ابن رسول الله أسيراً في يد الأعداء وأنجو؟ لا أراني الله ذلك اليوم) (٤) .

____________________

= ٣: ٤٠٣، وفي إبصار العين: ١٦٦ (فقاتلَ زهير والحرّ قتالاً شديداً، فكان إذا شدَّ أحدهما واستُلحم شدَّ الآخر فخلّصه، فقُتل الحرّ ثمّ صلّى الحسينعليه‌السلام صلاة الخوف، ولمّا فرغ منها تقدّم زهير فجعل يُقاتل قتالاً لم يُر مثله ولم يسمع بشبهه...).

وقال ابن شهرآشوب في المناقب: ٤: ١٠٤ (ثمّ صلى الحسينعليه‌السلام بهم صلاة الظهر صلاة شدّة الخوف، ثمّ برزَ زهير بن القين البجلي..)، وروى الخوارزمي في المقتل: ٢: ٢٣: أنّ خروج زهير بن القين البجلي (رض) كان بعد خروج الحجّاج بن مسروق الجعفي (رض).

(١) مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٢٤.

(٢) أمالي الصدوق: ١٣٦، المجلس ٣٠ ح١.

(٣) المناقب: ٤: ١٠٤، وتسلية المجالس: ٢: ٢٧٧.

(٤) البحار: ٤٥: ٧١.

٣٠٨

مقتلُ سلمان بن مضارب البجلي (رض)

كان سلمان (رض) مع ابن عمّه زهير (رض) في سفر الحجّ سنة ستين للهجرة، ولمّا مالَ زهير (رض) في الطريق إلى الإمامعليه‌السلام وانضمّ إليه، مالَ معه ابن عمّه سلمان هذا (رض) وانضمّ إلى الإمامعليه‌السلام أيضاً.

ونقلَ المحقق السماويرحمه‌الله عن صاحب الحدائق الوردية قوله: إنّ سلمان قُتل فيمن قُتل بعد صلاة الظهر(١) ، فكأنّه قُتل قبل زهير(٢) .

مقتلُ أبي ثمامة الصائدي (رض)

قال ابن شهرآشوب: ثمّ برز أبو ثمامة الصائدي وقال:

عـزاءً لآل الـمصطفى وبـناته

على حَبس خير الناس سبط محمّد

عـزاءً لـزهراء النبيّ وزوجها

خـزانة عـلم الله مـن بعد أحمد

عزاءً لأهل الشرق والغرب كلّهم

وحُزناً على حَبس الحسين المسدَّد

فـمنْ مُـبلغٌ عـنّي النبيَّ وبنته

بأنّ ابنكم في مجهد أيّ مجهد(٣)

ويُفهم من سياق الطبري - ويتابعه على ذلك ابن الأثير -: بأنّ أبا ثمامة الصائدي (رض) كان قد قَتلَ ابنَ عمٍّ له في فترة ما قبل إقامة صلاة الظهر، إذ يقول الطبري: (.. ثمّ إنّ رجّالة شدَّت على الحرّ بن يزيد فقُتل، وقَتلَ أبو ثمامة الصائدي ابن عمّ له كان عدوّاً له، ثمّ صلّوا الظهر...)(٤) .

____________________

(١) إبصار العين: ١٦٩ عن الحدائق الورديّة: ١٢٢.

(٢) لعلّ هذه العبارة للشيخ السماوي (ره)، ولا نعلم الدليل عليها.

(٣) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام : ٤: ١٠٥.

(٤) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٨، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٢.

٣٠٩

أمّا كيف قُتل أبو ثمامة (رض) ومَن قتله؟ فلم نعثر - حسب متابعتنا - على مصدر من المصادر التاريخية القديمة كان قد ذكر ذلك، إلاّ أنّ المحقّق السماوي (ره) ذكر قائلاً: (قال: ثُمَّ إنّ أبا ثمامة قال للحسين، وقد صلّى: يا أبا عبد الله، إنّي قد هممتُ أن ألحق بأصحابي، وكرهتُ أن أتخلّف وأراك وحيداً من أهلك قتيلاً، فقال له الحسينعليه‌السلام :(تقدّم فإنّا لاحقون بك عن ساعة) .

فتقدّم فقاتلَ حتّى أُثخن بالجراحات، فقتلهُ قيس بن عبد الله الصائدي ابن عمّ له، كان له عدوّاً، وكان ذلك بعد قتل الحرّ)(١) .

ويبدو أنّ المحقّق المقرّم (ره) قد أخذ ذلك عن الشيخ السماوي (ره)، إذ يقول: (وخرج أبو ثمامة الصائدي فقاتل حتّى أُثخن بالجراح، وإنّ مع عمر بن سعد ابن عمّ له يُقال له قيس بن عبد الله، بينهما عداوة، فشدَّ عليه وقتله)(٢) .

وإلى هنا لابدّ أن نقول: ربّما كان المحقّق السماوي (ره) والمحقّق المقرّم (ره)، قد أخذا ذلك عن مصدر لم نوفّق للاطّلاع عليه، خصوصاً وأنّهما قد ذكرا اسم قاتله: قيس بن عبد الله الصائدي، أمّا إذا كان أخذَهما عن الطبري أو ابن الأثير ، فإنّ هذين قد ذكرا أنّ أبا ثمامة هو قاتل ابن عمّه لا العكس.

مقتلُ برير بن خضير الهمداني (رض)

يروي الطبري عن أبي مخنف بسنده إلى عفيف بن زهير بن أبي الأخنس، وكان قد شهد مقتل الحسينعليه‌السلام : (قال: وخرج يزيد بن معقل - من بني عميرة بن

____________________

(١) إبصار العين: ١٢١، وتابَعهُ على ذلك الزنجاني في وسيلة الدارين: ٩٩، رقم ١.

(٢) مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٤٧، ولم ينسب ما ذكرهُ إلى مصدر ما.

٣١٠

ربيعة، وهو حليف لبني سليمة من عبد القيس - فقال: يا برير بن خضير، كيف ترى الله صَنع بك؟! قال: صنعَ الله - واللهِ - بي خيراً، وصنعَ الله بك شرّاً.

قال: كذبتَ، وقبل اليوم ما كنت كذّاباً! هل تذكر وأنا أُماشيك في بني لوذان، وأنت تقول: إنَّ عثمان بن عفّان كان على نفسه مسرفاً، وإنّ معاوية بن أبي سفيان ضالٌّ مُضِلٌّ، وإنّ إمام الهدى والحقّ عليّ بن أبي طالب؟

فقال له برير: أشهد أنّ هذا رأيي وقولي.

فقال له يزيد بن معقل: فإنّي أشهدُ أنّك من الضالّين.

فقال له برير بن خضير: هل لك فلأباهلك، ولندعو الله أن يلعن الكاذب، وأن يقتل المبطل، ثمّ اُخرج فلأُبارزك.

قال: فخرجا فرفعا أيديهما إلى الله يدعوانه أن يلعن الكاذب، وأن يَقتِل المحقُّ المبطلَ، ثمّ برز كل واحدٍ منهما لصاحبه، فاختلفا ضربتين، فضرب يزيد بن معقل برير بن خضير ضربة خفيفة لم تضرّه شيئاً، وضربهُ برير بن خضير ضربة قدّت المغفر وبلغت الدماغ، فخرَّ كأنما هوى من حالق، وإنّ سيف ابن خضير لثابت في رأسه، فكأنّي أنظر إليه ينضنضه من رأسه، وحمل عليه رضيُّ بن منقذ العبدي فاعتنق بريراً، فاعتركا ساعة، ثمّ إنّ بريراً قعدَ على صدره، فقال رضيٌّ: أين أهل المصاع(١) والدفاع؟!

قال: فذهب كعب بن جابر بن عمرو الأزدي ليحمل عليه، فقلت: إنّ هذا برير بن خضير القارئ الذي كان يُقرؤنا القرآن في المسجد، فحملَ عليه بالرمح حتّى وضعه في ظهره، فلمّا وجد مسّ الرمح بركَ عليه فعضّ بوجهه وقطع طرف أنفه.

____________________

(١) المصع: الضرب بالسيف، والمماصعة: المقاتلة والمجالدة بالسيوف. (لسان اللسان: ٢: ٥٥٩).

٣١١

فطعنهُ كعب بن جابر حتّى ألقاه عنه وقد غيّب السنان في ظَهره، ثمَّ أقبل عليه يضربه بسيفه حتّى قتله)(١) .

وذكرَ ابن شهرآشوب: أنّ بريراً (رض) برز بعد الحرّ (رض)، وهو يقول:

أنـا بُـرير وأبـي خُضَيْر

ليث يروع الأُسَد عند الزئر

يعرف فينا الخير أهل الخير

أضربكم ولا أرى من ضير

كذا فَعلَ الخير في بُرير

وأنّ الذي قتله بُحير أوس الضبّي(٢) .

أمّا الشيخ الصدوق، فقد روى أنّ بُريراً (رض) برزَ من بعد عبد الله بن أبي عروة الغفاري (رض)(٣) ، الذي برز من بعد حبيب بن مظاهر (رض)، وكان

____________________

(١) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٢، وانظر: الكامل في التاريخ: ٣: ٢٨٩ - ٢٩٠، وأنساب الأشراف: ٣: ٣٩٩، ومثير الأحزان: ٦١، واللهوف: ١٦٠، ويمضي في بعض المصادر (يزيد بن مغفل) بدلاً من (يزيد بن معقل).

ويواصل الطبري روايته: (قال عفيف: كأنّي أنظر إلى العبديّ الصريع قام ينفض التراب عن قِبائه ويقول: أنعمتَ عليَّ يا أخا الأزد نعمة لن أنساها أبداً.. فلمّا رجعَ كعب بن جابر قالت له امرأته أو أخته النوّار بنت جابر: أَعنتَ على ابن فاطمة وقتلتَ سيّد القرّاء؟! لقد أتيتَ عظيماً من الأمر، والله لا أُكلّمك من رأسي كلمة أبداً).

وقال كعب بن جابر عدّة أبيات من الشعر يُجيبها، يذمّها ويثني على نفسه ويمدح سيفه، ويؤكّد ولاءه ليزيد بن معاوية! ويمدح فيها - على رغمه - الإمامعليه‌السلام وأصحابه! حيث يقول فيهم:

ولم تَرَ عيني مِثلهم في زمانهم

ولا قبلهم في النّاس إذ أنا يافع

أشدَّ قِراعاً بالسيوف لدى الوغى

ألا كُلُّ مَن يحمي الذِّمار مُقارع

وقد صبروا للطعن والضرب حُسَّراً

وقد نازلوا لو أنَّ ذلك نافعُ

(٢) راجع: مناقب آل أبي طالب: ٤: ١٠٠، وهذا خلاف المشهور الوارد في رواية الطبري في أنّ الذي قتله هو كعب بن جابر بن عمرو الأزدي لعنه الله.

(٣) مرَّ بنا أنّ عبد الله بن عروة الغفاري كان من شهداء الحملة الأولى على رواية ابن شهرآشوب في =

٣١٢

برير يقول:

أنا بُريرٌ وأبي خُضَيْر

لا خير فيمَن ليس فيه خير

وأنّه قتلَ من الأعداء ثلاثين رجلاً ثُمَّ قُتل(١) .

وفي كتاب تسلية المجالس: أنّ بريراً (رض) كان يحمل على القوم وهو يقول: (اقترِبوا منّي يا قَتلة المؤمنين، اقترِبوا منّي يا قَتَلة أولاد البدريين، اقترِبوا منّي يا قَتلة أولاد رسول ربّ العالمين وذريّته الباقين)(٢) .

مقتلُ عمرو بن قرظة الأنصاري (رض)

وروى الطبري يقول: (وخرجَ عمرو بن قرظة الأنصاري يقاتل دون حسين وهو يقول:

قـد عَـلمتْ كـتيبة الأنصارِ

أنّـي سـأحمي حـوزة الذّمار

ضـربُ غلام غيرِ نكسٍ شارِ

دون حسين مهجتي وداري(٣)

____________________

= المناقب: ٤: ١١٣، وذكرنا هناك أنّ من المؤرّخين مَن يذكر أنّه وأخوه عبد الرحمان قُتلا مبارزة. راجع إضافة إلى أمالي الصدوق (إبصار العين: ١٧٦).

(١) أمالي الصدوق: ١٣٦ - ١٣٧، المجلس ٣٠ حديث رقم ١.

(٢) تسلية المجالس: ٢: ٢٨٣، والبحار: ٤٥: ١٥.

(٣) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٤، وقال السيّد بن طاووس (ره) في اللهوف: ١٦٢: (فخرجَ عمرو بن قرظة الأنصاري فاستأذن الحسينعليه‌السلام فأذِن له، فقاتلَ قتال المشتاقين إلى الجزاء، وبالغَ في خدمة سلطان السماء، حتّى قتلَ جمعاً كثيراً من حزب ابن زياد، وجمع بين سداد وجهاد، وكان لا يأتي إلى الحسينعليه‌السلام سهم إلاّ اتّقاه بيده، ولا سيف إلاّ تلقّاه بمهجته، فلم يكن يصل إلى الحسينعليه‌السلام سوء حتّى أُثخن بالجراح، فالتفت إلى الحسينعليه‌السلام وقال: يا بن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله =

٣١٣

ويتابع الطبري فيقول: (قال أبو مخنف، عن ثابت بن هبيرة: فقُتل عمرو بن قرظة بن كعب وكان مع الحسين، وكان عليٌّ أخوه مع عمر بن سعد، فنادى عليٌّ بن قرظة: يا حسين(١) ... أضللتَ أخي وغررته حتّى قتلته؟! قال:(إنّ الله لم يُضلَّ أخاك ولكنّه هدى أخاك وأضلّك) ، قال: قَتلني الله إن لم أقتلك أو أموت دونك، فحملَ عليه، فاعترضهُ نافع بن هلال المرادي فطعنهُ فصرعه، فحمله أصحابه فاستنقذوه فدوويَ بعدُ فبَرِئ)(٢) .

مقتلُ نافع بن هلال الجَملي (رض)

كان لنافع بن هلال الجَملي (رض) مواقف بطولية عديدة في عرصة الطفّ، وكان من تلك المواقف: ما رواه الطبري عن يحيى بن هاني بن عروة: (أنّ نافع بن

____________________

= أوفيتُ؟

فقال:(نعم، أنت أمامي في الجنّة، فاقرأ رسول الله عنّي السلام، وأعلِمه أنّي في الأثر) ، فقاتلَ حتى قُتل رضوان الله عليه)، وانظر أيضاً مثير الأحزان: ٦١ وفيه: (أن سوف أحمي حوزة الذمار)، و(ضرب غلام ليس بالفرّار)، وذكر الشيخ ابن نما (ره) أيضاً أنّه عرّض بقوله: (دون حسين مهجتي وداري) بعمر بن سعد؛ فإنّه لمّا قال له الحسينعليه‌السلام :(صِرْ معي، قال: أخاف على داري، فقال الحسينعليه‌السلام له:أنا أعوّضك عنها، قال: أخاف على مالي! فقال له:أنا أعوّضك عنه من مالي بالحجاز...) . (راجع: مثير الأحزان: ٦١، وإبصار العين: ١٥٦).

(١) كان هذا اللعين قد خاطب الإمامعليه‌السلام بفاحشٍ من القول، وقد أبينا نقله هنا، فتركنا محلّه هنا النقاط الثلاث.

(٢) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٤، وذكر الشيخ المحقق السماوي (ره) في كتابه إبصار العين: ١٥٦: أنّ لعليّ بن قرظة ترجمة في الكتب الرجالية عند أهل السنّة، ورواية عنه، ومدحاً فيه! دون أخيه الشهيد عمرو بن قرظة (رض)!

٣١٤

هلال كان يقاتل يومئذٌ وهو يقول:

أنا الهِزبرُ الجملي

أنا على دين علي(١)

فخرجَ إليه رجلٌ يُقال له مُزاحم بن حُريث فقال: أنا على دين عثمان.

فقال له: أنت على دين شيطان، ثمّ حملَ عليه فقتله، فصاح عمرو بن الحجّاج بالناس: يا حمقى أتدرون مَن تقاتلون؟! فرسانَ المِصر، قوماً مستميتين، لا يبرزنّ لهم منكم أحد؛ فإنّهم قليل وقلَّ ما يبقون، والله، لو لم ترموهم إلاّ بالحجارة لقتلتموهم، فقال عمر بن سعد: صدقتَ، الرأيُ ما رأيت، وأرسلَ إلى الناس يعزم عليهم ألاّ يبارزُ رجلٌ منكم رجلاً منهم)(٢) .

وكان نافع بن هلال الجملي (رض) قد كتبَ اسمه على أفواق نبله، فجعلَ يرمي بها مسمومةً وهو يقول:

أرمي بها مُعلّمة أفواقها

مسمومة تجري بها أخفاقها

ليملأنَّ أرضها رشاقها

والنفس لا ينفعها إشفاقها

فقتلَ اثني عشر رجلاً من أصحاب عمر بن سعد سوى مَن جُرح، حتّى إذا فنيت نباله جرَّد فيهم سيفه فحملَ عليهم وهو يقول:

أنا الهزبرُ الجَملي

أنا على دين علي

____________________

(١) هكذا على ما نقله المحقّق السماوي (ره) في كتابه إبصار العين: ١٤٩، وأمّا على أصل رواية الطبري فهو: (أنا الجملي أنا على دين علي)، والظاهر أنّ الرَجَز لا يستقيم وزناً هكذا، فأخذنا بما نقله السماوي (ره)، وفي الإرشاد: ٢: ١٠٣: (وبرزَ نافع بن هلال وهو يقول:

أنا ابن هلال البَجلي

أنا على دين علي

 (٢) تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٤، وانظر الإرشاد: ٢: ١٠٣، وإعلام الورى: ٢: ٤٦٢، ومثير الأحزان: ٦٠ وفيه: (فبرزَ إليه واجم بن حريث الرشدي). ٤٥: ١٩.

٣١٥

فتواثبوا عليه وأطافوا به يضاربونه بالحجارة والنصال حتى كسروا عضُدَيه، فأخذوه أسيراً، فأمسَكهُ شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه يسوقونه حتّى أتى به عمر بن سعد، فقال له عمر: ويحك يا نافع، ما حَملك على ما صنعتَ بنفسك؟!

قال:إنّ ربّي يعلمُ ما أردتُ ، فقال له رجل وقد نظرَ الدماء تسيل على لحيته: أمَا ترى ما بك؟! قال: والله، لقد قتلتُ منكم اثني عشر رجلاً سوى مَن جرحتُ، وما ألوم نفسي على الجهد، ولو بَقيَت لي عضُد وساعِد ما أسرتموني.

فقال شمر لابن سعد: اُقتله أصلحك الله، قال: أنت جئت به، فإن شئت فاقتله، فانتضى شمر سيفه، فقال له نافع: أمَا واللهِ، لو كنتَ من المسلمين لعظُم عليك أن تلقى الله بدمائنا، فالحمد لله الذي جعل منايانا على يدي شِرار خلْقه، ثمّ قتلهُ شمر لعنه الله(١) .

وقد روى الخوارزمي: أنّ مقتل نافع بن هلال (رض) كان بعد مقتل سعيد بن عبد الله الحنفي (رض) حيث قال: (ثمّ خرجَ من بعده نافع بن هلال الجملي، وقيل: هلال بن نافع، وجعلَ يرميهم بالسهام فلا يخطئ، وكان خاضباً يده...)(٢) .

ويرى المحقّق السماوي (ره): أنّ مقتل نافع (رض) بعد مقتل عمرو بن قرظة (رض)، بعد أن قتلَ نافع (رض) عليّاً أخا عمرو بن قرظة، حيث يقول السماوي (ره): (وحدّث هاني بن عروة المرادي أنّه لمّا جالت الخيل بعد ضرب نافع عليّاً، حملَ عليها نافع بن هلال، فجعلَ يضرب بها قدماً وهو يقول:

____________________

(١) راجع: تاريخ الطبري: ٣: ٣٢٨، وإبصار العين: ١٤٩ - ١٥٠، وانظر: تسلية المجالس: ٢: ٢٩٦ وفيه: (هلال بن نافع)، وأنساب الأشراف: ٣: ٤٠٤.

(٢) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٢٤.

٣١٦

إن تُنكروني فأنا ابن الجملي

ديني على دين حسين بن علي(١)

ولعلّ الشيخ السماوي (ره) قد استفادَ ذلك من سياق نصوص الطبري.

أمّا الشيخ الصدوق (ره)، فقد روى مقتل نافع (رض) بعد مقتل وهب بن وهب (رض)، وذكرهُ باسم (هلال بن حجّاج)(٢) ، حيث قال (ره): (ثمّ برزَ بعده هلال بن حجّاج وهو يقول:

أرمي بها مُعلّمة أفواقها (أفواهها)

والنفس لا ينفعها إشفاقها

فقتلَ منهم ثلاثة عشر رجلاً ثمّ قُتل)(٣) .

أمّا ابن شهر آشوب (ره)، فقد ذكرَ مقتله (رض) بعد مقتل زهير بن القين (رض) حيث قال: (ثمّ برزَ نافع بن هلال البجلي(٤) قائلاً:

أنـا الـغلام الـيمنيُّ البجلي

ديني على دين حسين بن علي

أضـربكم ضرب غلام بطلِ

ويـختم الله بخيرٍ عملي(٥)

____________________

(١) إبصار العين: ١٤٩.

(٢) تذكر بعض المصادر اسم نافع بن هلال معكوساً: (هلال بن نافع)، وقال السماوي (ره) في ضبط اسمه: يجري على بعض الألسن ويمضي في بعض الكتب هلال بن نافع، وهو غلط على ضبط القدماء (راجع: إبصار العين: ١٥٠)، لكنّ الصدوق (ره) - وهو من القدماء - ذكرهُ باسم (هلال بن حجّاج) وهو أغرب فتأمّل.

(٣) أمالي الصدوق (ره): ١٣٧ المجلس ٣٠، حديث رقم ١.

(٤) قال الشيخ السماوي (ره): (الجَملي: منسوب إلى جمل بطن من مذحج، ويمضي على الألسن وفي الكتب: البجلي، وهو غلط فاضح). (إبصار العين: ١٥٠).

(٥) وفي مقتل الحسينعليه‌السلام للخورازمي: ٢: ٢٥:

أنا الغلام اليمنيّ الجَملي

ديني على دين حسين بن علي

إنْ أُقتل اليوم فهذا أملي

وذاك رأيي وأُلاقي عملي

=

٣١٧

فقتل اثني عشر رجلاً، وروي سبعين رجلاً)(١) .

مقتلُ يزيد بن مغفل الجعفي (رض)(٢)

قال المحقّق السماوي (ره): (وذكرَ أهل المقاتل والسيَر: أنّه لمّا التحمَ القتال في اليوم العاشر استأذنَ يزيد بن مغفل الحسينعليه‌السلام في البراز فأذِن له، فتقدّم وهو يقول:

أنــا يـزيدُ وأنـا ابـن مـغفل

وفـي يـميني نصل سيف منجل

أعلو به الهامات وسط القسطل(٣)

عـن الـحسين الـماجد المفضّل

ثُمّ قاتل حتّى قُتل)(٤) .

لكنّ الخوارزمي(٥) ، وابن شهرآشوب(٦) ذكرا مثل هذه الأبيات في الرَجز لإسم

____________________

= فقتلَ ثلاثة عشر رجلاً حتى كسر القوم عضُديه، وأخذوه أسيراً، فقامَ شمر بن ذي الجوشن فضرب عُنقه).

(١) مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ٤: ١٠٤.

(٢) وهو ابن عمّ الحجّاج بن مسروق (الجعفي) (رض)، وقد مرّت بنا ترجمته (رض).

(٣) القسطل: العجاج في الحرب من المصادقة والمكافحة.

(٤) إبصار العين: ١٥٣ - ١٥٤، وقال السماوي (ره) أيضاً: (وقال المرزباني في معجمه: إنّه لمّا جدَّ القتال تقدّم وهو يقول:

إن تُنكروني فأنا ابن مغفل

شاكٍ لدى الهيجاء غير أعزل

وفي يميني نصل سيف منصل

أعلو به الفارس وسط القسطل

قال: فقاتلَ قتالاً لم يُرَ مثله حتّى قتل جماعة، ثمّ قُتلرضي‌الله‌عنه ).

(٥) قال الخوارزمي: (ثمّ خرجَ من بعده - أي من بعد جون مولى أبي ذر - أنيس بن معقل الأصبحي، فجعل يقول: =

٣١٨

آخر هو: (أنيس بن معقل الأصبحي)، ولعلّه هو يزيد بن مغفل الجعفي (رض)، والله العالم.

مصرعُ الموقَّع (٧) بن ثمامة الأسدي الصيداوي (رض)

قال المحقّق السماوي (ره): (كان الموقّع ممّن جاء إلى الحسين في الطفّ، وخلُص إليه ليلاً مع مَن خَلص، قال أبو مخنف(٨) : إنّ الموقَّع صُرع فاستَنقَذوه قومه

____________________

=

أنـا أنـيس وأنـا ابن معقل

وفي يميني نصل سيف فيصل

أعلو به الهامات بين القسطل

حـتّى أزيـل خطبه فينجلي

عن الحسين الفاضل المفضّل

ابـن رسول الله خير مرسل

ثمّ حملَ ولم يزل يقاتل حتّى قُتل). (مقتل الحسينعليه‌السلام للخوارزمي: ٢: ٢٣، وانظر: الفتوح: ٥: ١٩٨).

(٦) قال ابن شهرآشوب: (ثمّ برز أنيس بن معقل الأصبحي - أي بعد جوين بن مالك - وهو يقول:

أنـا أنـيس وأنـا ابن معقل

وفي يميني نصل سيف مصقل

أعلو به الهامات وسط القسطل

عـن الحسين الماجد المفضّل

ابن رسول الله خير مرسَل

فقتلَ نيّفاً وعشرين رجلاً). (مناقب آل أبي طالب: ٤: ١٠٣).

(٧) يرد اسمه في بعض الصادر (المرقّع) كما في تاريخ الطبري: ٣: ٣٣٥، والكامل في التاريخ: ٣: ٢٩٦، ولكنّ المحقّق السماوي (ره) ضبطه بـ(الموقّع) على زنة المعظّم، وهو في الأصل بمعنى المبتلى بالمِحن (راجع: إبصار العين: ١١٨)، وهكذا ضبطهُ الزنجاني في وسيلة الدارين: ١٩٥ رقم ١٥٦ نقلاً عن العسقلاني.

(٨) إذا كان ما ينقله السماوي (ره) عن الطبري في تاريخه: ٣: ٣٣٥ فقد ورد فيه هكذا: (إلاّ أنّ المرقّع بن ثمامة الأسدي كان قد نثرَ نبله وجثا على ركبتيه فقاتل، فجاءه نفر من قومه فقالوا له: أنت آمِن اُخرج إلينا، فخرج إليهم، فلمّا قَدم بهم عمر بن سعد على ابن زياد وأخبره خبرهُ سيّره =

٣١٩

وأتوا به إلى الكوفة فأخفوه، وبلغَ ابن زياد خبره فأرسل إليه ليقتله، فشفع فيه جماعة من بني أسد، فلم يقتله ولكن كبّله بالحديد ونفاه إلى الزارة(١) ، وكان مريضاً من الجراحات التي به، فبقيَ في الزارة مريضاً مكبّلاً حتّى مات بعد سنة، وفيه يقول الكُميت الأسدي: وإنّ أبا موسى أسيرٌ مُكبَّلُ - يعني به الموقَّع)(٢) .

مقتلُ عمر (٣) (عمرو) بن جنادة الأنصاري الخزرجي (رض)

كان جنادة بن كعب بن الحرث الأنصاري الخزرجي (رض) ممّن قُتل في الحملة الأولى من أصحاب الإمام الحسينعليه‌السلام ، وكان قد قتلَ من الأعداء ستّة عشر رجلاً(٤) ، وكان جنادة قد صحبَ الإمامعليه‌السلام من مكّة وجاء معه هو وأهله، وكان ابنه عمرو وهو ابن إحدى عشرة سنة(٥) قد تقدّم - بعد مقتل أبيه (رض) - إلى الإمامعليه‌السلام يستأذنه في القتال، فأبىعليه‌السلام وقال:(هذا غلام قُتل أبوه في الحملة الأولى (٦) ولعلّ أمّه تكره ذلك) ، قال: إنّ أمّي أمرَتَني! فأذِن له فما أسرع أن قُتل ورُمي برأسه إلى جهة الحسين، فأخذتهُ أمُّه ومَسحت الدم عنه وضربت به رجلاً قريباً منها فمات، وعادت إلى المخيّم فأخذت عموداً، وقيل سيفاً، وأنشأت:

____________________

= إلى الزارة).

(١) الزارة: موضع بعُمان كان ينفي إليه زياد وابنه مَن شاء من أهل البصرة والكوفة.

(٢) إبصار العين: ١١٧.

(٣) ضبطهُ المحقّق السماوي (ره): عمر. (إبصار العين: ١٥٩)، وفي المصادر الأخرى: عمرو.

(٤) راجع: مناقب آل أبي طالبعليهم‌السلام ٤: ١٠٤ وفيه بعد ذلك: (ثمّ برزَ ابنه واستشهد).

(٥) راجع: مقتل الحسينعليه‌السلام للمقرّم: ٢٥٣.

(٦) وفي إبصار العين: ١٥٩:(قُتل أبوه في المعركة) .

٣٢٠

321

322

323

324

325

326

327

328

329

330

331

332

333

334

335

336

337

338

339

340

341

342

343

344

345

346

347

348

349

350

351

352

353

354

355

356

357

358

359

360

361

362

363

364

365

366

367

368

369

370

371

372

373

374

375

376

377

378

379

380

381

382

383

384

385

386

387

388

389

390

391

392

393

394

395

396

397

398

399

400

401

402

403

404

405

406

407

408

409

410

411

412

413

414

415

416

417

418

419

420

421

422

423

424

425

426

427

428

429

430

431

432

433

434

435

436

437

438

439

440

441

442

443

444

445

446

447

448

449

450

451

452

453

454

455

456

457

458

459

460

461

462

463

464

465

466

467

468

469

470

471

472

473

474

475

476

477